و من خطبة له عليه السّلام
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْحَمْدَ مِفْتَاحاً لِذِكْرِهِ- وَ سَبَباً لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ- وَ دَلِيلًا عَلَى آلَائِهِ وَ عَظَمَتِهِ- عِبَادَ اللَّهِ- إِنَّ الدَّهْرَ يَجْرِي بِالْبَاقِينَ كَجَرْيِهِ بِالْمَاضِينَ- لَا يَعُودُ مَا قَدْ وَلَّى مِنْهُ- وَ لَا يَبْقَى سَرْمَداً مَا فِيهِ- آخِرُ فَعَالِهِ كَأَوَّلِهِ مُتَشَابِهَةٌ أُمُورُهُ- مُتَظَاهِرَةٌ أَعْلَامُهُ فَكَأَنَّكُمْ بِالسَّاعَةِ تَحْدُوكُمْ حَدْوَ الزَّاجِرِ بِشَوْلِهِ- فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ نَفْسِهِ تَحَيَّرَ فِي الظُّلُمَاتِ- وَ ارْتَبَكَ فِي الْهَلَكَاتِ- وَ مَدَّتْ بِهِ شَيَاطِينُهُ فِي طُغْيَانِهِ- وَ زَيَّنَتْ لَهُ سَيِّئَ أَعْمَالِهِ- فَالْجَنَّةُ غَايَةُ السَّابِقِينَ وَ النَّارُ غَايَةُ الْمُفَرِّطِينَ- اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ- وَ الْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ- لَا يَمْنَعُ أَهْلَهُ وَ لَا يُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ- أَلَا وَ بِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ الْخَطَايَا- وَ بِالْيَقِينِ تُدْرَكُ الْغَايَةُ الْقُصْوَى- عِبَادَ اللَّهِ اللَّهَ اللَّهَ فِي أَعَزِّ الْأَنْفُسِ عَلَيْكُمْ وَ أَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ- فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْضَحَ لَكُمْ سَبِيلَ الْحَقِّ وَ أَنَارَ طُرُقَهُ- فَشِقْوَةٌ لَازِمَةٌ أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ- فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الْفَنَاءِ لِأَيَّامِ الْبَقَاءِ- قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ وَ أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ- وَ حُثِثْتُمْ عَلَى الْمَسِيرِ- فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَرَكْبٍ وُقُوفٍ لَا يَدْرُونَ- مَتَى يُؤْمَرُونَ بِالسَّيْرِ- أَلَا فَمَا يَصْنَعُ بِالدُّنْيَا مَنْ خُلِقَ لِلْآخِرَةِ- وَ مَا يَصْنَعُ بِالْمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِيلٍ يُسْلَبُهُ- وَ تَبْقَى عَلَيْهِ تَبِعَتُهُ وَ حِسَابُهُ- عِبَادَ اللَّهِ- إِنَّهُ لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ مَتْرَكٌ- وَ لَا فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ- عِبَادَ اللَّهِ- احْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ الْأَعْمَالُ- وَ يَكْثُرُ فِيهِ الزِّلْزَالُ وَ تَشِيبُ فِيهِ الْأَطْفَالُ- اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ- وَ عُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ- وَ حُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ وَ عَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ- لَا تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ- وَ لَا يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ- وَ إِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ يَذْهَبُ الْيَوْمُ بِمَا فِيهِ- وَ يَجِيءُ الْغَدُ لَاحِقاً بِهِ- فَكَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ مِنْكُمْ- قَدْ بَلَغَ مِنَ الْأَرْضِ مَنْزِلَ وَحْدَتِهِ وَ مَخَطَّ حُفْرَتِهِ- فَيَا لَهُ مِنْ بَيْتِ وَحْدَةٍ- وَ مَنْزِلِ وَحْشَةٍ وَ مُفْرَدِ غُرْبَةٍ- وَ كَأَنَّ الصَّيْحَةَ قَدْ أَتَتْكُمْ- وَ السَّاعَةَ قَدْ غَشِيَتْكُمْ- وَ بَرَزْتُمْ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ- قَدْ زَاحَتْ عَنْكُمُ الْأَبَاطِيلُ- وَ اضْمَحَلَّتْ عَنْكُمُ الْعِلَلُ- وَ اسْتَحَقَّتْ بِكُمُ الْحَقَائِقُ- وَ صَدَرَتْ بِكُمُ الْأُمُورُ مَصَادِرَهَا- فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ- وَ اعْتَبِرُوا بِالْغِيَرِ وَ انْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ
اللغة
أقول: الشول: النوق الّتي جفّ لبنها و ارتفع ضرعها و أتى عليها من نتاجها سبعة أشهر. الواحدة شائلة على غير قياس.
و الارتباك: الاختلاط.
و حمة العقرب: إبرتها، و هي محلّ سمّها.
و الرتاج: الغلق.
المعنى
و قد حمد اللّه تعالى باعتبارات: أحدها: جعله الحمد مفتاحا لذكره في عدّة سور. الثاني: كونه سببا للمزيد من فضله، و المراد بالحمد هنا الشكر لقوله تعالى «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ»«» و قد عرفت إعداده لزيادة النعم. الثالث: و دليلا على آلائه. لاختصاص الشكر بمولى النعم، و على عظمته. لاختصاصه باستحقاق ذلك لذاته. إذ هو مبدء لكلّ نعمة، و لأنّ الحمد لا ينبغي إلّا له، ثمّ أخذ في الموعظة فنبّه السامعين على فعل الدهر بالماضين ليتذكّروا أنّهم أمثالهم و لاحقون بهم فيتقهقروا عن غيّهم و يعملوا لما بعد الموت. ثمّ نبّه على حاله في تقضّيه بأنّ كلّ وقت مضى منه لا يعود، و أنّ كلّ وقت منه له أهل و متاع من الدنيا إنّما يكون في الوجود بوجود ذلك الوقت، و ظاهر أنّه تنقضى بتقضّيه و لا يبقى سرمدا ما فيه، و أنّ آثاره متشابهة آخرها كأوّلها: أى يوجد ما يكون بإعداد وقت منه بوجود ذلك الوقت و ينقضي بانقضائه فحاله دائما على وتيرة واحدة، و كذلك قوله: متشابهة اموره فإنّه كما كان أوّلا يعدّ قوما للفقر و قوما للغنى، و قوما للضعة و قوما للرفعة، و قوما للوجود و آخرين للعدم كذلك هو آخرا. و قوله: متظاهرة أعلامه. أى دلالاته على شيمته و طبيعته و أفعاله الّتي يعامل الناس بها قديما و حديثا متعاضدة يتبع بعضها بعضا، و نسبة هذه الامور إلى الدهر جريا على ما في أوهام العرب و إن كان الفاعل هو اللّه تعالى و إنّما للدهر الإعداد كما سبق. ثمّ نبّه على قرب الساعة و شبّه حدوها: أى سوقها لهم بسوق الزاجر للنوق في حثّه لها، و قد عرفت كيفيّة ذلك السوق و وجه الاستعارة فيه و في قوله: و إنّ الساعة من ورائكم تحدوكم، فأمّا وجه الشبه فهو السرعة و الحثّ، و إنّما خصّ الشول من النوق لخلوّها من العثار فيكون سوقها بعنف و أسرع، و لمّا نبّههم على قربها و إنّها تحدوهم نبّههم على وجوب اشتغال كلّ بنفسه.
إذ كلّ مشغل نفسه بغير نفسه غير محصّل لنور يهتدي به في ظلمات طريق الآخرة بل إنّما يحصل على أغطية و أغشية من الهيئات البدنيّة اكتسبها عمّا اشتغل به من متاع الدنيا و العمل بها، و علمت أنّ تلك الأغطية مغشيّة لنور البصيرة فلا جرم يتحيّر في تلك الظلمات و يرتبك في مهالك تلك الطريق و مغاويها، و تمدّ به شياطينه و نفسه الأمّارة في طغيانه، و تزيّن له سيّء أعماله. ثمّ ذكر غاية وجود الإنسان فخصّ الجنّة بالسابقين، و النّار بالمفرّطين، و قد كان ذكر الجنّة كافيا في الجذب إليها، و النار كافيا في الجذب عنها فقرن ذكر الجنّة بذكر فضيلة السبق، و ذكر النار برذيلة التفريط ليقوى الباعث على طلب أشرف الغايتين و الهرب من أخسّهما، و أيضا فلأنّ السبق و التفريط علّتان للوصول إلى غايتيهما المذكورتين فهدى إلى طلب إحداهما، و الهرب من الاخرى بذكر سببها. ثمّ عاد إلى التنبيه على فضيلة التقوى، و استعار له لفظ الدار الحصينة الّتي تعزّ من تحصّن بها، و وجه الاستعارة كونها تحصن النفس أمّا في الدنيا فمن الرذائل الموبقة المنقّصة الموجبة لكثير من الهلكات الدنيويّة، و أمّا في الآخرة فمن ثمرات الرذائل ملكات السوء المستلزمة للعذاب الأليم. ثمّ على رذيلة الفجور، و هو طرف الإفراط من فضيلة العفّة، و استعار لفظ الدار بقيد كونها حصنا ذليلا، و وجه الاستعارة كونه مستلزما لضدّ ما استلزم التقوى و يجب أن يخصّص التقوى هنا بفضيلة القوّة البهيميّة و هي العفّة و الزهد لمقابلة الفجور للعفّة. ثمّ نبّه على فضيلة اخرى للتقوى و هي كونها قاطعا لحمة الخطايا و لفظ الحمة مستعار لها باعتبار كونها أسبابا مستلزمة للأذى في الآخرة كما يستلزم إبرة العقرب أو سمّها للأذى، و من روى حمّة مشددّة أراد شدّة الخطايا و بأسها لأنّ حمة الحرّ معظمته، و ظاهر كون التقوى قاطعا لبأس الخطايا و ماحيا لآثارها، و لمّا أشار إلى كون التقوى حاسما لمادّة الخطايا و كان بذلك إصلاح القوّة العمليّة أشار إلى أنّ اليقين الّذي به إصلاح القوّة النظريّة سبب لإدراك الغاية القصوى فإنّ الإنسان إذا حصل على كمال القوّة النظريّة باليقين و على كمال القوّة العمليّة بالتقوى بلغ الغاية القصوى من الكمال الإنسانىّ.
ثمّ عقّب بتحذير السامعين من اللّه تعالى في أعزّ الأنفس عليهم و أحبّها إليهم، و في الكلام إشارة إلى أنّ للإنسان نفوسا متعدّدة و هى باعتبار مطمئنّة، و أمّارة بالسوء، و لوّامة.
و باعتبار عاقلة، و شهويّة، و غضبيّة. و الإشارة إلى الثلاث الأخيرة. و أعزّها النفس العاقلة. إذ هي الباقية بعد الموت، و لها الثواب و عليها العقاب، و فيها الوصيّة، و غاية هذا التحذير حفظ كلّ نفسه ممّا يوبقها في الآخرة، و ذلك بالاستقامة على سبيل اللّه، و لذلك قال: فقد أوضح لكم سبيل الحقّ و أبان طرقه، و روى و أنار طرقه: أي بالآيات و النذر. ثمّ نبّه على غايتى سبيل الحقّ و سبيل الباطل بقوله: فشقوة لازمة أو سعادة دائمة. ثمّ عاد إلى الحثّ على اتّخاذ الزاد بعد أن ذكر التقوى تنبيها على أنّ الزاد هو التقوى كما قال تعالى «وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى»«» و أيّام البقاء الحال الّتي بعد الموت، و دلالتهم على الزاد في الآية الّتي دلّهم اللّه تعالى بها عليه و أمرهم بالظعن كقوله تعالى «سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ»«» الآية و قوله «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ» و بالجملة فكلّ أمر بالإعراض عن الدنيا و التنفير عنها فهو مستلزم للحثّ على الظعن و الأمر بالمسير عن الدنيا بالقلوب لأنّ الظعن هنا هو قطع درجات المعارف و الأعمال في سبيل اللّه و صراطه المستقيم و المسير فيها، و يحتمل أن يريد بالحثّ على المسير حثّ الليل و النهار بتعاقبهما على الأعمار فهما سابقان حثيثان عنيفان فيجب التنبيه لسوقهما على اتّخاذ الزاد لما يسوقان إليه. و قوله: و إنّما أنتم كركب. إلى آخره. فوجه التشبيه ظاهر فالإنسان هو النفس، و المطايا هي الأبدان و القوى النفسانيّة، و الطريق هى العالم الحسّيّ و العقليّ، و السير الذي ذكره قبل الموت هو تصرّف النفس في العالمين لتحصيل الكمالات المسعدة و هي الزاد لغاية السعادة الباقية، و أمّا السير الثاني الّذي هو وقوف ينتظرون و لا يدرون متى يؤمرون به فهو الرحيل إلى الآخرة من دار الدنيا و طرح البدن و قطع عقبات الموت و القبر إذ الإنسان لا يعرف وقت ذلك.
و حينئذ يتبيّن لك من سرّ هذا الكلام أنّ قوله: و امرتم بالظعن مع قوله: لا تدرون متى تؤمرون بالسير. غير متنافيين كما ظنّه بعضهم. ثمّ أخذ في تزهيد الدنيا و التنفير عنها بذكر أنّ الإنسان غير مخلوق لها بل لغيرها و مقتضى العقل أن يعمل الإنسان لما خلق له، و في تزهيد المال بتذكير سلبه عن قليل بالموت و بقاء الحساب عليه و تبعاته من عقارب الهيئات الحاصلة بسبب محبّته و جمعه و التصرّف الخارج عن العدل فيه لاسعة لمقتنيه. ثمّ عقّب بالترغيب في وعد اللّه بأنّه ليس منه مترك: اى ليس منه عوض و بدل في النفاسة بالتنفير عمّا نهى اللّه عنه بكونه لا مرغب فيه: أى ليس فيه مصلحة ينبغي أن يجعلها العاقل غاية مقصوده له. إذ هو تعالى أعلم بالمصالح فلا يليق بجوده أن ينهى العبد عمّا فيه مصلحة راجحة. ثمّ عقّب بالتحذير من يوم الوعيد و وصفه بالصفات الّتي باعتبارها يجب الخوف منه و العمل له و هي فحص الأعمال فيه و نقاش الحساب عليه كقوله تعالى «وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»«» و ظهور الزلزال كقوله تعالى «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْض ُ زِلْزالَها» و شيب الأطفال كقوله تعالى «يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً»«». و أعلم أنّ هذه الصفات في يوم القيامة ظاهرة في الشريعة، و قد سلّط التأويل عليها بعض من تحذلق فقال: أمّا الفحص عن الأعمال فيرجع إلى إحاطة اللوح المحفوظ بها و ظهورها للنفس عند مفارقتها للبدن أو إلى انتقاش النفوس بها كما تقدّم شرحه كقوله تعالى «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً»«» الآية، و أمّا ظهور الزلزال فيحتمل أن يريد التغيّر الّذي لا بدّ منه و الاضطراب العارض للبدن عند مفارقة النفس و التشويش لها أيضا على ما تقدّم من الإشارة إلى أنّ الدنيا هي مقبرة النفوس و أجداثها، و أمّا مشيب الأطفال فكثيرا ما يكنّى بذلك عن غاية الشدّة يقال هذا أمر تشيب فيه النواصي و تهرم فيه الأطفال إذا كان صعبا. و لا أصعب على النفس من حال المفارقة و ما بعدها. ثمّ عقّب بالتحذير من المعاصي بالتنبيه على الرصد القريب الملازم، و أشار بالرصد إلى الجوارح كما قال تعالى «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ»«» و قوله «وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا»«» الآية، و الشهادة هنا بلسان الحال و النطق به فإنّ كلّ عضو لمّا كان مباشرا لفعل من الأفعال كان حضور ذلك العضو و ما صدر عنه في علم اللّه تعالى بمنزلة الشهادة القوليّة بين يديه و أكّد في الدلالة، و أشار بحفّاظ الصدق إلى الكرام الكاتبين، و قد سبقت الإشارة إلى ذلك في الخطبة الاولى، و ظاهر كونهم لا يستر منهم ساتر. ثمّ بالتحذير بقرب غد، و كنّى به عن وقت الموت. ثمّ ببلوغ منزل الواحدة، و كنّى به عن القبر، و وصفه بالأوصاف الموحشة المنفّرة المستلزمة للعمل لحلوله و لما بعده. ثمّ بالصيحة و هي الصيحة الثانية إن كانت إلّا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون، و النفخة الثانية و نفخ فيه اخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثمّ بالقيامة الكبرى و البروز لفصل القضاء و هو حال استحقاق كلّ نفس ما لا بدّ لها منه من دوام عذاب أو دوام نعيم بحكم القضاء الإلهيّ، و ذلك بعد زوال الهيئات الباطلة الممكنة الزوال من النفوس الّتي لها استكمال ما و لحوقها بعالمها و اضمحلال العلل الباطلة للنفوس و استحقاق الحقائق بالخلق و رجوع كلّ امرىء إلى ثمرة ما قدّم. ثمّ عاد إلى الموعظة الجامعة الكلّيّة فأمر بالاتّعاظ بالعبر و كلّ ما يفيد تنبيها على أحوال الآخرة فهو عبرة، و بالاعتبار بالغير و هي جمع غيرة فعلة من التغيّر و اعتبارها طريق الاتّعاظ و الانزجار.
ثمّ بالانتفاع بالنذر جمع نذير و هو أعمّ من الإنسان بل كلّ أمر أفاد تخويفا بأحوال الآخرة فهو نذير و الانتفاع به حصول الخوف عنه. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 266