و من كلام له عليه السّلام فى ذكر عمرو بن العاص
عَجَباً لِابْنِ النَّابِغَةِ يَزْعُمُ لِأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةً- وَ أَنِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ أُعَافِسُ وَ أُمَارِسُ- لَقَدْ قَالَ بَاطِلًا وَ نَطَقَ آثِماً- أَمَا وَ شَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ إِنَّهُ لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ وَ يَعِدُ فَيُخْلِفُ- وَ يَسْأَلُ فَيُلْحِفُ وَ يُسْأَلُ فَيَبْخَلُ وَ يَخُونُ الْعَهْدَ وَ يَقْطَعُ الْإِلَّ- فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَيُّ زَاجِرٍ وَ آمِرٍ هُوَ- مَا لَمْ تَأْخُذِ السُّيُوفُ مَآخِذَهَا- فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ مَكِيدَتِهِ أَنْ يَمْنَحَ الْقَرْمَ سَبَّتَهُ- أَمَا وَ اللَّهِ إِنِّي لَيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ- وَ إِنَّهُ لَيَمْنَعُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الْآخِرَةِ- إِنَّهُ لَمْ يُبَايِعْ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَهُ أَتِيَّةً- وَ يَرْضَخَ لَهُ عَلَى تَرْكِ الدِّينِ رَضِيخَةً
اللغة
نبغ الشيء: ظهر و سميّت امّ عمرو النابغة لشهرتها بالفجور و تظاهرها به.
و الدعابة: المزاح.
و التلعابة: كثيرا للعب و التاء للمبالغة.
و المعافسة: المداعبة.
و الممارسة: المعالجة بالمصارعة و القرص و نحوه.
و الإلّ: القرابة.
و سبّته: سوءته.
و الأتيّة: العطيّة و الوزن واحد و كذلك الرضيخة.
و اعلم أنّ في هذا الفصل ثلاثة فصول:
الأوّل ذكر دعوى عمرو في حقّه عليه السّلام
من كونه لعّابا مزّاحا يكثر المعالجة بالمصارعة و ذكر هذه الدعوى مصدّرة بالتعجّب من صدورها في حقّه مختومة بالكذب لمدّعيها و الردّ لمقاله و ذلك قوله: عجبا إلى قوله: و نطق آثما و باطلا وصف للمصدر، و آثما حال و إنّما كنّى عنه بامّه لأنّ من عادة العرب النسبة إلى الامّ إذا كانت مشهورة بشرف أو خسّة و نحوها.
و اعلم أنّه عليه السّلام قد كان يصدر عنه المزاح بالقدر المعتدل الّذى لا يخرج به إلى حدّ رذيلة الإفراط فيه فمن ذلك ما روى أنّه كان جالسا يوما على رباوة من الأرض و كان أبو هريرة جالسا معه و أخذ منه لفتة و حذفه بنواة فالتفت إليه أبو هريرة فتبسّم عليه السّلام
فقال أبو هريره: هذا الّذى أخّرك عن الناس، و قد علمت أنّ ذلك من توابع حسن الخلق و لين الجانب فهو إذن فضيلة و ليس برذيلة و المدّعى لعمرو إنّما هو عبوره في ذلك إلى حدّ الإفراط الّذى يصدق عليه أنّه لعب و هزل، و روى أنّه كان يقول لأهل الشام: إنّا إنّما أخّرنا عليّا لأنّ فيه هزلا لا جدّ معه و نحوه ما كان يقوله أبوه العاص لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم إنّه لساحر و من أشبه أباه فما ظلم و تكذيبه عليه السّلام لعمرو إنّما هو فيما ادّعاه من الخروج إلى اللعب و أمّا أصل المزاح فلم ينكره و كيف و قد كان يصدر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم كما صروي أنّه قال يوما لعجوز: إنّ العجايز لا يدخلن الجنّة فبكت فتبسّم و قال إنّ اللّه يجعلهنّ شوابّ ثمّ يدخلهنّ الجنّة و أهل الجنّة شباب جرد مرد و إنّ الحسن و الحسين عليهما السّلام سيّدى شباب أهل الجنّة. و كان يقول: أمزح و لا أقول إلّا حقّا.
الثاني: قوله: أمّا و شرّ القول إلى قوله سبّته
و يشتمل على ذكر ما اجتمع في هذا المدّعى من الرذائل الّتي توجب فسقه و سقوط دعواه لقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا«» الآية و ذكر من تلك الرذائل خمسا.
الاولى: الكذب و ظاهر كونه شرّ القول و أنّه مفسدة مطلقة في الدين و الدنيا أمّا الدين فللمنقول و المعقول أمّا المنقول فقول الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم الكذب رأس النفاق، و أمّا المعقول فلأنّ الوجدان شاهد بأنّ الكذب ممّا يسوّد لوح النفس و يمنعه أن ينتقش بصور الحقّ و الصدق و يفسد المنامات و الإلهامات، و أمّا الدنيا فلأنّه سبب عظيم لخراب البلاد و قتل النفوس و سفك الدماء و أنواع الظلم و لذلك اتّفق أهل العالم من أرباب الملل و غيرهم على تحريمه و ادّعى المعتزلة قبحه بالضرورة و هو رذيلة مقابلة للصدق داخلة تحت رذيلة الفجور.
الثانية: الخلف في الوعد.
الثالثة: الغدر في العهد و خيانته و هما رذيلتان مقابلتان للوفاء داخلتان تحت رذيلة الفجور أيضا و الغدر يستلزم رذيلة الخبث و هر طرف الإفراط من فضيلة الذكاء و هما يستلزمان الكذب أيضا.
الرابعة: قطع الرحم و هى رذيلة الإفراط من فضيلة صلة الرحم و حقيقتها عدم مشاركة ذوى اللحمة في الخيرات الدنيويّة و هى رذيله تحت الظلم مستلزمة للبخل.
الخامسة: رذيلة الجبن و هى طرف التفريط من فضيلة الشجاعة و نبّه عليها بقوله: فإذا كان عند الحرب فأيّ زاجر و آمر هو إلى قوله: سبّته، و فيه تنبيه على دناءة همّته و مهانة نفسه إذ كان علىّ الهمّة شهم النفس لا يفرّ من قراع الأقران إلى التخلّص من الموت بأقبح فعل يكون من كشف سوءته و بقاء ذلك سبّة في عقبه على مرور الدهور. و الدناء و المهانة رذيلتان تحت الجبن.
و قوله: فأيّ زاجر و آمر. هو استفهام على سبيل التعجّب و المبالغة في أمره و نهيه و ذكره في معرض الذمّ هنا و إن كان من الممادح لغرض أن يردفه برذيلته ليكون ذلك خارجا مخرج الاستهزاء فيكون أبلغ وقعا في النفوس و أشدّ عارا عليه إذ كان الأمر و النهى في الحرب إنّما يحسن ممّن يشتهر بالشجاعة و الإقدام لا ممّن يأمر و ينهى فإذا اشتدّ القتال فرّ فرار الحمار من السبع و اجتهد في البقاء و لو بأقبح مذمّة فإنّ عدم الأمر و النهى و الخمول بمثل هذا أليق و أولى من وجودها و كأنّ أبا الطيّب حكى صورة حاله إذ قال.
و إذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده و النزالا و أمّا صورة هذه الرذيلة منه فروى أنّ عليّا عليه السّلام حمل عليه في بعض أيّام صفّين فلمّا تصوّر أنّه قاتله ألقى نفسه عن فرسه و كشف سوءته مواجها له عليه السّلام فلمّا رأى ذلك منه غضّ بصره عنه و انصرف عمرو مكشوف العورة و نجا بذلك فصار مثلا لمن يدفع عن نفسه مكروها بارتكاب المذلّة و العار، و فيه يقول أبو فراس.
و لا خير في دفع الأذى بمذلّة كما ردّها يوما بسوءته عمروو روى مثل ذلك لبسر بن أرطاة معه فإنّه عليه السّلام حمل على بسر فسقط بسر على قفاه و رفع رجليه فانكشفت عورته فصرف عليه السّلام وجهه عنه فلمّا قام سقطت البيضة عن رأسه فصاح أصحابه يا أمير المؤمنين إنّه بسر بن أرطاه فقال: ذروه- لعنه اللّه- فلقد كان معاويه.
أولى بذلك منه. فضحك معاويه و قال: لا عليك يا بسر ارفع طرفك و لا تستحى فلك بعمرواسوة، و قد أراك اللّه منه و أراه منك. فصاح فتى من أهل الكوفة: ويلكم يا أهل الشام أما تستحيون لقد علّمكم عمرو كشف الأستار ثمّ أنشد:
أ في كلّ يوم فارس ذو كريهة له عورة وسط العجاجة بادية يكفّ لها عنه علىّ سنانه و يضحك منها في الخلاء معاوية
بدت أمس من عمرو فقنّع رأسه و عورة بسر مثلها حذو حاذبة
فقولا لعمرو و ابن أرطاة ابصرا نشدتكما لا تلقيا الليث تالية
و لا تحمدا إلّا الحيا و خصا كما هما كانتا و اللّه للنفس واقية
و لو لا هما لم تنجوا من سنانه تلك بما فيها عن العود ناهية و كان بسر ممّن يضحك من عمرو فصار ضحكه له
الثالث: بيان وجه فساد مدّعى عمرو في حقّه
و هو مستند المنع و ذكر وجهين:
أحدهما: يرجع إليه و هو أنّه عليه السّلام دائم الذكر للموت و التفكّر في أحوال المعاد و الوجدان شاهد بأنّ المستكثر من إخطار الموت عليه يكون أبدا قصير الأمل و جلا من اللّه مترصّدا لهجوم الموت عليه مشغولا بذلك عن الالتفات إلى حظّ الشهوات من اللعب و نحوه فكيف يتصوّر اللعب ممّن هذه حاله.
الثاني: يرجع إلى حال عمرو و هو أنّه ممّن نسى الآخرة، و ظاهر أنّ نسيانها مستلزم للكذب و ساير وجوه خداع أبناء الدنيا من المكر و الحيلة و ما لا ينبغي من مناهى اللّه، و من كانت هذه حاله كيف يوثق بقوله، ثمّ نبّه بقوله: و لم يبايع معاوية. إلى آخره على بعض لوازم نسيان الآخرة، و هو أخذه لبيعته و قتاله مع الإمام الحقّ الّذي يخرج به عن ربقة الدين عوضا و ثمنا. و تلك العطيّة هى مصر كما سبقت الإشارة اليه. و باللّه العصمة و التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه ى 274