65 و من كلام له ع كان يقوله لأصحابه في بعض أيام صفين
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَشْعِرُوا الْخَشْيَةَ- وَ تَجَلْبَبُوا السَّكِينَةَ وَ عَضُّوا عَلَى النَّوَاجِذِ- فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ وَ أَكْمِلُوا اللَّامَةَ- وَ قَلْقِلُوا السُّيُوفَ فِي أَغْمَادِهَا قَبْلَ سَلِّهَا- وَ الْحَظُوا الْخَزْرَ وَ اطْعُنُوا الشَّزْرَ- وَ نَافِحُوا بِالظُّبَى وَ صِلُوا السُّيُوفَ بِالْخُطَا- وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللَّهِ وَ مَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ- فَعَاوِدُوا الْكَرَّ وَ اسْتَحْيُوا مِنَ الْفَرِّ- فَإِنَّهُ عَارٌ فِي الْأَعْقَابِ وَ نَارٌ يَوْمَ الْحِسَابِ- وَ طِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ نَفْساً- وَ امْشُوا إِلَى الْمَوْتِ مَشْياً سُجُحاً- وَ عَلَيْكُمْ بِهَذَا السَّوَادِ الْأَعْظَمِ وَ الرِّوَاقِ الْمُطَنَّبِ- فَاضْرِبُوا ثَبَجَهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كَامِنٌ فِي كِسْرِهِ- وَ قَدْ قَدَّمَ لِلْوَثْبَةِ يَداً وَ أَخَّرَ لِلنُّكُوصِ رَجُلًا- فَصَمْداً صَمْداً حَتَّى يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ الْحَقِّ- وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ قوله استشعروا الخشية- أي اجعلوا الخوف من الله تعالى من شعاركم- و الشعار من الثياب ما يكون دون الدثار- و هو يلي الجلد و هو ألصق ثياب الجسد- و هذه استعارة حسنة- و المراد بذلك أمرهم بملازمة الخشية و التقوى- كما أن الجلد يلازم الشعار- .
قوله و تجلببوا السكينة- أي اجعلوا السكينة و الحلم و الوقار جلبابا لكم- و الجلباب الثوب المشتمل على البدن- . قوله و عضوا على النواجذ جمع ناجذ- و هو أقصى الأضراس- و للإنسان أربعة نواجذ في كل شق- و النواجذ بعد الأرحاء- و يسمى الناجذ ضرس الحلم- لأنه ينبت بعد البلوغ و كمال العقل- و يقال إن العاض على نواجذه- ينبو السيف عن هامته نبوا ما- و هذا مما يساعد التعليل الطبيعي عليه- و ذلك أنه إذا عض على نواجذه- تصلبت الأعصاب و العضلات المتصلة بدماغه- و زال عنها الاسترخاء- فكانت على مقاومة السيف أقدر- و كان تأثير السيف فيها أقل- . و قوله فإنه أنبى- الضمير راجع إلى المصدر الذي دل الفعل عليه- تقديره فإن العض أنبى- كقولهم من فعل خيرا كان له خيرا أي كان فعله خيرا- و أنبى أفعل من نبا السيف إذا لم يقطع- . قال الراوندي هذا كلام ليس على حقيقته- بل هو كناية عن الأمر بتسكين القلب- و ترك اضطرابه و استيلاء الرعدة عليه- إلى أن قال ذلك أشد إبعادا لسيف العدو عن هامتكم- . قوله و أكملوا اللأمة- اللأمة بالهمزة الدرع- و الهمزة ساكنة على فعلة- مثل النأمة للصوت- و إكمالها أن يزاد عليها البيضة و السواعد و نحوها- و يجوز أن يعبر باللأمة عن جميع أداة الحرب- كالدرع و الرمح و السيف- يريد أكملوا السلاح الذي تحاربون العدو به- . قوله و قلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلها- يوم الحرب- لئلا يدوم مكثها في الأجفان- فتلحج فيها فيستصعب سلها وقت الحاجة إليها- . و قوله و الحظوا الخزر- الخزر أن ينظر الإنسان بعينه- و كأنه ينظر بمؤخرها و هي أمارة الغضب- و الذي أعرفه الخزر بالتحريك- قال الشاعر
إذا تخازرت و ما بي من خزر
ثم كسرت العين و ما بي من عور
ألفيتني ألوى بعيد المستمر
أحمل ما حملت من خير و شر
فإن كان قد جاء مسكنا- فتسكينه جائز للسجعة الثانية- و هي قوله و اطعنوا الشزر- و الطعن شزرا هو الطعن عن اليمين و الشمال- و لا يسمى الطعن تجاه الإنسان شزرا- و أكثر ما تستعمل لفظة الشزر في الطعن- لما كان عن اليمين خاصة- و كذلك إدارة الرحى- و خزرا و شزرا صفتان لمصدرين محذوفين- تقديره الحظوا لحظا خزرا- و اطعنوا طعنا شزرا- و عين اطعنوا مضمومة- يقال طعنت بالرمح اطعن بالضم- و طعنت في نسبه أطعن بالفتح أي قدحت- قال
يطوف بي عكب في معد
و يطعن بالصملة في قفيا
قوله نافحوا بالظبى- أي ضاربوا نفحة بالسيف أي ضربة- و نفحت الناقة برجلها أي ضربت- و الظبى جمع ظبة و هي طرف السيف- . قوله و صلوا السيوف بالخطا مثل قول الشاعر-
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها
خطانا إلى أعدائنا فنضارب
قالوا بكسر نضارب- لأنه معطوف على موضع جزاء الشرط الذي هو إذا- . و قال آخر
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا
يوما و نلحقها إذا لم تلحق
و أنشدني شيخنا أبو القاسم الحسين بن عبد الله العكبري- و لم يسم قائله- و وجدته بعد لنابغة بني الحارث بن كعب-
إن تسألي عنا سمي فإنه
يسمو إلى قحم العلا أدنانا
و تبيت جارتنا حصانا عفة
ترضى و يأخذ حقه مولانا
و نقوم إن رق المنون بسحرة
لوصاة والدنا الذي أوصانا
ألا نفر إذا الكتيبة أقبلت
حتى تدور رحاهم و رحانا
و تعيش في أحلامنا أشياخنا
مردا و ما وصل الوجوه لحانا
و إذا السيوف قصرن طولها لنا
حتى تناول ما نريد خطانا
و قال حميد بن ثور الهلالي-
إلى أن نزلنا بالفضاء و ما لنا
به معقل إلا الرماح الشواجر
و وصل الخطا بالسيف و السيف بالخطا
إذا ظن أن المرء ذا السيف قاصر
و هذه الأبيات من قطعة لحميد جيدة- و من جملتها
قضى الله في بعض المكاره للفتى
برشد و في بعض الهوى ما يحاذر
أ لم تعلمي أني إذا الإلف قادني
إلى الجور لا انقاد و الإلف جائر
و قد كنت في بعض الصباوة أتقي
أمورا و أخشى أن تدور الدوائر
و أعلم أني أن تغطيت مرة
من الدهر مكشوف غطائي فناظر
و من المعنى الذي نحن في ذكره- ما روي أن رجلا من الأزد رفع إلى المهلب سيفا له- فقال يا عم كيف ترى سيفي هذا- فقال إنه لجيد لو لا أنه قصير- قال أطوله يا عم بخطوتي- فقال و الله يا ابن أخي- أن المشي إلى الصين أو إلى آذربيجان- على أنياب الأفاعي أسهل من تلك الخطوة- و لم يقل المهلب ذلك جبنا- بل قال ما توجبه الصورة- إذ كانت تلك الخطوة قريبة للموت- قال أبو سعد المخزومي في هذا المعنى-
رب نار رفعتها و دجى الليل
على الأرض مسبل الطيلسان
و أمون نحرتها لضيوف
و ألوف نقدتهن لجاني
و حروب شهدتها جامع القلب
فلم تنكر الكمأة مكاني
و إذا ما الحسام كان قصيرا
طولته إلى العدو بناني
من الناس من يرويها في ديوانه لجاني بالجيم- أي حملت الحمالة عنه- و منهم من يرويها بالحاء يعني الخمار- . و من المعنى المذكور أولا قول بعض الشعراء- يمدح صخر بن عمرو بن الشريد الأسلمي-
إن ابن عمرو بن الشريد
له فخار لا يرام
و حجا إذا عدم الحجا
و ندى إذا بخل الغمام
يصل الحسام بخطوة
في الروع إن قصر الحسام
و مثله قول الراجز
يخطو إذا ما قصر العضب الذكر
خطوا ترى منه المنايا تبتدر
و مثله
و إنا لقوم ما نرى القتل سبة
إذا ما رأته عامر و سلول
يقصر ذكر الموت آجالنا لنا
و تكرهه آجالهم فتطول
و منها
و إن قصرت أسيافنا كان وصلها
خطانا إلى أعدائنا فتطول
و مثله قول وداك بن ثميل المازني-
مقاديم وصالون في الروع خطوهم
بكل رقيق الشفرتين يماني
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم
لأية حرب أم بأي مكان
و قال آخر
إذا الكمأة تنحوا أن يصيبهم
حد السيوف وصلناها بأيدينا
و قال آخر
وصلنا الرقاق المرهفات بخطونا
على الهول حتى أمكنتنا المضارب
و قال بعض الرجاز
الطاعنون في النحور و الكلى
و الواصلون للسيوف بالخطا
قوله ع و اعلموا أنكم بعين الله- أي يراكم و يعلم أعمالكم- و الباء هاهنا كالباء في قوله- أنت بمرأى مني و مسمع- . قوله فعاودوا الكر- أي إذا كررتم على العدو كره فلا تقتصروا عليها- بل كروا كرة أخرى بعدها- ثم قال لهم- و استحيوا من الفرار فإنه عار في الأعقاب- أي في الأولاد- فإن الأبناء يعيرون بفرار الآباء- و يجوز أن يريد بالأعقاب جمع عقب- و هو العاقبة و ما يئول إليه الأمر- قال سبحانه خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً- أي خير عاقبة- فيعنى على هذا الوجه أن الفرار عار في عاقبة أمركم- و ما يتحدث به الناس في مستقبل الزمان عنكم- .
ثم قال و نار يوم الحساب- لأن الفرار من الزحف ذنب عظيم- و هو عندأصحابنا المعتزلة من الكبائر- قال الله تعالى وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ- إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ- فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ- و الجهاد بين يدي الإمام كالجهاد بين يدي الرسول ع- . قوله ع و طيبوا عن أنفسكم نفسا- لما نصب نفسا على التمييز وحده- لأن التمييز لا يكون إلا واحدا- و إن كان في معنى الجمع- تقول انعموا بالا- و لا تضيقوا ذرعا- و أبقى الأنفس على جمعها- لما لم يكن به حاجة إلى توحيدها- يقول وطنوا أنفسكم على الموت و لا تكرهوه- و هونوه عليكم- تقول طبت عن مالي نفسا إذا هونت ذهابه- . و قوله و امشوا إلى الموت مشيا سجحا أي سهلا- و السجاحة السهولة- يقال في أخلاق فلان سجاحة- و من رواه سمحا أراد سهلا أيضا- . و السواد الأعظم يعني به جمهور أهل الشام- .
قوله و الرواق المطنب- يريد به مضرب معاوية ذا الأطناب- و كان معاوية في مضرب عليه قبة عالية- و حوله صناديد أهل الشام- و ثبجه وسطه- و ثبج الإنسان ما بين كاهله إلى ظهره- . و الكسر جانب الخباء- و قوله فإن الشيطان كامن في كسره- يحتمل وجهين- أحدهما أن يعنى به الشيطان الحقيقي- و هو إبليس- و الثاني أن يعنى به معاوية- و الثاني هو الأظهر للقرينة التي تؤيده- و هي قوله قد قدم للوثبة يدا- و أخر للنكوص رجلا- أي إن جبنتم وثب- و إن شجعتم نكص أي تأخر و فر- و من حمله على الوجه الأول جعله من باب المجاز- أي إن إبليس كالإنسان- الذي يعتوره دواع مختلفة بحسب المتجددات- فإن أنتم صدقتم عدوكم القتال فر عنكم بفرار عدوكم- و إن تخاذلتم و تواكلتم طمع فيكم بطمعه- و أقدم عليكم بإقدامه- .
و قوله ع فصمدا صمدا- أي اصمدوا صمدا صمدا- صمدت لفلان أي قصدت له- . و قوله حتى ينجلي لكم عمود الحق- أي يسطع نوره و ضوءه- و هذا من باب الاستعارة- و الواو في قوله و أنتم الأعلون واو الحال- . و لن يتركم أعمالكم أي لن ينقصكم- و هاهنا مضاف محذوف تقديره جزاء أعمالكم- و هو من كلام الله تعالى رصع به خطبته ع- . و هذا الكلام خطب به أمير المؤمنين ع- في اليوم الذي كانت عشيته ليلة الهرير- في كثير من الروايات- . و في رواية نصر بن مزاحم- أنه خطب به في أول أيام اللقاء و الحرب بصفين- و ذلك في صفر من سنة سبع و ثلاثين.
من أخبار يوم صفين
قال نصر كان علي ع يركب بغلة له يستلذها- قبل أن يلتقي الفئتان بصفين- فلما حضرت الحرب و بات تلك الليلة- يعبئ الكتائب حتى أصبح- قال ائتوني بفرس- فأتي بفرس له ذنوب أدهم- يقاد بشطنين يبحث الأرض بيديه جميعا- له حمحمةو صهيل- فركبه و قال- سبحان الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين- لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيمقال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر الجعفي قال كان علي ع إذا سار إلى قتال- ذكر اسم الله قبل أن يركب- كان يقول الحمد لله على نعمه علينا و فضله- سبحان الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين- و إنا إلى ربنا لمنقلبون- ثم يستقبل القبلة- و يرفع يديه إلى السماء و يقول- اللهم إليك نقلت الأقدام- و أتعبت الأبدان و أفضت القلوب- و رفعت الأيدي و شخصت الأبصار- رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ- وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ- ثم يقول سيروا على بركة الله- ثم يقول الله أكبر الله أكبر- لا إله إلا الله الله أكبر- يا الله يا أحد يا صمد- يا رب محمد اكفف عنا بأس الظالمين- الحمد لله رب العالمين- الرحمن الرحيم مالك يوم الدين- إياك نعبد و إياك نستعين- بسم الله الرحمن الرحيم- و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم- قال و كانت هذه الكلمات شعاره بصفين
قال و روى سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال ما كان علي ع في قتال إلا نادى يا كهيعصقال نصر و حدثنا قيس بن الربيع عن عبد الواحد بن حسان العجلي عمن حدثه أنه سمع عليا ع يقول- يوم لقائه أهل الشام بصفين- اللهم إليك رفعت الأبصار- و بسطت الأيدي و نقلت الأقدام- و دعت الألسن و أفضت القلوب- و تحوكم إليك في الأعمال- فاحكم بيننا و بينهم بالحق و أنت خير الفاتحين- اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا- و قلة عددنا و كثرة عدونا- و تشتت أهوائنا و شدة الزمان و ظهور الفتن- فأعنا على ذلك بفتح منك تعجله- و نصر تعز به سلطان الحق و تظهره
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن سلام بن سويد عن علي ع في قوله وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى- قال هي لا إله إلا الله- و في قوله الله أكبر قال هي آية النصرقال سلام- كانت شعاره ع يقولها في الحرب- ثم يحمل فيورد و الله من اتبعه- و من حاده حياض الموت- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه- قال لما كان غداة الخميس لسبع خلون من صفر- من سنة سبع و ثلاثين- صلى علي ع الغداة فغلس- ما رأيت عليا غلس بالغداة أشد من تغليسه يومئذ- و خرج بالناس إلى أهل الشام فزحف نحوهم- و كان هو يبدؤهم فيسير إليهم- فإذا رأوه قد زحف استقبلوه بزحوفهم- .
قال نصر فحدثني عمر بن سعد عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب قال لما خرج علي ع إليهم غداة ذلك اليوم فاستقبلوه- رفع يديه إلى السماء و قال- اللهم رب هذا السقف المحفوظ المكفوف- الذي جعلته محيطا بالليل و النهار- و جعلت فيه مجرى الشمس و القمر- و منازل الكواكب و النجوم- و جعلت سكانه سبطا من الملائكة لا يسأمون العبادة- و رب هذه الأرض- التي جعلتها قرارا للأنام و الهوام و الأنعام- و ما لا يحصى مما يرى و مما لا يرى من خلقك العظيم- و رب الفلك التي تجري في البحر المحيط- بما ينفع الناس- و رب السحاب المسخر بين السماء و الأرض- و رب البحرالمسجور المحيط بالعالمين- و رب الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتادا- و للخلق متاعا إن أظهرتنا على عدونا- فجنبنا البغي و سددنا للحق- و إن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة- و اعصم بقية أصحابي من الفتنة- .
قال فلما رأوه قد أقبل تقدموا إليه بزحوفهم- و كان على ميمنته يومئذ عبد الله بن بديل- بن ورقاء الخزاعي- و على ميسرته عبد الله بن العباس بن عبد المطلب- و قراء العراق مع ثلاثة نفر- عمار بن ياسر و قيس بن سعد بن عبادة و عبد الله بن بديل- و الناس على راياتهم و مراكزهم- و علي ع في القلب في أهل المدينة جمهورهم الأنصار- و معه من خزاعة و من كنانة عدد حسن- .
قال نصر و كان علي ع رجلا ربعة أدعج العينين- كان وجهه القمر ليلة البدر حسنا- ضخم البطن عريض المسربة- شثن الكفين ضخم الكسور- كأن عنقه إبريق فضة أصلع من خلفه شعر خفيف- لمنكبه مشاش كمشاش الأسد الضاري- إذا مشى تكفأ و مار به جسده- و لظهره سنام كسنام الثور لا يبين عضده من ساعده- قد أدمجت إدماجا- لم يمسك بذراع رجل قط إلا أمسك بنفسه- فلم يستطع أن يتنفس- و لونه إلى سمرة ما و هو أذلف الأنف- إذا مشى إلى الحرب هرول- قد أيده الله تعالى في حروبه بالنصر و الظفر- .
قال نصر و رفع معاوية قبة عظيمة- و ألقى عليها الكرابيس و جلس تحتها- . قال نصر و قد كان لهم قبل هذا اليوم أيام ثلاثة- و هي الرابع من صفر هذا- و اليوم الخامس و اليوم السادس- كانت فيها مناوشات و قتال ليس بذلك الكثير- فأما اليوم الرابع- فأن محمد بن الحنفية ع- خرج في جمع من أهل العراق- فأخرج إليه معاوية عبيد الله بن عمر بن الخطاب- في جمع من أهل الشام- فاقتتلوا- ثم إن عبيد الله بن عمر أرسل إلى محمد بن الحنفية- أن اخرج إلي أبارزك فقال نعم- ثم خرج إليه فبصر بهما علي ع- فقال من هذان المتبارزان- قيل محمد بن الحنفية و عبيد الله بن عمر- فحرك دابته ثم دعا محمدا إليه- فجاءه فقال أمسك دابتي فأمسكها- فمشى راجلا بيده سيفه نحو عبيد الله- و قال له أنا أبارزك فهلم إلي- فقال عبيد الله لا حاجة بي إلى مبارزتك- قال بلى فهلم إلي قال لا أبارزك- ثم رجع إلى صفه فرجع علي ع- فقال ابن الحنفية يا أبت لم منعتني من مبارزته- فو الله لو تركتني لرجوت أن أقتله- قال يا بني لو بارزته أنا لقتلته- و لو بارزته أنت لرجوت لك أن تقتله- و ما كنت آمن أن يقتلك- فقال يا أبت أ تبرز بنفسك- إلى هذا الفاسق اللئيم عدو الله- و الله لو أبوه يسألك المبارزة لرغبت بك عنه- فقال يا بني لا تذكر أباه- و لا تقل فيه إلا خيرا رحم الله أباه- .
قال نصر و أما اليوم الخامس- فإنه خرج فيه عبد الله بن العباس- فخرج إليه الوليد بن عقبة- فأكثر من سب بني عبد المطلب- و قال يا ابن عباس قطعتم أرحامكم و قتلتم إمامكم- فكيف رأيتم صنع الله بكم- لم تعطوا ما طلبتم و لم تدركوا ما أملتم- و الله إن شاء مهلككم و ناصرنا عليكم- فأرسل إليه عبد الله بن العباس- أن ابرز إلي فأبى أن يفعل- و قاتل ابن عباس ذلك اليوم قتالا شديدا- ثم انصرفوا و كل غير غالب- .
قال نصر و خرج في ذلك اليوم- شمر بن أبرهة بن الصباح الحميري- فلحق بعلي ع في ناس من قراء أهل الشام- ففت ذلك في عضد معاوية و عمرو بن العاص- و قال عمرو يا معاوية- إنك تريد أن تقاتل بأهل الشام رجلا- له من محمد ص قرابة قريبة- و رحم ماسة و قدم في الإسلام لا يعتد أحد بمثله- و حده في الحرب لم تكن لأحد من أصحاب محمد ص- و إنه قد سار إليك بأصحاب محمد المعدودين- و فرسانهم و قرائهم و أشرافهم- و قدمائهم في الإسلام- و لهم في النفوس مهابة- فبادر بأهل الشام مخاشن الأوعار و مضايق العياض- و احملهم على الجهد- و ائتهم من باب الطمع قبل أن ترفههم- فيحدث عندهم طول المقام مللا- فتظهر فيهم كآبة الخذلان- و مهما نسيت فلا تنس أنك على باطل- و أن عليا على حق- فبادر الأمر قبل اضطرابه عليك- فقام معاوية في أهل الشام خطيبا- فقال أيها الناس أعيرونا جماجمكم و أنفسكم- لا تقتتلوا و لا تتجادلوا- فإن اليوم يوم خطار و يوم حقيقة و حفاظ- إنكم لعلى حق و بأيديكم حجة- إنما تقاتلون من نكث البيعة و سفك الدم الحرام- فليس له في السماء عاذر- . قدموا أصحاب السلاح المستلئمة- و أخروا الحاسر و احملوا بأجمعكم- فقد بلغ الحق مقطعه و إنما هو ظالم و مظلوم- .
قال نصر و خطب علي ع أصحابه فيما حدثنا به عمر بن سعد عن أبي يحيى عن محمد بن طلحة عن أبي سنان عن أبيه قال كأني أنظر إليه متوكئا على قوسه- و قد جمع أصحاب رسول الله ص عنده- فهم يلونه كأنه أحب أن يعلم الناس- أن الصحابة متوافرون معه- فحمد الله و أثنى عليه و قال- أما بعد فإن الخيلاء من التجبر- و إن النخوة من التكبر- و إن الشيطان عدو حاضر يعدكم الباطل- ألا إن المسلم أخو المسلم فلا تنابذوا و لا تخاذلوا- ألا إن شرائع الدين واحدة و سبله قاصده- من أخذ بها لحق و من فارقها محق و من تركها مرق- ليس المسلم بالخائن إذا اؤتمن- و لا بالمخلف إذا وعد و لا بالكذاب إذا نطق- نحن أهل بيت الرحمة و قولنا الصدق- و فعلنا القصد و منا خاتم النبيين- و فينا قادة الإسلام و فينا حملة الكتاب- ألا إنا ندعوكم إلى الله و إلى رسوله- و إلى جهاد عدوه و الشدة في أمره- و ابتغاء مرضاته و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة- و حج البيت و صيام شهر رمضان- و توفير الفيء على أهله- ألا و إن من أعجب العجائب- أن معاوية بن أبي سفيان الأموي- و عمرو بن العاص السهمي- أصبحا يحرضان الناس على طلب الدين بزعمهما- و لقد علمتم أني لم أخالف رسول الله ص قط- و لم أعصه في أمر- أقيه بنفسي في المواطن التي ينكص فيها الأبطال- و ترعد فيها الفرائص- بنجدة أكرمني الله سبحانه بها و له الحمد- و لقد قبض رسول الله ص و إن رأسه لفي حجري- و لقد وليت غسله بيدي وحدي- تقلبه الملائكة المقربون معي- و ايم الله ما اختلفت أمة قط بعد نبيها- إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها إلا ما شاء الله قال أبو سنان الأسلمي فأشهد لقد سمعت عمار بن ياسر يقول للناس أما أمير المؤمنين فقد أعلمكم- أن الأمة لم تستقم عليه أولا- و أنها لن تستقيم عليه آخرا- .
قال ثم تفرق الناس- و قد نفذت أبصارهم في قتال عدوهم- فتأهبوا و استعدوا-قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب أن عليا ع قال في هذه الليلة- حتى متى لا نناهض القوم بأجمعنا- ثم قام في الناس فقال- الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض و لا ينقض ما أبرم- و لو شاء ما اختلف اثنان من هذه الأمة و لا من خلقه- و لا تنازع البشر في شيء من أمره- و لا جحد المفضول ذا الفضل فضله- و قد ساقتنا و هؤلاء القوم الأقدار- حتى لفت بيننا في هذا الموضع- و نحن من ربنا بمرأى و مسمع- و لو شاء لعجل النقمة و لكان منه النصر- حتى يكذب الله الظالم و يعلم الحق أين مصيره- و لكنه جعل الدنيا دار الأعمال- و الآخرة دار الجزاء و القرار- لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا- وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى- ألا إنكم لاقوا العدو غدا إن شاء الله- فأطيلوا الليلة القيام و أكثروا تلاوة القرآن- و اسألوا الله الصبر و النصر- و ألقوهم بالجد و الحزم و كونوا صادقين- .
قال فوثب الناس- إلى رماحهم و سيوفهم و نبالهم يصلحونها- و خرج ع فعبى الناس ليلته تلك كلها حتى أصبح- و عقد الألوية و أمر الأمراء و كتب الكتائب- و بعث إلى أهل الشام مناديا نادى فيهم- اغدوا على مصافكم- فضج أهل الشام في معسكرهم- و اجتمعوا إلى معاوية فعبى خيله- و عقد ألويته و أمر أمراءه و كتب كتائبه- و أحاط به أهل حمص في راياتهم- و عليهم أبو الأعور السلمي- و أهل الأردن في راياتهم عليهم عمرو بن العاص- و أهل قنسرين و عليهم زفر بن الحارث الكلابي- و أهل دمشق و هم القلب-و عليهم الضحاك بن قيس الفهري- فأطافوا كلهم بمعاوية- و كان أهل الشام أكثر من أهل العراق بالضعف- و سار أبو الأعور و عمرو بن العاص و من معهما- حتى وقفا بحيال أهل العراق فنظرا إليهم- و استقلا جمعهم و طمعا فيهم- و نصب لمعاوية منبر فقعد عليه في قبة ضربها- ألقي عليها الثياب و الأرائك- و أحاط به أهل يمن- و قال لا يقربن هذا المنبر أحد لا تعرفونه- إلا قتلتموه كائنا من كان- .
قال نصر و أرسل عمرو إلى معاوية- قد عرفت ما بيننا من العهد و العقد- فاعصب برأسي هذا الأمر- و أرسل إلى أبي الأعور فنحه عني و دعني و القوم- فأرسل معاوية إلى أبي الأعور- أن لأبي عبد الله رأيا و تجربة ليست لي و لا لك- و قد وليته أعنة الخيل- فسر أنت حتى تقف بخيلك على تل كذا و دعه و القوم- . فسار أبو الأعور- و بقي عمرو بن العاص فيمن معه- واقفا بإزاء عسكر العراق- فنادى عمرو ابنيه عبد الله و محمدا- فقال لهما قدما هؤلاء الدرع و أخرا هؤلاء الحسر- و أقيما الصف قص الشارب- فإن هؤلاء قد جاءوا بخطة قد بلغت السماء- . فمشيا برايتهما فعدلا الصفوف- و سار بينهما عمرو فأحسن الصف ثانية- ثم حمل قيسا و كليبا و كنانة على الخيول- و رجل سائر الناس- . قال نصر و بات كعب بن جعيل التغلبي- شاعر أهل الشام تلك الليلة يرتجز و ينشد-
أصبحت الأمة في أمر عجب
و الملك مجموع غدا لمن غلب
أقول قولا صادقا غير كذب
إن غدا يهلك أعلام العرب
غدا نلاقي ربنا فنحتسب
غدا يصيرون رمادا قد ذهب
بعد الجمال و الحياء و الحسب
يا رب لا تشمت بنا و لا تصب
من خلع الأنداد طرا و الصلب
قال نصر و قال معاوية- من في ميسرة أهل العراق فقيل ربيعة- فلم يجد في الشام ربيعة فجاء بحمير- فجعلها بإزاء ربيعة على قرعة- أقرعها بين حمير و عك- فقال ذو الكلاع الحميري- باستك من سهم لم تبغ الضراب- كأنه أنف عن أن تكون حمير بإزاء ربيعة- فبلغ ذلك حجدرا الحنفي- فحلف بالله إن عاينه ليقتلنه أو ليموتن دونه- فجاءت حمير حتى وقفت بإزاء ربيعة- و جعل السكاسك و السكون بإزاء كندة- و عليهما الأشعث بن قيس- و جعل بإزاء همدان العراق الأزد- و بإزاء مذحج العراق عكا- . و قال راجز من أهل الشام-
ويل لأم مذحج من عك
و أمهم قائمة تبكي
نصكهم بالسيف أي صك
فلا رجال كرجال عك
قال و طرحت عك حجرا بين أيديهم و قالوا لا نفر حتى يفر هذا الحكر بالكاف- و عك تقلب الجيم كافا- و صف القلب خمسة صفوف- و فعل أهل العراق أيضا مثل ذلك- و نادى عمرو بن العاص بأعلى صوته-
يا أيها الجند الصليب الإيمان
قوموا قياما و استعينوا الرحمن
إني أتاني خبر ذو ألوان
إن عليا قتل ابن عفان
ردوا علينا شيخنا كما كان
فرد عليه أهل العراق و قالوا-
أبت سيوف مذحج و همدان
بأن ترد نعثلا كما كان
خلقا جديدا مثل خلق الرحمن
ذلك شأن قد مضى و ذا شان
ثم نادى عمرو بن العاص ثانية برفع صوته-
ردوا علينا شيخنا ثم بجل
أو لا تكونوا جزرا من الأسل
فرد عليه أهل العراق
كيف نرد نعثلا و قد قحل
نحن ضربنا رأسه حتى انجفل
و أبدل الله به خير بدل
أعلم بالدين و أزكى بالعمل
و قال إبراهيم بن أوس بن عبيدة من أهل الشام-
لله در كتائب جاءتكم
تبكي فوارسها على عثمان
تسعون ألفا ليس فيهم قاسط
يتلون كل مفصل و مثان
يسلون حق الله لا يعدونه
و مجيبكم للملك و السلطان
فأتوا ببينة على ما جئتم
أو لا فحسبكم من العدوان
و أتوا بما يمحو قصاص خليفة
لله ليس بكاذب خوان
قال نصر و بات علي ع ليلته يعبئ الناس- حتى إذا أصبح زحف بهم- و خرج إليه معاوية في أهل الشام فجعل يقول- من هذه القبيلة و من هذه القبيلة- يعني قبائل أهل الشام- فيسمون له حتى إذا عرفهم و عرف مراكزهم- قال للأزد اكفوني الأزد- و قال لخثعم اكفوني خثعما- و أمر كل قبيلة من العراق- أن تكفيه أختها من أهل الشام- إلا قبيلة ليس منهم بالعراق إلا القليل مثل بجيلة- فإن لخما كانت بإزائها- ثم تناهض القوم يوم الأربعاء سادس صفر- و اقتتلوا إلى آخر نهارهم و انصرفوا عند المساء- و كل غير غالب- .
قال نصر فأما اليوم السابع- فكان القتال فيه شديدا و الخطب عظيما- و كان عبد الله بن بديل الخزاعي على ميمنة العراق- فزحف نحو حبيب بن مسلمة و هو على ميسرة أهل الشام- فلم يزل يحوزه و يكشف خيله- حتى اضطر بهم إلى قبة معاوية وقت الظهر- . قال نصر فحدثنا عمر بن سعد قال- حدثنا مالك بن أعين عن زيد بن وهب- أن عبد الله بن بديل قام في أصحابه فخطبهم- فقال ألا إن معاوية ادعى ما ليس له- و نازع الأمر أهله و من ليس مثله- و جادل بالباطل ليدحض به الحق- و صال عليكم بالأعراب و الأحزاب- و زين لهم الضلالة و زرع في قلوبهم حب الفتنة- و لبس عليهم الأمور و زادهم رجسا إلى رجسهم- و أنتم و الله على نور و برهان مبين- قاتلوا الطغاة الجفاة قاتلوهم و لا تخشوهم- و كيف تخشونهم- و في أيديكم كتاب من ربكم ظاهر مبين- أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ-وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ- وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ- و لقد قاتلتهم مع النبي ص- و الله ما هم في هذه بأزكى و لا أتقى و لا أبر- انهضوا إلى عدو الله و عدوكم- .
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال حدثني عبد الرحمن عن أبي عمرو عن أبيه- أن عليا ع خطب في ليلة هذا اليوم- فقال معاشر المسلمين استشعروا الخشية- و تجلببوا السكينة و عضوا على النواجذ- فإنه أنبى للسيوف عن الهام…- الفصل بطوله إلى آخره- و هو المذكور في الكتاب- .
و روى نصر أيضا بالإسناد المذكور أن عليا ع خطب ذلك اليوم و قال- أيها الناس إن الله تعالى ذكره- قد دلكم على تجارة تنجيكم من العذاب- و تشفي بكم على الخير- إيمان بالله و رسوله و جهاد في سبيله- و جعل ثوابه مغفرة الذنوب- و مساكن طيبة في جنات عدن- و رضوان من الله أكبر- و أخبركم بالذي يحب فقال- إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا- كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ- فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص- و قدموا الدارع و أخروا الحاسر- و عضوا على الأضراس- فإنه أنبى للسيوف عن الهام- و أربط للجأش و أسكن للقلوب- و أميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل و أولى بالوقار- و التووا في أطراف الرماح فإنه أمور للأسنة- و رايتكم فلا تميلوها و لا تزيلوها- و لا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم المانعي الذمار- و الصبر عند نزول الحقائق- أهل الحفاظ الذين يحفون برايتكم و يكتنفونها- يضربون خلفها و أمامها و لا تضيعوها- أجزاء كل امرئ وقذ قرنه- و واسى أخاه بنفسه و لم يكل قرنه إلى أخيه- فيجمع عليه قرنه و قرن أخيه- فيكسب بذلك من الإثم و يأتي به دناءة- أنى هذا و كيف يكون هكذا- هذا يقاتل اثنين و هذا ممسك يده- قد خلى قرنه إلى أخيه هاربا منه أو قائما ينظر إليه- من يفعل هذا يمقته الله فلا تعرضوا لمقت الله- فإنما مردكم إلى الله- قال الله تعالى لقوم عابهم- لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ- وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا- و ايم الله لئن فررتم من سيف العاجلة- لا تسلمون من سيف الآخرة- استعينوا بالصدق و الصبر- فإنه بعد الصبر ينزل النصر- .
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن جابر عن الشعبي- عن مالك بن قدامة الأرحبي- قال قام سعيد بن قيس يخطب أصحابه بقناصرين- فقال الحمد لله الذي هدانا لدينه و أورثنا كتابه- و امتن علينا بنبيه فجعله رحمة للعالمين- و سيدا للمرسلين و قائدا للمؤمنين و خاتما للنبيين- و حجة الله العظيم على الماضين و الغابرين- ثم كان فيما قضى الله و قدره- و له الحمد على ما أحببنا و كرهنا- أن ضمنا و عدونا بقناصرين- فلا يجمل بنا اليوم الحياص- و ليس هذا بأوان انصراف- و لات حين مناص- و قد خصنا الله منه برحمة لا نستطيع أداء شكرها- و لا نقدر قدرها- إن أصحاب محمد المصطفين الأخيار معناو في حيز- فو الله الذي هو بالعباد بصير- أن لو كان قائدنا رجلا مجدعا- إلا أن معنا من البدريين سبعين رجلا- لكان ينبغي لنا أن تحسن بصائرنا و تطيب أنفسنا- فكيف و إنما رئيسنا ابن عم نبينا بدري صدق- صلى صغيرا و جاهد مع نبيكم كثيرا- و معاوية طليق من وثاق الإسار و ابن طليق- ألا إنه أغوى جفاة فأوردهم النار و أوردهم العار- و الله محل بهم الذل و الصغار- ألا إنكم ستلقون عدوكم غدا- فعليكم بتقوى الله- من الجد و الحزم و الصدق و الصبر- فإن الله مع الصابرين- ألا إنكم تفوزون بقتلهم و يشقون بقتلكم- و الله لا يقتل رجل منكم رجلا منهم- إلا أدخل الله القاتل جنات عدن- و أدخل المقتول نارا تلظى- لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ- عصمنا الله و إياكم بما عصم به أولياءه- و جعلنا و إياكم ممن أطاعه و اتقاه- و أستغفر الله العظيم لي و لكم و للمؤمنين- . ثم قال الشعبي و لقد صدق فعله ما قال في خطبته- .
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن جابر عن أبي جعفر و زيد بن الحسن قالا- طلب معاوية إلى عمرو بن العاص- أن يسوي صفوف أهل الشام- فقال له عمرو على أن لي حكمي- أن قتل الله ابن أبي طالب- و استوثقت لك البلاد- فقال أ ليس حكمك في مصر- قال و هل مصر تكون عوضا عن الجنة- و قتل ابن أبي طالب ثمنا لعذاب النار- الذي لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ- فقال معاوية إن لك حكمك أبا عبد الله- إن قتل ابن أبي طالب- رويدا لا يسمع أهل الشام كلامك- فقام عمرو فقال معاشر أهل الشام- سووا صفوفكم قص الشارب- و أعيرونا جماجمكم ساعة- فقد بلغ الحق مقطعه فلم يبق إلا ظالم أو مظلوم- . قال نصر و أقبل أبو الهيثم بن التيهان- و كان من أصحاب رسول الله ص- بدريا نقيبا عقبيا- يسوي صفوف أهل العراق و يقول- يا معشر أهل العراق- إنه ليس بينكم و بين الفتح في العاجل- و الجنة في الآجل- إلا ساعة من النهار- فأرسوا أقدامكم و سووا صفوفكم- و أعيروا ربكم جماجمكم- استعينوا بالله إلهكم- و جاهدوا عدو الله و عدوكم- و اقتلوهم قتلهم الله و أبادهم- و اصبروا فإن الأرض لله- يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين- .
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الفضل بن أدهم عن أبيه أن الأشتر قام يخطب الناس بقناصرين- و هو يومئذ على فرس أدهم- مثل حلك الغراب فقال- الحمد لله الذي خلق السموات العلى- الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى- لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ- وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ الثَّرى- أحمده على حسن البلاء و تظاهر النعماء- حمدا كثيرا بكرة و أصيلا- من هداه الله فقد اهتدى و من يضلل فقد غوى- أرسل محمدا بالصواب و الهدى- فأظهره على الدين كله و لو كره المشركون صلى الله عليه و سلم- ثم قد كان مما قضى الله سبحانه- و قدر أن ساقتنا المقادير إلى أهل هذه البلدة من الأرض- فلفت بيننا و بين عدو الله و عدونا- فنحن بحمد الله و نعمه و منه و فضله- قريرة أعيننا طيبة أنفسنا- نرجو بقتالهم حسن الثواب و الأمن من العقاب- معنا ابن عم نبينا- و سيف من سيوف الله علي بن أبي طالب- صلى مع رسول الله- لم يسبقه إلى الصلاةذكر حتى كان شيخا- لم تكن له صبوة و لا نبوة و لا هفوة و لا سقطة- فقيه في دين الله تعالى عالم بحدود الله- ذو رأي أصيل و صبر جميل و عفاف قديم- فاتقوا الله و عليكم بالحزم و الجد- و اعلموا أنكم على الحق و أن القوم على الباطل- إنما تقاتلون معاوية- و أنتم مع البدريين قريب من مائة بدري- سوى من حولكم من أصحاب محمد- أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله- و مع معاوية رايات- قد كانت مع المشركين على رسول الله- فما يشك في قتال هؤلاء إلا ميت القلب- أنتم على إحدى الحسنيين إما الفتح و إما الشهادة- عصمنا الله و إياكم بما عصم به من أطاعه و اتقاه- و ألهمنا و إياكم طاعته و تقواه- و أستغفر الله لي و لكم- .
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن جابر عن الشعبي عن صعصعة بن صوحان- عن زامل بن عمرو الجذامي- قال طلب معاوية إلى ذي الكلاع- أن يخطب الناس و يحرضهم على قتال علي ع- و من معه من أهل العراق- فعقد فرسه و كان من أعظم أصحاب معاوية خطرا- و خطب الناس فقال- الحمد لله حمدا كثيرا ناميا واضحا منيرا- بكرة و أصيلا- أحمده و أستعينه و أومن به- و أتوكل عليه و كفى بالله وكيلا- و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- و أشهد أن محمدا عبده و رسوله- أرسله بالفرقان إماما و بالهدى و دين الحق- حين ظهرت المعاصي و درست الطاعة- و امتلأت الأرض جورا و ضلالة- و اضطرمت الدنيا نيرانا و فتنة- و ورك عدو الله إبليس- على أن يكون قد عبد في أكنافها- و استولى على جميع أهلها- فكان محمد ص هو الذي أطفأ الله به نيرانها- و نزع به أوتادها و أوهن بهقوى إبليس- و آيسه مما كان قد طمع فيه من ظفره بهم- و أظهره على الدين كله و لو كره المشركون- ثم كان من قضاء الله- أن ضم بيننا و بين أهل ديننا بصفين- و إنا لنعلم أن فيهم قوما- قد كانت لهم مع رسول الله ص سابقة- ذات شأن و خطر عظيم- و لكني ضربت الأمر ظهرا و بطنا- فلم أر يسعني أن يهدر دم عثمان صهر نبينا ص- الذي جهز جيش العسرة- و ألحق في مصلى رسول الله ص بيتا- و بنى سقاية بايع له نبي الله بيده اليمنى على اليسرى- و اختصه بكريمتيه أم كلثوم و رقية- فإن كان قد أذنب ذنبا فقد أذنب من هو خير منه- قال الله سبحانه لنبيه- لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ- و قتل موسى نفسا ثم استغفر الله فغفر له- و قد أذنب نوح ثم استغفر الله فغفر له- و قد أذنب أبوكم آدم ثم استغفر الله فغفر له- و لم يعر أحدكم من الذنوب- و إنا لنعلم أنه قد كانت لابن أبي طالب سابقة حسنة- مع رسول الله ص- فإن لم يكن مالأ على قتل عثمان فلقد خذله- و إنه لأخوه في دينه و ابن عمه و سلفه و ابن عمته- ثم قد أقبلوا من عراقهم حتى نزلوا شامكم- و بلادكم و بيضتكم- و إنما عامتهم بين قاتل و خاذل- فاستعينوا بالله و اصبروا- فلقد ابتليتم أيتها الأمة- و لقد رأيت في منامي في ليلتي هذه- لكانا و أهل العراق اعتورنا مصحفا نضربه بسيوفنا- و نحن في ذلك جميعا ننادي- ويحكم الله و مع أنا و الله لا نفارق العرصة حتى نموت- فعليكم بتقوى الله و لتكن النيات لله- فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله ص يقول إنما يبعث المقتتلون على النيات – أفرغ الله علينا و عليكم الصبر و أعز لنا و لكم النصر- و كان لنا و لكم في كل أمر- و أستغفر الله لي و لكم- .
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن ابن عامر عن صعصعة العبدي- عن أبرهة بن الصباح قال- قام يزيد بن أسد البجلي في أهل الشام- يخطب الناس بصفين- و عليه قباء من خز و عمامة سوداء- آخذا بقائم سيفه- واضعا نصل السيف في الأرض متوكئا عليه- قال صعصعة فذكر لي أبرهة- أنه كان يومئذ من أجمل العرب و أكرمها و أبلغها- فقال الحمد لله الواحد الفرد- ذي الطول و الجلال العزيز الجبار- الحكيم الغفار الكبير المتعال- ذي العطاء و الفعال و السخاء و النوال- و البهاء و الجمال و المن و الإفضال- مالك اليوم الذي لا بيع فيه و لا خلال- أحمده على حسن البلاء و تظاهر النعماء- و في كل حال من شدة أو رخاء- أحمده على نعمه التؤام و آلائه العظام- حمدا يستنير بالليل و النهار- و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- كلمة النجاة في الحياة و عند الوفاة- و فيها الخلاص يوم القصاص- و أشهد أن محمدا عبده و رسوله- النبي المصطفى و إمام الهدى ص- ثم كان من قضاء الله أن جمعنا و أهل ديننا- في هذه الرقعة من الأرض- و الله يعلم أني كنت كارها لذلك- و لكنهم لم يبلعونا ريقنا- و لم يتركونا نرتاد لأنفسنا- و ننظر لمعادنا حتى نزلوا بين أظهرنا- و في حريمنا و بيضتنا- و قد علمنا أن في القوم أحلاما و طغاما- و لسنا نأمن من طغامهم على ذرارينا و نسائنا- و لقد كنا نحب ألا نقاتل أهل ديننا- فأخرجونا حتى صارت الأمور- إلى أن قاتلناهم غدا حمية- فإنا لله و إنا إليه راجعون و الحمد لله رب العالمين- .
أما و الذي بعث محمدا بالرسالة- لوددت أني مت منذ سنة- و لكن الله إذا أراد أمرا لم يستطع العباد رده- فنستعين بالله العظيم و أستغفر الله لي و لكم- . قال نصر و حدثنا عمرو عن أبي روق الهمداني- أن يزيد بن قيس الأرحبي- حرض أهل العراق بصفين يومئذ- فقال إن المسلم السليم من سلم دينه و رأيه- و إن هؤلاء القوم- و الله ما أن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه- و لا على إحياء حق رأونا أمتناه- و لا يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا- ليكونوا فيها جبابرة و ملوكا- و لو ظهروا عليكم- لا أراهم الله ظهورا و لا سرورا- إذا لوليكم مثل سعيد- و الوليد و عبد الله بن عامر السفيه- يحدث أحدهم في مجلسه بذيت و ذيت- و يأخذ مال الله و يقول لا إثم علي فيه- كأنما أعطي تراثه من أبيه- كيف إنما هو مال الله- أفاءه علينا بأسيافنا و رماحنا- قاتلوا عباد الله القوم الظالمين- الحاكمين بغير ما أنزل الله- و لا تأخذكم فيهم لومة لائم- إنهم أن يظهروا عليكم- يفسدوا عليكم دينكم و دنياكم- و هم من قد عرفتم و جربتم- و الله ما أرادوا باجتماعهم عليكم إلا شرا- و أستغفر الله العظيم لي و لكم- . قال نصر و ارتجز عمرو بن العاص و أرسل بها إلى علي-
لا تأمننا بعدها أبا حسن
إنا نمر الأمر إمرار الرسن
و يروى
خذها إليك و اعلمن أبا حسن
لتصبحن مثلها أم لبن
طاحنة تدقكم دق الحفن
قال فأجابه شاعر من شعراء أهل العراق-
ألا احذروا في حربكم أبا حسن
ليثا أبا شبلين محذور فطن
يدقكم دق المهاريس الطحن
لتغبنن يا جاهلا أي غبن
حتى تغض الكف أو تقرع سن
قال نصر فحدثنا عمرو بن شمر عن جابر- عن الشعبي أن أول فارسين التقيا في هذا اليوم- و هو اليوم السابع من صفر- و كان من الأيام العظيمة في صفين- ذا أهوال شديدة حجر الخير و حجر الشر- أما حجر الخير فهو حجر بن عدي- صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع- و أما حجر الشر فابن عمه كلاهما من كندة- و كان من أصحاب معاوية- فأطعنا برمحيهما و خرج رجل من بني أسد يقال له خزيمة- من عسكر معاوية- فضرب حجر بن عدي ضربة برمحه- فحمل أصحاب علي ع فقتلوا خزيمة الأسدي- و نجا حجر الشر هاربا فالتحق بصف معاوية- ثم برز حجر الشرثانية- فبرز إليه الحكم بن أزهر من أهل العراق- فقتله حجر الشر- فخرج إليه رفاعة بن ظالم الحميري من صف العراق- فقتله و عاد إلى أصحابه يقول- الحمد لله الذي قتل حجر الشر بالحكم بن أزهر- .
ثم إن عليا ع دعا أصحابه- إلى أن يذهب واحد منهم بمصحف كان في يده- إلى أهل الشام- فقال من يذهب إليهم- فيدعوهم إلى ما في هذا المصحف- فسكت الناس و أقبل فتى اسمه سعيد- فقال أنا صاحبه فأعاد القول ثانية- فسكت الناس و تقدم الفتى فقال أنا صاحبه- فسلمه إليه فقبضه بيده- ثم أتاهم فأنشدهم الله- و دعاهم إلى ما فيه فقتلوه- فقال علي ع لعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي- احمل عليهم الآن- فحمل عليهم بمن معه من أهل الميمنة- و عليه يومئذ سيفان و درعان- فجعل يضرب بسيفه قدما و يقول-
لم يبق غير الصبر و التوكل
و الترس و الرمح و سيف مقصل
ثم التمشي في الرعيل الأول
مشى الجمال في حياض المنهل
فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية- و الذين بايعوه إلى الموت- فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بديل- و بعث إلى حبيب بن مسلمة الفهري و هو في الميسرة- أن يحمل عليه بجميع من معه- و اختلط الناس و اضطرم الفيلقان- ميمنة أهل العراق و ميسرة أهل الشام- و أقبل عبد الله بن بديل يضرب الناس بسيفه قدما- حتى أزال معاوية عن موقفه و جعل ينادي- يا ثارات عثمان و إنما يعني أخا له قد قتل- و ظن معاوية و أصحابه أنه يعني عثمان بن عفان- و تراجع معاوية عن مكانه القهقرى كثيرا- و أشفق على نفسه- و أرسل إلى حبيب بن مسلمة مرة ثانية و ثالثة- يستنجده و يستصرخه- و يحمل حبيب حملة شديدة- بميسرة معاوية على ميمنة العراق- فكشفها حتى لم يبق مع ابن بديل- إلا نحو مائة إنسان من القراء- فاستند بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم- و لجج ابن بديل في الناس و صمم على قتل معاوية- و جعل يطلب موقفه و يصمد نحوه حتى انتهى إليه- و مع معاوية عبد الله بن عامر واقفا- فنادى معاوية في الناس- ويلكم الصخر و الحجارة إذا عجزتم عن السلاح- فرضخه الناس بالصخر و الحجارة حتى أثخنوه فسقط- فأقبلوا عليه بسيوفهم فقتلوه- . و جاء معاوية و عبد الله بن عامر حتى وقفا عليه- فأما عبد الله بن عامر فألقى عمامته على وجهه- و ترحم عليه و كان له أخا صديقا من قبل- فقال معاوية اكشف عن وجهه- فقال لا و الله لا يمثل به و في روح- فقال معاوية اكشف عن وجهه- فإنا لا نمثل به قد وهبناه لك- فكشف ابن عامر عن وجهه- فقال معاوية هذا كبش القوم و رب الكعبة- اللهم أظفرني بالأشتر النخعي و الأشعث الكندي- و الله ما مثل هذا إلا كما قال الشاعر-
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها
و إن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
و يحمي إذا ما الموت كان لقاؤه
قدى الشبر يحمي الأنف أن يتأخرا
كليث هزبر كان يحمي ذماره
رمته المنايا قصدها فتقطرا
ثم قال إن نساء خزاعة- لو قدرت على أن تقاتلني فضلا عن رجالها لفعلت- . قال نصر فحدثنا عمرو عن أبي روق- قال استعلى أهل الشام عند قتل ابن بديل- على أهل العراق يومئذ- و انكشف أهل العراق من قبل الميمنة- و أجفلوا إجفالا شديدا- فأمر علي ع سهل بن حنيف- فاستقدم من كان معه ليرفد الميمنة و يعضدها- فاستقبلهم جموع أهل الشام في خيل عظيمة- فحملت عليهم فألحقتهم بالميمنة- و كانت ميمنة أهل العراق متصلة بموقف علي ع- في القلب في أهل اليمن- فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي ع- فانصرف يمشي نحو الميسرة- فانكشف مضر عن الميسرة أيضا- فلم يبق مع علي ع من أهل العراق- إلا ربيعة وحدها في الميسرة- . قال نصر فحدثنا عمرو قال- حدثنا مالك بن أعين عن زيد بن وهب قال- لقد مر علي ع يومئذ و معه بنوه نحو الميسرة- و معه ربيعة وحدها- و إني لأرى النبل يمر بين عاتقه و منكبيه- و ما من بنيه إلا من يقيه بنفسه- فيكره علي ع ذلك- فيتقدم عليه و يحول بينه و بين أهل الشام- و يأخذه بيده إذا فعل ذلك فيلقيه من ورائه- و يبصر به أحمر مولى بني أمية و كان شجاعا- و قال علي ع و رب الكعبة- قتلني الله إن لم أقتلك فأقبل نحوه- فخرج إليه كيسان مولى علي ع- فاختلفا ضربتين فقتله أحمر- و خالط عليا ليضربه بالسيف و ينتهزه علي- فتقع يده في جيب درعه فجذبه عن فرسه- فحمله على عاتقه- فو الله لكأني أنظر إلى رجلي أحمر- تختلفان على عنق علي- ثم ضرب به الأرض فكسر منكبه و عضديه- و شد ابنا علي حسين و محمد- فضرباه بأسيافهما حتى برد- فكأني أنظر إلى علي قائما- و شبلاه يضربان الرجل حتى إذا أتيا عليه- أقبلا على أبيهما- و الحسن قائم معه فقال له علي يا بني- ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك- فقال كفياني يا أمير المؤمنين- .
قال ثم إن أهل الشام دنوا منه يريدونه- و الله ما يزيده قربهم منه- و دنوهم إليه سرعة في مشيته- فقال له الحسن ما ضرك لو أسرعت- حتى تنتهي إلى الذين صبروا لعدوك من أصحابك- قال يعني ربيعة الميسرة- فقال علي يا بني إن لأبيك يوما- لن يعدوه و لا يبطئ به عند السعي- و لا يقربه إليه الوقوف- إن أباك لا يبالي- أن وقع على الموت أو وقع الموت عليه- .
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن أبي إسحاق قال خرج علي ع يوما من أيام صفين و في يده عنزة- فمر على سعيد بن قيس الهمداني- فقال له سعد أ ما تخشى يا أمير المؤمنين- أن يغتالك أحد و أنت قرب عدوك- فقال علي ع إنه ليس من أحد إلا و عليه من الله حفظة- يحفظونه من أن يتردى في قليب- أو يخر عليه حائط أو تصيبه آفة- فإذا جاء القدر خلوا بينه و بينه- .
قال نصر و حدثنا عمرو عن فضيل بن خديج قال- لما انهزمت ميمنة العراق يومئذ- أقبل علي ع نحو الميسرة يركض- يستثيب الناس و يستوقفهم- و يأمرهم بالرجوع نحو الفزع-فمر بالأشتر فقال يا مالك- قال لبيك يا أمير المؤمنين- قال ائت هؤلاء القوم فقل لهم- أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه- إلى الحياة التي لا تبقى لكم- فمضى الأشتر فاستقبل الناس منهزمين- فقال لهم الكلمات و ناداهم- إلى أيها الناس أنا مالك بن الحارث يكررها- فلم يلو أحد منهم عليه- و ظن أنالأشتر أعرف في الناس- من مالك بن الحارث- فجعل ينادي ألا أيها الناس- فأنا الأشتر- فانقلب نحوه طائفة و ذهبت عنه طائفة- فقال عضضتم بهن أباكم- ما أقبح و الله ما فعلتم اليوم- أيها الناس غضوا الأبصار و عضوا على النواجذ- و استقبلوا القوم بهامكم- و شدوا عليهم شدة قوم موتورين- بآبائهم و أبنائهم و إخوانهم- حنقا على عدوهم- قد وطنوا على الموت أنفسهم كي لا يسبقوا بثأر- إن هؤلاء القوم و الله لن يقاتلوكم إلا عن دينكم- ليطفئوا السنة و يحيوا البدعة- و يدخلوكم في أمر قد أخرجكم الله منه بحسن البصيرة- فطيبوا عباد الله نفسا بدمائكم دون دينكم- فإن الفرار فيه سلب العز و الغلبة على الفيء- و ذل المحيا و الممات و عار الدنيا و الآخرة- و سخط الله و أليم عقابه- .
ثم قال أيها الناس أخلصوا إلى مذحجا- فاجتمعت إليه مذحج- فقال لهم عضضتم بصم الجندل- و لله ما أرضيتم اليوم ربكم و لا نصحتم له في عدوه- و كيف ذلك و أنتم أبناء الحرب و أصحاب الغارات- و فتيان الصباح و فرسان الطراد- و حتوف الأقران و مذحج الطعان- الذين لم يكونوا سبقوا بثأرهم و لم تطل دماؤهم- و لم يعرفوا في موطن من المواطن بخسف- و أنتم سادة مصركم و أعز حي في قومكم- و ما تفعلوا في هذا اليوم فهو مأثور بعد اليوم- فاتقوا مأثور الحديث في غد- و اصدقوا عدوكم اللقاء- فإن الله مع الصابرين- و الذي نفس مالك بيده ما من هؤلاء- و أشار بيده إلى أهل الشام- رجل على مثل جناح البعوضة من دين الله- لله أنتم ما أحسنتم اليوم القراع- احبسوا سواد وجهي يرجع فيه دمي- عليكم هذا السواد الأعظم- فإن الله لو قد فضه تبعه من بجانبيه- كما يتبع السيل مقدمه- .
فقالوا خذ بنا حيث أحببت- فصمد بهم نحو عظمهم- و استقبله أشباههم من همدان- و هم نحو ثمانمائة مقاتل قد انهزموا آخر الناس- و كانوا قد صبروا في ميمنة علي ع- حتى قتل منهم مائة و ثمانون رجلا- و أصيب منهم أحد عشر رئيسا- كلما قتل منهم رئيس أخذ الراية آخر- و هم بنو شريح الهمدانيون- و غيرهم من رؤساء العشيرة- فأول من أصيب منهم كريب بن شريح- و شرحبيل بن شريح و مرثد بن شريح- و هبيرة بن شريح و هريم بن شريح- و شهر بن شريح و شمر بن شريح- قتل هؤلاء الإخوة الستة في وقت واحد- . ثم أخذ الراية سفيان بن زيد ثم كرب بن زيد- ثم عبد بن زيد- فقتل هؤلاء الإخوة الثلاثة أيضا- ثم أخذ الراية عمير بن بشر ثم أخوه الحارث بن بشر- فقتلا جميعا- ثم أخذ الراية أبو القلوص وهب بن كريب- فقال له رجل من قومه- انصرف يرحمك الله بهذه الراية- ترحها الله فقد قتل الناس حولها- فلا تقتل نفسك و لا من بقي معك- فانصرفوا و هم يقولون- ليت لنا عديدا من العرب يحالفوننا على الموت- ثم نستقدم نحن و هم فلا ننصرف حتى نظفر أو نقتل- فمروا بالأشتر و هم يقولون هذا القول- فقال لهم الأشتر- أنا أحالفكم و أعاقدكم على ألا نرجع أبدا- حتى نظفر أو نهلك- فوقفوا معه على هذه النية و العزيمة- فهذا معنى قول كعب بن جعيل-
و همدان زرق تبتغي من تحالف- .
قال و زحف الأشتر نحو الميمنة- و ثاب إليه أناس تراجعوا- من أهل الصبر و الوفاءو الحياء- فأخذ لا يصمد لكتيبة إلا كشفها- و لا لجمع إلا حازه و رده- فإنه لكذلك إذا مر بزياد بن النضر مستلحما- فقال الأشتر هذا و الله الصبر الجميل- هذا و الله الفعل الكريم إلي- و قد كان هو و أصحابه في ميمنة العراق- فتقدم فرفع رايته لهم فصبروا و قاتل حتى صرع- ثم لم يلبث الأشتر إلا يسيرا كلا شيء- حتى مر بهم يزيد بن قيس الأرحبي- مستلحما أيضا محمولا- فقال الأشتر من هذا قالوا يزيد بن قيس- لما صرع زياد بن النضر دفع رايته لأهل الميمنة- فقاتل تحتها حتى صرع- فقال الأشتر هذا و الله الصبر الجميل- هذا و الله الفعل الكريم- أ لا يستحيي الرجل أن ينصرف أ يقتل- و لم يقتل و لم يشف به على القتل- . قال نصر و حدثنا عمرو عن الحارث بن الصباح- قال كان بيد الأشتر يومئذ صفيحة له يمانية- إذا طأطأها خلت فيها ماء ينصب- و إذا رفعها يكاد يعشي البصر شعاعها- و مر يضرب الناس بها قدما و يقول-الغمرات ثم ينجلينا- .
قال فبصر به الحارث بن جمهان الجعفي- و الأشتر مقنع في الحديد فلم يعرفه- فدنا منه و قال له جزاك الله منذ اليوم- عن أمير المؤمنين و عن جماعة المسلمين خيرا- فعرفه الأشتر فقال يا ابن جمهان- أ مثلك يتخلف اليوم عن مثل موطني هذا- فتأمله ابن جمهان فعرفه- و كان الأشتر من أعظم الرجال و أطولهم- إلا أن في لحمه خفة قليلة- فقال له جعلت فداك لا و الله- ما علمت مكانك حتى الساعة- و لا و الله لا أفارقك حتى أموت- . قال نصر و حدثنا عمرو عن الحارث بن الصباح- قال رأى الأشتر يومئذ منقذا و حميرا ابني قيس اليقظيان- فقال منقذ لحمير ما في العرب رجل مثل هذا- إن كان ما أرى من قتاله على نية- فقال له حمير و هل النية إلا ما ترى- قال إني أخاف أن يكون يحاول ملكا- . قال نصر و حدثنا عمرو- عن فضيل بن خديج عن مولى الأشتر قال- لما اجتمع مع الأشتر عظم من كان انهزم من الميمنة- حرضهم فقال لهم- عضوا على النواجذ من الأضراس- و استقبلوا القوم بهامكم- فإن الفرار من الزحف فيه ذهاب العز- و الغلبة على الفيء و ذل المحيا و الممات- و عار الدنيا و الآخرة- .ثم حمل على صفوف أهل الشام حتى كشفهم- فألحقهم بمضارب معاوية و ذلك بين العصر و المغرب- .
قال نصر و حدثنا عمرو عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب أن عليا ع لما رأى ميمنته- قد عادت إلى موقفها و مصافها- و كشفت من بإزائها- حتى ضاربوهم في مواقفهم و مراكزهم- أقبل حتى انتهى إليهم فقال- إني قد رأيت جولتكم و انحيازكم من صفوفكم- يحوزكم الجفاة الطغاة و أعراب أهل الشام- و أنتم لهاميم العرب و السنام الأعظم- و عمار الليل بتلاوة القرآن- و أهل دعوة الحق إذ ضل الخاطئون- فلو لا إقبالكم بعد إدباركم و كركم بعد انحيازكم- وجب عليكم ما وجب على المولي يوم الزحف دبره- و كنتم فيما أرى من الهالكين- و لقد هون علي بعض وجدي- و شفى بعض لاعج نفسي- إني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم- و أزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم- تحشونهم بالسيوف- يركب أولهم آخرهم كالإبل المطرودة الهيم- فالآن فاصبروا نزلت عليكم السكينة- و ثبتكم الله باليقين- و ليعلم المنهزم أنه يسخط ربه و يوبق نفسه- و في الفرار موجدة الله عليه- و الذل اللازم له و فساد العيش- و أن الفار لا يزيد الفرار في عمره و لا يرضي ربه- فموت الرجل محقا قبل إتيان هذه الخصال- خير من الرضا بالتلبس بها و الإصرار عليها- .
قال نصر و حدثنا عمرو- قال حدثنا أبو علقمة الخثعمي- أن عبد الله بن حنش الخثعمي رأس خثعم الشام- أرسل إلى أبي كعب الخثعمي رأس خثعم العراق- إن شئت تواقفنا فلم نقتتل- فإن ظهر صاحبكم كنا معكم- و إن ظهر صاحبنا كنتم معنا- و لا يقتلبعضنا بعضا- فأبى أبو كعب ذلك- فلما التقت خثعم و خثعم- و زحف الناس بعضهم إلى بعض- قال عبد الله بن حنش لقومه يا معشر خثعم- إنا قد عرضنا على قومنا من أهل العراق الموادعة- صلة لأرحامها و حفظا لحقها فأبوا إلا قتالنا- و قد بدءونا بالقطيعة- فكفوا أيديكم عنهم حفظا لحقهم أبدا ما كفوا عنكم- فإن قاتلوكم فقاتلوهم- فخرج رجل من أصحابه فقال- إنهم قد ردوا عليك رأيك- و أقبلوا إليك يقاتلونك- ثم برز فنادى رجل يا أهل العراق- فغضب عبد الله بن حنش- قال اللهم قيض له وهب بن مسعود- يعني رجلا من خثعم الكوفة- كان شجاعا يعرفونه في الجاهلية- لم يبارزه رجل قط إلا قتله- فخرج إليه وهب بن مسعود فقتله- ثم اضطربوا ساعة و اقتتلوا أشد قتال- فجعل أبو كعب يقول لأصحابه- يا معشر خثعم خدموا- أي اضربوا موضع الخدمة و هي الخلخال- يعني اضربوهم في سوقهم- فناداه عبد الله بن حنش- يا أبا كعب الكل قومك فأنصف-.
قال إي و الله و أعظم و اشتد قتالهم- فحمل شمر بن عبد الله الخثعمي- من خثعم الشام على أبي كعب فطعنه فقتله- ثم انصرف يبكي- و يقول يرحمك الله أبا كعب- لقد قتلتك في طاعة قوم أنت أمس بي رحما منهم- و أحب إلي منهم نفسا- و لكني و الله لا أدري ما أقول- و لا أرى الشيطان إلا قد فتننا- و لا أرى قريشا إلا و قد لعبت بنا- قال و وثب كعب بن أبي كعب إلى راية أبيه- فأخذها ففقئت عينه و صرع- ثم أخذها شريح بن مالك الخثعمي- فقاتل القوم تحتها- حتى صرع منهم حول رايتهم نحو ثمانين رجلا- و أصيب من خثعم الشام مثلهم- ثم ردها شريح بن مالك بعد ذلك إلى كعب بن أبي كعب- . قال نصر و حدثنا عمرو- قال حدثنا عبد السلام بن عبد الله بن جابر- أن راية بجيلة في صفين مع أهل العراق- كانت في أحمس مع أبي شداد- قيس بن المكشوح بنهلال بن الحارث بن عمرو بن عوف- بن عامر بن علي بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار- قالت له بجيلة خذ رايتنا- فقال غيري خير لكم مني- قالوا لا نريد غيرك- قال فو الله لئن أعطيتمونيها- لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب- قالوا و كان على رأس معاوية رجل قائم معه ترس مذهب- يستره من الشمس- فقالوا اصنع ما شئت- فأخذها ثم زحف بها و هم حوله يضربون الناس- حتى انتهى إلى صاحب الترس المذهب- و هو في خيل عظيمة من أصحاب معاوية- و كان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد- فاقتتل الناس هناك قتالا شديدا- و شد أبو شداد بسيفه نحو صاحب الترس- فتعرض له رومي من دونه لمعاوية- فضرب قدم أبي شداد فقطعها- و ضرب أبو شداد ذلك الرومي فقتله- و أسرعت إليه الأسنة- فقتل فأخذ الراية بعده عبد الله بن قلع الأحمسي- و ارتجز و قال-
لا يبعد الله أبا شداد
حيث أجاب دعوة المنادي
و شد بالسيف على الأعادي
نعم الفتى كان لدى الطراد
و في طعان الخيل و الجلاد
ثم قاتل حتى قتل- فأخذها بعده أخوه عبد الرحمن بن قلع فقاتل حتى قتل- ثم أخذها عفيف بن إياس الأحمسي- فلم تزل بيده حتى تحاجز الناس- .
قال نصر و حدثنا عمرو قال حدثنا عبد السلام- قال قتل يومئذ من بني أحمس حازم بن أبي حازم- أخو قيس بن أبي حازم- و نعيم بن شهيد بن التغلبية- فأتى سميه- ابن عمه نعيم بن الحارث بن التغلبية معاوية- و كان من أصحابه- فقال إن هذا القتيل ابن عمي فهبه لي أدفنه- فقال لا تدفنوهم فليسوا لذلك بأهل- و الله ما قدرنا على دفن عثمان بينهم إلا سرا- قال و الله لتأذنن لي في دفنه- أو لألحقن بهم و لأدعنك- قال ويحك ترى أشياخ العرب لا نواريهم- و أنت تسألني في دفن ابن عمك- ادفنه إن شئت- أو دعه فأتاه فدفنه- .
قال نصر و حدثنا عمرو- قال حدثنا أبو زهير العبسي- عن النضر بن صالح- أن راية غطفان العراق كانت مع عياش بن شريك- بن حارثة بن جندب بن زيد بن خلف بن رواحة- فخرج رجل من آل ذي الكلاع فسأل المبارزة- فبرز إليه قائد بن بكير العبسي- فبارزه فشد عليه الكلاعي فأوهطه- فقال أبو سليم عياش بن شريك لقومه- إني مبارز هذا الرجل- فإن أصبت فرأسكم الأسود بن حبيب بن جمانة- بن قيس بن زهير- فإن أصيب فرأسكم هرم بن شتير بن عمرو بن جندب- فإن أصيب فرأسكم عبد الله بن ضرار- من بني حنظلة بن رواحة- ثم مشى نحو الكلاعي فلحقه هرم بن شتير فأخذ بظهره- و قال ليمسك رحم لا تبرز إلى هذا الطوال- فقال هبلتك الهبول و هل هو إلا الموت- قال و هل الفرار إلا منه- قال و هل منه بد و الله لأقتلنه- أو ليلحقنيبقائد بن بكير- فبرز له و معه حجفة من جلود الإبل فدنا منه- فإذا الحديد مفرغ على الكلاعي- لا يبين من نحره- إلا مثل شراك النعل من عنقه بين بيضته و درعه- فضربه الكلاعي فقطع جحفته إلا نحوا من شبر- فضربه عياش على ذلك الموضع- فقطع نخاعه فقتله- و خرج ابن الكلاعي ثائرا بأبيه- فقتله بكير بن وائل- .
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن الصلت بن زهير النهدي أن راية بني نهد بالعراق- أخذها مسروق بن الهيثم بن سلمة فقتل- ثم أخذها صخر بن سمي فارتث- ثم أخذها علي بن عمير- فقاتل حتى ارتث- ثم أخذها عبد الله بن كعب فقتل- ثم أخذها سلمة بن خذيم بن جرثومة- فارتث و صرع- ثم أخذها عبد الله بن عمرو بن كبشة فارتث- ثم أخذها أبو مسبح بن عمرو فقتل- ثم أخذها عبد الله بن النزال فقتل- ثم أخذها ابن أخيه عبد الرحمن بن زهير فقتل- ثم أخذها مولاه مخارق فقتل- حتى صارت إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي- . قال نصر فحدثنا عمرو- قال حدثنا الصلت بن زهير- قال حدثني عبد الرحمن بن مخنف- قال صرع يزيد بن المغفل إلى جنبي- فقتلت قاتله و قمت على رأسه- ثم صرع أبو زينب بن عروة فقتلت قاتله- و قمت على رأسه و جاءني سفيان بن عوف- فقال أ قتلتم يزيد بن المغفل- فقلت إي و اللهإنه لهذا الذي تراني قائما على رأسه- قال و من أنت حياك الله- قلت أنا عبد الرحمن بن مخنف- فقال الشريف الكريم- حياك الله و مرحبا بك يا ابن عم- أ فلا تدفعه إلي فأنا عمه سفيان بن عوف بن المغفل- فقلت مرحبا بك- أما الآن فنحن أحق به منك- و لسنا بدافعيه إليك- و أما ما عدا ذلك فلعمري أنت عمه و وارثه- .
قال نصر حدثنا عمرو- قال حدثنا الحارث بن حصين عن أشياخ الأزد- أن مخنف بن سليم خطب- لما ندبت أزد العراق إلى قتال أزد الشام- فقال الحمد لله و الصلاة على محمد رسوله- ثم قال إن من الخطب الجليل و البلاء العظيم- إنا صرفنا إلى قومنا و صرفوا إلينا- و الله ما هي إلا أيدينا نقطعها بأيدينا- و ما هي إلا أجنحتنا نحذفها بأسيافنا- فإن نحن لم نفعل لم نناصح صاحبنا- و لم نواس جماعتنا و إن نحن فعلنا- فعزنا آلمنا و نارنا أخمدنا- . و قال جندب بن زهير الأزدي- و الله لو كنا آباؤهم ولدناهم- أو كانوا آباؤنا ولدونا- ثم خرجوا عن جماعتنا و طعنوا على إمامنا- و وازروا الظالمين الحاكمين بغير الحق- على أهل ملتنا و ديننا- ما افترقنا بعد إن اجتمعنا- حتى يرجعوا عما هم عليه- و يدخلوا فيما ندعوهم إليه- أو تكثر القتلى بيننا و بينهم- .
فقال مخنف أعزبك الله في التيه- و الله ما علمتك صغيرا و لا إلا كبيرا مشئوما- و الله ما ميلنا في الرأي بين أمرين قط- أيهما نأتي و أيهما ندع في جاهلية و لا إسلام-إلا اخترت أعسرهما و أنكدهما- اللهم أن تعافينا أحب إلي من أن تبتلينا- اللهم أعط كل رجل منا ما سألك- . فتقدم جندب بن زهير- فبارز أزديا من أزد الشام فقتله الشامي- . قال نصر و حدثنا عمرو عن الحارث بن حصين عن أشياخ الحي- أن عتبة بن جويرة قال يوم صفين لأهله و أصحابه- ألا إن مرعى الدنيا قد أصبح هشيما- و أصبح شجرها حصيدا و جديدها سملا و حلوها مرا- ألا و إني أنبئكم نبأ امرئ صادق- أني قد سئمت الدنيا و عزفت نفسي عنها- و لقد كنت أتمنى الشهادة و أتعرض لها في كل حين- فأبى الله إلا أن يبلغني هذا اليوم- إلا و إني متعرض ساعتي هذه لها- و قد طمعت ألا أحرمها- فما تنظرون عباد الله من جهاد أعداء الله- أخوف الموت القادم عليكم الذاهب بنفوسكم- أو من ضربة كف أو جبين بالسيف- أ تستبدلون الدنيا بالنظر إلى وجه الله- و مرافقة النبيين و الصديقين و الشهداء- و الصالحين في دار القرار- ما هذا بالرأي السديد- .
ثم قال يا إخوتاه- إني قد بعت هذه الدار بالدار التي أمامها- و هذا وجهي إليها لا يبرح الله وجوهكم- و لا يقطع أرحامكم- . فتبعه أخواه عبد الله و عوف- فقالا لا نطلب ورق العيش دونك قبح الله الدنيا بعدك- اللهم إنا نحتسب أنفسنا عندك- . فاستقدموا جميعا و قاتلوا حتى قتلوا- .
قال نصر و حدثنا عمرو قال- حدثني رجل من آل الصلت بن خارجة- أن تميما لما ذهبت لتهزم ذلك اليوم- ناداهم مالك بن حري النهشلي- ضاع الضراب اليوم و الذي إنا له عبد يا بني تميم- فقالوا أ لا ترى الناس قد انهزموا- فقال ويحكم أ فرارا و اعتذارا- ثم نادى بالأحساب فجعل يكررها- فقال له قوم منهم أ تنادي بنداء الجاهلية- إن هذا لا يحل فقال الفرار ويلكم أقبح- إن لم تقاتلوا على الدين و اليقين فقاتلوا على الأحساب- ثم جعل يقاتل و يرتجز فيقول-
إن تميما أخلفت عنك ابن مر
و قد أراهم و هم الحي الصبر
فإن يفروا أو يخيموا لا أفر
فقتل مالك ذلك اليوم- أخوه نهشل بن حري التميمي يرثيه-
تطاول هذا الليل ما كاد ينجلي
كليل التمام ما يريد انصراما
و بت بذكرى مالك بكآبة
أؤرق من بعد العشاء نياما
أبى جزعي في مالك غير ذكره
فلا تعذليني إن جزعت أماما
فأبكي أخي ما دام صوت حمامة
يؤرق من وادي البطاح حماما
و أبعث أنواحا عليه بسحرة
و تذرف عيناي الدموع سجاما
و أدعو سراة الحي تبكي لمالك
و أبعث نوحا يلتدمن قياما
يقلن ثوى رب السماحة و الحجا
و ذو عزة يأبى بها أن يضاما
و فارس خيل لا تنازل خيله
إذا اضطرمت نار العدو ضراما
و أحيا عن الفحشاء من ذات كلة
يرى ما يهاب الصالحون حراما
و أجرأ من ليث بخفان مخدر
و أمضي إذا رام الرجال صداما
و قال أيضا يرثيه-
بكى الفتى الأبيض البهلول سنته
عند النداء فلا نكسا و لا ورعا
بكى على مالك الأضياف إذ نزلوا
حين الشتاء و عز الرسل فانقطعا
و لم يجد لقراهم غير مربعة
من العشار تزجي تحتها ربعا
أهوى لها السيف صلتا و هي راتعة
فأوهن السيف عظم الساق فانجذعا
فجاءهم بعد رفد الناس أطيبها
و أشبعت منهم من نام و اضطجعا
يا فارس الروع يوم الروع قد علموا
و صاحب العزم لا نكسا و لا طبعا
و مدرك التبل في الأعداء يطلبه
و إن طلبت بتبل عنده منعا
قالوا أخوك أتى الناعي بمصرعه
فانشق قلبي غدة القول فانصدعا
ثم ارعوى القلب شيئا بعد طربته
و النفس تعلم أن قد أثبتت وجعا
قال نصر و حدثنا عمرو قال- حدثني يونس بن أبي إسحاق قال- قال لنا أدهمبن محرز الباهلي و نحن معه بأذرح- هل رأى أحد منكم شمر بن ذي الجوشن- فقال عبد الله بن كبار النهدي- و سعيد بن حازم البلوي نحن رأيناه- قال فهل رأيتما ضربة بوجهه قالا نعم- قال أنا و الله ضربته تلك الضربة بصفين- .
قال نصر و حدثنا عمرو قال- قد كان خرج أدهم بن محرز من أصحاب معاوية- إلى شمر بن ذي الجوشن في هذا اليوم- فاختلفا ضربتين فضربه أدهم على جبينه- فأسرع فيه السيف حتى خالط العظم- و ضربه شمر فلم يصنع شيئا فرجع إلى عسكره- فشرب ماء و أخذ رمحا ثم أقبل و هو يقول-
إني زعيم لأخي باهله
بطعنة إن لم أمت عاجله
و ضربة تحت الوغى فاصله
شبيهة بالقتل أو قاتله
ثم حمل على أدهم و هو يعرف وجهه- و أدهم ثابت له لم ينصرف فطعنه- فوقع عن فرسه و حال أصحابه دونه- فانصرف شمر و قال هذه بتلك- . قال نصر و خرج سويد بن قيس بن يزيد الأرحبي- من عسكر معاوية يسأل المبارزة- فخرج إليه من عسكر العراق- أبو العمرطة قيس بن عمرو بن عمير بن يزيد- و هو ابن عم سويد- و كان كل منهما لا يعرف صاحبه- فلما تقاربا تعارفا و تواقفا و تساءلا- و دعا كل واحد منهما صاحبه إلى دينه- فقال أبو العمرطة أما أنا فو الله الذي لا إله إلا هو- لئن استطعت لأضربن بسيفي هذه القبة البيضاء- يعني القبة التي كان فيها معاوية- ثم انصرف كل واحد منهما إلى أصحابه- .
قال نصر ثم خرج رجل من عسكر الشام- من أزد شنوءه يسأل المبارزة- فخرج إليه رجل من أهل العراق فقتله الأزدي- فخرج إليه الأشتر فما ألبثه أن قتله- فقال قائل كان هذا ريحا فصارت إعصارا- . قال نصر و قال رجل من أصحاب علي ع- أما و الله لأحملن على معاوية حتى أقتله- فركب فرسا ثم ضربه حتى قام على سنابكه- ثم دفعه فلم ينهنهه شيء عن الوقوف على رأس معاوية- فهرب معاوية و دخل خباء- فنزل الرجل عن فرسه و دخل عليه- فخرج معاوية من جانب الخباء الآخر- فخرج الرجل في أثره- فاستصرخ معاوية بالناس فأحاطوا به و حالوا بينهما- فقال معاوية ويحكم- إن السيوف لم يؤذن لها في هذا- و لو لا ذلك لم يصل إليكم فعليكم بالحجارة- فرضخوه بالحجارة حتى همد فعاد معاوية إلى مجلسه- قال نصر و حمل رجل من أصحاب علي ع يدعى أبا أيوب- و ليس بأبي أيوب الأنصاري على صف أهل الشام- ثم رجع فوافق رجلا من أهل الشام صادرا- قد حمل على صف أهل العراق ثم رجع فاختلفا ضربتين- فنفحه أبو أيوب بالسيف- فأبان عنقه فثبت رأسه على جسده كما هو- و كذب الناس أن يكون هو ضربه فأرابهم ذلك- حتى إذا أدخلته فرسه في صف أهل الشام ندر رأسه- و وقع ميتا- فقال علي ع- و الله لأنا من ثبات رأس الرجل أشد تعجبا من الضربة- و إن كان إليها ينتهي وصف الواصفين- . و جاء أبو أيوب فوقف بين يدي علي ع- فقال له أنت و الله كما قال الشاعر-
و علمنا الضرب آباؤنا
و نحن نعلم أيضا بنينا
قال نصر فلما انقضى هذا اليوم بما فيه- أصبحوا في اليوم الثامن من صفين و الفيلقان متقابلان- فخرج رجل من أهل الشام فسأل المبارزة- فخرج إليه رجل من أهل العراق-فاقتتلا بين الصفين قتالا شديدا- ثم إن العراقي اعتنقه فوقعا جميعا و غار الفرسان- ثم إن العراقي قهره فجلس على صدره- و كشف المغفر عنه يريد ذبحه- فإذا هو أخوه لأبيه و أمه- فصاح به أصحاب علي ع ويحك أجهز عليه- قال إنه أخي قالوا فاتركه- قال لا و الله حتى يأذن أمير المؤمنين- فأخبر علي ع بذلك فأرسل إليه أن دعه فتركه- فقام فعاد إلى صف معاوية- . قال نصر و حدثنا محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال- كان فارس معاوية- الذي يعده لكل مبارز و لكل عظيم حريث مولاه- و كان يلبس سلاح معاوية متشبها به- فإذا قاتل قال الناس ذاك معاوية- و إن معاوية دعاه فقال له يا حريث اتق عليا- و ضع رمحك حيث شئت- فأتاه عمرو بن العاص فقال يا حريث- إنك و الله لو كنت قرشيا لأحب لك معاوية أن تقتل عليا- و لكن كره أن يكون لك حظها- فإن رأيت فرصة فاقتحم- قال و خرج علي ع في هذا اليوم أمام الخيل- فحمل عليه حريث- .
قال نصر فحدثني عمرو بن شمر عن جابر قال برز حريث مولى معاوية هذا اليوم- و كان شديدا أيدا ذا بأس لا يرام- فصاح يا علي هل لك في المبارزة- فأقدم أبا حسن إن شئت- فأقبل علي ع و هو يقول-
أنا علي و ابن عبد المطلب
نحن لعمر الله أولى بالكتب
منا النبي المصطفى غير كذب
أهل اللواء و المقام و الحجب
نحن نصرناه على كل العرب
ثم خالطه فما أمهله أن ضربه ضربة واحدة فقطعه نصفين- . قال نصر فحدثنا محمد بن عبيد الله قال- حدثني الجرجاني قال- جزع معاوية على حريث جزعا شديدا- و عاتب عمرا في إغرائه إياه بعلي ع- و قال في ذلك شعرا-
حريث أ لم تعلم و جهلك ضائر
بأن عليا للفوارس قاهر
و أن عليا لم يبارزه فارس
من الناس إلا أقصدته الأظافر
أمرتك أمرا حازما فعصيتني
فجدك إذ لم تقبل النصح عاثر
و دلاك عمرو و الحوادث جمة
غرورا و ما جرت عليك المقادر
و ظن حريث أن عمرا نصيحه
و قد يهلك الإنسان من لا يحاذر
قال نصر فلما قتل حريث برز عمرو بن الحصين السكسكي- فنادى يا أبا حسن هلم إلى المبارزة- فأومأ ع إلى سعيد بن قيس الهمداني- فبارزه فضربه بالسيف فقتله- .و قال نصر و كان لهمدان بلاء عظيم في نصره علي ع في صفين- و من الشعر الذي لا يشك أن قائله علي ع لكثرة الرواة له-
دعوت فلباني من القوم عصبة
فوارس من همدان غير لئام
فوارس من همدان ليسوا بعزل
غداة الوغى من شاكر و شبام
بكل رديني و عضب تخاله
إذا اختلف الأقوام شعل ضرام
لهمدان أخلاق كرام تزينهم
و بأس إذا لاقوا و حد خصام
و جد و صدق في الحروب و نجدة
و قول إذا قالوا بغير أثام
متى تأتهم في دارهم تستضيفهم
تبت ناعما في خدمة و طعام
جزى الله همدان الجنان فإنها
سمام العدا في كل يوم زحام
فلو كنت بوابا على باب جنة
لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
قال نصر فحدثني عمرو بن شمر قال- ثم قام علي ع بين الصفين و نادى يا معاوية يكررها- فقال معاوية سلوه ما شأنه- قال أحب أن يظهر لي فأكلمه كلمة واحدة- فبرز معاوية و معه عمرو بن العاص- فلما قارباه لم يلتفت إلى عمرو- و قال لمعاوية ويحك علام يقتل الناس بيني و بينك- و يضرب بعضهم بعضا- ابرز إلي فأينا قتل صاحبه فالأمر له- فالتفت معاوية إلى عمرو فقال ما ترى يا أبا عبد الله- قال قد أنصفك الرجل- و اعلم أنك إن نكلت عنه لم يزل سبه عليك و على عقبك- ما بقي على ظهر الأرض عربي- فقال معاوية يا ابن العاص ليس مثلي يخدع عن نفسه- و الله ما بارز ابن أبي طالب شجاع قط إلا و سقي الأرض من دمه- ثم انصرف معاوية راجعا- حتى انتهى إلى آخر الصفوف و عمرو معه- فلما رأى علي ع ذلك ضحك و عاد إلى موقفه- . قال نصر و في حديث الجرجاني أن معاوية قال لعمرو- ويحك ما أحمقك تدعوني إلى مبارزته- و دوني عك و جذام و الأشعرون- . قال نصر قال و حقدها معاوية على عمرو باطنا- و قال له ظاهرا- ما أظنك قلت ما قلته يا أبا عبد الله إلا مازحا- فلما جلس معاوية مجلسه- أقبل عمرو يمشي حتى جلس إلى جانبه فقال معاوية-
يا عمرو إنك قد قشرت لي العصا
برضاك لي وسط العجاج برازي
يا عمرو إنك قد أشرت بظنة
حسب المبارز خطفة من بازي
و لقد ظننتك قلت مزحة مازح
و الهزل يحمله مقال الهازي
فإذا الذي منتك نفسك حاكيا
قتلي جزاك بما نويت الجازي
و لقد كشفت قناعها مذمومة
و لقد لبست بها ثياب الخازي
فقال عمرو أيها الرجل أ تجبن عن خصمك و تتهم نصيحك- و قال مجيبا له
معاوي إن نكلت عن البراز
و خفت فإنها أم المخازي
معاوي ما اجترمت إليك ذنبا
و لا أنا في الذي حدثت خازي
و ما ذنبي بأن نادى علي
و كبش القوم يدعى للبراز
و لو بارزته بارزت ليثا
حديد الناب يخطف كل بازي
و تزعم أنني أضمرت غشا
جزاني بالذي أضمرت جازي
و روى ابن قتيبة في كتابه المسمى عيون الأخبار قال- قال أبو الأغر التميمي- بينا أنا واقف بصفين مر بي العباس- بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- مكفرا بالسلاح و عيناه تبصان من تحت المغفر- كأنهما عينا أرقم و بيده صفيحة يمانية يقلبها- و هو على فرس له صعب- فبينا هو يمغثه و يلين من عريكته- هتف به هاتف من أهل الشام يعرف بعرار بن أدهم- يا عباس هلم إلى البراز- قال العباس فالنزول إذا فإنه إياس من القفول- فنزل الشامي و هو يقول-
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا
أو تنزلون فإنا معشر نزل
و ثنى العباس رجله و هو يقول-
و يصد عنك مخيلة الرجل العريض
موضحة عن العظم
بحسام سيفك أو لسانك و الكلم
الأصيل كأرغب الكلم
ثم عصب فضلات درعه في حجزته- و دفع فرسه إلى غلام له أسود يقال له أسلم-كأني و الله أنظر إلى فلافل شعره- ثم دلف كل واحد منهما إلى صاحبه- فذكرت قول أبي ذؤيب-
فتنازلا و تواقفت خيلاهما
و كلاهما بطل اللقاء مخدع
و كفت الناس أعنة خيولهم ينظرون ما يكون من الرجلين- فتكافحا بسيفيهما مليا من نهارهما- لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لأمته- إلى أن لحظ العباس وهنا في درع الشامي- فأهوى إليه بيده فهتكه إلى ثندوته- ثم عاد لمجاولته و قد أصحر له مفتق الدرع- فضربه العباس ضربة انتظم بها جوانح صدره- فخر الشامي لوجهه- و كبر الناس تكبيرة ارتجت لها الأرض من تحتهم- و سما العباس في الناس فإذا قائل يقول من ورائي- قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ- وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ- وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ- وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ- فالتفت فإذا أمير المؤمنين-
فقال لي يا أبا الأغر من المنازل لعدونا- قلت هذا ابن أخيكم هذا العباس بن ربيعة- فقال و إنه لهو يا عباس أ لم أنهك و ابن عباس- أن تخلا بمراكزكما و أن تباشرا حربا- قال إن ذلك كان قال فما عدا مما بدا- قال يا أمير المؤمنين أ فأدعى إلى البراز فلا أجيب- قال نعم طاعة إمامك أولى من إجابة عدوك- ثم تغيظ و استطار حتى قلت الساعة الساعة- ثم سكن و تطامن و رفع يديه مبتهلا فقال- اللهم اشكر للعباس مقامه و اغفر ذنبه- إني قد غفرت له فاغفر له- قال و لهف معاوية على عرار و قال- متى ينتطح فحل لمثله أ يطل دمه لاها الله إذا- ألا رجل يشري نفسه لله يطلب بدم عرار- فانتدب له رجلان من لخم
فقال لهما اذهبا فأيكما قتل العباس برازا فله كذا- فأتياه فدعواه للبراز- فقال إن لي سيدا أريد أن أؤامره- فأتى عليا ع فأخبره الخبر-
فقال ع و الله لود معاوية أنه ما بقي من بني هاشم نافخ ضرمة- إلا طعن في بطنه- إطفاء لنور الله و يأبى الله إلا أن يتم نوره- و لو كره المشركون- أما و الله ليملكنهم منا رجال و رجال يسومونهم الخسف- حتى يحتفروا الآبار و يتكففوا الناس- و يتوكلوا على المساحي- ثم قال يا عباس ناقلني سلاحك بسلاحي فناقله و وثب على فرس العباس و قصد اللخميين- فما شكا أنه هو فقالا إذن لك صاحبك- فحرج أن يقول نعم فقال- إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا- و إن الله على نصرهم لقدير- فبرز إليه أحدهما فكأنما اختطفه- ثم برز له الآخر فألحقه بالأول ثم أقبل و هو يقول- الشهر الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص- فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم- ثم قال يا عباس خذ سلاحك و هات سلاحي- فإن عاد لك أحد فعد إلي- . قال فنمي الخبر إلى معاوية فقال قبح الله اللجاج- إنه لقعود ما ركبته قط إلا خذلت- .
فقال عمرو بن العاص- المخذول و الله اللخميان لا أنت- فقال اسكت أيها الرجل و ليست هذه من ساعاتك- قال و إن لم يكن فرحم الله اللخميين و ما أراه يفعل- قال فإن ذاك و الله أخسر لصفقتك و أضيق لحجزتك- . قال قد علمت ذاك و لو لا مصر لركبت المنجاة منها- قال هي أعمتك و لولاها ألقيت بصيرا- .
قال نصر بن مزاحم و حدثنا عمرو قال- حدثني فضيل بن خديج قال- خرج رجل من أهل الشام يدعو إلى المبارزة- فخرج إليه عبد الرحمن بن محرز الكندي ثم الطمحي- فتجاولا ساعة- ثم إن عبد الرحمن حمل على الشامي- فطعنه في نقرة نحره فصرعه- ثم نزل إليه فسلبه درعه و سلاحه- فإذا هو عبد أسود- فقال إنا لله أخطرت نفسي بعبد أسود- قال و خرج رجل من عك فسأل البراز- فخرج إليه قيس بن فهران الكندي- فما ألبثه أن طعنه فقتله و قال-
لقد علمت عك بصفين أننا
إذا ما تلاقى الخيل نطعنها شزرا
و نحمل رايات القتال بحقها
فنوردها بيضا و نصدرها حمرا
قال و حمل عبد الله بن الطفيل البكائي على صفوف أهل الشام- فلما انصرف حمل عليه رجل من بني تميم- يقال له قيس بن فهد الحنظلي اليربوعي- فوضع الرمح بين كتفي عبد الله- فاعترضه يزيد بن معاوية البكائي- ابن عم عبد الله بن الطفيل فوضع الرمح بين كتفي التميمي- و قال و الله لئن طعنته لأطعننك- فقال عليك عهد الله- لئن رفعت السنان عن ظهر صاحبك لترفعنه عن ظهري- قال نعم لك العهد و الميثاق بذلك- فرفع السنان عن ظهر عبد الله- فرفع يزيد السنان عن التميمي- فوقف التميمي و قال ليزيد ممن أنت قال من بني عامر- قال جعلني الله فداكم أينما لقيناكم كراما- أما و الله إني لآخر أحد عشر رجلا من بني تميم- قتلتموهم اليوم- . قال نصر- فبعد ذلك بدهر عتب يزيد على عبد الله بن الطفيل- فأذكره ما صنع معه يوم صفين فقال-
أ لم ترني حاميت عنك مناصحا
بصفين إذ خلاك كل حميم
و نهنهت عنك الحنظلي و قد أتى
على سابح ذي ميعة و هزيم
قال نصر و خرج ابن مقيدة الحمار الأسدي- و كان ذا بأس و شجاعة و هو من فرسان الشام- فطلب البراز فقام المقطع العامري و كان شيخا كبيرا- فقال علي ع له اقعد- فقال يا أمير المؤمنين لا تردني- إما أن يقتلني فأتعجل الجنة- و أستريح من الحياة الدنيا في الكبر و الهرم- أو أقتله فأريحك منه- . و قال له ع ما اسمك فقال المقطع- قال ما معنى ذلك- قال كنت أدعى هشيما فأصابتني جراحة منكرة- فدعيت المقطع منها- فقال له ع اخرج إليه و أقدم عليه- اللهم انصر المقطع على ابن مقيدة الحمار- فحمل على ابن مقيدة الحمار فأدهشه لشدة الحملة- فهرب و هو يتبعه حتى مر بمضرب معاوية حيث يراه- و المقطع على أثره فجاوزا معاوية بكثير- فلما رجع المقطع و رجع ابن مقيدة الحمار- ناداه معاوية لقد شمص بك العراقي- قال أما إنه قد فعل أيها الأمير- ثم عاد المقطع فوقف في موقفه- .
قال نصر فلما كان عام الجماعة و بايع الناس معاوية- سأل عن المقطع العامري حتى أدخل عليه و هو شيخ كبير- فلما رآه قال آه لو لا أنك على مثل هذه الحال لما أفلت مني- قال نشدتك الله إلا قتلتني و أرحتني من بؤس الحياة- و أدنيتني إلى لقاء الله- قال إني لا أقتلك و إن بي إليك لحاجة- قال ما هي قال أحب أن تؤاخيني- قال أنا و إياكم افترقنا في الله- فلا نجتمع حتى يحكم الله بيننا في الآخرة- .
قال فزوجني ابنتك- قال قد منعتك ما هو أهون علي من ذلك- قال فاقبل مني صلة قال لا حاجة لي فيما قبلك- . قال فخرج من عنده و لم يقبل منه شيئا- . قال نصر ثم التقى الناس فاقتتلوا قتالا شديدا- و حاربت طيئ مع أمير المؤمنين ع حربا عظيما- و تداعت و ارتجزت فقتل منها أبطال كثيرون- و فقئت عين بشر بن العوس الطائي- و كان من رجال طيئ و فرسانها- فكان يذكر بعد ذلك أيام صفين فيقول- وددت أني كنت قتلت يومئذ- و وددت أن عيني هذه الصحيحة فقئت أيضا- و قال
ألا ليت عيني هذه مثل هذه
و لم امش بين الناس إلا بقائد
و يا ليت رجلي ثم طنت بنصفها
و يا ليت كفي ثم طاحت بساعدي
و يا ليتني لم أبق بعد مطرف
و سعد و بعد المستنير بن خالد
فوارس لم تغد الحواضن مثلهم
إذا هي أبدت عن خدام الخرائد
قال نصر- و أبلت محارب يومئذ مع أمير المؤمنين ع بلاء حسنا- و كان عنتر بن عبيد بن خالد بن المحاربي- أشجع الناس يومئذ- فلما رأى أصحابه متفرقين ناداهم- يا معشر قيس أ طاعة الشيطان أبر عندكم من طاعة الرحمن- ألا إن الفرار فيه معصية الله و سخطه- و إن الصبر فيه طاعة و رضوانه- أ فتختارون سخط الله على رضوانه و معصيته على طاعته- ألا إنما الراحة بعد الموت لمن مات محتسبا لنفسه- ثم يرتجز فيقول-
لا وألت نفس امرئ ولى الدبر
أنا الذي لا أنثني و لا أفر
و لا يرى مع المعازيل الغدر
و قاتل حتى ارتث- . قال نصر- و قاتلت النخع مع علي ع ذلك اليوم قتالا شديدا- و قطعت رجل علقمة بن قيس النخعي و قتل أخوه أبي بن قيس- فكان علقمة يقول بعد- ما أحب أن رجلي أصح ما كانت لما أرجو بها من حسن الثواب- و كان يقول لقد كنت أحب أن أبصر أخي في نومي- فرأيته فقلت له يا أخي ما الذي قدمتم عليه- فقال لي التقينا نحن و أهل الشام بين يدي الله سبحانه- فاحتججنا عنده فحججناهم- فما سررت بشيء منذ عقلت سروري بتلك الرؤيا- .
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن سويد بن حبة البصري- عن الحضين بن المنذر الرقاشي قال إن ناسا أتوا عليا ع قبل الوقعة في هذا اليوم- فقالوا له إنا لا نرى خالد بن المعمر السدوسي- إلا قد كاتب معاوية و قد خشينا أن يلتحق به و يبايعه- فبعث إليه علي ع و إلى رجال من أشراف ربيعة- فجمعهم فحمد الله و أثنى عليه- و قال يا معشر ربيعة أنتم أنصاري و مجيبو دعوتي- و من أوثق أحياء العرب في نفسي- و قد بلغني أن معاوية قد كاتب صاحبكم هذا- و هو خالد بن المعمر و قد أتيت به- و جمعتكم لأشهدكم عليه و تسمعوا مني و منه- ثم أقبل عليه فقال يا خالد بن المعمر- إن كان ما بلغني عنك حقا- فإني أشهد من حضرني من المسلمين أنك آمن- حتى تلحق بالعراق أو بالحجاز- أو بأرض لا سلطان لمعاوية فيها- و إن كنت مكذوبا عليك- فأبر صدورنا بإيمان نطمئن إليها- فحلف له خالد بالله ما فعل- و قال رجال منا كثير- و الله يا أمير المؤمنين لو نعلم أنه فعل لقتلناه- .
و قال شقيق بن ثور السدوسي- ما وفق الله خالد بن المعمر- حين ينصر معاوية و أهل الشام- على علي و أهل العراق و ربيعة- فقال له زياد بن خصفة- يا أمير المؤمنين استوثق من ابن المعمر بالأيمان- لا يغدر بك- فاستوثق منه ثم انصرفوا- . فلما تصاف الناس في هذا اليوم و حمل بعضهم على بعض- تضعضعت ميمنة أهل العراق- فجاءنا علي ع و معه بنوه حتى انتهى إلينا- فنادى بصوت عال جهير لمن هذه الرايات- فقلنا رايات ربيعة- فقال بل هي رايات الله عصم الله أهلها- و صبرهم و ثبت أقدامهم- ثم قال لي و أنا حامل راية ربيعة يومئذ يا فتى- أ لا تدني رايتك هذه ذراعا- فقلت بلى و الله و عشرة أذرع ثم ملت بها هكذا فأدنيتها- فقال لي حسبك مكانك- . قال نصر و حدثنا عمرو قال- حدثني يزيد بن أبي الصلت التيمي قال- سمعت أشياخ الحي من بني تيم بن ثعلبة يقولون- كانت راية ربيعة كلها كوفيتها و بصريتها- مع خالد بن المعمر السدوسي من ربيعة البصرة- ثم نافسه في الراية شقيق بن ثور- من بكر بن وائل من أهل الكوفة- فاصطلحا على أن يوليا الراية- لحضين بن المنذر الرقاشي و هو من أهل البصرة أيضا- و قالوا هذا فتى له حسب- تعطيه الراية إلى أن نرى رأينا- و كان الحضين يومئذ شابا حدث السن- .
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر قال أقبل الحضين بن المنذر يومئذ- و هو غلام يزحف براية ربيعة و كانت حمراء- فأعجب عليا ع زحفه و ثباته- فقال
لمن راية حمراء يخفق ظلها
إذا قيل قدمها حضين تقدما
و يدنو بها في الصف حتى يزيرها
حمام المنايا تقطر الموت و الدما
تراه إذا ما كان يوم عظيمة
أبى فيه إلا عزة و تكرما
جزى الله قوما صابروا في لقائهم
لدى الناس حرا ما أعف و أكرما
و أحزم صبرا يوم يدعى إلى الوغى
إذا كان أصوات الكمأة تغمغما
ربيعة أعني إنهم أهل نجدة
و بأس إذا لاقوا خميسا عرمرما
و قد صبرت عك و لحم و حمير
لمذحج حتى لم يفارق دم دما
و نادت جذام يا ل مذحج ويحكم
جزى الله شرا أينا كان أظلما
أ ما تتقون الله في حرماتكم
و ما قرب الرحمن منها و عظما
أذقنا ابن حرب طعننا و ضرابنا
بأسيافنا حتى تولى و أحجما
و فر ينادى الزبرقان و ظالما
و نادى كلاعا و الكريب و أنعما
و عمرا و سفيانا و جهما و مالكا
و حوشب و الغاوي شريحا و أظلما
و كرز بن تيهان و عمرو بن جحدر
و صباحا القيني يدعو و أسلما
قلت هكذا روى نصر بن مزاحم- و سائر الرواة رووا له ع الأبيات الستة الأولى- و رووا باقي الأبيات من قوله و قد صبرت عك- للحضين بن المنذر صاحب الراية- . قال نصر و أقبل ذو الكلاع في حمير و من لف لفها- و معهم عبيد الله بن عمربن الخطاب في أربعة آلاف- من قراء أهل الشام- و ذو الكلاع في حمير في الميمنة- و عبيد الله في القراء في الميسرة- فحملوا على ربيعة و هم في ميسرة أهل العراق- و فيهم عبيد الله بن العباس حملة شديدة- فتضعضعت رايات ربيعة- . ثم إن أهل الشام انصرفوا فلم يمكثوا إلا قليلا- حتى كروا ثانية و عبيد الله بن عمر في أوائلهم- يقول يا أهل الشام هذا الحي من العراق- قتله عثمان بن عفان و أنصار علي بن أبي طالب- و لئن هزمتم هذه القبيلة أدركتم ثأركم من عثمان- و هلك علي و أهل العراق- فشدوا على الناس شدة عظيمة فثبتت لهم ربيعة- و صبرت صبرا حسنا إلا قليلا من الضعفاء- .
فأما أهل الرايات و ذوو البصائر منهم و الحفاظ- فثبتوا و قاتلوا قتالا شديدا- و أما خالد بن المعمر فإنه لما رأى بعض أصحابه قد انصرفوا انصرف معهم- فلما رأى أهل الرايات ثابتين صابرين رجع إليهم- و صاح بمن انهزم و أمرهم بالرجوع- فكان من يتهمه من قومه يقول إنه فر- فلما رآنا قد ثبتنا رجع إلينا- و قال هو لما رأيت رجالا منا قد انهزموا- رأيت أن أستقبلهم ثم أردهم إلى الحرب فجاء بأمر مشتبه- .
قال نصر- و كان في جملة ربيعة من عنزة وحدها أربعة آلاف مجفف- . قلت لا ريب عند علماء السيرة- أن خالد بن المعمر كان له باطن سوء مع معاوية- و أنه انهزم هذا اليوم ليكسر الميسرة على علي ع- ذكر ذلك الكلبي و الواقدي و غيرهما- و يدل على باطنه هذا- أنه لما استظهرت ربيعة على معاوية- و على صفوف أهل الشام في اليوم الثاني من هذا- أرسل معاوية إلى خالد بن المعمر- أن كف عني و لك إمارة خراسان ما بقيت- فكف عنه فرجع بربيعة و قد شارفوا أخذه من مضربه- و سيأتي ذكر ذلك- .
قال نصر- فلما رجع خالد بن المعمر و استوت صفوف ربيعة كما كانت- خطبهم فقال يا معشر ربيعة- إن الله تعالى قد أتى بكل رجل منكم من منبته و مسقط رأسه- فجمعكم في هذا المكان جمعا لم تجتمعوا مثله قط- منذ أفرشكم الله الأرض- و إنكم إن تمسكوا أيديكم- و تنكلوا عن عدوكم و تحولوا عن مصافكم- لا يرضى الرب فعلكم- و لا تعدموا معيرا يقول فضحت ربيعة الذمار- و خاموا عن القتال و أتيت من قبلهم العرب- فإياكم أن يتشاءم بكم اليوم المسلمون- و إنكم إن تمضوا مقدمين و تصبروا محتسبين- فإن الإقدام منكم عادة و الصبر منكم سجية- فاصبروا و نيتكم صادقة تؤجروا- فإن ثواب من نوى ما عند الله- شرف الدنيا و كرامة الآخرة- و الله لا يضيع أجر من أحسن عملا- . فقام إليه رجل من ربيعة و قال- قد ضاع و الله أمر ربيعة حين جعلت أمرها إليك- تأمرنا ألا نحول و لا نزول- حتى نقتل أنفسنا و نسفك دماءنا- .
فقام إليه رجال من قومه فتناولوه بقسيهم- و لكزوه بأيديهم- و قالوا لخالد بن المعمر أخرجوا هذا من بينكم- فإن هذا أن بقي فيكم ضركم- و إن خرج منكم لم ينقصكم عددا- هذا الذي لا ينقص العدد و لا يملأ البلد- ترحك الله من خطيب قوم- لقد جنبك الخير قبح الله ما جئت به- .
قال نصر و اشتد القتال بين ربيعة و حمير- و عبيد الله بن عمر حتى كثرت القتلى- و جعل عبيد الله يحمل و يقول أنا الطيب ابن الطيب- فتقول له ربيعة بل أنت الخبيث ابن الطيب- . ثم خرج نحو خمسمائة فارس أو أكثر من أصحاب علي ع- على رءوسهم البيض و هم غائصون في الحديد- لا يرى منهم إلا الحدق- و خرج إليهم من أهل الشام نحوهم في العدة- فاقتتلوا بين الصفين و الناس وقوف تحت راياتهم- فلم يرجع من هؤلاء و لا من هؤلاء مخبر- لا عراقي و لا شامي قتلوا جميعا بين الصفين- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن تميم قال- نادى منادي أهل الشام- ألا إن معنا الطيب ابن الطيب عبيد الله بن عمر- فنادى منادي أهل العراق بل هو الخبيث ابن الطيب- و نادى منادي أهل العراق- ألا إن معنا الطيب ابن الطيب محمد بن أبي بكر- فنادى منادي أهل الشام بل الخبيث ابن الطيب- . قال نصر و كان بصفين تل تلقى عليه جماجم الرجال- فكان يدعى تل الجماجم- فقال عقبة بن مسلم الرقاشي من أهل الشام-
و لم أر فرسانا أشد حفيظة
و امنع منا يوم تل الجماجم
غداة غدا أهل العراق كأنهم
نعام تلافى في فجاج المخارم
إذا قلت قد ولوا تثوب كتيبة
ململمة في البيض شمط المقادم
و قالوا لنا هذا علي فبايعوا
فقلنا صه بل بالسيوف الصوارم
و قال شبث بن ربعي التميمي-
وقفنا لديهم يوم صفين بالقنا
لدن غدوة حتى هوت لغروب
و ولى ابن حرب و الرماح تنوشه
و قد أرضت الأسياف كل غضوب
نجالدهم طورا و طورا نشلهم
على كل محبوك السراة شبوب
فلم أر فرسانا أشد حفيظة
إذا غشي الآفاق رهج جنوب
أكر و أحمى بالغطاريف و القنا
و كل حديد الشفرتين قضوب
قال نصر ثم ذهب هذا اليوم بما فيه- فأصبحوا في اليوم التاسع من صفر- و قد خطب معاوية أهل الشام و حرضهم فقال- إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون و حضركم ما حضركم- فإذا نهدتم إليهم إن شاء الله فقدموا الدارع- و أخروا الحاسر و صفوا الخيل و أجنبوها- و كونوا كقص الشارب و أعيرونا جماجمكم ساعة- فإنما هو ظالم أو مظلوم و قد بلغ الحق مقطعه- . قال نصر و روى الشعبي- قال قام معاوية فخطب الناس بصفين في هذا اليوم- فقال الحمد لله الذي دنا في علوه و علا في دنوه- و ظهر و بطن و ارتفع فوق كل ذي منظر- هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن- يقضي فيفصل و يقدر فيغفر و يفعل ما يشاء- إذا أراد أمرا أمضاه و إذا عزم على شيء قضاه- لا يؤامر أحدا فيما يملك- و لا يسأل عما يفعل و هم يسألون- و الحمد لله رب العالمين على ما أحببنا و كرهنا- و قد كان فيما قضاه الله إن ساقتنا المقادير- إلى هذه البقعة من الأرض- و لف بيننا و بين أهل العراق- فنحن من الله بمنظر- و قد قال الله سبحانه وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا- وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ- . انظروا يا أهل الشام- إنكم غدا تلقون أهل العراق- فكونوا على إحدى ثلاث خصال- إما أن تكونوا قوما- طلبتم ما عند الله في قتال قوم بغوا عليكم- فأقبلوا من بلادهم حتى نزلوا في بيضتكم- و إما أن تكونوا قوما تطلبون بدم خليفتكم و صهر نبيكم- و إما أن تكونوا قوما تذبون عن نسائكم و أبنائكم- فعليكم بتقوى الله و الصبر الجميل- أسأل الله لنا و لكم النصر- و أن يفتح بيننا و بين قومنا بالحق و هو خير الفاتحين- . فقام ذو الكلاع فقال- يا معاوية إنا نحن الصبر الكرام لا ننثني عند الخصام- بنو الملوك العظام ذوي النهى و الأحلام- لا يقربون الآثام- . فقال معاوية صدقت- .
قال نصر- و كانت التعبية في هذا اليوم كالتعبية في الذي قبله- و حمل عبيد الله بن عمر في قراء أهل الشام- و معه ذو الكلاع في حمير على ربيعة- و هي في ميسرة علي ع فقاتلوا قتالا شديدا- فأتى زياد بن خصفة إلى عبد القيس- فقال لهم لا بكر بن وائل بعد اليوم- إن ذا الكلاع و عبيد الله أبادا ربيعة- فانهضوا لهم و إلا هلكوا- فركبت عبد القيس و جاءت كأنها غمامة سوداء- فشدت أزر الميسرة فعظم القتال- فقتل ذو الكلاع الحميري- قتله رجل من بكر بن وائل اسمه خندف- و تضعضعت أركان حمير- و ثبتت بعد قتل ذي الكلاع تحارب مع عبيد الله بن عمر- و أرسل عبيد الله إلى الحسن بن علي ع- أن لي إليك حاجة فالقني فلقيه الحسن ع- فقال له عبيد الله إن أباك قد وتر قريشا أولا و آخرا- و قد شنئه الناس- فهل لك في خلعه و أن تتولى أنت هذا الأمر- فقال كلا و الله لا يكون ذلك ثم قال يا ابن الخطاب- و الله لكأني أنظر إليك مقتولا في يومك أو غدك- أما إن الشيطان قد زين لك و خدعك- حتى أخرجك مخلقا بالخلوق ترى نساء أهل الشام موقفك- و سيصرعك الله و يبطحك لوجهك قتيلا- .
قال نصر فو الله ما كان إلا بياض ذلك اليوم- حتى قتل عبيد الله- و هو في كتيبة رقطاء و كانت تدعى الخضرية- كانوا أربعة آلاف عليهم ثياب خضر- فمر الحسن ع فإذا رجل متوسد برجل قتيل- قد ركز رمحه في عينه و ربط فرسه برجله- فقال الحسن ع لمن معه انظروا من هذا- فإذا رجل من همدان- و إذا القتيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب- قد قتله الهمداني في أول الليل- و بات عليه حتى أصبح- . قال نصر و قد اختلف الرواة في قاتل عبيد الله- فقالت همدان نحن قتلناه- قتله هانئ بن الخطاب الهمداني و ركز رمحه في عينه- و ذكر الحديث- و قالت حضرموت نحن قتلناه قتله مالك بن عمرو الحضرمي- و قالت بكر بن وائل نحن قتلناه- قتله محرزبن الصحصح من بني تيم اللات بن ثعلبة- و أخذ سيفه الوشاح- . فلما كان عام الجماعة- طلب معاوية السيف من ربيعة الكوفة فقالوا- إنما قتله رجل من ربيعة البصرة- يقال له محرز بن الصحصح- فبعث إليه معاوية فأخذ السيف منه- . قال نصر و قد روي أن قاتله حريث بن جابر الحنفي- و كان رئيس بني حنيفة يوم صفين مع علي ع- حمل عبيد الله بن عمر على صف بني حنيفة و هو يقول-
أنا عبيد الله ينميني عمر
خير قريش من مضى و من غبر
إلا رسول الله و الشيخ الأغر
قد أبطأت عن نصر عثمان مضر
و الربعيون فلا أسقوا المطر
و سارع الحي اليمانون الغرر
و الخير في الناس قديما يبتدر
فحمل عليه حريث بن جابر الحنفي و قال-
قد سارعت في نصرها ربيعة
في الحق و الحق لها شريعة
فاكفف فلست تارك الوقيعة
في العصبة السامعة المطيعة
حتى تذوق كأسها الفظيعة
و طعنه فصرعه- . قال نصر فقال كعب بن جعيل التغلبي يرثي عبيد الله- و كان كعب شاعر أهل الشام-
ألا إنما تبكي العيون لفارس
بصفين أجلت خيله و هو واقف
تبدل من أسماء أسياف وائل
و أي فتى لو أخطأته المتالف
تركتم عبيد الله في القاع مسلما
يمج دماء و العروق نوازف
ينوء و تغشاه شآبيب من دم
كما لاح في جيب القميص الكفائف
دعاهن فاستسمعن من أين صوته
فأقبلن شتى و العيون ذوارف
تحللن عنه زر درع حصينة
و ينكر منه بعد ذاك معارف
و قرت تميم سعدها و ربابها
و خالفت الخضراء فيمن يخالف
و قد صبرت حول ابن عم محمد
لدى الموت شهباء المناكب شارف
بمرج ترى الرايات فيه كأنها
إذا جنحت للطعن طير عواكف
فما برحوا حتى رأى الله صبرهم
و حتى أسرت بالأكف المصاحف
جزى الله قتلانا بصفين خير ما
أثيب عباد غادرتها المواقف
قلت هذا الشعر نظمه كعب بن جعيل- بعد رفع المصاحف و تحكيم الحكمين- يذكر فيه ما مضى لهم من الحرب على عادة شعراء العرب- و الضمير في قوله دعاهن فاستسمعن من أين صوته- يرجع إلى نساء عبيد الله- و كانت تحته أسماء بنت عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي و بحرية بنت هانئ بن قبيصة الشيباني- و كان عبيد الله قد أخرجهما معه إلى الحرب ذلك اليوم- لينظرا إلى قتاله فوقفتا راجلتين- و إلى أسماء بنت عطارد أشار كعب بن جعيل بقوله- تبدل من أسماء أسياف وائل- . و الشعر يدل على أن ربيعة قتلته لا همدان و لا حضرموت- . و يدل أيضا على ذلك ما رواه إبراهيم بن ديزيل الهمداني- في كتاب صفين قال شدت ربيعة الكوفة و عليها زياد بن خصفة- على عبيد الله بن عمر ذلك اليوم- و كان معاوية قد أقرع بين الناس- فخرج سهم عبيد الله بن عمر على ربيعة فقتلته- فلما ضرب فسطاط زياد بن خصفة- بقي طنب من الأطناب لم يجدوا له وتدا- فشدوه برجل عبيد الله بن عمر- و كان ناحية فجروه حتى ربطوا الطنب برجله- و أقبلت امرأتاه حتى وقفتا عليه فبكتا عليه و صاحتا- فخرج زياد بن خصفة فقيل له- هذه بحرية ابنة هانئ بن قبيصة الشيباني ابنة عمك- فقال لها ما حاجتك يا ابنة أخي قالت تدفع زوجي إلي- فقال نعم خذيه فجيء ببغل فحملته عليه- فذكروا أن يديه و رجليه خطتا بالأرض عن ظهر البغل- . قال نصر و مما رثى به كعب بن جعيل عبيد الله بن عمر قوله-
يقول عبيد الله لما بدت له
سحابة موت تقطر الحتف و الدما
ألا يا لقومي فاصبروا إن صبركم
أعف و أحجى عفة و تكرما
فلما تدانى القوم خر مجدلا
صريعا تلاقى الترب كفيه و الفما
و خلف أطفالا يتامى أذلة
و عرسا عليه تسكب الدمع أيما
حلالا لها الخطاب لا يمنعنهم
و قد كان يحمي غيره أن تكلما
و قال الصلتان العبدي يذكر مقتل عبيد الله- و أن حريث بن جابر الحنفي قتله-
ألا يا عبيد الله ما زلت مولعا
ببكر لها تهدي القرى و التهددا
و كنت سفيها قد تعودت عادة
و كل امرئ جار على ما تعودا
فأصبحت مسلوبا على شر آلة
صريع القنا تحت العجاجة مفردا
تشق عليك جيبها ابنة هانئ
مسلبة تبدي الشجا و التلددا
و كانت ترى ذا الأمر قبل عيانه
و لكن حكم الله أهدى لك الردى
و قالت عبيد الله لا تأت وائلا
فقلت لها لا تعجلي و انظري غدا
فقد جاء ما قد مسها فتسلبت
عليك و أمسى الجيب منها مقددا
حباك أخو الهيجا حريث بن جابر
بجياشة تحكي بها النهر مزبدا
كان حماة الحي بكر بن وائل
بذي الرمث أسد قد تبوأن غرقدا
قال نصر فأما ذو الكلاع فقد ذكرنا مقتله- و أن قاتله خندف البكري- . و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال- لما حمل ذو الكلاع ذلك اليوم بالفيلق العظيم من حمير- على صفوف أهل العراق- ناداهم أبو شجاع الحميري و كان من ذوي البصائر مع علي ع- فقال يا معشر حمير تبت أيديكم- أ ترون معاوية خيرا من علي ع أضل الله سعيكم- ثم أنت يا ذا الكلاع قد كنا نرى أن لك نية في الدين- فقال ذو الكلاع إيها يا أبا شجاع- و الله إني لأعلم ما معاوية بأفضل من علي ع- و لكني أقاتل على دم عثمان- قال فأصيب ذو الكلاع حينئذ- قتله خندف بن بكر البكري في المعركة- . قال نصر فحدثنا عمرو قال- حدثنا الحارث بن حصيرة أن ابن ذي الكلاع-أرسل إلى الأشعث بن قيس رسولا- يسأله أن يسلم إليه جثة أبيه- فقال الأشعث إني أخاف أن يتهمني أمير المؤمنين في أمره- فأطلبه من سعيد بن قيس فهو في الميمنة- فذهب إلى معاوية فاستأذنه أن يدخل إلى عسكر علي ع- يطلب أباه بين القتلى- فقال له إن عليا قد منع أن يدخل أحد منا إلى معسكره- يخاف أن يفسد عليه جنده- فخرج ابن ذي الكلاع- فأرسل إلى سعيد بن قيس الهمداني يستأذنه في ذلك- فقال سعيد إنا لا نمنعك من دخول العسكر- إن أمير المؤمنين لا يبالي من دخل منكم إلى معسكره- فأدخل فدخل من قبل الميمنة فطاف فلم يجده- ثم أتى الميسرة فطاف فلم يجده- ثم وجده و قد ربطت رجله بطنب- من أطناب بعض فساطيط العسكر- فجاء فوقف على باب الفسطاط- فقال السلام عليكم يا أهل البيت- فقيل له و عليك السلام- فقال أ تأذنون لنا في طنب من أطناب فسطاطكم و معه عبد أسود لم يكن معه غيره- فقالوا قد أذنا لكم- و قالوا له معذرة إلى الله و إليكم- أما إنه لو لا بغيه علينا ما صنعنا به ما ترون- فنزل ابنه إليه فوجده قد انتفخ- و كان من أعظم الناس خلقا فلم يطق احتماله- فقال هل من فتى معوان فخرج إليه خندف البكري- فقال تنحوا عنه- فقال ابنه و من الذي يحمله إذا تنحينا عنه- قال يحمله قاتله- فاحتمله خندف حتى رمى به على ظهر بغل- ثم شده بالحبال فانطلقا به- . قال نصر و قال معاوية لما قتل ذو الكلاع- لأنا أشد فرحا بقتل ذي الكلاع مني بفتح مصر لو فتحتها- قال لأن ذا الكلاع- كان يحجر على معاوية في أشياء كان يأمر بها- . قال نصر فلما قتل ذو الكلاع اشتدت الحرب- و شدت عك و لخم و جذام و الأشعريون من أهل الشام على مذحج من أهل العراق- جعلهم معاوية بإزائهم و نادى منادي عك-
ويل لأم مذحج من عك
لنتركن أمهم تبكي
نقتلهم بالطعن ثم الصك
بكل قرن باسل مصك
فلا رجال كرجال عك
فنادى منادي مذحج يا لمذحج خدموا- أي اضربوا السوق مواضع الخدمة و هي الخلاخيل- فاعترضت مذحج سوق القوم فكان فيه بوار عامتهم- و نادى منادي جذام حين طحنت رحى القوم- و خاضت الخيل و الرجال في الدماء- . الله الله في جذام أ لا تذكرون الأرحام- أفنيتم لخما الكرام و الأشعرين و آل ذي حمام- أين النهى و الأحلام هذي النساء تبكي الأعلام- . و نادى منادي عك- يا عك أين المفر اليوم تعلم ما الخبر- لأنكم قوم صبر كونوا كمجتمع المدر- لا تشمتن بكم مضر حتى يحول ذا الخبر- . و نادى منادي الأشعريين- يا مذحج من للنساء غدا إذا أفناكم الردى- الله الله في الحرمات أ ما تذكرون نساءكم و البنات- أ ما تذكرون فارس و الروم و الأتراك- لقد أذن الله فيكم بالهلاك- .
قال و القوم ينحر بعضهم بعضا و يتكادمون بالأفواه- . قال نصر و حدثني عمرو بن الزبير- لقد سمعت الحضين بن المنذر يقول- أعطاني علي ع ذلك اليوم راية ربيعة- و قال باسم الله سر يا حضين- و اعلم أنه لا تخفق على رأسك راية مثلها أبدا- هذه راية رسول الله ص- قال فجاء أبو عرفاء جبلة بن عطية الذهلي إلى الحضين- و قال هل لك أن تعطيني الراية أحملها لك- فيكون لك ذكرها و يكون لي أجرها- فقال الحضين و ما غناي يا عم عن أجرها مع ذكرها- قال إنه لا غنى بك عن ذلك- و لكن أعرها عمك ساعة فما أسرع ما ترجع إليك- قال الحضين فقلت إنه قد استقتل- و إنه يريد أن يموت مجاهدا- فقلت له خذها فأخذها- ثم قال لأصحابه إن عمل الجنة كره كله و ثقيل- و إن عمل النار خف كله و خبيث- إن الجنة لا يدخلها إلا الصابرون- الذين صبروا أنفسهم على فرائض الله و أمره- و ليس شيء مما افترض الله على العباد أشد من الجهاد- هو أفضل الأعمال ثوابا عند الله- فإذا رأيتموني قد شددت فشدوا- ويحكم أ ما تشتاقون إلى الجنة- أ ما تحبون أن يغفر الله لكم- فشد و شدوا معه فقاتلوا قتالا شديدا- فقتل أبو عرفاء رحمه الله تعالى- و شدت ربيعة بعده شدة عظيمة- على صفوف أهل الشام فنقضتها- و قال مجزاة بن ثور-
أضربهم و لا أرى معاوية
الأبرج العين العظيم الحاويه
هوت به في النار أم هاويه
جاوره فيها كلاب عاويه
أغوى طغاما لا هدته هاديه
قال نصر و كان حريث بن جابر- يومئذ نازلا بين الصفين في قبة له حمراء- يسقي أهل العراق اللبن و الماء و السويق- و يطعمهم اللحم و الثريد- فمن شاء أكل و من شاء شرب- ففي ذلك يقول شاعرهم-
فلو كان بالدهنا حريث بن جابر
لأصبح بحرا بالمفازة جاريا
قلت هذا حريث بن جابر- هو الذي كتب معاوية إلى زياد في أمره بعد عام الجماعة- و حريث عامل لزياد على همدان- أما بعد فاعزل حريث بن جابر عن عمله- فما ذكرت مواقفه بصفين إلا كانت حزازة في صدري فكتب إليه زياد خفض عليك يا أمير المؤمنين- فإن حريثا قد بلغ من الشرف مبلغا لا تزيده الولاية- و لا ينقصه العزل- . قال نصر فاضطرب الناس يومئذ بالسيوف- حتى تقطعت و تكسرت و صارت كالمناجل- و تطاعنوا بالرماح حتى تقصفت و تناثرت أسنتها- ثم جثوا على الركب فتحاثوا بالتراب- يحثو بعضهم التراب في وجه بعض- ثم تعانقوا و تكادموا بالأفواه- ثم تراموا بالصخر و الحجارة ثم تحاجزوا- فكان الرجل من أهل العراق يمر على أهل الشام- فيقول كيف آخذ إلى رايات بني فلان- فيقولون هاهنا لا هداك الله- و يمر الرجل من أهل الشام على أهل العراق- فيقول كيف آخذ إلى راية بني فلان- فيقولون هاهنا لا حفظك الله و لا عافاك- .
قال نصر و قال معاوية لعمرو بن العاص- أ ما ترى يا أبا عبد الله إلى ما قد دفعنا- كيف ترى أهل العراق غدا صانعين- إنا لبمعرض خطر عظيم- فقال له إن أصبحت غدا ربيعة و هم متعطفون حول علي ع- تعطف الإبل حول فحلها- لقيت منهم جلادا صادقا و بأسا شديدا- و كانت التي لا يتعزى لها- فقال معاوية أ يجوز أنك تخوفنا يا أبا عبد الله- قال إنك سألتني فأجبتك- فلما أصبحوا في اليوم العاشر أصبحوا- و ربيعة محدقة بعلي ع إحداق بياض العين بسوادها- .
قال نصر فحدثني عمرو قال- لما أصبح علي ع هذا اليوم- جاء فوقف بين رايات ربيعة فقال عتاب بن لقيط البكري- من بني قيس بن ثعلبة يا معشر ربيعة- حاموا عن علي منذ اليوم فإن أصيب فيكم افتضحتم- أ لا ترونه قائما تحت راياتكم- و قال لهم شقيق بن ثور يا معشر ربيعة- ليس لكم عذر عند العرب إن وصل إلى علي و فيكم رجل حي- فامنعوه اليوم و اصدقوا عدوكم اللقاء- فإنه حمد الحياة تكسبونه- فتعاهدت ربيعة و تحالفت بالأيمان العظيمة منها- تبايع سبعة آلاف على ألا ينظر رجل منهم خلفه- حتى يردوا سرادق معاوية- فقاتلوا ذلك اليوم قتالا شديدا لم يكن قبله مثله- و أقبلوا نحو سرادق معاوية- فلما نظر إليهم قد أقبلوا قال-
إذا قلت قد ولت ربيعة أقبلت
كتائب منها كالجبال تجالد
ثم قال لعمرو يا عمرو ما ترى- قال أرى ألا تحنث أخوالي اليوم- فقام معاوية و خلى لهم سرادقه و رحله و خرج فارا عنه- لائذا ببعض مضارب العسكر في أخريات الناس فدخله- و انتهبت ربيعة سرادقه و رحله- و بعث إلى خالد بن المعمر إنك قد ظفرت- و لك إمرة خراسان أن لم تتم فقطع خالد القتال و لم يتمه- و قال لربيعة قد برت أيمانكم فحسبكم- فلما كان عام الجماعة و بايع الناس معاوية- أمره معاوية على خراسان و بعثه إليها- فمات قبل أن يبلغها- . قال نصر في حديث عمرو بن سعد- أن عليا ع صلى بهم هذا اليوم صلاة الغداة- ثم زحف بهم- فلما أبصروه قد خرج استقبلوه بزحوفهم- فاقتتلوا قتالا شديدا- ثم إن خيل أهل الشام حملت على خيل أهل العراق- فاقتطعوا من أصحاب علي ع ألف رجل أو أكثر- فأحاطوا بهم و حالوا بينهم و بين أصحابهم فلم يروهم- فنادى علي ع يومئذ- أ لا رجل يشري نفسه لله و يبيع دنياه بآخرته- فأتاه رجل من جعف يقال له عبد العزيز بن الحارث- على فرس أدهم كأنه غراب مقنع في الحديد- لا يرى منه إلا عيناه- فقال يا أمير المؤمنين مرني بأمرك- فو الله لا تأمرني بشيء إلا صنعته- فقال علي ع
سمحت بأمر لا يطاق حفيظة
و صدقا و إخوان الوفاء قليل
جزاك إله الناس خيرا فإنه
لعمرك فضل ما هناك جزيل
يا أبا الحارث شد الله ركنك احمل على أهل الشام- حتى تأتي أصحابك فتقول لهم- إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام- و يقول لكم هللوا و كبروا من ناحيتكم- و نهلل نحن و نكبر من هاهنا- و احملوا من جانبكم و نحمل نحن من جانبنا على أهل الشام- فضرب الجعفي فرسه حتى إذا أقامه على أطراف سنابكه- حمل على أهل الشام المحيطين بأصحاب علي ع- فطاعنهم ساعة و قاتلهم- فأفرجوا له حتى خلص إلى أصحابه- فلما رأوه استبشروا به و فرحوا- و قالوا ما فعل أمير المؤمنين- قال صالح يقرئكم السلام و يقول لكم- هللوا و كبروا و احملوا حملة شديدة من جانبكم- و نهلل نحن و نكبر و نحمل من جانبنا- ففعلوا ما أمرهم به و هللوا و كبروا- و هلل علي ع و كبر هو و أصحابه- و حمل على أهل الشام و حملوا هم من وسط أهل الشام- فانفرج القوم عنهم و خرجوا- و ما أصيب منهم رجل واحد- و لقد قتل من فرسان الشام يومئذ زهاء سبعمائة إنسان- قال علي ع من أعظم الناس اليوم غناء- فقالوا أنت يا أمير المؤمنين- فقال كلا و لكنه الجعفي- .
قال نصر- و كان علي ع لا يعدل بربيعة أحدا من الناس- فشق ذلك على مضر و أظهروا لهم القبيح و أبدوا ذات أنفسهم- فقال الحضين بن المنذر الرقاشي شعرا أغضبهم به- من جملته
أرى مضرا صارت ربيعة دونها
شعار أمير المؤمنين و ذا الفضل
فأبدوا لنا مما تجن صدورهم
هو السوء و البغضاء و الحقد و الغل
فأبلوا بلانا أو أقروا بفضلنا
و لن تلحقونا الدهر ما حنت الإبل
فقام أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني- و عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي- و قبيصة بن جابر الأسدي و عبد الله بن الطفيل العامري- في وجوه قبائلهم فأتوا عليا ع- فتكلم أبو الطفيل فقال أنا و الله يا أمير المؤمنين- ما نحسد قوما خصهم الله منك بخير- و إن هذا الحي من ربيعة قد ظنوا أنهم أولى بك منا- فاعفهم عن القتال أياما- و اجعل لكل امرئ منا يوما يقاتل فيه- فإنا إذا اجتمعنا اشتبه عليك بلاؤنا- فقال علي ع نعم أعطيكم ما طلبتم- و أمر ربيعة أن تكف عن القتال- و كانت بإزاء اليمن من صفوف أهل الشام- فغدا أبو الطفيل عامر بن واثلة في قومه من كنانة- و هم جماعة عظيمة فتقدم أمام الخيل- و يقول طاعنوا و ضاربوا ثم حمل و ارتجز فقال-
قد ضاربت في حربها كنانه
و الله يجزيها به جنانه
من أفرغ الصبر عليه زانه
أو غلب الجبن عليه شانه
أو كفر الله فقد أهانه
غدا يعض من عصى بنانه
فاقتتلوا قتالا شديدا- ثم انصرف أبو الطفيل إلى علي ع- فقال يا أمير المؤمنين إنك أنبأتنا أن أشرف القتل الشهادة- و أحظى الأمر الصبر و قد و الله صبرنا حتى أصبنا- فقتيلنا شهيد و حينا سعيد- فليطلب من بقي ثأر من مضى- فإنا و إن كنا قد ذهب صفونا و بقي كدرنا- فإن لنا دينا لا يميل به الهوى و يقينا لا تزحمه الشبهة- فأثنى علي ع عليه خيرا- . ثم غدا في اليوم الثاني عمير بن عطارد بجماعة من بني تميم- و هو يومئذ سيد مضر الكوفة- فقال يا قوم إني أتبع آثار أبي الطفيل- فاتبعوا آثار كنانة- ثم قدم رايته و ارتجز فقال-
قد ضاربت في حربها تميم
إن تميما خطبها عظيم
لها حديث و لها قديم
إن الكريم نسله كريم
دين قويم و هوى سليم
إن لم تردهم رايتي فلوموا
ثم طعن برايته حتى خضبها- و قاتل أصحابه قتالا شديدا حتى أمسوا- و انصرف عمير إلى علي ع و عليه سلاحه- فقال يا أمير المؤمنين قد كان ظني بالناس حسنا- و قد رأيت منهم فوق ظني بهم قاتلوا من كل جهة- و بلغوا من عفوهم جهد عدوهم و هم لهم إن شاء الله- . ثم غدا في اليوم الثالث- قبيصة بن جابر الأسدي في بني أسد- و قال لأصحابه يا بني أسد أما أنا فلا أقصر دون صاحبي- و أما أنتم فذاك إليكم- ثم تقدم برايته و قال-
قد حافظت في حربها بنو أسد
ما مثلها تحت العجاج من أحد
أقرب من يمن و أنأى من نكد
كأننا ركنا ثبير أو أحد
لسنا بأوباش و لا بيض البلد
لكننا المحة من ولد معد
فقاتل القوم إلى أن دخل الليل ثم انصرفوا- . ثم غدا في اليوم الرابع- عبد الله بن الطفيل العامري في جماعة هوازن- فحارب بهم حتى الليل ثم انصرفوا- . قال نصر فانتصفوا المضرية من الربعية- و ظهر أثرها و عرف بلاؤها- و قال أبو الطفيل
و حامت كنانة في حربها
و حامت تميم و حامت أسد
و حامت هوازن يوم اللقا
فما خام منا و منهم أحد
لقينا الفوارس يوم الخميس
و العيد و السبت ثم الأحد
لقينا قبائل أنسابهم
إلى حضرموت و أهل الجند
فأمدادهم خلف آذانهم
و ليس لنا من سوانا مدد
فلما تنادوا بآبائهم
دعونا معدا و نعم المعد
فظلنا نفلق هاماتهم
و لم نك فيها ببيض البلد
و نعم الفوارس يوم اللقا
فقل في عديد و قل في عدد
و قل في طعان كفرغ الدلاء
و ضرب عظيم كنار الوفد
و لكن عصفنا بهم عصفة
و في الحرب يمن و فيها نكد
طحنا الفوارس وسط العجاج
و سقنا الزعانف سوق النقد
و قلنا علي لنا والد
و نحن له طاعة كالولد
قال نصر و حدثنا عمرو- عن الأشعث بن سويد عن كردوس قال- كتب عقبة بن مسعود عامل علي على الكوفة- إلى سليمان بن صرد الخزاعي- و هو مع علي بصفين- أما بعد فإنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم- أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا إذا أبدا- فعليك بالجهاد و الصبر مع أمير المؤمنين و السلام- .
قال نصر و حدثنا عمرو بن سعد و عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر قال قام علي ع فخطب الناس بصفين فقال- الحمد لله على نعمه الفاضلة على جميع من خلق- من البر و الفاجر- و على حججه البالغة على خلقه من أطاعه فيهم و من عصاه- أن يرحم فبفضله و منه و إن عذب فبما كسبت أيديهم- و إن الله ليس بظلام للعبيد- أحمده على حسن البلاء و تظاهر النعماء- و أستعينه على ما نابنا من أمر الدنيا و الآخرة- و أتوكل عليه و كفى بالله وكيلا- ثم إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- و أشهد أن محمدا عبده و رسوله- أرسله بالهدى و دين الحق- ارتضاه لذلك و كان أهله- و اصطفاه لتبليغ رسالته و جعله رحمة منه على خلقه- فكان علمه فيه رءوفارحيما- أكرم خلق الله حسبا و أجملهم منظرا و أسخاهم نفسا- و أبرهم لوالد و أوصلهم لرحم- و أفضلهم علما و أثقلهم حلما- و أوفاهم لعهد و آمنهم على عقد- لم يتعلق عليه مسلم و لا كافر بمظلمة قط- بل كان يظلم فيغفر و يقدر فيصفح- حتى مضى ص مطيعا لله صابرا على ما أصابه- مجاهدا في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ص- فكان ذهابه أعظم المصيبة على أهل الأرض البر و الفاجر- ثم ترك فيكم كتاب الله يأمركم بطاعة الله- و ينهاكم عن معصيته- و قد عهد إلى رسول الله عهدا فلست أحيد عنه- و قد حضرتم عدوكم و علمتم أن رئيسهم منافق- يدعوهم إلى النار- و ابن عم نبيكم معكم و بين أظهركم- يدعوكم إلى الجنة و إلى طاعة ربكم- و العمل بسنة نبيكم- و لا سواء من صلى قبل كل ذكر- لم يسبقني بصلاة مع رسول الله أحد- و أنا من أهل بدر و معاوية طليق و ابن طليق- و الله أنا على الحق و إنهم على الباطل- فلا يجتمعن على باطلهم و تتفرقوا عن حقكم- حتى يغلب باطلهم حقكم- قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم- فإن لم تفعلوا يعذبهم بأيدي غيركم- فقام أصحابه فقالوا يا أمير المؤمنين- انهض بنا إلى عدونا و عدوك إذا شئت- فو الله ما نريد بك بدلا- بل نموت معك و نحيا معك- فقال لهم و الذي نفسي بيده- لنظر إلى النبي ص أضرب بين يديه بسيفي هذا- فقال لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي- و قال لي يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعديو موتك و حياتك يا علي معي- و الله ما كذب و لا كذبت و لا ضل و لا ضللت- و لا ضل بي و لا نسيت ما عهد إلى- و إني على بينة من ربي و على الطريق الواضح- ألقطه لقطا- .
ثم نهض إلى القوم- فاقتتلوا من حين طلعت الشمس حتى غاب الشفق الأحمر- و ما كانت صلاة القوم في ذلك اليوم إلا تكبيرا- . قال و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر- عن الشعبي عن صعصعة بن صوحان قال- برز في بعض أيام صفين رجل من حمير- من آل ذي يزن اسمه كريب بن الصباح- ليس في الشام يومئذ رجل أشهر بالبأس و النجدة منه- فنادى من يبارز- فخرج إليه المرتفع بن الوضاح الزبيدي فقتله- ثم نادى من يبارز فخرج إليه الحارث بن الجلاح فقتله- ثم نادى من يبارز- فخرج إليه عابد بن مسروق الهمداني فقتله- ثم رمى بأجسادهم بعضها فوق بعض- و قام عليها بغيا و اعتداء و نادى من يبارز- فخرج إليه علي و ناداه ويحك يا كريب- إني أحذرك الله و بأسه و نقمته- و أدعوك إلى سنة الله و سنة رسوله- ويحك لا يدخلنك معاوية النار- فكان جوابه له أن قال- ما أكثر ما قد سمعت منك هذه المقالة- و لا حاجة لنا فيها أقدم إذا شئت- من يشتري سيفي و هذا أثره- فقال علي لا حول و لا قوة إلا بالله- ثم مشى إليه فلم يمهله أن ضربه ضربة- خر منها قتيلا يشحط في دمه- ثم نادى من يبرز- فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري فقتله- ثم نادى من يبرز- فبرز إليه المطاع بن مطلب العنسي فقتله- ثم نادى من يبرز فلم يبرز إليه أحد- فنادى يا معشر المسلمين- الشهر الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص- فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم- و اتقوا الله و اعلموا أن الله مع المتقين- ويحك يا معاوية هلم إلي فبارزني- و لا يقتلن الناس فيما بيننا- فقال عمرو بن العاص اغتنمه منتهزا- قد قتل ثلاثة من أبطال العرب- و إني أطمع أن يظفرك الله به- فقال معاوية و الله لن تريد إلا أن أقتل فتصيب الخلافة بعدي- اذهب إليك عني فليس مثلي يخدع- .
قال نصر و حدثنا عمرو قال- حدثنا خالد بن عبد الواحد الجريري قال- حدثني من سمع عمرو بن العاص قبل الوقعة العظمى بصفين- و هو يحرض أهل الشام- و قد كان منحنيا على قوس فقال- الحمد لله العظيم في شأنه القوي في سلطانه- العلي في مكانه الواضح في برهانه- أحمده على حسن البلاء و تظاهر النعماء- في كل رزية من بلاء أو شدة أو رخاء- و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- و أن محمدا عبده و رسوله- ثم إنا نحتسب عند الله رب العالمين- ما أصبح في أمة محمد ص من اشتعال نيرانها- و اضطراب حبلها و وقوع بأسها بينها- فإنا لله و إنا إليه راجعون و الحمد لله رب العالمين- أ و لا تعلمون أن صلاتنا و صلاتهم- و صيامنا و صيامهم و حجنا و حجهم- و قتلنا و قتلهم و ديننا و دينهم واحد- و لكن الأهواء مختلفة- اللهم أصلح هذه الأمة بما أصلحت به أولها- و احفظ في ما بينها- مع أن القوم قد وطئوا بلادكم و نعوا عليكم- فجدوا في قتال عدوكم- و استعينوا بالله ربكم و حافظوا على حرماتكم- ثم جلس-
قال نصر و خطب عبد الله بن العباس- أهل العراق يومئذ فقال- الحمد لله رب العالمين- الذي دحا تحتنا سبعا و سمك فوقنا سبعا- و خلق فيما بينهن خلقا و أنزل لنا منهن رزقا- ثم جعل كل شيء قدرا يبلى و يفنى غير وجهه الحي القيوم- الذي يحيا و يبقى- إن الله تعالى بعث أنبياء و رسلا- فجعلهم حججا على عباده عذرا أو نذرا- لا يطاع إلا بعلمه و إذنه- يمن بالطاعة على من يشاء من عباده ثم يثيب عليها- و يعصى بعلم منه فيعفو و يغفر بحلمه- لا يقدر قدره و لا يبلغ شيء مكانه- أحصى كل شيء عددا و أحاط بكل شيء علما- و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- و أشهد أن محمدا عبده و رسوله- إمام الهدى و النبي المصطفى- و قد ساقنا قدر الله إلى ما ترون- حتى كان مما اضطرب من حبل هذه الأمة و انتشر من أمرها- أن معاوية بن أبي سفيان وجد من طغام الناس أعوانا- على علي ابن عم رسول الله و صهره و أول ذكر صلى معه- بدري قد شهد مع رسول الله ص كل مشاهدة- التي فيها الفضل- و معاوية مشرك كان يعبد الأصنام- و الذي ملك الملك وحده و بان به و كان أهله- لقد قاتل علي بن أبي طالب مع رسول الله- و هو يقول صدق الله و رسوله- و معاوية يقول كذب الله و رسوله- فعليكم بتقوى الله و الجد و الحزم و الصبر- و الله إنا لنعلمإنكم لعلى حق و إن القوم لعلى باطل- فلا يكونن أولى بالجد على باطلهم منكم في حقكم- و إنا لنعلم أن الله سيعذبهم بأيديكم أو بأيدي غيركم- اللهم أعنا و لا تخذلنا- و انصرنا على عدونا و لا تحل عنا- و افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين
قال نصر و حدثنا عمرو قال حدثنا عبد الرحمن بن جندب عن جندب بن عبد الله قال قام عمار يوم صفين فقال انهضوا معي عباد الله- إلى قوم يزعمون أنهم يطلبون بدم ظالم- إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان- الآمرون بالإحسان- فقال هؤلاء الذين لا يبالون- إذا سلمت لهم دنياهم و لو درس هذا الدين- لم قتلتموه فقلنا لإحداثه- فقالوا إنه لم يحدث شيئا- و ذلك لأنه مكنهم من الدنيا فهم يأكلونها و يرعونها- و لا يبالون لو انهدمت الجبال- و الله ما أظنهم يطلبون بدم- و لكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحلوها و استمرءوها- و علموا أن صاحب الحق- لو وليهم لحال بينهم و بين ما يأكلون و يرعون منها- إن القوم لم يكن لهم سابقة في الإسلام- يستحقون بها الطاعة و الولاية- فخدعوا أتباعهم بأن قالوا قتل إمامنا مظلوما- ليكونوا بذلك جبابرة و ملوكا- تلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون- و لولاها ما بايعهم من الناس رجل- اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت- و إن تجعللهم الأمر- فادخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب الأليم- ثم مضى و مضى معه أصحابه فدنا من عمرو بن العاص- فقال يا عمرو بعت دينك بمصر فتبا لك- و طالما بغيت للإسلام عوجا- ثم قال اللهم إنك تعلم- أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت- اللهم إنك تعلم- أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ظبة سيفي في بطني- ثم انحنى عليه حتى يخرج من ظهري لفعلت- اللهم إني أعلم مما علمتني- أني لا أعمل عملا صالحا هذا اليوم- هو أرضى من جهاد هؤلاء الفاسقين- و لو أعلم اليوم عملا هو أرضى لك منه لفعلته- .
قال نصر و حدثني عمرو بن سعيد عن الشعبي قال- نادى عمار عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له- بعت دينك بالدنيا من عدو الله و عدو الإسلام معاوية- و طلبت هوى أبيك الفاسق- فقال لا و لكني أطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم- قال كلا أشهد على علمي فيك- أنك أصبحت لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله- و أنك إن لم تقتلاليوم فستموت غدا- فانظر إذا أعطى الله العباد على نياتهم ما نيتك- . و روى ابن ديزيل في كتاب صفين عن صيف الضبي قال- سمعت الصعب بن حكيم بن شريك بن نملة المحاربي- يروي عن أبيه عن جده شريك قال- كان الناس من أهل العراق و أهل الشام- يقتتلون أيام صفين و يتزايلون- فلا يستطيع الرجل أن يرجع إلى مكانه- حتى يسفر الغبار عنه- فاقتتلوا يوما و تزايلوا و أسفر الغبار- فإذا علي تحت رايتنا يعني بني محارب-فقال هل من ماء فأتيته بإداوة فخنثتها له ليشرب- فقال لا إنا نهينا أن نشرب من أفواه الأسقية- ثم علق سيفه و إنه لمخضب بالدم من ظبته إلى قائمه- فصببت له على يديه فغسلهما حتى أنقاهما- ثم شرب بيديه حتى إذا روى رفع رأسه- ثم قال أين مضر- فقلت أنت فيهم يا أمير المؤمنين- فقال من أنتم بارك الله فيكم- فقلنا نحن بنو محارب- فعرف موقفه ثم رجع إلى موضعه- . قلت خنثت الإداوة إذا ثنيت فاها إلى خارج- و إنما نهى رسول الله ص عن اختناث الأسقية- لأن رجلا اختنث سقاء فشرب- فدخل إلى جوفه حية كانت في السقاء- .
قال ابن ديزيل و روى إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني عبد الملك بن قدامة بن إبراهيم بن حاطب الجمحي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال لي رسول الله ص- كيف بك يا عبد الله إذا بقيت في حثالة من الناس- قد مرجت عهودهم و مواثيقهم و كانوا هكذا- و خالف بين أصابعه- فقلت تأمرني بأمرك يا رسول الله- قال تأخذ مما تعرف و تدع ما تنكر- و تعمل بخاصة نفسك و تدع الناس و هوام أمرهم- .
قال فلما كان يوم صفين قال له أبوه عمرو بن العاص- يا عبد الله اخرج فقاتل- فقاليا أبتاه أ تأمرني أن أخرج فأقاتل- و قد سمعت ما سمعت يوم عهد إلى رسول الله ص ما عهد- فقال أنشدك الله يا عبد الله- أ لم يكن آخر ما عهد إليك رسول الله ص- أن أخذ بيدك فوضعها في يدي فقال أطع أباك- فقال اللهم بلى- قال فإني أعزم عليك أن تخرج فتقاتل- فخرج عبد الله بن عمرو فقاتل يومئذ متقلدا سيفين- قال و إن من شعر عبد الله بن عمرو بعد ذلك يذكر عليا بصفين-
فلو شهدت جمل مقامي و مشهدي
بصفين يوما شاب منها الذوائب
عشية جا أهل العراق كأنهم
سحاب ربيع رفعته الجنائب
إذا قلت قد ولت سراعا بدت لنا
كتائب منهم و ارجحنت كتائب
و جئناهم فرادى كأن صفوفنا
من البحر مد موجه متراكب
فدارت رحانا و استدارت رحاهم
سراة النهار ما تولى المناكب
فقالوا لنا إنا نرى أن تبايعوا
فقلنا بلى إنا نرى أن تضاربوا
و روى ابن ديزيل عن يحيى بن سليمان الجعفي قال- حدثنا مسهر بن عبد الملك بن سلع الهمداني قال- حدثني أبي عن عبد خير الهمداني قال- كنت أنا و عبد خير في سفر قلت يا أبا عمارة- حدثني عن بعض ما كنتم فيه بصفين- فقال لي يا ابن أخي و ما سؤالك- فقلت أحببت أن أسمع منك شيئا- فقال يا ابن أخي إنا كنا لنصلي الفجر- فنصف و يصف أهل الشام- و نشرع الرماح إليهم و يشرعون بها نحونا- أما لو دخلت تحتها لأظلتك- و الله يا ابن أخي- إنا كنا لنقف و يقفون في الحرب لا نفتر و لا يفترون- حتى نصليالعشاء الآخرة- ما يعرف الرجل منا طول ذلك اليوم- من عن يمينه و لا من عن يساره- من شدة الظلمة و النقع إلا بقرع الحديد بعضه على بعض- فيبرز منه شعاع كشعاع الشمس- فيعرف الرجل من عن يمينه و من عن يساره- حتى إذا صلينا العشاء الآخرة- جررنا قتلانا إلينا فتوسدناهم حتى نصبح- و جروا قتلاهم فتوسدوهم حتى يصبحوا- قال قلت له يا أبا عمارة هذا و الله الصبر- .
و روى ابن ديزيل قال- كان عمرو بن العاص إذا مر عليه رجل من أصحاب علي- فسأل عنه فأخبر به فقال- يرى علي و معاوية أنهما بريئان من دم هذا- . قال ابن ديزيل و روى ابن وهب عن مالك بن أنس قال- جلس عمرو بن العاص بصفين في رواق- و كان أهل العراق يدفنون قتلاهم- و أهل الشام يجعلون قتلاهم في العباء و الأكسية- يحملونهم فيها إلى مدافنهم- فكلما مر عليه برجل قال من هذا- فيقال فلان فقال عمرو كم من رجل أحسن في الله- عظيم الحال لم ينج من قتله فلان و فلان- قال يعني عليا و معاوية- .
قلت ليت شعري لم برأ نفسه و كان رأسا في الفتنة- بل لولاه لم تكن- و لكن الله تعالى أنطقه بهذا الكلام و أشباهه- ليظهر بذلك شكه و أنه لم يكن على بصيرة من أمره- . و روى نصر بن مزاحم قال حدثني يحيى بن يعلى قال- حدثني صباح المزني عن الحارث بن حصن- عن زيد بن أبي رجاء عن أسماء بن حكيم الفزاري قال- كنا بصفين مع علي تحت راية عمار بن ياسر- ارتفاع الضحى و قد استظللنا برداء أحمر- إذ أقبل رجل يستقري الصف حتى انتهى إلينا- فقال أيكم عمار بن ياسر فقال عمار أنا عمار- قال أبو اليقظان قال نعم- قال إن لي إليك حاجة أ فأنطق بهاسرا أو علانية- قال اختر لنفسك أيهما شئت- قال لا بل علانية قال فانطق- قال إني خرجت من أهلي مستبصرا في الحق- الذي نحن عليه- لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم و أنهم على الباطل- فلم أزل على ذلك مستبصرا حتى ليلتي هذه- فإني رأيت في منامي مناديا تقدم- فأذن و شهد أن لا إله إلا الله- و أن محمدا رسول الله ص- و نادى بالصلاة و نادى مناديهم مثل ذلك- ثم أقيمت الصلاة فصلينا صلاة واحدة- و تلونا كتابا واحدا و دعونا دعوة واحدة- فأدركني الشك في ليلتي هذه- فبت بليلة لا يعلمها إلا الله تعالى حتى أصبحت- فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له- فقال هل لقيت عمار بن ياسر قلت لا- قال فالقه فانظر ما ذا يقول لك عمار فاتبعه- فجئتك لذلك فقال عمار- تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي- فإنها راية عمرو بن العاص- قاتلتها مع رسول الله ص ثلاث مرات- و هذه الرابعة فما هي بخيرهن و لا أبرهن- بل هي شرهن و أفجرهن- أ شهدت بدرا و أحدا و يوم حنين- أو شهدها أب لك فيخبرك عنها قال لا- قال فإن مراكزنا اليوم على مراكز رايات رسول الله ص- يوم بدر و يوم أحد و يوم حنين- و إن مراكز رايات هؤلاء- على مراكز رايات المشركين من الأحزاب- فهل ترى هذا العسكر و من فيه- و الله لوددت أن جميع من فيه- ممن أقبل مع معاوية يريد قتالنا- مفارقا للذي نحن عليه كانوا خلقا واحدا- فقطعته و ذبحته- و الله لدماؤهم جميعا أحل من دم عصفور- أ فترى دم عصفور حراما قال لا بل حلال- قال فإنهم حلال كذلك- أ تراني بينت لك قال قد بينت لي- قال فاختر أي ذلك أحببت- .
فانصرف الرجل فدعاه عمار ثم قال- أما إنهم سيضربونكم بأسيافهم- حتى يرتاب المبطلون منكم- فيقولوا لو لم يكونوا على حق ما أظهروا علينا- و الله ما هم من الحق على ما يقذى عين ذباب- و الله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر- لعلمنا أنا على حق و أنهم على باطل- .
قال نصر و حدثنا يحيى بن يعلى عن الأصبغ بن نباتة قال جاء رجل إلى علي فقال- يا أمير المؤمنين هؤلاء القوم الذين نقاتلهم- الدعوة واحدة و الرسول واحد- و الصلاة واحدة و الحج واحد فما ذا نسميهم- قال سمهم بما سماهم الله في كتابه- قال ما كل ما في الكتاب أعلمه- قال أ ما سمعت الله تعالى يقول- تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ- إلى قوله وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ- مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ- وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ- فلما وقع الاختلاف- كنا نحن أولى بالله و بالكتاب و بالنبي و بالحق- فنحن الذين آمنوا و هم الذين كفروا- و شاء الله قتالهم فقاتلهم بمشيئته و إرادته
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 5