و من خطبة له عليه السّلام
فَإِنَّ الْغَايَةَ أَمَامَكُمْ وَ إِنَّ وَرَاءَكُمُ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ- تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ قال الشريف:
أقول: إن هذا الكلام لو وزن، بعد كلام اللّه سبحانه و بعد كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، بكل كلام لمال به راجحا، و برّز عليه سابقا. فأما قوله عليه السّلام «تخففوا تلحقوا» فما سمع كلام أقل منه مسموعا و لا أكثر محصولا و ما أبعد غورها من كلمة، و أنقع نطفتها من حكمة، و قد نبهنا في كتاب الخصائص على عظم قدرها و شرف جوهرها
المعنى
أقول: لا شكّ أنّ هذه الكلمات اليسيرة قد جمعت وجازة الألفاظ و جزالة المعنى المشتمل على الموعظة الحسنة و الحكمة البالغة و هي أربع كلمات: الاولى أنّ الغاية أمامكم. و اعلم أنّه لمّا كانت الغاية من وجود الخلق أن يكونوا عباد اللّه كما قال تعالى «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»«» و كان المقصود من العبادة إنّما هو الوصول إلى جناب عزّته و الطيران في حظائر القدس بأجنحة الكمال مع الملائكة المقرّبين، و كان ذلك هو غاية الإنسان المطلوبة منه و المقصودة له و المأمور بالتوجّه إليها بوجهه الحقيقي فإن سعى لها سعيها أدركها و فاز بحلول جنّات النعيم و إن قصّر في طلبها و انحرف سواء الصراط الموصل إليها و قد علمت أنّ أبواب جهنّم عن جنبتي الصراط مفتّحة كان فيها من الهاوين، و كانت غايته فدخلها مع الداخلين.
فإذن ظهر أن غاية كلّ إنسان أمامه إليها يسير و بها يصير. الثانية قوله و إنّ ورائكم الساعة تحدوكم، و المراد بالساعة القيامة الصغرى و هي ضرورة الموت، فأمّا كونها ورائهم فلأنّ الإنسان لمّا كان بطبعه ينفر من الموت و يفرّ منه و كانت العادة في الهارب من الشيء أن يكون ورائه مهروب منه و كان الموت متأخّرا عن وجود الإنسان و لاحقا تاخّرا و لحوقا عقليّا أشبه المهروب منه المتأخّر اللاحق تأخّرا و لحوقا حسيّا، فلا جرم استعير لفظ الجهة المحسوسة و هي الوراء. و أمّا كونها تحدوهم فلأنّ الحادي لمّا كان من شأنه سوق الإبل بالحداء و كان تذكّر الموت و سماع نواد به مقلقا مزعجا للنفوس إلى الاستعداد لامور الآخرة و الاهبّة للقاء اللّه سبحانه فهو يحملها على قطع عقبات طريق الآخرة كما يحمل الحادي الإبل على قطع الطريق البعيدة الوعرة لا جرم أشبه الحادي فأسند الحداء إليه. الثالثة قوله تخفّفوا تلحقوا.
و لمّا نبّههم بكون الغاية أمامهم و أنّ الساعة تحدوهم في سفر واجب و كان السابق إلى الغاية من ذلك السفر هو الفائز برضوان اللّه، و قد علمت أنّ التخفيف و قطع العلائق في الأسفار سبب للسبق و الفوز بلحوق السابقين لا جرم أمرهم بالتخفيف لغاية اللحوق في كلمتين: فالاولى منهما قوله تخفّفوا و كنّى بهذا الأمر عن الزهد الحقيقيّ الّذي هو أقوى أسباب السلوك إلى اللّه سبحانه و هو عبارة عن حذف كلّ شاغل عن التوجّه إلى القبلة الحقيقيّة و الإعراض عن متاع الدنيا و طيّباتها و تنحية كلّ ما سوى الحقّ الأوّل عن مستن الإيثار فإنّ ذلك تخفيف لأثقال الأوزار المانعة عن الصعود في درجات الأبرار الموجبة لحلول دار البوار و هي كناية باللفظ المستعار، و هذا الأمر في معنى الشرط، و الثانية قوله تلحقوا و هو جزاء الشرط أي أن تخفّفوا تلحقوا، و المراد تلحقوا بدرجات السابقين الّذين هم أولياء اللّه و الواصلون إلى ساحل عزّته، و ملازمة هذه الشرطيّة قد علمت بيانها فإنّ الجود الإلهيّ لا بخل فيه و لا قصور من جهته و الزهد الحقيقيّ أقوى أسباب السلوك إلى اللّه كما سبق فإذا استعدّت النفس بالإعراض عمّا سوى الحقّ سبحانه و توجّهت إلى استشراق أنوار كبريائه فلا بدّ أن يفاض عليها ما تقبله من الصورة التماميّة فيلحق بدرجة السابقين و يتّصل بساحل العزّة في مقام أمين. الرابعة فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم أي إنّما ينتظر بالبعث الأكبر و القيامة الكبرى للّذين ماتوا أوّلا وصول الباقين و موتهم، و تحقيق ذلك الانتظار أنّه لمّا كان نظر العناية الإلهيّة إلى الخلق نظرا واحدا و المطلوب
منهم واحد و هو الوصول إلى جناب عزّة اللّه الّذي هو غايتهم أشبه طلب العناية الإلهيّة وصول الخلق إلى غايتهم انتظار الإنسان لقوم يريد حضور جميعهم و ترقّبه بأوائلهم وصول أواخرهم فاطلق عليه لفظ الانتظار على سبيل الاستعارة، و لمّا صوّر هاهنا صورة انتظارهم لوصولهم جعل ذلك علّة لحثّهم على التخفيف و قطع العلائق، و لا شكّ أنّ المعقول لاولي الألباب من ذلك الانتظار حاثّ لهم أيضا على التوجّه بوجوه أنفسهم إلى اللّه و الإعراض عمّا سواه.
فهذا ما حضرني من أسرار هذه الكلمات. و كفى بكلام السيّد- رحمه اللّه- مدحا لها و تنبيها على عظم قدرها، و قد استعار لفظ النطفة و هو الماء الصافي للحكمة. و باللّه التوفيق و العصمة
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحهى 331