و من خطبة له عليه السّلام
أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا دَارٌ لَا يُسْلَمُ مِنْهَا إِلَّا فِيهَا- وَ لَا يُنْجَى بِشَيْءٍ كَانَ لَهَا- ابْتُلِيَ النَّاسُ بِهَا فِتْنَةً- فَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لَهَا أُخْرِجُوا
مِنْهُ وَ حُوسِبُوا عَلَيْهِ- وَ مَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لِغَيْرِهَا قَدِمُوا عَلَيْهِ وَ أَقَامُوا فِيهِ- فَإِنَّهَا عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ كَفَيْءِ الظِّلِّ- بَيْنَا تَرَاهُ
سَابِغاً حَتَّى قَلَصَ وَ زَائِداً حَتَّى نَقَصَ
اللغة
أقول: بينا: أصله بين بمعنى التوسّط فاشبعت الفتحة فحدثت ألف، و قد تزاد ما فيقال بينما و المعنى واحد، و تحقيق الظرفيّة هنا أنّ الظلّ دائر بين السبوغ و التقلّص و الزيادة و النقصان. و قلص الظلّ نقص.
المعنى
و الغرض من هذا الفصل التحذير من الدنيا و التنبيه على وجوب لزوم أوامر اللّه فيها.
و أشار إلى ذلك في أوصاف لها:
الأوّل: كونه لا يسلم منها إلّا فيها. و تحقيق ذلك أنّه لا دار إلّا الدنيا و الآخرة، و قد علمت أنّ أسباب السلامة هى الزهد و العبادة و سائر أجزاء الرياضة و شيء منها لا يمكن في الآخرة بل كلّها أعمال متعلّقة بالبدن فإذن لا يتحقّق ما يلزمها من السلامة من الدنيا إلّا في الدنيا.
الثاني: كونها لا ينجى بشيء كان لها. و فيه إيماء إلى ذمّ الرياء في الأقوال و الأفعال و تحذير من كلّ عمل و قول قصد به الدنيا فإنّ شيئا من ذلك لا حظّ له في استلزام النجاة في الآخرة بل ربّما كان سببا للهلاك فيها لما أنّ الاشتغال بمهمّات الدنيا منس للآخرة.
الثالث: كونها قد ابتلى الناس بها فتنة. و فتنة منصوب بالمفعول له، و يحتمل أن يكون مصدرا سدّ مسدّ الحال. و نحوه قوله تعالى «وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ«» و لنبحث عن معنى الابتلاء بالدنيا و كونها فتنة. و اعلم أنّه ليس المراد أنّ اللّه تعالى لا يعلم ما يؤول إليه أحوال العباد و ما يكون منهم بعد خلقهم و ابتلائهم بالدنيا فإنّه تعالى هو العالم بما كان و ما يكون قبل كونه كما قال تعالى وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ«»» و قوله تعالى ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ«» بل الكشف عن حقيقة الابتلاء أنّه لمّا كان الإنسان إنّما يكون إنسانا بما خلق فيه من القوى الشهويّة و الغضبيّة و ما يتبعهما، و كان لهذه القوى ميول طبيعيّة إلى حاضر اللذّات الدنيويّة فهى مسشتهياتها و لا ابتهاج لها إلّا بها و لا حظّ لها من غيرها، و كانت النفوس الإنسانيّة مخالطة لهذه القوى و هى آلاتها، و لا وجه لها في تصرّفاتها غالب الأحوال إلّا هى، و كانت تلك القوى في أكثر الخلق جاذبة لنفوسها إلى مسشتهياتها الطبيعيّة بالطبع، و كانت تلك النفوس في أكثر الناس منقادة لقواها معرضة عن الآخرة مشغولة بحاضر ما وجدته من لذّات الدنيا عن تصوّر ما ورائها. ثمّ مع ذلك كان المطلوب منها ما يضادّ ذلك و هو ترك حاضر الدنيا، و منازعة هذه القوى في مسشتهياتها، و جذبها عن التوجّه بكليّتها إليها لمتابعة النفس في التفاتها عن ذلك إلى أمر لا يتصوّر في الدنيا إلّا بالأوصاف الخياليّة كما هو وظيفة الأنبياء عليهم السّلام مع الخلق كانت إرادته تعالى لذلك الالتفات مع ما هم فيه من منازعة الهوى فإن أطاعوه هلكوا و إن عصوه نجوا صورة امتحان. فاشبه ذلك ما يعتمده أحدنا عند عبده إذا أراد مثلا اختبار صبره و محنته له فوهب له جميع ما يشتهيه ثمّ كلّفه مع ذلك بتكاليف شاقّة لا يتمكّن من فعلها إلّا بالتفاته عن مشتهاه و تنغيصه عليه. فلا جرم صدقت صورة الابتلاء و الاختبار من اللّه في الوجود، و كذلك ظهر معنى كونها فتنة. فإنّ الفتنة الامتحان و الاختبار. و إنّ قدّرناها حالا فهى بمعنى الضلال و يعود إلى جذبها للنفوس إلى حاضر لذّاتها عن سنن الحقّ.
الرابع: كونهم ما أخذوه منها اخرجوا منه و حوسبوا عليه. و هو تنبيه على وجوب قصد الآخرة بما يؤخذ من الدنيا و يتصرّف فيه، و تنفير أن يجعل المأخوذ منها لمجرّد التمتّع بها بذكر وصفين: أحدهما: وجوب مفارقة المأخوذ منها و الإخراج منه، و الثاني: الحساب عليه في الآخرة. و اعلم أن الحساب على رأى الملّيّين ظاهر، قالوا: إنّ اللّه تعالى قادر على حساب الخلق دفعة واحدة و لا يشغله كلام عن كلام كما قال: و هو سريع الحساب. أمّا الحكماء فقالوا: إنّ للحساب معنى، و تقريره بتقديم مقدّمات.
الاولى أنّ كثرة الأفعال و تكرّرها يوجب حدوث الملكات في النفوس، و الاستقراء التامّ يكشف عن ذلك، و من كان مواظبته على عمل من الأعمال أكثر كان رسوخ تلك الملكة الصادرة عن ذلك الفعل في نفسه أقوى.
الثانية: أنّه لمّا كان تكرّر العمل يوجب حصول الملكة وجب أن يكون لكلّ عمل يفعله الإنسان أثر في حصول تلك الملكة بل يجب أن يكون لكلّ جزء من أجزاء العمل الواحد أثر في حصول لها بوجه ما و ضربوا لذلك مثالا فقالوا: لو فرضنا سفينة عظيمة بحيث لو القى فيها مائة ألف منّ فإنّها تغوص في الماء قدر شبر واحد و لو لم يكن فيها إلا حبّة واحدة من الحنطة فذلك القدر من الجسم الخفيف فيها يوجب غوصها في الماء بمقدار ماله من الثقل و إن بلغ في القلّة إلى حيث لا يدركه الحسّ. إذا عرفت ذلك فنقول: ما من فعل من الخير و الشر قليل و لا كثير إلّا و يفيد حصول أثر في النفس إمّا سعادة أو شقاوة. و عند هذا ينكشف سرّ قوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ و كذلك لمّا ثبت أنّ الأفعال إنّما تصدر بواسطة الجوارح من اليد و الرجل و غيرهما لا جرم كانت الأيدى و الأرجل شاهدة على الإنسان يوم القيامة بلسان حالها على معنى أنّ تلك الآثار النفسانيّة إنّما حصلت في جواهر النفوس بواسطة الأفعال الصادرة عنها فكان صدور تلك الأفعال من تلك الجوارح جاريا مجرى الشهادة على النفس بما اكتسبه بها. إذا عرفت ذلك فنقول: لمّا كانت حقيقة المحاسبة تعود إلى تعريف الإنسان ماله و ما عليه من مال و نحوه. و كان ما يحصل من النفوس من الملكات الخيريّة و الشرّيّة امورا مضبوطة في جوهرها محصاة عليها و إنّما تنكشف لها كثرة تلك الهيئات و تمكّنها من ذواتها و تضرّرها بها في الآن الّذي تنقطع فيه علاقة النفس مع البدن أشبه ذلك ما تبيّن للإنسان عند المحاسبة ممّا احصى عليه و له. فاطلق عليه لفظ الحساب. و ذلك اليقين و الاطّلاع هو المشار إليه بقوله عليه السّلام: و قدّموا عليه، و ليس المقصود أنّ ما يقدم عليه في الآخرة هو عين ما اخذ من الدنيا بل ثمرته في النفوس من خير أو شرّ فالّذي يتناوله الجاهلون منها لمجرّد التنعم بها فهو الّذى يتمكّن عنه هيئات السوء في جواهر نفوسهم فيقدمون عليها و يقيمون بها في عذاب جهنّم خالدون لا يفتّر عنهم و هم فيه مبلسون.
الخامس: كونها عند ذوى العقول كفىء الظلّ، و نبّه بهذا الوصف على سرعة زوالها، و إنّما خصّص ذوى العقول بذلك لأمرين: أحدهما: أنّ المعتبر لزوالها عامل بمجرّد عقله دون هواه فلذلك نسب إلى العقل. الثاني: أنّ حال ذوى العقول مرغوب فيه لمن سمعه. و لمّا كان مقصوده تحذير السامعين من سرعة زوالها ليعملوا فيها لما بعدها نسب ذلك إلى ذوى العقول ليقتفى السامعون أثرهم. ثمّ أشار إلى وجه شبهها للظلّ بقوله: بينا تراه. إلى آخره: أى أنّها يسرع زوالها كما يسرع زواله، و هو من التشبيهات السائرة، و مثله قول الشاعر.
ألا إنّما الدنيا كظلّ غمامة أظلّت يسيرا ثمّ حفّت فولّت
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 159