و من كلام له عليه السّلام
روى ابو محمد اليمانى عن أحمد بن قتيبة عن عبد اللّه بن يزيد عن مالك بن دحية قال: كنا عند أمير المؤمنين عليه السّلام و قد ذكر عنده اختلاف الناس فقال إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمْ مَبَادِئُ طِينِهِمْ- وَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِلْقَةً مِنْ سَبَخِ أَرْضٍ وَ عَذْبِهَا- وَ حَزْنِ تُرْبَةٍ وَ سَهْلِهَا- فَهُمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِ أَرْضِهِمْ يَتَقَارَبُونَ- وَ عَلَى قَدْرِ اخْتِلَافِهَا يَتَفَاوَتُونَ- فَتَامُّ الرُّوَاءِ نَاقِصُ الْعَقْلِ- وَ مَادُّ الْقَامَةِ قَصِيرُ الْهِمَّةِ- وَ زَاكِي الْعَمَلِ قَبِيحُ الْمَنْظَرِ- وَ قَرِيبُ الْقَعْرِ بَعِيدُ السَّبْرِ- وَ مَعْرُوفُ الضَّرِيبَةِ مُنْكَرُ الْجَلِيبَةِ- وَ تَائِهُ الْقَلْبِ مُتَفَرِّقُ اللُّبِّ- وَ طَلِيقُ اللِّسَانِ حَدِيدُ الْجَنَانِ أبو محمّد ذعلب اليمانىّ و أحمد و عبد اللّه و مالك من رجال الشيعة و محدّثيهم.
اللغة
و الفلقة: القطعة، و الشقّ من الشيء.
و الرواء: المنظر الجميل.
و سبرت الرجل أسبره: اختبرت باطنه و غوره.
و الضريبة: الخلق و الطبيعة.
و الجليبة: ما يجلبه الإنسان و يتكلّفه.
و الكلام إشارة إلى السبب المادىّ لاختلاف الناس في الصور و الأخلاق.
فقوله: إنّما فرّق بينهم. إلى قوله: يتفاوتون. فطينهم إشارة إلى التربة الّتي أشار إلى جمع اللّه لها في قوله: في الخطبة الاولى: ثمّ جمع سبحانه من سهل الأرض و حزنها و سبخها و عذبها تربة. إلى قوله: و أصلدها حتّى استمسكت. و المعنى أنّ تقاربهم في الصور و الأخلاق تابع لتقارب طينهم و تقارب مباديه و هى السهل و الحزن و السبخ و العذب، و تفاوتهم فيها تابع لتفاوت طينهم و مباديه المذكورة. قال أهل التأويل: إضافة المبادى هنا إلى الطين إضافة بمعنى اللام: أى المبادى لطينهم، و الإشارة بطينهم إلى اصولهم، و هى الممتزجات المنتقلة في أطوار الخلقة كالنطفة و ما قبلها من موادّها و ما بعدها من العلقة و المضغة و العظم، و المزاج الإنسانىّ القابل للنفس المدبّرة. قالوا: و لمّا كانت مبادى ذلك الطين في ظاهر كلامه عليه السّلام هى السبخ و العذب و السهل و الحزن كان ذلك كناية عن الأجزاء العنصريّة الّتي هى مبادي الممتزجات ذوات الأمزجة كالنبات و الغذاء و النطفة و ما بعدها. إذ كلّ ممتزج منها لا بدّ فيه من أجزاء متفاعل فيحصل بواسطتها استعداداتها، و تفاعلها ذو مزاج هو نطفة و غيرها فتلك الأجزاء المتفاعلة المستعدّة لمزاج مزاج هى مبادى تلك الأمزجة و الممتزجات و لمّا كانت السبخيّة و العذوبة و السهولة و الحزونة امورا تلحق الممتزجات الأرضيّة الّتي هى مبادئ الطين و لها أثر في اختلاف مزاجه و ساير الأمزجة المركّبة منه، و كان اختلاف استعدادات تلك الامور الممتزجة لقبول الأمزجة الّتي هى السبب في اختلاف الأمزجة و استعداداتها لقبول الأخلاق و الصور هو السبب في اختلاف الأخلاق و الصور لا جرم كان السبب في تفرّق الناس في أخلاقهم و خلقهم إنّما هو اختلاف مبادئ طينهم، و قد علمت ممّا سلف في الخطبة الاولى لميّة تخصيصه عليه السّلام بعض الأجزاء العنصريّة بالتركّب عنها، و يحتمل أن يشير بالسبخ و العذب و السهل و الحزن إلى الأجزاء الأرضيّة من حيث هى ذوات أمزجة متعادلة الكيفيّات. فالسبخ كناية عن الحارّ اليابس منها، و العذب كناية عن الحارّ الرطب، و السهل كناية عن البارد الرطب، و الحزن كناية عن البارد اليابس قالوا: و على هذا حمل قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه سبحانه لمّا أراد خلق آدم أمر أن يؤخذ قبضة من كلّ أرض فجاء بنو آدم على قدر طينها الأحمر و الأبيض و السهل و الحزن و الطيّب و الخبيث. فالقبضة من كلّ أرض إشارة إلى الأجزاء الأرضيّة المذكورة، و كون الناس مختلفين عنها بالأبيض و الأحمر إشارة إلى اختلاف خلقهم، و كونهم مختلفين بالسهولة و الحزونة و الطيّب و الخبيث إشارة إلى اختلاف تلك الاستعدادات السابقة على كلّ مزاج في أطوار خلقهم قالوا: و قد بان بذلك معنى قوله: فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون: أى على حسب قرب مبادى طينهم المذكورة و تشابهها في استعداداتها و إعدادها يتقاربون و يتشابهون في الصور و الأخلاق، و على قدر اختلاف تلك المبادي و تباينها في ذلك يتفاوتون و تتضادّ أخلاقهم و تتباين خلقهم. قالوا: و يجب التأويل هنا لأنّا لو حملنا الكلام على ظاهره لاقتضى أنّ كلّا منهم قد خلق من الطين. قوله: فتامّ الرواء. إلى آخره.
تفصيل لهم في تفاوتهم. و ذكر أقساما سبعة فبدء بالأقسام الّتي تضادّ خلقها لأخلاقها أو بعض أخلاقها لبعض و هى خمسة: الأوّل: من استعدّ مزاجه لقبول صورة كاملة حسنة و عقل ناقص فهو داخل في رذيلة الغباوة. الثاني: المستعدّ لامتداد القامة و حسنها أيضا لكنّه ناقص في همّته فهو داخل في رذيلة الجبن، و كلاهما يشتركان في مخالفة ظاهرهما لباطنهما، و يتفاوتان في الاستعداد الباطن. الثالث: المستعدّ لقبح صورته الظاهرة و حسن باطنه باعتدال مزاج ذهنه المستلزم للأعمال الذاكية. الرابع: قريب القعر: أى قصير بعيد السبر: أى داهية ببعد اختيار باطنه و الوقوف على أسراره، و مخالفة ظاهر هذين القسمين لباطنهما ظاهر. الخامس. معروف الضريبة منكر الجليبة: أى يكون له خلق معروف يتكلّف ضدّه فيستنكر منه، و يظهر عليه تكلّفه كأن يكون مستعدّا للجبن فيتكلّف الشجاعة أو بخيلا فيتكلّف السخاوة فيستنكر منه ما لم يكن معروفا منه. فهذه هى الأقسام الخمسة، و القسم الأوّل و الثالث قليلان فإنّ الأغلب على المستعدّ لحسن الصورة و جمالها و اعتدال الخلقة أن يكون فطنا ذكيّا لدلالة تلك العوارض على استواء التركيب و اعتدال المزاج، و الأغلب على المستعدّ لقبح الصورة عكس ذلك، و أما القسم الثاني و الرابع فهو أكثر فإنّ الأغلب على طويل القامة نقصان العقل و البلادة و يتبع ذلك فتور العزم و قصور الهمة، و على القصير الفطنة و الذكاء و حسن الآراء و التدابير، و قد نبّه بعض الحكماء على علّة ذلك فقال حين سئل ما بال القصار من الناس أدهى و أحذق: لقرب قلوبهم من أدمغتهم. و مراده أنّ القلب لمّا كان مبدء للحار الغريزىّ و كان الأعراض النفسانيّة من الفطنة و الفهم و الإقدام و الوقاحة و حسن الظنّ و جودة الرأى و الرجاء و النشاط و رجوليّة الأخلاق و قلّة الكسل و قلّة الانفعال عن الأشياء كلّ ذلك يدلّ على الحرارة و توفّرها، و أضداد هذه الامور يدلّ على البرودة لا جرم كان قرب القلب من الدماغ في القصير لكونه سببا لتوفّر الحرارة في الدماغ وجودة استعداد القوى النفسانيّة فيه للأعراض المذكورة، و كان بعده منه في الطويل سببا لقلّة الحرارة فيه و ضعف استعداد القوى النفسانيّة فيه للأعراض المذكورة، و استعدادها لأضدادها و إن كانت الحرارة ليست هى كمال السبب المادىّ، و القسم الخامس أكثرى و ذلك لمحبّة النفوس للكمالات فترى البخيل يحبّ أن يعدّ كريما فيتكلّف الكرم، و الجبان يحبّ أن يعدّ شجاعا فيتكلّف الشجاعة، و قد راعى في هذه القرائن المطابقة فالتامّ بإزاء الناقص، و مادّ القامة بإزاء القصير، و الذكىّ بإزاء القبيح، و القريب بإزاء البعيد، و المعروف بإزاء المنكر، و أمّا القسمان الباقيان فأحدهما: تائه القلب متفرّق اللبّ، و هم العوامّ. و العامّة أتباع كل ناعق التائهون في تيه الجهل المتفرّقة أهواؤهم بحسب كلّ سانح من المطالب الدنيويّة و الخواطر الشيطانيّة، و الثاني: طليق اللسان حديد الجنان، و هو اللسن الزكىّ، و هذان القسمان مخالفان للأقسام الاولى في مناسبة ظاهرهما لباطنهما، و راعى في كلّ قرينتين من هذين القسمين السجع المتوازى. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحهى 115