و من خطبة له عليه السّلام
القسم الأول
أَيُّهَا النَّاسُ- إِنَّمَا أَنْتُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيهِ الْمَنَايَا- مَعَ كُلِّ جَرْعَةٍ شَرَقٌ وَ فِي كُلِّ أَكْلَةٍ غَصَصٌ- لَا تَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلَّا بِفِرَاقِ أُخْرَى- وَ لَا يُعَمَّرُ مُعَمَّرٌ مِنْكُمْ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ- إِلَّا بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ- وَ لَا تُجَدَّدُ لَهُ زِيَادَةٌ فِي أَكْلِهِ إِلَّا بِنَفَادِ مَا قَبْلَهَا مِنْ رِزْقِهِ- وَ لَا يَحْيَا لَهُ أَثَرٌ إِلَّا مَاتَ لَهُ أَثَرٌ- وَ لَا يَتَجَدَّدُ لَهُ جَدِيدٌ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَخْلَقَ لَهُ جَدِيدٌ- وَ لَا تَقُومُ لَهُ نَابِتَةٌ إِلَّا وَ تَسْقُطُ مِنْهُ مَحْصُودَةٌ- وَ قَدْ مَضَتْ أُصُولٌ نَحْنُ فُرُوعُهَا- فَمَا بَقَاءُ فَرْعٍ بَعْدَ ذَهَابِ أَصْلِهِ
اللغة
أقول: الغرض: الهدف.
و غرض هذا الفصل ذمّ الدنيا و تقبيحها بذكر معايبها لتخفّ الرغبات فيها و تنصرف إلى ما ورائها من الامور الباقية.
فاستعار لهم لفظ الغرض، و وجه الاستعارة كونهم مقصودين بسهام المنيّة من سائر الأمراض و الأغراض كما يقصد الغرض بالسهام، و أسند الانتضال إلى المنايا مجازا لأنّ القاصد لهم بالأمراض هو فاعلها بهم.
فكان المجاز هاهنا في الإفراد و التركيب. ثمّ كنّى بالجرعة و الأكلة عن لذّات الدنيا، و بالشرق و الغصص عمّا في كلّ منها من شوب الكدورات اللازمة لها طبعا من الأمراض و المخاوف و سائر المنغّصات لها. و قوله: لا تنالون نعمة إلّا بفراق اخرى. فيه لطف: و هو إشارة إلى أنّ كلّ نوع من نعمة فإنّما يتجدّد شخص منها و يلتذّ به بعد مفارقة مثله كلذّة اللقمة مثلا فإنّها تستدعى فوت اللذّة باختها السابقة، و كذلك لذّة ملبوس شخصىّ أو مركوب شخصىّ، و سائر ما يعدّ نعما دنيويّة ملتذّا بها فإنّها إنّما تحصل بعد مفارقة ما سبق من أمثالها بل و أعمّ من ذلك فإنّ الإنسان لا يتهيّأ له الجمع بين الملاذّ الجسمانيّة في وقت واحد بل و لا اثنين منها فإنّه حال ما يكون آكلا لا يكون مجامعا أو حال ما هو في لذّة الأكل لا يكون يلتذّ بمشروب، و حال ما يكون جالسا على فراشه الوثير لا يكون راكبا المنزهة. و نحو ذلك. و بالجملة لا يكون مشغولا بنوع من الملاذّ الجسمانيّة إلّا و هو تارك لغيره، و ما استلزم مفارقة نعمة اخرى لا يعدّ في الحقيقة نعمة ملتذّا بها، و كذلك قوله: و لا يعمّر معمّر منكم. إلى قوله: أجله. لأنّ السرور بالبقاء إلى يوم معيّن لا يصل إليه إلّا بعد انقضاء ما قبله من الأيّام المحسوسة من عمره.
فإذا هدم من عمره يوما فيكون لذّته في الحقيقة ببقائه مستلزما لقربه من الموت و ما استلزم القرب من الموت فلا لذّة فيه عند الاعتبار، و كذلك قوله: و لا تجدّد له زيادة في أكله إلّا بنفاد ما قبلها من رزقه: أى من رزقه المعلوم أنّه رزقه و هو ما وصل إلى جوفه مثلا فإنّ ما لم يصل جاز أن يكون رزقا لغيره. و قد علمت أنّ الإنسان لا يأكل لقمة حتّى يفنى ما قبلها فهو إذن لا يتجدّد له زيادة في أكله إلّا بنفاد رزقه السابق، و ما استلزم نفاد الرزق لم يكن لذيذا في الحقيقة، و روى: اكلة.
و يحتمل أن يريد أنّه إذا تجدّدت له جهة رزق فتوجّه فيها طالبا له كان ذلك التوجّه مستلزما لانصرافه عمّا قبلها من الجهات و انقطاع رزقه من جهتها، و اللفظ مهمل يصدق و لو في بعض الناس فلا تجب الكلّيّة، و كذلك قوله: و لا يحيى له أثر إلّا مات له أثر. و أراد بالأثر الذكر أو الفعل فإنّ ما كان يعرف به الانسان في وقت ما من فعل محمود أو مذموم أو ذكر حسن أو قبيح و يحيى له بين الناس يموت منه ما كان معروفا به قبله من الآثار و ينسى، و كذلك لا يتجدّد له جديد من زيادات بدنه و نقصانه و أوقاته إلّا بعد أن يخلق له جديد بتحلّل بدنه و معاقبة شيخوخته بشبابه و مستقبل أوقاته لسالفها، و كذلك لا تقوم له نابتة إلّا بعد أن تسقط منه محصودة، و استعار لفظ النابتة لمن ينشأ من أولاده و أقربائه، و لفظ المحصودة لمن يموت من آبائه و أهله. و لذلك قال: و قد مضت اصول يعنى الآباء و نحن فروعها. ثمّ استفهم على سبيل التعجّب عن بقاء الفرع بعد ذهاب أصله. و قد صرّح أبو العتاهيّة بهذا المعنى حيث قال:
كلّ حياة إلى ممات و كلّ ذى جدّة يحول
كيف بقاء الفروع يوما
و ذوّب قبلها الاصول
القسم الثاني منها
وَ مَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلَّا تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ- فَاتَّقُوا الْبِدَعَ وَ الْزَمُوا الْمَهْيَعَ- إِنَّ عَوَازِمَ الْأُمُورِ أَفْضَلُهَا- وَ إِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَا
اللغة
أقول: المهيع. الطريق الواسع. و العوازم: جمع عوزم و هي العجوز المسنّة.
المعنى
و المراد بالبدعة كلّ ما احدث ممّا لم يكن على عهد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و قد اشتمل هذا الفصل على وجه ترك البدعة، و برهان استلزام إحداث البدعة لترك السنّة أنّ عدم إحداث البدع سنّته لقوله صلى اللّه عليه و آله و سلم: كلّ بدعة حرام. فكان إحداثها مستلزما لترك تلك السنّة. ثمّ على أمرهم بتقوى البدع: أى خشية عواقبها.
ثمّ بلزوم الطريق الواضح، و هي سبيل اللّه و شريعته، و أراد بعوازم الامور: إمّا قديمها و هو ما كان عليه عهد النبوّة. و إمّا جوازمها و هي المقطوع بها دون المحدثات منها الّتي هي محلّ الشبهة و الشكّ. و يرجّح الأوّل المقابلة بمحدثاتها. و جهة وصفها بكونها شرارا كونها محلّ الشبهة و خارجة عن قانون الشريعة فكانت مستلزمة للهرج و المرج و أنواع الشرور. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 191