و من كلام له عليه السّلام
كَمْ أُدَارِيكُمْ كَمَا تُدَارَى الْبِكَارُ الْعَمِدَةُ- وَ الثِّيَابُ الْمُتَدَاعِيَةُ- كُلَّمَا حِيصَتْ مِنْ جَانِبٍ تَهَتَّكَتْ مِنْ آخَرَ- كُلَّمَا أَطَلَّ عَلَيْكُمْ مَنْسِرٌ
مِنْ مَنَاسِرِ أَهْلِ الشَّامِ- أَغْلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بَابَهُ- وَ انْجَحَرَ انْجِحَارَ الضَّبَّةِ فِي جُحْرِهَا وَ الضَّبُعِ فِي وِجَارِهَا- الذَّلِيلُ وَ اللَّهِ
مَنْ نَصَرْتُمُوهُ- وَ مَنْ رُمِيَ بِكُمْ فَقَدْ رُمِيَ بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ- إِنَّكُمْ وَ اللَّهِ لَكَثِيرٌ فِي الْبَاحَاتِ قَلِيلٌ تَحْتَ الرَّايَاتِ- وَ إِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا
يُصْلِحُكُمْ وَ يُقِيمُ أَوَدَكُمْ- وَ لَكِنِّي لَا أَرَى إِصْلَاحَكُمْ بِإِفْسَادِ نَفْسِي- أَضْرَعَ اللَّهُ خُدُودَكُمْ وَ أَتْعَسَ جُدُودَكُمْ- لَا تَعْرِفُونَ الْحَقَّ
كَمَعْرِفَتِكُمُ الْبَاطِلَ- وَ لَا تُبْطِلُونَ الْبَاطِلَ كَإِبْطَالِكُمُ الْحَقَّ
اللغة
أقول البكار: جمع بكر و هو الفتى من الإبل.
و العمده: هى الّتى شدخ أسنمتها ثقل الحمل.
و الحوص: الخياطة.
و تهتّكت: تخرّقت.
و أطلّ: أشرق. و المنسر بكسر الميم و فتح السين،
و العكس: القطعة من الجيش من الماءة إلى المائتين. و قد سبق.
و انجحر الضبّ: دخل جحره و هو في بيته.
و بيت الضبع: وجاره.
و الأفوق الناصل: السهم لا فوق له و لا نصل.
و الباحة: ساحة الدار.
و الأود. الاعوجاج.
و أضرع: أذلّ.
و أتعس: أهلك.
المعنى
و هذا الفصل يشتمل على توبيخ أصحابه لتقاعدهم عن النهوض معه إلى حرب أهل الشام، و ذكر وجوه التوبيخ:
الأوّل: حاجتهم إلى المداراة الكثيرة. و ليس ذلك من شيم الرجال ذوى العقول بل من شأن البهايم و من لا عقل له، و نبّههم في حاجتهم إلى المدارة بتشبيهين. أحدهما: بالبكارة الّتى قد انهكها حملها. و وجه الشبه بينهما و بينهم هو قلّة صبرهم و شدّة إشفاقهم و فرارهم من التكليف بالجهاد و استغاثتهم كما يشتدّ جرجرة البكر العمد، و فراره من معاودة الحمل.
الثاني: بالثياب المتداعية، و هى الّتى يتبع ما لم يتخرّق منها ما انخرق في مثل حاله. و وجه الشبه ما ذكره، و هو قوله: كلّما حيصت من جانب تهتّكت من آخر: أى كما أنّ الثياب المتداعية كذلك. فكذلك أصحابه كلّها أصلح حال بعضهم و جمعهم للحرب فسد بعض آخر عليه. الثاني: شهادة حالهم عليهم بالجبن و الخوف و هو قوله: كلّما أطلّ. إلى قوله: و جارها، و كنّى بإغلاق كلّ منهم بابه عند سماعهم بقرب بعض جيوش الشام منهم عن فرارهم من القتال و كراهية سماعهم للحرب، و شبّههم في ذلك الخوف و الفرار بالضبّة و الضبع حين ترى الصائد أو أمرا تخافه. و إنّما خصّ الإناث لأنّها أولى بالمخافة من الذكران.
الثالث: وصفهم بالذلّة و قلّة الانتفاع بهم. فنبّه على وصف الذلّ بقوله: الذليل و اللّه من نصرتموه. فإنّه إنّما يكون ذليلا لكونهم كذلك، و يحتمل أن يشير بذلك إلى سوء آرائهم في التفرّق و الاختلاف، ثمّ بالغ في ذلك بحصر الذلّ لكلّ منتصر بهم فيمن نصروه، و نبّه على قلّة الانتفاع بهم بقوله: و من رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل. استعار لهم من أوصاف السهم أرداها، و كنّى بذلك عن عدم فايدتهم و نكايتهم في العدوّ كما لا فايدة في الرمى بالسهم الموصوف.
الرابع: وصفهم بالكثرة في المجامع و الأندية مع قلّتهم في الحرب و تحت الألوية. و ذلك يعود إلى الذمّ بالجبن أيضا و العار به فإن قلّة الاجتماع في الحرب و التفرّق عنه من لوازم الخوف، و كما أنّ مقابل هذا الوصف و هو الاجتماع و الكثرة في الحرب مع القلّة في غيره مدح كما قال أبو الطيّب.
ثقال إذا لائوا خفاف إذا دعوا قليل إذا عدّوا كثير إذا شدّوا
فبالحرىّ أن كان هذا الوصف ذمّا كما قال عويف القوافي.
أ لستم أقلّ الناس عند لوائهم و أكثرهم عند الذبيحة و القدر
و قوله: و إنّى لعالم إلى قوله: أودكم. أراد أنّه لا يصلحهم إلّا السياسة بالقتل و نحوه كما فعل الحجّاج حين أرسل المهلبّ إلى الخوارج. روى أنّه نادى في الكوفة من تخلّف عن المهلبّ بعد ثلاث فقد أحلّ دمه، و قتل جماعة فخرج الناس إلى المهلّب يهرعون، و كما يفعله كثير من الملوك.
و قوله: و لكنّى لا أري إصلاحكم بإفساد نفسى: أى لمّا لم يكن ليستحلّ من دماء أصحابه ما يستحلّ ملوك الدنيا من رعيّتهم إذا أراد و إثبات ملكهم و لو بفساد دينهم لا جرم لم ير إصلاحهم بالقتل إذ كان إصلاحهم بذلك سببا لفساد نفسه بلزوم آثامهم لها. و لمّا كان من الواجب في الحكمة أن يكون إصلاح الإنسان للغير فرعا على إصلاح نفسه أوّلا لم يتصوّر من مثله عليه السّلام أن يفعل فعلا يستلزم فساد نفسه و إن اشتمل على وجه من المصلحة.
فإن قلت: الجهاد بين يدي الإمام العادل واجب و له أن يحملهم عليه. فلم لا يستجيز قتلهم.
قلت: الجواب من وجهين: أحدهما: أنّه ليس كلّ واجب يجب في تركه القتل كالحجّ. الثاني: لعلّه عليه السّلام لو شرع في عقوبتهم بالقتل على ترك الجهاد معه لتفرّقوا عنه إلى خصمه أو سلّموه إليه و اتّفقوا على قتله. و كلّ هذه مفاسد أعظم من تقاعدهم عن دعوته لهم في بعض الأوقات. و قوله: أضرع اللّه. إلى آخره. دعا عليهم بالذلّ و هلاك الحظّ، ثمّ نبّهم على علّة استحقاقهم لدعائه و هى الجهل، ثمّ ما ينشأ عنه من ظلم أنفسهم. أمّا الجهل فعدم معرفتهم للحقّ كمعرفتهم الباطل، و أراد به ما يلزمهم من أوامر اللّه، و أراد بمعرفتهم الباطل معرفتهم بأحوال الدنيا و باطلها و الاشتغال به عن أوامر اللّه، و يحتمل أن يشير به إلى ما يعرض لبعضهم من الشبه الباطلة في قتال أهل القبلة فيوجب لهم التوقّف و التخاذل عن الحرب، و يكون مكاثرته بين معرفتهم للباطل و الحقّ تنبيها على قوّة جهلهم المركّب و هو أشدّ الجهل، و غايته توبيخهم بكونهم على قسمى الجهل. فالبسيط هو عدم معرفتهم للحقّ، و المركّب هو تصديقهم بالباطل. و أمّا الظلم فهو إبطالهم للحقّ و ذلك إشارة إلى تعاميهم عن طاعة اللّه و تصاممهم عن سماع مناديه و إجابته، و عدم إبطالهم للباطل إشارة إلى عدم إنكارهم للمنكر من أنفسهم و غيرهم. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 189