98 و من خطبة له ع
نَحْمَدُهُ عَلَى مَا كَانَ- وَ نَسْتَعِينُهُ مِنْ أَمْرِنَا عَلَى مَا يَكُونُ- وَ نَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الْأَدْيَانِ- كَمَا نَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الْأَبْدَانِ- أُوصِيكُمْ بِالرَّفْضِ- لِهَذِهِ الدُّنْيَا التَّارِكَةِ لَكُمْ- وَ إِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْكَهَا- وَ الْمُبْلِيَةِ لِأَجْسَامِكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ تَجْدِيدَهَا- فَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَ مَثَلُهَا كَسَفْرٍ- سَلَكُوا سَبِيلًا فَكَأَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوهُ- وَ أَمُّوا عَلَماً فَكَأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوهُ- وَ كَمْ عَسَى الْمُجْرِي إِلَى الْغَايَةِ- أَنْ يَجْرِيَ إِلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا- وَ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ مَنْ لَهُ يَوْمٌ لَا يَعْدُوهُ- وَ طَالِبٌ حَثِيثٌ مِنَ الْمَوْتِ يَحْدُوهُ- وَ مُزْعِجٌ فِي الدُّنْيَا عَنِ الدُّنْيَا حَتَّى يُفَارِقَهَا رَغْماً- فَلَا تَنَافَسُوا فِي عِزِّ الدُّنْيَا وَ فَخْرِهَا- وَ لَا تَعْجَبُوا بِزِينَتِهَا وَ نَعِيمِهَا- وَ لَا تَجْزَعُوا مِنْ ضَرَّائِهَا وَ بُؤْسِهَا- فَإِنَّ عِزَّهَا وَ فَخْرَهَا إِلَى انْقِطَاعٍ- وَ زِينَتَهَا وَ نَعِيمَهَا إِلَى زَوَالٍ- وَ ضَرَّاءَهَا وَ بُؤْسَهَا إِلَى نَفَادٍ- وَ كُلُّ مُدَّةٍ فِيهَا إِلَى انْتِهَاءٍ- وَ كُلُّ حَيٍّ فِيهَا إِلَى فَنَاءٍ- أَ وَ لَيْسَ لَكُمْ فِي آثَارِ الْأَوَّلِينَ مُزْدَجَرٌ وَ فِي آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ تَبْصِرَةٌ وَ مُعْتَبَرٌ- إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ- أَ وَ لَمْ تَرَوْا إِلَى الْمَاضِينَ مِنْكُمْ لَا يَرْجِعُونَ- وَ إِلَى الْخَلَفِ الْبَاقِينَ لَا يَبْقَوْنَ- أَ وَ لَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا- يُمْسُونَ وَ يُصْبِحُونَ عَلَى أَحْوَالٍ شَتَّى- فَمَيْتٌ يُبْكَى وَ آخَرُ يُعَزَّى- وَ صَرِيعٌ مُبْتَلًى وَ عَائِدٌ يَعُودُ- وَ آخَرُ بِنَفْسِهِ يَجُودُ- وَ طَالِبٌ لِلدُّنْيَا وَ الْمَوْتُ يَطْلُبُهُ- وَ غَافِلٌ وَ لَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ- وَ عَلَى أَثَرِ الْمَاضِي مَا يَمْضِي الْبَاقِي- أَلَا فَاذْكُرُوا هَاذِمَ اللَّذَّاتِ- وَ مُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ- وَ قَاطِعَ الْأُمْنِيَّاتِ- عِنْدَ الْمُسَاوَرَةِ لِلْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ- وَ اسْتَعِينُوا اللَّهَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ- وَ مَا لَا يُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِهِ وَ إِحْسَانِهِ لما كان الماضي معلوما جعل الحمد بإزائه- لأن المجهول لا يحمد عليه- و لما كان المستقبل غير معلوم جعل الاستعانة بإزائه- لأن الماضي لا يستعان عليه- و لقد ظرف و أبدع ع في قوله- و نسأله المعافاة في الأديان- كما نسأله المعافاة في الأبدان- و ذلك أن للأديان سقما و طبا و شفاء- كما أن للأبدان سقما و طبا و شفاء- قال محمود الوراق-
و إذا مرضت من الذنوب فداوها
بالذكر إن الذكر خير دواء
و السقم في الأبدان ليس بضائر
و السقم في الأديان شر بلاء
و قيل لأعرابي ما تشتكي قال ذنوبي- قيل فما تشتهي قال الجنة- قيل أ فلا ندعو لك طبيبا قال الطبيب أمرضني- . سمعت عفيرة بنت الوليد البصرية العابدة رجلا يقول- ما أشد العمى على من كان بصيرا- فقالت عبد الله غفلت عن مرض الذنوب- و اهتممت بمرض الأجساد- عمى القلوب عن الله أشد من عمى العين عن الدنيا- وددت أن الله وهب لي كنه محبته- و لم يبق مني جارحة إلا تبلها- . قيل لحسان بن أبي سنان في مرضه ما مرضك- قال مرض لا يفهمه الأطباء- قيل و ما هو قال مرض الذنوب- فقيل كيف تجدك الآن- قال بخير إن نجوت من النار- قيل فما تشتهي- قال ليلة طويلة بعيدة- ما بين الطرفين أحييها بذكر الله- . ابن شبرمة- عجبت ممن يحتمي من الطعام مخافة الداء- كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار- قوله ع الدنيا التاركة لكم و إن لم تحبوا تركها- معنى حسن- و منه قول أبي الطيب-
كل دمع يسيل منها عليها
و بفك اليدين عنها تخلى
و الرفض الترك- و إبل رفض متروكة ترعى حيث شاءت- و قوم سفر أي مسافرون- و أموا قصدوا- و العلم الجبل أو المنار في الطريق يهتدى به- . و كأن في هذه المواضع كهي في قوله- كأنك بالدنيا لم تكن- و كأنك بالآخرة لم تزل- ما أقرب ذلك و أسرعه- و تقدير الكلام هاهنا- كأنهم في حال كونهم غير قاطعين له قاطعون له- و كأنهم في حال كونهم غير بالغين له بالغون له- لأنه لما قرب زمان إحدى الحالتين من زمان الأخرى- شبهوا و هم في الحال الأولى بهم أنفسهم- و هم على الحال الثانية- .
قوله ع و كم عسى المجري- أجرى فلان فرسه إلى الغاية إذا أرسلها- ثم نقل ذلك إلى كل من يقصد- بكلامه معنى أو بفعله غرضا- فقيل فلان يجري بقوله إلى كذا- أو يجري بحركته الفلانية إلى كذا- أي يقصد و ينتهي بإرادته و أغراضه- و لا يعدوه و لا يتجاوزه- . و الحثيث السريع و يحدوه يسوقه- و المنافسة المحاسدة و نفست عليه بكذا أي ضننت- و البؤس الشدة و النفاد الفناء- .
و ما في قوله على أثر الماضي ما يمضي الباقي- إما زائدة أو مصدرية- و قد أخذ هذا اللفظ الوليد بن يزيد بن عبد الملك- يوم مات مسلمة بن عبد الملك- قيل لما مات مسلمة بن عبد الملك- و اجتمع بنو أمية و رؤساء العرب ينظرون جنازته- خرج الوليد بن يزيد على الناس- و هو نشوان ثمل يجر مطرف خز- و هو يندب مسلمة و مواليه حوله- فوقف على هشام- فقال يا أمير المؤمنين- إن عقبى من بقي لحوق من مضى- و قد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن رمى- و اختل الثغر فوهى- و ارتج الطود فهوى- و على أثر من سلف ما يمضي من خلف- فتزودوا فإن خير الزاد التقوى- . قوله ع عند مساورة الأعمال القبيحة- العامل في عند قوله اذكروا- أي ليكن ذكركم الموت وقت مساورتكم- و المساورة المواثبة- و سار إليه يسور سورا وثب- قال الأخطل يصف خمرا له-
لما أتوها بمصباح و مبزلهم
سارت إليهم سئور الأبجل الضاري
أي كوثوب العرق الذي قد فصد أو قطع- فلا يكاد ينقطع دمه- و يقال إن لغضبه لسورة- و هو سوار أي وثاب معربد
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 7