30 و من خطبة له ع في معنى قتل عثمان
لَوْ أَمَرْتُ بِهِ لَكُنْتُ قَاتِلًا- أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ لَكُنْتُ نَاصِراً- غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ خَذَلَهُ مَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ- وَ مَنْ خَذَلَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ نَصَرَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي- وَ أَنَا جَامِعٌ لَكُمْ أَمْرَهُ اسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ الْأَثَرَةَ- وَ جَزِعْتُمْ فَأَسَأْتُمُ الْجَزَعَ- وَ لِلَّهِ حُكْمٌ وَاقِعٌ فِي الْمُسْتَأْثِرِ وَ الْجَازِعِ هذا الكلام بظاهره يقتضي أنه ما أمر بقتله و لا نهى عنه- فيكون دمه عنده في حكم الأمور المباحة التي لا يؤمر بها- و لا ينهى عنها- غير أنه لا يجوز أن يحمل الكلام على ظاهره- لما ثبت من عصمة دم عثمان- و أيضا فقد ثبت في السير و الأخبار- أنه كان ع ينهى الناس عن قتله- فإذن يجب أن يحمل لفظ النهي على المنع- كما يقال الأمير ينهى عن نهب أموال الرعية أي يمنع- و حينئذ يستقيم الكلام- لأنه ع ما أمر بقتله و لا منع عن قتله- و إنما كان ينهى عنه باللسان و لا يمنع عنه باليد- . فإن قيل فالنهي عن المنكر واجب- فهلا منع من قتله باليد- . قيل إنما يجب المنع باليد عن المنكر إذا كان حسنا- و إنما يكون الإنكار حسنا-
إذا لم يغلب على ظن الناهي عن المنكر أن نهيه لا يؤثر- فإن غلب على ظنه أن نهيه لا يؤثر قبح إنكار المنكر- لأنه إن كان الغرض تعريف فاعل القبيح قبح ما أقدم عليه- فذلك حاصل من دون الإنكار- و إن كان الغرض ألا يقع المنكر فذلك غير حاصل- لأنه قد غلب على ظنه أن نهيه و إنكاره لا يؤثر- و لذلك لا يحسن من الإنسان الإنكار على أصحاب المآصر- ما هم عليه من أخذ المكوس- لما غلب على الظن أن الإنكار لا يؤثر- و هذا يقتضي أن يكون أمير المؤمنين ع- قد غلب على ظنه أن إنكاره لا يؤثر فلذلك لم ينكر- . و لأجل اشتباه هذا الكلام على السامعين- قال كعب بن جعيل شاعر أهل الشام الأبيات التي منها-
أرى الشام تكره أهل العراق
و أهل العراق لهم كارهونا
و كل لصاحبه مبغض
يرى كل ما كان من ذاك دينا
إذا ما رمونا رميناهم
و دناهم مثل ما يقرضونا
و قالوا علي إمام لنا
فقلنا رضينا ابن هند رضينا
و قالوا نرى أن تدينوا لنا
فقلنا ألا لا نرى أن ندينا
و من دون ذلك خرط القتاد
و طعن و ضرب يقر العيونا
و كل يسر بما عنده
يرى غث ما في يديه سمينا
و ما في علي لمستعتب
مقال سوى ضمه المحدثينا
و إيثاره اليوم أهل الذنوب
و رفع القصاص عن القاتلينا
إذا سيل عنه حذا شبهة
و عمى الجواب على السائلينا
فليس براض و لا ساخط
و لا في النهاة و لا الآمرينا
و لا هو ساء و لا سره
و لا بد من بعض ذا أن يكونا
و هذا شعر خبيث منكر و مقصد عميق- و ما قال هذا الشعر إلا بعد أن نقل إلى أهل الشام- كلام كثير لأمير المؤمنين ع في عثمان- يجري هذا المجرى نحو قوله ما سرني و لا ساءني- و قيل له أ رضيت بقتله فقال لم أرض- فقيل له أ سخطت قتله فقال لم أسخط- و قوله تارة الله قتله و أنا معه- و قوله تارة أخرى ما قتلت عثمان و لا مالأت في قتله- و قوله تارة أخرى- كنت رجلا من المسلمين أوردت إذ أوردوا- و أصدرت إذ أصدروا- . و لكل شيء من كلامه- إذا صح عنه تأويل يعرفه أولو الألباب- . فأما قوله غير أن من نصره- فكلام معناه أن خاذليه كانوا خيرا من ناصريه- لأن الذين نصروه كان أكثرهم فساقا- كمروان بن الحكم و أضرابه- و خذله المهاجرون و الأنصار- . فأما قوله و أنا جامع لكم أمره إلى آخر الفصل- فمعناه أنه فعل ما لا يجوز و فعلتم ما لا يجوز- أما هو فاستأثر فأساء الأثرة- أي استبد بالأمور فأساء في الاستبداد- و أما أنتم فجزعتم مما فعل أي حزنتم فأسأتم الجزع- لأنكم قتلتموه- و قد كان الواجب عليه أن يرجع عن استئثاره- و كان الواجب عليكم ألا تجعلوا جزاءه عما أذنب القتل- بل الخلع و الحبس و ترتيب غيره في الإمامة- . ثم قال و لله حكم سيحكم به فيه و فيكم
اضطراب الأمر على عثمان ثم أخبار مقتله
و يجب أن نذكر في هذا الموضع ابتداء اضطراب الأمر- على عثمان إلى أن قتل- . و أصح ما ذكر في ذلك ما أورده أبو جعفر- محمد بن جرير الطبري في التاريخ- . و خلاصة ذلك أن عثمان أحدث أحداثا مشهورة- نقمها الناس عليه من تأمير بني أمية- و لا سيما الفساق منهم و أرباب السفه و قلة الدين- و إخراج مال الفيء إليهم- و ما جرى في أمر عمار و أبي ذر و عبد الله بن مسعود- و غير ذلك من الأمور التي جرت في أواخر خلافته- ثم اتفق أن الوليد بن عقبة لما كان عامله على الكوفة- و شهد عليه بشرب الخمر- صرفه و ولى سعيد بن العاص مكانه- فقدم سعيد الكوفة و استخلص من أهلها قوما يسمرون عنده- فقال سعيد يوما إن السواد بستان للقريش و بني أمية- فقال الأشتر النخعي- و تزعم أن السواد الذي أفاءه الله على المسلمين بأسيافنا- بستان لك و لقومك- فقال صاحب شرطته أ ترد على الأمير مقالته و أغلظ له- فقال الأشتر لمن كان حوله من النخع- و غيرهم من أشراف الكوفة- أ لا تسمعون فوثبوا عليه بحضرة سعيد- فوطئوه وطأ عنيفا و جروا برجله- فغلظ ذلك على سعيد و أبعد سماره فلم يأذن بعد لهم- فجعلوا يشتمون سعيدا في مجالسهم- ثم تعدوا ذلك إلى شتم عثمان- و اجتمع إليهم ناس كثير حتى غلظ أمرهم- فكتب سعيد إلى عثمان في أمرهم- فكتب إليه أن يسيرهم إلى الشام- لئلا يفسدوا أهل الكوفة- و كتب إلى معاوية و هو والي الشام- أن نفرا من أهل الكوفة قد هموا بإثارة الفتنة- و قد سيرتهم إليك فانههم- فإن آنست منهم رشدا فأحسن إليهم- و ارددهم إلى بلادهم- فلما قدموا على معاوية- و كانوا الأشتر و مالك بن كعب الأرحبي- و الأسود بن يزيد النخعي و علقمة بن قيس النخعي- و صعصعة بن صوحان العبدي و غيرهم- جمعهم يوما و قال لهم- إنكم قوم من العرب ذوو أسنان و ألسنة- و قد أدركتم بالإسلام شرفا- و غلبتم الأمم و حويتم مواريثهم- و قد بلغني أنكم ذممتم قريشا و نقمتم على الولاة فيها- و لو لا قريش لكنتم أذلة- إن أئمتكم لكم جنة فلا تفرقوا عن جنتكم- إن أئمتكم ليصبرون لكم على الجور- و يحتملون منكم العتاب- و الله لتنتهن أو ليبتلينكم الله- بمن يسومكم الخسف و لا يحمدكم على الصبر- ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية- في حياتكم و بعد وفاتكم- .
فقال له صعصعة بن صوحان- أما قريش فإنها لم تكن أكثر العرب- و لا أمنعها في الجاهلية- و إن غيرها من العرب لأكثر منها كان و أمنع- . فقال معاوية- إنك لخطيب القوم و لا أرى لك عقلا- و قد عرفتكم الآن و علمت أن الذي أغراكم قلة العقول- أعظم عليكم أمر الإسلام فتذكرني الجاهلية- أخزى الله قوما عظموا أمركم- فقهوا عني و لا أظنكم تفقهون- إن قريشا لم تعز في جاهلية و لا إسلام إلا بالله وحده- لم تكن بأكثر العرب و لا أشدها- و لكنهم كانوا أكرمهم أحسابا- و أمحضهم أنسابا و أكملهم مروءة- و لم يمتنعوا في الجاهلية- و الناس يأكل بعضهم بعضا- إلا بالله- فبوأهم حرما آمنا يتخطف الناس من حوله- هل تعرفون عربا أو عجما أو سودا أو حمرا- إلا و قد أصابهم الدهر في بلدهم و حرمهم- إلا ما كان من قريش- فإنه لم يردهم أحد من الناس بكيد إلا جعل الله خده الأسفل- حتى أراد الله تعالى أن يستنقذ من أكرمه باتباع دينه- من هوان الدنيا و سوء مرد الآخرة- فارتضى لذلك خير خلقه ثم ارتضى له أصحابا- و كان خيارهم قريشا ثم بنى هذا الملك عليهم- و جعل هذه الخلافة فيهم فلا يصلح الأمر إلا بهم- و قد كان الله يحوطهم في الجاهلية و هم على كفرهم- أ فتراه لا يحوطهم و هم على دينه أف لك و لأصحابك- أما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر القرى- أنتنها نبتا و أعمقها واديا- و ألأمها جيرانا و أعرفها بالشر- لم يسكنها شريف قط و لا وضيع إلا سب بها- نزاع الأمم و عبيد فارس و أنت شر قومك- أ حين أبرزك الإسلام و خلطك بالناس- أقبلت تبغي دين الله عوجا و تنزع إلى الغواية- إنه لن يضر ذلك قريشا و لا يضعهم- و لا يمنعهم من تأدية ما عليهم- إن الشيطان عنكم لغير غافل- قد عرفكم بالشر فأغراكم بالناس- و هو صارعكم و إنكم لا تدركون بالشر أمرا- إلا فتح عليكم شر منه و أخزى- قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم- لا ينفع الله بكم أحدا أبدا و لا يضره- و لستم برجال منفعة و لا مضرة- فإن أردتم النجاة- فالزموا جماعتكم و لا تبطرنكم النعمة- فإن البطر لا يجر خيرا اذهبوا حيث شئتم- فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم- .
و كتب إلى عثمان- أنه قدم علي قوم ليست لهم عقول و لا أديان- أضجرهم العدل لا يريدون الله بشيء- و لا يتكلمون بحجة إنما همهم الفتنة- و الله مبتليهم ثم فاضحهم- و ليسوا بالذين نخاف نكايتهم- و ليسوا بأكثر ممن له شغب و نكير- . ثم أخرجهم من الشام- . و روى أبو الحسن المدائني- أنه كان لهم مع معاوية بالشام مجالس- طالت فيها المحاورات و المخاطبات بينهم- و أن معاوية قال لهم في جملة ما قاله- إن قريشا قد عرفت- أن أبا سفيان كان أكرمها و ابن أكرمها- إلا ما جعل الله لنبيه ص- فإنه انتجبه و أكرمه- و لو أن أبا سفيان ولد الناس كلهم لكانوا حلماء- .
فقال له صعصعة بن صوحان كذبت- قد ولدهم خير من أبي سفيان- من خلقه الله بيده و نفخ فيه من روحه- و أمر الملائكة فسجدوا له- فكان فيهم البر و الفاجر و الكيس و الأحمق- . قال و من المجالس التي دارت بينهم- أن معاوية قال لهم أيها القوم ردوا خيرا أو اسكتوا- و تفكروا و انظروا فيما ينفعكم و المسلمين- فاطلبوه و أطيعوني- .
فقال له صعصعة لست بأهل ذلك- و لا كرامة لك أن تطاع في معصية الله- . فقال إن أول كلام ابتدأت به- أن أمرتكم بتقوى الله و طاعة رسوله- و أن تعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا- . فقالوا بل أمرت بالفرقة- و خلاف ما جاء به النبي ص- . فقال إن كنت فعلت فإني الآن أتوب- و آمركم بتقوى الله و طاعته و لزوم الجماعة- و أن توقروا أئمتكم و تطيعوهم- . فقال صعصعة إن كنت تبت فإنا نأمرك أن تعتزل عملك- فإن في المسلمين من هو أحق به منك- ممن كان أبوه أحسن أثرا في الإسلام من أبيك- و هو أحسن قدما في الإسلام منك- .
فقال معاوية إن لي في الإسلام لقدما- و إن كان غيري أحسن قدما مني- لكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني- و لقد رأى عمر بن الخطاب ذلك- فلو كان غيري أقوى مني- لم يكن عند عمر هوادة لي و لا لغيري- و لم أحدث ما ينبغي له أن أعتزل عملي- فلو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلي بخط يده- فاعتزلت عمله- فمهلا فإن في دون ما أنتم فيه ما يأمر فيه الشيطان و ينهى- و لعمري لو كانت الأمور تقضى على رأيكم و أهوائكم- ما استقام الأمر لأهل الإسلام يوما و لا ليلة- فعاودوا الخير و قولوه فإن الله ذو سطوات- و إني خائف عليكم- أن تتتابعوا إلى مطاوعة الشيطان و معصية الرحمن- فيحلكم ذلك دار الهون في العاجل و الآجل- . فوثبوا على معاوية فأخذوا برأسه و لحيته-
فقال مه إن هذه ليست بأرض الكوفة- و الله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي و أنا إمامهم- ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم- فلعمري إن صنيعكم يشبه بعضه بعضا- . ثم قام من عندهم و كتب إلى عثمان في أمرهم- فكتب إليه أن ردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة- فردهم فأطلقوا ألسنتهم في ذمه و ذم عثمان و عيبهما- فكتب إليه عثمان أن يسيرهم إلى حمص- إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فسيرهم إليها- .
و روى الواقدي قال- لما سير بالنفر الذين طردهم عثمان عن الكوفة إلى حمص- و هم الأشتر و ثابت بن قيس الهمداني- و كميل بن زياد النخعي و زيد بن صوحان و أخوه صعصعة- و جندب بن زهير الغامدي- و جندب بن كعب الأزدي و عروة بن الجعد- و عمرو بن الحمق الخزاعي و ابن الكواء- جمعهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد- بعد أن أنزلهم أياما و فرض لهم طعاما- ثم قال لهم يا بني الشيطان لا مرحبا بكم و لا أهلا- قد رجع الشيطان محسورا- و أنتم بعد في بساط ضلالكم و غيكم- جزى الله عبد الرحمن إن لم يؤذكم- يا معشر من لا أدري أ عرب هم أم عجم- أ تراكم تقولون لي ما قلتم لمعاوية- أنا ابن خالد بن الوليد أنا ابن من عجمته العاجمات- أنا ابن فاقئ عين الردة- و الله يا ابن صوحان لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى- إن بلغني أن أحدا ممن معي دق أنفك فأقنعت رأسك- .
قال فأقاموا عنده شهرا كلما ركب أمشاهم معه- و يقول لصعصعة يا ابن الخطيئة- إن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر- ما لك لا تقول كما كنت تقول لسعيد و معاوية- فيقولون سنتوب إلى الله أقلنا أقالك الله- فما زال ذاك دأبه و دأبهم حتى قال تاب الله عليكم- فكتب إلى عثمان يسترضيه عنهم- و يسأله فيهم فردهم إلى الكوفة- . قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى- ثم إن سعيد بن العاص قدم على عثمان- سنة إحدى عشرة من خلافته- فلما دخل المدينة اجتمع قوم من الصحابة- فذكروا سعيدا و أعماله- و ذكروا قرابات عثمان و ما سوغهم من مال المسلمين- و عابوا أفعال عثمان- فأرسلوا إليه عامر بن عبد القيس و كان متألها- و اسم أبيه عبد الله و هو من تميم ثم من بني العنبر-
فدخل على عثمان فقال له- إن ناسا من الصحابة اجتمعوا و نظروا في أعمالك- فوجدوك قد ركبت أمورا عظاما فاتق الله و تب إليه- فقال عثمان انظروا إلى هذا- تزعم الناس أنه قارئ- ثم هو يجيء إلي فيكلمني فيما لا يعلمه- و الله ما تدري أين الله- فقال عامر بلى و الله إني لأدري إن الله لبالمرصاد- . فأخرجه عثمان و أرسل إلى عبد الله بن سعد بن سرح- و إلى معاوية و سعيد بن العاص- و عمرو بن العاص و عبد الله بن عامر- و كان قد استقدم الأمراء من أعمالهم فشاورهم- و قال إن لكل أمير وزراء و نصحاء- و إنكم وزرائي و نصحائي و أهل ثقتي- و قد صنع الناس ما قد رأيتم- و طلبوا إلي أن أعزل عمالي- و أن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون- فاجتهدوا رأيكم- .
فقال عبد الله بن عامر- أرى لك يا أمير المؤمنين أن تشغلهم عنك بالجهاد- حتى يذلوا لك- و لا تكون همة أحدهم إلا في نفسه- و ما هو فيه من دبر دابته و قمل فروته- . و قال سعيد بن العاص- احسم عنك الداء و اقطع عنك الذي تخاف- إن لكل قوم قادة متى يهلكوا يتفرقوا و لا يجتمع لهم أمر- . فقال عثمان إن هذا لهو الرأي لو لا ما فيه- و قال معاوية- أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد- فيكفيك كل رجل منهم ما قبله- فأنا أكفيك أهل الشام- . و قال عبد الله بن سعد إن الناس أهل طمع- فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم- . فقال عمرو بن العاص يا أمير المؤمنين- إنك قد ركبت الناس ببني أمية- فقلت و قالوا و زغت و زاغوا- فاعتدل أو اعتزل فإن أبيت فاعزم عزما و امض قدما- .
فقال له عثمان ما لك قمل فروك أ هذا بجد منك- . فسكت عمرو حتى تفرقوا- ثم قال و الله يا أمير المؤمنين- لأنت أكرم علي من ذلك- و لكني علمت- أن بالباب من يبلغ الناس قول كل رجل منا- فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي- فأقود إليك خيرا و أدفع عنك شرا- . فرد عثمان عماله إلى أعمالهم- و أمرهم بتجهيز الناس في البعوث- و عزم على أن يحرمهم أعطياتهم ليطيعوه- و رد سعيد بن العاص إلى الكوفة- فتلقاه أهلها بالجرعة- و كانوا قد كرهوا إمارته و ذموا سيرته- فقالوا له ارجع إلى صاحبك فلا حاجة لنا فيك- فهم بأن يمضي لوجهه و لا يرجع- فكثر الناس عليه فقال له قائل ما هذا- أ ترد السيل عن إدراجه- و الله لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية- و يوشك أن تنتضى بعد اليوم- ثم يتمنون ما هم اليوم فيه فلا يرد عليهم- فارجع إلى المدينة فإن الكوفة ليست لك بدار- .
فرجع إلى عثمان فأخبره بما فعلوا- فأنفذ أبا موسى الأشعري أميرا على الكوفة- و كتب إليهم أما بعد- فقد أرسلت إليكم أبا موسى الأشعري أميرا- و أعفيتكم من سعيد- و و الله لأفوضنكم عرضي و لأبذلن لكم صبري- و لأستصلحنكم جهدي- فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه- و لا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه- لأكون فيه عند ما أحببتم و كرهتم- حتى لا يكون لكم على الله حجة- و الله لنصبرن كما أمرنا و سيجزي الله الصابرين- .
قال أبو جعفر فلما دخلت سنة خمس و ثلاثين- تكاتب أعداء عثمان و بني أمية في البلاد- و حرض بعضهم بعضا على خلع عثمان عن الخلافة- و عزل عماله عن الأمصار و اتصل ذلك بعثمان- فكتب إلى أهل الأمصار- أما بعد فإنه رفع إلي- أن أقواما منكم يشتمهم عمالي و يضربونهم- فمن أصابه شيء من ذلك فليواف الموسم بمكة- فليأخذ بحقه مني أو من عمالي فإني قد استقدمتهم- أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين- . ثم كاتب عماله و استقدمهم فلما قدموا عليه جمعهم- و قال ما شكاية الناس منكم- إني لخائف أن تكونوا مصدوقا عليكم- و ما يعصب هذا الأمر إلا بي- فقالوا له و الله ما صدق من رفع إليك و لا بر- و لا نعلم لهذا الأمر أصلا- فقال عثمان فأشيروا علي- فقال سعيد بن العاص هذه أمور مصنوعة- تلقى في السر فيتحدث بها الناس- و دواء ذلك السيف- . و قال عبد الله بن سعد- خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم- . و قال معاوية الرأي حسن الأدب- . و قال عمرو بن العاص- أرى لك أن تلزم طريق صاحبيك- فتلين في موضع اللين و تشتد في موضع الشدة- .
فقال عثمان قد سمعت ما قلتم- إن الأمر الذي يخاف على هذه الأمة كائن لا بد منه- و إن بابه الذي يغلق عليه ليفتحن- فكفكفوهم باللين و المداراة إلا في حدود الله- فقد علم الله أني لم آل الناس خيرا- و إن رحى الفتنة لدائرة- فطوبى لعثمان إن مات و لم يحركها- سكنوا الناس و هبوا لهم حقوقهم- فإذا تعوطيت حقوق الله فلا تدهنوا فيها- .ثم نفر فقدم المدينة فدعا عليا و طلحة و الزبير- فحضروا و عنده معاوية فسكت عثمان و لم يتكلم- و تكلم معاوية فحمد الله و قال- أنتم أصحاب رسول الله ص و خيرته من خلقه- و ولاة أمر هذه الأمة لا يطمع فيه أحد غيركم- اخترتم صاحبكم عن غير غلبة و لا طمع- و قد كبر و ولى عمره- فلو انتظرتم به الهرم كان قريبا- مع أني أرجو أن يكون أكرم على الله أن يبلغه ذلك- و قد فشت مقالة خفتها عليكم- فما عبتم فيه من شيء فهذه يدي لكم به رهنا- فلا تطمعوا الناس في أمركم- فو الله إن أطعتموهم لا رأيتم أبدا منها إلا إدبارا- .
فقال علي ع و ما لك و ذاك لا أم لك- فقال دع أمي فإنها ليست بشر أمهاتكم- قد أسلمت و بايعت النبي ص و أجبني عما أقول لك- . فقال عثمان صدق ابن أخي- أنا أخبركم عني و عما وليت- إن صاحبي اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما- و من كان منهما بسبيل احتسابا- و إن رسول الله ص كان يعطي قرابته- و أنا في رهط أهل عيلة و قلة معاش- فبسطت يدي في شيء من ذلك لما أقوم به فيه- فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه فأمري لأمركم تبع- .
قالوا أصبت و أحسنت- إنك أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألفا- و أعطيت مروان خمسة عشر ألفا- فاستعدها منهما فاستعادها فخرجوا راضين- . قال أبو جعفر و قال معاوية لعثمان اخرج معي إلى الشام- فإنهم على الطاعة- قبل أن يهجم عليك ما لا قبل لك به- فقال لا أبيع جوار رسول الله ص بشيء- و إن كان فيه قطع خيط عنقي- قال فأبعث إليك جندا من الشام- يقيم معك لنائبة إن نابت المدينة أو إياك- فقال لا أضيق على جيران رسول الله ص- فقال و الله لتغتالن فقال حسبي الله و نعم الوكيل- .
قال أبو جعفر و خرج معاوية من عند عثمان- فمر على نفر من المهاجرين- فيهم علي ع و طلحة و الزبير- و على معاوية ثياب سفره- و هو خارج إلى الشام فقام عليهم فقال- إنكم تعلمون أن هذا الأمر كان الناس يتغالبون عليه- حتى بعث الله نبيه- فتفاضلوا بالسابقة و القدمة و الجهاد- فإن أخذوا بذلك فالأمر أمرهم- و الناس لهم تبع- و إن طلبوا الدنيا بالتغالب سلبوا ذلك- و رده الله إلى غيرهم و إن الله على البدل لقادر- و إني قد خلفت فيكم شيخنا- فاستوصوا به خيرا و كانفوه- تكونوا أسعد منه بذلك ثم ودعهم و مضى- فقال علي ع كنت أرى في هذا خيرا- فقال الزبير- و الله ما كان أعظم قط في صدرك و صدورنا منه اليوم- .
قلت من هذا اليوم أنشب معاوية أظفاره في الخلافة- لأنه غلب على ظنه قتل عثمان- و رأى أن الشام بيده و أن أهلها يطيعونه- و أن له حجة يحتج بها عليهم و يجعلها ذريعة إلى غرضه- و هي قتل عثمان إذا قتل- و أنه ليس في أمراء عثمان أقوى منه- و لا أقدر على تدبير الجيوش و استمالة العرب- فبنى أمره من هذا اليوم على الطمع في الخلافة- أ لا ترى إلى قوله لصعصعة من قبل- إنه ليس أحد أقوى مني على الإمارة- و إن عمر استعملني و رضي سيرتي- أ و لا ترى إلى قوله للمهاجرين الأولين- إن شرعتم في أخذها بالتغالب و ملتم على هذا الشيخ- أخرجها الله منكم إلى غيركم و هو على الاستبدال قادر- و إنما كان يعني نفسه و هو يكني عنها- و لهذا تربض بنصرة عثمان- لما استنصره و لم يبعث إليه أحدا- .
و روى محمد بن عمر الواقدي رحمه الله تعالى- قال لما أجلب الناس على عثمان و كثرت القالة فيه- خرج ناس من مصر- منهم عبد الرحمن بن عديس البلوي و كنانة بن بشر الليثي- و سودان بن حمران السكوني- و قتيرة بن وهب السكسكي- و عليهم جميعا أبو حرب الغافقي و كانوا في ألفين- و خرج ناس من الكوفة- منهم زيد بن صوحان العبدي و مالك الأشتر النخعي- و زياد بن النضر الحارثي و عبد الله بن الأصم الغامدي في ألفين- و خرج ناس من أهل البصرة- منهم حكيم بن جبلة العبدي و جماعة من أمرائهم- و عليهم حرقوص بن زهير السعدي- و ذلك في شوال من سنة خمس و ثلاثين- و أظهروا أنهم يريدون الحج- فلما كانوا من المدينة على ثلاث تقدم أهل البصرة- فنزلوا ذا خشب و كان هواهم في طلحة- و تقدم أهل الكوفة فنزلوا الأعوص- و كان هواهم في الزبير- و جاء أهل مصر فنزلوا المروة- و كان هواهم في علي ع- و دخل ناس منهم إلى المدينة يخبرون ما في قلوب الناس لعثمان- فلقوا جماعة من المهاجرين و الأنصار- و لقوا أزواج النبي ص- و قالوا إنما نريد الحج و نستعفي من عمالنا- . ثم لقي جماعة من المصريين عليا ع- و هو متقلد سيفه عند أحجار الزيت فسلموا عليه- و عرضوا عليه أمرهم فصاح بهم و طردهم- و قال لقد علم الصالحون أن جيش المروة و ذي خشب و الأعوص ملعونون- على لسان محمد ص- . فانصرفوا عنه- . و أتى البصريون طلحة فقال لهم مثل ذلك- و أتى الكوفيون الزبير فقال لهم مثل ذلك- فتفرقوا و خرجوا عن المدينة إلى أصحابهم- . فلما أمن أهل المدينة منهم و اطمأنوا إلى رجوعهم- لم يشعروا إلا و التكبير في نواحي المدينة- و قد نزلوها و أحاطوا بعثمان و نادى مناديهم- يا أهل المدينة من كف يده عن الحرب فهو آمن- فحصروه في منزله- إلا أنهم لم يمنعوا الناس من كلامه و لقائه- فجاءهم جماعة من رؤساء المهاجرين- و سألوهم ما شأنهم-
فقالوا لا حاجة لنا في هذا الرجل- ليعتزلنا لنولي غيره لم يزيدوهم على ذلك- . فكتب عثمان إلى أهل الأمصار- يستنجدهم و يأمرهم بتعجيل الشخوص إليه للمنع عنه- و يعرفهم ما الناس فيه- فخرج أهل الأمصار على الصعب و الذلول- فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري- و بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح معاوية بن حديج- و خرج من الكوفة القعقاع بن عمرو بعثه أبو موسى- . و قام بالكوفة نفر- يحرضون الناس على نصر عثمان و إعانة أهل المدينة- منهم عقبة بن عمر و عبد الله بن أبي أوفى- و حنظلة الكاتب و كل هؤلاء من الصحابة- و من التابعين مسروق و الأسود و شريح و غيرهم- . و قام بالبصرة عمران بن الحصين و أنس بن مالك- و غيرهما من الصحابة- و من التابعين كعب بن سور و هرم بن حيان و غيرهما- .و قام بالشام و مصر جماعة من الصحابة و التابعين- .
و خرج عثمان يوم الجمعة- فصلى بالناس و قام على المنبر- فقال يا هؤلاء الله الله- فو الله إن أهل المدينة يعلمون- أنكم ملعونون على لسان محمد ص- فامحوا الخطأ بالصواب- . فقام محمد بن مسلمة الأنصاري- فقال نعم أنا أعلم ذلك فأقعده حكيم بن جبلة- و قام زيد بن ثابت فأقعده قتيرة بن وهب- و ثار القوم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد- و حصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيا عليه- فأدخل داره و استقتل نفر من أهل المدينة مع عثمان- منهم سعد بن أبي وقاص و الحسن بن علي ع- و زيد بن ثابت و أبو هريرة فأرسل إليهم عثمان- عزمت عليكم أن تنصرفوا فانصرفوا- . و أقبل علي و طلحة و الزبير- فدخلوا على عثمان يعودونه من صرعته- و يشكون إليه ما يجدون لأجله- و عند عثمان نفر من بني أمية- منهم مروان بن الحكم- فقالوا لعلي ع أهلكتنا و صنعت هذا الذي صنعت- و الله إن بلغت هذا الأمر الذي تريده- لنمرن عليك الدنيا فقام مغضبا- و خرج الجماعة الذين حضروا معه إلى منازلهم- . و روى الواقدي- قال صلى عثمان بعد ما وثبوا به في المسجد شهرا كاملا- ثم منعوه الصلاة و صلى بالناس أميرهم الغافقي- . و روى المدائني- قال كان عثمان محصورا محاطا به- و هو يصلي بالناس في المسجد- و أهل مصر و الكوفة و البصرة الحاضرون له يصلون خلفه- و هم أدق في عينه من التراب- .
قال أبو جعفر في التاريخ- ثم إن أهل المدينة تفرقوا عنه و لزموا بيوتهم- لا يخرج أحد منهم إلا بسيفه يمتنع به- فكان حصاره أربعين يوما- . و روى الكلبي و الواقدي و المدائني- أن محمد بن أبي بكر و محمد بن أبي حذيفة- كانا بمصر يحرضان الناس على عثمان- فسار محمد بن أبي بكر مع من سار إلى عثمان- و أقام محمد بن أبي حذيفة بمصر- ثم غلب عليها لما سار عبد الله بن سعد بن أبي سرح- عامل عثمان عنها إلى المدينة في أثر المصريين- بإذن عثمان له- فلما كان بأيلة بلغه- أن المصريين قد أحاطوا بعثمان و أنه مقتول- و أن محمد بن أبي حذيفة قد غلب على مصر- فعاد عبد الله إلى مصر فمنع عنها- فأتى فلسطين فأقام بها حتى قتل عثمان- .
و روى الكلبي قال- بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح رسولا- من مصر إلى عثمان يخبره بنهوض من نهض من مصر إليه- و أنهم قد أظهروا العمرة- و قصدهم خلعه أو قتله- فخطب عثمان الناس و أعلمهم حالهم- و قال إنهم قد أسرعوا إلى الفتنة و استطالوا عمري- و الله إن فارقتهم ليتمنين كل منهم- أن عمري كان طال عليهم مكان كل يوم سنة- مما يرون من الدماء المسفوكة و الإحن- و الأثرة الظاهرة و الأحكام المغيرة- . و روى أبو جعفر قال- كان عمرو بن العاص ممن يحرض على عثمان و يغري به- و لقد خطب عثمان يوما في أواخر خلافته- فصاح به عمرو بن العاص اتق الله يا عثمان- فإنك قد ركبت أمورا و ركبناها معك- فتب إلى الله نتب- فناداه عثمان و إنك هاهنا يا ابن النابغة- قملت و الله جبتك منذ نزعتك عن العمل- فنودي من ناحية أخرى تب إلى الله- و نودي من أخرى مثل ذلك- فرفع يديه إلى السماء- و قال اللهم إني أول التائبين ثم نزل- .
و روى أبو جعفر قال- كان عمرو بن العاص شديد التحريض و التأليب على عثمان- و كان يقول و الله إن كنت لألقى الراعي- فأحرضه على عثمان فضلا عن الرؤساء و الوجوه- فلما سعر الشر بالمدينة- خرج إلى منزله بفلسطين- فبينا هو بقصره و معه ابناه عبد الله و محمد- و عندهم سلامة بن روح الجذامي- إذ مر بهم راكب من المدينة فسألوه عن عثمان- فقال محصور فقال عمرو أنا أبو عبد الله- قد يضرط العير و المكواة في النار- ثم مر بهم راكب آخر فسألوه- فقال قتل عثمان فقال عمرو أنا أبو عبد الله- إذا نكأت قرحة أدميتها- فقال سلامة بن روح يا معشر قريش- إنما كان بينكم و بين العرب باب فكسرتموه- فقال نعم أردنا أن يخرج الحق من خاصرة الباطل- ليكون الناس في الأمر شرعا سواء- .
و روى أبو جعفر قال- لما نزل القوم ذا خشب- يريدون قتل عثمان إن لم ينزع عما يكرهون- و علم عثمان ذلك جاء إلى منزل علي ع- فدخل و قال يا ابن عم إن قرابتي قريبة- و لي عليك حق- و قد جاء ما ترى من هؤلاء القوم و هم مصبحي- و لك عند الناس قدر و هم يسمعون منك- و أحب أن تركب إليهم فتردهم عني- فإن في دخولهم علي وهنا لأمري و جرأة علي- فقال ع على أي شيء أردهم- قال على أن أصير إلى ما أشرت به و رأيته لي- فقال علي ع إني قد كلمتك مرة بعد أخرى- فكل ذلك تخرج و تقول و تعد ثم ترجع- و هذا من فعل مروان و معاوية- و ابن عامر و عبد الله بن سعد- فإنك أطعتهم و عصيتني- قال عثمان فإني أعصيهم و أطيعك- . فأمر علي ع الناس أن يركبوا معه- فركب ثلاثون رجلا من المهاجرين و الأنصار- منهم سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل- و أبو جهم العدوي و جبير بن مطعم- و حكيم بن حزام و مروان بن الحكم- و سعيد بن العاص و عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد- . و من الأنصار أبو أسيد الساعدي و زيد بن ثابت- و حسان بن ثابت و كعب بن مالك و غيرهم- فأتوا المصريين فكلموهم- فكان الذي يكلمهم علي و محمد بن مسلمة- فسمعوا منهما و رجعوا أصحابهم يطلبون مصر- و رجع علي ع حتى دخل على عثمان- فأشار عليه أن يتكلم بكلام يسمعه الناس منه- ليسكنوا إلى ما يعدهم به من النزوع- و قال له إن البلاد قد تمخضت عليك- و لا آمن أن يجيء ركب من جهة أخرى- فتقول لي يا علي اركب إليهم- فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك- و استخففت بحقك- .
فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها- و أعطى الناس من نفسه التوبة- و قال لهم أنا أول من اتعظ- و أستغفر الله عما فعلت و أتوب إليه- فمثلي نزع و تاب- فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروا رأيهم- و ليذكر كل واحد ظلامته لأكشفها- و حاجته لأقضيها- فو الله لئن ردني الحق عبدا لأستن بسنة العبيد- و لأذلن ذل العبيد- و ما عن الله مذهب إلا إليه- و الله لأعطينكم الرضا- و لأنحين مروان و ذويه و لا أحتجب عنكم- . فرق الناس له و بكوا حتى خضلوا لحاهم- و بكى هو أيضا- فلما نزل وجد مروان و سعيدا- و نفرا من بني أمية في منزله قعودا- لم يكونوا شهدوا خطبته و لكنها بلغتهم- فلما جلس قال مروان يا أمير المؤمنين- أ أتكلم أم أسكت-
فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان لا بل تسكت- فأنتم و الله قاتلوه و مميتو أطفاله- إنه قد قال مقالة لا ينبغي له أن ينزع عنها- فقال لها مروان و ما أنت و ذاك- و الله لقد مات أبوك و ما يحسن أن يتوضأ- فقالت مهلا يا مروان عن ذكر أبي إلا بخير- و الله لو لا أن أباك عم عثمان و أنه يناله غمه و عيبه- لأخبرتك من أمره بما لا أكذب فيه عليه- . فأعرض عنه عثمان ثم عاد فقال- يا أمير المؤمنين أ أتكلم أم أسكت- فقال تكلم فقال بأبي أنت و أمي- و الله لوددت أن مقالتك هذه كانت و أنت ممتنع- فكنت أول أن ينزع عنها- فقال لها مروان و ما أنت و ذاك- و الله لقد مات أبوك و ما يحسن أن يتوضأ- فقالت مهلا يا مروان عن ذكر أبي إلا بخير- و الله لو لا أن أباك عم عثمان و أنه يناله غمه و عيبه- لأخبرتك من أمره بما لا أكذب فيه عليه- . فأعرض عنه عثمان ثم عاد فقال- يا أمير المؤمنين أ أتكلم أم أسكت- فقال تكلم فقال بأبي أنت و أمي- و الله لوددت أن مقالتك هذه كانت و أنت ممتنع- فكنت أول من رضي بها و أعان عليها- و لكنك قلت ما قلت و قد بلغ الحزام الطبيين- و جاوز السيل الزبى- و حين أعطى الخطة الذليلة الذليل- و الله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها- أجمل من توبة تخوف عليها- ما زدت على أن جرأت عليك الناس- .
فقال عثمان قد كان من قولي ما كان- و إن الفائت لا يرد و لم آل خيرا- . فقال مروان إن الناس قد اجتمعوا ببابك أمثال الجبال- قال ما شأنهم قال أنت دعوتهم إلى نفسك- فهذا يذكر مظلمة و هذا يطلب مالا- و هذا يسأل نزع عامل من عمالك عنه- و هذا ما جنيت على خلافتك- و لو استمسكت و صبرت كان خيرا لك- قال فاخرج أنت إلى الناس فكلمهم- فإني أستحيي أن أكلمهم و أردهم- . فخرج مروان إلى الناس و قد ركب بعضهم بعضا- فقال ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم جئتم لنهب- شاهت الوجوه- أ تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا اعزبوا عنا- و الله إن رمتمونا لنمرن عليكم ما حلا- و لنحلن بكم ما لا يسركم- و لا تحمدوا فيه غب رأيكم ارجعوا إلى منازلكم- فإنا و الله غير مغلوبين على ما في أيدينا- فرجع الناس خائبين يشتمون عثمان و مروان- و أتى بعضهم عليا ع فأخبره الخبر- فأقبل علي ع على عبد الرحمن بن الأسود- بن عبد يغوث الزهري-
فقال أ حضرت خطبة عثمان قال نعم- قال أ حضرت مقالة مروان للناس قال نعم- فقال أي عباد الله يا لله للمسلمين- إني إن قعدت في بيتي- قال لي تركتني و خذلتني- و إن تكلمت فبلغت له ما يريد- جاء مروان فتلعب به حتى قد صار سيقة له- يسوقه حيث يشاء- بعد كبر السن و صحبته الرسول ص- و قام مغضبا من فوره حتى دخل على عثمان- فقال له- أ ما يرضى مروان منك إلا أن يحرفك عن دينك و عقلك- فأنت معه كجمل الظعينة يقاد حيث يسار به- و الله ما مروان بذي رأي في دينه و لا عقله- و إني لأراه يوردك ثم لا يصدرك- و ما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك- أفسدت شرفك و غلبت على رأيك ثم نهض- .
فدخلت نائلة بنت الفرافصة فقالت- قد سمعت قول علي لك- و إنه ليس براجع إليك و لا معاود لك- و قد أطعت مروان يقودك حيث يشاء- قال فما أصنع قالت تتقي الله و تتبع سنة صاحبيك- فإنك متى أطعت مروان قتلك- و ليس لمروان عند الناس قدر و لا هيبة و لا محبة- و إنما تركك الناس لمكانه- و إنما رجع عنك أهل مصر لقول علي- فأرسل إليه فاستصلحه- فإن له عند الناس قدما و إنه لا يعصى- . فأرسل إلى علي فلم يأته و قال قد أعلمته أني غير عائد- .
قال أبو جعفر فجاء عثمان إلى علي بمنزله ليلا- فاعتذر إليه و وعد من نفسه الجميل- و قال إني فاعل و إني غير فاعل- فقال له علي ع أ بعد ما تكلمت على منبر رسول الله ص- و أعطيت من نفسك ثم دخلت بيتك- و خرج مروان إلى الناس يشتمهم على بابك- فخرج عثمان من عنده و هو يقول- خذلتني يا أبا الحسن و جرأت الناس علي- فقال علي ع و الله إني لأكثر الناس ذبا عنك- و لكني كلما جئت بشيء أظنه لك رضا- جاء مروان بغيره فسمعت قوله و تركت قولي- . و لم يغد علي إلى نصر عثمان- إلى أن منع الماء لما اشتد الحصار عليه- فغضب علي من ذلك غضبا شديدا- و قال لطلحة أدخلوا عليه الروايا- فكره طلحة ذلك و ساءه- فلم يزل علي ع حتى أدخل الماء إليه- . و روى أبو جعفر أيضا- أن عليا ع كان في ماله بخيبر لما حصر عثمان- فقدم المدينة و الناس مجتمعون على طلحة- و كان لطلحة في حصار عثمان أثر- فلما قدم علي ع أتاه عثمان-
و قال له أما بعد- فإن لي حق الإسلام و حق الإخاء و القرابة و الصهر- و لو لم يكن من ذلك شيء و كنا في جاهلية- لكان عارا على بني عبد مناف- أن يبتز بنو تيم أمرهم يعني طلحة- فقال له علي أنا أكفيك فاذهب أنت- . ثم خرج إلى المسجد فرأى أسامة بن زيد- فتوكأ على يده حتى دخل دار طلحة و هي مملوءة من الناس- فقال له يا طلحة ما هذا الأمر الذي صنعت بعثمان- فقال يا أبا حسن أ بعد أن مس الحزام الطبيين- فانصرف علي ع حتى أتى بيت المال- فقال افتحوه فلم يجدوا المفاتيح- فكسر الباب و فرق ما فيه على الناس- فانصرف الناس من عند طلحة حتى بقي وحده- و سر عثمان بذلك- و جاء طلحة فدخل على عثمان فقال يا أمير المؤمنين- إني أردت أمرا فحال الله بيني و بينه و قد جئتك تائبا- فقال و الله ما جئت و لكن جئت مغلوبا- الله حسيبك يا طلحة- .
قال أبو جعفر كان عثمان مستضعفا طمع فيه الناس- و أعان على نفسه بأفعاله و باستيلاء بني أمية عليه- و كان ابتداء الجرأة عليه- أن إبلا من إبل الصدقة قدم بها عليه- فوهبها لبعض ولد الحكم بن أبي العاص- فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف- فأخذها و قسمها بين الناس و عثمان في داره- فكان ذلك أول وهن دخل على خلافة عثمان- . و قيل بل كان أول وهن دخل عليه- أن عثمان مر بجبلة بن عمرو الساعدي- و هو في نادي قومه و في يده جامعة فسلم فرد القوم عليه- فقال جبلة لم تردون على رجل فعل كذا و فعل كذا- ثم قال لعثمان و الله لأطرحن هذا الجامعة في عنقك- أو لتتركن بطانتك هذه الخبيثة- مروان و ابن عامر و ابن أبي سرح- فمنهم من نزل القرآن بذمه- و منهم من أباح رسول الله ص دمه- .
و قيل إنه خطب يوما و بيده عصا- كان رسول الله ص و أبو بكر و عمر يخطبون عليها- فأخذها جهجاه الغفاري من يده و كسرها على ركبته- فلما تكاثرت أحداثه و تكاثر طمع الناس فيه- كتب جمع من أهل المدينة- من الصحابة و غيرهم إلى من بالآفاق- إن كنتم تريدون الجهاد- فهلموا إلينا فإن دين محمد قد أفسده خليفتكم فاخلعوه- فاختلفت عليه القلوب- و جاء المصريون و غيرهم إلى المدينة حتى حدث ما حدث- .
و روى الواقدي و المدائني و ابن الكلبي و غيرهم- و ذكره أبو جعفر في التاريخ- و ذكره غيره من جميع المورخين- أن عليا ع لما رد المصريين رجعوا بعد ثلاثة أيام- فأخرجوا صحيفة في أنبوبة رصاص- و قالوا وجدنا غلام عثمان بالموضع المعروف بالبويب- على بعير من إبل الصدقة- ففتشنا متاعه لأنا استربنا أمره- فوجدنا فيه هذه الصحيفة- مضمونها أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح- بجلد عبد الرحمن بن عديس و عمرو بن الحمق- و حلق رءوسهما و لحاهما و حبسهما- و صلب قوم آخرين من أهل مصر- .
و قيل إن الذي أخذت منه الصحيفة أبو الأعور السلمي- و إنهم لما رأوه و سألوه عن مسيره و هل معه كتاب فقال لا- فسألوه في أي شيء هو- فتغير كلامه فأخذوه و فتشوه و أخذوا الكتاب منه- و عادوا إلى المدينة- و جاء الناس إلى علي ع- و سألوه أن يدخل إلى عثمان فيسأله عن هذه الحال- فقام فجاء إليه فسأله- فأقسم بالله ما كتبته و لا علمته و لا أمرت به- فقال محمد بن مسلمة صدق هذا من عمل مروان- فقال لا أدري و كان أهل مصر حضورا- فقالوا أ فيجترأ عليك- و يبعث غلامك على جمل من إبل الصدقة- و ينقش على خاتمك- و يبعث إلى عاملك بهذه الأمور العظيمة- و أنت لا تدري قال نعم- قالوا إنك إما صادق أو كاذب- فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع- لما أمرت به من قتلنا و عقوبتنا بغير حق- و إن كنت صادقا فقد استحققت الخلع- لضعفك عن هذا الأمر و غفلتك و خبث بطانتك- و لا ينبغي لنا أن نترك هذا الأمر- بيد من تقطع الأمور دونه لضعفه و غفلته- فاخلع نفسك منه-
فقال لا أنزع قميصا ألبسنيه الله و لكني أتوب و أنزع- قالوا لو كان هذا أول ذنب تبت منه لقبلنا- و لكنا رأيناك تتوب ثم تعود- و لسنا بمنصرفين حتى نخلعك أو نقتلك- أو تلحق أرواحنا بالله- و إن منعك أصحابك و أهلك قاتلناهم حتى نخلص إليك- فقال أما أن أبرأ من خلافة الله فالقتل أحب إلي من ذلك- و أما قتالكم من يمنع عني- فإني لا آمر أحدا بقتالكم فمن قاتلكم فبغير أمري قاتل- و لو أردت قتالكم لكتبت إلى الأجناد فقدموا علي- أو لحقت ببعض الأطراف- و كثرت الأصوات و اللغط- فقام علي فأخرج أهل مصر معه و خرج إلى منزله- قال أبو جعفر و كتب عثمان إلى معاوية و ابن عامر- و أمراء الأجناد يستنجدهم- و يأمر بالعجل و البدار و إرسال الجنود إليه- فتربص به معاوية- فقام في أهل الشام يزيد بن أسد القسري- جد خالد بن عبد الله بن يزيد أمير العراق- فتبعه خلق كثير فسار بهم إلى عثمان- فلما كانوا بوادي القرى بلغهم قتل عثمان فرجعوا- .
و قيل بل أشخص معاوية من الشام- حبيب بن مسلمة الفهري- و سار من البصرة مجاشع بن مسعود السلمي- فلما وصلوا الربذة- و نزلت مقدمتهم الموضع المسمى صرارا بناحية المدينة- أتاهم قتل عثمان فرجعوا- و كان عثمان قد استشار نصحاءه في أمره- فأشاروا أن يرسل إلى علي ع- يطلب إليه أن يرد الناس و يعطيهم ما يرضيهم- ليطاولهم حتى تأتيه الأمداد- فقال إنهم لا يقبلون التعليل- و قد كان مني في المرة الأولى ما كان- فقال مروان أعطهم ما سألوك و طاولهم ما طاولوك- فإنهم قوم قد بغوا عليك و لا عهد لهم- . فدعا عليا ع و قال له- قد ترى ما كان من الناس و لست آمنهم على دمي- فارددهم عني- فإني أعطيهم ما يريدون من الحق من نفسي و من غيري- . فقال علي إن الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك- و إنهم لا يرضون إلا بالرضا- و قد كنت أعطيتهم من قبل عهدا فلم تف به- فلا تغرر في هذه المرة فإني معطيهم عنك الحق- قال أعطهم فو الله لأفين لهم- .
فخرج علي ع إلى الناس فقال- إنكم إنما تطلبون الحق و قد أعطيتموه- و إنه منصفكم من نفسه- فسأله الناس أن يستوثق لهم- و قالوا إنا لا نرضى بقول دون فعل- فدخل عليه فأعلمه- فقال اضرب بيني و بين الناس أجلا- فإني لا أقدر على تبديل ما كرهوا في يوم واحد- فقال علي ع أما ما كان بالمدينة فلا أجل فيه- و أما ما غاب فأجله وصول أمرك قال نعم- فأجلني فيما بالمدينة ثلاثة أيام- فأجابه إلى ذلك و كتب بينه و بين الناس كتابا- على رد كل مظلمة و عزل كل عامل كرهوه- فكف الناس عنه و جعل يتأهب سرا للقتال- و يستعد بالسلاح و اتخذ جندا- فلما مضت الأيام الثلاثة و لم يغير شيئا ثار به الناس- و خرج قوم إلى من بذي خشب من المصريين- فأعلموهم الحال فقدموا المدينة- و تكاثر الناس عليه- و طلبوا منه عزل عماله و رد مظالمهم- فكان جوابه لهم- أني إن كنت أستعمل من تريدون لا من أريد- فلست إذن في شيء من الخلافة و الأمر أمركم- فقالوا و الله لتفعلن أو لتخلعن أو لنقتلنك- فأبى عليهم و قال لا أنزع سربالا سربلنيه الله- فحصروه و ضيقوا الحصار عليه- .
و روى أبو جعفر لما اشتد على عثمان الحصار- أشرف على الناس فقال يا أهل المدينة- أستودعكم الله و أسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي- ثم قال أنشدكم الله- هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر- أن يختار لكم و يجمعكم على خيركم- أ فتقولون إن الله لم يستجب لكم و هنتم عليه- و أنتم أهل حقه و أنصار نبيه- أم تقولون هان على الله دينه فلم يبال من ولى- و الدين لم يتفرق أهله بعد- أم تقولون لم يكن أخذ عن مشورة إنما كان مكابرة- فوكل الله الأمة إذ عصته- و لم يتشاوروا في الإمامة إلى أنفسها- أم تقولون إن الله لم يعلم عاقبة أمري- فمهلا مهلا لا تقتلوني- و إنه لا يحل إلا قتل ثلاثة- زان بعد إحصان أو كافر بعد إيمان أو قاتل نفس بغير حق- أما إنكم إن قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم- ثم لا يرفعه الله عنكم أبدا- فقالوا أما ما ذكرت من استخارة الناس بعد عمر- فإن كل ما يصنعه الله الخيرة- و لكن الله جعلك بلية ابتلى بها عباده- و لقد كانت لك قدم و سابقة و كنت أهلا للولاية- و لكن أحدثت ما تعلمه- و لا نترك اليوم إقامة الحق عليك مخافة الفتنة عاما قابلا- و أما قولك لا يحل دم إلا بإحدى ثلاث- فإنا نجد في كتاب الله إباحة دم غير الثلاثة- دم من سعى في الأرض بالفساد- و دم من بغى ثم قاتل على بغيه- و دم من حال دون شيء من الحق و منعه و قاتل دونه- و قد بغيت و منعت الحق و حلت دونه و كابرت عليه- و لم تقد من نفسك من ظلمته و لا من عمالك- و قد تمسكت بالإمارة علينا- و الذين يقومون دونك و يمنعونك- إنما يمنعونك و يقاتلوننا لتسميتك بالإمارة- فلو خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال معك- .
فسكت عثمان و لزم الدار و أمر أهل المدينة بالرجوع- و أقسم عليهم فرجعوا إلا الحسن بن علي- و محمد بن طلحة و عبد الله بن الزبير و أشباها لهم- و كانت مدة الحصار أربعين يوما- . قال أبو جعفر ثم إن محاصري عثمان- أشفقوا من وصول أجناد من الشام و البصرة تمنعه- فحالوا بين عثمان و بين الناس- و منعوه كل شيء حتى الماء- فأرسل عثمان سرا إلى علي ع و إلى أزواج النبي ص- أنهم قد منعونا الماء- فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا ماء فافعلوا- فجاء علي ع في الغلس و أم حبيبة بنت أبي سفيان- فوقف علي ع على الناس فوعظهم- و قال أيها الناس- إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين و لا أمر الكافرين- إن فارس و الروم لتأسر فتطعم و تسقي- فالله الله لا تقطعوا الماء عن الرجل- فأغلظوا له و قالوا لا نعم و لا نعمة عين- فلما رأى منهم الجد نزع عمامته عن رأسه- و رمى بها إلى دار عثمان- يعلمه أنه قد نهض و عاد- . و أما أم حبيبة و كانت مشتملة على إداوة- فضربوا وجه بغلتها- فقالت إن وصايا أيتام بني أمية عند هذا الرجل- فأحببت أن أسأله عنها لئلا تهلك أموال اليتامى- فشتموها و قالوا أنت كاذبة- و قطعوا حبل البغلة بالسيف- فنفرت و كادت تسقط عنها- فتلقاها الناس فحملوها إلى منزلها- . و روى أبو جعفر قال أشرف عثمان عليهم يوما- فقال أنشدكم الله- هل تعلمون أني اشتريت بئر رومة بمالي أستعذب بها- و جعلت رشائي فيها كرجل من المسلمين قالوا نعم- قال فلم تمنعونني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر- ثم قال أنشدكم الله- هل تعلمون أني اشتريت أرض كذا- فزدتها في المسجد قالوا نعم- قال فهل علمتم أن أحدا منع أن يصلي فيه قبلي- .
و روى أبو جعفر عن عبد الله بن عياش- بن أبي ربيعة المخزومي قال- دخلت على عثمان- فأخذ بيدي فأسمعني كلام من على بابه من الناس- فمنهم من يقول ما تنتظرون به و منهم من يقول لا تعجلوا- فعساه ينزع و يراجع- فبينا نحن إذ مر طلحة- فقام إليه ابن عديس البلوي فناجاه- ثم رجع ابن عديس فقال لأصحابه- لا تتركوا أحدا يدخل إلى عثمان و لا يخرج من عنده- قال لي عثمان هذا ما أمر به طلحة- اللهم اكفني طلحة- فإنه حمل هؤلاء القوم و ألبهم علي- و الله إني لأرجو أن يكون منها صفرا و أن يسفك دمه- قال فأردت أن أخرج فمنعوني- حتى أمرهم محمد بن أبي بكر فتركوني أخرج- . قال أبو جعفر فلما طال الأمر- و علم المصريون قد أجرموا إليه جرما كجرم القتل- و أنه لا فرق بين قتله و بين ما أتوا إليه- و خافوا على نفوسهم من تركه حيا- راموا الدخول عليه من باب داره فأغلقوا الباب- و مانعهم الحسن بن علي و عبد الله بن الزبير- و محمد بن طلحة و مروان و سعيد بن العاص- و جماعة معهم من أبناء الأنصار فزجرهم عثمان- و قال أنتم في حل من نصرتي فأبوا و لم يرجعوا- . و قام رجل من أسلم يقال له نيار بن عياض- و كان من الصحابة فنادى عثمان و أمره أن يخلع نفسه- فبينا هو يناشده و يسومه خلع نفسه- رماه كثير بن الصلت الكندي- و كان من أصحاب عثمان من أهل الدار- بسهم فقتله- فصاح المصريون و غيرهم عند ذلك- ادفعوا إلينا قاتل ابن عياض لنقتله به-
فقال عثمان لم أكن لأدفع إليكم رجلا نصرني- و أنتم تريدون قتلي- فثاروا إلى الباب فأغلق دونهم- فجاءوا بنار فأحرقوه و أحرقوا السقيفة التي عليه- فقال لمن عنده من أنصاره- إن رسول الله ص عهد إلي عهدا فأنا صابر عليه- فأخرج على رجل يقاتل دوني- ثم قال للحسن إن أباك الآن لفي أمر عظيم من أجلك- فاخرج إليه أقسمت عليك لما خرجت إليه- فلم يفعل و وقف محاميا عنه- و خرج مروان بسيفه يجالد الناس- فضربه رجل من بني ليث على رقبته- فأثبته و قطع إحدى علباويه- فعاش مروان بعد ذلك أوقص- و قام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي ليذفف عليه- فقامت دونه فاطمة أم إبراهيم بن عدي- و كانت أرضعت مروان و أرضعت له- فقالت له إن كنت تريد قتله فقد قتل- و إن كنت إنما تريد أن تتلعب بلحمه فأقبح بذلك- فتركه فخلصته و أدخلته بيتها- فعرف لها بنو ذلك بعد- و استعملوا ابنها إبراهيم و كان له منهم خاصة- . و قتل المغيرة بن الأخنس بن شريق- و هو يحامي عن عثمان بالسيف- و اقتحم القوم الدار- و دخل كثير منهم الدور المجاورة لها- و تسوروا من دار عمرو بن حزم إليها حتى ملئوها- و غلب الناس على عثمان و ندبوا رجلا لقتله- فدخل إليه البيت فقال له اخلعها و ندعك- فقال ويحك و الله ما كشفت عن امرأة في جاهلية و لا إسلام- و لا تعينت و لا تمنيت- و لا وضعت يميني على عورتي مذ بايعت رسول الله- و لست بخالع قميصا كسانيه الله- حتى يكرم أهل السعادة و يهين أهل الشقاوة- . فخرج عنه فقالوا له ما صنعت- قال إني لم أستحل قتله- فأدخلوا إليه رجلا من الصحابة- فقال له لست بصاحبي- إن النبي ص دعا لك أن يحفظك يوم كذا- و لن تضيع فرجع عنه- .فأدخلوا إليه رجلا من قريش- فقال له إن رسول الله ص استغفر لك يوم كذا- فلن تقارف دما حراما فرجع عنه- .
فدخل عليه محمد بن أبي بكر فقال له عثمان ويحك- أ على الله تغضب هل لي إليك جرم- إلا أني أخذت حق الله منك- فأخذ محمد بلحيته و قال أخزاك الله يا نعثل- قال لست بنعثل لكني عثمان و أمير المؤمنين- فقال ما أغنى عنك معاوية و فلان و فلان- فقال عثمان يا ابن أخي دعها من يدك- فما كان أبوك ليقبض عليها- فقال لو عملت ما عملت في حياة أبي لقبض عليها- و الذي أريد بك أشد من قبضي عليها- فقال أستنصر الله عليك و أستعين به فتركه و خرج- . و قيل بل طعن جبينه بمشقص كان في يده- فثار سودان بن حمران- و أبو حرب الغافقي و قتيرة بن وهب السكسكي- فضربه الغافقي بعمود كان في يده- و ضرب المصحف برجله و كان في حجره- فنزل بين يديه و سال عليه الدم- و جاء سودان ليضربه بالسيف- فأكبت عليه امرأته نائلة بنت الفرافصة الكلبية- و اتقت السيف بيدها و هي تصرخ- فنفح أصابعها فأطنها فولت- فغمز بعضهم أوراكها- و قال إنها لكبيرة العجز و ضرب سودان عثمان فقتله- . و قيل بل قتله كنانة بن بشر التجيبي- و قيل بل قتيرة بن وهب- و دخل غلمان عثمان و مواليه- فضرب أحدهم عنق سودان فقتله- فوثب قتيرة بن وهب على ذلك الغلام
فقتله- فوثب غلام آخر على قتيرة فقتله- و نهبت دار عثمان- و أخذ ما على نسائه و ما كان في بيت المال- و كان فيه غرارتان دراهم- و وثب عمرو بن الحمق على صدر عثمان و به رمق- فطعنه تسع طعنات- و قال أما ثلاث منها فإني طعنتهن لله تعالى- و أما ست منها فلما كان في صدري عليه- و أرادوا قطع رأسه فوقعت عليه زوجتاه- نائلة بنت الفرافصة- و أم البنين ابنة عيينة بن حصن الفزاري- فصحن و ضربن الوجوه- فقال ابن عديس اتركوه- و أقبل عمير بن ضابئ البرجمي فوثب عليه- فكسر ضلعين من أضلاعه- و قال له سجنت أبي حتى مات في السجن- و كان قتله يوم الثامن عشر من ذي الحجة- من سنة خمسين و ثلاثين- و قيل بل في أيام التشريق و كان عمره ستا و ثمانين سنة- .
قال أبو جعفر و بقي عثمان ثلاثة أيام لا يدفن- ثم إن حكيم بن حزام و جبير بن مطعم- كلما عليا ع في أن يأذن في دفنه ففعل- فلما سمع الناس بذلك قعد له قوم في الطريق بالحجارة- و خرج به ناس يسير من أهله- و معهم الحسن بن علي و ابن الزبير و أبو جهم بن حذيفة- بين المغرب و العشاء- فأتوا به حائطا من حيطان المدينة يعرف بحش كوكب- و هو خارج البقيع- فصلوا عليه- و جاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه- فأرسل علي ع فمنع من رجم سريره- و كف الذين راموا منع الصلاة عليه- و دفن في حش كوكب- فلما ظهر معاوية على الأمر- أمر بذلك الحائط فهدم و أدخل في البقيع- و أمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره- حتى اتصل بمقابر المسلمين بالبقيع- . و قيل إن عثمان لم يغسل و إنه كفن في ثيابه التي قتل فيها- .
قال أبو جعفر و روي عن عامر الشعبي أنه قال- ما قتل عمر بن الخطاب- حتى ملته قريش و استطالت خلافته- و قد كان يعلم فتنتهم فحصرهم في المدينة و قال لهم- إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد- و إن كان الرجل ليستأذنه في الغزو- فيقول إن لك في غزوك مع رسول الله ص ما يكفيك- و هو خير لك من غزوك اليوم- و خير لك من الغزو ألا ترى الدنيا و لا تراك- فكان يفعل هذا بالمهاجرين من قريش- و لم يكن يفعله بغيرهم من أهل مكة- فلما ولي عثمان الخلافة خلى عنهم فانتشروا في البلاد- و خالطهم الناس و أفضى الأمر إلى ما أفضى إليه- و كان عثمان أحب إلى الرعية من عمر- . قال أبو جعفر- و كان أول منكر ظهر بالمدينة في خلافة عثمان- حين فاضت الدنيا على العرب و المسلمين- طيران الحمام و المسابقة بها و الرمي عن الجلاهقات- و هي قسي البندق- فاستعمل عثمان عليها رجلا من بني ليث- في سنة ثمان من خلافته- فقص الطيور و كسر الجلاهقات- . و روى أبو جعفر قال- سأل رجل سعيد بن المسيب عن محمد بن أبي حذيفة- ما دعاه إلى الخروج على عثمان- فقال كان يتيما في حجر عثمان- و كان والى أيتام أهل بيته و محتمل كلهم- فسأل عثمان العمل- فقال يا بني لو كنت رضا لاستعملتك- قال فأذن لي فأخرج فأطلب الرزق- قال اذهب حيث شئت- و جهزه من عنده و حمله و أعطاه- فلما وقع إلى مصر كان فيمن أعان عليه- لأنه منعه الإمارة- فقيل له فعمار بن ياسر-
قال كان بينه و بين العباس بن عتبة بن أبي لهب كلام- فضربهما عثمان- فأورث ذلك تعاديا بين عمار و عثمان- و قد كان تقاذفا قبل ذلك- . قال أبو جعفر و سئل سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر- ما دعاه إلى ركوب عثمان فقال لزمه حق- فأخذ عثمان من ظهره فغضب- و غره أقوام فطمع- لأنه كان من الإسلام بمكان و كانت له دالة- فصار مذمما بعد أن كان محمدا- و كان كعب بن ذي الحبكة النهدي يلعب- بالنيرنجات بالكوفة- فكتب عثمان إلى الوليد أن يوجعه ضربا- فضربه و سيره إلى دنباوند- . و كان ممن خرج إليه و سار إليه و حبس- ضابئ بن الحارث البرجمي- لأنه هجا قوما فنسبهم إلى أن كلبهم يأتي أمهم- فقال لهم
فأمكم لا تتركوها و كلبكم
فإن عقوق الوالدين كبير
فاستعدوا عليه عثمان فحبسه فمات في السجن- فلذلك حقد ابنه عمير عليه و كسر أضلاعه بعد قتله- . قال أبو جعفر- و كان لعثمان على طلحة بن عبيد الله خمسون ألفا- فقال طلحة له يوما قد تهيأ مالك فاقبضه- فقال هو لك معونة على مروءتك- فلما حصر عثمان قال علي ع لطلحة- أنشدك الله إلا كففت عن عثمان- فقال لا و الله حتى تعطي بنو أمية الحق من أنفسها- فكان علي ع يقول لحا الله ابن الصعبة- أعطاه عثمان ما أعطاه و فعل به ما فعل
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 2