153- و من خطبة له عليه السّلام
القسم الأول
وَ نَاظِرُ قَلْبِ اللَّبِيبِ بِهِ يُبْصِرُ أَمَدَهُ- وَ يَعْرِفُ غَوْرَهُ وَ نَجْدَهُ- دَاعٍ دَعَا وَ رَاعٍ رَعَى- فَاسْتَجِيبُوا لِلدَّاعِي وَ اتَّبِعُوا الرَّاعِيَ قَدْ خَاضُوا بِحَارَ الْفِتَنِ- وَ أَخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَ السُّنَنِ- وَ أَرَزَ الْمُؤْمِنُونَ وَ نَطَقَ الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ- نَحْنُ الشِّعَارُ وَ الْأَصْحَابُ وَ الْخَزَنَةُ وَ الْأَبْوَابُ- وَ لَا تُؤْتَى الْبُيُوتُ إِلَّا مِنْ أَبْوَابِهَا- فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَيْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّيَ سَارِقاً
اللغة
أقول: الأمد: الغاية.
و غوره و نجده: منخفضه و مرتفعه.
و أرز بفتح الراء: أي انقبض و انجمع.
المعنى
و ناظر قلب اللبيب: عين بصيرته. و ظاهر أنّه يبصر بها طريقه و غايته الّتي هي متوجّه إليها و مطلوبه منها، و غوره و نجده طريقاه للخير و الشرّ و هما النجدان في قوله تعالى «وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ»«» و عبارة القرآن المجيد أخص، و هذه العبارة أنسب إلى المعنى فإنّ الغور هو المنخفض و المستفل أنسب إلى أن يعبّر به عن رتبة النازلين في دركات الجحيم من النجد، و أشار بالداعى إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما جاء به القرآن الكريم و السنّة، و بالراعي إلى نفسه، و الأمر بالاستجابة للأوّل و الاتّباع للثاني، و ظاهر وجوب الاستجابة للّه و رسوله لقوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ»«» فيجب اتّباع من أوجبا اتّباعه.
و قوله: قد خاضوا بحار الفتن. يحتمل أن يكون التفاتا إلى صفة قوم معهودين للسامعين كمعاوية و أصحاب الجمل و الخوارج، و يحتمل أن يكون منقطعا عمّا قبله متّصلا بكلام لم يحكه الرضيّ- رضوان اللّه عليه- و إليه ذهب بعض الشارحين. قال: و هو ذكر قوم من أهل الضلال قد كان أخذ في ذمّهم و عيبهم، و لفظ البحار مستعار لما عظم من الفتن و الحروب، و قد عرفت وجه الاستعارة قبل، و رشّح بذكر الخوض، و البدعة قد يراد بها ترك السنّة، و قد يراد بها أمر آخر يفعل مع ترك السنّة، و هو الأظهر في العرف. ثمّ التفت إلى ذكر فضيلته فاستعار لفظ الشعار لنفسه و أهل بيته، و وجه المشابهة ملازمتهم للرسول صلى اللّه عليه و آله و سلم و اختصاصهم به كما يلزم الشعار الجسد. ثمّ ذكر كونهم أصحابا له. ثمّ كونهم خزنة علمه كما نقل عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو خازن علمى، و في رواية عيبة علمى، و قيل: خزنة الجنّة على معنى أنّ من جاء يوم القيامة بولايتهم دخل الجنّة و إلّا فلا، و لفظ الخزن على التقديرين مستعار، و وجه المشابهة تصرّفهم بمنع العلم و إعطائه أو بمنع الجنّة بسببهم، و إعطائها كما أنّ الخاذن للشيء كذلك. ثمّ كونهم الأبواب: أي أبواب العلم كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنا مدينة العلم و علىّ بابها و أبواب الجنّة على الاستعارة السابقة. و قوله: لا تؤتى البيوت إلّا من أبوابها، و ذلك لوجوه: أحدها: العادة الجارية على وفق الحكمة. الثاني: النصّ «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ». الثالث: العرف و هو أنّه من أتاها من غير أبوابها سمّى سارقا، و التقبيح العرفيّ يستلزم الترك، و مراده أنّ من طلب العلم و الحكمة و أسرار الشريعة فليرجع إلينا، و باللّه التوفيق.
القسم الثاني منها:
فِيهِمْ كَرَائِمُ الْقُرْآنِ وَ هُمْ كُنُوزُ الرَّحْمَنِ- إِنْ نَطَقُوا صَدَقُوا وَ إِنْ صَمَتُوا لَمْ يُسْبَقُوا- فَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ وَ لْيُحْضِرْ عَقْلَهُ- وَ لْيَكُنْ مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ- فَإِنَّهُ مِنْهَا قَدِمَ وَ إِلَيْهَا يَنْقَلِبُ- فَالنَّاظِرُ بِالْقَلْبِ الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ- يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِهِ أَنْ يَعْلَمَ أَ عَمَلُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَهُ- فَإِنْ كَانَ لَهُ مَضَى فِيهِ وَ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَقَفَ عَنْهُ- فَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ- فَلَا يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ إِلَّا بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ- وَ الْعَامِلُ بِالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ- فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ أَ سَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ وَ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ ظَاهِرٍ بَاطِناً عَلَى مِثَالِهِ- فَمَا طَابَ ظَاهِرُهُ طَابَ بَاطِنُهُ- وَ مَا خَبُثَ ظَاهِرُهُ خَبُثَ بَاطِنُهُ- وَ قَدْ قَالَ الرَّسُولُ الصَّادِقُ ص- إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ وَ يُبْغِضُ عَمَلَهُ- وَ يُحِبُّ الْعَمَلَ وَ يُبْغِضُ بَدَنَهُ وَ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ نَبَاتاً- وَ كُلُّ نَبَاتٍ لَا غِنَى بِهِ عَنِ الْمَاءِ- وَ الْمِيَاهُ مُخْتَلِفَةٌ فَمَا طَابَ سَقْيُهُ طَابَ غَرْسُهُ وَ حَلَتْ ثَمَرَتُهُ- وَ مَا خَبُثَ سَقْيُهُ خَبُثَ غَرْسُهُ وَ أَمَرَّتْ ثَمَرَتُهُ
المعنى
أقول: الإشارة إلى فضائل أهل البيت عليهم السّلام فالاولى: فيهم كرائم الإيمان: أي نفائسه المستلزمة لأشديّة القرب من اللّه تعالى كالأخلاق الفاضلة و الاعتقادات الحقّة المطابقة لما عليه الأمر نفسه.
الثانية: و هو كنوز الرحمن: أي خزائن علمه و ساير ما امر به من مكارم الأخلاق.
الثالثة: ملازمة منطقهم للصدق.
الرابعة: اختصاصهم بالحكمة الّتي لا يتمكّن غيرهم من النطق بها و السبق إليها حال سكوتهم فهم إن نطقوا فبحكمة و إن صمتوا فحكمة و وضع للصمت في موضعه، و إنّما ذكر هذه الفضائل لنفسه و أهل بيته جذبا إلى سماع قوله و دعوته إلى اللّه و لذلك عقّب بالمثل فليصدق رائد أهله، و أشار به إلى من يحضرنا طلبا لاختيارنا فليصدق من يعينه أمره إنّنا أهل الحقّ و ينابيع العلوم و الحكمة و الأدلّاء إلى اللّه كما يصدق الرائد لطلب الكلاء و الماء أهله مبشّرا بهما، و ليحضر عقله لما يقوله ليعرف صحّة ما ادّعيناه. ثمّ شرع فيما ينبغي أن يقوله أمثاله، و هو التنبيه على أحوال الآخرة، و أن يكون العاقل من أبنائها، و وجه استعارة النبوّة هاهنا. قوله: فإنّه منها قدم و إليها ينقلب. أى كما أنّ الابن ينقلب عن الامّ و إليها و له و رجوعه كذلك الإنسان مبدؤه الحضرة الإلهيّة فعنها ينقلب و إليها يعود فينبغي أن يكون من أبنائها بالرغبة فيها و الوله إليها و العمل لها. ثمّ نبّه العاقل ذا الفكر السليم الناظر بعين بصيرته على ما ينبغي له أن يبدأ به في حركاته و سكناته و هو أن يتفقّد أحوال نفسه فيما يهمّ به و ينبعث في طلبه أو تركه، و يعلم أذلك الخاطر أو تلك الحركة مقرّبة له من اللّه تعالى فيكون له فينبغي أن يمضى فيها أو مبعّده له عن رضاه و مستلزمة لسخطه فيكون عليه فيقف عنها. ثمّ شبّه الجاهل في حركاته و سكناته بالسائر على غير طريق و أشار إلى وجه التشبيه بقوله: فلا يزيده بعده عن الطريق إلّا بعدا عن حاجته.
إذ كان بعده عن مطلوبه بقدر بعده عن طريق ذلك المطلوب، و بضدّه العامل بالعلم في سلوكه و قربه من مطلوبه، و نفر بذلك التشبيه عن الجهل و زاد في التنفير بقوله: فلينظر ناظر أساير هوأم راجع فإنّه إذا علم أنّه سائر وجب أن يعلم كيف يسير و يشعل مصباح العلم ليسلم من الضلال و الصرعة في مهاوي الهلاك. و قوله: و اعلم أنّ لكلّ ظاهر باطنا. إلى قوله: ويبغض بدنه. فاعلم أنّ هذه القضيّة الكلّيّة صادقة و ذلك أنّه لمّا صدر عن الجود الإلهيّ عالما الغيب و الشهادة و إن شئت عالم الخلق و الأمر و إن شئت العالم الروحانيّ و الجسمانيّ اقتضت الحكمة الإلهيّة كون عالم الشهادة طريقا للنفوس البشريّة إلى عالم الغيب و لولاها لتعذّر السفر إلى الحضرة الإلهيّة و انسدّ طريق الترقّي إلى اللّه فكان جميع ما ظهر في عالم الشهادة مثالا مناسبا للأمر باطن من عالم الغيب هو الطريق إليه، و الدليل عليه غير أنّ المفهوم من كلامه عليه السّلام هنا تخصيص تلك الكلّيّة بأحد أمرين فإنّه إمّا أن يشير بالظاهر إلى أشخاص الناس أو إلى أفعالهم الظاهرة، و الباطن إشارة إلى الأخلاق و أعمال القلوب و ما في الأمزجة المختلفة من الخير و الشرّ، و قيل: إشارة إلى ما يخفى من الثواب و العقاب في الآخرة، و قد دلّ الاستقراء و القياس على أنّ حسن الصورة أو حسن الأعمال الظاهرة الّتي تبدو من الإنسان حسن الأخلاق طيّب العشرة مستقيم السيرة، و على أنّ قبيحها سيّء الأخلاق شرير أمّا الاستقراء فظاهر، و أمّا القياس فلأنّ حسن الأخلاق و قرب النفس من الاستقامة على طلب الحقّ مقتضى قرب المزاج من الاعتدال، و كذلك حسن الصورة فيترتّب قياس هكذا: حسن الصورة معتدل المزاج و كلّ معتدل المزاج حسن الأخلاق فحسن الصورة حسن الأخلاق، و إن شئت هكذا: معتدل المزاج حسن الصورة و معتدل المزاج حسن الأخلاق و القضيّتان أكثريّتان فإنّ بعض حسن الصورة قبيح الباطن، و بعض خبيث الظاهر حسن الباطل، و لذلك استشهد بما رواه عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّ اللّه يحبّ العبد من حيث صورته الحسنة لكونها مقتضى الحكمة الإلهيّة و أنسب إلى الوجود من القبيحة الّتي هي أنسب إلى العدم الّذي هو الشرّ المحض و يبغض عمله من جهة ما هو شرّ، و كذلك يحبّ العمل الحسن الباطن الطيب، و يبغض بدنه القبيح لنسبته إلى العدم الّذي هو شرّ، و أمّا النصّ في دلالة الظاهر على الباطن فما نطق به القرآن الكريم «وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً»«» أي عسرا مشوما. قال ابن عبّاس و مجاهد و الحسن و قتادة و السدى: هذا مثل ضربه اللّه تعالى للمؤمن و الكافر بالأرض العذية التربة و بالأرض السبخة المالحة، و شبّه فيه المؤمن الّذي إذا سمع القرآن و عاه و عقله و انتفع به فبان أثره عليه بحسن الأعمال و طيّبها بالبلد الطيّب. إذ كان البلد الطيّب يمرع و يخصب و يحسن أثر المطر عليه، و شبّه الكافر الّذي يسمع القرآن فلا يؤثّر فيه أثرا محمودا بالبلدالخبيث. إذ كان لا يمرع و لا يخصب و لا يتبيّن أثر المطر فيه، و أمّا البغض و المحبّة فقد علمت أنّهما يعودان في اللّه سبحانه إلى إرادته و كراهيّته فما كان خيراً محضا أو الخير غالب عليه فهو مراد له بالذات، و ما كان شرّا محضا أو غالبا فهو مراد له بالعرض مكروه له بالذات. و قوله: و أعلم أنّ لكلّ عمل نباتا. استعار لفظ النبات لزيادة الأعمال و نموّها، و رشّح تلك الاستعارة بذكر الماء.
و كنّى به عن المادّة القلبيّة للأعمال، و وجه المشابهة أنّ الحركات في العبادة إنّما تكون بالميول القلبيّة و النيّات كما أنّ حركة النموّ للنبات إنّما تكون بالماء.
و ظاهر أنّ اختلاف المياه في الحلاوة و الملوحة سبب لاختلاف استعداد النبات لطيب المغارس و الثمار فما طاب سقيه: أي نصيبه من الماء طابت ثمرته و ما خبثت ثمرته فكذلك ما يشبه النباتات و هي الأعمال يكون طيب ثمارها و هي ثمار الجنّة و أنواع لذّاتها بحسب طيب مادّتها من الإخلاص للّه، و خبثها بحسب خبث مادّتها من الرياء و حبّ الشهرة و تكونثمرتها أمرّ الثمار. إذ لا أمرّ مذاقا من عذاب النار. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحهى 248