و من خطبة له عليه السّلام
القسم الأول
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ عَنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقِينَ- الْغَالِبِ لِمَقَالِ الْوَاصِفِينَ- الظَّاهِرِ بِعَجَائِبِ تَدْبِيرِهِ لِلنَّاظِرِينَ- وَ الْبَاطِنِ بِجَلَالِ عِزَّتِهِ عَنْ فِكْرِ الْمُتَوَهِّمِينَ- الْعَالِمِ بِلَا اكْتِسَابٍ وَ لَا ازْدِيَادٍ- وَ لَا عِلْمٍ مُسْتَفَادٍ- الْمُقَدِّرِ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ بِلَا رَوِيَّةٍ وَ لَا ضَمِيرٍ- الَّذِي لَا تَغْشَاهُ الظُّلَمُ وَ لَا يَسْتَضِيءُ بِالْأَنْوَارِ- وَ لَا يَرْهَقُهُ لَيْلٌ وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ نَهَارٌ- لَيْسَ إِدْرَاكُهُ بِالْإِبْصَارِ وَ لَا عِلْمُهُ بِالْإِخْبَارِ
أقول: حمد اللّه تعالى باعتبارات إضافيّة و سلبيّة:
أولها: العلىّ عن شبه المخلوقين
أي في ذاته و صفاته و أفعاله و أقواله، و قد علمت كيفيّة ذلك من غير مرّة.
الثاني: الغالب لمقال الواصفين
و ذلك الغلب إشارة إلى تعاليه عن إحاطة الأوصاف به و فوته لها و عدم القدرة على ذلك منه، و قد أشرنا إلى ذلك مرارا.
الثالث: الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين
بأعين بصايرهم و أبصارهم.
الرابع: الباطن بجلال عزّته عن فكر المتوهّمين.
و قد مرّ بيان هذين الوصفين و فايدة قوله: بجلال عزّته تنزيه بطونه عن الفكر باعتبار جلالته و عزّته عن أن تناله لا باعتبار حقارة و صغر، و إنّما قال: فكر المتوهّمين لأنّ النفس الإنسانيّة حال التفاتها إلى استلاحة الامور العلويّة المجردّة لا بدّ أنّ يستعين بالقوّة المتخيّلة يباعث الوهم في أن تصوّر تلك الامور بصور خياليّة مناسبة لتشبيهها بها و تحطّها إلى الخيال، و قد علمت أنّ الوهم إنّما يدرك ما كان متعلّقا بمحسوس أو متخيّل من المحسوسات فكلّ أمر يتصوّره الإنسان و هو في هذا العالم سواء كان ذات اللّه سبحانه أو صفاته أو غير ذلك فلا بدّ أن يكون مشوبا بصورة خياليّة أو معلّقا بها و هو تعالى منزّه بجلال عزّته عن تكيّف تلك الفكر له و باطن عنها.
الخامس: العالم المنزّه في كيفيّة علمه عن اكتساب له بعد جهل أو ازدياد
منه بعد نقصان أو استفادة له عن غير كما عليه علم المخلوقين.
السادس: المقدّر لجميع الامور
أى الموجد لجميع الامور على وفق قضائه كلّا بمقدار معلوم تنزّه فيه عن التفكّر و الضمير، و أراد بالضمير ما اضمر من الرويّة.
السابع: الّذي لا تغشاه الظلم، و لا يستضيء بالأنوار
لتنزّهه عن الجسميّة و لواحقها.
الثامن: و لا يرهقه
أى لا يدركه ليل. و لا يجرى عليه نهار، و ذلك لتنزّهه عن إحاطة الزمان.
التاسع: ليس إدراكه بالأبصار
لتقدّس ذاته عن الحاجة إلى الآلة في الإدراك و غيره.
العاشر: و لا علمه بالأخبار
أى كما عليه كثير من علومنا لتقدّسه عن حاسّة السمع. و باللّه التوفيق.
القسم الثاني و منها فى ذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
أَرْسَلَهُ بِالضِّيَاءِ وَ قَدَّمَهُ فِي الِاصْطِفَاءِ- فَرَتَقَ بِهِ الْمَفَاتِقَ وَ سَاوَرَ بِهِ الْمُغَالِبَ- وَ ذَلَّلَ بِهِ الصُّعُوبَةَ وَ سَهَّلَ بِهِ الْحُزُونَةَ- حَتَّى سَرَّحَ الضَّلَالَ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمَالٍ
اللغة
أقول: المساورة: المواثبة.
و سرّح: فرّق.
و قد أشار إلى بعض فضائل النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعض فوايده
فمن فضائله إرساله بالضياء، و لفظ الضياء مستعار لأنوار الإسلام الهادية في سبيل اللّه إليه، و منها تقديمه على سائر الأنبياء ء في الفضيلة و إن كان الكلّ منهم مصطفى، و ذكر من فوايده كونه رتق به المفاتق، و كنّى بها عن امور العالم المتفرّقة و تشتّت مصالحه زمان الفترة، و رتقها به كناية عن نظمها به بعد تفرّقها كناية بالمستعار، و منها كونه ساور به المغالب، و أسند المساورة إلى اللّه مجازا باعتبار بعثه للنبىّ بالدين عن أمره لمواثبة مغالبه من المشركين و غيرهم، و منها كونه ذلّل به الصعوبة: أى صعوبة أهل الجاهليّة و أعداء دين اللّه، و منها كونه سهّل به الحزونة: أى حزونة طريق اللّه بهدايته فيها إلى غاية أن سرّح الضلال و الجهل عن يمين النفوس و شمالها، و هو إشارة إلى إلقائه رذيلتي التفريط و الإفراط عن ظهور النفوس كسريح جنبتى الحمل عن ظهر الدابة، و هو من ألطف الاستعارات و أبلغها، و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحهى 29