و من خطبة له عليه السّلام
أُوصِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِتَقْوَى اللَّهِ- وَ كَثْرَةِ حَمْدِهِ عَلَى آلَائِهِ إِلَيْكُمْ- وَ نَعْمَائِهِ عَلَيْكُمْ وَ بَلَائِهِ لَدَيْكُمْ- فَكَمْ خَصَّكُمْ بِنِعْمَةٍ وَ تَدَارَكَكُمْ بِرَحْمَةٍ- أَعْوَرْتُمْ لَهُ فَسَتَرَكُمْ وَ تَعَرَّضْتُمْ لِأَخْذِهِ فَأَمْهَلَكُمْ- وَ أُوصِيكُمْ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَ إِقْلَالِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ- وَ كَيْفَ غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ- وَ طَمَعُكُمْ فِيمَنْ لَيْسَ يُمْهِلُكُمْ- فَكَفَى وَاعِظاً بِمَوْتَى عَايَنْتُمُوهُمْ- حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ غَيْرَ رَاكِبينَ- وَ أُنْزِلُوا فِيهَا غَيْرَ نَازِلِينَ- فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِلدُّنْيَا عُمَّاراً- وَ كَأَنَّ الْآخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً- أَوْحَشُوا مَا كَانُوا يُوطِنُونَ- وَ أَوْطَنُوا مَا كَانُوا يُوحِشُونَ- وَ اشْتَغَلُوا بِمَا فَارَقُوا- وَ أَضَاعُوا مَا إِلَيْهِ انْتَقَلُوا- لَا عَنْ قَبِيحٍ يَسْتَطِيعُونَ انْتِقَالًا- وَ لَا فِي حَسَنٍ يَسْتَطِيعُونَ ازْدِيَاداً- أَنِسُوا بِالدُّنْيَا فَغَرَّتْهُمْ-وَ وَثِقُوا بِهَا فَصَرَعَتْهُمْ فَسَابِقُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى مَنَازِلِكُمُ- الَّتِي أُمِرْتُمْ أَنْ تَعْمُرُوهَا- وَ الَّتِي رَغِبْتُمْ فِيهَا وَ دُعِيتُمْ إِلَيْهَا- وَ اسْتَتِمُّوا نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ- وَ الْمُجَانَبَةِ لِمَعْصِيَتِهِ- فَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ- مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ- وَ أَسْرَعَ الْأَيَّامَ فِي الشَّهْرِ- وَ أَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ- وَ أَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ
اللغة
أقول:
أعورتم: أبديتم عوراتكم.
و العورة: السوءة و كلّ ما يستحيى منه.
و الفصل يشتمل على الوصيّة بامور:
أوّلها: تقوى اللّه تعالى
فإنّها العمدة الكبرى فيما يوصى به، ثمّ بكثرة حمده تعالى على آلائه إليهم و نعمائه عليهم و بلائه لديهم. و قد علمت معنى بلائه و أنّه يكون بالخير و الشرّ كما قال تعالى وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً«» و أردف ذلك بتقرير تخصيصهم بنعمته تعالى عليهم و تذكيرهم برحمته. و الرحمة كما يراد بها صفة اللّه تعالى كذلك يراد بها آثاره الحسنة الخيريّة كما هو مراده هنا في حقّ عباده. و أتى بلفظ كم للتكثير. ثمّ أردفه بذكر ضروب الرحمة و النعمة فمنها ستره عليهم حيث مجاهرتهم له بالمعصية الّتي ينبغي أن يستحيوا منها و موافقتهم لها بمرأى منه و مسمع. و منها إمهالهم أن يبادرهم بالنقمة و يعاجلهم بالعقوبة حيث تعرّضوا لأخذه بارتكاب مناهيه و مخالفة أوامره.
الثاني: ممّا أوصاهم به ذكر الموت و إقلال الغفلة عنه.
و ذلك لما يستلزم ذكره من الانزجار عن المعاصى، و ذكر المعاد إلى اللّه سبحانه و وعده و وعيده، و الرغبة عن الدنيا و تنقيص لذّاتها كما قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أكثروا من ذكر هادم اللذّات. و إنّما استلزم ذكره ذلك لكونه ممّا يساعد العقل فيه الوهم على ضرورة وقوعه مع مساعدته على ما فيه من المشقّة الشاقّة. ثمّ استفهمهم عن غفلتهم عنه و طمعهم فيه مع كونه لا يغفلهم و لا يمهلهم استفهام توبيخ على ذلك. و لأجل ما فيه من شدّة الاعتبار قال: فكفى واعظا بموتى عاينتموهم. إلى قوله: فصرعتهم. و في هذا القول زيادة موعظة على ذكر الموت و هى شرح أحوال من عاينوه من الموتى. و ذكر منها أحوالا: أحدها: كيفيّة حملهم إلى قبورهم غير راكبين مع كونهم في صورة ركوب منفور عنه. الثانية: إنزالهم إلى القبور على غير عادة النزول المتعارف المقصود فكأنّهم في تلك الحال مع طول مددهم في الدنيا و عمارتهم لها و ركونهم إليها لم يكونوا لها عمّارا و كان الآخرة لم تزل دارا. و وجه التشبيه الأوّل انقطاعهم عنها بالكلّيّة و عدم خيرهم فيها فأشبهوا لذلك من لم يكن فيها. و وجه الثاني كون الآخرة هى مستقرّهم الدائم الثابت الّذي لا معدل عنه فأشبهت في ذلك المنزل الّذي لم يزل له دارا. الثالثة: ايحاشهم ما كانوا يوطنون من منازل الدنيا و مسالكها. الرابعة: ايطانهم ما كانوا يوحشون من القبور الّتي هي أوّل منازل الآخرة. الخامسة: اشتغالهم بما فارقوا. و ذلك أنّ النفوس الراكنة إلى الدنيا العاشقة لها المقبلة على الاشتغال بلذّاتها يتمكّن في جواهرها ذلك العشق لها و تصير محبّتها ملكة و خلقا فيحصل لها بعد المفارقة لما أحبّته من العذاب به و الشقا الأشقى بالنزوع إليه و عدم التمكّن من الحصول عليه أعظم شغل و أقوى شاغل و أصعب بلاء هايل بل تذهل فيه كلّ مرضعة عمّا أرضعت و تضع فيه كلّ ذات حمل حملها و ترى الناس سكارى و ما هم بسكارى و لكنّ عذاب اللّه شديد. السادسة: إضاعتهم ما إليه انتقلوا و هي دار الآخرة. و معنى إضاعتهم لها تركهم الأسباب الموصلة إلى ثوابها و المبعّدة من عقابها. السابعة: كونهم لا يستطيعون الانتقال عمّا حصلوا عليه من الأفعال القبيحة الّتي ألزمتهم العذاب و أكسبت نفوسهم ملكات السوء. و ذلك ظاهر. إذا لانتقال عن ذلك لا يمكن إلّا في دار العمل و هي الدنيا. الثامنة: و كذلك لا من حسن يستطيعون ازديادا: أى من الأعمال الحسنة الموجبة للملكات الخيريّة و الثواب الدائم كما قال تعالى حكاية عنهم حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ«» الآية. التاسعة: أنّهم أنسوا بالدنيا حتّي غرّتهم. العاشرة: كونهم وثقوا بها حتّى صرعتهم. و السبب في الاغترار بها و غرورها هم حصول لذّاتها المحسوسة مع قربهم من المحسوس و هو مستلزم للانس بها المستلزم للغرور بها و الغفلة عمّا وراها و هو مستلزم للوثوق و هو مستلزم لصرعتهم في مهاوى الهلاك حيث لا يقال عثرة و لا ينفع ندامة. و أعلم أنّ ذكر الموت و إن كان يستلزم الاتّعاظ و الانزجار إلّا أنّ شرح الأحوال الّتي تعرض للإنسان في موته أبلغ في ذلك لما أنّ كلّ حال فيها منفور عنها طبعا و إن كانت إنّما تحصل النفرة عنها لكونها حالة تعرض للميّت و المقرون بالمولم و المكروه مكروه و مولم و منفور عنه طبعا.
الثالث: ممّا أمرهم به على طريق الوصيّة أن يسابقوا إلى منازلهم الّتي امروا أن يعمّروها و الّتي رغّبوا فيها و دعوا إليها و هي منازل الجنّة و مراتب الأبرار فيها. و عمارتها بالأعمال الصالحة الموافقة لمقتضى النواميس الإلهيّة و تحصيل الكمالات النفسانيّة عنها. و المعنى ليسابق بعضكم بعضا إلى منازلكم و مراتب درجاتكم من الجنّة و عمارتها بتحصيل الكمالات النفسانيّة و موافقة الشرع الإلهيّة.
و إليه الإشارة بقوله تعالى وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ«» و الترغيب فيها لقوله تعالى وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ«» و نحوه.
الرابعة: ممّا أمرهم به الصبر على طاعة اللّه و على مجانبة المعصية.
و رغّب بكونه سببا يستتمّ به نعمة اللّه عليهم. و لمّا كان استلزامه لها كالثمرة له و كانت ثمرة الصبر حلاوة قدّمها ليحلو الصبر بذكرها.
و قوله: فإن غدا من اليوم قريب.
تخويف من الساعة و قربها. و لم يرد بغد و لا اليوم حقيقتهما بل أراد بغد القيامة و باليوم مدّة الحياة كقوله فيما سبق: ألا و إنّ اليوم المضمار و غدا السباق.
و هو يجري مجري المثل كقولهم: غد ما غدا، قرب اليوم من غد.
و قوله: ما أسرع الساعات في اليوم. إلى آخره.
بيان لقرب الغد الّذي كنّى به عن القيامة من اليوم فإنّ الساعات سريعة الإتيان و الانقضاء. و سرعتهما مستلزم لسرعة مجيء اليوم و انقضائه. و سرعتهما مستلزم لسرعة مجيء الشهر و انقضائه المستلزمين لسرعة مجيء السنة و انقضائها المستلزمين لسرعة انقضاء عمر العاملين فيه لكنّ انقضاؤه بالقيامة. فإذن الساعات مستلزمة لسرعة انقضاء العمر و قرب غده من يومه. و أتى في الكلّ بلفظ التعجّب تأكيدا لبيان تلك السرعة. و هو كلام شريف بالغ في الفصاحة و الموعظة. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحهى 193