و من خطبة له عليه السّلام
القسم الأول
أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ- وَ طُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَ انْتِقَاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ- فَجَاءَهُمْ بِتَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ- وَ النُّورِ الْمُقْتَدَى بِهِ ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ- وَ لَنْ يَنْطِقَ وَ لَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ- أَلَا إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي- وَ الْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي- وَ دَوَاءَ دَائِكُمْ وَ نَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ
اللغة
أقول: الهجعة: النومة.
و المبرم. الحبل المحكم الفتل.
و ثمرة الفصل التنبيه على فضيلة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الفترة الزمان بين الرسولين، و كنّى بالهجعة من الامم عن رقدتهم في مراقد الطبيعة و نوم الغفلة عمّا خلقوا لأجله في مدّة زمان الفترة، و أشار بالمبرم إلى ما كان الخلق عليه من نظام الحال بالشرائع السابقة و انبرام امورهم بوجودها، و انتقاضها فساد ذلك النظام بتغيّر الشرائع و اضمحلالها، و الّذي صدّقه بين يديه هو التوراة و الإنجيل كما قال تعالى «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ»«» و لكلّ أمر منتظر أو قريب يقال إنّه جار بين اليدين، و استعار لفظ النور للقرآن، و وجه الاستعارة ظاهر. ثمّ أمر باستنطاقه و فسّر ذلك الاستنطاق باستماع العبارة عنه. إذ هو لسان الكتاب و السنّة، و كسّر أوهامهم الّتي عساها تستنكر آمره باستنطاقه بقوله: فلن ينطق، و نبّه على ما فيه من علم الأوّلين و الحديث عن القرون الماضية و علم ما يأتي من الفتن و أحوال القيامة و أنّ فيه دواء دائهم، و ذلك الداء هو الرذائل المنقّصة، و دواء ذلك الداء هو لزوم الفضائل العلميّة و العمليّة الّتي اشتمل عليها القرآن الكريم و نظام ما بينهم إشارة إلى ما اشتمل عليه من القوانين الشرعيّة و الحكمة السياسيّة الّتي بها نظام العالم و استقامة اموره.
القسم الثاني منها:
فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى بَيْتُ مَدَرٍ وَ لَا وَبَرٍ- إِلَّا وَ أَدْخَلَهُ الظَّلَمَةُ تَرْحَةً وَ أَوْلَجُوا فِيهِ نِقْمَةً- فَيَوْمَئِذٍ لَا يَبْقَى لَهُمْ فِي السَّمَاءِ عَاذِرٌ- وَ لَا فِي الْأَرْضِ نَاصِرٌ- أَصْفَيْتُمْ بِالْأَمْرِ غَيْرَ أَهْلِهِ وَ أَوْرَدْتُمُوهُ غَيْرَ مَوْرِدِهِ- وَ سَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِمَّنْ ظَلَمَ- مَأْكَلًا بِمَأْكَلٍ وَ مَشْرَباً بِمَشْرَبٍ- مِنْ مَطَاعِمِ الْعَلْقَمِ وَ مَشَارِبِ الصَّبِرِ وَ الْمَقِرِ- وَ لِبَاسِ شِعَارِ الْخَوْفِ وَ دِثَارِ السَّيْفِ- وَ إِنَّمَا هُمْ مَطَايَا الْخَطِيئَاتِ وَ زَوَامِلُ الْآثَامِ- فَأُقْسِمُ ثُمَّ أُقْسِمُ- لَتَنْخَمَنَّهَا أُمَيَّةُ مِنْ بَعْدِي كَمَا تُلْفَظُ النُّخَامَةُ- ثُمَّ لَا تَذُوقُهَا وَ لَا تَطْعَمُ بِطَعْمِهَا أَبَداً- مَا كَرَّ الْجَدِيدَانِ
اللغة
أقول: الترحة: الحزن.
و المقر: المرّ.
و الزاملة: الجمل يستظهر به الإنسان في حمل متاعه.
و تنخّمت النخامة: لفظتها.
و سياق الكلام الإخبار عن حال بني اميّة و ما يحدث في دولتهم من الظلم
و كنّى ببيت المدر و الوبر عن البدو و الحضر، و عن استحقاقهم عند فعلهم ذلك للتغيّر و زوال الدولة بعدم العاذر في السماء و الناصر في الأرض. ثمّ عقّب بتوبيخ السامعين على إصفائهم بأمر الخلافة غير أهله، و الخطاب عامّ خصّه العقل بمن هو راض بدولة معاوية و ذريّته، و ربّما الحق من تقاعد عن القيام معه في قتاله لأنّ العقود عن ردع الظالم و قتاله مستلزم لقوّته و يجرى مجرى نصرته و إعانته على ظلمه و إن لم يقصد القاعد عنه ذلك. ثمّ أخبر أنّ اللّه سينتقم منهم. و مأكلا و مشربا منصوبان بفعل مضمر و التقدير و يبدّلهم مأكلا بمأكل، و استعار لفظ العلقم و الصبر و المقر لما يتجرّعونه من شدائد القتل و أهوال العدوّ و مرارات زوال الدولة، و كذلك لفظ الشعار للخوف، و رشّح بذكر اللباس و لفظ الدثار للسيف، و وجه الاستعارة الاولى ظاهر، و وجه الثانية ملازمة الخوف لهم كملازمة الشعار للجسد، و أفاد بعض الشارحين أنّه إنّما خصّص الخوف بالشعار لأنّه باطن في القلوب، و السيف بالدثار لأنّه ظاهر في البدن كما أنّ الشعار ما كان يلي الجسد و الدثار ما كان فوقه، و استعار لهم لفظ المطايا و الزوامل، و وجه الاستعارة حملهم للآثام. و أتى بلفظ إنّما إشارة إلى أنّ جميع حركاتهم و تصرّفاتهم على غير قانون شرعيّ فيكون خطيئة و إثما. ثمّ أقسم لتنخمنّها اميّة من بعده. فاستعار لفظ التنخّم لزوال الخلافة عنهم فكأنّهم قاءوها و قذفوها من صدورهم ملاحظة لشبهها بالنخامة، و كنّى بعدم ذوقها و تطعّمها عن عدم رجوعها إليهم، و ما هنا بمعنى المدّة، و الجديدان الليل و النهار، و كنّى بذلك عن الأمد. و هو إخبار منه عمّا سيكون، و روى عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه أخبر أنّ بني اميّة تملك الخلافة بعده مع ذمّ منه لهم نحو ما روى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تفسير قوله «وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ»«» قال المفسرون: تلك الرؤيا أنّه رأى بني اميّة ينزون على منبره نزو القردة، و بهذا اللفظ فسّر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الآية و ساءه ذلك. ثمّ قال: الشجرة الملعونة بنو اميّة و بنو المغيرة، و روى عنه أنّه قال: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا، و كما روى عنه في تفسيره لقوله تعالى: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» قال: ألف شهر يملك فيها بنو اميّة، و نحو قوله: أبغض الأسماء إلى اللّه الحكم و الهشام و الوليد. إلى غير ذلك.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 273