و من كلام له عليه السّلام فى ذم أصحابه
أَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى مَا قَضَى مِنْ أَمْرٍ وَ قَدَّرَ مِنْ فِعْلٍ- وَ عَلَى ابْتِلَائِي بِكُمْ أَيَّتُهَا الْفِرْقَةُ الَّتِي إِذَا أَمَرْتُ لَمْ تُطِعْ- وَ إِذَا دَعَوْتُ لَمْ تُجِبْ- إِنْ أُمْهِلْتُمْ خُضْتُمْ وَ إِنْ حُورِبْتُمْ خُرْتُمْ- وَ إِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ طَعَنْتُمْ- وَ إِنْ أُجِئْتُمْ إِلَى مُشَاقَّةٍ نَكَصْتُمْ- . لَا أَبَا لِغَيْرِكُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ- وَ الْجِهَادِ عَلَى حَقِّكُمْ- الْمَوْتَ أَوِ الذُّلَّ لَكُمْ- فَوَاللَّهِ لَئِنْ جَاءَ يَومِي وَ لَيَأْتِيَنِّي لَيُفَرِّقَنَّ بَيْنِي وَ بَيْنِكُمْ- وَ أَنَا لِصُحْبَتِكُمْ قَالٍ وَ بِكُمْ غَيْرُ كَثِيرٍ- لِلَّهِ أَنْتُمْ أَ مَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ وَ لَا حَمِيَّةٌ تَشْحَذُكُمْ- أَ وَ لَيْسَ عَجَباً أَنَّ مُعَاوِيَةَ يَدْعُو الْجُفَاةَ الطَّغَامَ- فَيَتَّبِعُونَهُ عَلَى غَيْرِ مَعُونَةٍ وَ لَا عَطَاءٍ- وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ وَ أَنْتُمْ تَرِيكَةُ الْإِسْلَامِ- وَ بَقِيَّةُ النَّاسِ إِلَى الْمَعُونَةِ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَطَاءِ- فَتَفَرَّقُونَ عَنِّي وَ تَخْتَلِفُونَ عَلَيَّ- إِنَّهُ لَا يَخْرُجُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِي رِضًا فَتَرْضَوْنَهُ- وَ لَا سُخْطٌ فَتَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ- وَ إِنَّ أَحَبَّ مَا أَنَا لَاقٍ إِلَيَّ الْمَوْتُ- قَدْ دَارَسْتُكُمُ الْكِتَابَ وَ فَاتَحْتُكُمُ الْحِجَاجَ- وَ عَرَّفْتُكُمْ مَا أَنْكَرْتُمْ وَ سَوَّغْتُكُمْ مَا مَجَجْتُمْ- لَوْ كَانَ الْأَعْمَى يَلْحَظُ أَوِ النَّائِمُ يَسْتَيْقِظُ- وَ أَقْرِبْ بِقَوْمٍ مِنَ الْجَهْلِ بِاللَّهِ قَائِدُهُمْ مُعَاوِيَةُ- وَ مُؤَدِّبُهُمُ ابْنُ النَّابِغَةِ
اللغة
أقول: الخور: الضعف، و يحتمل أن يكون من الخوارج و هو الصياح.
و اجئتم: جذبتم، و دعيتم.
و نكص: رجع على عقبه.
و القالى: المبغض.
و الطعام: أوغاد الناس.
و التريكة: بيضة النعام.
و مجّه: ألقاه من فيه.
المعنى
و قد حمد اللّه تعالى على ما قضى و قدّر، و لمّا كان القضاء هو الحكم الإلهى بما يكون قال: على ما قضى من الأمر. لأنّ الأمر أعمّ أن يكون فعلا، و لمّا كان القدر هو تفصيل القضاء و إيجاد الأشياء على وفقه قال: و قدّر من فعل. و قوله: و على ابتلائى بكم. تخصيص لبعض ما قضى و قدّر. و قوله: إذا أمرت. إلى قوله: نكصتم. شرح لوجوه الابتلاء بهم، و حاصلها يعود إلى مخالفتهم له في جميع ما يريده منهم ممّا ينتظم به حالهم. و قوله: إلى مشاقّة. أى إلى مشاقّة عدوّ. و قوله: لا أبا لغيركم. دعاء بالذلّ لغيرهم، و فيه نوع تلطّف لهم، و الأصل لا أب، و الألف مزيدة إمّا لاستثقال توالى أربع حركات فأشبعوا الفتحة فانقلبت ألفا أو لأنّهم قصدوا الإضافة و أتوا باللام للتأكيد. ثمّ أقسم إن جاء يومه: أى وقت موته ليفرقنّ بينهم و بينه و هو تهديد لهم بفراقه و انشعاب امورهم بعده. و قوله: و ليأتينّى. حشوة لطيفة و أتى به مؤكّدة لأنّ إتيان الموت أمر محقّق، و كأنّه ردّ بها ما يقتضيه إن من الشكّ فحسنت هذه الحشوة بعدها. ثمّ أخذ في التضجّر منهم، و أخبرهم أنّه لصحبتهم مبغض، و أنّه غير كثير بهم لأنّ الكثرة إنّما تراد للمنفعة فحيث لا منفعة فكأنّه لا كثرة. و قوله: للّه أنتم. جملة اسميّة فيها معنى التعجّب من حالهم، و مثله للّه أبوك و للّه درّك. ثمّ أخذ في استفهامهم عمّا يدّعون أنّه موجود فيهم، و هو الدين و الحميّة و الأنفة، و من شأن الدين أن يجمع على إنكار المنكر، و الحميّة أن تشحذ و تثير القوّة الغضبيّة لمقاومة العدوّ استفهاما على سبيل العيب و الإنكار عليهم. و قوله: أ و ليس عجبا. إلى قوله: و تختلفون علىّ. استفهام لتقرير التعجّب من حاله معهم في تفرّقهم عنه حتّى عند الدعوة إلى العطاء، و من حال معاوية مع قومه في اجتماعهم عليه من غير معونة و لاعطاء.
فإن قلت: المشهور أنّ معاوية إنّما استجلب من استجلب من العرب بالأموال و الرغائب فلم قال: فيتّبعونه على غير معونة و لا عطاء قلت: إنّ معاوية لم يكن يعطى جنده على وجه المعونة و العطاء المتعارف بين الجند، و إنّما كان يعطى رؤساء القبائل من اليمن و الشام الأموال الجليلة ليستعبدهم بها و اولئك الرؤساء يدعون أتّباعهم من العرب فيطيعونهم. فصادق إذن أنّهم يتّبعونه على غير معونة و عطاء، و أمّا هو عليه السّلام فإنّه كان يقسّم بيوت الأموال بالسويّة بين الأتباع و الرؤساء على وجه الرزق و العطاء، لا يرى لشريف على مشروف فضلا، و كان أكثر من يقعد عن نصرته من الرؤساء لما يجدونه في أنفسهم من أمر المساواة بينهم و بين الأتباع، و إذا أحسّ الأتباع بذلك تخاذلوا أيضا متابعة لرؤسائهم. و المعونة هى ما يعطى للجند في وقت الحاجة لترميم أسلحتهم و إصلاح دوابّهم و هو خارج عن العطاء المفروض شهراً فشهراً، و استعار لهم لفظ التريكة، و وجه المشابهة أنّهم خلف الإسلام و بقيّة أهله كالبيضة الّتي تتركها النعامة. و قوله: إنّه لا يخرج. إلى قوله: فترضونه. أى إنّه لا يخرج إليكم من أمرى أمر من شأنه أن يرضى به أو يسخط منه فترضونه و تجتمعون عليه بل لا بدّ لكم من التفرّق و المخالفة على الحالين. ثمّ نبّههم على سوء صنيعهم معه بأنّ أحبّ الأشياء إليه الموت. و قد لاحظ هذه الحال أبو الطيّب فقال:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا و حسب المنايا أن تكون أمانيا
تمنّيتها لمّا تمنّيت أن أرى
صديقا فأعيا أو عدوّا مداجيا
و قوله: قد دارستكم الكتاب. إلى قوله: مججتم. إشارة إلى وجوه الامتنان عليهم و هى مدارستهم الكتاب: أى تعليمه، و مفاتحتهم الحجاج: أى مماراتهم و تعريفهم وجوه الاحتجاج، و تعريفهم ما أنكروه: أى الامور المجهولة لهم، و تسويغهم ما مجّوه. و استعار وصف التسويغ إمّا لإعطائه لهم العطيّات و الأرزاق الّتي كانوا يحرمونها من يد غيره لو كان كمعاوية، و إمّا لإدخاله العلوم في أفواه أذهانهم، و كذلك لفظ المجّ إمّا لحرمانهم من يد غيره أو لعدم العلوم عن أذهانهم و نبوّ أفهامهم عنها فكأنّهم ألقوها لعدم صلوحها للإساغة، و وجه الاستعارتين ظاهر. و قوله: لو كان الأعمى. إلى قوله: يستيقظ. إشارة إلى أنّهم جهّال لا يلحظون بأعين بصائرهم ما أفادهم من العلوم، و غافلون لا يستيقظون من سنة غفلتهم بما أيقظهم به من المواعظ أو غيرها، و لفظ الأعمى و النائم مستعاران، و القوم في قوله: و أقرب بقوم. هم أهل الشام. و هو تعجّب من شدّة قربهم من الجهل باللّه. إذ كان قائدهم في الطريق معاويه و مؤدّبهم ابن النابغة: أى عمرو بن العاص و هو رئيسهم رئيس المنافقين و أهل الغدر و الخداع، و إذا كان الرئيس القائد و المؤدّب في تلك الطريق من الجهل و الفجور بحال الرجلين المشار إليهما فما أقرب أتباعهما من البعد عن اللّه و الجهل به. و أقرب: صيغة التعجّب.
و قائدهم معاوية: جملة اسميّة محلّها الجرّ صفة لقوم. و فصّل بين الموصوف و الصفة بالجار و المجرور كما في قوله تعالى «وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ»«» فمحلّ مردوا الرفع صفة المنافقون، و فصّل بينهما بقوله: و من أهل المدينة، و الغرض من ذكرهم و وصفهم بما وصف التنفير عنهم.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 375