و من خطبة له عليه السّلام يذكر فيها عجيب خلقة الطاوس
القسم الأول
ابْتَدَعَهُمْ خَلْقاً عَجِيباً مِنْ حَيَوَانٍ وَ مَوَاتٍ- وَ سَاكِنٍ وَ ذِي حَرَكَاتٍ- وَ أَقَامَ مِنْ شَوَاهِدِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى لَطِيفِ صَنْعَتِهِ- وَ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ- مَا انْقَادَتْ لَهُ الْعُقُولُ مُعْتَرِفَةً بِهِ وَ مَسَلِّمَةً لَهُ- وَ نَعَقَتْ فِي أَسْمَاعِنَا دَلَائِلُهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ- وَ مَا ذَرَأَ مِنْ مُخْتَلِفِ صُوَرِ الْأَطْيَارِ- الَّتِي أَسْكَنَهَا أَخَادِيدَ الْأَرْضِ- وَ خُرُوقَ فِجَاجِهَا وَ رَوَاسِيَ أَعْلَامِهَا- مِنْ ذَاتِ أَجْنِحَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَ هَيْئَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ- مُصَرَّفَةٍ فِي زِمَامِ التَّسْخِيرِ- وَ مُرَفْرِفَةٍ بِأَجْنِحَتِهَا فِي مَخَارِقِ الْجَوِّ الْمُنْفَسِحِ- وَ الْفَضَاءِ الْمُنْفَرِجِ- كَوَّنَهَا بَعْدَ إِذْ لَمْ تَكُنْ فِي عَجَائِبِ صُوَرٍ ظَاهِرَةٍ- وَ رَكَّبَهَا فِي حِقَاقِ مَفَاصِلَ مُحْتَجِبَةٍ- وَ مَنَعَ بَعْضَهَا بِعَبَالَةِ خَلْقِهِ أَنْ يَسْمُوَ فِي الْهَوَاءِ خُفُوفاً- وَ جَعَلَهُ يَدِفُّ دَفِيفاً- وَ نَسَقَهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي الْأَصَابِيغِ بِلَطِيفِ قُدْرَتِهِ- وَ دَقِيقِ صَنْعَتِهِ- فَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي قَالَبِ لَوْنٍ لَا يَشُوبُهُ غَيْرُ لَوْنِ مَا غُمِسَ فِيهِ- وَ مِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي لَوْنِ صِبْغٍ قَدْ طُوِّقَ بِخِلَافِ مَا صُبِغَ بِهِ وَ مِنْ أَعْجَبِهَا خَلْقاً الطَّاوُسُ- الَّذِي أَقَامَهُ فِي أَحْكَمِ تَعْدِيلٍ- وَ نَضَّدَ أَلْوَانَهُ فِي أَحْسَنِ تَنْضِيدٍ- بِجَنَاحٍ أَشْرَجَ قَصَبَهُ وَ ذَنَبٍ أَطَالَ مَسْحَبَهُ- إِذَا دَرَجَ إِلَى الْأُنْثَى نَشَرَهُ مِنْ طَيِّهِ- وَ سَمَا بِهِ مُطِلًّا عَلَى رَأْسِهِ- كَأَنَّهُ قِلْعُ دَارِيٍّ عَنَجَهُ نُوتِيُّهُ- يَخْتَالُ بِأَلْوَانِهِ وَ يَمِيسُ بِزَيَفَانِهِ- يُفْضِي كَإِفْضَاءِ الدِّيَكَةِ- وَ يَؤُرُّ بِمَلَاقِحِهِ أَرَّ الْفُحُولِ الْمُغْتَلِمَةِ لِلضِّرَابِ- أُحِيلُكَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مُعَايَنَةٍ- لَا كَمَنْ يُحِيلُ عَلَى ضَعِيفٍ إِسْنَادُهُ- وَ لَوْ كَانَ كَزَعْمِ مَنْ يَزْعُمُ- أَنَّهُ يُلْقِحُ بِدَمْعَةٍ تَسْفَحُهَا مَدَامِعُهُ- فَتَقِفُ فِي ضَفَّتَيْ جُفُونِهِ- وَ أَنَّ أُنْثَاهُ تَطْعَمُ ذَلِكَ- ثُمَّ تَبِيضُ لَا مِنْ لِقَاحِ فَحْلٍ سِوَى الدَّمْعِ الْمُنْبَجِسِ- لَمَا كَانَ ذَلِكَ بِأَعْجَبَ مِنْ مُطَاعَمَةِ الْغُرَابِ تَخَالُ قَصَبَهُ مَدَارِيَ مِنْ فِضَّةٍ- وَ مَا أُنْبِتَ عَلَيْهَا مِنْ عَجِيبِ دَارَاتِهِ- وَ شُمُوسِهِ خَالِصَ الْعِقْيَانِ وَ فِلَذَ الزَّبَرْجَدِ- فَإِنْ شَبَّهْتَهُ بِمَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ- قُلْتَ جَنًى جُنِيَ مِنْ زَهْرَةِ كُلِّ رَبِيعٍ- وَ إِنْ ضَاهَيْتَهُ بِالْمَلَابِسِ فَهُوَ كَمَوْشِيِّ الْحُلَلِ- أَوْ كَمُونِقِ عَصْبِ الْيَمَنِ- وَ إِنْ شَاكَلْتَهُ بِالْحُلِيِّ فَهُوَ كَفُصُوصٍ ذَاتِ أَلْوَانٍ- قَدْ نُطِّقَتْ بِاللُّجَيْنِ الْمُكَلَّلِ- يَمْشِي مَشْيَ الْمَرِحِ الْمُخْتَالِ وَ يَتَصَفَّحُ ذَنَبَهُ وَ جَنَاحَيْهِ فَيُقَهْقِهُ ضَاحِكاً لِجَمَالِ سِرْبَالِهِ وَ أَصَابِيغِ وِشَاحِهِ- فَإِذَا رَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى قَوَائِمِهِ- زَقَا مُعْوِلًا بِصَوْتٍ يَكَادُ يُبِينُ عَنِ اسْتِغَاثَتِهِ- وَ يَشْهَدُ بِصَادِقِ تَوَجُّعِهِ- لِأَنَّ قَوَائِمَهُ حُمْشٌ كَقَوَائِمِ الدِّيَكَةِ الْخِلَاسِيَّةِ وَ قَدْ نَجَمَتْ مِنْ ظُنْبُوبِ سَاقِهِ صِيصِيَةٌ خَفِيَّةٌ- وَ لَهُ فِي مَوْضِعِ الْعُرْفِ قُنْزُعَةٌ خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ- وَ مَخْرَجُ عَنُقِهِ كَالْإِبْرِيقِ- وَ مَغْرِزُهَا إِلَى حَيْثُ بَطْنُهُ كَصِبْغِ الْوَسِمَةِ الْيَمَانِيَّةِ- أَوْ كَحَرِيرَةٍ مُلْبَسَةٍ مِرْآةً ذَاتَ صِقَالٍ- وَ كَأَنَّهُ مُتَلَفِّعٌ بِمِعْجَرٍ أَسْحَمَ- إِلَّا أَنَّهُ يُخَيَّلُ لِكَثْرَةِ مَائِهِ وَ شِدَّةِ بَرِيقِهِ- أَنَّ الْخُضْرَةَ النَّاضِرَةَ مُمْتَزِجَةٌ بِهِ- وَ مَعَ فَتْقِ سَمْعِهِ خَطٌّ كَمُسْتَدَقِّ الْقَلَمِ فِي لَوْنِ الْأُقْحُوَانِ- أَبْيَضُ يَقَقٌ فَهُوَ بِبَيَاضِهِ فِي سَوَادِ مَا هُنَالِكَ يَأْتَلِقُ- وَ قَلَّ صِبْغٌ إِلَّا وَ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ بِقِسْطٍ- وَ عَلَاهُ بِكَثْرَةِ صِقَالِهِ وَ بَرِيقِهِ- وَ بَصِيصِ دِيبَاجِهِ وَ رَوْنَقِهِ- فَهُوَ كَالْأَزَاهِيرِ الْمَبْثُوثَةِ لَمْ تُرَبِّهَا أَمْطَارُ رَبِيعٍ- وَ لَا شُمُوسُ قَيْظٍ وَ قَدْ يَنْحَسِرُ مِنْ رِيشِهِ وَ يَعْرَى مِنْ لِبَاسِهِ- فَيَسْقُطُ تَتْرَى وَ يَنْبُتُ تِبَاعاً- فَيَنْحَتُّ مِنْ قَصَبِهِ انْحِتَاتَ أَوْرَاقِ الْأَغْصَانِ- ثُمَّ يَتَلَاحَقُ نَامِياً حَتَّى يَعُودَ كَهَيْئَتِهِ قَبْلَ سُقُوطِهِ- لَا يُخَالِفُ سَالِفَ أَلْوَانِهِ- وَ لَا يَقَعُ لَوْنٌ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ- وَ إِذَا تَصَفَّحْتَ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ قَصَبِهِ- أَرَتْكَ حُمْرَةً وَرْدِيَّةً وَ تَارَةً خُضْرَةً زَبَرْجَدِيَّةً- وَ أَحْيَاناً صُفْرَةً عَسْجَدِيَّةً- فَكَيْفَ تَصِلُ إِلَى صِفَةِ هَذَا عَمَائِقُ الْفِطَنِ- أَوْ تَبْلُغُهُ قَرَائِحُ الْعُقُولِ- أَوْ تَسْتَنْظِمُ وَصْفَهُ أَقْوَالُ الْوَاصِفِينَ- وَ أَقَلُّ أَجْزَائِهِ قَدْ أَعْجَزَ الْأَوْهَامَ أَنْ تُدْرِكَهُ- وَ الْأَلْسِنَةَ أَنْ تَصِفَهُ- فَسُبْحَانَ الَّذِي بَهَرَ الْعُقُولَ عَنْ وَصْفِ خَلْقٍ جَلَّاهُ لِلْعُيُونِ- فَأَدْرَكَتْهُ مَحْدُوداً مُكَوَّناً وَ مُؤَلَّفاً مُلَوَّناً- وَ أَعْجَزَ الْأَلْسُنَ عَنْ تَلْخِيصِ صِفَتِهِ- وَ قَعَدَ بِهَا عَنْ تَأْدِيَةِ نَعْتِهِ وَ سُبْحَانَ مَنْ أَدْمَجَ قَوَائِمَ الذَّرَّةِ- وَ الْهَمَجَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُا مِنْ خَلْقِ الْحِيتَانِ وَ الْفِيَلَةِ- وَ وَأَى عَلَى نَفْسِهِ أَلَّا يَضْطَرِبَ شَبَحٌ مِمَّا أَوْلَجَ فِيهِ الرُّوحَ- إِلَّا وَ جَعَلَ الْحِمَامَ مَوْعِدَهُ وَ الْفَنَاءَ غَايَتَهُ
اللغة
أقول: نعقت: صاحت.
و الأخاديد: شقوق الأرض و شعابها.
و الفجاج: جمع فجّ.
و هي الطريق بين الجبلين: و العبالة: امتلاء الجسد.
و نسقها: نظمها.
و يختال: يصيبه الخيلاء.
و زيفانه: تمايله و تبختره.
و الأرّ: النكاح و الحركة فيه.
و ملافحه: آلات اللقاح و أعضاء التناسل.
و الاغتلام: شدّة الشبق.
و القلع الداريّ: الشراع المنسوب إلى دارين، و هي جزيرة من سواحل القطيف من بلاد البحرين يقال: إنّ الطيب كان يجلب إليها من الهند، و هي الآن خراب لا عمارة بها و لا سكنى، و فيها آثار قديمة.
و عنجه: عطفه.
و النوتىّ: ربّان السفينة.
و ضفّتى جفونه: جانباها.
و المنبجس: المنفجر.
و المدارى: جمع مدرى، و هي خشبة ذات أطراف كأصابع الكفّ محدّدة الرءوس ينقى بها الطعام.
و داراته: الخطوط المستديرة بقصبه.
و العقيان: الذهب.
و فلذ: جمع فلذة، و هي القطعة.
و الزبرجد: قيل: هو الزمرّد،
و قيل: يطلق على البلخش.
و الجنىّ: فعيل بمعنى المجنّى،
و هو الملتقط. و العصب: برود تعمل باليمن.
و المضاهاة: المشابهة.
و الحمش:الدقاق.
و نطّقت باللجين: أى شدّت فيه و رصّعت.
و الوشاح: سير ينسج من أديم و يرصّع بالجواهر فتجعله المرأة على عاتقها إلى كشحيها.
و زقا: صاح.
و المعول: الصارخ.
و الديكة الخلاسيّة: هي المتولّدة بين الدجاج الهنديّ و الفارسىّ.
و نجمت: ظهرت.
و الظنبوب: حرف الساق.
و الصيصية: الهنة الّتي في مؤخّر رجل الديك.
و القنزعة: الشعر المجتمع في موضع من الرأس.
و الوسمة بكسر السين و سكونها: شجر العظلم يخضب به.
و الأسحم: الأسود. التلفّع: التلحّف.
و اليقق: خالص البياض.
و يأتلق: يلمع. و البصيص: البريق.
و تترى: تسقط منها شيء عقيب شيء.
و أدمجه: أحكمه. و الذرّة: النملة الصغيرة.
و الهمجة: ذبابة صغيرة كالبعوضة.
و مقصود الخطبة التنبيه على عجائب صنع اللّه لغاية الالتفات إليه و التفكّر في ملكوته و قد عرفت معنى الابتداع. و أراد بالموات ما لا حياة له، و الساكن كالأرض، و ذو الحركات كالأفلاك و شاهد [شواهد خ] البيّنات ما ظهر للعقول من لطائف المخلوقات فاستدّلت بها على لطف صنعته و كمال قدرته فانقادت لتلك الدلائل و الطرق الواضحة إلى معرفته و الإقرار به و التسليم لأمره، و استعار لفظ نعيق في الأسماع لظهور تلك الدلائل في صماخ العقل، و ما الاولى مفعول لأقام، و الضمير في له يرجع إلى ما، و في به و له الثانية إلى اللّه، و في دلائله يحتمل العود إلى كلّ واحد منهما، و ما الثانية محلّها الجرّ بالعطف على الضمير المضاف إليه في دلائله: أى نعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيّته و دلائل ما خلق، و قد عرفت فيما سبق كيفية الاستدلال بكثرة ما خلق و اختلافه فى وحدانيته و الأطيار التي أسكنها أخاديد الأرض كالقطاة و الصدى، و الّتي أسكنها خروق فجاجها كالقبج، و الّتي أسكنها رءوس الجبال كالعقبان و الصقور. ثمّ أخذ يصف اختلافها بالأجنحة في هيئاتها و كيفيّات خلقها تحت تصريف قدرته و حكمته. ثمّ أشار إلى اعتبار تكوينها و إحداثها في عجائب صورها و ألوانها و تركيب خلقها في عبل الجثّة تمنع سمّوه في الهواء كالنعام. ثمّ نبّه على لطيف حكمته في تنسيقها مختلفة الألوان و الأصباغ فمنها مغموس في قالب لون واحد قد طوّق بخلاف ما صبغ به كالفواخت، و شرع في التنبيه بحال الطاوس على لطف الصنع لاشتماله على جميع الألوان، و كفى بوصفه عليه السّلام شارحا فإنّه لا أبلغ منه و لا أجمع لتفاصيل الحكمة الموجودة في هذا الموصوف غير أنّه قد يحتاج بعض ألفاظه عليه السّلام إلى بيان.
فأراد بقصبه قصب ريش ذنبه و جناحيه و إشراجها ضبط اصولها بالأعصاب و العظام و شرج بعضها لبعض، و وصفه عليه السّلام لهيئة درجه إلى الانثى حال إرادة السفاد وصف من شاهد و استثبت الهيئة و أحسن بتشبيهه لذنبه عند إرادة السفاد بالقلع الدارىّ فإنّه في تلك الحالة يبسط ريشه و ينشره. ثمّ يرفعه و ينصبه فيصير كهيئة الشراع المرفوع، و وجه التشبيه زيادة على ذلك أشار إليها بقوله: عنجه نوتيّه، و ذلك أنّ الملّاحين يصرفون الشراع تارة بالجذب، و تارة بالإرخاء، و تارة بتحويله يمينا و شمالا و ذلك بحسب انصرافهم من بعض الجهات إلى بعض فأشبههم هذا الطائر عند حركته لإرادة السفاد و زيفانه في تصريف ذنبه و تحويله، و له في ذلك هيئة لا يستثبت وجه الشبه فيها كما هو إلّا من شاهدها مع مشاهدة المشبّه به، و لذلك قال: احيلك من ذلك على معاينة لا كمن يحيلك على ضعيف إسناده. و إنّما خصّ دارين بالذكر لأنّها كانت المرسى القديم في زمانه عليه السّلام حيث كانت معمورة. و قوله: و لو كان كزعم من يزعم. إلى قوله: المنبجس. أى لو كان حاله في النكاح كزعم من يزعم، و هو إشارة إلى زعم قوم أنّ الذكر تدمع عينه فتقف الدمعة بين أجفانه فتأتى الانثى فتطعمها فتلقح من تلك الدمعة، و روي تنجشها مدامعه: أى تغصّ بها و تحار فيها، و هو عليه السّلام لم يحل ذلك، و إنّما قال: ليس ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب، و العرب تزعم أنّ الغراب لا يسفد. و من أمثالهم أخفى من سفاد الغراب، و يزعمون أنّ اللقاح من مطاعمة الذكر و الانثى و إيصال جزء من الماء الّذي فيه في قانصته إليها و هي أن يضع كلّ منهما منقاره في منقار صاحبه و يتزاقّا و ذلك مقدّمة للسفاد في كثير من الطير كالحمام و غيره، و هذا و إن كان ممكنا في بعض الطير كالطاووس و الغراب 310 غير أنّ ذلك بعيد.
على أنّه قد نقل الشيخ في الشفاء أنّ القبجة تحبلها ريح تهبّ من ناحية الحجل و من سماع صوته، قال: و النوع المسمّى مالاقيا يتلاصق بأفواهها ثمّ يتشابك فذلك سفادها، و نقل الجاحظ في كتاب الحيوان أنّ الطاوسة قد تبيض من الريح بأن تكون في سفالة الريح و فوقها الذكر فتحمل ريحه فتبيض منها.
قال: و بيض الريح قلّ أن يفرخ. و أقول: قد يوجد في الدجاج ذلك إلّا أنّه قلّ ما يفرخ كما ذكره. ثمّ شبّه عليه السّلام قصب ذنبه بالمدارى من الفضّة، و من شاهد صورة قيام ذنبه مع بياض اصول ريشه و تفرّقها عند نشره للسفاد عرف موضع التشبيه المذكور و وقوعه موقعه، و كذلك شبّه الخطوط الصفرة المستديرة على رءوس ريش الذنب بخالص العقيان في الصفرة الفاقعة مع ما يعلوها من البريق، و ما في وسط تلك الدارات من الدوائر الخضر بقطع الزبرجد في الخضرة، و استعار لها لفظ الشموس ملاحظة لمشابهتها لها في الاستدارة و الاستنارة. ثمّ قال: و إن شبّهته بما أنبتت الأرض. إلى قوله: كلّ ربيع، و وجه الشبه اجتماع الألوان مع نضارتها و بهجتها. و كذلك وجه الشبه في تشبيهه بموشىّ الحلل أو المعجب من برود اليمين، و كذلك إن شاكلته بالحلىّ، و وجه شبهه بالفصوص المختلفة الألوان المنطّقة في الفضّة: أى المرصّعة في صفائح الفضّة و المكلّل الّذي جعل كالإكليل بذلك الترصيع. ثمّ حكى صورة مشيته و صوته كالقهقهة عند نظره إلى حسن سرباله و إعجابه بجمال كسوته، و لفظ الضحك و القهقهة و السربال مستعار و كذلك حاله في نظره إلى قوائمه فإنّه يصيح كالمتوجّع من قبح ساقيه و دقّتها و يخضع و ينقمع بعد تعظّمه و نفخه لنفسه، و وجه تشبيه قوائمه بقوائم الديكة الخلاسيّة الدقّة و الطول و التشظّى و نتوّ العرقوب. ثمّ أخذ في وصف صيصيته و قنزعته و هي رويشات يسيرة طوال في مؤخّر رأسه نحو الثلث بارزة عن ريش رأسه خضر موشّاة. ثمّ أخذ في وصف عنقه، و شبّه مخرجه بالإبريق و وجه الشبه الهيئة المعلومة بالمشابهة و كذلك مغرزه من رأسه إلى حيث بطنه يشبه في لونه صبغ الوسمة في السواد المشرق أو الحريرة السوداء الملبسة مرآة ذات صقال في سرابها و مخالطة بصيص المرآة لها أو المعجر الأسود إلّا أنّ ذلك السواد لكثرة مائه و شدّة بريقه يخيّل للناظر أنّه ممتزج بخضرة ناضرة. ثمّ وصف الخلط الأبيض عند محلّ سمعه، و شبّهه في دقّته و استوائه بخطّ القلم الدقيق، و في بياضه بلون الاقحوان. ثمّ أجمل في تعديد الألوان فقال: و قلّ صبغ إلّا و قد أخذ منه بقسط و علاه: أى و زاد على الصبغ بكثرة صقاله و بريقه و بصيص ديباجه، و لفظ الديباج مستعار لريشه. ثمّ رجع إلى تشبيهه بالأزاهير المبثوثة، و نبّه على كمال قدرة صانعها بأنّها مع ذلك لم تربّها أمطار الربيع: أى لم تعدّها لتلك الألوان أمطار ربيع و لا شموس قيظ لأنّه لمّا خيّل أنّها أزاهير و كان من شأن الأزاهير المختلفة أنّها لا تتكوّن إلّا في زمن الربيع بإمطاره و حرارة الشمس المعدّة لتنويره أراد أن يبيّن عظمة صانعها بأنّها مع كونها أزاهير خلقها بغير مطر و لا شمس. ثمّ أخبر عن حالة له اخرى هي محلّ الاعتبار في حكمة الصانع و قدرته، و هو أنّه يتحسّر و يعرى من ذلك الريش الحسن شيئا بعد شيء، ثمّ ينبت جميعا كلّ ريشه موضع ريشة بلونها الأوّل من غير زيادة أو نقصان حتّى كأنّها هي، و شبّهه في سقوطه و نباته بتحاتّ أوراق الشجر من الأغصان و نباتها. ثمّ نبّه على وجود حكمة الصانع في الشعرة الواحدة من شعرات ريشه بأنّك إذا تأمّلتها أرتك من شفافيّتها و شدّة بصيصها تارة حمرة كحمرة الورد، و تارة خضرة كخضرة الزبرجد. و تارة صفرة كصفرة الذهب. ثمّ عقّب ذلك الوصف البليغ باستبعاد وصول الفطن العميقة إلى صفة هذا، و أراد العجز عن وصف علل هذه الألوان و اختلافها و اختصاص كلّ من مواضعها بلون غير الآخر، و علل هيئاتها و ساير ما عدّده فإنّ أقلّ جزء منه ممّا يتحيّر الأوهام في درك علّته و تقصر الألسن عن وصفه، و يحتمل أن يريد العجز عن استثبات جزئيّات أوصافه الظاهرة و تشريحه فإنّ ما ذكره عليه السّلام و إن كان في غاية البلاغة إلّا أنّ فيه وراء ذلك جزئيّات لم يستثبتها الوصف. و هو الأقرب، و يؤيّده تنزيهه للّه تعالى باعتبار قهره للعقول عن وصف هذا المخلوق الّذي جلّاه و أظهره للعيون فأدركته محدودا ملوّنا و مؤلّفا مكوّنا و أعجز الألسن عن تلخيص وصفه و تأدية نعته. ثم نزّهه باعتبار أمر آخر و هو إحكامه قوائم الذرّة و الهمجة و سائر ما فوقها كالحيتان و كبار حيوان البرّ كالفيلة. ثمّ باعتبار حكمه و تقديره على كلّ حيّ منها ضرورة الموت، و فيه تنبيه على ذكر هادم اللذّات. و اعلم أنّه قد ذكرت للطاوس أحوال اخرى تخصّه أكثرها قالوا: إنّه غاية ما يعيش خمسا و عشرين سنة، و تبيض في السنة الثالثة من عمره، و تبيض في السنة مرّة واحدة اثنتى عشرة بيضة في ثلاثة أيّام، و يحضنها ثلاثين يوما فتفرخ، و تحتّ ريشه عند سقوط ورق الشجر و ينبت مع ابتداء نبات ورقه
القسم الثاني منها في صفة الجنة:
فَلَوْ رَمَيْتَ بِبَصَرِ قَلْبِكَ نَحْوَ مَا يُوصَفُ لَكَ مِنْهَا- لَعَزَفَتْ نَفْسُكَ عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ إِلَى الدُّنْيَا- مِنْ شَهَوَاتِهَا وَ لَذَّاتِهَا وَ زَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا- وَ لَذَهِلَتْ بِالْفِكْرِ فِي اصْطِفَافِ أَشْجَارٍ- غُيِّبَتْ عُرُوقُهَا فِي كُثْبَانِ الْمِسْكِ عَلَى سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا- وَ فِي تَعْلِيقِ كَبَائِسِ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فِي عَسَالِيجِهَا وَ أَفْنَانِهَا- وَ طُلُوعِ تِلْكَ الثِّمَارِ مُخْتَلِفَةً فِي غُلُفِ أَكْمَامِهَا- تُجْنَى مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَتَأْتِي عَلَى مُنْيَةِ مُجْتَنِيهَا- وَ يُطَافُ عَلَى نُزَّالِهَا فِي أَفْنِيَةِ قُصُورِهَا- بِالْأَعْسَالِ الْمُصَفَّقَةِ وَ الْخُمُورِ الْمُرَوَّقَةِ- قَوْمٌ لَمْ تَزَلِ الْكَرَامَةُ تَتَمَادَى بِهِمْ- حَتَّى حَلُّوا دَارَ الْقَرَارِ وَ أَمِنُوا نُقْلَةَ الْأَسْفَارِ- فَلَوْ شَغَلْتَ قَلْبَكَ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ- بِالْوُصُولِ إِلَى مَا يَهْجُمُ عَلَيْكَ مِنْ تِلْكَ الْمَنَاظِرِ الْمُونِقَةِ- لَزَهِقَتْ نَفْسُكَ شَوْقاً إِلَيْهَا- وَ لَتَحَمَّلْتَ مِنْ مَجْلِسِي هَذَا- إِلَى مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ اسْتِعْجَالًا بِهَا- جَعَلَنَا اللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْعَى بِقَلْبِهِ- إِلَى مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ بِرَحْمَتِهِ
اللغة
أقول: عزفت: زهدت و انصرفت.
و الكبايس: جمع كباسة و هي العذق.
و العساليج: الغصون واحدها عسلوج، و كذلك الأفنان جمع فنن.
و الأكمام جمع كمامة بكسر الكاف: و هي غلاف الطلع.
و العسل المصفّق: المصفىّ.
المعنى
و قوله: فلو رميت ببصر قلبك. استعارة لطيفة: أى لو نظرت بعين بصيرتك و فكرت في معنى ما وصف لك من متاع الجنّة لم تجد لشيء من بدائع ما اخرج إلى الدنيا من متاعها إلى شيء من متاع الجنّة إلّا نسبة و هميّة، إذا لا حظتها نفسك عزفت و أعرضت عن متاع الدنيا و ما يعدّ فيها لذّة، و غابت بفكرها في اصطفاق الأشجار الموصوفة فيها و تمايل أغصانها. ثمّ وصف أشجارها و أنهارها و ساير ما عدّده من متاع الجنّة وصفا لا مزيد عليه. فهذه هي الجنّة المحسوسة الموعودة، و أنت بعد معرفتك بقواعد التأويل و حقايق ألفاظ العرب و مجازاتها و استعاراتها و تشبيهاتها و تمثيلاتها و ساير ما عدّدناه لك في صدر الكتاب من قواعد علم البيان، و كان لك مع ذلك ذوق طرف من العلم الإلهىّ أمكنك أن تجعل هذه الجنّة المحسوسة سلّما و مثالا لتعقّل الجنّة المعقولة و متاعها كتأويلك مثلا أشجار الجنّة استعارة للملائكة السماويّة و الاصطفاق ترشيح تلك الاستعارة، و كثبان المسك استعارة للمعارف و الكمالات الّتي لهم من واهب الجود و هم مغمورون فيها و قد وجدوا لها و منها كما تنبت الأشجار في الكثبان، و لفظ الأنهار استعارة للملائكة المجرّدين عن التعلّق بالأجرام الفلكيّة باعتبار كون هذه الملائكة اصولا و مبادى للملائكة السماويّة كما أنّ الأنهار مبادى ممدّة لحياة الأشجار و أسباب لوجودها، و اللؤلؤ الرطب و الثمار استعارة لما يفيض من تلك الأرواح من العلوم و الكمالات على النفوس القابلة لها من غير بخل و لا منع.
فهي ثمارها تأتى على منية مجتنيها بحسب استعداده لكلّ منها. و القوّة المتخيّلة تحكى تلك الإفاضات في هذه العبارات و الظواهر المحسوسة المعدودة و تكسوها 314 صورة ما هو مشتهى للمتخيّل كلّ بحسب شهوته. و لذلك كان في الجنّة كلّ ما تشتهى الأنفس و تلذّ الأعين و يتأهّل لحضوره فيحضر لها عند إرادتها إيّاه، و كذلك لفظ العسل و الخمر استعارة لتلك الإفاضات المشتهات الملذّة للنفس بحسب محاكاة المتخيّلة لها في صورة هذا المشروب المحسوس المشتهى لبعض النفوس فتصوّره بصورته. و قوله: ثمّ قوم لم تزل الكرامة. إلى قوله: الأسفار. استعار لفظ التمادى الّذي هو من أفعال العقلاء لتأخّر الكرامة عنهم و انتظارهم لها في الدنيا إلى غاية حلولهم دار القرار و حصول الكرامة لهم هناك و أمنهم من نقلة الأسفار. ثمّ عقّب بتشويق المستمع إلى ما هناك.
و قوله: فلو شغلت قلبك. أى أخذت في إعداد نفسك الوصول إلى ما يهجم عليك: أى يفاض عليك من تلك الصور البهيّة المعجبة لزهقت نفسك: أى متّ شوقا إليها، و رحلت إلى مجاورة أهل القبور استعجالا لقربهم إلى ما يشتاق إليه. ثمّ ختم الخطبة بالدعاء لنفسه و للسامعين أن يعدّهم اللّه تعالى لسلوك سبيله و قطع منازل طريقه الموصلة إلى منازل الأبرار و هي درجات الجنّة و مقاماتها. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 305