و من خطبة له عليه السلام
أَيُّهَا النَّاسُ غَيْرُ الْمَغْفُولِ عَنْهُمْ- وَ التَّارِكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ- مَا لِي أَرَاكُمْ عَنِ اللَّهِ ذَاهِبِينَ وَ إِلَى غَيْرِهِ رَاغِبِينَ- كَأَنَّكُمْ نَعَمٌ أَرَاحَ بِهَا سَائِمٌ إِلَى مَرْعًى وَبِيٍّ وَ مَشْرَبٍ دَوِيٍّ- وَ إِنَّمَا هِيَ كَالْمَعْلُوفَةِ لِلْمُدَى لَا تَعْرِفُ مَا ذَا يُرَادُ بِهَا- إِذَا أُحْسِنَ إِلَيْهَا تَحْسَبُ يَوْمَهَا دَهْرَهَا وَ شِبَعَهَا أَمْرَهَا- وَ اللَّهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ- بِمَخْرَجِهِ وَ مَوْلِجِهِ وَ جَمِيعِ شَأْنِهِ لَفَعَلْتُ- وَ لَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فِيَّ بِرَسُولِ اللَّهِ ص- أَلَا وَ إِنِّي مُفْضِيهِ إِلَى الْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذَلِكَ مِنْهُ- وَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ وَ اصْطَفَاهُ عَلَى الْخَلْقِ- مَا أَنْطِقُ إِلَّا صَادِقاً- وَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَ بِمَهْلِكِ مَنْ يَهْلِكُ- وَ مَنْجَى مَنْ يَنْجُو وَ مَآلِ هَذَا الْأَمْرِ- وَ مَا أَبْقَى شَيْئاً يَمُرُّ عَلَى رَأْسِي إِلَّا أَفْرَغَهُ فِي أُذُنَيَّ- وَ أَفْضَى بِهِ إِلَيَّ- أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي وَ اللَّهِ مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ- إِلَّا وَ أَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا- وَ لَا أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا وَ أَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا
اللغة
أقول: السائم: الراعى.
و الوبىّ: محلّ الوباء.
و الدوىّ: محلّ الداء.
و المدى: جمع مدية، و هي السكين.
المعنى
و الخطاب عامّ. و كونهم غافلين: أى عمّا يراد بهم من أمر الآخرة، و غير مغفول عنهم: أى أنّ أعمالهم محصّلة في اللوح المحفوظ. و تاركين: أى لما امروا به من الطاعة، المأخوذ منهم: أى منتقص من أعمارهم و قيناتهم الدنيويّة من مال و أهل. ثمّ نبّههم على ذهابهم عن اللّه و هو التفاتهم عن طاعته و رغبتهم في غيره و هو الحياة الدنيا و زينتها. ثمّ شبّههم في ذلك بالنعم الّتي أراح بها راعيها إلى مرعى كثير الوباء و الداء. و وجه الشبه أنّهم لغفلتهم كالنعم و نفوسهم الأمّارة بالسوء القائدة لهم إلى المعاصى كالراعى القائد إلى المرعى الوبيّ و لذّات الدنيا و مشتهياتها، و كون تلك اللذّات و المشتهيات محلّ الآثام الّتي هي مظنّة الهلاك الاخروىّ و الداء الدويّ تشبه المرعى الوبيّ و المشرب الدوىّ. و قوله: و إنّما هي كالمعلوفة. تشبيه آخر لهم بمعلوفة النعم، و وجه الشبه أنّهم لعنايتهم بلذّات الدنيا من المطاعم و المشارب كالنعم المعتنى بعلفها، و كون ذلك التلذّذ غايته الموت تشبه غاية المعلوفة و هي الذبح، و كونهم غافلين من غاية الموت و ما يراد بهم يشبه غفلة النعم عن غايتها من الذبح، و كونهم يظنّون أنّ الإحسان إليهم ببسط اللذّات الدنيويّة في بعض الأوقات دائم في جميع أوقاتهم و، أنّ شبعهم في هذه الحياة و ريّهم هو غايتهم الّتي خلقوا لأجلها و تمام أمرهم يشبه غفلة النعم في حال حضور علفها في بعض الأوقات عمّا بعده من الأوقات و توهّمها أنّ ذلك غايتها الّتي خلقت لأجلها، و وجه هذا الشبه مركّب من هذه الوجوه. ثمّ أقسم أنّه لو شاء لأخبر كلّ رجل منهم بمواضع تصرّفاته و حركاته و جميع أحواله. و هو كقول المسيح عليه السّلام: و أنبّئكم بما تأكلون و ما تدّخرون في بيوتكم.«» و قد علمت إمكان ذلك العلم و سببه في حقّ الأنبياء و الأولياء في مقدّمة الكتاب. و قوله: و لكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم. أى أخاف أن تغلوا في أمرى، و تفضّلوني على رسول اللّه. بل كان يخاف أن يكفروا فيه باللّه كما ادّعت النصارى في المسيح حيث أخبرهم بالأمور الغايبة. ثمّ قال: ألا و إنّى مفضيه إلى الخاصّة: أى أهل العلم و الثبات من أصحابه ممّن يؤمن ذلك الكفر منه، و هكذا شأن العلماء و أساطين الحكمة رأيهم أن لا يضعو العلم إلّا في أهله. هذا مع أنّ من الناس من يدّعى فيه النبوّة و أنّه شريك محمّد في الرسالة، و منهم من ادّعى أنّه إله، و هو الّذي أرسل محمّدا. إلى غير ذلك من الضلال. و فيه يقول بعض شعرائهم:
و من أهلك عادا و ثمود بدوا هيه و من كلّم موسى فوق طور إذ يناديه
و من قال على المنبر يوما و هو راقيه سلونى أيّها الناس. فحاروا في معانيه
و قول الآخر:
إنّما خالق الخلائق من زعزع أركان خيبر جذبا
قد رضينا به إماما و مولى و سجدنا له إلها و ربّا
ثمّ أقسم أنّه ما نطق إلّا صادقا فيما يخبر به من هذه الامور، و أخبر أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم عهد إليه بذلك و بمهلك من يهلك. إلى قوله: و أفضى به إلىّ: أى ألقاه إلىّ و أعلمنى به. و ذلك التعليم منه ما يكون على وجه جزئىّ أعنى أن يخبره بواقعة واقعة، و منه ما يكون على وجه كلّىّ: أى يلقى إليه اصولا كلّيّة يعدّ ذهنه بها لاستفاضته الصور الجزئيّة من واهب الصور كما سبق تقريره. و ممّا نقل عنه من ذلك في بعض خطبته الّتى يشير فيها إلى الملاحم يؤمى به إلى القرامطة: ينتحلون لنا الحبّ و الهوى و يضمرون لنا البغض و القلى و آية ذلك قتلهم ورّاثنا و هجرهم أحداثنا. و صحّ ما أخبر عنه لأنّ القرامطة قتلت من آل أبى طالب خلقا كثيرا. و أسماؤهم مذكورة في كتاب مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج الإصبهانىّ.
قال بعض الشارحين: و من هذه الخطبة- و هو يشير إلى السارية الّتي كانت
يستند إليها في مسجد الكوفة- : كأنّى بالحجر الأسود منصوبا هاهنا و يحهم إنّ فضيلته ليست في نفسه بل في موضعه و أنّه يمكث هاهنا مدّة ثمّ هاهنا مدّة- و أشار إلى مواضع- ثمّ يعود إلى ما وراءه و يأمّ مثواه. و وقع من القرامطة في الحجر الأسود بموجب ما أخبر به عليه السّلام.
و أقول: في هذا النقل نظر لأنّ المشهور أنّ القرامطة نقلوا الحجر الأسود إلى أرض البحرين، و بنوا له موضعا وضعوه فيه يسمّى إلى الآن بالكعبة، و بقى هناك مدّة ثمّ أعيد إلى مكّة، و روي أنّه مات في المجيء به خمسة و عشرون بعيرا و عاد به إلى مكّة بعير ليس بالقوىّ، و ذلك من أسرار دين اللّه تعالى، و لم ينقل أنّهم نقلوه مرّتين، و اللّه أعلم.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 346