62 و من خطبة له ع
أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا دَارٌ لَا يُسْلَمُ مِنْهَا إِلَّا فِيهَا- وَ لَا يُنْجَى بِشَيْءٍ كَانَ لَهَا- ابْتُلِيَ النَّاسُ بِهَا فِتْنَةً- فَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لَهَا أُخْرِجُوا مِنْهُ وَ حُوسِبُوا عَلَيْهِ- وَ مَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لِغَيْرِهَا قَدِمُوا عَلَيْهِ وَ أَقَامُوا فِيهِ- فَإِنَّهَا عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ كَفَيْءِ الظِّلِّ- بَيْنَا تَرَاهُ سَابِغاً حَتَّى قَلَصَ وَ زَائِداً حَتَّى نَقَصَ تقدير الكلام- أن الدنيا دار لا يسلم من عقاب ذنوبها إلا فيها- و هذا حق لأن العقاب المستحق- إنما يسقط بأحد أمرين- إما بثواب على طاعات تفضل على ذلك العقاب المستحق- أو بتوبة كاملة الشروط- . و كلا الأمرين لا يصح من المكلفين- إيقاعه إلا في الدنيا- فإن الآخرة ليست دار تكليف- ليصح من الإنسان فيها عمل الطاعة- و التوبة عن المعصية السالفة- فقد ثبت إذا أن الدنيا دار لا يسلم منها إلا فيها- . إن قيل بينوا أن الآخرة ليست بدار تكليف- .
قيل قد بين الشيوخ ذلك بوجهين- أحدهما الإجماع على المنع- من تجويز استحقاق ثواب أو عقاب في الآخرة- . و الثاني أن الثواب يجب أن يكون خالصا من المشاق- و التكليف يستلزم المشقة- لأنها شرط في صحته- فبطل أن يجوز استحقاق ثواب في الآخرة- للمكلفين المثابين في الآخرة-لأجل تكاليفهم في الآخرة- و أما المعاقبون فلو كانوا مكلفين- لجاز وقوع التوبة منهم و سقوط العقاب بها- و هذا معلوم فساده ضرورة من دين الرسول ع- . و هاهنا اعتراضان- أحدهما أن يقال فما قولكم في قوله تعالى- كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ- و هذا أمر و خطاب لأهل الجنة و الأمر تكليف- . و الثاني أن الإجماع حاصل على أن أهل الجنة- يشكرون الله تعالى و الشكر عبادة- و ذلك يستدعى استحقاق الثواب- .
و الجواب عن الأول أن قوله كُلُوا وَ اشْرَبُوا- عند شيخنا أبي علي رحمه الله تعالى- ليس بأمر على الحقيقة و إن كانت له صورته- كما في قوله تعالى كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً- . و أما الشيخ أبو هاشم فعنده أن قوله كُلُوا وَ اشْرَبُوا- أمر لكنه زائد في سرور أهل الجنة- إذا علموا أن الله تعالى أراد منهم الأكل و أمرهم به- و لكنه ليس بتكليف- لأن الأمر إنما يكون تكليفا إذا انضمت إليه المشقة- . و أما الجواب عن الثاني- فإن الشكر الذي بالقلب رجوعه إلى الاعتقادات- و الله تعالى يفعل في أهل الجنة المعارف كلها- فلا وجوب إذا عليهم- و أما الشكر باللسان فيجوز أن يكون لهم فيه لذة- فيكون بذلك غير مناف للثواب الحاصل لهم- . و بهذا الوجه نجيب عن قول من يقول- أ ليس زبانية النار يعالجون أهل العذاب في جهنم- أعاذنا الله منها- و هل هذا إلا محض تكليف- لأنا نقول إنه يجوز- أن يكون للزبانية في ذلك لذة عظيمة- فلا يثبت التكليف معها- كما لا يكون الإنسان مكلفا في الدنيا- بما يخلص إليه شهوته و لا مشقة عليه فيه- .
إن قيل هذا الجواب ينبئ- على أن معارف أهل الآخرة ضرورية- لأنكم أجبتم عن مسألة الشكر- بأن الله تعالى يفعل المعارف في أهل الجنة- فدللوا على ذلك- بل يجب عليكم أن تدللوا أولا على أن أهل الآخرة- يعرفون الله تعالى- . قيل أما الدليل على أنهم يعرفونه تعالى- فإن المثاب لا بد أن يعلم وصول الثواب إليه- على الوجه الذي استحقه- و لا يصح ذلك إلا مع المعرفة بالله تعالى- ليعلم أن ما فعله به هو الذي لمستحقه- و القول في المعاقب كالقول في المثاب- . و أيضا فإن من شرط الثواب- مقارنة التعظيم و التبجيل له من فاعل الثواب- لأن تعظيم غير فاعل الثواب لا يؤثر- و التعظيم لا يعلم إلا مع العلم بالقصد إلى التعظيم- و يستحيل أن يعلموا قصده تعالى و لا يعلموه- و القول في العقاب و كون الاستحقاق و الإهانة- تقارنه تجري هذا المجرى- .
فأما بيان أن هذه المعرفة ضرورية- فلأنها لو كانت من فعلهم- لكانت إما أن تقع عن نظر يتحرون فيه- و يلجئون إليه أو عن تذكر نظر- أو بأن يلجئوا إلى نفس المعرفة من غير تقدم نظر- و الأول باطل لأن ذلك تكليف و فيه مشقة- و قد بينا سقوط التكليف في الآخرة- و لا يجوز أن يلجئوا إلى النظر- لأنهم لو ألجئوا إلى النظر- لكان إلجاؤهم إلى المعرفة أولا- و إلجاؤهم إلى المعرفة يمنع من إلجائهم إلى النظر- و لا يجوز وقوعها عند تذكر النظر- لأن المتذكر للنظر تعرض له الشبه- و يلزمه دفعها و في ذلك عود الأمر إلى التكليف- و ليس معاينة الآيات بمانع عن وقوع الشبه- كما لم تمنع معاينة المعجزات و الأعلام عن وقوعها- و لا يجوز أن يكون الإلجاء إلى المعرفة- لأن الإلجاء إلى أفعال القلوب- لا يصح إلا من الله تعالى- فيجب أن يكون الملجأ إلى المعرفة- عارفا بهذه القضية- و في ذلك استغناؤه بتقدم هذه المعرفة على الإلجاء إليها- . إن قيل إذا قلتم إنهم مضطرون إلى المعارف- فهل تقولون إنهم مضطرون إلى الأفعال- .
قيل لا لأنه تعالى قال وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ- و لأن من تدبر ترغيبات القرآن في الجنة و الثواب- علم قطعا أن أهل الجنة غير مضطرين إلى أفعالهم- كما يضطر المرتعش إلى الرعشة- . إن قيل فإذا كانوا غير مضطرين- فلم يمنعهم من وقوع القبيح منهم- . قيل لأن الله تعالى قد خلق فيهم علما- بأنهم متى حاولوا القبيح منعوا منه- و هذا يمنع من الإقدام على القبيح بطريق الإلجاء- . و يمكن أيضا أن يعلمهم استغناءهم بالحسن عن القبيح- مع ما في القبيح من المضرة- فيكونون ملجئين إلى ألا يفعلوا القبيح- . فأما قوله ع و لا ينجى بشيء كان لها- فمعناه أن أفعال المكلف التي يفعلها لأغراضه الدنيوية- ليست طريقا إلى النجاة في الآخرة- كمن ينفق ماله رئاء الناس- و ليست طرق النجاة إلا بأفعال البر- التي يقصد فيها وجه الله تعالى لا غير- و قد أوضح ع ذلك- بقوله فما أخذوه منها لها أخرجوا منه و حوسبوا عليه- و ما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه و أقاموا فيه- . فمثال الأول من يكتسب الأموال و يدخرها لملاذه- و مثال الثاني من يكسبها- لينفقها في سبيل الخيرات و المعروف- . ثم قال ع- و إنها عند ذوي العقول كفيء الظل…- إلى آخر الفصل- و إنما قال كفيء الظل- لأن العرب تضيف الشيء إلى نفسه- قال تأبط شرا
إذا حاص عينيه كرى النوم لم يزل
له كالئ من قلب شيحان فاتك
و يمكن أن يقال الظل أعم من الفيء- لأن الفيء لا يكون إلا بعد الزوال- و كل فيء ظل و ليس كل ظل فيئا- فلما كان فيهما تغاير معنوي بهذا الاعتبار- صحت الإضافة- . و السابغ التام و قلص أي انقبض- . و قوله ع بينا تراه- أصل بينا بين فأشبعت الفتحة- فصارت بينا على وزن فعلى- ثم تقول بينما فتزيد ما و المعنى واحد- تقول بينا نحن نرقبه أتانا- أي بين أوقات رقبتنا إياه أتانا- و الجمل تضاف إليها أسماء الزمان- كقولك أتيتك زمن الحجاج أمير- ثم حذفت المضاف الذي هو أوقات- و ولي الظرف الذي هو بين الجملة- التي أقيمت مقام المضاف إليه- كقوله وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ- . و كان الأصمعي يخفض ببينا- إذا صلح في موضعه بين- و ينشد بيت أبي ذؤيب بالجر-
بينا تعنقه الكمأة و روغه
يوما أتيح له جريء سلفع
و غيره يرفع ما بعد بينا و بينما- على الابتداء و الخبر- و ينشد هذا البيت على الرفع- . و هذا المعنى متداول قال الشاعر-
ألا إنما الدنيا كظل غمامة
أظلت يسيرا ثم خفت فولت
و قال
ظل الغمام و أحلام المنام فما
تدوم يوما لمخلوق على حال
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 5