و من كلام له عليه السّلام فى صفة من يتصدى للحكم بين الأمة و ليس لذلك بأهل
اللغة
أقول: وكلّه إلى نفسه جعل توكّله عليها، و الجائر العادل عن الطريق و فلان مشغوف بكذا بالغين المعجمة إذا بلغ حبّه إلى شغاف قلبه و هو غلافه، و بغير المعجمة إذا بلغ إلى شعفة قلبه و هي عند معلّق النيّات، و القمش جمع الشيء المتفرّق و المجموع قماش، و الموضع بفتح الضاد المطرح و بكسرها المسرع، و الغارّ الغافل، و أغباش الليل ظلمته، و قال ابو زيد: الغبش البقيّة من الليل و روى أغطاش الفتنة و الغطش الظلمة، و الهدنة الصلح، و المبهمات المشكلات و أمر مبهم إذا لم يعرف، و الرثّ الضعيف البالي، و عشوت الطريق بضوء النار إذا تبيّنته على ضعف، و الهشيم اليابس من نبت الأرض المتكسّر، و العجّ رفع الصوت، و البائر الفاسد.
المعنى
و اعلم أنّه أخذ أوّلا في التنفير على الرجلين المشار إليهما بذكر أنّهما من أبغض الخلائق إلى اللّه تعالى و لمّا كانت إرادة اللّه للشيء و محبّته له عائدة إلى علمه بكونه على وفق النظام الكليّ التامّ للعالم كانت كراهيّته و بغضه له عائدة إلى علمه بكونه على ضدّ مصلحة العالم و خارجا عن نظامه فبغضه إذن لهذين الرجلين علمه بكون أفعالهما و أقوالهما خارجة عن المصلحة. قوله رجل وكلّه اللّه إلى نفسه فهو و جائر عن قصد السبيل إلى قوله بخطيئته. بيان لأحد رجلين و تمييز له، و ذكر له أوصافا: الأوّل أنّه و كلّه اللّه إلى نفسه أي جعله متوكّلا عليها دونه، و اعلم أنّ التوكيل مأخوذ من الوكالة يقال: وكلّ فلان أمره إلى فلان إذا فوضّه إليه و اعتمد عليه فالتوكّل عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده. إذا عرفت ذلك فنقول: من اعتقد جزما و ظنّا بأنّ نفسه أو أحدا غير اللّه تعالى ممّن ينسب إليه التأثير و القدرة هو المتمكّن من الفعل و أنّه تامّ القدرة على تحصيل مراده و الوفاء به فإنّ ذلك من أقوى الأسباب المعدّة لأن يفيض اللّه على قلبه صورة الاعتماد على المعتقد فيه و التوكّل عليه فيما يريده، و ذلك معنى قوله وكّله اللّه إلى نفسه، و كذلك معنى الوكول إلى الدنيا و ذلك بحسب اعتقاد الإنسان أنّ المال و القينات الدنيويّة وافية بمطالبه و تحصيلها مغنية له عمّا وراءها، و بحسب قوّة ذلك التوكّل و ضعفه يكون تفاوت بغض اللّه تعالى للعبد و محبّته له، و بعده و قربه منه فلن يخلص إذن العبد من بغض اللّه إلّا بالتوكّل عليه حقّ توكّله.
قال اللّه تعالى «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» و هو أعظم مقام وسم صاحبه بمحبّة اللّه فمن كان اللّه حسبه و كافيه و محبّه و مراعيه فقد فاز الفوز العظيم، فإنّ المحبوب لا يبغض و لا يعذّب و لا يبعّد و لا يحجب. و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: من انقطع إلى اللّه كفاه كلّ مؤنه و رزقه من حيث لا يحتسب، و من انقطع إلى الدنيا وكّله اللّه تعالى إليها، و صورة المتوكّل عليه أن تثبت في نفسك بكشف أو اعتقاد جازم أنّ استناد جميع الأسباب و المسبّبات إليه سبحانه و أنّه الفاعل المطلق تامّ العلم و القدرة على كفاية العباد تامّ العفو و الرحمة و العناية بخلقه حيث لا يكون وراء قدرته و علمه و عنايته رحمة و عناية، و لم يقع في نفسك التفات إلى غيره بوجه حتّى نفسك و حولك و قوّتك فإنّك و الحال هذه تجد من نفسك تسليم امورها بالكلّيّة إليه و البراءة من التوكّل على أحد إلّا عليه، فإن لم تجد من نفسك هذه الحال فسبب ذلك ضعف الأسباب المذكورة أو بعضها و غلبة الوهم على النفس في معارضته لذلك اليقين، و بحسب ضعف تلك الأسباب و شدّتها و زيادتها و نقصانها يكون تفاوت درجات التوكّل على اللّه تعالى.
الثاني كونه جائرا عن قصد السبيل أي قصد سبيل اللّه العدل و صراطه المستقيم، و علمت أنّ الجور هو طرف الإفراط من فضيلة العدل،
الثالث كونه مشعوفا بكلام بدعة أي معجب بما يخطر له و يبتدعه من الكلام الّذي لا أصل له في الدين و يدعو به الناس إلى الضلالة و الجور عن القصد، و هذا الوصف لازم عمّا قبله فإنّ من جار عن قصد السبيل بجهله فهو يعتقد أنّه على سواء السبيل فكان ما يتخيّله من ذلك الكمال الّذي هو نقصان في الحقيقة مستلزما لمحبّة قول الباطل و ابتداع المحال فهو من الأخسرين أعمالا «الّذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا»«»
الرابع كونه فتنة لمن افتتن به و هو أيضا لازم عن الوصف الثالث فإنّ محبّة قول الباطل و الدعوة إلى الضلالة سبب لكونه فتنة لمن اتّبعه.
الخامس كونه ضالّا عن هدى من كان قبله و هذا الوصف كالثاني فإنّ الضالّ عن الهدى جائر عن قصد السبيل إلّا أنّ هاهنا زيادة إذ الجائر عن القصد قد يجور و يضلّ حيث لا هدى يتبعه و الموصوف هاهنا جائر و ضالّ مع وجود هدى قبله مأمور باتّباعه و هو كتاب اللّه و سنّة رسوله و إعلام هداة الحاملون لدينه الناطقون عن مشكاة النبوّة و ذلك أبلغ في لائمته و آكد في وجوب عقوبته.
السادس كونه مضلّا لمن اهتدى به في حياته و بعد وفاته و هذا الوصف مسبّب عمّا قبله إذ ضلال الإنسان في نفسه سبب لإضلاله غيره و يفهم منه ما يفهم من الرابع مع زيادة فإنّ كونه فتنة لغيره و هو كونه مضلّا لمن اهتدى به و أمّا الزيادة فكون ذلك الإضلال في حياته و هو ظاهر و بعد موته لبقاء العقائد الباطلة المكتسبة عنه فهي سبب ضلال الضالّين بعده.
السابع كونه حمّالا لخطايا غيره و هو لازم عن السادس فإنّ حمله لأوزار من يضلّه إنّما هو بسبب إضلاله له. الثامن كونه رهنا بخطيئته أي موثوق بها عن الصعود إلى حضرة جلال اللّه و إلى هذين الوصفين أشار القرآن الكريم بقوله «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ»«» و قول الرسول صلى اللّه عليه و آله: أيّما داع دعا إلى الهدى فاتّبع كان له مثل أجر من تبعه لا ينقص من أجرهم شيء و أيّما داع دعا إلى الضلالة فاتّبع كان عليه مثل وزر من تبعه و لا ينقص منه شيء، و اعلم أنّه ليس المراد من ذلك أنّه تعالى يوصل العقاب الّذي يستحقّه الأتباع إلى القادة و الرؤساء لقوله تعالى «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» «أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى»«» و لما دخل أحد من الناس النار أبدا بل كانت مقصورة على إبليس وحده بل المعنى أنّ الرئيس المضلّ إذا وضع سيّئة تكون فتنة للناس و ضلالا لهم لم تصدر تلك السيّئة إلّا عن نفس قد استولى عليها الجهل المركب المضادّ لليقين و صار ملكة من ملكاتها فيسود لوحها به عن قبول الأنوار الإلهيّة و صار ذلك حجابا بينها و بين الرحمة بحيث يكون ذلك الحجاب في القوّة و الشدّة أضعاف حجب التابعين له و المقتدين به الناشئة عن فتنته فإنّ تلك الحجب الطارية على قلوب التابعين مستندة إلى ذلك الحجاب و هو أصلها فلا جرم يكون وزره و سيّئته في قوّة أوزار أتباعه و سيّئاتهم الّتي حصلت بسبب إضلاله لا كلّ سيّئاتهم من كلّ جهة و لذلك قال تعالى «وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ» أي بعض أوزارهم و هي الحاصلة بسبب المضلّين.
و قال الواحدي: إنّ من في هذه الآية ليست للتبعيض بل لبيان الجنس و إلّا لخفّ عن الأتباع بعض أوزارهم و ذلك يناقض قوله صلى اللّه عليه و آله من غير أن ينقص من أوزارهم شيء. قلت: هذا و إن كان حسنا إلّا أنّ الإلزام الّذي ذكره غير لازم على كونها للتبعيض لأنّ القائل بكونها كذلك يقول إنّ المراد و ليحملوا بعض أمثال أوزار التابعين لا بعض أعيان أوزارهم، و إذا فهمت ذلك في جانب السيّئات فافهم مثله في جانب الحسنات و هو أنّ الواضع لحسنة و هدى يهتدى به إنّما تصدر عن نفس ذات صفاء و إشراق فأشرق على غيرها من النفوس التابعة لها فاستضائت به و تلك السنّة المأخوذة من جملة أنوارها الفائضة عنها على نفس اقتبسها فكان للنفس المتبوعة من الاستكمال بنور اللّه الّذي هو رأس كلّ هدى ما هو في قوّة جميع الأنوار المقتبسة عن تلك السنّة و مثل لها فكان لها من الأجر و الثواب مثل ما للتابعين لها من غير نقصان في أجر التابعين و هداهم الحاصل لهم، و إلى هذا المعنى الإشارة الواردة في الخبر إنّ حسنات الظالم تنقل إلى ديوان المظلوم، و سيّئات المظلوم تنقل إلى ديوان الظالم فإنّك إن علمت أنّ السيّئة و الحسنة أعراض لا يمكن نقلها من محلّ إلى محلّ فليس ذلك نقلا حقيقيّا بل على وجه الاستعارة كما يقال: انتقلت الخلافة من فلان إلى غيره، و إنّما المقصود عن نقل سيّئات المظلوم إلى الظالم حصول أمثالها في قلب الظالم و نقل حسنات الظالم إلى المظلوم حصول أمثالها في قلبه، و ذلك لأنّ للطاعة تأثيرا في النفس بالتنوير، و للمعاصي تأثيرا بالقسوة و الظلمة و بأنوار الطاعه تستحكم مناسبة النفس من استعدادها لقبول المعارف الإلهيّة و مشاهدة حضرة الربوبيّة، و بالقسوة و الظلمة تستعدّ للبعد و الحجاب عن مشاهدة الجمال الإلهيّ فالطاعة مولّدة لذّة المشاهدة بواسطة الصفاء و النور الّذي يحدث في النفس، و المعصية مولّدة للحجاب بواسطة القسوة و الظلمة الّتي تحدث فيها، و بين الحسنات و السيّئات تضادّ و تعاقب على النفس كما قال تعالى «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» و قال «لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ»
و قال صلى اللّه عليه و آله: أتبع السيّئة بالحسنة تمحها و الآلام ممحّصات للذنوب، و لذلك قال صلى اللّه عليه و آله: إنّ الرجل يثاب حتى بالشوكة الّتي تصيب رجله، و قال: الحدود كفّارات لأهلها فالظالم يتبع شهوته بالظلم، و فيه ما يقسى القلب و يسوّد لوح النفس فيمحو أثر النور الّذي فيه من طاعته فكأنّه أحبط طاعته، و المظلوم يتألّم و تنكسر شهوته و يستكن قلبه، و يرجع إلى اللّه تعالى فتفارقه الظلمة و القسوة الّتي حصلت له من اتّباع الشهوات، فكأنّ النور انتقل من قلب الظالم إلى قلب المظلوم و انتقل السواد و الظلمة من قلب المظلوم إلى قلب الظالم، و ذلك انتقال على سبيل الاستعارة كما علمت و كما يقال انتقل ضوء الشمس من مكان إلى مكان، و قد تلخّص من هذا التقرير أن الحسنات المنقولة إلى المظلوم من ديوان الظالم هي استعداداته لقبول الرحمة و التنوير الحاصل له بسبب ظلم الظالم، و السيّئات المنقولة من ديوان المظلوم إلى الظالم هي استعداداته بالحجب و القسوة عن قبول أنوار اللّه، و الثواب و العقاب الحاصلان لهما هو ما استعدّ له من تلك الأنوار و الظلمات، و اعلم أنّ ذلك النقل و حمل الظالم أوزار المظلوم و إن كان أمرا حاصلا في الدنيا إلّا أنّه لمّا لم ينكشف للبصائر إلّا في يوم القيامة لا جرم خصّص بيوم القيامة، و إنّما قال حمّال وزن فعّال للمبالغة و التكثير أي أنّه كثيرا ما يحمل خطايا غيره.
و أمّا الرجل الثاني فميّزه بعشرين وصفا أ كونه قمش جهلا، و هي استعارة لفظ الجمع المحسوس للجمع المنقول (ب) كونه موضعا في جهّال الامّة مطرحا ليس من أشراف الناس، و يفهم من هذا الكلام أنّه خرج في حقّ شخص معيّن و إن عمّه و غيره (ج) كونه غاديا في اغباض الفتنة أي سائرا في أوائل ظلماتها، و روى غارّا أي غافل في ظلمات الخصومات لا يهتدي لوجه تخليصها (د) كونه أعمى البصيرة بما في عقد الصلح و المسالمة بين الناس من نظام امورهم و مصالح العالم فهو جاهل بوجوه المصالح مشير للفتن بينهم (ه) كونه قد سمّاه أشباه الناس عالما و ليس بعالم، و الواو للحال و أشباه الناس الجهّال و أهل الضلال و هم الّذين يشبهون الناس الكاملين في الصورة الحسيّة دون الصور التماميّة الّتي هي كمال العلوم و الأخلاق (و) كونه بكّر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر. روى من جمع منوّنا و غير منوّن أمّا بالتنوين فالجملة بعده صفة له و استعمال المصدر و هي جمع في موضع اسم المفعول أي من مجموع، و يحتمل أن يكون المقصود هي المصدر نفسه، و أمّا مع الإضافة فقيل: إنّ ما هاهنا يحتاج في تمام الكلام إلى تقدير مثلها معها حتّى يكون ما الأوّل هي المضاف و الثانية هي المبتدأ، و التقدير من جمع ما الذي قلّ منه خير ممّا كثر لكنّه لمّا كان إظهار ما الثانية يشبه التكرار و يوجب هجنه في الكلام و كانت ما الواحدة تعطى المعنى عن المقدّرة كان حذفها أولى، و قيل: إنّ المقدّر المحذوف أن على طريقة تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أي من جمع ما أن قلّ منه خير ممّا كثر، و عنى بالتكسير إلى الاستكثار من ذلك السبق في أوّل العمر إلى جمع الشبهات و الآراء الّتي قليلها خير من كثيرها و باطلها أكثر من حقّها (ز) كونه إذا ارتوى من ماء آجن و أكثر من غير طائل جلس بين الناس قاضيا، و لمّا كان الاجون صفة للماء و الكمالات النفسانيّة الّتي هي العلوم كثيرا ما يعبّر عنها بالماء الصافي و الزلال و كان الجهل و الآراء الّتي حصل عليها يجمعها مع العلم جامع الاعتقاد فهي و العلم داخلان تحت جنس الاعتقاد كان الماء الآجن أشبه ما يستعار لتلك الآراء الّتي ليست بنصيحة و لا متينة فهي تشبه الماء الآجن الّذي لا غناء فيه للشارب، و رشّح، تلك الاستعارة بذكر الارتواء و جعل غايته المشار إليها من ذلك الاستكثار جلوسه بين الناس قاضيا (ح) كونه ضامنا لتلخيص ما التبس على غيره أي واثق من نفسه بفصل ما يعرض بين الناس من القضايا المشكلة، و ضامنا حال ثان أو صفة للأوّل (ط) كونه إذا نزلت به إحدى القضايا المبهمة الملتبس وجه فصلها هيّألها حشوا ضعيفا من رأيه ثمّ جزم به و الحشو الكلام الكثير الّذي لا طائل تحته و ليس حلا لتلك المبهمة (ى) كونه من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوب. نسج العنكبوت مثل للامور الواهية،
و وجه هذا التمثيل أنّ الشبهات الّتي تقع على ذهن مثل هذا الموصوف إذا قصد حلّ قضيّة مبهمة تكثر فيلبس على ذهنه وجه الحقّ منها فلا يهتدي له لضعف ذهنه، فتلك الشبهات في الوها يشبه نسج العنكبوت و ذهنه فيها يشبه الذباب الواقع فيه فكما لا يتمكّن الذباب من خلاص نفسه من شبّاك العنكبوت لضعفه كذلك ذهن هذا الرجل إذا وقع في الشبهات لا يخلص وجه الحقّ منها لقلّة عقله و ضعفه عن إدراك وجوه الخلاص (يا) أنّه لا يدري أصاب فيما حكم به أم أخطأ فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ و إن أخطأ رجأ أن يكون قد أصاب، و خوف الخطأ و رجاء الإصابة من لوازم الحكم مع عدم الدراية (يب) كونه جاهلا خبّاط جهالات، و الجهالات جمع جهلة فعلة من الجهل، و قد تقدم أنّ وزن فعّال يبنى للفاعل من الامور المعتادة الّتي يكثر فعلها، و ذكر الجهل هاهنا بزيادة و هي كثرة الخبط فيه و كنّى بذلك عن كثرة الأغلاط الّتي يقع فيها في القضايا و الأحكام فيمشي فيها على غير طريق حقّ من القوانين الشرعيّة و ذلك معنى خبطه (يج) كونه عاشيا ركّاب عشوات، و هي إشارة إلى أنّه لا يستليح نور الحقّ في ظلمات الشبهات إلّا على ضعف لنقصان ضوء بصيرته فهو يمشي فيها على ما يتخيّله دون ما يتحقّقه و كثيرا ما يكون حاله كذلك، و لمّا كان من شأن العاشي إلى الضوء في الطرق المظلمة تارة يلوح له فيمشي عليه و تارة يخفى عنه فيضلّ عن القصد و يمشي على الوهم و الخيال كذلك حال السالك في طرق الدين من غير أن يستكمل نور بصيرته بقواعد الدين و يعلم كيفيّة سلوك طرقه فإنّه تارة يكون نور الحقّ في المسألة ظاهرا فيدركه و تارة يغلب عليه ظلمات الشبهات فتعمى عليه الموارد و المصادر فيبقى في الظلمة خابطا و عن القصد جائرا (يد) كونه لم يعضّ على العلم بضرس قاطع كناية عن عدم إتقانه للقوانين الشرعيّة و إحاطته بها يقال فلان لم يعضّ على الأمر الفلاني بضرس إذا لم يحكمه، و أصله أنّ الإنسان يمضغ الشيء ثمّ لا يجيد مضغه فمثّل به من لم يحكم ما يدخل فيه من الامور (يه) كونه يذرى الروايات إذ راء الريح الهشيم، و وجه التشبيه أنّ الريح لمّا كانت تذرى الهشيم و هو ما تكسّر من نبت الأرض و يبس فتخرجه عن حدّ الانتفاع به كذلك المتصفّح للروايات لمّا لم يهتد إلى وجه العمل بها و لم يقف على الفائدة منها فهو يقف على رواية اخرى و يمشي عليها من غير فائدة (يو) أنّه غير مليّ بإصداره ما يرد عليه إشارة إلى أنّه ليس له قوّة على إصدار الأجوبة عمّا يرد عليه من المسائل فهو فقير منها (يز) كونه لا يحسب العلم في شيء ممّا أنكره يقال فلان لا يحسب فلانا في شيء بالضمّ من الحساب أي لا يعدّه شيئا و يعتبره خاليا من الكمال و الفضيلة، و المراد أنّه ينكر العلم كسائر ما أنكره فهو لا يعدّه شيئا و لا يفرده بالحساب و الاعتبار و عنى بالعلم الحقيقيّ الّذي ينبغي أن يطلب و يجتهد في تحصيله لا ما يعتقده الموصوف علما ممّا قمشه و جمعة فإنّ كثيرا من الجهّال ممّن يدعى العلم بفنّ من الفنون قد ينكر غيره من سائر الفنون و يشنّع على معلّميه كأكثر الناقلين للأحكام الفقهيّة و المتصدّرين للفتوى و القضاء بين الخلق في زماننا و ما قبله فإنّهم يبالغون في إنكار العلوم العقليّة و يفتون بتحريم الخوض فيها و تكفير من يتعلّمها و هم غافلون عن أنّ أحدهم لا يستحقّ أن يسمّى فقيها إلّا أن يكون له مادّة من العلم العقليّ المتكفّل ببيان صدق الرسول صلى اللّه عليه و آله و إثبات النبوّة الّذي لا يقوم شيء من الأحكام الفقهيّة الّتي يدّعون أنّها كلّ العلم إلّا بعد ثبوتها، و روى يحسب بكسر السين من الحسبان و هو الظنّ أي لا يظنّ العلم ذا فضيلة يجب اعتقادها و اعتباره بها فهو ممّا أنكره (يح) كونه لا يرى أنّ من وراء ما بلغ منه مذهبا لغيره أي أنّه إذا غلب على ظنّه حكما في القضيّة جزم به، و ربّما كان لغيره في المسألة قول أظهر من قوله يعضده دليل فلا يعتبره و يمضي على ما بلغ فهمه إليه (يط) كونه إن أظلم عليه أمرا اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه و كثيرا ما يراعي قضاة السوء و علماؤه اكتتام ما يشكل عليهم أمره من المسائل و التغافل عن سماعها إذا اوردت عليهم لئلّا يظهر جهلهم بين أهل الفضل مراعاة لحفظ المناصب (ك) كونه تصرخ من جور قضائه الدماء و تعجّ منه المواريث نسبت الصراخ إلى الدماء و العجيج إلى المواريث إمّا على سبيل حذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه أي أهل الدماء و أولياء المواريث فيكون حقيقة، أو على سبيل استعارة لفظ الصراخ و العجّ لنطق الدماء و المواريث بلسان حالها المفصح عن مقالها، و وجه الاستعارة عن الصراخ و العجيج لمّا كانا إنّما يصدر عن تظلّم و شكاية و كانت الدماء المهراقة بغير حقّ و المواريث المستباحة بالأحكام الباطلة ناطقة بلسان حالها مفصحة بالشكاية و التظلّم لا جرم حسنت استعارة اللفظين هاهنا، ثمّ بعد أن خصّ الرجلين المذكورين بما ذكر فيها من الأوصاف المنفره على سبيل التفصيل أردف ذلك بالتنفير عنهما على سبيل الجملة ما يعمّها و غيرهما من الجهّال من التشكّي و البراءة و ذلك قوله إلى اللّه من معشر أي إلى اللّه أشكو كما في بعض النسخ أو إلى اللّه أبرء، و ذكر أوصافا مبدءها البقاء على الجهل و العيش فيه و كنّى بالعيش عن الحياة و قابله بذكر الموت، و قوله يموتون ضلّالا وصف لازم عن الوصف الأوّل فإنّ من عاش جاهلا مات ضالّا.
قوله ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلى حقّ تلاوته إلى آخره. أي إذا فسرّ الكتاب و حمل على الوجه الّذي انزل اعتقدوه فاسدا و أطرحوه بجهلهم عن درجة الاعتبار على ذلك الوجه، و إذا حرّف عن مواضعه و مقاصده و نزّل على حسب أغراضهم و مقاصدهم شروه على ذلك الوجه بأغلى ثمن و كان من أنفق السلع بينهم، و استعار له لفظ السلعة، و وجه المشابهة ظاهر و منشأ كلّ ذلك هو الجهل، و كذلك ليس عندهم أنكر من المعروف، و ذلك أنّه لمّا خالف أغراضهم و مقاصدهم أطرحوه حتّى صار بينهم منكرا يستقبحون فعله، و لا أعرف من المنكر لموافقة أغراضهم و محبّتهم له لذلك، و أعلم أنّه عليه السّلام قسّم الناس في موضع آخر إلى ثلاثة أقسام عالم و متعلّم و همج رعاع أتباع كلّ ناعق، و الرجلان المشار إليهما بالأوصاف المذكورة هاهنا ليسا من القسم الأوّل لكونهما على طرف الجهل المضادّ للعلم، و لا من القسم الثالث لكونهما متبوعين داعيين إلى اتّباعهما و كون الهمج تابعين كما صرّح به فتعيّن أن يكونا من القسم الثاني و هم المتعلّمون، و إذا عرفت ذلك فنقول: المراد بالمتعلّم هو من ترفّع عن درجة الهمج من الناس بطلب العلم و اكتسب ذهنه شيئا من الاعتقادات عن مخالطة من اشتهر بسمة العلم و مطالعة الكتب و نحو ذلك و لم ينته إلى درجة العلماء الّذين يقتدرون على التصرّف و القيام بالحجّة فاعتقاداته حينئذ إمّا أن يكون مطابقة كلّها أو بعضها أو غير مطابقة أصلا و على التقديرات فإمّا أن لا ينصب نفسه لشيء من المناصب الدينيّة كالفتوى و القضاء و نحوهما أو يتصدّر لذلك فهذه أقسام ستّة: أحدها من اعتقد اعتقادا مطابقا و لم يعرض نفسه لشيء من المناصب الدينيّة. الثاني من كان اعتقاده كذلك لكنّه نصب نفسه للإفاضة. الثالث من اعتقد جهلا و لم ينصب نفسه لها الرابع من اعتقد جهلا و عرض نفسه لها. الخامس من اعتقد جهلا و غير جهل و لم ينصب نفسه للإفادة. السادس من كان اعتقاده كذلك و نصب نفسه لها. و القسم الأوّل وحده هو الخارج عن هذين الرجلين بأوصافهما، و الثاني و الرابع و السادس منهم يكون الرجلان المذكوران فالأوّل منهما في ترتيبه هو من نصب نفسه لسائر مناصب الإفادة دون منصب القضاء، و الثاني هو من نصب نفسه له. و إنّما بالغ في ذمّهما و نسبتهما إلى الجهل و الضلال و إن كان بعض اعتقاداتهما حقّا لكون القدر الّذي حصلا عليه مغمورا في ظلمة الجهل فضلا لهما و إضلالهما أغلب و انتشار الباطل فيهما أكثر، و أمّا القسم الثالث و الخامس فداخلان فيمن برء إلى اللّه منهم و ذمّهم أخيرا بالعيش في الجهل و الموت على الضلال و ما بعده، و اللّه أعلم بالصواب.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم)، ج 1 ، صفحهى 310