و من خطبة له عليه السّلام
لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ وَ لَا يُغَيِّرُهُ زَمَانٌ- وَ لَا يَحْوِيهِ مَكَانٌ وَ لَا يَصِفُهُ لِسَانٌ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ عَدَدُ قَطْرِ الْمَاءِ وَ لَا نُجُومِ السَّمَاءِ- وَ لَا سَوَافِي الرِّيحِ فِي الْهَوَاءِ- وَ لَا دَبِيبُ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا- وَ لَا مَقِيلُ الذَّرِّ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ- يَعْلَمُ مَسَاقِطَ الْأَوْرَاقِ وَ خَفِيَّ طَرْفِ الْأَحْدَاقِ- وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ غَيْرَ مَعْدُولٍ بِهِ- وَ لَا مَشْكُوكٍ فِيهِ وَ لَا مَكْفُورٍ دِينُهُ- وَ لَا مَجْحُودٍ تَكْوِينُهُ شَهَادَةَ مَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ- وَ صَفَتْ دِخْلَتُهُ وَ خَلَصَ يَقِينُهُ وَ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ الَمْجُتْبَىَ مِنْ خَلَائِقِهِ- وَ الْمُعْتَامُ لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ
وَ الْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ كَرَامَاتِهِ- وَ الْمُصْطَفَى لِكَرَائِمِ رِسَالَاتِهِ- وَ الْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ الْهُدَى وَ الْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِيبُ الْعَمَى أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الدُّنْيَا تَغُرُّ الْمُؤَمِّلَ لَهَا وَ الْمُخْلِدَ إِلَيْهَا- وَ لَا تَنْفَسُ بِمَنْ نَافَسَ فِيهَا وَ تَغْلِبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا- وَ ايْمُ اللَّهِ مَا كَانَ قَوْمٌ قَطُّ فِي غَضِّ نِعْمَةٍ مِنْ عَيْشٍ- فَزَالَ عَنْهُمْ إِلَّا بِذُنُوبٍ اجْتَرَحُوهَا- لِ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَ لَوْ أَنَّ النَّاسَ حِينَ تَنْزِلُ بِهِمُ النِّقَمُ وَ تَزُولُ عَنْهُمُ النِّعَمُ- فَزِعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِصِدْقٍ مِنْ نِيَّاتِهِمْ وَ وَلَهٍ مِنْ قُلُوبِهِمْ- لَرَدَّ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَارِدٍ وَ أَصْلَحَ لَهُمْ كُلَّ فَاسِدٍ- وَ إِنِّي لَأَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا فِي فَتْرَةٍ- وَ قَدْ كَانَتْ أُمُورٌ مَضَتْ مِلْتُمْ فِيهَا مَيْلَةً- كُنْتُمْ فِيهَا عِنْدِي غَيْرَ مَحْمُودِينَ- وَ لَئِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ إِنَّكُمْ لَسُعَدَاءُ وَ مَا عَلَيَّ إِلَّا الْجُهْدُ- وَ لَوْ أَشَاءُ أَنْ أَقُولَ لَقُلْتُ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ أقول: هذه الخطبة خطب بها بعد مقتل عثمان في أوّل خلافته.
اللغة
و الدخلة بالكسر و الضمّ: باطن الشيء.
و المعتام: المختار.
و عقائل الشيء: نفايسه.
و أشراط الهدى: علاماته.
و الغربيب: الأسود.
و المخلد إليها: المسلّم إليها اموره.
و لا تنفس: لا تضنّ و لا تبخل.
و غضّ النعمة: طريفها.
المعنى
و صدّر الخطبة بالإشارة إلى اعتبارات توحيديّة: الأوّل: أنّه لا يشغله شأن عن شأن، و ذلك لأنّ الشغل عن الشيء إمّا لقصور القدرة أو العلم، و قدرته تعالى و علمه المحيطان بكلّ مقدور و معلوم فإذن لا يشغله مقدور عن مقدور و لا معلوم عن معلوم، و تقرير هاتين المسألتين في الكتب الكلاميّة و الحكميّة. الثاني: لا يغيّره زمان، و إذ ثبت أنّه تعالى خالق الزمان، و لا زمان يلحقه.
فلا تغيّر يلحقه، و لأنّه واجب الوجود، و لا شيء من المتغيّر في ذاته أو صفاته بواجب الوجود. فلا شيء منه يلحقه التغيّر. الثالث: و لا يحويه مكان لبراءته عن الجسميّة و لواحقها، و كلّما كان كذلك فهو برىء عن المكان و لواحقه فينتج أنّه برىء من المكان و لواحقه. الرابع: و لا يصفه لسان: أى لا يعبر اللسان عن حقيقة وصفه، و بيان ما هو ذلك أنّه تعالى منزّه عن ركوب [وجوه خ] التراكيب فمحال أن يقع العقول على حقيقة وصفه فكيف باللسان الّذي هو المعبّر عنها. الخامس: و لا يعزب عنه عدد قطر الماء. إلى قوله: الأحداق، و هو إشارة إلى إحاطة علمه المقدّس بكلّيّات الأمور و جزئيّاتها، و هذه مسئلة عظيمة حارت العقول، و قد أشرنا إليها في المختصر الموسوم بالقواعد الإلهيّة.
ثمّ عقّب هذا التنزيه بالشهادة بكلمة التوحيد، و ذكر للّه تعالى أحوالا شهد بوحدانيّته عليها: الأوّل: كونه غير معدول به: أى لا عديل له و لا مثل.
الثاني: و لا مشكوك فيه: أى في وجوده فإنّ ذلك ينافي الشهادة بوحدانيّته.
الثالث: و لا مكفور دينه لأنّ الجحود لدينه يستلزم النقصان في معرفته فكان الاعتراف به كمالا لمعرفته و للشهادة بوحدانيّته.
الرابع: و لا مجحود تكوينه: أى إيجاده للموجودات و كونه ربّا لها. ثمّ عقّب وصف المشهود له حال تلك الشهادة بأوصاف الشاهد بها باعتبار شهادته: و هى كونه صادق النيّة في تلك الشهادة: أى باعتقاد جازم، و صافي الدخلة: أى نقىّ الباطن من الرياء و النفاق، و خالص اليقين بوجود المشهود أو كمال وحدانيّته من الشكوك و الشبهات فيه، و ثقيل الموازين بكمال تلك الشهادة و القيام بحقوقها من سائر الأعمال الصالحات، و أردفها باختها و ذكر للمشهود بحقّية رسالته أوصافا:
أحدها: كونه مجتبى من الخلايق و مصطفى منهم، و ذلك يعود إلى إكرامه بإعداد نفسه لقبول أنوار النبوّة. الثاني: و المعتام لشرح حقايقه: أى لإيضاح ما خفى من الحقائق الإلهيّة و الشرعيّة الّتى بيّنها. الثالث: المختصّ بنفايس كرامته، و هى الكمالات النفسانيّة من العلوم و مكارم الأخلاق الّتي اقتدر معها على تكميل الناقصين. الرابع: و المصطفى لكرائم رسالاته: أى لرسالاته الكريمة. و تعديدها باعتبار تعداد نزول الأوامر عليه فإنّ كلّ أمر أمر بتبليغه إلى الخلق رسالة كريمة. الخامس: الموضّحة به أعلام الهدى، و هى قوانين الشريعة و دلالات الكتاب و السنّة. السادس: و المجلوّ به غربيب العمى، و استعار لفظ الغربيب لشدّة ظلمة الجهل، و لفظ الجلاء لزوال تلك الظلم بأنوار النبوّة. ثمّ أيّه بالناس منبّها لهم على مقابح الدنيا و مذامّها. منها: تغرّ المؤمّل لها و الراكن إليها. و ذلك أنّ المؤمّل لبعض مطالبها لا يزال يتجدّد له أمارات خياليّة على مطالب و هميّة و أنّها ممكنة التحصيل نافعة فتوجب له مدّ الأمل، و قد يخترم دون بلوغها، و قد ينكشف بطلان تلك الأمارات بعد العناء الطويل، و منها: أنّها لا تنفس على من نافس فيها و أحبّها بل تسمح به للمهالك و ترميه بغرايب من النوايب، و منها: أنّها تغلب على من غلب عليها: أى من ملكها و أخذها بالغلبة فعن قريب تقهره و تهلكه، و الأوصاف المذكورة الّتى من شأنها أن تكون للعدوّ القوىّ الداهى و هى كونها تغرّ المؤمّل لها و تغلب مغالبها و لا تبقى على محبّها مستعارة، و وجه المشابهة استلزام الكون فيها و الاغترار بها و محبّتها و التملّك لها الهلاك فيها و في الآخرة كاستلزام الغرور بالعدوّ الداهى الّذي لا يحبّ أحدا و الركون إليه الهلاك.
ثمّ أخذ عليه السّلام في التنبيه على وجوب شكر المنعم و استدراكها بالفزع إلى اللّه، و أقسم أنّ زوالها عنهم ليس إلّا بذنوب اجترحوها، و ذلك إشارة إلى أنّ الذنوب تعدّلزوال النعم و حلول النقم لأنّهم لو استحقّوا إفاضة النعم مع الذنوب لكان منعهم إيّاها منعا للمستحقّ المستعدّ، و ذلك عين الظلم و هو من الجود الإلهي محال كما قال تعالى «وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»«» و إلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ»«» أى يستعدّوا للتغيّر بالمعاصى.
و قوله: و لو أنّ الناس. إلى قوله: كلّ فاسد. إشارة إلى أنّ الفزع إلى اللّه بصدق النيّة و وله القلب و تحيّره و ذهوله عن كلّ شيء سوى اللّه يعدّ الإعداد التامّ لإفاضة المطالب سواء كانت عود نعمة أو استحداثها أو زوال نقمة أو استنزالها على عدوّ. و ردّ الشارد: أى من النعم، و إصلاح الفاسد: أى من سائر الأحوال.
و قوله: و إنّى لأخشى عليكم أن تكونوا في فترة. كنّى بالفترة عن أمر الجاهليّة كناية بالمجاز إطلاقا لاسم الظرف على المظروف: أى أخشى أن يكون أحوالهم [لكم خ] أحوال الجاهليّة في التعصّبات الباطلة بحسب الأهواء المختلفة. و قوله: و قد كانت امور. إلى قوله: محمودين. قالت الإماميّة: تلك الامور الّتي مالوا فيها هى تقديمهم عليه من سبق من الأئمّة، و قال غيرهم: هى حركاتهم و ميلهم عليه في تقديم عثمان وقت الشورى، و اختيارهم له و ما جرى فيها من الأقوال و الأفعال. و قوله: و لئن ردّ عليكم أمركم. أى صلاح أحوالكم و استقامة سيرتكم الّتي كنتم عليها في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم إنّكم لسعداء عند اللّه و في الدنيا. و ما علىّ إلّا الجهد: أى في عود ذلك الأمر عليكم. و قوله: و لو أشاء أن أقول لقلت. يفهم منه أنّه لو قال لكان مقتضى قوله نسبة من تقدّم عليه إلى الظلم له و تخطئهم في التقدّم عليه، و ذكر معايب يقتضى وجوب تأخّرهم في نظره. و تقدير الكلام: و لكنّى لا أقول فلم أكن مريدا للقول. و قوله: عفا اللّه عمّا سلف. إشارة إلى مسامحته لهم بما سبق منهم. إذ العادة جارية بأن يقول الإنسان مثل ذلك فيما تسامح به غيره من الذنوب، و أحسن العبارات في ذلك لفظ القرآن الكريم فيقتبس في الكلام. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحهى 369