و من خطبة له عليه السّلام
القسم الأول
وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ- الْأَوَّلُ لَا شَيْءَ قَبْلَهُ وَ الْآخِرُلَا غَايَةَ لَهُ- لَا تَقَعُ الْأَوْهَامُ لَهُ عَلَى صِفَةٍ- وَ لَا تُعْقَدُ الْقُلُوبُ مِنْهُ عَلَى كَيْفِيَّةٍ- وَ لَا تَنَالُهُ التَّجْزِئَةُ وَ التَّبْعِيضُ- وَ لَا تُحِيطُ بِهِ الْأَبْصَارُ وَ الْقُلُوبُ
أقول: هذا الفصل يشتمل على إثبات ثماني صفات من صفات الجلال:
الاولى الوحدانيّة مؤكّدة بنفى الشركاء و ذلك قوله: لا شريك له. و قد أشرنا إلى معقد البرهان العقلىّ على الوحدانيّة، و لمّا لم تكن هذه المسألة ممّا يتوقّف إثبات النبوّة عليها جاز الاستدلال فيها بالسمع كقوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا«» و قوله وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
الثانية: إثبات كونه أوّلا غير مسبوق بالغير.
الثالثة: إثبات كونه آخرا غير منته وجوده إلى غاية يقف عندها.
و قد سبق البحث عنهما مستقصى و نفى قبليّة شيء له و الغاية عنه تأكيدان.
الرابعة: من السلوب أنّه لا تلحقه الأوهام فيقع منه على صفة.
و قد علمت فيما سبق أنّ الأوهام لا يصدق حكمها إلّا فيما كان محسوسا أو متعلّقا بمحسوس فأمّا الامور المجرّدة من علايق المادّة و الوضع فالوهم ينكر وجودها أصلا فضلا أن يصدّق في إثبات صفة لها و إنّما الحاكم بإثبات صفة له العقل الصرف، و قد علمت أنّ ما يثبته منها ليست حقيقة خارجيّة بل امورا اعتباريّة محدثها عقولنا عند مقايسته إلى الغير، و لا يفهم من هذا أنّه أثبت له صفة بل معناه أنّ الأوهام لا يصدق حكمها في وصفه تعالى.
الخامسة: كونه تعالى لا يعقل له كيفيّة يكون عليها
و بيان ذلك ببيان معنى الكيفيّة فنقول: إنّها عبارة عن هيئة قارّة في المحلّ لا يوجب اعتبار وجودها قسمة و لا نسبة، و لمّا بيّنا أنّه تعالى ليس له صفة تزيد على ذاته و هى محلّ لها استحال أن يعقد القلوب منه على كيفيّة.
السادسة: كونه تعالى لا تناله التجزية و التبعيض
و هو إشارة إلى نفى الكميّة عنه إذ كانت التجزية و التبعيض من لواحقها و قد علمت أنّ الكمّ من لواحق الجسم و البارى تعالى ليس بجسم و ليس بكمّ فليس بقابل للتبعيض و التجزية و لأنّ كلّ قابل لهما منفعل من غيره و المنفعل عن الغير ممكن على ما مرّ.
السابعة: كونه تعالى لا تحيط به الأبصار
و هو كقوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ و هذه المسألة ممّا اختلف فيها علماء الإسلام و قد سبق فيها الكلام. و خلاصته: أنّ المدرك بحاسّة البصر بالذّات إنّما هو الألوان و الأضواء و بالعرض المتلوّن و المضيء و لمّا كان اللون و الضوء من خواصّ الجسم و كان تعالى منزّها عن الجسميّة و لواحقها وجب كونه منزّها عن الإدراك بحاسّة البصر.
الثامنة: كونه تعالى لا يحيط به القلوب
و المراد أنّ العقول البشريّة قاصرة عن الإحاطة بكنه ذاته المقدّسة و قد سبق تقرير ذلك. و باللّه التوفيق.
القسم الثاني
و منها فَاتَّعِظُوا عِبَادَ اللَّهِ بِالْعِبَرِ النَّوَافِعِ- وَ اعْتَبِرُوا بِالْآيِ السَّوَاطِعِ- وَ ازْدَجِرُوا بِالنُّذُرِ الْبَوَالِغِ- وَ انْتَفِعُوا بِالذِّكْرِ وَ الْمَوَاعِظِ- فَكَأَنْ قَدْ عَلِقَتْكُمْ مَخَالِبُ الْمَنِيَّةِ- وَ انْقَطَعَتْ مِنْكُمْ عَلَائِقُ الْأُمْنِيَّةِ- وَ دَهِمَتْكُمْ مُفْظِعَاتُ الْأُمُورِ وَ السِّيَاقَةُ إِلَى الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ- فَ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ- سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى مَحْشَرِهَا وَ شَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا
اللغة
أقول: الآى: جمع آية.
و الساطع: المرتفع.
و النذر: جمع نذير.
و مفظعات الامور: شدايدها.
و الورد: المورد.
و في هذا الفصل فوائد:
الاولى: الأمر بالأتّعاظ بالعبر النوافع
و اسم العبرة حقيقة في الاعتبار، و قد يطلق مجازا فيما يعتبر به، و يحتمل أن يراد هاهنا إطلاقا لاسم الحال على المحلّ و للاتّعاظ سبب و حقيقة و ثمرة أمّا سببه فالنظر في آثار الماضين و تدبّر قصصهم و تصريف قضاء اللّه و قدرته لأحوالهم و هو الاعتبار، و أمّا حقيقته فالخوف الحاصل في نفس المعتبر من اعتباره و تأثّره عن أن يلحقه ما لحقهم إذ هو مثلهم و أولى بما لحقهم، و أمّا ثمرته فالانزجار عن مناهى اللّه و إجابة داعيه و الانقياد لسلوك سبيله.
الثانية: الأمر بالاعتبار بالآى السواطع
و هو إرداف للأمر بالاتّعاظ بالأمر بسببه و أراد بالآى آيات آثار اللّه و عجايب مصنوعاته أو آيات القرآن المعذرة و المنذرة، و استعار لها لفظ السطوع، و وجه المشابهة ظهور إشراق أنوار الحقّ منها على مرايا قلوب عباد اللّه كإشراق نور الصبح و سطوعه و هو استعارة لفظ المحسوس للمعقول و اعتباره بها انتقال ذهنه فيها في مقام النظر والاستدلال كما سلف بيانه.
الثالثة: الأمر بالازدجار بالنذر البوالغ
و هو أمر بفايدة الاتّعاظ و النذر هى زواجر اللّه و وعيداته البالغة حدّ الكمال في التخويف و الزجر عند اعتبارها.
الرابعة: الأمر بالانتفاع بالذكر و المواعظ
و هو أمر بتحصيل ثمرة الذكر و الموعظة عنهما، و ختم هذه الأمر بذكر الانتفاع ترغيبا و جذبا للنفوس إلى الذكر و قبول المواعظ.
الخامسة: التخويف و التذكير بالموت و ما يتبعه
ليبادروا إلى امتثال أوامره السابقة فقوله. فكأن قد علقتكم مخالب المنيّة. استعار لفظ المخالب للمنيّة استعارة بالكناية و رشّح بذكر العلوق ملاحظا في ذلك تشبيه المنيّة بالسبع الّذى يهجم و يتوقّع إفراسه و كأن مخفّفة من كأنّ و اسمها ضمير الشأن، و يحتمل أن يكون أن الناصبة للفعل دخلت عليها كاف التشبيه.
المعنى
و قوله: و انقطعت عنكم علايق الامنيّة.
إشارة إلى ما ينقطع عن الميّت بانقطاع أمله من مال و جاه و ساير ما كان يتعلّق به آماله من علايق الدنيا و متاعها.
و قوله: و دهمتكم مفظعات الامور.
إشارة إلى ما يهجم على الميّت من سكرات الموت و ما يتبعها من عذاب القبر و أهوال الآخرة.
و قوله: و السياقة إلى الورد المورود.
فالسياقة هى السوقة المتعبة الّتى سلف ذكرها، و الورد المورود هو المحشر.
و قوله: و كلّ نفس معها سائق و شهيد.
اقتباس للآية وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ فالسائق الّذى يسوقها إلى المحشر هو حكم القضاء الإلهى و أسباب الموت القريبة الحاكمة على النفس برجوعها إلى معادها فإن كانت من أهل الشقاوة فيا لها من سوقة متعبة و جزية مزعجة وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ الآيات، و إن كانت من أهل السعادة ساقها سايق رؤوف سوقا لطيفا وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ و أمّا الشاهد عليها [بعملها] فقد سبقت الإشارة إليه. و باللّه التوفيق.
القسم الثالث و منها فى صفة الجنة:
دَرَجَاتٌ مُتَفَاضِلَاتٌ وَ مَنَازِلُ مُتَفَاوِتَاتٌ- لَا يَنْقَطِعُ نَعِيمُهَا وَ لَا يَظْعَنُ مُقِيمُهَا- وَ لَا يَهْرَمُ خَالِدُهَا وَ لَا يَبْأَسُ سَاكِنُهَا
المعنى
أقول: اعلم أنّ ألذّ ثمار الجنّة هى المعارف الإلهيّة بالنظر إلى وجه اللّه ذى الجلال و الإكرام. و السعداء في الوصول إلى نيل هذه الثمرة على مراتب متفاوتة و درجات متفاضلة. فالاولى: مرتبة من اوتى الكمال في حدس القوّة النظريّة حتّى استغنى عن معلّم بشرىّ رأسا و اوتى مع ذلك ثبات قوّته المتفكّرة و استقامة وهمه منقادا تحت قلم العقل فلا يلتفت إلى العالم المحسوس بما فيه حتّى يشاهد العالم المعقول بما فيه من الأحوال و يستثبتها في اليقظة فيصير العالم و ما يجرى فيه متمثّلا في نفسه فيكون لقوّته النفسانيّة أن يؤثّر في عالم الطبيعة حتّى ينتهى إلى درجة النفوس السماويّة، و تلك هى النفوس القدسيّة اولات المعارج و هم وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ، و هم أفضل النوع البشرىّ و أحقّه بأعلى درجات السعادة في الجنّة.
المرتبة الثانية مرتبة من له الأمر ان الأوّلان دون الثالث أعنى التأثير في عالم الطبيعة، و هذه مرتبة أصحاب اليمين و تحتها مراتب.
فأحدها: مرتبة من له استعداد طبيعىّ لاستكمال قوّته النظريّة دون العمليّة الثانية: من اكتسب ذلك الاستكمال في قوّته النظريّة اكتسابا تكليفيّا دون تهيّؤ طبيعىّ و لا حصّة له في أمر القوّة العمليّة. الثالثة: مرتبة من ليس له تهيّؤ طبيعىّ و لا اكتساب تكليفى في قوّته النظريّة و له ذلك التهيّؤ في القوّة العمليّة. الرابعة: مرتبة من له تكلّف في إصلاح الأخلاق و اكتساب الملكات الفاضلة دون تهيّؤ طبيعىّ لذلك. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ للمقرّبين البالغين في الملكات الشريفة لذّات عظيمة في الجنّة قد فازوا بنعيم الأبد و السرور الدائم في حضرة جلال ربّ العالمين فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ غير مخرجين عن لذّاتهم لهم فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ و هم فيها خالدون كما قال عليه السّلام: لا يظعن مقيمها. جرد عن عوارض الأبدان و شوائب الموادّ مرد عن مزاحمة القوى المتغالبة المتجاذبة المؤّدية إلى الهرم و الموت مكحّلين بالأنوار الساطعة ينظرون إلى ربّهم بوجوههم المفارقة، وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ و لهم لذّات دون الوصول إلى مرتبة السابقين، و قد يخالط لذّات هؤلاء شوب من لذّات المقرّبين كما اشير إليه في التنزيل الإلهىّ في وصف شراب الأبرار «و مزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقرّبون و لكلّ من المراتب كمال يخصّه و درجات من السعادة في الجنّة تخصّه كما قال «لهم درجات عند اللّه» و قال «يرفع اللّه الّذين آمنوا منكم و الّذين اوتوا العلم درجات» و قال «لهم غرف مبنيّة من فوقها غرف تجرى من تحتها الأنهار». و إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى المتن فنقول: أمّا قوله: لا ينقطع نعيمها فلقوله تعالى وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ و قوله إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ و لأنّ الكمال الّذى حصل للإنسان فاستحقّ به سعادة في الجنّة ملكات ثابتة في جوهره لا تزول و لا تتغيرّ و مهما دام الاستحقاق القابل لجود اللّه و نعمته وجب دوام ذلك الجود و فيض تلك النعمة إذ هو الجواد المطلق الّذى لا بخل من جهته و لا منع.
و أمّا قوله: و لا يظعن مقيمها فلقوله تعالى لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ… خالِدِينَ فِيها أَبَداً و قوله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا و لأنّ النعيم الأبدىّ مطلوب بالذات غير ممنوع منه فلا يكون مهروبا عنه بالذات.
و أمّا قوله: و لا يهرم خالدها و لا ييأس ساكنها: أى لا يصيبه بؤس فلأنّ الهرم مستلزم للتعب و النصب و كذلك البؤس عن الضعف، و هذه اللوازم منفيّة عن أهل الجنّة لقوله تعالى وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ و بانتفاء هذه اللوازم ينتفي عنهم ملزومها و هو الهرم. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 274