و من خطبة له عليه السّلام
فَاعْمَلُوا وَ أَنْتُمْ فِي نَفَسِ الْبَقَاءِ- وَ الصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ وَ التَّوْبَةُ مَبْسُوطَةٌ- وَ الْمُدْبِرُ يُدْعَى وَ الْمُسِيءُ يُرْجَى- قَبْلَ أَنْ يَخْمُدَ الْعَمَلُ وَ يَنْقَطِعَ الْمَهَلُ- وَ يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ وَ يُسَدَّ بَابُ التَّوْبَةِ- وَ تَصْعَدَ الْمَلَائِكَةُ- فَأَخَذَ امْرُؤٌ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَ أَخَذَ مِنْ حَيٍّ لِمَيِّتٍ- وَ مِنْ فَانٍ لِبَاقٍ وَ مِنْ ذَاهِبٍ لِدَائِمٍ- امْرُؤٌ خَافَ اللَّهَ- وَ هُوَ مُعَمَّرٌ إِلَى أَجَلِهِ وَ مَنْظُورٌ إِلَى عَمَلِهِ- امْرُؤٌ أَلْجَمَ نَفْسَهُ بِلِجَامِهَا وَ زَمَّهَا بِزِمَامِهَا- فَأَمْسَكَهَا بِلِجَامِهَا عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ- وَ قَادَهَا بِزِمَامِهَا إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ
اللغة
أقول:
يقال: فلان في نفس من أمره: أى في سعته.
المعنى
و الفصل في غاية الفصاحة. و قد أمرهم بالعمل حال ما هم في مهلته على الأحوال الّتى أشار إليها: أحدها: كونهم في نفس البقاء و سعته فإنّ الموت مستلزم لانقطاع العمل و عدم إمكانه.
الثاني: كون الصحف منشورة: أى صحف الأعمال فإنّها إنّما تطوى بانقطاع الأعمال بالموت. و قد عرفت وجه الإشارة إلى الصحف و نشرها.
الثالث: كون التوبة مبسوطة، و استعار لفظ البسط ملاحظة لشبهها بالبساط في كونها ممدودة القبول غير ممنوع منها في مدّة العمر يطأها من أرادها كالبساط.
و إنّما تطوى بالموت كما قال تعالى: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ«».
الرابع: كون المدبر يدعى: أى حال كون المدبر عن طاعة اللّه المعرض عنها يدعى إليها من الأنبياء و الرسل و النواميس الشرعيّة، و ذلك منقطع بالموت.
الخامس: حال كون المسيء يرجى: أى يرجى صلاحه و عوده و ذلك حال البقاء في الدنيا. و لمّا ذكر هذه الأحوال للترغيب في العمل عليها و التذكير بكونها أحوالا يمكن العمل معها أردفها بأحوال يمتنع معها العمل تنفيرا عنها و هي جمود العمل. و استعار لفظ الجمود لوقوفه ملاحظة لشبهه بالماء في جموده عن الجريان.
و في نسخة الرضىّ- رحمه اللّه- يخمد- بالخاء المعجمة- من خمد المريض: أى مات. و المعنى ظاهر يقرب معنى يجمد. و كذلك انقطاع المهل و انقضاء المدّة: أى مدّة البقاء و سدّ أبواب التوبة، و لفظ الأبواب مستعار لطرق الاعتبار الّتي يرجع منها إلى اللّه تعالى، و كذلك الملائكة: أى الكرام الكاتبين فإنّ الملائكة الموكّلين تضبط أعمال كلّ شخص يصعدون إلى السماء بعد بطلان الأعمال. و قوله: فأخذ امرء من نفسه. أمر في صورة الخبر: أى فليأخذ المرء من نفسه: أى بعض نفسه بالاجتهاد و النصب في العبادة فإنّهما يهزلان البدن و يأخذان من النفس لذّاتها و مشتهياتها البدنيّة، و يجوز أن يريد بالنفس هنا الشخص. و الأخذ منه ظاهر. و قوله: لنفسه. أى ليكون ذلك كمالا لنفسه و ذخرا لها في معادها. و قوله: و أخذ من حيّ لميّت. إلى قوله: امرء. أمر أيضا في صورة الخبر. و فاعل أخذ هو قوله: امرء. و الحيّ و الميّت هو المرء نفسه: أى فليأخذ امرء من نفسه باعتبار ما هو حيّ لنفسه باعتبار ما يصير إليه من حال الموت. و قوله: من فان لباق. أى فليأخذ من الأمر الفانى و هي دنياه و متاعها للأمر الباقي و هو النعيم الباقى الأبدىّ في الآخرة. و معنى ذلك الأخذ أنّ الإنسان مكتسب من الدنيا و متاعها الفانى كمالا باقيا يوصل إلى نعيم دائم و ذلك بالصدقات و الزكوات و الإنفاق في وجوه البرّ و القربات، و كذلك
قوله: و من ذاهب لدايم. ثمّ أخذ في وصف ذلك المرء كأنّه سئل عنه فقال: امرء خاف اللّه في حال ما هو معمّر إلى أجله و منظور إلى عمله. و نبّهه بغاية أجله و كون عمله منظورا إليه أى منظورا للّه و مرئيّا له تخويفا من هجوم الأجل و جذبا إلى صالح الأعمال للّه تذكير اطّلاعه عليها و علمه بها. و قوله: امرء لجّم نفسه. بدل من امرء الأوّل. و استعار لفظ اللجام للزهد الحقيقىّ و العفّة. و وجه المشابهة كونهما مانعين للنفس الأمّارة من جماحها في تيه الهوى و معاصى اللّه كما يمنع اللجام الدابّة عن الجماح. و رشّح بذكر الإلجام، و كنّى به عن ورع النفس بالزهد، و أشار إلى ذلك الوجه من المشابهة بقوله: فأمسكها بلجامها عن معاصى اللّه. و كذلك استعار لفظ الزمام للعبادة باعتبار ما هى قائدة للنفس الأمّارة بالسوء إلى موافقة النفس المطمئنّة في طاعة اللّه كما تقاد الناقة بزمامها إذ علمت أنّ العبادة إنّما وضعت لتطويع النفس الأمّارة للعقل و انقيادها تحت اسره و انجذابها خلفه عند توجّهه في المعارج القدسيّة إلى حضرة ذى الجلال و الإكرام.
و إلى ذلك الوجه من المشابهة أشار بقوله: و قادها بزمامها، و رشّح بذكر الزمام و القود، و كنّى بهما عن إيقاع العبادة و تطويع النفس لها. و باللّه التوفيق.
ْ
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحهى 326