161 و من خطبة له ع
أَمْرُهُ قَضَاءٌ وَ حِكْمَةٌ وَ رِضَاهُ أَمَانٌ وَ رَحْمَةُ- يَقْضِي بِعِلْمٍ وَ يَعْفُو بِحِلْمٍ- اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا تَأْخُذُ وَ تُعْطِي- وَ عَلَى مَا تُعَافِي وَ تَبْتَلِي- حَمْداً يَكُونُ أَرْضَى الْحَمْدِ لَكَ- وَ أَحَبَّ الْحَمْدِ إِلَيْكَ وَ أَفْضَلَ الْحَمْدِ عِنْدَكَ- حَمْداً يَمْلَأُ مَا خَلَقْتَ وَ يَبْلُغُ مَا أَرَدْتَ- حَمْداً لَا يَحْجُبُ عَنْكَ وَ لَا يُقْصَرُ دُونَكَ- حَمْداً لَا يَنْقَطِعُ عَدَدُهُ وَ لَا يَفْنَى مَدَدُهُ- فَلَسْنَا نَعْلَمُ كُنْهَ عَظَمَتِكَ- إِلَّا أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ حَيٌّ قَيُّومُ- لَا تَأْخُذُكَ سِنَةٌ وَ لَا نَوْمٌ- لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْكَ نَظَرٌ وَ لَمْ يُدْرِكْكَ بَصَرٌ- أَدْرَكْتَ الْأَبْصَارَ وَ أَحْصَيْتَ الْأَعْمَالَ- وَ أَخَذْتَ بِالنَّوَاصِي وَ الْأَقْدَامِ- وَ مَا الَّذِي نَرَى مِنْ خَلْقِكَ- وَ نَعْجَبُ لَهُ مِنْ قُدْرَتِكَ- وَ نَصِفُهُ مِنْ عَظِيمِ سُلْطَانِكَ- وَ مَا تَغَيَّبَ عَنَّا مِنْهُ وَ قَصُرَتْ أَبْصَارُنَا عَنْهُ- وَ انْتَهَتْ عُقُولُنَا دُونَهُ- وَ حَالَتْ سَوَاتِرُ الْغُيُوبِ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُ أَعْظَمُ- فَمَنْ فَرَّغَ قَلْبَهُ وَ أَعْمَلَ فِكْرَهُ- لِيَعْلَمَ كَيْفَ أَقَمْتَ عَرْشَكَ وَ كَيْفَ ذَرَأْتَ خَلْقَكَ- وَ كَيْفَ عَلَّقْتَ فِي الْهَوَاءِ سَمَاوَاتِكَ- وَ كَيْفَ مَدَدْتَ عَلَى مَوْرِ الْمَاءِ أَرْضَكَ رَجَعَ طَرْفُهُ حَسِيراً- وَ عَقْلُهُ مَبْهُوراً وَ سَمْعُهُ وَالِهاً وَ فِكْرُهُ حَائِراً يجوز أن يكون أمره هاهنا هو الأمر الفعلي- لا الأمر القولي كما يقال أمر فلان مستقيم و ما أمر كذا- و قال تعالى وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ- فيكون المعنى أن شأنه تعالى ليس إلا أحد شيئين- و هما أن يقول و أن يفعل- فعبر عن أن يقول بقوله قضاء لأن القضاء الحكم- و عبر عن أن يفعل بقوله و حكمة- لأن أفعاله كلها تتبع دواعي الحكمة- و يجوز أن يكون أمره هو الأمر القولي- و هو المصدر من أمر له بكذا أمرا- فيكون المعنى أن أوامره إيجاب- و إلزام بما فيه حكمة و مصلحة- و قد جاء القضاء بمعنى الإلزام و الإيجاب- في القرآن العزيز في قوله- وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ- أي أوجب و ألزم- .
قوله و رضاه أمان و رحمة- لأن من فاز بدرجة الرضا فقد أمن و حصلت له الرحمة- لأن الرضا رحمة و زيادة- . قوله يقضي بعلم أي يحكم بما يحكم به- لأنه عالم بحسن ذلك القضاء أو وجوبه في العدل- . قوله و يعفو بحلم أي لا يعفو عن عجز و ذل- كما يعفو الضعيف عن القوي- بل هو قادر على الانتقام و لكنه يحلم- . ثم حمد الله تعالى على الإعطاء و الأخذ و العافية و البلاء- لأن ذلك كله من عند الله لمصالح للمكلف- يعلمها و ما يعلمها المكلف و الحمد على المصالح واجب- .
ثم أخذ في تفخيم شأن ذلك الحمد و تعظيمه- و المبالغة في وصفه احتذاءبقول رسول الله ص الحمد لله زنة عرشه الحمد لله عدد خلقه- الحمد لله ملء سمائه و أرضه- فقال ع حمدا يكون أرضى الحمد لك- أي يكون رضاك له أوفى و أعظم من رضاك بغيره- و كذلك القول في أحب و أفضل- . قوله و يبلغ ما أردت- أي هو غاية ما تنتهي إليه الإرادة- و هذا كقول الأعرابية في صفة المطر- غشينا ما شئنا و هو من فصيح الكلام- . قوله لا يحجب عنك- لأن الإخلاص يقارنه و الرياء منتف عنه- . قوله و لا يقصر دونك أي لا يحبس- أي لا مانع عن وصوله إليك و هذا من باب التوسع- و معناه أنه بريء من الموانع- عن إثماره الثواب و اقتضائه إياه- و روي و لا يقصر من القصور- و روي و لا يقصر من التقصير- .
ثم أخذ في بيان أن العقول قاصرة- عن إدراك الباري سبحانه و العلم به- و أنا إنما نعلم منه صفات إضافية أو سلبية- كالعلم بأنه حي- و معنى ذلك أنه لا يستحيل على ذاته أن يعلم و يقدر- و أنه قيوم بمعنى أن ذاته لا يجوز عليها العدم- أي يقيم الأشياء و يمسكها- و كل شيء يقيم الأشياء كلها و يمسكها- فليس بمحتاج إلى من يقيمه و يمسكه- و إلا لم يكن مقيما و ممسكا لكل شيء- و كل من ليس بمحتاج إلى من يقيمه و يمسكه- فذاته لا يجوز عليها العدم- و أنه تعالى لا تأخذه سنة و لا نوم- لأن هذا من صفات الأجسام- و ما لا يجوز عليها العدم لا يكون جسما- و لا يوصف بخواص الأجسام و لوازمها- فإنه لا ينتهي إليه نظر لأن انتهاء النظر إليه- يستلزم مقابلته و هو تعالى منزه عن الجهة- و إلا لم يكن ذاته مستحيلا عليها العدم- و أنه لا يدركه بصر- لأن إبصار الأشياء- بانطباع أمثلتها في الرطوبة الجليدية- كانطباع أشباح المرئيات في المرآة- و الباري تعالى لا يتمثل و لا يتشبح- و إلا لم يكنقيوما و أنه يدرك الأبصار- لأنه إما عالم لذاته أو لأنه حي لا آفة به- و أنه يحصي الأعمال لأنه عالم لذاته- فيعلم كل شيء حاضرا و ماضيا و مستقبلا- و أنه يأخذ بالنواصي و الأقدام- لأنه قادر لذاته فهو متمكن من كل مقدور- .
ثم خرج إلى فن آخر فقال- و ما الذي نعجب لأجله من قدرتك و عظيم ملكك- و الغائب عنا من عظمتك أعظم من الحاضر- مثال ذلك أن جرم الشمس- أعظم من جرم الأرض مائة و ستين مرة- و لا نسبة لجرم الشمس إلى فلكها المائل- و لا نسبة لفلكها المائل إلى فلكها المميل- و فلك تدوير المريخ- الذي فوقها أعظم من مميل الشمس- و لا نسبة لفلك تدوير المريخ إلى فلكه المميل- و فلك تدوير المشتري أعظم من مميل المريخ- و لا نسبة لفلك تدوير المشتري إلى فلكه المميل- و فلك تدوير زحل أعظم من مميل المشتري- و لا نسبة لفلك تدوير زحل إلى مميل زحل- و لا نسبة لمميل زحل إلى كرة الثوابت- و لا نسبة لكرة الثوابت إلى الفلك الأطلس الأقصى- فانظر أي نسبة تكون الأرض بكليتها- على هذا الترتيب إلى الفلك الأطلس و هذا مما تقصر العقول عن فهمه و تنتهي دونه- و تحول سواتر الغيوب بينها و بينه كما قال ع- .
ثم ذكر أن من أعمل فكره- ليعلم كيف أقام سبحانه العرش و كيف ذرأ الخلق- و كيف علق السماوات بغير علاقة و لا عمد- و كيف مد الأرض على الماء- رجع طرفه حسيرا و عقله مبهورا و هذا كله حق- و من تأمل كتبنا العقلية و اعتراضنا على الفلاسفة- الذين عللوا هذه الأمور- و زعموا أنهم استنبطوا لها أسبابا عقلية- و ادعوا وقوفهم على كنهها و حقائقها- علم صحة ما ذكره ع- من أن من حاول تقدير ملك الله تعالى- و عظيم مخلوقاته بمكيال عقله فقد ضل ضلالا مبينا- .
و روي و فكره جائرا بالجيم- أي عادلا عن الصواب- و الحسير المتعب و المبهور المغلوب و الواله المتحير: مِنْهَا- يَدَّعِي بِزَعْمِهِ أَنَّهُ يَرْجُو اللَّهَ كَذَبَ وَ الْعَظِيمِ- مَا بَالُهُ لَا يَتَبَيَّنُ رَجَاؤُهُ فِي عَمَلِهِ- فَكُلُّ مَنْ رَجَا عُرِفَ رَجَاؤُهُ فِي عَمَلِهِ- إِلَّا رَجَاءَ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَدْخُولٌ- وَ كُلُّ خَوْفٍ مُحَقَّقٌ إِلَّا خَوْفَ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَعْلُولٌ- يَرْجُو اللَّهَ فِي الْكَبِيرِ وَ يَرْجُو الْعِبَادَ فِي الصَّغِيرِ- فَيُعْطِي الْعَبْدَ مَا لَا يُعْطِي الرَّبَّ- فَمَا بَالُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُقَصَّرُ بِهِ عَمَّا يُصْنَعُ بِهِ لِعِبَادِهِ- أَ تَخَافُ أَنْ تَكُونَ فِي رَجَائِكَ لَهُ كَاذِباً- أَوْ تَكُونَ لَا تَرَاهُ لِلرَّجَاءِ مَوْضِعاً- وَ كَذَلِكَ إِنْ هُوَ خَافَ عَبْداً مِنْ عَبِيدِهِ- أَعْطَاهُ مِنْ خَوْفِهِ مَا لَا يُعْطِي رَبَّهُ- فَجَعَلَ خَوْفَهُ مِنَ الْعِبَادِ نَقْداً- وَ خَوْفَهُ مِنْ خَالِقِهِ ضِمَاراً وَ وَعْداً- وَ كَذَلِكَ مَنْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ- وَ كَبُرَ مَوْقِعُهَا مِنْ قَلْبِهِ آثَرَهَا عَلَى اللَّهِ- فَانْقَطَعَ إِلَيْهَا وَ صَارَ عَبْداً لَهَا يجوزبزعمه بالضم و بزعمه بالفتح و بزعمه بالكسر- ثلاث لغات أي بقوله- فأما من زعمت أي كفلت فالمصدر الزعم بالفتح و الزعامة-ثم أقسم على كذب هذا الزاعم فقال و العظيم- و لم يقل و الله العظيم تأكيدا لعظمة البارئ سبحانه- لأن الموصوف إذا ألقي و ترك و اعتمد على الصفة- حتى صارت كالاسم- كان أدل على تحقق مفهوم الصفة كالحارث و العباس- .
ثم بين مستند هذا التكذيب فقال- ما بال هذا الزاعم أنه يرجو ربه- و لا يظهر رجاؤه في عمله- فإنا نرى من يرجو واحدا من البشر يلازم بابه- و يواظب على خدمته و يتحبب إليه- و يتقرب إلى قلبه بأنواع الوسائل و القرب- ليظفر بمراده منه و يتحقق رجاؤه فيه- و هذا الإنسان الذي يزعم أنه يرجو الله تعالى- لا يظهر من أعماله الدينية ما يدل على صدق دعواه- و مراده ع هاهنا ليس شخصا بعينه- بل كل إنسان هذه صفته فالخطاب له و الحديث معه- .
ثم قال كل رجاء إلا رجاء الله فهو مدخول أي معيب- و الدخل بالتسكين العيب و الريبة- و من كلامهم ترى الفتيان كالنخل و ما يدريك ما الدخل- و جاء الدخل بالتحريك أيضا- يقال هذا الأمر فيه دخل و دغل بمعنى قوله تعالى- وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ- أي مكرا و خديعة و هو من هذا الباب أيضا- . ثم قال و كل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول- محقق أي ثابت أي كل خوف حاصل حقيقة- فإنه مع هذا الحصول و التحقق معلول- ليس بالخوف الصريح إلا خوف الله وحده و تقواه- و هيبته و سطوته و سخطه- ذلك لأن الأمر الذي يخاف من العبد سريع الانقضاء و الزوال- و الأمر الذي يخاف من الباري تعالى- لا غاية له و لا انقضاء لمحذوره- كما قيلفي الحديث المرفوع فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة- .
ثم عاد إلى الرجاء فقال- يرجو هذا الإنسان الله في الكثير- أي يرجو رحمته في الآخرة- و لا يتعلق رجاؤه بالله تعالى إلا في هذا الموضع- فأما ما عدا ذلك من أمور الدنيا- كالمكاسب و الأموال و الجاه و السلطان و اندفاع المضار- و التوصل إلى الأغراض بالشفاعات و التوسلات – فإنه لا يخطر له الله تعالى ببال- بل يعتمد في ذلك على السفراء و الوسطاء- و يرجو حصول هذه المنافع- و دفع هذه المضار من أبناء نوعه من البشر- فقد أعطى العباد من رجائه ما لم يعطه الخالق سبحانه- فهو مخطئ- لأنه إما ألا يكون هو في نفسه صالحا لأن يرجوه سبحانه- و إما ألا يكون البارئ تعالى في نفسه صالحا لأن يرجى- فإن كان الثاني فهو كفر صراح- و إن كان الأول فالعبد مخطئ- حيث لم يجعل نفسه مستعدا لفعل الصالحات- لأن يصلح لرجاء البارئ سبحانه- .
ثم انتقل ع إلى الخوف فقال- و كذلك إن خاف هذا الإنسان عبدا مثله- خافه أكثر من خوفه البارئ سبحانه- لأن كثيرا من الناس يخافون السلطان- و سطوته أكثر من خوفهم مؤاخذة البارئ سبحانه- و هذا مشاهد و معلوم من الناس- فخوف بعضهم من بعض كالنقد المعجل- و خوفهم من خالقهم ضمار و وعد- و الضمار ما لا يرجى من الوعود و الديون- قال الراعي
حمدن مزاره و أصبن منه
عطاء لم يكن عدة ضمارا
ثم قال و كذلك من عظمت الدنيا في عينه- يختارها على الله و يستعبده حبها- و يقال كبر بالضم يكبر أي عظم- فهو كبير و كبار بالتخفيف- فإذا أفرط قيلكبار بالتشديد- فأما كبر بالكسر فمعناه أسن و المصدر منهما كبرا بفتح الباء: وَ لَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّهِ ص كَافٍ لَكَ فِي الْأُسْوَةِ- وَ دَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وَ عَيْبِهَا- وَ كَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَ مَسَاوِيهَا- إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا وَ وُطَّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا- وَ فُطِمَ عَنْ رَضَاعِهَا وَ زُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا- وَ إِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسَى كَلِيمِ اللَّهِ ص حَيْثُ يَقُولُ- رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ- وَ اللَّهِ مَا سَأَلَهُ إِلَّا خُبْزاً يَأْكُلُهُ- لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الْأَرْضِ- وَ لَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ- لِهُزَالِهِ وَ تَشَذُّبِ لَحْمِهِ- وَ إِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُدَ ص صَاحِبِ الْمَزَامِيرِ- وَ قَارِئِ أَهْلِ الْجَنَّةِ- فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْخُوصِ بِيَدِهِ- وَ يَقُولُ لِجُلَسَائِهِ أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا- وَ يَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا- وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ع- فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ- وَ يَلْبَسُ الْخَشِنَ وَ يَأْكُلُ الْجَشِبَ- وَ كَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ وَ سِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْقَمَرَ- وَ ظِلَالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغَارِبَهَا- وَ فَاكِهَتُهُ وَ رَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ- وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ وَ لَا وَلَدٌ يَحْزُنُهُ- وَ لَا مَالٌ يَلْفِتُهُ وَ لَا طَمَعٌ يُذِلُّهُ- دَابَّتُهُ رِجْلَاهُ وَ خَادِمُهُ يَدَاهُ
يجوز أسوة و إسوة و قرئ التنزيل بهما- و المساوئ العيوب- ساءه كذا يسوؤه سوءا بالفتح و مساءة و مسائية- و سوته سواية و مساية بالتخفيف أي ساءه ما رآه مني- و سأل سيبويه الخليل عن سوائية- فقال هي فعالية بمنزلة علانية- و الذين قالوا سواية حذفوا الهمزة تخفيفا و هي في الأصل- قال و سألته عن مسائية فقال هي مقلوبة و أصلها مساوئة- فكرهوا الواو مع الهمزة- و الذين قالوا مساية حذفوا الهمزة أيضا تخفيفا- و من أمثالهم الخيل تجري في مساويها- أي أنها و إن كانت بها عيوب و أوصاب- فإن كرمها يحملها على الجري- . و المخازي جمع مخزاة و هي الأمر يستحى من ذكره لقبحه- و أكنافها جوانبها و زوى قبض- و زخارف جمع زخرف و هو الذهب-
روي عن رسول الله ص أنه قال عرضت علي كنوز الأرض- و دفعت إلي مفاتيح خزائنها- فكرهتها و اخترت الدار الآخرة- و جاء في الأخبار الصحيحة أنه كان يجوع و يشد حجرا على بطنه- و أنه ما شبع آل محمد من لحم قط- و أن فاطمة و بعلها و بنيها كانوا يأكلون خبز الشعير – و أنهم آثروا سائلا بأربعة أقراص منه- كانوا أعدوها لفطورهم و باتوا جياعا- و قد كان رسول الله ص ملك قطعة واسعة من الدنيا- فلم يتدنس منها بقليل و لا كثير- و لقد كانت الإبل التي غنمها يوم حنين- أكثر من عشرة آلاف بعير- فلم يأخذ منها وبرة لنفسه و فرقها كلها على الناس- و هكذا كانت شيمته و سيرته في جميع أحواله إلى أن توفي- .
و الصفاق- الجلد الباطن الذي فوقه الجلد الظاهر من البطن- و شفيفه رقيقه الذي يستشف ما وراءه- و بالتفسير الذي فسر ع الآية فسرها المفسرون- و قالوا إن خضرة البقل كانت ترى في بطنه من الهزال- و إنه ما سأل الله إلا أكلة من الخبز- و ما في لِما أَنْزَلْتَ بمعنى أي- أي إني لأي شيء أنزلت إلي قليل أو كثير غث أو سمين فقير- .
فإن قلت لم عدى فقيرا باللام- و إنما يقال فقير إلى كذا- قلت لأنه ضمن معنى سائل و مطالب- و من فسر الآية بغير ما ذكره ع- لم يحتج إلى الجواب عن هذا السؤال- فإن قوما قالوا أراد- إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلي من خير- أي من خير الدين و هو النجاة من الظالمين- فإن ذلك رضا بالبدل السني و فرحا به و شكرا له- .
و تشذب اللحم تفرقه- و المزامير جمع مزمار و هو الآلة التي يزمر فيها- و يقال زمر يزمر و يزمر بالضم و الكسر- فهو زمار و لا يكاد يقال زامر- و يقال للمرأة زامرة و لا يقال زمارة- فأما الحديث أنه نهى عن كسب الزمارة- فقالوا إنها الزانية هاهنا- و يقال إن داود أعطي من طيب النغم و لذة ترجيع القراءة- ما كانت الطيور لأجله تقع عليه و هو في محرابه- و الوحش تسمعه فتدخل بين الناس و لا تنفر منهم- لما قد استغرقها من طيب صوته- وقال النبي ص لأبي موسى و قد سمعه يقرأ- لقد أوتيت مزمارا من مزامير داود- و كان أبو موسى شجي الصوت إذا قرأ- وورد في الخبر داود قارئ أهل الجنة- .
و سفائف الخوص جمع سفيفة و هي النسيجة منه- سففت الخوص و أسففته بمعنى- و هذا الذي ذكره ع عن داود- يجب أن يحمل على أنه شرح حاله قبل أن يملك- فإنه كان فقيرا- فأما حيث ملك فإن المعلوم من سيرته غير ذلك- . فأما عيسى فحاله كما ذكرها ع لا ريب في ذلك- على أنه أكل اللحم و شرب الخمر- و ركب الحمار و خدمه التلامذة- و لكن الأغلب من حاله هي الأمور التي عددها أمير المؤمنين ع- .
و يقال حزنني الشيء يحزنني بالضم- و يجوز أحزنني بالهمز يحزنني و قرئ بهما- و هو في كلامه ع في هذا الفصل بهما- و يقال لفته عن كذا يلفته بالكسر أي صرفه و لواه: فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ ص- فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى وَ عَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى- وَ أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ- وَ الْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ- قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً وَ لَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً- أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً- وَ أَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً- عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا- وَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ- وَ حَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ وَ صَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ- وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلَّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ- وَ تَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ- لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً لِلَّهِ تَعَالَى وَ مُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى- وَ لَقَدْ كَانَ ص يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ- وَ يَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ وَ يَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ- وَ يَرْفَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ وَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ- وَ يُرْدِفُ خَلْفَهُ- وَ يَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ- يَا فُلَانَةُ لِإِحْدَى أَزْوَاجِهِ غَيِّبِيهِ عَنِّي- فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَ زَخَارِفَهَا- فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ- وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ- لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً وَ لَا يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً- وَ لَا يَرْجُوَ فِيهَا مُقَاماً فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ- وَ أَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ وَ غَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ-وَ كَذَلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ- وَ أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ- وَ لَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّهِ ص- مَا يَدُلُّكُ عَلَى مَسَاوِئِ الدُّنْيَا وَ عُيُوبِهَا- إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ- وَ زُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ- فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ- أَكْرَمَ اللَّهُ مُحَمَّداً ص بِذَلِكَ أَمْ أَهَانَهُ- فَإِنْ قَالَ أَهَانَهُ فَقَدْ كَذَبَ وَ اللَّهِ الْعَظِيمِ بِالْإِفْكِ الْعَظِيمِ- وَ إِنْ قَالَ أَكْرَمَهُ- فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ- وَ زَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ- فَتَأَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ- وَ اقْتَصَّ أَثَرَهُ وَ وَلَجَ مَوْلِجَهُ- وَ إِلَّا فَلَا يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ- فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ مُحَمَّداً ص عَلَماً لِلسَّاعَةِ- وَ مُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ وَ مُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ- خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً وَ وَرَدَ الآْخِرَةَ سَلِيماً- لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ- حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ وَ أَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ- فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللَّهِ عِنْدَنَا- حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ وَ قَائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ- وَ اللَّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا- وَ لَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ أَ لَا تَنْبِذُهَا عَنْكَ- فَقُلْتُ اعْزُبْ عَنِّي فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى المقتص لأثره المتبع له- و منه قوله تعالى وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ- و قضم الدنيا تناول منها قدر الكفاف- و ما تدعو إليه الضرورة من خشن العيشة- و قال أبو ذر رحمه الله يخضمون و نقضم و الموعد الله- و أصل القضم أكل الشيء اليابس بأطراف الأسنان- و الخضم أكل بكل الفم للأشياء الرطبة- و روي قصم بالصاد أي كسر-قوله أهضم أهل الدنيا كشحا- الكشح الخاصرة- و رجل أهضم بين الهضم إذا كان خميصا لقلة الأكل- .
و روي و حقر شيئا فحقره بالتخفيف و الشقاق الخلاف- و المحادة المعاداة و خصف النعل خرزها- و الرياش الزينة و المدرعة الدراعة- . و قوله عند الصباح يحمد القوم السرى- مثل يضرب لمحتمل المشقة العاجلة رجاء الراحة الآجلةنبذ من الأخبار و الآثار الواردة في البعد عن زينة الدنياجاء في الأخبار الصحيحة أنه ع قال إنما أنا عبد آكل أكل العبيد- و أجلس جلسة العبيد- و كان يأكل على الأرض و يجلس جلوس العبيد- يضع قصبتي ساقيه على الأرض- و يعتمد عليهما بباطني فخذيه- و ركوبه الحمار العاري آية التواضع و هضم النفس- و أردف غيره خلفه آكد في الدلالة على ذلك- . و جاء في الأخبار الصحيحة النهي عن التصاوير- و عن نصب الستور التي فيها التصاوير- و كان رسول الله ص إذا رأى سترا فيه التصاوير- أمر أن تقطع رأس تلك الصورة- . وجاء في الخبر من صور صورة كلف في القيامة أن ينفخ فيها الروح- فإذا قال لا أستطيع عذب-
قوله لم يضع حجرا على حجر- هو عين ما جاء في الأخبار الصحيحة- خرج رسول الله ص من الدنيا و لم يضع حجرا على حجر- . و جاء في أخبار علي ع- التي ذكرها أبو عبد الله أحمد بن حنبل في كتاب فضائله- و هو روايتي عن قريش بن السبيع بن المهنا العلوي عن نقيب الطالبيين أبي عبد الله أحمد بن علي بن المعمر عن المبارك بن عبد الجبار أحمد بن القاسم الصيرفي المعروف بابن الطيوري عن محمد بن علي بن محمد بن يوسف العلاف المزني عن أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه أبي عبد الله أحمد رحمه الله قال قيل لعلي ع يا أمير المؤمنين لم ترقع قميصك- قال ليخشع القلب و يقتدي بي المؤمنون- .
وروى أحمد رحمه الله أن عليا كان يطوف الأسواق مؤتزرا بإزار- مرتديا برداء و معه الدرة كأنه أعرابي بدوي- فطاف مرة حتى بلغ سوق الكرابيس- فقال لواحد يا شيخ بعني قميصا تكون قيمته ثلاثة دراهم- فلما عرفه الشيخ لم يشتر منه شيئا ثم أتى آخر- فلما عرفه لم يشتر منه شيئا فأتى غلاما حدثا- فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم- فلما جاء أبو الغلام أخبره فأخذ درهما- ثم جاء إلى علي ع ليدفعه إليه- فقال له ما هذا أو قال ما شابه هذا- فقال يا مولاي إن القميص الذي باعك ابني كان يساوي درهمين- فلم يأخذ الدرهم و قال باعني رضاي و أخذ رضاه وروى أحمد رحمه الله عن أبي النوار بائع الخام بالكوفة قال جاءني علي بن أبي طالب إلى السوق- و معه غلام له و هو خليفة- فاشترى مني قميصين و قال لغلامه- اختر أيهما شئت فأخذ أحدهما و أخذ علي الآخر- ثم لبسه و مد يده فوجد كمه فاضلة- فقال اقطع الفاضل فقطعته ثم كفه و ذهب- .
و روى أحمد رحمه الله عن الصمال بن عمير قال- رأيت قميص علي ع الذي أصيب فيه و هو كرابيس سبيلاني- و رأيت دمه قد سال عليه كالدردي- . و روى أحمد رحمه الله قال- لما أرسل عثمان إلى علي ع- وجده مؤتزرا بعباءة محتجزا بعقال و هو يهنأ بعيرا له- و الأخبار في هذا المعنى كثيرة و فيما ذكرناه كفاية
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 9