144 و من خطبة له ع
بَعَثَ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ- وَ جَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ- لِئَلَّا تَجِبَ الْحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْكِ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ- فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ- أَلَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَشَفَ الْخَلْقَ كَشْفَةً- لَا أَنَّهُ جَهِلَ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونِ أَسْرَارِهِمْ- وَ مَكْنُونِ ضَمَائِرِهِمْ- وَ لَكِنْ لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا- فَيَكُونَ الثَّوَابُ جَزَاءً وَ الْعِقَابُ بَوَاءً- أَيْنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دُونَنَا- كَذِباً وَ بَغْياً عَلَيْنَا أَنْ رَفَعَنَا اللَّهُ وَ وَضَعَهُمْ- وَ أَعْطَانَا وَ حَرَمَهُمْ وَ أَدْخَلَنَا وَ أَخْرَجَهُمْ- بِنَا يُسْتَعْطَى الْهُدَى وَ يُسْتَجْلَى الْعَمَى- إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ- غُرِسُوا فِي هَذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِمٍ لَا تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ- وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ مِنْ غَيْرِهِمْ أول الكلام مأخوذ من قوله سبحانه- رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ- لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ- و قوله تعالى وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا- .
فإن قلت فهذا يناقض مذهب المعتزلة- في قولهم بالواجبات عقلا و لو لم تبعث الرسل- . قلت صحة مذهبهم تقتضي أن تحمل عموم الألفاظ- على أن المراد بها الخصوص- فيكون التأويل- لئلا يكون للناس على الله حجة- فيما لم يدل العقل على وجوبه و لا قبحه كالشرعيات- و كذلك وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا- على ما لم يكن العقل دليلا عليه حتى نبعث رسولا- . الإعذار تقديم العذر ثم قال- إن الله تعالى كشف الخلق بما تعبدهم به- من الشرعيات على ألسنة الأنبياء- و لم يكن أمرهم خافيا عنه- فيحتاج إلى أن يكشفهم بذلك- و لكنه أراد ابتلاءهم و اختبارهم- ليعلم أيهم أحسن عملا- فيعاقب المسيء و يثيب المحسن- .
فإن قلت الإشكال قائم- لأنه إذا كان يعلم أيهم يحسن و أيهم يسيء- فما فائدة الابتلاء و هل هو إلا محض العبث- قلت فائدة الابتلاء إيصال نفع إلى زيد- لم يكن ليصح إيصاله إليه إلا بواسطة هذا الابتلاء- و هو ما يقوله أصحابنا- إن الابتلاء بالثواب قبيح- و الله تعالى يستحيل أن يفعل القبيح- . قوله و للعقاب بواء أي مكافأة- قالت ليلى الأخيلية-
فإن تكن القتلى بواء فإنكم
فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر
و أبأت القاتل بالقتيل و استبأته أيضا إذا قتلته به- و قد باء الرجل بصاحبه أي قتل به-و في المثل باءت عرار بكحل و هما بقرتان- قتلت إحداهما بالأخرى و قال مهلهل لبجير لما قتل- بؤ بشسع نعل كليب- . قوله ع أين الذين زعموا- هذا الكلام كناية و إشارة إلى قوم من الصحابة- كانوا ينازعونه الفضل- فمنهم من كان يدعي له أنه أفرض- و منهم من كان يدعي له أنه أقرأ- و منهم من كان يدعي له أنه أعلم بالحلال و الحرام- هذا مع تسليم هؤلاء له أنه ع أقضى الأمة- و أن القضاء يحتاج إلى كل هذه الفضائل- و كل واحدة منها لا تحتاج إلى غيرها- فهو إذن أجمع للفقه و أكثرهم احتواء عليه- إلا أنه ع لم يرض بذلك- و لم يصدق الخبر الذي قيل- أفرضكم فلان إلى آخره- فقال إنه كذب و افتراء حمل قوما على وضعه الحسد- و البغي و المنافسة لهذا الحي من بني هاشم- أن رفعهم الله على غيرهم و اختصهم دون من سواهم- .
و أن هاهنا للتعليل أي لأن- فحذف اللام التي هي أداة التعليل على الحقيقة- قال سبحانه- لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ- أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ- و قال بعض النحاة لبعض الفقهاء- الزاعمين أن لا حاجة للفقه إلى النحو- ما تقول لرجل قال لزوجته- أنت طالق إن دخلت الدار- فقال لا يقع إلا بالدخول- فقال فإن فتح الهمزة قال كذلك- فعرفه أن العربية نافعة في الفقه- و أن الطلاق منجز لا معلق- إن كان مراده تعليل الطلاق بوقوع الدخول لاشتراطه به- . ثم قال بنا يستعطى الهدى أي يطلب أن يعطى- و كذلك يستجلى أي يطلب جلاؤه- .ثم قال إن الأئمة من قريش إلى آخر الفصل
اختلاف الفرق الإسلامية في كون الأئمة من قريش
و قد اختلف الناس في اشتراط النسب في الإمامة- فقال قوم من قدماء أصحابنا- إن النسب ليس بشرط فيها أصلا- و إنها تصلح في القرشي و غير القرشي- إذا كان فاضلا مستجمعا للشرائط المعتبرة- و اجتمعت الكلمة عليه و هو قول الخوارج- . و قال أكثر أصحابنا و أكثر الناس- إن النسب شرط فيها- و إنها لا تصلح إلا في العرب خاصة- و من العرب في قريش خاصة- و قال أكثر أصحابنا معنى
قول النبي ص الأئمة من قريش- أن القرشية شرط إذا وجد في قريش من يصلح للإمامة- فإن لم يكن فيها من يصلح- فليست القرشية شرطا فيها- . و قال بعض أصحابنا- معنى الخبر أنه لا تخلو قريش أبدا ممن يصلح للإمامة- فأوجبوا بهذا الخبر وجود من يصلح من قريش لها- في كل عصر و زمان- .
و قال معظم الزيدية- إنها في الفاطميين خاصة من الطالبيين- لا تصلح في غير البطنين- و لا تصح إلا بشرط أن يقوم بها- و يدعو إليها فاضل زاهد عالم عادل شجاع سائس- و بعض الزيدية يجيز الإمامة في غير الفاطميين من ولد علي ع- و هو من أقوالهم الشاذة- . و أما الراوندية فإنهم خصصوها بالعباس رحمه الله- و ولده من بين بطون قريش كلها- و هذا القول هو الذي ظهر في أيام المنصور و المهدي- و أما الإمامية فإنهم جعلوها سارية في ولد الحسين ع- في أشخاص مخصوصين- و لا تصلح عندهم لغيرهم- . و جعلها الكيسانية في محمد بن الحنفية و ولده- و منهم من نقلها منه إلى ولد غيره- .
فإن قلت إنك شرحت هذا الكتاب- على قواعد المعتزلة و أصولهم- فما قولك في هذاالكلام- و هو تصريح بأن الإمامة لا تصلح من قريش- إلا في بني هاشم خاصة- و ليس ذلك بمذهب للمعتزلة- لا متقدميهم و لا متأخريهم- . قلت هذا الموضع مشكل و لي فيه نظر- و إن صح أن عليا ع قاله- قلت كما قال لأنه ثبت عنديأن النبي ص قال إنه مع الحق و أن الحق يدور معه حيثما دار- و يمكن أن يتأول و يطبق على مذهب المعتزلة- فيحمل على أن المراد به كمال الإمامة- كما حملقوله ص لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد
على نفي الكمال- لا على نفي الصحة
مِنْهَا- آثَرُوا عَاجِلًا وَ أَخَّرُوا آجِلًا- وَ تَرَكُوا صَافِياً وَ شَرِبُوا آجِناً- كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى فَاسِقِهِمْ وَ قَدْ صَحِبَ الْمُنْكَرَ فَأَلِفَهُ- وَ بَسِئَ بِهِ وَ وَافَقَهُ حَتَّى شَابَتْ عَلَيْهِ مَفَارِقُهُ- وَ صُبِغَتْ بِهِ خَلَائِقُهُ- ثُمَّ أَقْبَلَ مُزْبِداً كَالتَّيَّارِ لَا يُبَالِي مَا غَرَّقَ- أَوْ كَوَقْعِ النَّارِ فِي الْهَشِيمِ لَا يَحْفِلُ مَا حَرَّقَ- أَيْنَ الْعُقُولُ الْمُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِيحِ الْهُدَى- وَ الْأَبْصَارُ اللَّامِحَةُ إِلَى مَنَازِلِ التَّقْوَى- أَيْنَ الْقُلُوبُ الَّتِي وُهِبَتْ لِلَّهِ وَ عُوقِدَتْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ- ازْدَحَمُوا عَلَى الْحُطَامِ وَ تَشَاحُّوا عَلَى الْحَرَامِ- وَ رُفِعَ لَهُمْ عَلَمُ الْجَنَّةِ وَ النَّارِ- فَصَرَفُوا عَنِ الْجَنَّةِ وُجُوهَهُمْ- وَ أَقْبَلُوا إِلَى النَّارِ بِأَعْمَالِهِمْ- وَ دَعَاهُمْ رَبُّهُمْ فَنَفَرُوا وَ وَلَّوْا- وَ دَعَاهُمُ الشَّيْطَانُ فَاسْتَجَابُوا وَ أَقْبَلُوا
آثروا اختاروا و أخروا تركوا الآجن- الماء المتغير أجن الماء يأجن و يأجن- . و بسئ به ألفه و ناقة بسوء ألفت الحالب و لا تمنعه- و شابت عليه مفارقه طال عهده به مذ زمن الصبا حتى صار شيخا- و صبغت به خلائقه ما صارت طبعا لأن العادة طبيعة ثانية- . مزبدا أي ذو زبد- و هو ما يخرج من الفم كالرغوة- يضرب مثلا للرجل الصائل المقتحم- . و التيار معظم اللجة و المراد به هاهنا السيل- و الهشيم دقاق الحطب- . و لا يحفل بفتح حرف المضارعة- لأن الماضي ثلاثي أي لا يبالي- . و الأبصار اللامحة الناظرة- و تشاحوا تضايقوا كل منهم يريد ألا يفوته ذلك- و أصله الشح و هو البخل- .
فإن قلت هذا الكلام يرجع إلى الصحابة- الذين تقدم ذكرهم في أول الخطبة- . قلت لا و إن زعم قوم أنه عناهم- بل هو إشارة إلى قوم ممن يأتي من الخلف بعد السلف- أ لا تراه قال- كأني أنظر إلى فاسقهم قد صحب المنكر فألفه- و هذا اللفظ إنما يقال في حق من لم يوجد بعد- كما قال في حق الأتراك- كأني أنظر إليهم قوما كأن وجوههم المجان- و كما قال في حق صاحب الزنج- كأني به يا أحنف قد سار في الجيش- و كما قال في الخطبة التي ذكرناها آنفا- كأني به قد نعق بالشام يعني به عبد الملك- و حوشي ع أن يعني بهذا الكلام الصحابة- لأنهم ما آثروا العاجل و لا أخروا الآجل- و لا صحبوا المنكر و لا أقبلوا كالتيار- لا يبالي ما غرق و لا كالنار لا تبالي ما أحرقت- و لا ازدحموا على الحطام و لا تشاحوا على الحرام- و لا صرفوا عن الجنة وجوههم- و لا أقبلواإلى النار بأعمالهم- و لا دعاهم الرحمن فولوا- و لا دعاهم الشيطان فاستجابوا- و قد علم كل أحد حسن سيرتهم- و سداد طريقتهم و إعراضهم عن الدنيا و قد ملكوها- و زهدهم فيها و قد تمكنوا منها- و لو لا قوله كأني أنظر إلى فاسقهم- لم أبعد أن يعني بذلك قوما ممن عليه اسم الصحابة- و هو رديء الطريقة- كالمغيرة بن شعبة و عمرو بن العاص- و مروان بن الحكم و معاوية- و جماعة معدودة أحبوا الدنيا و استغواهم الشيطان- و هم معدودون في كتب أصحابنا- و من اشتغل بعلوم السيرة و التواريخ عرفهم بأعيانهم
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 9