198 و من كلام له ع كلم به طلحة و الزبير- بعد بيعته بالخلافة
و قد عتبا عليه- من ترك مشورتهما و الاستعانة في الأمور بهما: لَقَدْ نَقَمْتُمَا يَسِيراً وَ أَرْجَأْتُمَا كَثِيراً- أَ لَا تُخْبِرَانِي أَيُّ شَيْءٍ كَانَ لَكُمَا فِيهِ حَقٌّ دَفَعْتُكُمَا عَنْهُ- أَمْ أَيُّ قَسْمٍ اسْتَأْثَرْتُ عَلَيْكُمَا بِهِ- أَوْ أَيُّ حَقٍّ رَفَعَهُ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ- ضَعُفْتُ عَنْهُ أَمْ جَهِلْتُهُ أَمْ أَخْطَأْتُ بَابَهُ- . وَ اللَّهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ- وَ لَا فِي الْوَلَايَةِ إِرْبَةٌ- وَ لَكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا وَ حَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا- فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَ مَا وَضَعَ لَنَا- وَ أَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ- وَ مَا اسْتَنَّ النَّبِيُّ ص فَاقْتَدَيْتُهُ- فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَى رَأْيِكُمَا وَ لَا رَأْيِ غَيْرِكُمَا- وَ لَا وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ فَأَسْتَشِيرَكُمَا وَ إِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ- وَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا وَ لَا عَنْ غَيْرِكُمَا- . وَ أَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الْأُسْوَةِ- فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بِرَأْيِي- وَ لَا وَلِيتُهُ هَوًى مِنِّي- بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَ أَنْتُمَا مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ص قَدْ فُرِغَ مِنْهُ- فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيمَا قَدْ فَرَغَ اللَّهُ مِنْ قَسْمِهِ- وَ أَمْضَى فِيهِ حُكْمَهُ- فَلَيْسَ لَكُمَا وَ اللَّهِ عِنْدِي وَ لَا لِغَيْرِكُمَا فِي هَذَا عُتْبَى- . أَخَذَ اللَّهُ بِقُلُوبِنَا وَ قُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ- وَ أَلْهَمَنَا وَ إِيَّاكُمُ الصَّبْرَ- .
ثُمَّ قَالَ ع- رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا رَأَى حَقّاً فَأَعَانَ عَلَيْهِ- أَوْ رَأَى جَوْراً فَرَدَّهُ- وَ كَانَ عَوْناً بِالْحَقِّ عَلَى صَاحِبِهِ نقمت عليه بالفتح أنقم هذه اللغة الفصيحة- و جاء نقمت بالكسر أنقم- . و أرجأتما أخرتما أي نقمتما من أحوالي اليسير- و تركتما الكثير الذي ليس لكما- و لا لغيركما فيه مطعن فلم تذكراه- فهلا اغتفرتما اليسير للكثير- . و ليس هذا اعترافا بأن ما نقماه موضع الطعن و العيب- و لكنه على جهة الجدل و الاحتجاج- كما تقول لمن يطعن في بيت من شعر شاعر مشهور- لقد ظلمته إذ تتعلق عليه بهذا البيت- و تنسى ما له من المحاسن الكثيرة في غيره- . ثم ذكر وجوه العتاب و الاسترادة و هي أقسام- إما أن يكون لهما حق يدفعهما عنه- أو استأثر عليهما في قسم أو ضعف عن السياسة- أو جهل حكما من أحكام الشريعة أو أخطأ بابه- . فإن قلت أي فرق بين الأول و الثاني- قلت أما دفعهما عن حقهما فمنعهما عنه- سواء صار إليه ع أو إلى غيره- أو لم يصر إلى أحد بل بقي بحاله في بيت المال- .
و أما القسم الثاني فهو أن يأخذ حقهما لنفسه- و بين القسمين فرق ظاهر و الثاني أفحش من الأول- . فإن قلت فأي فرق بين قوله أم جهلته- أو أخطأت بابه- . قلت جهل الحكم أن يكون الله تعالى قد حكم بحرمة شيء- فأحله الإمام أو المفتي- و كونه يخطئ بابه هو أن يصيب في الحكم- و يخطئ في الاستدلال عليه- .
ثم أقسم أنه لم يكن له في الخلافة رغبة و لا إربة- بكسر الهمزة و هي الحاجة- و صدق ع فهكذا نقل أصحاب التواريخ- و أرباب علم السير كلهم- وروى الطبري في التاريخ و رواه غيره أيضا إن الناس غشوه و تكاثروا عليه يطلبون مبايعته- و هو يأبى ذلك و يقول دعوني و التمسوا غيري- فإنا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان- لا تثبت عليه العقول و لا تقوم له القلوب- قالوا ننشدك الله أ لا ترى الفتنة- أ لا ترى إلى ما حدث في الإسلام أ لا تخاف الله- فقال قد أجبتكم لما أرى منكم- و اعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم- و إن تركتموني فإنما أنا كأحدكم- بل أنا أسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه أمركم إليه- فقالوا ما نحن بمفارقيك حتى نبايعك- قال إن كان لا بد من ذلك ففي المسجد- فإن بيعتي لا تكون خفيا و لا تكون إلا عن رضا المسلمين- و في ملإ و جماعة- فقام و الناس حوله فدخل المسجد- و انثال عليه المسلمون فبايعوه و فيهم طلحة و الزبير- . قلت قوله إن بيعتي لا تكون خفيا- و لا تكون إلا في المسجد بمحضر من جمهور الناس- يشابه قوله بعد وفاة رسول الله ص- للعباس لما سامه مد يده للبيعة- إني أحب أن أصحر بها- و أكره أن أبايع من وراء رتاج- .
ثم ذكر ع أنه لما بويع عمل بكتاب الله و سنة رسوله- و لم يحتج إلى رأيهما و لا رأي غيرهما- و لم يقع حكم يجهله فيستشيرهما- و لو وقع ذلك لاستشارهما و غيرهما و لم يأنف من ذلك- . ثم تكلم في معنى التنفيل في العطاء- فقال إني عملت بسنة رسول الله ص في ذلك- و صدق ع فإن رسول الله ص سوى في العطاء بين الناس- و هو مذهب أبي بكر- . و العتبى الرضا- أي لست أرضيكما- بارتكاب ما لا يحل لي في الشرع ارتكابه- و الضمير في صاحبه و هو الهاء المجرورة يرجع إلى الجور- أي و كان عونا بالعمل على صاحب الجور
من أخبار طلحة و الزبير
قد تقدم منا ذكر ما عتب به طلحة و الزبير- على أمير المؤمنين ع- و أنهما قالا ما نراه يستشيرنا في أمر- و لا يفاوضنا في رأي و يقطع الأمر دوننا- و يستبد بالحكم عنا و كانا يرجوان غير ذلك- و أراد طلحة أن يوليه البصرة- و أراد الزبير أن يوليه الكوفة- فلما شاهدا صلابته في الدين و قوته في العزم- و هجره الادهان و المراقبة و رفضه المدالسة و المواربة- و سلوكه في جميع مسالكه منهج الكتاب و السنة- و قد كانا يعلمان ذلك قديما من طبعه و سجيته- و كان عمر قال لهما و لغيرهما- إن الأجلح إن وليها- ليحملنكم على المحجة البيضاء و الصراط المستقيم- وكان رسول الله صمن قبل- قال و إن تولوها عليا تجدوه هاديا مهديا- إلا أنه ليس الخبر كالعيان- و لا القول كالفعل و لا الوعد كالإنجاز- و حالا عنه و تنكرا له و وقعا فيه و عاباه و غمصاه- و تطلبا له العلل و التأويلات- و تنقما عليه الاستبداد و ترك المشاورة- و انتقلا من ذلك إلى الوقيعة فيه- بمساواة الناس في قسمة المال- و أثنيا على عمر و حمدا سيرته و صوبا رأيه- و قالا إنه كان يفضل أهل السوابق- و ضللا عليا ع فيما رآه- و قالا إنه أخطأ و إنه خالف سيرة عمر- و هي السيرة المحمودة التي لم تفضحها النبوة- مع قرب عهدنا منها و اتصالها بها- و استنجدا عليه بالرؤساء من المسلمين- كان عمر يفضلهم و ينفلهم في القسم على غيرهم- و الناس أبناء الدنيا و يحبون المال حبا جما- فتنكرت على أمير المؤمنين ع بتنكرهما قلوب كثيرة- و نغلت عليه نيات كانت من قبل سليمة- و لقد كان عمر موفقا حيث منع قريشا و المهاجرين- و ذوي السوابق من الخروج من المدينة- و نهاهم عن مخالطة الناس و نهى الناس عن مخالطتهم- و رأى أن ذلك أس الفساد في الأرض- و أن الفتوح و الغنائم قد أبطرت المسلمين- و متى بعد الرءوس و الكبراء منهم عن دار الهجرة- و انفردوا بأنفسهم و خالطهم الناس في البلاد البعيدة- لم يأمن أن يحسنوا لهم الوثوب- و طلب الإمرة و مفارقة الجماعة و حل نظام الألفة- و لكنه رضي الله عنه نقض هذا الرأي السديد- بما فعله بعد طعن أبي لؤلؤة له من أمر الشورى- فإن ذلك كان سبب كل فتنة وقعت- و تقع إلى أن تنقضي الدنيا- و قد قدمنا ذكر ذلك- و شرحنا ما أدى إليه أمر الشورى من الفساد- بما حصل في نفس كل من الستة من ترشيحه للخلافة- .
و روى أبو جعفر الطبري في تاريخه- قال كان عمر قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين- الخروج في البلدان إلا بإذن و أجل فشكوه فبلغه- فقام فخطب فقال ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير- يبدأ فيكون جذعا ثم ثنيا- ثم يكون رباعيا ثم سديسا ثم بازلا- ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان- ألا و إن الإسلام قد صار بازلا- و إن قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات- على ما في أنفسهم- ألا إن في قريش من يضمر الفرقة و يروم خلع الربقة- أما و ابن الخطاب حي فلا إني قائم دون شعب الحرة- آخذ بحلاقيم قريش و حجزها أن يتهافتوا في النار- . و قال أبو جعفر الطبري في التاريخ أيضا- فلما ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان عمر يأخذهم به- فخرجوا إلى البلاد فلما نزلوها و رأوا الدنيا- و رآهم الناس خمل من لم يكن له طول و لا قدم في الإسلام- و نبه أصحاب السوابق و الفضل فانقطع إليهم الناس- و صاروا أوزاعا معهم- و أملوهم و تقربوا إليهم- و قالوا يملكون فيكون لنا في ملكهم حظوة- فكان ذلك أول وهن على الإسلام- و أول فتنة كانت في العامة- .
و روى أبو جعفر الطبري عن الشعبي قال- لم يمت عمر حتى ملته قريش و قد كان حصرهم بالمدينة- و سألوه أن يأذن لهم في الخروج إلى البلاد- فامتنع عليهم و قال- إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد- حتى أن الرجل كان يستأذنه في غزو الروم أو الفرس- و هو ممن حبسه بالمدينة من قريش- و لا سيما من المهاجرين فيقول له- إن لك في غزوك مع رسول الله ص ما يكفيك و يبلغك و يحسبك- و هو خير لك من الغزو اليوم- و إن خيرا لك ألا ترى الدنيا و لا تراك- .
فلما مات عمر و ولي عثمان خلى عنهم- فانتشروا في البلاد و اضطربوا- و انقطع إليهم الناس و خالطوهم- فلذلك كان عثمان أحب إلى قريش من عمر- . فقد بان لك حسن رأي عمر في منع المهاجرين- و أهل السابقة من قريش من مخالطة الناس- و الخروج من المدينة- و بان لك أن عثمان أرخى لهم في الطول فخالطهم الناس- و أفسدوهم و حببوا إليهم الملك و الإمرة و الرئاسة- لا سيما مع الثروة العظيمة التي حصلت لهم- و الثراء مفسدة و أي مفسدة- و حصل لطلحة و الزبير من ذلك ما لم يحصل لغيرهما- ثروة و يسارا و قدما في الإسلام- و صار لهما لفيف عظيم من المسلمين يمنونهما الخلافة- و يحسنون لهما طلب الإمرة- لا سيما و قد رشحهما عمر لها- و أقامهما مقام نفسه في تحملها- و أي امرئ منى بها قط نفسه ففارقها حتى يغيب في اللحد- و لا سيما طلحة قد كان يحدث بها نفسه و أبو بكر حي- و يروم أن يجعلها فيه بشبهة أنه ابن عمه- و سخط خلافة عمر و قال لأبي بكر- ما تقول لربك و قد وليت علينا فظا غليظا- و كان له في أيام عمر قوم يجلسون إليه- و يحادثونه سرا في معنى الخلافة و يقولون له- لو مات عمر لبايعناك بغتة جلب الدهر علينا ما جلب- و بلغ ذلك عمر فخطب الناس بالكلام المشهور- أن قوما يقولون إن بيعة أبي بكر كانت فلتة- و إنه لو مات عمر لفعلنا و فعلنا- أما إن بيعة أبي بكر كانت فلتة إلا أن الله وقى شرها- و ليس فيكم من تقطع إليه الرقاب كأبي بكر- فأي امرئ بايع امرأ من غير مشورة من المسلمين- فإنهما بغرة أن يقتلا- فلما صارت إلى عثمان سخطها طلحة- بعد أن كان رضيها و أظهر ما في نفسه- و ألب عليه حتى قتل و لم يشك أن الأمر له- فلما صارت إلى علي ع حدث منه ما حدث- و آخر الدواء الكي- .و أما الزبير فلم يكن إلا علوي الرأي- شديد الولاء جاريا من الرجل مجرى نفسه- .
و يقال إنه ع لما استنجد بالمسلمين- عقيب يوم السقيفة و ما جرى فيه- و كان يحمل فاطمة ع ليلا على حمار- و ابناها بين يدي الحمار و هو ع يسوقه- فيطرق بيوت الأنصار و غيرهم- و يسألهم النصرة و المعونة أجابه أربعون رجلا- فبايعهم على الموت- و أمرهم أن يصبحوا بكرة محلقي رءوسهم و معهم سلاحهم- فأصبح لم يوافه منهم إلا أربعة- الزبير و المقداد و أبو ذر و سلمان- ثم أتاهم من الليل فناشدهم فقالوا نصبحك غدوة- فما جاءه منهم إلا أربعة و كذلك في الليلة الثالثة- و كان الزبير أشدهم له نصرة و أنفذهم في طاعته بصيرة- حلق رأسه و جاء مرارا و في عنقه سيفه و كذلك الثلاثة الباقون- إلا أن الزبير هو كان الرأس فيهم- و قد نقل الناس خبر الزبير لما هجم عليه ببيت فاطمة ع- و كسر سيفه في صخرة ضربت به- و نقلوا اختصاصه بعلي ع و خلواته به- و لم يزل مواليا له متمسكا بحبه و مودته- حتى نشأ ابنه عبد الله و شب- فنزع به عرق من الأم- و مال إلى تلك الجهة و انحرف عن هذه- و محبة الوالد للولد معروفة فانحرف الزبير لانحرافه- على أنه قد كانت جرت بين علي ع و الزبير هنات- في أيام عمر كدرت القلوب بعض التكدير- و كان سببها قصة موالي صفية- و منازعة علي للزبير في الميراث- فقضى عمر للزبير- فأذعن علي ع لقضائه بحكم سلطانه- لا رجوعا عما كان يذهب إليه- من حكم الشرع في هذه المسألة- و بقيت في نفس الزبير- على أن شيخنا أبا جعفر الإسكافي رحمه الله- ذكر في كتاب نقض العثمانية عن الزبير كلاما- إن صح فإنه يدل على انحراف شديد- و رجوع عن موالاة أمير المؤمنين ع- . قال تفاخر علي ع و الزبير- فقال الزبير أسلمت بالغا و أسلمت طفلا- و كنت أول من سل سيفا في سبيل الله بمكة- و أنت مستخف في الشعب يكفلك الرجال-و يمونك الأقارب من بني هاشم- و كنت فارسا و كنت راجلا- و في هيأتي نزلت الملائكة و أنا حواري رسول الله ص- .
قال شيخنا أبو جعفر و هذا الخبر مفتعل مكذوب- و لم يجر بين علي و الزبير شيء من هذا الكلام- و لكنه من وضع العثمانية- و لم يسمع به في أحاديث الحشوية و لا في كتب أصحاب السيرة- . و لعلي ع أن يقول طفل مسلم خير من بالغ كافر- و أما سل السيف بمكة فلم يكن في موضعه- و في ذلك قال الله تعالى- أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ الآية- و أنا على منهاج الرسول في الكف و الإقدام- و ليس كفالة الرجال و الأقارب بالشعب عارا علي- فقد كان رسول الله ص في الشعب يكفله الرجال و الأقارب- و أما حربك فارسا و حربي راجلا- فهلا أغنت فروسيتك يوم عمرو بن عبد ود في الخندق- و هلا أغنت فروسيتك يوم طلحة بن أبي طلحة في أحد- و هلا أغنت فروسيتك يوم مرحب بخيبر- ما كانت فرسك التي تحارب عليها في هذه الأيام- إلا أذل من العنز الجرباء- و من سلمت عليه الملائكة أفضل ممن نزلت في هيأته- و قد نزلت الملائكة في صورة دحية الكلبي- أ فيجب من ذلك أن يكون دحية أفضل مني- و أما كونك حواري رسول الله ص- فلو عددت خصائصي في مقابلة هذه اللفظة الواحدة لك- لاستغرقت الوقت و أفنيت الزمان- و رب صمت أبلغ من نطق- .
ثم نرجع إلى الحديث الأول- فتقول إن طلحة و الزبير لما أيسا من جهة علي ع-و من حصول الدنيا من قبله قلبا له ظهر المجن- فكاشفاه و عاتباه قبل المفارقة عتابا لاذعا- روى شيخنا أبو عثمان قال- أرسل طلحة و الزبير إلى علي ع- قبل خروجهما إلى مكة مع محمد بن طلحة- و قالا لا تقل له يا أمير المؤمنين- و لكن قل له يا أبا الحسن- لقد فال فيك رأينا و خاب ظننا- أصلحنا لك الأمر و وطدنا لك الإمرة- و أجلبنا على عثمان حتى قتل- فلما طلبك الناس لأمرهم- أسرعنا إليك و بايعناك- و قدنا إليك أعناق العرب- و وطئ المهاجرون و الأنصار أعقابنا في بيعتك- حتى إذا ملكت عنانك استبددت برأيك عنا- و رفضتنا رفض التريكة و أذلتنا إذالة الإماء- و ملكت أمرك الأشتر و حكيم بن جبلة و غيرهما- من الأعراب و نزاع الأمصار- فكنا فيما رجوناه منك- و أملناه من ناحيتك كما قال الأول-
فكنت كمهريق الذي في سقائه
لرقراق آل فوق رابية صلد
فلما جاء محمد بن طلحة أبلغه ذاك- فقال اذهب إليهما فقل لهما فما الذي يرضيكما- فذهب و جاءه فقال- إنهما يقولان ول أحدنا البصرة و الآخر الكوفة- فقال لاها الله إذن يحلم الأديم و يستشرى الفساد- و تنتقض على البلاد من أقطارها- و الله إني لا آمنهما و هما عندي بالمدينة- فكيف آمنهما و قد وليتهما العراقين- اذهب إليهما فقل أيها الشيخان- احذرا من سطوة الله و نقمته- و لا تبغيا للمسلمين غائلة و كيدا- و قد سمعتما قول الله تعالى- تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها- لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ- فقام محمد بن طلحة فأتاهما و لم يعد إليه و تأخرا عنه أياما- ثم جاءاه فاستأذناه في الخروج إلى مكة للعمرة- فأذن لهما بعد أن أحلفهماألا ينقضا بيعته- و لا يغدرا به و لا يشقا عصا المسلمين- و لا يوقعا الفرقة بينهم- و أن يعودا بعد العمرة إلى بيوتهما بالمدينة- فحلفا على ذلك كله ثم خرجا ففعلا ما فعلا- . و روى شيخنا أبو عثمان قال- لما خرج طلحة و الزبير إلى مكة- و أوهما الناس أنهما خرجا للعمرة- قال علي ع لأصحابه- و الله ما يريدان العمرة و إنما يريدان الغدرة- فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ- وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً- . و روى الطبري في التاريخ قال- لما بايع طلحة و الزبير عليا ع- سألاه أن يؤمرهما على الكوفة و البصرة- فقال بل تكونان عندي أتجمل بكما- فإنني أستوحش لفراقكما- . قال الطبري و قد كان قال لهما قبل بيعتهما له- إن أحببتما أن تبايعاني و إن أحببتما بايعتكما- فقالا لا بل نبايعك ثم قالا بعد ذلك- إنما بايعناه خشية على أنفسنا- و قد عرفنا أنه لم يكن ليبايعنا- ثم ظهرا إلى مكة و ذلك بعد قتل عثمان بأربعة أشهر- .
و روى الطبري أيضا في التاريخ قال- لما بايع الناس عليا و تم له الأمر- قال طلحة للزبير- ما أرى أن لنا من هذا الأمر إلا كحسة أنف الكلب- . و روى الطبري أيضا في التاريخ قال- لما بايع الناس عليا ع بعد قتل عثمان- جاء علي إلى الزبير فاستأذن عليه- قال أبو حبيبه مولى الزبير- فأعلمته به فسل السيف و وضعه تحت فراشه- و قال ائذن له فأذنت له- فدخل فسلم على الزبير و هو واقف ثم خرج- فقال الزبير لقد دخل لأمر ما قضاه- قم مقامه و انظر هل ترى منالسيف شيئا- فقمت في مقامه فرأيت ذباب السيف فأخبرته و قلت- إن ذباب السيف ليظهر لمن قام في هذا الموضع- فقال ذاك أعجل الرجل و روى شيخنا أبو عثمان قال- كتب مصعب بن الزبير إلى عبد الملك- من مصعب بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان- سلام عليك- فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد-
ستعلم يا فتى الزرقاء أني
سأهتك عن حلائلك الحجابا
و أترك بلدة أصبحت فيها
تهور من جوانبها خرابا
أما إن لله على الوفاء بذلك إلا أن تتراجع أو تتوب- و لعمري ما أنت كعبد الله بن الزبير و لا مروان كالزبير بن العوام- حواري رسول الله ص و ابن عمته- فسلم الأمر إلى أهله- فإن نجاتك بنفسك أعظم الغنيمتين و السلام- . فكتب إليه عبد الملك- من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين- إلى الذلول الذي أخطأ من سماه المصعب- سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو- أما بعد-
أ توعدني و لم أر مثل يومي
خشاش الطير يوعدن العقابا
متى تلق العقاب خشاش طير
يهتك عن مقاتلها الحجابا
أ توعد بالذئاب أسود غاب
و أسد الغاب تلتهم الذئابا
أما ما ذكرت من وفائك- فلعمري لقد وفى أبوك لتيم و عدي بعداء قريش و زعانفها- حتى إذا صارت الأمور إلى صاحبها عثمان- الشريف النسب الكريم الحسب بغاة الغوائل- و أعد له المخاتل حتى نال منه حاجته- ثم دعا الناس إلى علي و بايعه- فلمادانت له أمور الأمة و أجمعت له الكلمة- و أدركه الحسد القديم لبني عبد مناف- فنقض عهده و نكث بيعته بعد توكيدها- ف فَكَّرَ وَ قَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ- و تمزقت لحمه الضباع بوادي السباع- و لعمري إنك تعلم يا أخا بني عبد العزى بن قصي- أنا بنو عبد مناف لم نزل سادتكم- و قادتكم في الجاهلية و الإسلام- و لكن الحسد دعاك إلى ما ذكرت- و لم ترث ذلك عن كلالة بل عن أبيك- و لا أظن حسدك و حسد أخيك يئول بكما- إلا إلى ما آل إليه حسد أبيكما من قبل- وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ- .
و روى أبو عثمان أيضا قال- دخل الحسن بن علي ع على معاوية- و عنده عبد الله بن الزبير- و كان معاوية يحب أن يغري بين قريش- فقال يا أبا محمد أيهما كان أكبر سنا علي أم الزبير- فقال الحسن ما أقرب ما بينهما- و علي أسن من الزبير رحم الله عليا- فقال ابن الزبير رحم الله الزبير- و هناك أبو سعيد بن عقيل بن أبي طالب فقال- يا عبد الله و ما يهيجك من أن يترحم الرجل على أبيه- قال و أنا أيضا ترحمت على أبي- قال أ تظنه ندا له و كفؤا- قال و ما يعدل به عن ذلك كلاهما من قريش- و كلاهما دعا إلى نفسه و لم يتم له- قال دع ذاك عنك يا عبد الله- إن عليا من قريش و من الرسول ص حيث تعلم- و لما دعا إلى نفسه أتبع فيه و كان رأسا- و دعا الزبير إلى أمر و كان الرأس فيه امرأة- و لما تراءت الفئتان نكص على عقبيه- و ولى مدبرا قبل أن يظهر الحق فيأخذه- أو يدحض الباطل فيتركه- فأدركه رجل لو قيس ببعض أعضائه لكان أصغر- فضرب عنقه و أخذ سلبه و جاء برأسه- و مضى علي قدما كعادته مع ابن عمه رحم الله عليافقال ابن الزبير- أما لو أن غيرك تكلم بهذا يا أبا سعيد لعلم- فقال إن الذي تعرض به يرغب عنك- و كفه معاوية فسكتوا- . و أخبرت عائشة بمقالتهم و مر أبو سعيد بفنائها- فنادته يا أبا سعيد أنت القائل لابن أختي كذا- فالتفت أبو سعيد فلم ير شيئا- فقال إن الشيطان يرانا و لا نراه- فضحكت عائشة و قالت لله أبوك ما أذلق لسانك
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 11