و من خطبة له عليه السّلام يذكر فيها بديع خلقة الخفاش
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي انْحَسَرَتِ الْأَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ- وَ رَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ- فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلَى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ- هُوَ اللَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ- أَحَقُّ وَ أَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ- لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً- وَ لَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الْأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّلًا- خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ تَمْثِيلٍ وَ لَا مَشُورَةِ مُشِيرٍ-وَ لَا مَعُونَةِ مُعِينٍ فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ- فَأَجَابَ وَ لَمْ يُدَافِعْ وَ انْقَادَ وَ لَمْ يُنَازِعْ وَ مِنْ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ وَ عَجَائِبِ خِلْقَتِهِ- مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِضِ الْحِكْمَةِ فِي هَذِهِ الْخَفَافِيشِ- الَّتِي يَقْبِضُهَا الضِّيَاءُ الْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْءٍ- وَ يَبْسُطُهَا الظَّلَامُ الْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ- وَ كَيْفَ عَشِيَتْ أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ- مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ نُوراً تَهْتَدِي بِهِ فِي مَذَاهِبِهَا- وَ تَتَّصِلُ بِعَلَانِيَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلَى مَعَارِفِهَا- وَ رَدَعَهَا بِتَلَأْلُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِي سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا- وَ أَكَنَّهَا فِي مَكَامِنِهَا عَنِ الذَّهَابِ فِي بُلَجِ ائْتِلَاقِهَا- فَهِيَ مُسْدَلَةُ الْجُفُونِ بِالنَّهَارِ عَلَى حِدَاقِهَا- وَ جَاعِلَةُ اللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ فِي الْتِمَاسِ أَرْزَاقِهَا- فَلَا يَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ ظُلْمَتِهِ- وَ لَا تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ- فَإِذَا أَلْقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا وَ بَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا- وَ دَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَى الضِّبَابِ فِي وِجَارِهَا- أَطْبَقَتِ الْأَجْفَانَ عَلَى مَآقِيهَا- وَ تَبَلَّغَتْ بِمَا اكْتَسَبَتْهُ مِنَ الْمَعَاشِ فِي ظُلَمِ لَيَالِيهَا فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اللَّيْلَ لَهَا نَهَاراً وَ مَعَاشاً- وَ النَّهَارَ سَكَناً وَ قَرَاراً- وَ جَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ لَحْمِهَا- تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّيَرَانِ- كَأَنَّهَا شَظَايَا الْآذَانِ غَيْرَ ذَوَاتِ رِيشٍ وَ لَا قَصَبٍ- إِلَّا أَنَّكَ تَرَى مَوَاضِعَ الْعُرُوقِ بَيِّنَةً أَعْلَاماً-لَهَا جَنَاحَانِ لَمَّا يَرِقَّا فَيَنْشَقَّا وَ لَمْ يَغْلُظَا فَيَثْقُلَا- تَطِيرُ وَ وَلَدُهَا لَاصِقٌ بِهَا لَاجِئٌ إِلَيْهَا- يَقَعُ إِذَا وَقَعَتْ وَ يَرْتَفِعُ إِذَا ارْتَفَعَتْ- لَا يُفَارِقُهَا حَتَّى تَشْتَدَّ أَرْكَانُهُ- وَ يَحْمِلَهُ لِلنُّهُوضِ جَنَاحُهُ- وَ يَعْرِفَ مَذَاهِبَ عَيْشِهِ وَ مَصَالِحَ نَفْسِهِ- فَسُبْحَانَ الْبَارِئِ لِكُلِّ شَيْءٍ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَيْرِهِ
اللغة
أقول:
الخفاش: مفرد جمعه خفافيش، و هو من الخفش و هو ضعف البصر خلقة.
و انحسرت: كلت.
و درعت: كفّت.
و المساغ: المسلك.
و سبحات إشراقها: جلالته و بهاؤه.
و البلج: جمع بلجة و هو أوّل ضوء الصبح، و قد يكون مصدرا.
و الائتلاق: اللمعان.
و الإسداف: مصدر أسدف الليل ظلم.
و غسق الدجّنة: ظلام الليل.
و وضح النهار: ضوءه.
و وجار الضبّ: بيته. و الشظايا: القطع.
المعنى
و قد حمد اللّه تعالى باعتبارات:
الأوّل: انحسار الأوصاف عن كنه معرفته
و لمّا كانت ذاته تعالى بريئة من أنحاء التراكيب لم يمكن العقول إدراكها بشيء من الأوصاف بالكنه، و قد سبق ذلك مرارا.
الثاني: ردع عظمته العقول عن بلوغ غاية ملكوته
و ذلك ظاهر لأنّ الإدراك للأشياء بحقائقها إنّما يتمّ بإدراك حقائق عللها، و إذا استلزمت عظمته و ارتفاعه عن إدراك العقول ردعها عن معرفة كنهه فظاهر أنّها لا تجد مسلكا إلى غاية ملكوته، و ما عليه نظام الوجود الأعلى و الأسفل كما هو.
الثالث: قوله: هو
فهو الهوية المطلق، و هو الّذي لا يكون هويّته موقوفة على غيره و مستفادة منه فإنّ كلّ ما كان مستفادا من الغير فما لم يعتبر غيره لم يكن هو فلم يكن هو هو المطلق، و كلّ ما كان هو هو لذاته فسواء اعتبر غيره أ و لم يعتبر فهو هو لكن كلّ ممكن فوجوده من غيره فكلّ ما كان وجوده من غير فخصوصيّة وجوده و تعيّنه من غيره و هو الهويّة فإذن كلّ ممكن فهويّته من غيره فلا يكون هو هو لذاته لكنّ المبدأ الأوّل هو هو لذاته فلا يكون من غيره فلا يكون ممكنا فهو واجب لذاته فإذن واجب الوجود هو الّذي لذاته هو هو بل ذاته أنّه هو البراءة عن التركيب المستلزم للإمكان.
الرابع: تعقيبه لذكر الهويّة باسم اللّه
و ذلك لأنّه لمّا كانت تلك الهويّة و الخصوصيّة عديمة الاسم لا يمكن شرحها إلّا بلوازمها، و اللوازم منها إضافيّة و منها سلبيّة، و اللوازم الإضافيّة أشدّ تعريفا و الأكمل في التعريف هو اللازم الجامع لنوعي الإضافة و السلب، و ذلك هو كون تلك الهويّة إليها فإنّ الإله هو الّذي ينسب إليه غيره و لا ينسب هو إلى غيره فانتساب غيره إليه إضافيّ، و عدم انتسابه إلى غيره سلبيّ فلا جرم عقّب ذكر الهويّة بما يدلّ على ذلك اللازم لأكمليّته في التعريف من غيره ليكون كالكاشف لما دلّ عليه لفظ هو، و فيه سرّ آخر، و هو أنّه لمّا عرّف تلك الهويّة بلازمها، و هو الإلهيّة نبّه على أنّه لا جزء لتلك الهويّة و إلّا لكان العدول عنه إلى التعريف باللازم قصور.
الخامس: ذكر الحقّ
و هو الثابت الموجود فإنّه لمّا أشار إلى الهويّة و شرح اسمها عقّب ذلك بالإشارة إلى كونها حقّا موجودا وجودها عند العقول أحقّ و أبين ممّا [عمّا خ] ترى العيون، و ذلك ظاهر فإنّ العلم بوجود الصانع- جلّت عظمته- فطرىّ للعقول و إن احتاج إلى بيّنة ما. و العلوم الّتي مستندها الحس قد يقع الخلل فيها بسبب ما يقع للوهم من اشتباه المحسوسات و عدم ضبطها أو بسبب تقصير الحسّ في كيفيّة الأداء لصورة المحسوس فكانت المعقولات الصرفة أحقّ لإدراك العقل لها بذاته.
السادس: أنّ العقول لم تبلغه تجديد فيكون مشبّها
و فيه إشارة لطيفة تدل على كمال علمه عليه السّلام، و ذلك أنّك علمت في المقدّمات أنّ العقول إذا قويت على الاتّصال بالامور المجرّدة، و كانت القوّة المتخيّلة بحيث تقوى على استخلاص الحسّ المشترك و ضبطه عن الحواسّ الظاهرة فإنّ النفس و الحال هذه إذا توجّهت لاقتناص أمر معقول و انجذبت القوى النفسانيّة أثرها انتقشت بذلك المعقول. ثمّ إنّها تستعين في ضبط ذلك الأمر بالقوّة المتخيّلة فتحاكيه بما يشبهه من الامور المحسوسة. ثمّ تحطّه إلى خزانة الخيال فيصير مشاهدا ممثّلًا.
إذا عرفت ذلك فنقول: لو كان الباري تعالى ممّا تدركه العقول و تشتبه بحدّ وصفة لكان استثباتها له على النحو المذكور فيلزم أن يكون مشبّها بغيره من الأجسام، و الجسمانيّات ليثبت صورته عند الذهن، و قد تنزّه قدس اللّه عن التشبيه بشيء منها.
السابع: و كذلك لم تقع الأوهام عليه بتقدير فيكون ممثّلا.
إذ الوهم لا يدرك إلّا المعاني الجزئيّة المتعلّقة بالمحسوسات، و لا بدّ له في إدراك ذلك المدرك من بعث المتخيّلة على تشبيهه بمثال من الصور الجسمانيّة فلو وقع عليه و هو لمثّله في صورة حسّية حتّى أنّ الوهم إنّما يدرك نفسه في مثال من صورة و حجم و مقدار.
الثامن: خلقه [خلق خ] الخلق على غير مثال. إلى قوله: معين
و قد سبق أيضا بيانه في الخطبة الاولى و غيرها، و تمام خلقه بأمره بلوغه إلى غايته في الكمال الممكن له إذ [إذا خ] نطقت البراهين العقليّة أنّ كلّ ما أمكن لشيء وصل إليه من الجود الإلهي المنزّه عن البخل و المنع من جهته، و إذعانه لطاعته دخوله تحت القدرة الالهيّة، و كذلك إجابته من غير مدافعة و انقياده من غير منازعة.
ثمّ شرع في مقصود الخطبة
و هو حمد اللّه تعالى باعتبار بعض لطائف صنعه و عجائب خلقه، و التنبيه على غوامض حكمته في خلقة هذا الحيوان المخصوص، و بدأ بالتعجّب من مخالفتها لساير الحيوان في قبض الضياء لإبصارها مع بسطها لسائر إبصار الحيوانات و إعداده لانبساط النبات و نموّه و غيره. ثمّ من بسط الظلام لإبصارها مع قبضه لساير الإبصار. ثمّ نبّه على العلّة الطبيعيّة لذلك و هو عشاء أعينها و ضعفها أن تستمدّ من نور الشمس المضيئة نورا تهتدى به، و الّذي ذكر في علّة ذلك الضعف هو إفراط التحلّل في الروح الحامل للقوّة الباصرة من هذا الحيوان إذا لقى حرّ النهار فيصيبه لذلل التحلّل ضعف يحتاج معه إلى التعوّض عمّا يتحلّل فيرجع عن العضو الباصر منها طلبا لبدل ما يتحلّل فيستكمل البدل بقرب الليل لمكان برده و ضعف حرارة النهار فيعود الإبصار، و وصفه عليه السّلام بهذه الخاصيّة منها و كيفيّة حالها فيها إلى قوله: ظلم لياليها. وصف لا مزيد على فصاحته. و قوله: و تتّصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها. في غاية الفصاحة. و معارفها ما تعرفه من مذاهبها و وجوه تصرّفاتها، و تتّصل عطف على قوله: تستمدّ، و أمّا إسدالها لجفونها على حداقها فلأنّ تحلّل الروح الحامل للقوّة الباصرة سبب للنوم أيضا فيكون ذلك الإسدال ضربا من النوم و كثيرا ما يلحق كثيرا من الحيوان و سببه ما ذكرناه، و استعار لفظ القناع للشمس ملاحظة لشبهها بالمرأة ذات القناع، و كنّى بإلقائه عن بروزها من حجاب الأرض. ثمّ ثنّى بتسبيح اللّه و تعظيمه باعتبار أمر آخر لها على سبيل التعجّب و هو خلق أجنحتها من لحم بلا ريش و لا قصب كساير أجنحة الطير بل من عروق و رقّ تبسطه و تقبضه على مفاصل مخصوصة من غير رقّة توجب له الانشقاق عند الطيران، و لا غلظ يوجب له الثقل. ثمّ ثلّث بعجيب حالها مع ولدها، و ذلك أنّه يلصق بها فيرتضعها و لا يفارقها في حالتي وقوعها و طيرانها حتّى يشتدّ و يمكنه الطيران و التصرّف بنفسه، و ذلك أمر يخالف به أيضا ساير الحيوان و هو محلّ التعجّب. ثمّ ختم الفصل بتسبيح اللّه تعالى باعتبار خلقه لكلّ شيء من غير مثال سبق من غيره، و من الأمثال العامّة: قيل للخفّاش: لما ذا لا جناح لك قالت: لأنّي تصوير مخلوق. قيل: فلما ذا لا تخرج نهارا قال: حياء من الطيور. يريدون أنّ المسيح عليه السّلام صوّره. و إنّ إليه الإشارة بقوله تعالى «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ»«» و في الطير عجائب لا تهتدي لها العقول بل و في كلّ ذرّة من ذرّات مبدعاته و مكوّناته لطائف و أسرار كالنحل و البعوض و النمل تعجز عن إدراكها و استقصاء أوصافها ألباب الألبّاء و حكمة الحكماء فسبحانه ما أعظم شأنه و أبهر برهانه.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانى )، ج 3 ، صفحهى 253