43 و من كلام له ع-
و قد أشار عليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام- بعد إرساله إلى معاوية بجرير بن عبد الله البجلي- :
إِنَّ اسْتِعْدَادِي لِحَرْبِ أَهْلِ الشَّامِ وَ جَرِيرٌ عِنْدَهُمْ- إِغْلَاقٌ لِلشَّامِ وَ صَرْفٌ لِأَهْلِهِ عَنْ خَيْرٍ إِنْ أَرَادُوهُ- وَ لَكِنْ قَدْ وَقَّتُّ لِجَرِيرٍ وَقْتاً لَا يُقِيمُ بَعْدَهُ- إِلَّا مَخْدُوعاً أَوْ عَاصِياً- وَ الرَّأْيُ مَعَ الْأَنَاةِ فَأَرْوِدُوا- وَ لَا أَكْرَهُ لَكُمُ الْإِعْدَادَ- وَ لَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هَذَا الْأَمْرِ وَ عَيْنَهُ- وَ قَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَ بَطْنَهُ- فَلَمْ أَرَ فِيهِ إِلَّا الْقِتَالَ أَوِ الْكُفْرَ- بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ص- إِنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى الْأُمَّةِ وَالٍ أَحْدَثَ أَحْدَاثاً- وَ أَوْجَدَ النَّاسَ مَقَالًا فَقَالُوا- ثُمَّ نَقَمُوا فَغَيَّرُوا أرودوا أي ارفقوا أرود في السير إروادا أي سار برفق- و الأناة التثبت و التأني و نهيه لهم عن الاستعداد- و قوله بعد و لا أكره لكم الإعداد غير متناقض- لأنه كره منهم إظهار الاستعداد و الجهر به- و لم يكره الإعداد في السر- و على وجه الخفاءو الكتمان- و يمكن أن يقال إنه كره استعداد نفسه- و لم يكره إعداد أصحابه و هذان متغايران- و هذا الوجه اختاره القطب الراوندي- . و لقائل أن يقول التعليل الذي علل به ع- يقتضي كراهية الأمرين معا- و هو أن يتصل بأهل الشام الاستعداد- فيرجعوا عن السلم إلى الحرب- بل ينبغي أن تكون- كراهته لإعداد جيشه و عسكره خيولهم و آلات حربهم أولى- لأن شياع ذلك أعظم من شياع استعداده وحده- لأنه وحده يمكن أن يكتم استعداده- و أما استعداد العساكر العظيمة فلا يمكن أن يكتم- فيكون اتصاله و انتقاله إلى أهل الشام أسرع- فيكون إغلاق الشام عن باب خير إن أرادوه أقرب- و الوجه في الجمع بين اللفظتين ما قدمناه- .
و أما قوله ع ضربت أنف هذا الأمر و عينه- فمثل تقوله العرب- إذا أرادت الاستقصاء في البحث و التأمل و الفكر- و إنما خص الأنف و العين لأنهما صورة الوجه- و الذي يتأمل من الإنسان إنما هو وجهه- . و أما قوله ليس إلا القتال أو الكفر- فلأن النهي عن المنكر واجب على الإمام- و لا يجوز له الإقرار عليه- فإن تركه فسق و وجب عزله عن الإمامة- . و قوله أو الكفر من باب المبالغة- و إنما هو القتال أو الفسق- فسمى الفسق كفرا تغليظا و تشديدا في الزجر عنه- . و قوله ع أوجد الناس مقالا- أي جعلهم واجدين له- . و قال الراوندي أوجد هاهنا بمعنى أغضب- و هذا غير صحيح لأنه لا شيء ينصب به مقالا- إذا كان بمعنى أغضب- و الوالي المشار إليه عثمان
ذكر ما أورده القاضي عبد الجبار من دفع ما تعلق به الناس على عثمان من الأحداث
يجب أن نذكر هاهنا أحداثه- و ما يقوله أصحابنا في تأويلاتها- و ما تكلم به المرتضى في كتاب الشافي في هذا المعنى- فنقول إن قاضي القضاة رحمه الله تعالى قال في المغني- قبل الكلام في تفصيل هذه الأحداث كلاما مجملا- معناه أن كل من تثبت عدالته و وجب توليه- إما على القطع و إما على الظاهر فغير جائز- أن يعدل فيه عن هذه الطريقة- إلا بأمر متيقن يقتضي العدول عنها- يبين ذلك أن من شاهدناه- على ما يوجب الظاهر توليه و تعظيمه- يجب أن يبقى فيه على هذه الطريقة و إن غاب عنا- و قد عرفنا أنه مع الغيبة- يجوز أن يكون مستمرا على حالته- و يجوز أن يكون منتقلا- و لم يقدح هذا التجويز في وجوب ما ذكرناه- .
ثم قال فالحدث الذي يوجب الانتقال عن التعظيم و التولي- إذا كان من باب محتمل لم يجز الانتقال لأجله- و الأحوال المتقررة في النفوس بالعادات و الأحوال- المعروفة فيمن نتولاه أقوى في باب الإمارة- من الأمور المتجددة- فإن مثل فرقد السبخي و مالك بن دينار- لو شوهدا في دار فيها منكر- لقوي في الظن حضورهما للتغيير و الإنكار- أو على وجه الإكراه أو الغلط- و لو كان الحاضر هناك من علم من حاله الاختلاط بالمنكر- لجوز حضوره للفساد بل كان ذلك هو الظاهر من حاله- . ثم قال و اعلم أن الكلام فيما يدعى من الحدث و التغير- فيمن ثبت توليه- قد يكون من وجهين- أحدهما هل علم بذلك أم لا- . و الثاني أنه مع يقين حصوله- هل هو حدث يؤثر في العدالة أم لا- . و لا فرق بين تجويز ألا يكون حدث أصلا- و بين أن يعلم حدوثه و يجوز ألا يكون حدثا- .
ثم قال كل محتمل- لو أخبر الفاعل أنه فعله على أحد الوجهين- و كان يغلب على الظن صدقه لوجب تصديقه- فإذا عرف من حاله المتقررة في النفوس- ما يطابق ذلك جرى مجرى الإقرار- بل ربما كان أقوى- و متى لم نسلك هذه الطريقة في الأمور المشتبهة- لم يصح في أكثر من نتولاه و نعظمه أن تسلم حاله عندنا- فإنا لو رأينا من يظن به الخير- يكلم امرأة حسناء في الطريق- لكان ذلك من باب المحتمل- فإذا كان لو أخبر أنها أخته أو امرأته- لوجب ألا نحول عن توليه- فكذلك إذا كان قد تقدم في النفوس ستره و صلاحه- فالواجب أن نحمله على هذا الوجه- . ثم قال و قول الإمام له مزية في هذا الباب- لأنه آكد من غيره- و أما ما ينقل عن رسول الله ص- فإنه و إن لم يكن مقطوعا به يؤثر في هذا الباب- و يكون أقوى مما تقدم- . ثم قال و قد طعن الطاعنون فيه بأمور متنوعة مختلفة- و نحن نقدم على تلك المطاعن كلاما مجملا- يبين بطلانها على الجملة ثم نتكلم عن تفصيلها- .
قال و ذلك أن شيخنا أبا علي رحمه الله تعالى قد قال- لو كانت هذه الأحداث مما توجب طعنا على الحقيقة- لوجب من الوقت الذي ظهر ذلك من حاله- أن يطلب المسلمون رجلا ينصب للإمامة- و أن يكون ظهور ذلك عن عثمان كموته- فإنه لا خلاف أنه متى ظهر من الإمام ما يوجب خلعه- أن الواجب على المسلمين إقامة إمام سواه- فلما علمنا أن طلبهم لإقامة إمام إنما كان بعد قتله- و لم يكن من قبل و التمكن قائم- علمنا بطلان ما أضيف إليه من الأحداث- .
قال و ليس لأحد أن يقول إنهم لم يتمكنوا من ذلك- لأن المتعالم من حالهم أنهم حصروه- و منعوه من التمكن من نفسه- و من التصرف في سلطانه- خصوصا و الخصوم يدعون- أن الجميع كانوا على قول واحد في خلعه و البراءة منه- . قال و معلوم من حال هذه الأحداث- أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حوصر فيها و قتل- بل كانت تحصل من قبل حالا بعد حال- فلو كان ذلك يوجب الخلع و البراءة- لما تأخر من المسلمين الإنكار عليه- و لكان كبار الصحابة المقيمون بالمدينة- أولى بذلك من الواردين من البلاد- لأن أهل العلم و الفضل بإنكار ذلك أحق من غيرهم- . قال فقد كان يجب على طريقتهم- أن تحصل البراءة و الخلع من أول الوقت- الذي حصل منه ما أوجب ذلك- و ألا ينتظر حصول غيره من الأحداث- لأنه لو وجب انتظار ذلك لم ينته إلى حد إلا و ينتظر غيره- . ثم ذكر أن إمساكهم عن ذلك إذا تيقنوا الأحداث منه- يوجب نسبة الجميع إلى الخطإ و الضلال- و لا يمكنهم أن يقولوا إن علمهم بذلك- إنما حصل في الوقت الذي حصر و منع- لأن من جملة الأحداث التي يذكرونها ما تقدم عن هذه الحال- بل كلها أو جلها تقدم هذا الوقت- و إنما يمكنهم أن يتعلقوا فيما حدث في هذا الوقت- بما يذكرونه منحديث الكتاب النافذ- إلى ابن أبي سرح بالقتل- و ما أوجب كون ذلك حدثنا يوجب كون غيره حدثا- فكان يجب أن يفعلوا ذلك من قبل- و احتمال المتقدم للتأويل كاحتمال المتأخر- .
ثم قال و بعد فليس يخلو من أن يدعوا- أن طلب الخلع وقع من كل الأمة أو من بعضهم- فإن ادعوا ذلك في بعض الأمة- فقد علمنا أن الإمامة إذا ثبتت بالإجماع- لم يجز إبطالها بلا خلاف- لأن الخطأ جائز على بعض الأمة- و إن ادعوا في ذلك الإجماع لم يصح- لأن من جملة أهل الإجماع عثمان و من كان ينصره- و لا يمكن إخراجه من الإجماع- بأن يقال إنه كان على باطل- لأن بالإجماع يتوصل إلى ذلك و لم يثبت- . ثم قال على أن الظاهر من حال الصحابة- أنها كانت بين فريقين- أما من نصره فقد روي عن زيد بن ثابت- أنه قال لعثمان و من معه من الأنصار ائذن لنا بنصرك- و روي مثل ذلك عن ابن عمر و أبي هريرة و المغيرة بن شعبة- و الباقون ممتنعون انتظارا لزوال العارض- إلا أنه لو ضيق عليهم الأمر في الدفع ما قعدوا- بل المتعالم من حالهم ذلك- . ثم ذكر ما روي من إنفاذ أمير المؤمنين ع- الحسن و الحسين ع إليه- و أنه لما قتل لامهما ع على وصول القوم إليه- ظنا منه أنهما قصرا- .
و ذكر أن أصحاب الحديث يروون عن النبي ص أنه قال ستكون فتنة و اختلاف- و أن عثمان و أصحابه يومئذ على الهدى- و ما روي عن عائشة من قولها قتل و الله مظلوما- . قال و لا يمتنع أن يتعلق بأخبار الأحاديث في ذلك- لأنه ليس هناك أمر ظاهر يدفعه- نحو دعواهم أن جميع الصحابة كانوا عليه- لأن ذلك دعوى منهم و إن كان فيه رواية من جهة الآحاد- و إذا تعارضت الروايات سقطت- و وجب الرجوع إلى ما ثبت من أحواله السليمة و وجوب توليه- .
قال- و لا يجوز أن يعدل عن تعظيمه و صحة إمامته بأمور محتملة- فلا شيء مما ذكروه إلا و يحتمل الوجه الصحيح- . ثم ذكر أن للإمام أن يجتهد برأيه في الأمور المنوطة به- و يعمل فيها على غالب ظنه و قد يكون مصيبا- و إن أفضت إلى عاقبة مذمومة- . فهذه جملة ما ذكره قاضي القضاة رحمه الله تعالى- في المغني من الكلام إجمالا- في دفع ما يتعلق به على عثمان من الأحداث
رد المرتضى على ما أورده القاضي عبد الجبار من الدفاع عن عثمان
و اعترض المرتضى رحمه الله تعالى في الشافي فقال- أما قوله- من تثبت عدالته و وجب توليه إما قطعا أو على الظاهر- فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن- فغير مسلم لأن من نتولاه على الظاهر- و ثبتت عدالته عندنا من جهة غالب الظن- يجب أن نرجع عن ولايته- بما يقتضي غالب الظن دون اليقين- و لهذا يؤثر في جرح الشهود و سقوط عدالتهم- أقوال الجارحين- و إن كانت مظنونة غير معلومة- و ما يظهر من أنفسهم من الأفعال- التي لها ظاهر يظن معه القبيح بهم- حتى نرجع عما كنا عليه من القول بعدالتهم- و إن لم يكن كل ذلك متيقنا- و إنما يصح ما ذكره- فيمن ثبتت عدالته على القطع و وجب توليه على الباطن- فلا يجوز أن يؤثر في حاله ما يقتضي الظن- لأن الظن لا يقابل العلم و الدلالة لا تقابل الأمارة- .
فإن قال لم أرد بقولي إلا بأمر متيقن أن كونه حدثا متيقن- و إنما أردت تيقن وقوع الفعل نفسه- – . قلنا الأمران سواء في تأثير غلبة الظن فيهما- و لهذا يؤثر- في عدالة من تقدمت عدالته عندنا على سبيل الظن- أقوال من يخبرنا عنه بارتكاب القبائح إذا كانوا عدولا- و إن كانت أقوالهم لا تقتضي اليقين- بل يحصل عندها غالب الظن- و كيف لا نرجع عن ولاية من توليناه على الظاهر- بوقوع أفعال منه يقتضي ظاهرها خلاف الولاية- و نحن إنما قلنا بعدالته في الأصل على سبيل الظاهر- و مع التجويز لأن يكون ما وقع منه في الباطن قبيحا- لا يستحق به التولي و التعظيم- أ لا ترى أن من شاهدناه يلزم مجالس العلم- و يكرر تلاوة القرآن و يدمن الصلاة و الصيام و الحج- يجب أن نتولاه و نعظمه على الظاهر- و إن جوزنا أن يكون جميع ما وقع منه مع خبث باطنه- و أن غرضه في فعله القبيح فلم نتوله إلا على الظاهر- و مع التجويز- فكيف لا نرجع عن ولايته بما يقابل هذه الطريقة- فأما من غاب عنا و تقدمت له أحوال تقتضي الولاية- فيجب أن نستمر على ولايته- و إن جوزنا على الغيبة- أن يكون منتقلا عن الأحوال الجميلة التي عهدناها منه- إلا أن هذا تجويز محض لا ظاهر معه يقابل ما تقدم من الظاهر الجميل- و هو بخلاف ما ذكرناه من مقابلة الظاهر للظاهر- و إن كان في كل واحد من الأمرين تجويز- .
قال و قد أصاب في قوله- إن ما يحتمل لا ينتقل له عن التعظيم و التولي- إن أراد بالاحتمال ما لا ظاهر له- و أما ما له ظاهر و مع ذلك يجوز أن يكون الأمر فيه بخلاف ظاهره- فإنه لا يسمى محتملا- و قد يكون مؤثرا فيما ثبت من التولي على الظاهر- على ما ذكرناه- . قال فأما قوله- إن الأحوال المتقررة في النفوس بالعادات- فيمن نتولاه تؤثر ما لا يؤثر غيرها- و تقتضي حمل أفعاله على الصحة و التأول له- فلا شك أن ما ذكره مؤثر و طريق قوي إلى غلبة الظن- إلا أنه ليس يقتضي ما يتقرر في نفوسنا- لبعض من نتولاه على الظاهر- أن نتأول كل ما يشاهد منه من الأفعال التي لها ظاهر قبيح- و نحمل الجميع على أجمل الوجوه- و إن كان بخلاف الظاهر- بل ربما تبين الأمر فيما يقع منه من الأفعال- التي ظاهرها القبيح إلى أن تؤثر في أحواله المقررة- و نرجع بها عن ولايته- و لهذا نجد كثيرا من أهل العدالة- المتقررة لهم في النفوس- ينسلخون منها حتى يلحقوا بمن لا تثبت له- في وقت من الأوقات عدالة- و إنما يكون ذلك بما يتوالى منهم- و يتكرر من الأفعال القبيحة الظاهرة- .
قال فأما ما استشهد به- من أن مثل مالك بن دينار لو شاهدناه في دار فيها منكر- لقوي في الظن حضوره لأجل التغيير و الإنكار- أو على وجه الإكراه و الغلط- و أن غيره يخالفه في هذا الباب- فصحيح لا يخالف ما ذكرناه- لأن مثل مالك بن دينار- ممن تناصرت أمارات عدالته- و شواهد نزاهته حالا بعد حال- لا يجوز أن يقدح فيه فعل له ظاهر قبيح- بل يجب لما تقدم من حاله أن نتأول فعله- و نخرجه عن ظاهره إلى أجمل وجوهه- و إنما وجب ذلك لأن الظنون المتقدمة- أقوى و أولى بالترجيح و الغلبة- فنجعلها قاضية على الفعل و الفعلين- و لهذا متى توالت منه الأفعال القبيحة الظاهرة و تكررت- قدحت في حاله و أثرت في ولايته- كيف لا يكون كذلك- و طريق ولايته في الأصل هو الظن و الظاهر- و لا بد من قدح الظاهر في الظاهر- و تأثير الظن في الظن على بعض الوجوه- .
قال فأما قوله- فإن كل محتمل لو أخبرنا عنه و هو مما يغلب على الظن- صدقه أنه فعله على أحد الوجهين وجب تصديقه- فمتى عرف من حاله المتقررة في النفوس ما يطابق ذلك- جرى مجرى الإخبار- فأول ما فيه أن المحتمل هو ما لا ظاهر له من الأفعال- و الذي يكون جواز كونه قبيحا كجواز كونه حسنا- و مثل هذا الفعل لا يقتضي ولاية و لا عداوة- و إنما يقتضي الولاية ما له من الأفعال ظاهر جميل- و يقتضي العداوة ما له ظاهر قبيح- . فإن قال أردت بالمحتمل ما له ظاهر- لكنه يجوز أن يكون الأمر بخلاف ظاهره- .
قيل له ما ذكرته لا يسمى محتملا- فإن كنت عنيته فقد وضعت العبارة في غير موضعها- و لا شك في أنه إذا كان ممن لو أخبرنا- بأنه فعل الفعل على أحد الوجهين- لوجب تصديقه و حمل الفعل على خلاف ظاهره- فإن الواجب لما تقرر له في النفوس أن يتأول له- و يعدل بفعله عن الوجه القبيح إلى الوجه الجميل- إلا أنه متى توالت منه الأفعال التي لها ظواهر قبيحة- فلا بد أن تكون مؤثرة في تصديقه- متى خبرنا بأن غرضه في الفعل خلاف ظاهره- كما تكون مانعة من الابتداء بالتأول- . و ضربه المثل بأن من نراه يكلم امرأة حسناء في الطريق- إذا أخبر أنها أخته أو امرأته- في أن تصديقه واجب- و لو لم يخبر بذلك لحملنا كلامه لها على أجمل الوجوه- لما تقدم له في النفوس صحيح- إلا أنه لا بد من مراعاة ما تقدم ذكره- من أنه قد يقوى الأمر لقوة الأمارات و الظواهر- إلى حد لا يجوز معه تصديقه و لا التأول له- و لو لا أن الأمر قد ينتهي إلى ذلك- لما صح أن يخرج أحد عندنا من الولاية إلى العداوة- و لا من العدالة إلى خلافها- لأنه لا شيء مما يفعله الفساق المتهتكون- إلا و يجوز أن يكون له باطن بخلاف الظاهر- و مع ذلك فلا يلتفت إلى هذا التجويز- يبين صحة ما ذكرناه أنا لو رأينا من يظن به الخير- يكلم امرأة حسناء في الطريق و يداعبها و يضاحكها- لظننا به الجميل مرة و مرات- ثم ينتهي الأمر إلى ألا نظنه- و كذلك لو شاهدناه و بحضرته المنكر- لحملنا حضوره على الغلط أو الإكراه- أو غير ذلك من الوجوه الجميلة- ثم لا بد من انتهاء الأمر إلى أن نظن به القبيح- و لا نصدقه في كلامه- .
قال ثم نقول له- أخبرنا عمن شاهدناه من بعد- و هو مفترش امرأة نعلم أنها ليست له بمحرم- و أن لها في الحال زوجا غيره- و هو ممن تقررت له في النفوس عدالة متقدمة- ما ذا يجب أن نظن به- و هل نرجع بهذا الفعل عن ولايته- أم نحمله على أنه غالط و متوهم أن المرأة زوجته- أو على أنه مكره على الفعل أو غير ذلك من الوجوه الجميلة- . فإن قال نرجع عن الولاية- اعترف بخلاف ما قصده في الكلام- و قيل له أي فرق بين هذا الفعل- و بين جميع ما عددناه من الأفعال- و ادعيت أن الواجب أن نعدل عن ظاهرها- و ما جواز الجميل في ذلك إلا كجواز الجميل في هذا الفعل- . و إن قال لا أرجع بهذا الفعل عن ولايته- بل نؤوله على بعض الوجوه الجميلة- . قيل له أ رأيت لو تكرر هذا الفعل- و توالى هو و أمثاله حتى نشاهده حاضرا في دور القمار- و مجالس اللهو و اللعب- و نراه يشرب الخمر بعينها- و كل هذا مما يجوز أن يكون عليه مكرها- و في أنه القبيح بعينه غالطا- أ كان يجب علينا الاستمرار على ولايته أم العدول عنها- فإن قال نستمر و نتأول- ارتكب ما لا شبهة في فساده- و ألزم ما قد قدمنا ذكره- من أنه لا طريق إلى الرجوع عن ولاية أحد- و لو شاهدنا منه أعظم المناكير- و وقف أيضا على أن طريق الولاية المتقدمة- إذا كان الظن دون القطع- فكيف لا نرجع عنها لمثل هذا الطريق- فلا بد إذن من الرجوع- إلى ما بيناه و فصلناه في هذا الباب- . قال فأما قوله- إن قول الإمام له مزية لأنه آكد من غيره- فلا معنى له- لأن قول الإمام على مذهبنا يجب أن يكون له مزية- من حيث كان معصوما مأمون الباطن- و على مذهبه إنما تثبت ولايته بالظاهر- كما تثبت ولاية غيره من سائر المؤمنين- فأي مزية له في هذا الباب- .
و قوله إن ما ينقل عن الرسول- و إن لم يكن مقطوعا عليه يؤثر في هذا الباب- و يكون أقوى مما تقدم- غير صحيح على إطلاقه- لأن تأثير ما ينقل إذا كان يقتضي غلبة الظن لا شبهة فيه- فأما تقويته على غيره فلا وجه له- و قد كان يجب أن يبين من أي الوجوه يكون أقوى- . فهذه جملة ما اعترض به المرتضى- على الفصل الأول من كلام قاضي القضاة رحمه الله تعالى- .
تم الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة
الجزء الثالث
تتمة الخطب و الأوامر
تتمة خطبة 43
بسم الله الرحمن الرحيم-
الحمد لله الواحد العدل الكريم- و اعلم أن الذي ذكره المرتضى رحمه الله تعالى- و أورده على قاضي القضاة جيد و لازم- متى ادعى قاضي القضاة أن العدالة إذا ثبتت ظنا أو قطعا- لم يجز العدول عنها و التبرؤ إلا بما يوجب القطع- و يعلم به علما يقينيا زوالها- فأما إذا ادعى أن المعلوم لا يزول إلا بما يوجب العلم- فلا يرد عليه ما ذكره المرتضى رحمه الله تعالى- . و له أن يقول قد ثبتت بالإجماع إمامة عثمان- و الإجماع دليل قطعي عند أصحابنا- و كل من ثبتت إمامته- ثبتت عدالته بالطريق التي بها ثبتت إمامته- لأنه لا يجوز أن تكون إمامته معلومة و شرائطها مظنونة- لأن الموقوف على المظنون مظنون- فتكون إمامته مظنونة و قد فرضناها معلومة- و هذا خلف و محال- و إذا كانت عدالته معلومة- لم يجز القول بانتفائها و زوالها إلا بأمر معلوم- . و الأخبار التي رويت في أحداثه أخبار آحاد لا تفيد العلم- فلا يجوز العدول عن المعلوم بها- فهذا الكلام إذا رتب هذا الترتيب- اندفع به ما اعترض به المرتضى رحمه الله تعالى
بقية رد المرتضى على ما أورده القاضي عبد الجبار من الدفاع عن عثمان
فأما كلام المرتضى رحمه الله تعالى- على الفصل الثاني من كلام قاضي القضاة- و هو الفصل المحكي عن شيخنا أبي علي رحمه الله تعالى- فنحن نورده قال رحمه الله تعالى- . أما قوله لو كان ما ذكر من الأحداث قادحا- لوجب من الوقت الذي ظهرت الأحداث فيه- أن يطلبوا رجلا ينصبونه في الإمامة- لأن ظهور الحدث كموته- فلما رأيناهم طلبوا إماما بعد قتله- دل على بطلان ما أضافوه إليه من الأحداث- فليس بشيء معتمد- لأن تلك الأحداث و إن كانت مزيلة عندهم لإمامته- و فاسخة لها و مقتضية لأن يعقدوا لغيره الإمامة- إلا أنهم لم يكونوا قادرين على أن يتفقوا على نصب غيره- مع تشبثه بالأمر خوفا من الفتنة و التنازع و التجاذب- و أرادوا أن يخلع نفسه حتى تزول الشبهة- و ينشط من يصلح للأمر لقبول العقد و التكفل بالأمر- و ليس يجري ذلك مجرى موته- لأن موته يحسم الطمع في استمرار ولايته- و لا تبقى شبهة في خلو الزمان من إمام- و ليس كذلك حدثه الذي يسوغ فيه التأويل على بعده- و تبقى معه الشبهة في استمرار أمره- و ليس نقول إنهم لم يتمكنوا من ذلك كما سأل نفسه- بل الوجه في عدولهم ما ذكرناه من إرادتهم حسم المواد و إزالة الشبهة و قطع أسباب الفتنة- .
قال فأما قوله إنه معلوم من حال هذه الأحداث- أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حصر فيها و قتل- بل كانت تقع حالا بعد حال- فلو كانت توجب الخلع و البراءة- لما تأخر من المسلمين الإنكار عليه- و لكان المقيمون من الصحابة بالمدينة- أولى بذلك من الواردين من البلاد- فلا شك أن الأحداث لم تحصل في وقت واحد- إلا أنه غير منكر أن يكون نكيرهم إنما تأخر- لأنهم تأولوا ما ورد عليهم من أفعاله على أجمل الوجوه- حتى زاد الأمر و تفاقم- و بعد التأويل و تعذر التخريج- و لم يبق للظن الجميل طريق فحينئذ أنكروا- و هذا مستمر على ما قدمنا ذكره- من أن العدالة و الطريقة الجميلة- يتأول لها في الفعل و الأفعال القليلة- بحسب ما تقدم من حسن الظن به- ثم ينتهي الأمر بعد ذلك إلى بعد التأويل- و العمل على الظاهر القبيح- .
قال على أن الوجه الصحيح في هذا الباب- أن أهل الحق كانوا معتقدين بخلعه من أول حدث- بل معتقدين أن إمامته لم تثبت وقتا من الأوقات- و إنما منعهم من إظهار ما في نفوسهم- ما قدمناه من أسباب الخوف و التقية- لأن الاعتذار بالوجل كان عاما- فلما تبين أمره حالا بعد حال- و أعرضت الوجوه عنه- و قل العاذر له قويت الكلمة في خلعه- و هذا إنما كان في آخر الأمر دون أوله- فليس يقتضي الإمساك عنه إلى الوقت الذي وقع الكلام فيه- نسبة الخطأ إلى الجميع على ما ظنه- .
قال فأما دفعه- بأن تكون الأمة أجمعت على خلعه بخروجه نفسه- و خروج من كان في حيزه عن القوم فليس بشيء- لأنه إذا ثبت أن من عداه و عدا عبيده- و الرهيط من فجار أهله و فساقهم- كمروان و من جرى مجراه- كانوا مجمعين على خلعه- فلا شبهة في أن الحق في غير حيزه- لأنه لا يجوز أن يكون هو المصيب و جميع الأمة مبطل- و إنما يدعى أنه على الحق لمن ينازع في إجماع من عداه- فأما مع التسليم لذلك فليس يبقى شبهة- و ما نجد مخالفينا يعتبرون في باب الإجماع بإجماع الشذاذ- و النفر القليل الخارجين من الإجماع- أ لا ترى أنهم لا يحفلون بخلاف سعد و أهله و ولده- في بيعه أبي بكر لقلتهم و كثرة من بإزائهم- و لذلك لا يعتدون بخلاف من امتنع من بيعة أمير المؤمنين ع- و يجعلونه شاذا لا تأثير بخلافه- فكيف فارقوا هذه الطريقة في خلع عثمان- و هل هذا إلا تقلب و تلون- .
قلت أما إذا احتج أصحابنا على إمامة أبي بكر بالإجماع- فاعتراض حجتهم بخلاف سعد و ولده و أهله اعتراض جيد- و ليس يقول أصحابنا في جوابه- هؤلاء شذاذ فلا نحفل بخلافهم- و إنما المعتبر بالكثرة التي بإزائهم- و كيف يقولون هذا- و حجتهم الإجماع و لا إجماع- و لكنهم يجيبون عن ذلك بأن سعدا مات في خلافة عمر- فلم يبق من يخالف في خلافة عمر- فانعقد الإجماع عليها- و بايع ولد سعد و أهله من قبل- و إذا صحت خلافة عمر صحت خلافة أبي بكر لأنها فرع عليها- و محال أن يصح الفرع و يكون الأصل فاسدا- فهكذا يجيب أصحابنا عن الاعتراض بخلاف سعد- إذا احتجوا بالإجماع- فأما إذا احتجوا بالاختيار- فلا يتوجه نحوهم الاعتراض بخلاف سعد و أهله و ولده- لأنه ليس من شرط ثبوت الإمامة بالاختيار- إجماع الأمة على الاختيار- و إنما يكفي فيه بيعة خمسة من أهل الحل و العقد- على الترتيب الذي يرتب أصحابنا الدلالة عليه- و بهذا الطريق يثبت عندهم إمامة علي ع- و لم يحفل بخلاف معاوية و أهل الشام فيها- .
قال رحمه الله تعالى- فأما قوله إن الصحابة كانت بين فريقين- من نصره كزيد بن ثابت و ابن عمر و فلان و فلان- و الباقون ممتنعون انتظارا لزوال العارض- و لأنه ما ضيق عليهم الأمر في الدفع عنه فعجيب- لأن الظاهر أن أنصاره هم الذين كانوا معه في الدار- يقاتلون عنه و يدفعون الهاجمين عليه- . فأما من كان في منزله ما أغنى عنه فتيلا فلا يعد ناصرا- و كيف يجوز ممن أراد نصرته- و كان معتقدا لصوابه- و خطإ المطالبين له بالخلع- أن يتوقف عن النصرة طلبا لزوال العارض- و هل تراد النصرة إلا لدفع العارض- و بعد زواله لا حاجة إليها- و ليس يحتاج في نصرته إلى أن يضيق هو عليهم الأمر فيها- بل من كان معتقدا لها لا يحتاج حمله إلى إذنه فيها- و لا يحفل بنهيه عنها- لأن المنكر مما قد تقدم أمر الله تعالى بالنهي عنه- فليس يحتاج في إنكاره إلى أمر غيره- .
قال فأما زيد بن ثابت فقد روي ميله إلى عثمان- و ما يغني ذلك و بإزائه جميع المهاجرين و الأنصار- و لميله إليه سبب معروف- فإن الواقدي روى في كتاب الدار- أن مروان بن الحكم لما حصر عثمان الحصر الأخير- أتى زيد بن ثابت فاستصحبه إلى عائشة- ليكلمها في هذا الأمر- فمضيا إليها و هي عازمة على الحج- فكلماها في أن تقيم و تذب عنه- فأقبلت على زيد بن ثابت- فقالت و ما منعك يا ابن ثابت- و لك الأشاريف قد اقتطعكها عثمان و لك كذا و كذا- و أعطاك عثمان من بيت المال عشرة آلاف دينار- قال زيد فلم أرجع عليها حرفا واحدا- و أشارت إلى مروان بالقيام- فقام مروان و هو يقول-
حرق قيس علي البلاد
حتى إذا اضطرمت أجذما
فنادته عائشة و قد خرج من العتبة- يا ابن الحكم أ علي تمثل الأشعار- قد و الله سمعت ما قلت- أ تراني في شك من صاحبك- و الذي نفسي بيده- لوددت أنه الآن في غرارة من غرائري مخيط عليه- فألقيه في البحر الأخضر- قال زيد بن ثابت فخرجنا من عندها على اليأس منها- . و روى الواقدي- أن زيد بن ثابت اجتمع عليه عصابة من الأنصار- و هو يدعوهم إلى نصرة عثمان- فوقف عليه جبلة بن عمرو بن حبة المازني- فقال له و ما يمنعك يا زيد أن تذب عنه- أعطاك عشرة آلاف دينار و حدائق من نخل- لم ترث عن أبيك مثل حديقة منها- . فأما ابن عمر فإن الواقدي روى أيضا عنه- أنه قال و الله ما كان فينا إلا خاذل أو قاتل- و الأمر على هذا أوضح من أن يخفى- . فأما ما ذكره من إنفاذ أمير المؤمنين ع الحسن و الحسين ع- فإنما أنفذهما إن كان أنفذهما- ليمنعا من انتهاك حريمه و تعمد قتله- و منع خرمه و نسائه من الطعام و الشراب- و لم ينفذهما ليمنعا من مطالبته بالخلع- و كيف و هو ع مصرح بأنه يستحق بإحداثه الخلع- و القوم الذين سعوا في ذلك إليه كانوا يغدون و يروحون- و معلوم منه ضرورة أنه كان مساعدا على خلعه و نقض أمره- لا سيما في المرة الأخيرة- فأما ادعاؤه أنه ع لعن قتلته- فهو يعلم ما في هذا من الروايات المختلفة- التي هي أظهر من هذه الرواية و إن صحت- فيجوز أن تكون محمولة على لعن من قتله متعمدا قتله- قاصدا إليه فإن ذلك لم يكن لهم- . فأما ادعاؤه أن طلحة رجع لما ناشده عثمان يوم الدار- فظاهر البطلان و غير معروف في الرواية- و الظاهر المعروف أنه لم يكن على عثمان أشد من طلحة- و لا أغلظ منه- .
قال و لو حكينا من كلامه فيه ما قد روي- لأفنينا قطعة كثيرة من هذا الكتاب- و قد روي أن عثمان كان يقول يوم الدار- اللهم اكفني طلحة و يكرر ذلك- علما بأنه أشد القوم عليه- و روي أن طلحة كان عليه يوم الدار درع و هو يرامي الناس- و لم ينزع عن القتال حتى قتل الرجل- . فأما ادعاؤه الرواية-عن رسول الله ص ستكون فتنة- و أن عثمان و أصحابه يومئذ على الهدى – فهو يعلم أن هذه الرواية الشاذة- لا تكون في مقابلة المعلوم- ضرورة من إجماع الأمة على خلعه و خذله- و كلام وجوه المهاجرين و الأنصار فيه- و بإزاء هذه الرواية ما يملأ الطروس عن النبي ص و غيره- مما يتضمن ما تضمنته- و لو كانت هذه الرواية معروفة- لكان عثمان أولى الناس بالاحتجاج بها يوم الدار- و قد احتج عليهم بكل غث و سمين- و قبل ذلك لما خوصم و طولب بأن يخلع نفسه- و لاحتج بها عنه بعض أصحابه و أنصاره- و في علمنا بأن شيئا من ذلك لم يكن- دلالة على أنها مصنوعة موضوعة- . فأما ما رواه عن عائشة من قولها قتل و الله مظلوما- فأقوال عائشة فيه معروفة و معلومة- و إخراجها قميص رسول الله ص و هي تقول- هذا قميصه لم يبل- و قد أبلى عثمان سنته- إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة- .
فأما مدحها له و ثناؤها عليه- فإنما كانا عقيب علمها بانتقال الأمر- إلى من انتقل إليه- و السبب فيه معروف و قد وقفت عليه- و قوبل بين كلامها فيه متقدما و متأخرا- . فأما قوله لا يمتنع أن يتعلق بأخبار الآحاد في ذلك- لأنها في مقابلة ما يدعونه مما طريقه أيضا الآحاد- فواضح البطلان- لأن إطباق الصحابة و أهل المدينة- إلا من كان في الدار معه على خلافه- فإنهم كانوا بين مجاهد و مقاتل مبارز- و بين متقاعد خاذل- معلوم ضرورة لكل من سمع الأخبار- و كيف يدعى أنها من جهة الآحاد- حتى يعارض بأخبار شاذة نادرة- و هل هذا إلا مكابرة ظاهرة- . فأما قوله إنا لا نعدل عن ولايته بأمور محتملة- فقد مضى الكلام في هذا المعنى- و قلنا إن المحتمل هو ما لا ظاهر له- و يتجاذبه أمور محتملة- فأما ما له ظاهر فلا يسمى محتملا و إن سماه بهذه التسمية- فقد بينا أنه مما يعدل من أجله عن الولاية- و فصلنا ذلك تفصيلا بينا- .
و أما قوله إن للإمام أن يجتهد برأيه في الأمور المنوطة به- و يكون مصيبا و إن أفضت إلى عاقبة مذمومة- فأول ما فيه أنه ليس للإمام و لا غيره أن يجتهد في الأحكام- و لا يجوز أن يعمل فيها إلا على النص- ثم إذا سلمنا الاجتهاد- فلا شك أن هاهنا أمورا لا يسوغ فيها الاجتهاد- حتى يكون من خبرنا عنه بأنه اجتهد فيها غير مصوب- و تفصيل هذه الجملة- يبين عند الكلام على ما تعاطاه من الإعذار- عن أحداثه على جهة التفصيل- . قلت الكلام في هذا الموضع على سبيل الاستقصاء- إنما يكون في الكتب الكلامية- المبسوطة في مسألة الإمامة- و ليس هذا موضع ذاك- و لكن يكفي قاضي القضاة أن يقول-قد ثبت بالإجماع صحة إمامة عثمان- فلا يجوز الرجوع عن هذا الإجماع- إلا بإجماع معلوم على خلعه و إباحة قتله- و لم يجمع المسلمون على ذلك- لأنه قد كان بالمدينة من ينكر ذلك و إن قلوا- و قد كان أهل الأمصار ينكرون ذلك- كالشام و البصرة و الحجاز و اليمن و مكة و خراسان- و كثير من أهل الكوفة و هؤلاء مسلمون- فيجب أن تعتبر أقوالهم في الإجماع- فإذا لم يدخلوا فيمن أجلب عليه- لم ينعقد الإجماع على خلعه و لا على إباحة دمه- فوجب البقاء على ما اقتضاه
الإجماع الأول
ذكر المطاعن التي طعن بها على عثمان و الرد عليها
فأما الكلام في المطاعن المفصلة التي طعن بها فيه-
فنحن نذكرها و نحكي ما ذكره قاضي القضاة- و ما اعترضه به المرتضى رحمه الله تعالى- .
الطعن الأول- قال قاضي القضاة في المغني فمما طعن به عليه قولهم- إنه ولى أمور المسلمين من لا يصلح لذلك و لا يؤتمن عليه- و من ظهر منه الفسق و الفساد و من لا علم عنده- مراعاة منه لحرمة القرابة- و عدولا عن مراعاة حرمة الدين و النظر للمسلمين- حتى ظهر ذلك منه و تكرر- و قد كان عمر حذره من ذلك- حيث وصفه بأنه كلف بأقاربه- و قال له إذا وليت هذا الأمر- فلا تسلط بني أبي معيط على رقاب الناس- فوقع منه ما حذره إياه- و عوتب في ذلك فلم ينفع العتب- و ذلك نحو استعماله الوليد بن عقبة و تقليده إياه-حتى ظهر منه شرب الخمر- و استعماله سعيد بن العاص- حتى ظهرت منه الأمور التي عندها أخرجه أهل الكوفة- و توليته عبد الله بن أبي سرح- و عبد الله بن عامر بن كريز- حتى روي عنه في أمر ابن أبي سرح أنه لما تظلم منه أهل مصر- و صرفه عنهم بمحمد بن أبي بكر- كاتبه بأن يستمر على ولايته- فأبطن خلاف ما أظهر- فعل من غرضه خلاف الدين- و يقال إنه كاتبه بقتل محمد بن أبي بكر- و غيره ممن يرد عليه- و ظفر بذلك الكتاب- و لذلك عظم التظلم من بعد و كثر الجمع- و كان سبب الحصار و القتل- حتى كان من أمر مروان- و تسلطه عليه و على أموره ما قتل بسببه- و ذلك ظاهر لا يمكن دفعه- .
قال رحمه الله تعالى- و جوابنا عن ذلك أن نقول- أما ما ذكر من توليته من لا يجوز أن يستعمل- فقد علمنا أنه لا يمكن أن يدعى أنه حين استعملهم- علم من أحوالهم خلاف الستر و الصلاح- لأن الذي ثبت عنهم من الأمور القبيحة حدث من بعد- و لا يمتنع كونهم في الأول مستورين في الحقيقة- أو مستورين عنده- و إنما كان يجب تخطئته لو استعملهم- و هم في الحال لا يصلحون لذلك- . فإن قيل فلما علم بحالهم كان يجب أن يعزلهم- قيل كذلك فعل- لأنه إنما استعمل الوليد بن عقبة- قبل ظهور شرب الخمر عنه-فلما شهد عليه بذلك جلده الحد و صرفه- و قد روي مثله عن عمر- فإنه ولى قدامة بن مظعون بعض أعماله- فشهدوا عليه بشرب الخمر- أشخصه و جلده الحد- فإذا عد ذلك في فضائل عمر- لم يجز أن يعد ما ذكروه في الوليد من معايب عثمان-
و يقال إنه لما أشخصه- أقام عليه الحد بمشهد أمير المؤمنين ع- . و قد اعتذر من عزله سعد بن أبي وقاص بالوليد- بأن سعدا شكاه أهل الكوفة- فأداه اجتهاده إلى عزله بالوليد- . فأما سعيد بن العاص- فإنه عزله عن الكوفة و ولى مكانه أبا موسى- و كذلك عبد الله بن أبي سرح عزله- و ولى مكانه محمد بن أبي بكر- و لم يظهر له من مروان- ما يوجب أن يصرفه عما كان مستعملا فيه- و لو كان ذلك طعنا لوجب مثله في كل من ولى- و قد علمنا أن رسول الله ص ولى الوليد بن عقبة- فحدث منه ما حدث- و حدث من بعض أمراء أمير المؤمنين ع الخيانة- كالقعقاع بن شور لأنه ولاه على ميسان- فأخذ مالها و لحق بمعاوية- و كذلك فعل الأشعث بن قيس بمال آذربيجان- و ولى أبا موسى الحكم فكان منه ما كان- و لا يجب أن يعاب أحد بفعل غيره- و إذا لم يلحقه عيب في ابتداء ولايته- فقد زال العيب فيما بعده- .
و قولهم إنه قسم أكثر الولايات في أقاربه- و زال عن طريقة الاحتياط للمسلمين- و قد كان عمر حذره من ذلك فليس بعيب- لأن تولية الأقارب كتولية الأباعد- في أنه يحسن إذا كانوا على صفات مخصوصة- و لو قيل إن تقديمهم أولى لم يمتنع- إذا كان المولي لهم أشد تمكنا من عزلهم- و الاستبدال بهم- و قد ولى أمير المؤمنين ع عبد الله بن العباس البصرة- و عبيد الله بن العباس اليمن- و قثم بن العباس مكة- حتى قال مالك الأشتر عند ذلك-على ما ذا قتلنا الشيخ أمس فيما يروى- و لم يكن ذلك بعيب إذا أدى ما وجب عليه في اجتهاده- .
فأما قولهم إنه كتب إلى ابن أبي سرح- حيث ولى محمد بن أبي بكر بأنه يقتله و يقتل أصحابه- فقد أنكر ذلك أشد إنكار حتى حلف عليه- و بين أن الكتاب الذي ظهر ليس كتابه- و لا الغلام غلامه و لا الراحلة راحلته- و كان في جملة من خاطبه في ذلك أمير المؤمنين ع فقبل عذره و ذلك بين- لأن قول كل أحد مقبول في مثل ذلك- و قد علم أن الكتاب يجوز فيه التزوير- فهو بمنزلة الخبر الذي يجوز فيه الكذب- . فإن قيل فقد علم أن مروان هو الذي زور الكتاب- لأنه هو الذي كان يكتب عنه فهلا أقام فيه الحد- .
قيل ليس يجب بهذا القدر- أن يقطع على أن مروان هو الذي فعل ذلك- لأنه و إن غلب ذلك في الظن- فلا يجوز أن يحكم به- و قد كان القوم يسومونه تسليم مروان إليهم و ذلك ظلم- لأن الواجب على الإمام- أن يقيم الحد على من يستحقه أو التأديب- و لا يحل له تسليمه إلى غيره- فقد كان الواجب- أن يثبتوا عنده ما يوجب في مروان الحد و التأديب- ليفعله به- و كان إذا لم يفعل و الحال هذه يستحق التعنيف- و قد ذكر الفقهاء في كتبهم- أن الأمر بالقتل لا يوجب قودا و لا دية و لا حدا- فلو ثبت في مروان ما ذكروه لم يستحق القتل- و إن استحق التعزير- لكنه عدل عن تعزيره لأنه لم يثبت- و قد يجوز أن يكون عثمان ظن- أن هذا الفعل فعل بعض من يعادي مروان تقبيحا لأمره- لأن ذلك يجوز- كما يجوز أن يكون من فعله- و لا يعلم كيف كان اجتهاده و ظنه- و بعد فإن هذا الحدث من أجل ما نقموا عليه- فإن كان شيء من ذلك يوجب خلع عثمان و قتله- فليس إلا هذا- و قد علمنا أن هذا الأمر لو ثبت ما كان يوجب القتل- لأن الأمر بالقتل لا يوجب القتل- سيما قبل وقوع القتل المأمور به-
فنقول لهم لو ثبت ذلك على عثمان أ كان يجب قتله- فلا يمكنهم ادعاء ذلك لأنه بخلاف الدين- و لا بد أن يقولوا إن قتله ظلم- و كذلك حبسه في الدار و منعه من الماء- فقد كان يجب أن يدفع القوم عن كل ذلك- و أن يقال إن من لم يدفعهم و ينكر عليهم يكون مخطئا- . و في القول بأن الصحابة اجتمعوا على ذلك كلهم- تخطئة لجميع أصحاب رسول الله ص و ذلك غير جائز- و قد علم أيضا أن المستحق للقتل و الخلع- لا يحل أن يمنع الطعام و الشراب- و علم أن أمير المؤمنين ع- لم يمنع أهل الشام من الماء في صفين- و قد تمكن من منعهم- و كل ذلك يدل على كون عثمان مظلوما- و أن ذلك من صنع الجهال- و أن أعيان الصحابة كانوا كارهين لذلك- و أيضا فإن قتله لو وجب- لم يجز أن يتولاه العوام من الناس- و لا شبهة أن الذين أقدموا على قتله كانوا بهذه الصفة- و إذا صح أن قتله لم يكن لهم- فمنعهم و النكير عليهم واجب- .
و أيضا فقد علم أنه لم يكن من عثمان ما يستحق به القتل- من كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان- أو قتل نفس بغير حق- و أنه لو كان منه ما يوجب القتل- لكان الواجب أن يتولاه الإمام- فقتله على كل حال منكر- و إنكار المنكر واجب- . و ليس لأحد أن يقول إنه أباح قتل نفسه- من حيث امتنع من دفع الظلم عنهم- لأنه لم يمتنع من ذلك بل أنصفهم و نظر في حالهم- و لأنه لو لم يفعل ذلك لم يحل لهم قتله- لأنه إنما يحل قتل الظالم إذا كان على وجه الدفع- و المروي أنهم أحرقوا بابه- و هجموا عليه في منزله- و بعجوه بالسيف و المشاقص- و ضربوا يد زوجته لما وقعت عليه- و انتهبوا متاع داره- و مثل هذه القتلة لا تحل في الكافر و المرتد- فكيف يظن أن الصحابة لم ينكروا ذلك و لم يعدوه ظلما- حتى يقال إنه مستحق من حيث لم يدفع القوم عنه- و قد تظاهر الخبر بما جرى من تجمع القوم عليه- و توسط أمير المؤمنين ع لأمرهم- و أنه بذل لهم ما أرادوه- و أعتبهم و أشهد على نفسه بذلك- و أن الكتاب الموجود بعد ذلك المتضمن لقتل القوم- و وقف عليه و ممن أوقفه عليه أمير المؤمنين ع- فحلف أنه ما كتبه و لا أمر به- فقال له فمن تتهم- قال ما أتهم أحدا و إن للناس لحيلا- . و الرواية ظاهرة أيضا
بقوله إن كنت أخطأت أو تعمدت فإني تائب و مستغفر- فكيف يجوز و الحال هذه- أن تهتك فيه حرمة الإسلام و حرمة البلد الحرام- و لا شبهة في أن القتل على وجه الغيلة- لا يحل فيمن يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه- و لو لا أنه كان يمنع من محاربة القوم- ظنا منه أن ذلك يؤدي إلى القتل الذريع لكثر أنصاره- . و قد جاء في الرواية أن الأنصار بدأت معونته و نصرته- و أن أمير المؤمنين ع قد بعث إليه ابنه الحسن ع- فقال له قل لأبيك فلتأتني- فأراد أمير المؤمنين ع المصير إليه- فمنعه من ذلك محمد ابنه و استعان بالنساء عليه- حتى جاء الصريخ بقتل عثمان فمد يده إلى القبلة- و قال اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان- . فإن قالوا إنهم اعتقدوا أنه من المفسدين في الأرض- و أنه داخل تحت آية المحاربين- .
قيل فقد كان يجب أن يتولى الإمام هذا الفعل- لأن ذلك يجري مجرى الحد- و كيف يدعى ذلك- و المشهور عنه أنه كان يمنع من مقاتلتهم- حتى روي أنه قال لعبيدة و مواليه و قد هموا بالقتال- من أغمد سيفه فهو حر- و لقد كان مؤثرا لنكير ذلك الأمر- بما لا يؤدي إلى إراقة الدماء و الفتنة- و لذلك لم يستعن بأصحاب الرسول ص- و إن كان لما اشتد الأمر أعانه من أعان- لأن عند ذلك تجب النصرة و المعونة- فحيث كانت الحال متماسكة- و كان ينهى عن إنجاده و إعانته بالحرب- امتنعوا و توقفوا- و حيث اشتد الأمر أعانه و نصره من أدركه- دون من لم يغلب ذلك في ظنه- . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام-
فقال أما قوله لم يكن عالما بحال الفسقة- الذين ولاهم قبل الولاية فلا تعويل عليه- لأنه لم يول هؤلاء النفر إلا و حالهم مشهورة في الخلاعة- و المجانة و التجرم و التهتك- و لم يختلف اثنان في أن الوليد بن عقبة- لم يستأنف التظاهر بشرب الخمر- و الاستخفاف بالدين على استقبال ولايته للكوفة- بل هذه كانت سنته و العادة المعروفة منه- و كيف يخفى على عثمان و هو قريبه و لصيقه- و أخوه لأمه من حاله ما لا يخفى على الأجانب الأباعد- و لهذا قال له سعد بن أبي وقاص في رواية الواقدي- و قد دخل الكوفة يا أبا وهب أمير أم زائر قال بل أمير-
فقال سعد ما أدري أ حمقت بعدك أم كست بعدي- قال ما حمقت بعدي و لا كست بعدك- و لكن القوم ملكوا فاستأثروا- فقال سعد ما أراك إلا صادقا- . و في رواية أبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي- أن الوليد لما دخل الكوفة- مر على مجلس عمرو بن زرارة النخعي فوقف- فقال عمرو يا معشر بني أسد- بئسما استقبلنا به أخوكم ابن عفان- أ من عدله أن ينزع عنا ابن أبي وقاص- الهين اللين السهل القريب- و يبعث بدله أخاه الوليد- الأحمق الماجن الفاجر قديما و حديثا- و استعظم الناس مقدمه و عزل سعد به- و قالوا أراد عثمان كرامة أخيه بهوان أمة محمد ص- و هذا تحقيق ما ذكرناه- من أن حاله كانت مشهورة قبل الولاية- لا ريب فيها عند أحد- فكيف يقال إنه كان مستورا حتى ظهر منه ما ظهر- و في الوليد نزل قوله تعالى- أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ- فالمؤمن هاهنا أمير المؤمنين ع- و الفاسق الوليد على ما ذكره أهل التأويل- و فيه نزل قوله تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا- أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ- فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ- و السبب في ذلك- أنه كذب على بني المصطلق عند رسول الله ص- و ادعى أنهم منعوه الصدقة- و لو قصصنا مخازيه المتقدمة و مساويه لطال بها الشرح- . و أما شربه الخمر بالكوفة و سكره- حتى دخل عليه [من دخل]- و أخذ خاتمه من إصبعه و هو لا يعلم- فظاهر و قد سارت به الركبان- و كذلك كلامه في الصلاة- و التفاته إلى من يقتدي به فيها و هو سكران- و قوله لهم أ أزيدكم- فقالوا لا قد قضينا صلواتنا- حتى قال الحطيئة في ذلك- .
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه
أن الوليد أحق بالعذر
نادى و قد نفدت صلاتهم
أ أزيدكم ثملا و ما يدري
ليزيدهم خيرا و لو قبلوا
منه لقادهم على عشر
فأبوا أبا وهب و لو فعلوا
لقرنت بين الشفع و الوتر
حبسوا عنانك إذ جريت و لو
خلوا عنانك لم تزل تجري
و قال فيه أيضا
تكلم في الصلاة و زاد فيها
علانية و جاهر بالنفاق
و مج الخمر في سنن المصلى
و نادى و الجميع إلى افتراق
أزيدكم على أن تحمدوني
فما لكم و ما لي من خلاق
و أما قوله إنه جلده الحد و عزله- فبعد أي شيء كان ذلك- و لم يعزله إلا بعد أن دافع و مانع- و احتج عنه و ناضل- و لو لم يقهره أمير المؤمنين ع على رأيه لما عزله- و لا أمكن من جلده- و قد روى الواقدي أن عثمان لما جاءه الشهود- يشهدون على الوليد بشرب الخمر أوعدهم و تهددهم- . قال الواقدي و يقال إنه ضرب بعض الشهود أيضا أسواطا- فأتوا أمير المؤمنين ع فشكوا إليه فأتى عثمان- فقال عطلت الحدود- و ضربت قوما شهدوا على أخيك فقلبت الحكم- و قد قال لك عمر- لا تحمل بني أمية و آل أبي معيط على رقاب الناس- قال فما ترى- قال أرى أن تعزله و لا توليه شيئا من أمور المسلمين- و أن تسأل عن الشهود- فإن لم يكونوا أهل ظنة و لا عداوة- أقمت على صاحبك الحد- و تكلم في مثل ذلك طلحة و الزبير و عائشة- و قالوا أقوالا شديدة- و أخذته الألسن من كل جانب- فحينئذ عزله و مكن من إقامة الحد عليه- .
و قد روى الواقدي أن الشهود لما شهدوا عليه في وجهه- و أراد عثمان أن يحده ألبسه جبة خز و أدخله بيتا- فجعل إذا بعث إليه رجلا من قريش ليضربه- قال له الوليد أنشدك الله أن تقطع رحمي- و تغضب أمير المؤمنين- فلما رأى علي ع ذلك- أخذ السوط و دخل عليه فجلده به- فأي عذر لعثمان في عزله و جلده- بعد هذه الممانعة الطويلة- و المدافعة الشديدة- . و قصة الوليد مع الساحر الذي كان يلعب بين يديه- و يغر الناس بمكره و خديعته- و أن جندب بن عبد الله الأزدي امتعض من ذلك- و دخل عليه فقتله- و قال له أحي نفسك إن كنت صادقا- و أن الوليد أراد أن يقتل جندبا بالساحر- حتى أنكر الأزد ذلك عليه- فحبسه و طال حبسه- حتى هرب من السجن معروفة مشهورة- . فإن قيل فقد ولى رسول الله ص الوليد بن عقبة- هذا صدقة بني المصطلق- و ولاه عمر صدقة تغلب- فكيف تدعون أن حاله في أنه لا يصلح للولاية ظاهرة- . قلنا لا جرم إنه غر رسول الله ص- و كذب على القوم- حتى نزلت فيه الآية التي قدمنا ذكرها فعزله- و ليس خطب ولاية الصدقة مثل خطب ولاية الكوفة- . فأما عمر فإنه لما بلغه قوله-
إذا ما شددت الرأس مني بمشوذ
فويلك مني تغلب ابنة وائل
عزله- . و أما عزل أمير المؤمنين ع بعض أمرائه- لما ظهر من الحدث كالقعقاع بن شور و غيره- و كذلك عزل عمر قدامة بن مظعون- لما شهد عليه بشرب الخمر و جلده له- فإنه لا يشبه ما تقدم- لأن كل واحد ممن ذكرناه- لم يول إلا من هو حسن الظاهر عنده و عند الناس- غير معروف باللعب و لا مشهور بالفساد- ثم لما ظهر منه ما ظهرلم يحام عنه- و لا كذب الشهود عليه و كابرهم- بل عزله مختارا غير مضطر- و كل هذا لم يجر في أمراء عثمان- و قد بينا كيف كان عزل الوليد و إقامة الحد عليه- . فأما أبو موسى- فإن أمير المؤمنين ع لم يوله الحكم مختارا- لكنه غلب على رأيه و قهر على أمره و لا رأى لمقهور- .
فأما قوله إن ولاية الأقارب كولاية الأباعد- بل الأقارب أولى- من حيث كان التمكن من عزلهم أشد- و ذكر تولية أمير المؤمنين ع أولاد العباس- رحمه الله تعالى و غيرهم فليس بشيء- لأن عثمان لم ينقم عليه تولية الأقارب- من حيث كانوا أقارب- بل من حيث كانوا أهل بيت الظنة و التهمة- و لهذا حذره عمر و أشعر بأنه يحملهم على رقاب الناس- و أمير المؤمنين ع لم يول من أقاربه متهما و لا ظنينا- و حين أحس من ابن العباس ببعض الريبة- لم يمهله و لا احتمله و كاتبه بما هو شائع ظاهر- و لو لم يجب على عثمان أن يعدل عن ولاية أقاربه- إلا من حيث جعل عمر ذلك سبب عدوله عن النص عليه- و شرط عليه يوم الشورى ألا يحمل أقاربه على رقاب الناس- و لا يؤثرهم لمكان القرابة بما لا يؤثر به غيرهم- لكان صارفا قويا- فضلا عن أن ينضاف إلى ذلك- ما انضاف من خصالهم الذميمة و طرائقهم القبيحة- .
فأما سعيد بن أبي العاص- فإنه قال في الكوفة إنما السواد بستان لقريش- تأخذ منه ما شاءت و تترك- حتى قالوا له- أ تجعل ما أفاء الله علينا بستانا لك و لقومك- و نابذوه و أفضى الأمر إلى تسييره من سير عن الكوفة- و القصة مشهورة- ثم انتهى الأمر إلى منع أهل الكوفة سعيدا من دخولها- و تكلموا فيه و فيه عثمان كلاما ظاهرا- حتى كادوا يخلعون عثمان- فاضطر حينئذ إلى إجابتهم إلى ولاية أبي موسى- فلم يصرف سعيدا مختارا بل ما صرفه جملة- و إنما صرفه أهل الكوفة عنهم- .
فأما قوله- إنه أنكر الكتاب المتضمن لقتل محمد بن أبي بكر و أصحابه- و حلف على أن الكتاب ليس بكتابه- و لا الغلام غلامه و لا الراحلة راحلته- و أن أمير المؤمنين ع قبل عذره- فأول ما فيه أنه حكى القصة بخلاف ما جرت عليه- لأن جميع من يروي هذه القصة- ذكر أنه اعترف بالخاتم و الغلام و الراحلة- و إنما أنكر أن يكون أمر بالكتابة- لأنه روي أن القوم لما ظفروا بالكتاب قدموا المدينة- فجمعوا أمير المؤمنين ع و طلحة و الزبير و سعدا- و جماعة الأصحاب- ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم و أخبروهم بقصة الغلام- فدخلوا على عثمان و الكتاب مع أمير المؤمنين- فقال له أ هذا الغلام غلامك قال نعم- قال و البعير بعيرك قال نعم- قال أ فأنت كتبت هذا الكتاب قال لا- و حلف بالله أنه ما كتب الكتاب و لا أمر به-
فقال له فالخاتم خاتمك قال نعم- قال فكيف يخرج غلامك على بعيرك بكتاب عليه خاتمك- و لا تعلم به- . و في رواية أخرى أنه لما واقفه عليه- قال عثمان أما الخط فخط كاتبي- و أما الخاتم فعلى خاتمي- قال فمن تتهم قال أتهمك و أتهم كاتبي- فخرج أمير المؤمنين ع مغضبا- و هو يقول بل بأمرك و لزم داره- و بعد عن توسط أمره حتى جرى عليه ما جرى- . و أعجب الأمور قوله لأمير المؤمنين ع إني أتهمك- و تظاهره بذلك و تلقيه إياه في وجهه بهذا القول- مع بعده من التهمة و الظنة في كل شيء- و في أمره خاصة- فإن القوم في الدفعة الأولى- أرادوا أن يعجلوا له ما أخبروه- حتى قام أمير المؤمنين ع بأمره و توسطه و أصلحه- و أشار عليه بأن يقاربهم و يعينهم حتى انصرفوا عنه- و هذافعل النصيح المشفق الحدب المتحنن- و لو كان ع و حوشي من ذلك متهما عليه- لما كان للتهمة عليه مجال في أمر الكتاب خاصة- لأن الكتاب بخط عدوه مروان- و في يد غلام عثمان- و محمول على بعيره و مختوم بخاتمه- فأي ظن تعلق بأمير المؤمنين ع في هذا المكان- لو لا العداوة و قلة الشكر للنعمة- . و لقد قال له المصريون- لما جحد أن يكون الكتاب كتابه شيئا- لا زيادة عليه في باب الحجة- لأنهم قالوا له إذا كنت ما كتبت و لا أمرت به- فأنت ضعيف- من حيث تم عليك أن يكتب كاتبك بما تختمه بخاتمك- و ينفذه بيد غلامك و على بعيرك بغير أمرك- و من تم عليه ذلك- لا يصلح أن يكون واليا على أمور المسلمين- فاختلع عن الخلافة على كل حال- .
قال و لقد كان يجب على صاحب المغني- أن يستحيي من قوله- إن أمير المؤمنين ع قبل عذره- و كيف يقبل عذر من يتهمه و يستغشه و هو له ناصح- و ما قاله أمير المؤمنين ع- بعد سماع هذا القول منه معروف- . و قوله إن الكتاب يجوز فيه التزوير ليس بشيء- لأنه لا يجوز التزوير في الكتاب و الغلام و البعير- و هذه الأمور إذا انضاف بعضها إلى بعض- بعد فيها التزوير- و قد كان يجب على كل حال- أن يبحث عن القصة و عمن زور الكتاب و أنفذ الرسول- و لا ينام عن ذلك- حتى يعرف من أين دهي- و كيف تمت الحيلة عليه فيحترز من مثلها- و لا يغضي عن ذلك إغضاء ساتر له- خائف من بحثه و كشفه- .
فأما قوله- إنه و إن غلب على الظن أن مروان كتب الكتاب- فإن الحكم بالظن لا يجوز- و تسليمه إلى القوم على ما سألوه إياه ظلم- لأن الحد و الأدب إذا وجب عليه- فالإمام يقيمه دونهم فتعلل بما لا يجدي- لأنا لا نعمل إلا على قوله- في أنه لم يعلم أن مروان هو الذي كتب الكتاب- و إنما غلب على ظنه- أ ما كان يستحق مروان بهذا الظن بعض التعنيف- و الزجر و التهديد- أ و ما كان يجب مع وقوع التهمة عليه- و قوة الأمارات في أنه جالب الفتنة- و سبب الفرقة أن يبعده عنه و يطرده من داره- و يسلبه ما كان يخصه به من إكرامه- و ما في هذه الأمور أظهر من أن ينبه له- . فأما قوله إن الأمر بالقتل لا يوجب قودا و لا دية- سيما قبل وقوع القتل المأمور به- فهب أن ذلك على ما قال- أ ما أوجب الله تعالى على الأمر بقتل المسلمين تأديبا- و لا تعزيرا و لا طردا و لا إبعادا- .
و قوله لم يثبت ذلك قد مضى ما فيه- و بين أنه لم يستعمل فيه ما يجب استعماله- من البحث و الكشف- و تهديد المتهم و طرده و إبعاده- و التبرؤ من التهمة بما يتبرأ به من مثلها- . فأما قوله إن قتله ظلم- و كذلك حبسه في الدار و منعه من الماء- و إنه لو استحق القتل أو الخلع- لا يحل أن يمنع الطعام و الشراب- و قوله إن من لم يدفع عن ذلك من الصحابة- يجب أن يكون مخطئا- و قوله إن قتله لو وجب- لم يجز أن يتولاه العوام من الناس فباطل- لأن الذين قتلوه غير منكر أن يكونوا تعمدوا قتله- و إنما طالبوه بأن يخلع نفسه لما ظهر لهم من أحداثه- و يعتزل عن الأمر اعتزالا يتمكنون معه من إقامة غيره- فلج و صمم على الامتناع- و أقام على أمر واحد- فقصد القوم بحصره أن يلجئوه إلى خلع نفسه فاعتصم بداره- و اجتمع إليه نفر من أوباش بني أمية يدفعون عنه- و يرمون من دنا إلى الدار- فانتهى الأمر إلى القتال بتدريج ثم إلى القتل- و لم يكن القتال و لا القتل مقصودين في الأصل- و إنما أفضى الأمر إليهما على ترتيب- و جرى ذلك مجرى ظالم غلب إنسانا على رحله أو متاعه- فالواجب على المغلوب أن يمانعه و يدافعه- ليخلص ماله من يده- و لا يقصد إلى إتلافه و لا قتله- فإن أفضى الأمر إلى ذلك بلا قصد كان معذورا-
و إنما خاف القوم في التأني به و الصبر عليه- إلى أن يخلع نفسه من كتبه التي طارت في الآفاق- يستنصر عليهم و يستقدم الجيوش إليهم- و لم يأمنوا أن يرد بعض من يدفع عنه- فيؤدي ذلك إلى الفتنة الكبرى و البلية العظمى- . و أما منع الماء و الطعام فما فعل ذلك إلا تضييقا عليه- ليخرج و يحوج إلى الخلع الواجب عليه- و قد يستعمل في الشريعة مثل ذلك- فيمن لجأ إلى الحرم من ذوي الجنايات- و تعذر إقامة الحد عليه لمكان الحرم- على أن أمير المؤمنين ع قد أنكر منع الماء و الطعام- و أنفذ من مكن من حمل ذلك- لأنه قد كان في الدار من الحرم و النسوان و الصبيان- من لا يحل منعه من الطعام و الشراب- و لو كان حكم المطالبة بالخلع- و التجمع عليه و التضافر فيه- حكم منع الطعام و الشراب في القبح و المنكر- لأنكره أمير المؤمنين ع و منع منه كما منع من غيره- فقد روي عنه ع- أنه لما بلغه أن القوم قد منعوا الدار من الماء- قال لا أرى ذلك إن في الدار صبيانا و عيالا- لا أرى أن يقتل هؤلاء عطشا بجرم عثمان- فصرح بالمعنى الذي ذكرناه- و معلوم أن أمير المؤمنين ع ما أنكر المطالبة بالخلع- بل كان مساعدا على ذلك و مشاورا فيه- . فأما قوله إن قتل الظالم إنما يحل على سبيل الدفع- فقد بينا أنه لا ينكر أن يكون قتله وقع على ذلك الوجه- لأنه في تمسكه بالولاية عليهم و هو لا يستحقها- في حكم الظالم لهم فمدافعته واجبة- .
و أما قصة الكتاب الموجود فلم يحكها على الوجه- و قد شرحنا نحن الرواية الواردة بها- . و أما قوله إنه قال إن كنت أخطأت أو تعمدت- فإني تائب مستغفر- فقد أجابه القوم عن هذا- و قالوا هكذا قلت في المرة الأولى- و خطبت على المنبر بالتوبة و الاستغفار- ثم وجدنا كتابك- بما يقتضي الإصرار على أقبح ما عتبنا منه- فكيف نثق بتوبتك و استغفارك- . فأما قوله- إن القتل على وجه الغيلة لا يحل فيمن يستحق القتل- فكيف فيمن لا يستحقه- فقد بينا أنه لم يكن على سبيل الغيلة- و أنه لا يمتنع أن يكون إنما وقع على سبيل المدافعة- . فأما ادعاؤه أنه منع من نصرته- و أقسم على عبيده بترك القتال- فقد كان ذلك لعمري في ابتداء الأمر- ظنا منه أن الأمر ينصلح- و القوم يرجعون عما هموا به فلما اشتد الأمر- و وقع اليأس من الرجوع و النزوع- لم يمنع أحدا من نصرته و المحاربة عنه- و كيف يمنع من ذلك- و قد بعث إلى أمير المؤمنين ع يستنصره و يستصرخه- . و الذي يدل على أنه لم يمنع في الابتداء من محاربتهم- إلا للوجه الذي ذكرناه دون غيره- أنه لا خلاف بين أهل الرواية- في أن كتبه تفرقت في الآفاق يستنصر و يستدعي الجيوش- فكيف يرغب عن نصرة الحاضر من يستدعي نصرة الغائب- . فأما قوله إن أمير المؤمنين ع أراد أن يأتيه- حتى منعه ابنه محمد- فقول بعيد مما جاءت به الرواية جدا- لأنه لا إشكال في أن أمير المؤمنين ع لما واجهه عثمان- بأنه يتهمه و يستغشه- انصرف مغضبا عامدا- على أنه لا يأتيه أبدا- قائلا فيه ما يستحقه من الأقوال- .
فأما قوله في جواب سؤال من قال إنهم اعتقدوا فيه- أنه من المفسدين في الأرض- و أن آية المحاربة تتناوله- و أنه قد كان يجب أن يتولى الإمام ذلك الفعل بنفسه- لأن ذلك يجري مجرى الحد فطريف- لأن الإمام يتولى ما يجري هذا المجرى- إذا كان منصوبا ثابتا- و لم يكن على مذهب القوم هناك إمام- يجوز أن يتولى ما يجري مجرى الحدود- و متى لم يكن إمام يقوم بالدفع عن الدين و الذب عن الأمة- جاز أن تتولى الأمة ذلك بنفوسها- . قال و ما رأيت أعجب من ادعاء مخالفينا- أن أصحاب الرسول ص كانوا كارهين لما جرى على عثمان- و أنهم كانوا يعتقدونه منكرا و ظلما- و هذا يجري عند من تأمله- مجرى دفع الضرورات قبل النظر في الأخبار- و سماع ما ورد من شرح هذه القصة- لأنه معلوم أن ما يكرهه جميع الصحابة- أو أكثرهم في دار عزهم- و بحيث ينفذ أمرهم و نهيهم لا يجوز أن يتم- و معلوم أن نفرا من أهل مصر لا يجوز أن يقدموا المدينة- فيغلبوا جميع المسلمين على آرائهم- و يفعلوا بإمامهم ما يكرهونه بمرأى منهم و مسمع- و هذا معلوم بطلانه بالبداهة و الضرورات- قبل تصفح الأخبار و تأملها-
و قد روى الواقدي عن ابن أبي الزناد- عن أبي جعفر القارئ مولى بني مخزوم- قال كان المصريون الذين حصروا عثمان ستمائة- عليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي- و كنانة بن بشر الكندي و عمرو بن الحمق الخزاعي- و الذين قدموا المدينة من الكوفة مائتين- عليهم مالك الأشتر النخعي- و الذين قدموا من البصرة مائة رجل- رئيسهم حكيم بن جبلة العبدي- و كان أصحاب النبي ص الذين خذلوه- لا يرون أن الأمر يبلغ به القتل- و لعمري لو قام بعضهم- فحثا التراب في وجوه أولئك لانصرفوا- و هذه الرواية تضمنت من عدد القوم- الوافدين في هذا الباب أكثر مما تضمنه غيرها- .
و روى شعبة بن الحجاج- عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف- قال قلت له كيف لم يمنع أصحاب رسول الله ص عن عثمان- فقال إنما قتله أصحاب رسول الله ص- . و روي عن أبي سعيد الخدري- أنه سئل عن مقتل عثمان- هل شهده أحد من أصحاب رسول الله ص- فقال نعم شهده ثمانمائة- . و كيف يقال إن القوم كانوا كارهين- و هؤلاء المصريون كانوا يغدون إلى كل واحد منهم- و يروحون و يشاورونه فيما يصنعونه- و هذا عبد الرحمن بن عوف و هو عاقد الأمر لعثمان- و جالبه إليه و مصيره في يده- يقول على ما رواه الواقدي- و قد ذكر له عثمان في مرضه الذي مات فيه- عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه- فبلغ ذلك عثمان- فبعث إلى بئر كان عبد الرحمن يسقي منها نعمه فمنع منها- و وصى عبد الرحمن ألا يصلي عليه عثمان- فصلى عليه الزبير أو سعد بن أبي وقاص- و قد كان حلف لما تتابعت أحداث عثمان ألا يكلمه أبدا- .
و روى الواقدي قال لما توفي أبو ذر بالربذة- تذاكر أمير المؤمنين ع و عبد الرحمن فعل عثمان- فقال أمير المؤمنين ع له هذا عملك- فقال عبد الرحمن فإذا شئت فخذ سيفك و آخذ سيفي- إنه خالف ما أعطاني- . فأما محمد بن مسلمة- فإنه أرسل إليه عثمان- يقول له عند قدوم المصريين في الدفعة الثانية اردد عني- فقال لا و الله لا أكذب الله في سنة مرتين- و إنما عنى بذلك- أنه كان أحد من كلم المصريين في الدفعة الأولى- و ضمن لهم عن عثمان الرضا- . و في رواية الواقدي- أن محمد بن مسلمة كان يموت و عثمان محصور- فيقال له عثمان مقتول فيقول هو قتل نفسه- .
فأما كلام أمير المؤمنين ع- و طلحة و الزبير و عائشة- و جميع الصحابة واحدا واحدا- فلو تعاطينا ذكره لطال به الشرح- و من أراد أن يقف على أقوالهم مفصلة- و ما صرحوا به من خلعه و الإجلاب عليه- فعليه بكتاب الواقدي- فقد ذكر هو و غيره من ذلك ما لا زيادة عليه- . الطعن الثاني- كونه رد الحكم بن أبي العاص إلى المدينة- و قد كان رسول الله ص طرده- و امتنع أبو بكر من رده- فصار بذلك مخالفا للسنة و لسيرة من تقدمه- مدعيا على رسول الله ص عاملا بدعواه من غير بينة- . قال قاضي القضاة رحمه الله و جوابنا عن ذلك- أن المروي في الأخبار أنه لما عوتب في ذلك- ذكر أنه استأذن رسول الله ص فيه-
و إنما لم يقبل أبو بكر و عمر قوله لأنه شاهد واحد- و كذلك روي عنهما- فكأنهما جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تختص- فلم يقبلا فيه خبر الواحد- و أجرياه مجرى الشهادة- فلما صار الأمر إليه حكم بعلمه- لأن للحاكم أن يحكم بعلمه في هذا الباب- و في غيره عند شيخينا- و لا يفصلان بين حد و حق- و لا بين أن يكون العلم قبل الولاية أو حال الولاية- و يقولان إنه أقوى من البينة و الإقرار- . و قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى- إنه لا وجه يقطع به على كذب روايته في إذن النبي ص في رده- و لا بد من تجويز كونه صادقا- و في تجويز ذلك كونه معذورا- .
فإن قيل الحاكم إنما يحكم بعلمه مع زوال التهمة- و قد كانت التهمة في رد الحكم قوية لقرابته- . قيل الواجب على غيره ألا يتهمه- إذا كان لفعله وجه يصح عليه- لأنه قد نصب منصبا يقتضي زوال التهمة عنه- و حمل أفعاله على الصحة- و متى طرقنا عليه التهمة- أدى إلى بطلان كثير من الأحكام- و قد قال الشيخ أبو الحسين الخياط رحمه الله تعالى- إنه لو لم يكن في رده إذن من رسول الله ص- لجاز أن يكون طريقه الاجتهاد- لأن النفي إذا كان صلاحا في الحال- لا يمتنع أن يتغير حكمه باختلاف الأوقات- و تغير حال المنفي- و إذا كان لأبي بكر- أن يسترد عمر من جيش أسامة للحاجة إليه- و إن كان قد أمر رسول الله ص بنفوذه- من حيث تغيرت الحال- فغير ممتنع مثله في الحكم- .اعترض المرتضى رحمه الله تعالى على هذا- فقال أما دعواه- أن عثمان ادعى أن رسول الله ص أذن في رد الحكم- فشيء لم يسمع إلا من قاضي القضاة- و لا يدرى من أين نقله- و لا في أي كتاب وجده- و الذي رواه الناس كلهم خلاف ذلك-
روى الواقدي من طرق مختلفة و غيره- أن الحكم بن أبي العاص لما قدم المدينة بعد الفتح- أخرجه النبي ص إلى الطائف- و قال لا تساكني في بلد أبدا- فجاءه عثمان فكلمه فأبى- ثم كان من أبي بكر مثل ذلك- ثم كان من عمر مثل ذلك- فلما قام عثمان أدخله و وصله و أكرمه- فمشى في ذلك علي و الزبير و طلحة- و سعد و عبد الرحمن بن عوف و عمار بن ياسر- حتى دخلوا على عثمان فقالوا له- إنك قد أدخلت هؤلاء القوم- يعنون الحكم و من معه- و قد كان النبي ص أخرجهم- و إنا نذكرك الله و الإسلام و معادك- فإن لك معادا و منقلبا- و قد أبت ذلك الولاة قبلك- و لم يطمع أحد أن يكلمها فيهم- و هذا شيء نخاف الله فيه عليك- فقال عثمان إن قرابتهم مني ما تعلمون- و قد كان رسول الله ص حيث كلمته أطعمني في أن يأذن لهم- و إنما أخرجهم لكلمة بلغته عن الحكم- و لم يضركم مكانهم شيئا- و في الناس من هو شر منهم- فقال علي ع لا أجد شرا منه و لا منهم- ثم قال هل تعلم عمر يقول- و الله ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس- و الله إن فعل ليقتلنه-
فقال عثمان ما كان منكم أحد- ليكون بينه و بينه من القرابة ما بيني و بينه- و ينال من المقدرة ما نلت إلا قد كان سيدخله- و في الناس من هو شر منه- قال فغضب علي ع- و قال و الله لتأتينا بشر من هذا إن سلمت- و سترى يا عثمان غب ما تفعل- ثم خرجوا من عنده- .و هذا كما ترى خلاف ما ادعاه صاحب المغني- لأن الرجل لما احتفل- ادعى أن رسول الله ص كان أطمعه في رده- ثم صرح بأن رعايته فيه القرابة- هي الموجبة لرده و مخالفة الرسول ع- و قد روي من طرق مختلفة- أن عثمان لما كلم أبا بكر و عمر في رد الحكم- أغلظا له و زبراه- و قال له عمر يخرجه رسول الله ص و تأمرني أن أدخله- و الله لو أدخلته لم آمن أن يقول قائل- غير عهد رسول الله ص و الله لأن أشق باثنتين كما تشق الأبلمة- أحب إلى من أن أخالف لرسول الله أمرا- و إياك يا ابن عفان أن تعاودني فيه بعد اليوم- و ما رأينا عثمان- قال في جواب هذا التعنيف و التوبيخ من أبي بكر و عمر- إن عندي عهدا من رسول الله ص فيه- لا أستحق معه عتابا و لا تهجينا- و كيف تطيب نفس مسلم موقر لرسول الله ص معظم له- أن يأتي إلى عدو رسول الله ص- مصرح بعداوته و الوقيعة فيه- حتى بلغ به الأمر إلى أن كان يحكى مشيته- طرده رسول الله و أبعده و لعنه- حتى صار مشهورا بأنه طريد رسول الله ص- فيكرمه و يرده إلى حيث أخرج منه- و يصله بالمال العظيم-
إما من مال المسلمين أو من ماله- إن هذا لعظيم كبير قبل التصفح و التأمل- و التعلل بالتأويل الباطل- . فأما قول صاحب المغني- إن أبا بكر و عمر لم يقبلا قوله لأنه شاهد واحد- و جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تخص- فأول ما فيه أنه لم يشهد عندهما بشيء واحد في باب الحكم- على ما رواه جميع الناس- ثم ليس هذا من باب الذي يحتاج فيه إلى الشاهدين- بل هو بمنزلة كل ما يقبل فيه أخبار الآحاد- و كيف يجوز أن يجري أبو بكر و عمر مجرى الحقوق- ما ليس منها- و قوله لا بد من تجويز كونه صادقا في روايته- لأن القطع على كذب روايته لا سبيل إليه ليس بشيء- لأنا قد بينا أنه لم يرو عن الرسول ص إذنا- إنما ادعى أنه أطمعه في ذلك- و إذا جوزنا كونه صادقا في هذه الرواية- بل قطعنا على صدقه لم يكن معذورا- .
فأما قوله الواجب على غيره ألا يتهمه- إذا كان لفعله وجه يصح عليه- لانتصابه منصبا يزيل التهمة- فأول ما فيه أن الحاكم لا يجوز أن يحكم بعلمه مع التهمة- و التهمة قد تكون لها أمارات و علامات- فما وقع منها عن أمارات و أسباب- تتهم في العادة كان مؤثرا- و ما لم يكن كذلك فلا تأثير له- و الحكم هو عم عثمان و قريبه و نسيبه- و من قد تكلم في رده مرة بعد أخرى و لوال بعد وال- و هذه كلها أسباب التهمة- فقد كان يجب أن يتجنب الحكم بعلمه في هذا الباب خاصة- لتطرق التهمة إليه- . فأما ما حكاه عن أبي الحسين الخياط- من أن الرسول ص لو لم يأذن في رده- لجاز أن يرده إذا أداه اجتهاده إلى ذلك- لأن الأحوال قد تتغير فظاهر البطلان- لأن الرسول ع إذا حظر شيئا أو أباحه- لم يكن لأحد أن يجتهد في إباحة المحظور أو حظر المباح- و من يجوز الاجتهاد في الشريعة لا يقدم على مثل هذا- لأنه إنما يجوز عندهم فيما لا نص فيه- و لو سوغنا الاجتهاد في مخالفة ما تناوله النص- لم يؤمن أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى تحليل الخمر- و إسقاط الصلاة بأن تتغير الحال- و هذا هدم للشريعة- فأما الاستشهاد باسترداد عمر من جيش أسامة- فالكلام في الأمرين واحد- .
الطعن الثالث- أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة- التي هي عدة المسلمين- نحو ما روي أنه دفع إلى أربعة أنفس من قريش- زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار- و أعطى مروان مائة ألف عند فتح إفريقية و يروى خمس إفريقية و غير ذلك- و هذا بخلاف سيرة من تقدمه- في القسمة على الناس بقدر الاستحقاق- و إيثار الأباعد على الأقارب- .
قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك أن من الظاهر المشهور- أن عثمان كان عظيم اليسار كثير المال- فلا يمتنع أن يكون إنما أعطى أهل بيته من ماله- و إذا احتمل ذلك وجب حمله على الصحة- . و قد قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى- أن الذي روي من دفعه إلى ثلاثة نفر من قريش زوجهم بناته- إلى كل واحد منهم مائة ألف دينار إنما هو من ماله- و لا رواية تصح أنه أعطاهم ذلك من بيت المال- و لو صح ذلك لكان لا يمتنع أن يكون أعطاهم من بيت المال- ليرد عوضه من ماله- لأن للإمام عند الحاجة أن يفعل ذلك- كما له أن يقرض غيره- . و قال شيخنا أبو علي أيضا- أن ما روي من دفعه خمس إفريقية لما فتحت إلى مروان- ليس بمحفوظ و لا منقول على وجه يجب قبوله- و إنما يرويه من يقصد التشنيع-
و قد قال الشيخ أبو الحسين الخياط- أن ابن أبي سرح لما غزا البحر و معه مروان في الجيش- ففتح الله عليهم و غنموا غنيمة عظيمة- اشترى مروان من ابن أبي سرح الخمس بمائة ألف- و أعطاه أكثرها ثم قدم على عثمان بشيرا بالفتح- و قد كانت قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش- فرأى عثمان أن يهب له ما بقي عليه من المال- و للإمام فعل مثل ذلك ترغيبا في مثل هذه الأمور- . قال و هذا الصنع كان منه في السنة الأولى من إمامته- و لم يبرأ أحد منه فيها فلا وجه للتعلق بذلك- .
و ذكر أبو الحسين الخياط أيضا فيما أعطاه أقاربه- أنه وصلهم لحاجتهم- فلا يمتنع مثله في الإمام إذا رآه صلاحا- و ذكر في إقطاعه القطائع لبني أمية- أن الأئمة قد تحصل في أيديهم الضياع لا مالك لها- و يعلمون أنها لا بد فيها ممن يقوم بإصلاحها و عمارتها- و يؤدى عنها ما يجب من الحق- فله أن يصرف من ذلك إلى من يقوم به- و له أيضا أن يهد بعضها على بعض- بحسب ما يعلم من الصلاح و التألف- و طريق ذلك الاجتهاد- .اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام- فقال أما قوله يجوز أن يكون إنما أعطاهم من ماله- فالرواية بخلاف ذلك- و قد صرح الرجل بأنه كان يعطي من بيت المال صلة لرحمه- و لما عوتب على ذلك لم يعتذر عنه بهذا الضرب من العذر- و لا قال إن هذه العطايا من مالي فلا اعتراض لأحد فيها- روى الواقدي بإسناده عن المسور بن عتبة- قال سمعت عثمان يقول- إن أبا بكر و عمر كانا يتأولان في هذا المال- ظلف أنفسهما و ذوي أرحامهما- و إني تأولت فيه صلة رحمي- .
و روي عنه أيضا أنه كان بحضرته زياد بن عبيد- مولى الحارث بن كلدة الثقفي- و قد بعث إليه أبو موسى بمال عظيم من البصرة- فجعل عثمان يقسمه بين ولده و أهله بالصحاف فبكى زياد- فقال لا تبك- فإن عمر كان يمنع أهله و ذوي قرابته ابتغاء وجه الله- و أنا أعطي أهلي و ولدي و قرابتي ابتغاء وجه الله- .
و قد روي هذا المعنى عنه من عدة طرق بألفاظ مختلفة- . و روى الواقدي أيضا بإسناده- قال قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان- فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص- و روى أيضا أنه ولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة- فبلغت ثلاثمائة ألف فوهبها له حين أتاه بها- و روى أبو مخنف و الواقدي- أن الناس أنكروا على عثمان- إعطاء سعيد بن العاص مائة ألف- و كلمه علي و الزبير و طلحة و سعد و عبد الرحمن في ذلك- فقال إن له قرابة و رحما- قالوا فما كان لأبي بكر و عمر قرابة و ذوو رحم- فقال إن أبا بكر و عمر كان يحتسبان في منع قرابتهما- و أنا أحتسب في إعطاء قرابتي- قالوا فهديهما و الله أحب إلينا من هديك- .
و روى أبو مخنف- أن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية- قدم على عثمان من مكة و معه ناس- فأمر لعبد الله بثلاثمائة ألف- و لكل واحد من القوم بمائة ألف- و صك بذلك على عبد الله بن الأرقم- و كان خازن بيت المال- فاستكثره و رد الصك به- و يقال إنه سأل عثمان أن يكتب عليه بذلك كتابا- فأبى و امتنع ابن الأرقم أن يدفع المال إلى القوم- فقال له عثمان إنما أنت خازن لنا- فما حملك على ما فعلت- فقال ابن الأرقم كنت أراني خازن المسلمين- و إنما خازنك غلامك- و الله لا إلي لك بيت المال أبدا- و جاء بالمفاتيح فعلقها على المنبر- و يقال بل ألقاها إلى عثمان فرفعها إلى نائل مولاه- .
و روى الواقدي- أن عثمان أمر زيد بن ثابت أن يحمل من بيت مال المسلمين- إلى عبد الله بن الأرقم في عقيب هذا الفعل- ثلاثمائة ألف درهم فلما دخل بها عليه- قال له يا أبا محمد إن أمير المؤمنين أرسل إليك- يقول إنا قد شغلناك عن التجارة- و لك ذوو رحم أهل حاجة- ففرق هذا المال فيهم- و استعن به على عيالك- فقال عبد الله بن الأرقم ما لي إليه حاجة- و ما عملت لأن يثيبني عثمان- و الله إن كان هذا من بيت مال المسلمين- ما بلغ قدر عملي أن أعطى ثلاثمائة ألف- و لئن كان من مال عثمان- ما أحب أن أرزأه من ماله شيئا- و ما في هذه الأمور أوضح من أن يشار إليه و ينبه عليه- .
فأما قوله و لو صح أنه أعطاهم من بيت المال- لجاز أن يكون ذلك على طريق القرض فليس بشيء- لأن الروايات أولا تخالف ما ذكره- و قد كان يجب لما نقم عليه وجوه الصحابة- إعطاء أقاربه من بيت المال- أن يقول لهم هذا على سبيل القرض و أنا أرد عوضه- و لا يقول ما تقدم ذكره من أنني أصل به رحمي- على أنه ليس للإمام أن يقترض من بيت مال المسلمين- إلا ما ينصرف في مصلحة لهم مهمة يعود عليهم نفعها- أو في سد خلة و فاقة لا يتمكنون من القيام بالأمر معها- فأما أن يقرض المال ليتسع به-و يمرح فيه مترفي بني أمية و فساقهم فلا أحد يجيز ذلك- .
فأما قوله حاكيا عن أبي علي- إن دفعه خمس إفريقية إلى مروان- ليس بمحفوظ و لا منقول فباطل- لأن العلم بذلك يجري مجرى العلم بسائر ما تقدم- و من قرأ الأخبار- علم ذلك على وجه لا يعترض فيه شك كما يعلم نظائره- . روى الواقدي عن أسامة بن زيد- عن نافع مولى الزبير عن عبد الله بن الزبير- قال أغزانا عثمان سنة سبع و عشرين إفريقية- فأصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح غنائم جليلة- فاعطى عثمان مروان بن الحكم تلك الغنائم- و هذا كما ترى يتضمن الزيادة على إعطاء الخمس- و يتجاوزه إلى إعطاء الأصل- . و روى الواقدي عن عبد الله بن جعفر- عن أم بكر بنت المسور- قالت لما بنى مروان داره بالمدينة- دعا الناس إلى طعامه- و كان المسور ممن دعاه- فقال مروان و هو يحدثهم- و الله ما أنفقت في داري هذه- من مال المسلمين درهما فما فوقه-
فقال المسور لو أكلت طعامك و سكت كان خيرا لك- لقد غزوت معنا إفريقية- و إنك لأقلنا مالا و رقيقا و أعوانا و أخفنا ثقلا- فأعطاك ابن عمك خمس إفريقية- و عملت على الصدقات- فأخذت أموال المسلمين- . و روى الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف- أن مروان ابتاع خمس إفريقية- بمائتي ألف درهم و مائتي ألف دينار- و كلم عثمان فوهبها له- فأنكر الناس ذلك على عثمان- و هذا بعينه هو الذي اعترف به أبو الحسين الخياط- و اعتذر عنه- بأن قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش- فرأى عثمان أن يهب لمروان ثمن ما ابتاعه من الخمس- لما جاءه بشيرا بالفتح على سبيل الترغيب- و هذا الاعتذار ليس بشيء- لأن الذي رويناه من الأخبار في هذا الباب خال من البشارة- و إنما يقتضي أنه سأله ترك ذلك عليه- فتركه و ابتدأ هو بصلته- و لو أتى بشيرا بالفتح كما ادعوا- لما جاز أن يترك عليه خمس الغنيمة- العائد نفعه على المسلمين لأن تلك البشارة- لا تبلغ إلى أن يستحق البشير بها مائتي ألف درهم- و لا اجتهاد في مثل هذا- و لا فرق بين من جوز أن يؤدي الاجتهاد إلى مثله- و من جوز أن يؤدي الاجتهاد- إلى دفع أصل الغنيمة إلى البشير بها- و من ارتكب ذلك- ألزم جواز أن يؤدي الاجتهاد إلى إعطاء هذا البشير- جميع أموال المسلمين في الشرق و الغرب- .
فأما قوله إنه وصل بني عمه لحاجتهم- و رأى في ذلك صلاحا- فقد بينا أن صلاته لهم- كانت أكثر مما تقتضيه الخلة و الحاجة- و أنه كان يصل فيهم المياسير- ثم الصلاح الذي زعم أنه رآه- لا يخلو إما أن يكون عائدا على المسلمين أو على أقاربه- فإن كان على المسلمين فمعلوم ضرورة- أنه لا صلاح لأحد من المسلمين- في إعطاء مروان مائتي ألف دينار- و الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم- و ابن أسيد ثلاثمائة ألف درهم إلى غير ما ذكرنا- بل على المسلمين في ذلك غاية الضرر- و إن أراد الصلاح الراجع إلى الأقارب- فليس له أن يصلح أمر أقاربه بفساد أمر المسلمين- و ينفعهم بما يضر به المسلمين- .
و أما قوله إن القطائع التي أقطعها بني أمية- إنما أقطعهم إياها لمصلحة تعود على المسلمين- لأن تلك الضياع كانت خرابا لا عامر لها- فسلمها إلى من يعمرها و يؤدي الحق عنه- فأول ما فيه أنه لو كان الأمر على ما ذكره- و لم تكن هذه القطائع على سبيل الصلة و المعونة لأقاربه- لما خفي ذلك على الحاضرين- و لكانوا لا يعدون ذلك من مثالبه- و لا يواقفونه عليه في جملة ما واقفوه عليه من أحداثه- ثم كان يجب لو فعلوا ذلك- أن يكون جوابه بخلاف ما روي من جوابه- لأنه كان يجب أن يقول لهم- و أي منفعة في هذه القطائع عائدة على قرابتي- حتى تعدوا ذلك من جملة صلاتي لهم- و إيصالي المنافع إليهم- و إنما جعلتهم فيها بمنزلة الأكرة- الذين ينتفع بهم أكثر من انتفاعهم أنفسهم- و ما كان يجب أن يقول ما تقدمت روايته- من أني محتسب في إعطاء قرابتي- و أن ذلك على سبيل الصلة لرحمي- إلى غير ذلك مما هو خال من المعنى الذي ذكره- .
الطعن الرابع– إنه حمى الحمى عن المسلمين- مع أن رسول الله ص جعلهم سواء في الماء و الكلأ- . قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك- إنه لم يحم الكلأ لنفسه و لا استأثر به- لكنه حماه لإبل الصدقة التي منفعتها تعود على المسلمين- و قد روي عنه هذا الكلام بعينه- و أنه قال إنما فعلت ذلك لإبل الصدقة- و قد أطلقته الآن و أنا أستغفر الله- و ليس في الاعتذار ما يزيد عن ذلك- . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام- فقال أما أولا فالمروي بخلاف ما ذكر- لأن الواقدي روى بإسناده- قال كان عثمان يحمي الربذة و الشرف و البقيع- فكان لا يدخل الحمى بعير له و لا فرس- و لا لبني أمية حتى كان آخر الزمان- فكان يحمي الشرف لإبله و كانت ألف بعير- و لإبل الحكم بن أبي العاص و يحمي الربذة لإبل الصدقة- و يحمي البقيع لخيل المسلمين و خيله و خيل بني أمية- . قال على أنه لو كان إنما حماه لإبل الصدقة- لم يكن بذلك مصيبا- لأن الله تعالى و رسوله أباحا الكلأ و جعلاه مشتركا- فليس لأحد أن يغير هذه الإباحة- و لو كان في هذا الفعل مصيبا- و أنه إنما حماه لمصلحة تعود على المسلمين- لما جاز أن يستغفر الله منه و يعتذر- لأن الاعتذار إنما يكون من الخطإ دون الصواب- .
الطعن الخامس- إنه أعطى من بيت مال الصدقة المقاتلة و غيرها- و ذلك مما لا يحل في الدين- قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك- أنه إنما جاز له ذلك لعلمه بحاجة المقاتلة- و استغناء أهل الصدقة- ففعل ذلك على سبيل الإفراض- و قد فعل رسول الله ص مثله- و للإمام في مثل هذه الأمور أن يفعل ما جرى هذا المجرى- لأن عند الحاجة ربما يجوز له أن يقترض من الناس- فأن يجوز له أن يتناول من مال في يده- ليرد عوضه من المال الآخر أولى- .
اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام- فقال إن المال الذي جعل الله تعالى له جهة مخصوصة- لا يجوز أن يعدل به عن جهته بالاجتهاد- و لو كانت المصلحة في ذلك موقوفة على الحاجة- لشرطها الله تعالى في هذا الحكم- لأنه سبحانه أعلم بالمصالح و اختلافها منا- و لكان لا يجعل لأهل الصدقة منها القسط مطلقا- . و أما قوله إن الرسول ص فعل مثله- فهي دعوى مجردة من برهان- و قد كان يجب أن يروي ما ذكر في ذلك- و أما ما ذكره من الاقتراض- فأين كان عثمان عن هذا العذر لما ووقف عليه- .
الطعن السادس– أنه ضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر بعض أضلاعه-قال قاضي القضاة قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى- لم يثبت عندنا و لا صح عندنا- ما يقال من طعن عبد الله عليه و إكفاره له- و الذي يصح من ذلك- أن عبد الله كره منه جمعه الناس على قراءة زيد بن ثابت- و إحراقه المصاحف و ثقل ذلك عليه- كما يثقل على الواحد منا تقديم غيره عليه- . و قد قيل إن بعض موالي عثمان ضربه- لما سمع منه الوقيعة في عثمان- و لو صح أنه أمر بضربة- لم يكن بأن يكون طعنا في عثمان- بأولى من أن يكون طعنا في ابن مسعود- لأن للإمام تأديب غيره- و ليس لغيره الوقيعة فيه إلا بعد البيان- و قد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط- أن ابن مسعود إنما عابه لعزله إياه- و قد روي أن عثمان اعتذر إليه فلم يقبل عذره- و لما أحضر إليه عطاءه في مرضه- قال ابن مسعود منعتني إياه إذ كان ينفعني- و جئتني به عند الموت لا أقبله- و أنه وسط أم حبيبة زوج النبي ص- ليزيل ما في نفسه فلم يجب- و هذا يوجب ذم ابن مسعود إذ لم يقبل الندم- و يوجب براءة عثمان من هذا العيب- لو صح ما صح ما رووه من ضربه- . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام-
فقال المعلوم المروي خلاف ما ذكره أبو علي- و لا يختلف أهل النقل في طعن ابن مسعود على عثمان و قوله فيه أشد الأقوال و أعظمها- و العلم بذلك كالعلم بكل ما يدعى فيه الضرورة- و قد روى كل من روى السيرة- من أصحاب الحديث على اختلاف طرقهم- أن ابن مسعود كان يقول ليتني و عثمان برمل عالج- يحثو علي و أحثو عليه حتى يموت الأعجز مني و منه- . و رووا أنه كان يطعن عليه- فيقال له أ لا خرجت عليه ليخرج معك- فيقول لأن أزاول جبلا راسيا- أحب إلى من أن أزاول ملكا مؤجلا- .
و كان يقوم كل يوم جمعة بالكوفة جاهرا معلنا- أن أصدق القول كتاب الله- و أحسن الهدي هدي محمد- و شر الأمور محدثاتها- و كل محدث بدعة- و كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار- و إنما كان يقول ذلك معرضا بعثمان- حتى غضب الوليد بن عقبة من استمرار تعريضه- و نهاه عن خطبته هذه فأبى أن ينتهي- فكتب إلى عثمان فيه فكتب عثمان يستقدمه عليه- . و روي أنه لما خرج عبد الله بن مسعود إلى المدينة- مزعجا عن الكوفة خرج الناس معه يشيعونه- و قالوا له يا أبا عبد الرحمن ارجع- فو الله لا نوصله إليك أبدا فإنا لا نأمنه عليك- فقال أمر سيكون و لا أحب أن أكون أول من فتحه- .
و قد روي عنه أيضا من طرق لا تحصى كثرة أنه كان يقول- ما يزن عثمان عند الله جناح ذباب- و تعاطى ما روي عنه في هذا الباب يطول- و هو أظهر من أن يحتاج إلى الاستشهاد عليه- و أنه بلغ من إصرار عبد الله على مظاهرته بالعداوة- أن قال لما حضره الموت- من يتقبل مني وصية أوصيه بها على ما فيها فسكت القوم- و عرفوا الذي يريد فأعادها- فقال عمار بن ياسر رحمه الله تعالى أنا أقبلها- فقال ابن مسعود ألا يصلي علي عثمان قال ذلك لك- فيقال إنه لما دفن جاء عثمان منكرا لذلك- فقال له قائل أن عمارا ولي الأمر- فقال لعمار ما حملك على أن لم تؤذني- فقال عهد إلي ألا أوذنك- فوقف على قبره و أثنى عليه- ثم انصرف و هو يقول- رفعتم و الله أيديكم عن خير من بقي- فتمثل الزبير بقول الشاعر-
لا ألفينك بعد الموت تندبني
و في حياتي ما زودتني زادي
و لما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه- أتاه عثمان عائدا فقال ما تشتكي فقال ذنوبي- قال فما تشتهي قال رحمة بي- قال أ لا أدعو لك طبيبا قال الطبيب أمرضني- قال أ فلا آمر لك بعطائك- قال منعتنيه و أنا محتاج إليه- و تعطينيه و أنا مستغن عنه- قال يكون لولدك قال رزقهم على الله تعالى- قال استغفر لي يا أبا عبد الرحمن- قال أسأل الله أن يأخذ لي منك حقي- . قال و صاحب المغني- قد حكى بعض هذا الخبر في آخر الفصل الذي حكاه من كلامه- و قال هذا يوجب ذم ابن مسعود من حيث لم يقبل العذر- و هذا منه طريف- لأن مذهبه لا يقتضي قبول كل عذر ظاهر- و إنما يجب قبول العذر الصادق- الذي يغلب في الظن أن الباطن فيه كالظاهر- فمن أين لصاحب المغني- أن اعتذار عثمان إلى ابن مسعود- كان مستوفيا للشرائط التي يجب معها القبول- و إذا جاز ما ذكرناه- لم يكن على ابن مسعود لوم في الامتناع من قبول عذره- .
فأما قوله إن عثمان لم يضربه- و إنما ضربه بعض مواليه لما سمع وقيعته فيه- فالأمر بخلاف ذلك- و كل من قرأ الأخبار- علم أن عثمان أمر بإخراجه عن المسجد على أعنف الوجوه- و بأمره جرى ما جرى عليه- و لو لم يكن بأمره و رضاه- لوجب أن ينكر على مولاه كسر ضلعه- و يعتذر إلى من عاتبه على فعله بابن مسعود- بأن يقول إني لم آمر بذلك و لا رضيته من فاعله- و قد أنكرت عليه فعله- . و في علمنا بأن ذلك لم يكن دليل على ما قلنا- و قد روى الواقدي بإسناده و غيره- أن ابن مسعود لما استقدم المدينة دخلها ليلة جمعة- فلما علم عثمان بدخوله- قال أيها الناس إنه قد طرقكم الليلة دويبة- من تمشي على طعامه يقيء و يسلح- فقال ابن مسعود لست كذلك- و لكنني صاحب رسول الله ص يوم بدر- و صاحبه يوم أحد و صاحبه يوم بيعة الرضوان- و صاحبه يوم الخندق و صاحبه يوم حنين-
قال و صاحت عائشة يا عثمان- أ تقول هذا لصاحب رسول الله ص- فقال عثمان اسكتي- ثم قال لعبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب- بن عبد العزى بن قصي- أخرجه إخراجا عنيفا فأخذه ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب مسجد- فضرب به الأرض- فكسر ضلعا من أضلاعه- فقال ابن مسعود قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان- و في رواية أخرى أن ابن زمعة الذي فعل به ما فعل- كان مولى لعثمان أسود مسدما طوالا- و في رواية أخرى أن فاعل ذلك يحموم مولى عثمان- و في رواية أنه لما احتمله ليخرجه من المسجد- ناداه عبد الله أنشدك الله- ألا تخرجني من مسجد خليلي ص- .
قال الراوي- فكأني أنظر إلى حموشة ساقي عبد الله بن مسعود- و رجلاه تختلفان على عنق مولى عثمان حتى أخرج من المسجد- و هو الذي يقول فيه رسول الله ص- لساقا ابن أم عبد- أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد- . و قد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي- أن عثمان ضرب ابن مسعود أربعين سوطا في دفنه أبا ذر- و هذه قصة أخرى- و ذلك أن أبا ذر رحمه الله تعالى- لما حضرته الوفاة بالربذة- و ليس معه إلا امرأته و غلامه- عهد إليهما أن غسلاني ثم كفناني- ثم ضعاني على قارعة الطريق- فأول ركب يمرون بكم قولوا لهم- هذا أبو ذر صاحب رسول الله ص فأعينونا على دفنه- فلما مات فعلوا ذلك- و أقبل ابن مسعود في ركب من العراق معتمرين- فلم يرعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق- قد كادت الإبل تطؤها- فقام إليهم العبد-
فقال هذا أبو ذر صاحب رسول الله ص فأعينونا على دفنه- فانهل ابن مسعود باكيا- و قال صدق رسول الله ص- قال له تمشي وحدك و تموت وحدك و تبعث وحدك- ثم نزل هو و أصحابه فواروه- قال فأما قوله إن ذلك ليس بأن يكون طعنا في عثمان- بأولى من أن يكون طعنا في ابن مسعود فواضح البطلان- و إنما كان طعنا في عثمان دون ابن مسعود- لأنه لا خلاف بين الأمة في طهارة ابن مسعود و فضله و إيمانه- و مدح رسول الله ص و ثنائه عليه- و أنه مات على الجملة المحمودة منه- و في جميع هذا خلاف بين المسلمين في عثمان- .
فأما قوله- إن ابن مسعود كره جمع عثمان الناس على قراءة زيد- و إحراقه المصاحف- فلا شك أن عبد الله كره ذلك- كما كرهه جماعة من أصحاب رسول الله ص و تكلموا فيه- و قد ذكر الرواة كلام كل واحد منهم في ذلك مفصلا- و ما كره عبد الله من ذلك إلا مكروها- و هو الذي يقول رسول الله ص في حقه من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد و روي عن ابن عباس رحمه الله تعالى أنه قال قراءة ابن أم عبد هي القراءة الأخيرة – إن رسول الله ص- كان يعرض عليه القرآن في كل سنة من شهر رمضان- فلما كان العام الذي توفي فيه عرض عليه دفعتين- فشهد عبد الله ما نسخ منه- و ما صح فهي القراءة الأخيرة- .
و روي عن الأعمش قال قال ابن مسعود لقد أخذت القرآن من في رسول الله ص سبعين سورة- و إن زيد بن ثابت لغلام في الكتاب له ذؤابة – . فأما حكايته عن أبي الحسين الخياط- أن ابن مسعود إنما عاب عثمان لعزله إياه- فعبد الله عند كل من عرفه بخلاف هذه الصورة- و إنه لم يكن ممن يخرج على عثمان- و يطعن في إمامته بأمر يعود إلى منفعة الدنيا- و إن كان عزله بما لا شبهة فيه في دين- و لا أمانة عيبا لا شك فيه-
الطعن السابع– أنه جمع الناس على قراءة زيد بن ثابت خاصة- و أحرق المصاحف و أبطل ما لا شك- أنه نزل من القرآن و أنه مأخوذ عن الرسول ص- و لو كان ذلك مما يسوغ- لسبق إليه رسول الله ص و لفعله أبو بكر و عمر- . قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك- أن الوجه في جمع القرآن على قراءة واحدة- تحصين القرآن و ضبطه- و قطع المنازعة و الاختلاف فيه- و قولهم لو كان ذلك واجبا لفعله الرسول ص غير لازم- لأن الإمام إذا فعله صار كأن الرسول ص فعله- و لأن الأحوال في ذلك تختلف- و قد روي أن عمر كان عزم على ذلك فمات دونه- و ليس لأحد أن يقول- إن إحراقه المصاحف استخفاف بالدين- و ذلك لأنه إذا جاز من الرسول ص- أن يخرب المسجد الذي بني ضرارا و كفرا- فغير ممتنع إحراق المصاحف- .
اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام- فقال إن اختلاف الناس في القراءة- ليس بموجب لما صنعه لأنهم يروون أن النبي ص قال نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف – فهذا الاختلاف عندهم في القرآن مباح مسند عن الرسول ص- فكيف يحظر عليهم عثمان- من التوسع في الحروف ما هو مباح- فلو كان في القراءة الواحدة تحصين القرآن كما ادعى- لما أباح النبي ص في الأصل إلا القراءة الواحدة- لأنه أعلم بوجوه المصالح من جميع أمته- من حيث كان مؤيدا بالوحي- موفقا في كل ما يأتي و يذر- و ليس له أن يقول- حدث من الاختلاف في أيام عثمان- ما لم يكن في أيام الرسول ص و لا ما أباحه- و ذلك لأن الأمرلو كان على هذا- لوجب أن ينهى عن القراءة الحادثة- و الأمر المبتدع و لا يحمله ما أحدث- من القراءة على تحريم المتقدم بلا شبهة- . و قوله إن الإمام إذا فعل ذلك- فكأن الرسول ص فعله تعلل بالباطل- و كيف يكون كما ادعى- و هذا الاختلاف بعينه قد كان موجودا في أيام الرسول ص- فلو كان سبب الانتشار الزيادة في القرآن- و في قطعه تحصين له- لكان ع بالنهي عن هذا الاختلاف أولى من غيره- اللهم إلا أن يقال حدث اختلاف لم يكن- فقد قلنا فيه ما كفى- .
و أما قوله إن عمر قد كان عزم على ذلك فمات دونه- فما سمعناه إلا منه- و لو فعل ذلك أي فاعل كان لكان منكرا- . فأما الاعتذار عن كون إحراق المصاحف- لا يكون استخفافا بالدين- بحمله إياه على تخريب مسجد الضرار- فبين الأمرين بون بعيد- لأن البنيان إنما يكون مسجدا و بيتا لله تعالى- بنية الباني و قصده- و لو لا ذلك لم يكن بعض البنيان- بأن يكون مسجدا أولى من بعض- و لما كان قصد الباني لذلك الموضع- غير القربة و العبادة- بل خلافها و ضدها من الفساد و المكيدة- لم يكن في الحقيقة مسجدا- و إن سمي بذلك مجازا على ظاهر الأمر- فهدمه لا حرج فيه- و ليس كذلك ما بين الدفتين- لأنه كلام الله تعالى الموقر المعظم- الذي يجب صيانته عن البذلة و الاستخفاف- فأي نسبة بين الأمرين- .
الطعن الثامن- أنه أقدم عمار بن ياسر بالضرب حتى حدث به فتق- و لهذا صار أحد من ظاهر المتظلمين من أهل الأمصار على قتله- و كان يقول قتلناه كافرا- .قال قاضي القضاة- و قد أجاب شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى عن ذلك- فقال إن ضرب عمار غير ثابت- و لو ثبت أنه ضربه للقول العظيم- الذي كان يقوله لم يجب أن يكون طعنا عليه- لأن للإمام تأديب من يستحق التأديب- و مما يبعد صحة ذلك أن عمارا لا يجوز أن يكفره- و لما يقع منه ما يستوجب به الكفر- لأن الذي يكفر به الكافر معلوم- و لأنه لو كان قد وقع ذلك- لكان غيره من الصحابة أولى بذلك- و لوجب أن يجتمعوا على خلعه- و لوجب أن يكون قتله مباحا لهم- بل كان يجب أن يقيموا إماما ليقتله على ما قدمناه- و ليس لأحد أن يقول- إنما كفره عمار من حيث وثب على الخلافة- و لم يكن لها أهلا- لأنا قد بينا القول في ذلك- و لأنه كان منصوبا لأبي بكر و عمر ما تقدم- و قد بينا أن صحة إمامتهما تقتضي صحة إمامة عثمان- .
و قد روي أن عمارا نازع الحسن بن علي ع في أمر عثمان- فقال عمار قتل عثمان كافرا- و قال الحسن ع قتل مؤمنا و تعلق بعضهما ببعض- فصارا إلى أمير المؤمنين ع- فقال ما ذا تريد من ابن أخيك- فقال إني قلت كذا و قال كذا- فقال له أمير المؤمنين ع- أ تكفر برب كان يؤمن به عثمان فسكت عمار – و قد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط- أن عثمان لما نقم عليه ضربه عمارا احتج لنفسه- فقال جاءني سعد و عمار فأرسلا إلي أن ائتنا- فإنا نريد أن نذاكرك أشياء فعلتها- فأرسلت إليهما أني مشغول فانصرفا- فموعدكما يوم كذا- فانصرف سعد و أبى عمار أن ينصرف- فأعدت الرسول إليه فأبى أن ينصرف- فتناوله بغير أمري- و و الله ما أمرت به و لا رضيت- و ها أنا فليقتص مني- .
قال و هذا من أنصف قول و أعدله. اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام- فقال أما الدفع لضرب عمار- فهوكالإنكار لطلوع الشمس ظهورا و انتشارا- و كل من قرأ الأخبار و تصفح السير- يعلم من هذا الأمر ما لا تثنيه عنه مكابرة و لا مدافعة- و هذا الفعل أعني ضرب عمار لم تختلف الرواة فيه- و إنما اختلفوا في سببه- فروى عباس بن هشام الكلبي عن أبي مخنف- في إسناده أنه كان في بيت المال بالمدينة سفط- فيه حلي و جوهر- فأخذ منه عثمان ما حلي به بعض أهله- فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك- و كلموه فيه بكل كلام شديد حتى أغضبوه فخطب- فقال لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء- و إن رغمت به أنوف أقوام- فقال له علي ع إذن تمنع من ذلك و يحال بينك و بينه- فقال عمار أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك- فقال عثمان أ علي يا ابن ياسر تجترئ- خذوه فأخذ و دخل عثمان فدعا به- فضربه حتى غشي عليه ثم أخرج- فحمل حتى أتي به منزل أم سلمة رضي الله تعالى عنها- فلم يصل الظهر و العصر و المغرب- فلما أفاق توضأ و صلى- و قال الحمد لله ليس هذا أول يوم أوذينا في الله تعالى-
فقال هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي- و كان عمار حليفا لبني مخزوم- يا عثمان أما علي فاتقيته- و أما نحن فاجترأت علينا- و ضربت أخانا حتى أشفيت به على التلف- أما و الله لئن مات لأقتلن به رجلا من بني أمية عظيم الشأن- فقال عثمان و إنك لهاهنا يا ابن القسرية- قال فإنهما قسريتان- و كانت أم هشام و جدته قسريتين من بجيلة- فشتمه عثمان و أمر به فأخرج- فأتي به أم سلمة رضي الله تعالى عنها- فإذا هي قد غضبت لعمار- و بلغ عائشة رضي الله تعالى عنها ما صنع بعمار- فغضبت أيضا و أخرجت شعرا من شعر رسول الله ص- و نعلا من نعاله و ثوبا من ثيابه- و قالت ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم- و هذا شعره و ثوبه و نعله لم يبل بعد- .
و روى آخرون أن السبب في ذلك- أن عثمان مر بقبر جديد فسأل عنه- فقيل عبد الله بن مسعود- فغضب على عمار لكتمانه إياه موته- إذ كان المتولي للصلاة عليه و القيام بشأنه- فعندها وطئ عثمان عمارا حتى أصابه الفتق- . و روى آخرون أن المقداد و عمارا و طلحة و الزبير- و عدة من أصحاب رسول الله ص كتبوا كتابا- عددوا فيه أحداث عثمان و خوفوه به- و أعلموه أنهم مواثبوه إن لم يقلع- فأخذ عمار الكتاب فأتاه به فقرأ منه صدرا- ثم قال له أ علي تقدم من بينهم- فقال لأني أنصحهم لك- قال كذبت يا ابن سمية- فقال أنا و الله ابن سمية و ابن ياسر- فأمر عثمان غلمانا له فمدوا بيديه و رجليه- ثم ضربه عثمان برجليه و هي في الخفين على مذاكيره- فأصابه الفتق و كان ضعيفا كبيرا فغشي عليه- .
قال فضرب عمار على ما ترى غير مختلف فيه بين الرواة- و إنما اختلفوا في سببه- و الخبر الذي رواه صاحب المغني- و حكاه عن أبي الحسين الخياط ما نعرفه- و كتب السيرة المعلومة خالية منه و من نظيره- و قد كان يجب أن يضيفه إلى الموضع الذي أخذ منه- فإن قوله و قول من أسند إليه ليس بحجة- و لو كان صحيحا لكان يجب أن يقول بدل قوله- ها أنا فليقتص مني- إذا كان ما أمر بذلك و لا رضي عنه- و إنما ضربه الغلام الجاني- فليقتص منه فإنه أولى و أعدل- . و بعد فلا تنافي بين الروايتين لو كان ما رواه معروفا- لأنه يجوز أن يكون غلامه ضربه في حال- و ضربه هو في حال أخرى- و الروايات إذا لم تتعارض لم يجز إسقاط شيء منها- . فأما قوله إن عمارا لا يجوز أن يكفره- و لم يقع منه ما يوجب الكفر- فإن تكفير عمار و غير عمار له معروف- و قد جاءت به الروايات- و قد روي من طرق مختلفة و بأسانيد كثيرة- أن عمارا كان يقول- ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر و أنا الرابع- و أنا شرالأربعة- وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ- و أنا أشهد أنه قد حكم بغير ما أنزل الله- .
و روي عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة- أنه قيل له بأي شيء كفرتم عثمان- فقال بثلاث جعل المال دولة بين الأغنياء- و جعل المهاجرين من أصحاب رسول الله ص- بمنزلة من حارب الله و رسوله و عمل بغير كتاب الله- . و روي عن حذيفة أنه كان يقول- ما في عثمان بحمد الله أشك- لكني أشك في قاتله- لا أدري أ كافر قتل كافرا- أم مؤمن خاض إليه الفتنة حتى قتله- و هو أفضل المؤمنين إيمانا- فأما ما رواه من منازعة الحسن ع عمارا في ذلك- و ترافعهما إلى أمير المؤمنين ع- فهو أولا غير دافع لكون عمار مكفرا له- بل شاهد بذلك من قوله ع- ثم إن كان الخبر صحيحا فالوجه فيه- أن عمارا كان يعلم من لحن كلام أمير المؤمنين ع- و عدوله عن أن يقضي بينهما بصريح من القول- أنه متمسك بالتقية فأمسك عمار متابعة لغرضه- . فأما قوله لا يجوز أن يكفره من حيث وثب على الخلافة- لأنه كان مصوبا لأبي بكر و عمر لما تقدم من كلامه في ذلك- فإنا لا نسلم له أن عمارا كان مصوبا لهما- و ما تقدم من كلامه قد تقدم كلامنا عليه- .
فأما قوله عن أبي علي أنه لو ثبت- أنه ضربه للقول العظيم الذي كان يقوله فيه لم يكن طعنا- لأن للإمام تأديب من يستحق ذلك- فقد كان يجب أن يستوحش صاحب كتاب المغني- أو من حكى كلامه من أبي علي و غيره من أن يعتذر- من ضرب عمار و وقذه- حتى لحقه من الغشي ما ترك له الصلاة- و وطئه بالأقدام امتهانا و استخفافا بشيء من العذر-فلا عذر يسمع من إيقاع نهاية المكروه بمن روي أن النبي ص قال فيه- عمار جلده ما بين العين و الأنف- و متى تنكأ الجلدة يدم الأنف و روي أنه قال ع ما لهم و لعمار- يدعوهم إلى الجنة و يدعونه إلى النار-.
روى العوام بن حوشب عن سلمة بن كهيل عن علقمة عن خالد بن الوليد أن رسول الله ص قال من عادى عمارا عاداه الله- و من أبغض عمارا أبغضه الله – و أي كلام غليظ سمعه عثمان من عمار- يستحق به ذلك المكروه العظيم- الذي يجاوز مقدار ما فرضه الله تعالى في الحدود- و إنما كان عمار و غيره- أثبتوا عليه أحداثه و معايبه أحيانا- على ما يظهر من سيئ أفعاله- و قد كان يجب عليه أحد أمرين- إما أن ينزع عما يواقف عليه من تلك الأفعال أو يبين من عذره عنها- و براءته منها ما يظهر و يشتهر- فإن أقام مقيم بعد ذلك على توبيخه و تفسيقه- زجره عن ذلك بوعظ أو غيره- و لا يقدم على ما يفعله الجبابرة و الأكاسرة من شفاء الغيظ- بغير ما أنزل الله تعالى و حكم به- الطعن التاسع- إقدامه علي أبي ذر مع تقدمه في الإسلام- حتى سيره إلى الربذة و نفاه و قيل إنه ضربه- . قال قاضي القضاة في الجواب عن ذلك- أن شيخنا أبا علي رحمه الله تعالى قال- إن الناس اختلفوا في أمر أبي ذر رحمه الله تعالى- و روي أنه قيل لأبي ذر- عثمان أنزلك الربذة- فقال لا بل اخترت لنفسي ذلك- .
و روي أن معاوية كتب يشكوه و هو بالشام- فكتب عثمان إليه أن صر إلى المدينة فلما صار إليها- قال ما أخرجك إلى الشام قال- لأني سمعت رسول الله ص يقول إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فاخرج عنها– فلذلك خرجت- فقال فأي البلاد أحب إليك بعد الشام- قال الربذة فقال صر إليها- . قال و إذا تكافأت الأخبار لم يكن لهم في ذلك حجة- و لو ثبت ذلك- لكان لا يمتنع أن يخرجه إلى الربذة لصلاح يرجع إلى الدين- فلا يكون ظلما لأبي ذر بل يكون إشفاقا عليه- و خوفا من أن يناله من بعض أهل المدينة مكروه- فقد روي أنه كان يغلظ في القول و يخشن الكلام- فيقول لم يبق أصحاب محمد على ما عهد و ينغر بهذا القول- فرأى إخراجه أصلح لما يرجع إليه و إليهم و إلى الدين- و قد روي أن عمر أخرج عن المدينة نصر بن الحجاج- لما خاف ناحيته- و قد ندب الله سبحانه إلى خفض الجناح للمؤمنين- و إلى القول اللين للكافرين- و بين للرسول ص- أنه لو استعمل الفظاظة لانفضوا من حوله- فلما رأى عثمان من خشونة كلام أبي ذر- و ما كان يورده مما يخشى منه التنغير فعل ما فعل- .
قال و قد روي عن زيد بن وهب- قال قلت لأبي ذر رحمه الله تعالى و هو بالربذة- ما أنزلك هذا المنزل- قال أخبرك أني كنت بالشام في أيام معاوية- و قد ذكرت هذه الآية- وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ- وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ- فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ- فقال معاوية هذه في أهل الكتاب- فقلت هي فيهم و فينا- فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك- فكتب إلي أن أقدم علي فقدمت عليه- فانثال الناس إلي كأنهم لم يعرفوني- فشكوت ذلك إلى عثمان فخيرني- و قال انزل حيث شئت فنزلت الربذة- .
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 3