و من كلام له عليه السّلام
أَلَا وَ إِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ الْإِنْسَانِ- فَلَا يُسْعِدُهُ الْقَوْلُ إِذَا امْتَنَعَ- وَ لَا يُمْهِلُهُ النُّطْقُ إِذَا اتَّسَعَ- وَ إِنَّا لَأُمَرَاءُ الْكَلَامِ وَ فِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ- وَ عَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصُونُهُ وَ اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّكُمْ فِي زَمَانٍ- الْقَائِلُ فِيهِ بِالْحَقِّ قَلِيلٌ- وَ اللِّسَانُ عَنِ الصِّدْقِ كَلِيلٌ- وَ اللَّازِمُ لِلْحَقِّ ذَلِيلٌ- أَهْلُهُ مُعْتَكِفُونَ عَلَى الْعِصْيَانِ- مُصْطَلِحُونَ عَلَى الْإِدْهَانِ فَتَاهُمْ عَارِمٌ- وَ شَائِبُهُمْ آثِمٌ وَ عَالِمُهُمْ مُنَافِقٌ- وَ فَارِئُهُمْ مُمَاذِقٌ لَا يُعَظِّمُ صَغِيرُهُمْ كَبِيرَهُمْ- وَ لَا يَعُولُ غَنِيُّهُمْ فَقِيرَهُمْ
أقول: روى أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال هذا الكلام في واقعة اقتضت ذلك، و هى أنّه أمر ابن اخته جعدة بن هبيره المخزومى يوما أن يخطب الناس فصعد المنبر فحصر فلم يستطع الكلام فقام عليه السّلام: و تسنّم ذروة المنبر. ثمّ خطب خطبة طويلة. ذكر الرضى- رحمه اللّه- منها هذا الفصل.
اللغة
و البضعة: القطعة.
و نشبّت: تعلّقت.
و تهدّلت: تدلّت.
و العارم: الشرس سىّء الأخلاق.
و المماذق: الّذي يمزج الودّ و لا يخلصه، و هو نوع من النفاق.
المعنى
و الضمير في يسعده و يمهله للسان، و في امتنع و اتّسع للإنسان.
و المعنى أنّ اللسان لمّا كان آلة للإنسان يتصرّف بتصريفه إيّاه فإذا امتنع الإنسان عن الكلام لشاغل أو صارف لم يسعد اللسان القول و لم يواته، و إذا دعاه الداعى إلى الكلام و حضره و اتّسع الإنسان له لم يمهله النطق بل يسارع إليه، و يحتمل أن يعود الضمير في امتنع إلى القول، و في اتّسع إلى النطق: أى فلا يسعد القول اللسان إذا امتنع القول من الإنسان و لم يحضره لوهم أو نحوه أوجب حصره وعيّه و لم يمهله النطق إذا اتّسع عليه و حضره.
و قوله: و إنّا لامراء الكلام. استعار لفظ الامراء لنفسه و أهل بيته ملاحظة لكونهم مالكين لأزمّة الكلام يتصرّفون فيه تصرّف الامراء في ممالكهم، و استعار لفظ العروق لموادّ الكلام و اصوله و ملكاته المتمكّنة في قلوبهم، و استعار لفظ التنشّب، و كذلك استعار لفظ الغصون لما أمكنهم من تناوله رشّح بذكر التهدّل لأنّ من شأن الغصن ذلك. ثمّ عقّب بذكر الزمان و أهله، و يشبه أن يكون هذا فصلا منقطعا
عمّا قبله، و ذكر أوصافا: أحدها: قلّة القائلين فيه بالحقّ، و ذلك من الشرور اللاحقة لأهل الزمان فيه، و قد علمت ما قلناه في وصف كون الزمان سببا ما للشرّ و الخير عند قوله: أيّها الناس إنّا قد أصبحنا في دهر عنود و زمن كنود. الثاني: كون اللسان فيه كليلا عن الصدق، و السبب القريب للوصفين استيلاء الجهل و الظلم على أكابره و أهل الدنيا فيه. الثالث: ذلّ اللازمين للحقّ فيه، و هو لازم عن قلّتهم و ضعفهم بالنسبة إلى الباقين. الرابع: كون أهله معتكفين على العصيان، و أراد الأكثرين من الناس. الخامس: كونهم مصطلحين على الإدهان: أى المصانعة باللسان دون الإتّفاق بالقلوب، و يحتمل أن يريد بالإدهان الغشّ، و هو لغة قوم. السادس: وصفهم بحسب أصنافهم: فشابهم شرس الأخلاق لنشوه على غير أدب، و شائبهم آثم لجهله و غفلته عمّا يراد به، و عالمهم منافق لاستعماله فطنته في طرف الشرّ و إعراضه عن أوامر اللّه و طريق الآخرة، و قارئهم مماذق يظهر التودّد إلى الناس و ليس به. السابع: كونهم لا يعظّم صغيرهم كبيرهم، و ذلك لنشوهم على قلّة الآداب الشرعيّة و عدم التفاتهم إليها. الثامن: و لا يعول غنيّهم فقيرهم وصف لهم بالجفاوة و البخل. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحهى 113