23 و من خطبة له ع
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ- كَقَطْرِ الْمَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا- مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ- فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ لِأَخِيهِ غَفِيرَةً- فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ- فَلَا تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً- فَإِنَّ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ- فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ وَ يُغْرَى بِهَا لِئَامُ النَّاسِ- كَانَ كَالْفَالِجِ الْيَاسِرِ الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ- مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ الْمَغْنَمَ وَ يُرْفَعُ عَنْهُ بِهَا الْمَغْرَمُ- وَ كَذَلِكَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ الْبَرِيءُ مِنَ الْخِيَانَةِ- يَنْتَظِرُ مِنَ اللَّهِ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ- إِمَّا دَاعِيَ اللَّهِ فَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ- وَ إِمَّا رِزْقَ اللَّهِ فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَ مَالٍ- وَ مَعَهُ دِينُهُ وَ حَسَبُهُ- إِنَّ الْمَالَ وَ الْبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا- وَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الآْخِرَةِ- وَ قَدْ يَجْمَعُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَقْوَامٍ- فَاحْذَرُوا مِنَ اللَّهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ- وَ اخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِيرٍ- وَ اعْمَلُوا فِي غَيْرِ رِيَاءٍ وَ لَا سُمْعَةٍ- فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللَّهِ يَكِلْهُ اللَّهُ إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ- نَسْأَلُ اللَّهَ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَ مُعَايَشَةَ السُّعَدَاءِ- وَ مُرَافَقَةَ الْأَنْبِيَاءِ- أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ- وَ إِنْ كَانَ ذَا مَالٍ عَنْ عَشِيرَتِهِ- وَ دِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَلْسِنَتِهِمْ- وَ هُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِهِ وَ أَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ- وَ أَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَةٍ إِنْ نَزَلَتْ بِهِ- وَ لِسَانُ الصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اللَّهُ لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ- خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمَالِ يُوَرِّثُهُ غَيْرَهُ- وَ مِنْهَا أَلَا لَا يَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ الْقَرَابَةِ يَرَى بِهَا الْخَصَاصَةَ- أَنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لَا يَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ- وَ لَا يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ- وَ مَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ- فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ- وَ تُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ- وَ مَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ الْمَوَدَّةَ قال الرضي رحمه الله- أقول الغفيرة هاهنا الزيادة و الكثرة- من قولهم للجمع الكثير الجم الغفير و الجماء الغفير- و يروى عفوة من أهل أو مال- و العفوة الخيار من الشيء- يقال أكلت عفوة الطعام أي خياره- . و ما أحسن المعنى الذي أراده ع بقوله- و من يقبض يده عن عشيرته… إلى تمام الكلام- فإن الممسك خيره عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة- فإذا احتاج إلى نصرتهم و اضطر إلى مرافدتهم- قعدوا عن نصره و تثاقلوا عن صوته- فمنع ترافد الأيدي الكثيرة و تناهض الأقدام الجمة
الفالج الظافر الفائز فلج يفلج بالضم- و في المثل من يأت الحكم وحده يفلج- و الياسر الذي يلعب بالقداح- و اليسر مثله و الجمع أيسار- و في الكلام تقديم و تأخير تقديره كالياسر الفالج- أي كاللاعب بالقداح المحظوظ منها- و هو من باب تقديم الصفة على الموصوف- كقوله تعالى وَ غَرابِيبُ سُودٌ- و حسن ذلك هاهنا أن اللفظتين صفتان- و إن كانت إحداهما مرتبة على الأخرى- . و قوله ليست بتعذير- أي ليست بذات تعذير أي تقصير فحذف المضاف- كقوله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ- الْأُخْدُودِ النَّارِ أي ذي النار- . و قوله هم أعظم الناس حيطة كبيعة أي رعاية و كلاءة- و يروى حيطة كغيبة و هي مصدر حاط أي تحننا و تعطفا- . و الخصاصة الفقر- يقول القضاء و القدر ينزلان من السماء إلى الأرض- كقطر المطر- أي مبثوث في جميع أقطار الأرض إلى كل نفس- بما قسم لها من زيادة أو نقصان- في المال و العمر و الجاه و الولد و غير ذلك- فإذا رأى أحدكم لأخيه زيادة في رزق- أو عمر أو ولد و غير ذلك- فلا يكونن ذلك له فتنة تفضي به إلى الحسد- فإن الإنسان المسلم إذا كان غير مواقع لدناءة و قبيح- يستحيي من ذكره بين الناس- و يخشع إذا قرع به و يغرى لئام الناس بهتك ستره به- كاللاعب بالقداح المحظوظ منها- ينتظر أول فوزة و غلبة من قداحه- تجلب له نفعا و تدفع عنه ضرا- كذلك من وصفنا حاله يصبر و ينتظر إحدى الحسنيين- إما أن يدعوه الله فيقبضه إليه و يستأثر به- فالذي عند الله خير له- و إما أن ينسأ في أجله فيرزقه الله أهلا و مالا- فيصبح و قد اجتمع له ذلك- مع حسبه و دينه و مروءته المحفوظة عليه- . ثم قال المال و البنون حرث الدنيا- و هو من قوله سبحانه- الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا- و من قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ- وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها- وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ- . قال و قد يجمعهما الله لأقوام- فإنه تعالى قد يرزق الرجل الصالح مالا و بنين- فتجمع له الدنيا و الآخرة- . ثم قال فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه- و ذلك لأنه تعالى قال فَاتَّقُونِ و قال فَارْهَبُونِ- و قال فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ- و غير ذلك من آيات التحذير- . ثم قال و لتكن التقوى منكم أقصى نهايات جهدكم- لا ذات تقصيركم- فإن العمل القاصر قاصر الثواب قاصر المنزلة
فصل في ذم الحاسد و الحسد
و اعلم أن مصدر هذا الكلام النهي عن الحسد- و هو من أقبح الأخلاق المذمومة- و روى ابن مسعود عن النبي ص ألا لا تعادوا نعم الله- قيل يا رسول الله و من الذي يعادي نعم الله- قال الذين يحسدون الناس – . و كان ابن عمر يقول- تعوذوا بالله من قدر وافق إرادة حسود- .
قيل لأرسطو ما بال الحسود أشد غما من المكروب- قال لأنه يأخذ نصيبه من غموم الدنيا- و يضاف إلى ذلك غمه بسرور الناس- .
و قال رسول الله ص استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان- فإن كل ذي نعمة محسود
و قال منصور الفقيه-
منافسة الفتى فيما يزول
على نقصان همته دليل
و مختار القليل أقل منه
و كل فوائد الدنيا قليل
و من الكلام المروي عن أمير المؤمنين ع لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله و من كلام عثمان بن عفان- يكفيك من انتقامك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك- . و قال مالك بن دينار- شهادة القراء مقبولة في كل شيء- إلا شهادة بعضهم على بعض- فإنهم أشد تحاسدا من السوس في الوبر- . و قال أبو تمام-
و إذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
لو لا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود
لو لا محاذرة العواقب لم تزل
للحاسد النعمى على المحسود
– . و تذاكر قوم من ظرفاء البصرة الحسد- فقال رجل منهم إن الناس ربما حسدوا على الصلب- فأنكروا ذلك ثم جاءهم بعد ذلك بأيام- فقال إن الخليفة قد أمر بصلب الأحنف بن قيس- و مالك بن مسمع و حمدان الحجام- فقالوا هذا الخبيث يصلب مع هذين الرئيسين- فقال أ لم أقل لكم إن الناس يحسدون على الصلب- .
و روى أنس بن مالك مرفوعا أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب و في الكتب القديمة يقول الله عز و جل الحاسد عدو نعمتي- متسخط لفعلي غير راض بقسمتيو قال الأصمعي رأيت أعرابيا قد بلغ مائة و عشرين سنة- فقلت له ما أطول عمرك فقال تركت الحسد فبقيت- . و قال بعضهم ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد- . قال الشاعر-
تراه كأن الله يجدع أنفه
و أذنيه إن مولاه ثاب إلى وفر
و قال آخر
قل للحسود إذا تنفس ضغنه
يا ظالما و كأنه مظلوم
و من كلام الحكماء- إياك و الحسد فإنه يبين فيك و لا يبين في المحسود- . و من كلامهم- من دناءة الحاسد أنه يبدأ بالأقرب فالأقرب- . و قيل لبعضهم لزمت البادية و تركت قومك و بلدك- قال و هل بقي إلا حاسد نعمة أو شامت بمصيبة- . بينا عبد الملك بن صالح يسير مع الرشيد في موكبه- إذ هتف هاتف يا أمير المؤمنين طأطئ من إشرافه- و قصر من عنانه و اشدد من شكاله- و كان عبد الملك متهما
عند الرشيد بالطمع في الخلافة- فقال الرشيد ما يقول هذا- فقال عبد الملك مقال حاسد و دسيس حاقد- يا أمير المؤمنين- قال قد صدقت نقص القوم و فضلتهم- و تخلفوا و سبقتهم- حتى برز شأوك و قصر عنك غيرك- ففي صدورهم جمرات التخلف و حزازات التبلد- قال عبد الملك فأضرمها يا أمير المؤمنين عليهم بالمزيد- . و قال شاعر
يا طالب العيش في أمن و في دعة
محضا بلا كدر صفوا بلا رنق
خلص فؤادك من غل و من حسد
فالغل في القلب مثل الغل في العنق
و من كلام عبد الله بن المعتز- إذا زال المحسود عليه- علمت أن الحاسد كان يحسد على غير شيء- . و من كلامه- الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له بخيل بما لا يملكه- . و من كلامه لا راحة لحاسد و لا حياة لحريص- . و من كلامه الميت يقل الحسد له و يكثر الكذب عليه- و من كلامه- ما ذل قوم حتى ضعفوا و ما ضعفوا حتى تفرقوا- و ما تفرقوا حتى اختلفوا و ما اختلفوا حتى تباغضوا- و ما تباغضوا حتى تحاسدوا- و ما تحاسدوا حتى استأثر بعضهم على بعض- .
و قال الشاعر
إن يحسدوني فإني غير لائمهم
قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي و لهم ما بي و ما بهم
و مات أكثرنا غيظا بما يجد
و من كلامهم ما خلا جسد عن حسد- . و حد الحسد هو أن تغتاظ مما رزقه غيرك- و تود أنه زال عنه و صار إليك- و الغبطة ألا تغتاظ و لا تود زواله عنه- و إنما تود أن ترزق مثله و ليست الغبطة بمذمومة- .
و قال الشاعر
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه
فالكل أعداء له و خصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها
حسدا و بغيا إنه لدميم
فصل في مدح الصبر و انتظار الفرج
و اعلم أنه ع بعد أن نهى عن الحسد- أمر بالصبر و انتظار الفرج من الله- إما بموت مريح أو بظفر بالمطلوب- . و الصبر من المقامات الشريفة- و قد وردت فيه آثار كثيرة- روى عبد الله بن مسعود عن النبي ص أن الصبر نصف الإيمان و اليقين الإيمان كله و قالت عائشة لو كان الصبر رجلا لكان كريما- .
و قال علي ع الصبر إما صبر على المصيبة- أو على الطاعة أو عن المعصية- و هذا القسم الثالث أعلى درجة من القسمين الأولين
و عنه ع الحياء زينة و التقوى كرم- و خير المراكب مركب الصبر
و عنه ع القناعة سيف لا ينبو و الصبر مطية لا تكبو- و أفضل العدة الصبر على الشدة
قال الحسن ع جربنا و جرب المجربون- فلم نر شيئا أنفع وجدانا و لا أضر فقدانا من الصبر- تداوى به الأمور و لا يداوى هو بغيره
و قال سعيد بن حميد الكاتب-
لا تعتبن على النوائب
فالدهر يرغم كل عاتب
و اصبر على حدثانه
إن الأمور لها عواقب
كم نعمة مطوية
لك بين أثناء النوائب
و مسرة قد أقبلت
من حيث تنتظر المصائب
و من كلامهم الصبر مر لا يتجرعه إلا حر- . قال أعرابي كن حلو الصبر عند مرارة النازلة- . و قال كسرى لبزرجمهر- ما علامة الظفر بالأمور المطلوبة المستصعبة- قال ملازمة الطلب و المحافظة على الصبر و كتمان السر- . و قال الأحنف بن قيس- لست حليما إنما أنا صبور- فأفادني الصبر صفتي بالحلم- .
و سئل علي ع أي شيء أقرب إلى الكفر- قال ذو فاقة لا صبر له و من كلامه ع الصبر يناضل الحدثان و الجزع من أعوان الزمان
– و قال أعشى همدان-
إن نلت لم أفرح بشيء نلته
و إذا سبقت به فلا أتلهف
و متى تصبك من الحوادث نكبة
فاصبر فكل غيابة تتكشف
و الأمر يذكر بالأمر- و هذا البيت هو الذي قاله له الحجاج يوم قتله- ذكر ذلك أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري- في الأمالي قال- لما أتي الحجاج بأعشى همدان أسيرا- و قد كان خرج مع ابن الأشعث- قال له يا ابن اللخناء- أنت القائل لعدو الرحمن- يعني عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث- .
يا ابن الأشج قريع كندة
لا أبالي فيك عتبا
أنت الرئيس ابن الرئيس
و أنت أعلى الناس كعبا
نبئت حجاج بن يوسف
خر من زلق فتبا
فانهض هديت لعله
يجلو بك الرحمن كربا
و ابعث عطية في الحروب
يكبهن عليه كبا
ثم قال عبد الرحمن خر من زلق فتب- و خسر و انكب و ما لقي ما أحب- و رفع بها صوته و اهتز منكباه- و در ودجاه و احمرت عيناه- و لم يبق في المجلس إلا من هابه- فقال أيها الأمير و أنا القائل-
أبى الله إلا أن يتمم نوره
و يطفئ نار الكافرين فتخمدا
و ينزل ذلا بالعراق و أهله
كما نقضوا العهد الوثيق المؤكدا
و ما لبث الحجاج أن سل سيفه
علينا فولى جمعنا و تبددا
فالتفت الحجاج إلى من حضر- فقال ما تقولون قالوا لقد أحسن أيها الأمير- و محا بآخر قوله أوله فليسعه حلمك- فقال لاها الله إنه لم يرد ما ظننتم- و إنما أراد تحريض أصحابه- ثم قال له ويلك أ لست القائل-
إن نلت لم أفرح بشيء نلته
و إذا سبقت به فلا أتلهف
و متى تصبك من الحوادث نكبة
فاصبر فكل غيابة تتكشف
أما و الله لتظلمن عليك غيابة لا تنكشف أبدا- أ لست القائل في عبد الرحمن-
و إذا سألت المجد أين محله
فالمجد بين محمد و سعيد
بين الأشج و بين قيس نازل
بخ بخ لوالده و للمولود
و الله لا يبخبخ بعدها أبدا يا حرسي اضرب عنقه- . و مما جاء في الصبر قيل للأحنف- إنك شيخ ضعيف و إن الصيام يهدك- فقال إني أعده لشر يوم طويل- و إن الصبر على طاعة الله أهون- من الصبر على عذاب الله- . و من كلامه من لم يصبر على كلمة سمع كلمات- رب غيظ قد تجرعته مخافة ما هو أشد منه- . يونس بن عبيد لو أمرنا بالجزع لصبرنا- . ابن السماك المصيبة واحدة- فإن جزع صاحبها منها صارت اثنتين- يعني فقد المصاب و فقد الثواب- . الحارث بن أسد المحاسبي- لكل شيء جوهر و جوهر الإنسان العقل- و جوهر العقل الصبر- . جابر بن عبد الله سئل رسول الله ص عن الإيمان- فقال الصبر و السماحة – . و قال العتابي-
اصبر إذا بدهتك نائبة
ما عال منقطع إلى الصبر
الصبر أولى ما اعتصمت به
و لنعم حشو جوانح الصدر
و من كلام علي ع الصبر مفتاح الظفر و التوكل على الله رسول الفرج و من كلامه ع انتظار الفرج بالصبر عبادة أكثم بن صيفي- الصبر على جرع الحمام أعذب من جنا الندم- .و من كلام بعض الزهاد- و اصبر على عمل لا غناء بك عن ثوابه- و اصبر عن عمل لا صبر على عقابك به- . و كتب ابن العميد أقرأ في الصبر سورا- و لا أقرأ في الجزع آية- و أحفظ في التماسك و التجلد قصائد- و لا أحفظ في التهافت قافية- .و قال الشاعر
و يوم كيوم البعث ما فيه حاكم
و لا عاصم إلا قنا و دروع
حبست به نفسي على موقف الردى
حفاظا و أطراف الرماح شروع
و ما يستوي عند الملمات إن عرت
صبور على مكروهها و جزوع
أبو حية النميري-
إني رأيت و في الأيام تجربة
للصبر عاقبة محمودة الأثر
و قل من جد في أمر يحاوله
و استصحب الصبر إلا فاز بالظفر
و وصف الحسن البصري عليا ع فقال- كان لا يجهل و إن جهل عليه حلم- و لا يظلم و إن ظلم غفر- و لا يبخل و إن بخلت الدنيا عليه صبر- . عبد العزيز بن زرارة الكلابي-
قد عشت في الدهر أطوارا على طرق
شتى فقاسيت منه الحلو و البشعا
كلا بلوت فلا النعماء تبطرني
و لا تخشعت من لأوائها جزعا
لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه
و لا يضيق به صدري إذا وقعا
و من كلام بعضهم من تبصر تصبر- الصبر يفسح الفرج و يفتح المرتتج- المحنة إذا تلقيت بالرضا و الصبر كانت نعمة دائمة- و النعمة إذا خلت من الشكر كانت محنة لازمة- .
قيل لأبي مسلم صاحب الدولة- بم أصبت ما أصبت- قال ارتديت بالصبر و اتزرت بالكتمان- و حالفت الحزم و خالفت الهوى- و لم أجعل العدو صديقا و لا الصديق عدوا- . منصور النمري في الرشيد-
و ليس لأعباء الأمور إذا عرت
بمكترث لكن لهن صبور
يرى ساكن الأطراف باسط وجهه
يريك الهوينى و الأمور تطير
من كلام أمير المؤمنين ع أوصيكم بخمس لو ضربتم إليهن آباط الإبل- كانت لذلك أهلا- لا يرجون أحدكم إلا ربه- و لا يخافن إلا ذنبه- و لا يستحين إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم- و لا يستحيي إذا جهل أمرا أن يتعلمه- و عليكم بالصبر- فإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد- فكما لا خير في جسد لا رأس له- لا خير في إيمان لا صبر معه و عنه ع لا يعدم الصبور الظفر و إن طال به الزمان
نهشل بن حري-
و يوم كأن المصطلين بحرة
و إن لم يكن جمرا قيام على جمر
صبرنا له حتى تجلى و إنما
تفرج أيام الكريهة بالصبر
علي ع اطرح عنك واردات الهموم- بعزائم الصبر و حسن اليقين و عنه ع و إن كنت جازعا على ما تفلت من يديك- فاجزع على كل ما لم يصل إليك و في كتابه ع الذي كتبه إلى عقيل أخيه و لا تحسبن ابن أمك و لو أسلمه الناس متضرعا متخشعا- و لا مقرا للضيم واهنا و لا سلس الزمام للقائد- و لا وطيء الظهر للراكب- و لكنه كما قال أخو بني سليم-
فإن تسأليني كيف أنت فإنني
صبور على ريب الزمان صليب
يعز علي أن ترى بي كآبة
فيشمت عاد أو يساء حبيب
فصل في الرياء و النهي عنه
و اعلم أنه ع بعد أن أمرنا بالصبر- نهى عن الرياء في العمل و الرياء في العمل منهي عنه- بل العمل ذو الرياء ليس بعمل على الحقيقة- لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى- و أصحابنا المتكلمون يقولون- ينبغي أن يعمل المكلف الواجب لأنه واجب- و يجتنب القبيح لأنه قبيح- و لا يفعل الطاعة و يترك المعصية رغبة في الثواب- و خوفا من العقاب- فإن ذلك يخرج عمله من أن يكون طريقا إلى الثواب- و شبهوه بالاعتذار في الشيء- فإن من يعتذر إليك من ذنب- خوفا أن تعاقبه على ذلك الذنب- لا ندما على القبيح الذي سبق منه- لا يكون عذره مقبولا و لا ذنبه عندك مغفورا- و هذا مقام جليل لا يصل إليه- إلا الأفراد من ألوف الألوف- . و قد جاء في الآثار من النهي عن الرياء و السمعة كثير-
روي عن النبي ص أنه قال يؤتى في يوم القيامة بالرجل- قد عمل أعمال الخير كالجبال- أو قال كجبال تهامة و له خطيئة واحدة- فيقال إنما عملتها ليقال عنك- فقد قيل و ذاك ثوابك و هذه خطيئتك- أدخلوه بها إلى جهنم
و قال ع ليست الصلاة قيامك و قعودك- إنما الصلاة إخلاصك و أن تريد بها الله وحده
و قال حبيب الفارسي لو أن الله تعالى أقامني يوم القيامة- و قال هل تعد سجدة سجدت ليس للشيطان فيها نصيب- لم أقدر على ذلك- .توصل عبد الله بن الزبير إلى امرأة عبد الله بن عمر- و هي أخت المختار بن أبي عبيد الثقفي- في أن تكلم بعلها عبد الله بن عمر أن يبايعه- فكلمته في ذلك و ذكرت صلاته و قيامه و صيامه- فقال لها أ ما رأيت البغلات الشهب- التي كنا نراها تحت معاوية بالحجر إذا قدم مكة- قالت بلى- قال فإياها يطلب ابن الزبير بصومه و صلاته- . و في الخبر المرفوع أن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء في العمل- ألا و إن الرياء في العمل هو الشرك الخفي-
صلى و صام لأمر كان يطلبه
حتى حواه فلا صلى و لا صاما
فصل في الاعتضاد بالعشيرة و التكثر بالقبيلة
ثم إنه ع بعد نهيه عن الرياء و طلب السمعة- أمر بالاعتضاد بالعشيرة و التكثر بالقبيلة- فإن الإنسان لا يستغني عنهم و إن كان ذا مال- و قد قالت الشعراء في هذا المعنى كثيرا- فمن ذلك قول بعض شعراء الحماسة-
إذا المرء لم يغضب له حين يغضب
فوارس إن قيل اركبوا الموت يركبوا
و لم يحبه بالنصر قوم أعزة
مقاحيم في الأمر الذي يتهيب
تهضمه أدنى العداة فلم يزل
و إن كان عضا بالظلامة يضرب
فآخ لحال السلم من شئت و اعلمن
بأن سوى مولاك في الحرب أجنب
و مولاك مولاك الذي إن دعوته
أجابك طوعا و الدماء تصبب
فلا تخذل المولى و إن كان ظالما
فإن به تثأى الأمور و ترأب
و من شعر الحماسة أيضا
أفيقوا بني حزن و أهواؤنا معا
و أرحامنا موصولة لم تقضب
لعمري لرهط المرء خير بقية
عليه و إن عالوا به كل مركب
إذا كنت في قوم و أمك منهم
لتعزى إليهم في خبيث و طيب
و إن حدثتك النفس أنك قادر
على ما حوت أيدي الرجال فكذب
و من شعر الحماسة أيضا-
لعمرك ما أنصفتني حين سمتني
هواك مع المولى و أن لا هوى ليا
إذا ظلم المولى فزعت لظلمه
فحرق أحشائي و هرت كلابيا
و من شعر الحماسة أيضا-
و ما كنت أبغي العم يمشي على شفا
و إن بلغتني من أذاه الجنادع
و لكن أواسيه و أنسى ذنوبه
لترجعه يوما إلي الرواجع
و حسبك من ذل و سوء صنيعة
مناواة ذي القربى و أن قيل قاطع
و من شعر الحماسة أيضا-
ألا هل أتى الأنصار أن ابن بحدل
حميدا شفى كلبا فقرت عيونها
فإنا و كلبا كاليدين متى تقع
شمالك في الهيجا تعنها يمينها
و من شعر الحماسة أيضا-
أخوك أخوك من ينأى و تدنو
مودته و إن دعي استجابا
إذا حاربت حارب من تعادي
و زاد غناؤه منك اقترابا
يواسي في كريهته و يدنو
إذا ما مضلع الحدثان نابا
فصل في حسن الثناء و طيب الأحدوثة
ثم إنه ع ذكر أن لسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس- خيرا له من المال يورثه غيره- و لسان الصدق هو أن يذكر الإنسان بالخير و يثنى عليه به- قال سبحانه وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ- . و قد ورد في هذا المعنى من النثر و النظم الكثير الواسع- فمن ذلك قول عمر لابنة هرم- ما الذي أعطى أبوك زهيرا- قالت أعطاه مالا يفنى و ثيابا تبلى- قال لكن ما أعطاكم زهير لا يبليه الدهر- و لا يفنيه الزمان- . و من شعر الحماسة أيضا-
إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم تجد
بفضل الغنى ألفيت ما لك حامد
و قل غناء عنك مال جمعته
إذا كان ميراثا و واراك لاحد
و قال يزيد بن المهلب- المال و الحياة أحب شيء إلى الإنسان- و الثناء الحسن أحب إلي منهما- و لو أني أعطيت ما لم يعطه أحد- لأحببت أن يكون لي أذن أسمع بها- ما يقال في غدا و قد مت كريما- . و حكى أبو عثمان الجاحظ عن إبراهيم السندي- قال قلت في أيام ولايتي الكوفة لرجل من وجوهها- كان لا يجف لبده و لا يستريح قلمه- و لا تسكن حركته في طلب حوائج الناس- و إدخال السرور على قلوبهم و الرفق على ضعفائهم- و كان عفيف الطعمة- خبرني عما هون عليك النصب و قواك على التعب- فقال قد و الله سمعت غناء الأطيار بالأسحار- على أغصان الأشجار- و سمعت خفق الأوتار و تجاوب العود و المزمار- فما طربت من صوت قط طربي- من ثناء حسن على رجل محسن- فقلت لله أبوك فلقد ملئت كرما- .و قال حاتم
أماوي إن يصبح صداي بقفرة
من الأرض لا ماء لدي و لا خمر
ترى أن ما أنفقت لم يك ضرني
و أن يدي مما بخلت به صفر
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوما و ضاق بها الصدر
بعض المحدثين-
من اشترى بماله
حسن الثناء غبنا
أفقره سماحه
و ذلك الفقر الغنى
و من أمثال الفرس- كل ما يؤكل ينتن و كل ما يوهب يأرج- . و قال أبو الطيب-
ذكر الفتى عمره الثاني و حاجته
ما قاته و فضول العيش أشغال
فصل في مواساة الأهل و صلة الرحم
ثم إنه ع بعد أن قرظ الثناء و الذكر الجميل- و فضله على المال- أمر بمواساة الأهل و صلة الرحم و إن قل ما يواسى به- فقال ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة إلى آخر الفصل- و قد قال الناس في هذا المعنى فأكثروا- فمن ذلك قول زهير-
و من يك ذا فضل فيبخل بفضله
على قومه يستغن عنه و يذمم
و قال عثمان- إن عمر كان يمنع أقرباءه ابتغاء وجه الله- و أنا أعطيتهم ابتغاء وجه الله و لن تروا مثل عمر- . أبو هريرة مرفوعا الرحم مشتقة من الرحمن- و الرحمن اسم من أسماء الله العظمى- قال الله لها من وصلك وصلته و من قطعك قطعته و في الحديث المشهور صلة الرحم تزيد في العمر و قال طرفة يهجو إنسانا بأنه يصل الأباعد و يقطع الأقارب-
و أنت على الأدنى شمال عرية
شآمية تزوي الوجوه بليل
و أنت على الأقصى صبا غير قرة
تذاءب منها مزرع و مسيل
و من شعر الحماسة-
لهم جل مالي إن تتابع لي غنى
و إن قل مالي لا أكلفهم رفدا
و لا أحمل الحقد القديم عليهم
و ليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
شرح ابن ابی الحدید جلد1