93 و من خطبة له ع
فَتَبَارَكَ اللَّهُ الَّذِي لَا يَبْلُغُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ- وَ لَا يَنَالُهُ حَدْسُ الْفِطَنِ- الْأَوَّلُ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ فَيَنْتَهِي- وَ لَا آخِرَ لَهُ فَيَنْقَضِي البركة كثرة الخير و زيادته- و تبارك الله منه و بركت أي دعوت بالبركة- و طعام بريك أي مبارك- و يقال بارك الله لزيد و في زيد و على زيد- و بارك الله زيدا يتعدى بنفسه- و منه قوله تعالى أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ- و يحتمل تبارك الله معنيين- أحدهما أن يراد تبارك خيره و زادت نعمته و إحسانه- و هذا دعاء- و ثانيهما أن يراد به تزايد و تعال في ذاته و صفاته- عن أن يقاس به غيره- و هذا تمجيد- . قوله ع لا يبلغه بعد الهمم أي بعد الأفكار و الأنظار- عبر عنها بالهمم لمشابهتها إياها- و حدس الفطن ظنها و تخمينها- حدست أحدس بالكسر- . و يسأل عن قوله لا غاية له فينتهي و لا آخر له فينقضي- فيقال إنما تدخل الفاء فيما إذا كان الثاني غير الأول- و كقولهم ما تأتينا فتحدثنا- و ليس الثاني هاهنا غير الأول- لأن الانقضاء هو الآخرية بعينها- فكأنه قال لا آخر له فيكون له آخر و هذا لغو- و كذلك القول اللفظة في الأولى- .
و ينبغي أن يقال في الجواب- إن المراد لا آخر له بالإمكان و القوة- فينقضي بالفعل فيما لا يزال- و لا هو أيضا ممكن الوجود فيما مضى- فيلزم أن يكون وجوده مسبوقا بالعدم- و هو معنى قوله فينتهي- بل هو واجب الوجود في حالين- فيما مضى و في المستقبل- و هذان مفهومان متغايران- و هما العدم و إمكان العدم- فاندفع الإشكال: فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ- وَ أَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ- تَنَاسَخَتْهُمْ كَرَائِمُ الْأَصْلَابِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الْأَرْحَامِ- كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ سَلَفٌ- قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللَّهِ خَلَفٌ- حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ ص- فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً- وَ أَعَزِّ الْأَرُومَاتِ مَغْرِساً- مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ- وَ انْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ- وَ أُسْرَتُهُ خَيْرُ الْأُسَرِ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ- نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ وَ بَسَقَتْ فِي كَرَمٍ- لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ وَ ثَمَرٌ لَا يُنَالُ- فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى وَ بَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى- سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ وَ شِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ- وَ زَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ سِيرَتُهُ الْقَصْدُ- وَ سُنَّتُهُ الرُّشْدُ وَ كَلَامُهُ الْفَصْلُ وَ حُكْمُهُ الْعَدْلُ- أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ- وَ هَفْوَةٍ عَنِ الْعَمَلِ وَ غَبَاوَةٍ مِنَ الْأُمَمِ تناسختهم أي تناقلتهم- و التناسخ في الميراث أن يموت ورثة بعد ورثة- و أصل الميراث قائم لم يقسم- كأن ذلك تناقل من واحد إلى آخر- و منه نسخت الكتاب و انتسخته و استنسخته أي نقلت ما فيه- و يروى تناسلتهم- . و السلف المتقدمون و الخلف الباقون- و يقال خلف صدق بالتحريك و خلف سوء بالتسكين- . و أفضت كرامة الله إلى محمد ص أي انتهت- و الأرومات جمع أرومة و هي الأصل و يقال أروم بغير هاء- و صدع شق و انتجب اصطفى- و الأسرة رهط الرجل- .
و قوله نبتت في حرم- يجوز أن يعني به مكة- و يجوز أن يعني به المنعة و العز- . و بسقت طالت- و معنى قوله و ثمر لا ينال- ليس على أن يريد به أن ثمرها لا ينتفع به- لأن ذلك ليس بمدح- بل يريد به أن ثمرها لا ينال قهرا- و لا يجنى غصبا- و يجوز أن يريد بثمرها نفسه ع- و من يجري مجراه من أهل البيت ع- لأنهم ثمرة تلك الشجرة- . و لا ينال أي لا ينال مساعيهم و مآثرهم- و لا يباريهم أحد- و قد روي في الحديث عن النبي ص- في فضل قريش و بني هاشم الكثير المستفيض- نحوقوله ع قدموا قريشا و لا تقدموهاوقوله الأئمة من قريشو
قوله إن الله اصطفى من العرب معدا- و اصطفى من معد بني النضر بن كنانة- و اصطفى هاشما من بني النضر- و اصطفاني من بني هاشم
وقوله إن جبرائيل ع قال لي- يا محمد قد طفت الأرض شرقا و غربا- فلم أجد فيها أكرم منك- و لا بيتا أكرم من بني هاشمو
قوله نقلنا من الأصلاب الطاهرة- إلى الأرحام الزكيةوقوله ع إن الله تعالى لم يمسسني بسفاح في أرومتي- منذ إسماعيل بن إبراهيم إلى عبد الله بن عبد المطلبوقوله ص سادة أهل محشر سادة أهل الدنيا- أنا و علي و حسن و حسين و حمزة و جعفروقوله و قد سمع رجلا ينشد-
يا أيها الرجل المحول رحله
هلا نزلت بآل عبد الدار
أ هكذا قال يا أبا بكر منكرا لما سمع- فقال أبو بكر لا يا رسول الله- إنه لم يقل هكذا و لكنه قال-
يا أيها الرجل المحول رحله
هلا نزلت بآل عبد مناف
عمرو العلا هشم الثريد لقومه
و رجال مكة مسنتون عجاف
فسر ص بذلكوقوله أذل الله من أذل قريشا قالها ثلاثاوكقولهأنا النبي لا كذب- أنا ابن عبد المطلبوكقوله الناس تبع لقريش برهم لبرهم و فاجرهم لفاجرهموكقوله أنا ابن الأكرمينوقوله لبني هاشم و الله لا يبغضكم أحد- إلا أكبه الله على منخريه في الناروقوله ما بال رجال يزعمون- أن قرابتي غير نافعة- بلى إنها لنافعة- و إنه لا يبغض أحد أهلي إلا حرمه الله الجنة- .
و الأخبار الواردة في فضائل قريش و بني هاشم- و شرفهم كثيرة جدا- و لا نرى الإطالة هاهنا باستقصائها- . و سطع الصبح يسطع سطوعا أي ارتفع- و السطيع الصبح- و الزند العود تقدح به النار و هو الأعلى- و الزندة السفلى فيها ثقب و هي الأنثى- فإذا اجتمعا قيل زندان- و لم يقل زندتان تغليبا للتذكير- و الجمع زناد و أزند و أزناد- . و القصد الاعتدال- و كلامه الفصل أي الفاصل- و الفارق بين الحق و الباطل- و هو مصدر بمعنى الفاعل- كقولك رجل عدل أي عادل- . و الهفوة الزلة هفا يهفو- و الغباوة الجهل و قلة الفطنة- يقال غبيت عن الشيء وغبيتالشيء
أيضا- أغبى غباوة إذا لم يفطن له- و غبي علي الشيء كذلك إذا لم تعرفه- و فلان غبي على فعيل أي قليل الفطنة: اعْمَلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْلَامٍ بَيِّنَةٍ- فَالطَّرِيقُ نَهْجٌ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ- وَ أَنْتُمْ فِي دَارِ مُسْتَعْتَبٍ عَلَى مَهَلٍ وَ فَرَاغٍ- وَ الصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ- وَ الْأَقْلَامُ جَارِيَةٌ- وَ الْأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ- وَ الْأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ- وَ التَّوْبَةُ مَسْمُوعَةٌ- وَ الْأَعْمَالُ مَقْبُولَةٌ الطريق يذكر و يؤنث- يقال هذا الطريق الأعظم و هذه الطريق العظمى- و الجمع أطرقة و طرق- . و أعلام بينة أي منار واضح و نهج أي واضح- و دار السلام الجنة- و يروى و الطريق نهج بالواو واو الحال- . و أنتم في دار مستعتب- أي في دار يمكنكم فيها استرضاء الخالق سبحانه- و استعتابه- .
ثم شرح ذلك فقال أنتم ممهلون متفرغون- و صحف أعمالكم لم تطو بعد- و أقلام الحفظة عليكم لم تجف بعد و أبدانكم صحيحة- و ألسنتكم ما اعتقلت- كما تعتقل ألسنة المحتضرين عند الموت- و توبتكم مسموعة- و أعمالكم مقبولة- لأنكم في دار التكليف لم تخرجوا منها
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 7