و من كلام له عليه السّلام في النهى عن غيبة الناس
وَ إِنَّمَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِصْمَةِ وَ الْمَصْنُوعِ إِلَيْهِمْ فِي السَّلَامَةِ- أَنْ يَرْحَمُوا أَهْلَ الذُّنُوبِ وَ الْمَعْصِيَةِ- وَ يَكُونَ الشُّكْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ- وَ الْحَاجِزَ لَهُمْ عَنْهُمْ- فَكَيْفَ بِالْعَائِبِ الَّذِي عَابَ أَخَاهُ وَ عَيَّرَهُ بِبَلْوَاهُ- أَ مَا ذَكَرَ مَوْضِعَ سَتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِ- مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عَابَهُ بِهِ- وَ كَيْفَ يَذُمُّهُ بِذَنْبٍ قَدْ رَكِبَ مِثْلَهُ- فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَكِبَ ذَلِكَ الذَّنْبَ بِعَيْنِهِ- فَقَدْ عَصَى اللَّهَ فِيمَا سِوَاهُ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَاهُ فِي الْكَبِيرِ- وَ عَصَاهُ فِي الصَّغِيرِ لَجُرْأَتُهُ عَلَى عَيْبِ النَّاسِ أَكْبَرُ- يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَدٍ بِذَنْبِهِ- فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَ لَا تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِيرَ مَعْصِيَةٍ- فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ- فَلْيَكْفُفْ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عَيْبَ غَيْرِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَيْبِ نَفْسِهِ- وَ لْيَكُنِ الشُّكْرُ شَاغِلًا لَهُ عَلَى مُعَافَاتِهِ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ غَيْرُهُ
المعنى
أقول: أهل العصمة هم الّذين أعانهم اللّه سبحانه على قهر نفوسهم الأمّارة بالسوء حتّى صارت أسيرة في أيدى نفوسهم العاقلة فحصلوا من ذلك على ملكة ترك الذنوب و الانزجار عن ولوج أبواب المحارم، و اولئك هم الّذين اصطنع اللّه إليهم السلامة من الانحراف عن سبيله و الوقوع في مهاوى الهلاك. فنبّههم أوّلا على ما ينبغي لهم و هو أن يرحموا أهل الذنوب. و حصول تلك الرحمة منهم باعتبارهم حال العصاة و وقوعهم في مهاوى الهلاك. و من عادة عباد اللّه الرحمة لمن يرونه في مهلكة بإنقاذه و إعانته على الخروج منها، و أن يكون الشكر هو الغالب عليهم و الحاجز لهم، و ذلك باعتبارهم عند مشاهدة أهل المعاصى لما أنعم اللّه به عليهم من إعانته لهم على قهر شياطينهم الّتى هى موادّ الذنوب.
و قوله: فكيف بالغايب. شروع في تنبيه من هو دون أهل العصمة ممّن يرتكب كبيرة أو صغيرة على ما ينبغي له من ترك الغيبة فكأنّه قال: فهذا هو ما ينبغي لأهل العصمة فكيف يليق بغيرهم ممّن يعيب أخاه و يعيّره ببلواه بل ينبغي لمثله أن يترك الغيبة و يشكر اللّه بالطريق الأولى. و ذلك باعتبار ستر اللّه عليه من ذنوبه ما هو أعظم ممّا عيّر أخاه به.
و تلك نعمة اللّه يجب شكره عليها، و أشار بموضع ستر اللّه عليه إلى النعمة المصطنعة عنده و هى تأهيله و إعداده له، و الاستفهام على سبيل الإنكار أخذ بالتعجّب من ذمّ العائب لأخيه على ذنب. و هو في صورة احتجاج عليه في ارتكابه لهذا الذنب، و ذلك قوله: و كيف يذمّه. إلى قوله: يا عبد اللّه. فكأنّه يقول: لا يجوز لأحد أن يعيب أخاه لأنّه إمّا أن يكون بذنب قد ركب العائب مثله أو أكبر منه أو أصغر. فإن كان بذنب قد ركب مثله أو أكبر كان له في عيبه لنفسه شغل عن عيب غيره، و إن كان ارتكب أصغر منه فهو ممنوع على تقدير جرأته على الغيبة و صدوره عنه لأنّها من الكباير، و إنّما قال: هى أكبر ما عند اللّه. إمّا مبالغة أو لأنّ المفاسد الّتى يشتمل عليها ارتكاب ساير المنهيّات جزئيّة و مفسدة الغيبة كلّيّة لأنّه لمّا كان من المقاصد المهمّة للشارع اجتماع النفوس على همّ واحد و طريقة واحدة و هى سلوك سبيل اللّه بساير وجوه الأوامر و النواهى و لن يتمّ ذلك إلّا بتعاون هممهم و تصافي بواطنهم و اجتماعهم على الالفة و المحبّة حتّى يكونوا بمنزلة عبد واحد في طاعة مولاه، و لن يتمّ ذلك إلّا بنفى الضغائن و الأحقاد و الحسد و نحوه، و كانت الغيبة من كلّ منهم لأخيه مشيرة لضغنه و مستدعية منه مثلها في حقّه لا جرم كانت ضدّ المقصود الكلّىّ للشارع فكانت مفسدة كلّيّة، و لذلك أكثر اللّه تعالى و رسوله من النهى عنها كقوله تعالى «وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً»«» حتّى استعار لما يقترضه الغائب من عرض أخيه لفظ اللحم و زاده تقبيحا و تكريها بصفة الميّت فقال «أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً» و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إيّاكم و الغيبة فإنّ الغيبة أشدّ من الزنا إنّ الرجل يزني فيتوب اللّه عليه و إنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفر له صاحبه، و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مررت ليلة اسرى بى فرأيت قوما يخمشون وجوههم بأظافيرهم فسألت جبرئيل عنهم.
فقال: هؤلاء الّذين يغتابون الناس، و في حديث البراء بن عاذب: خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى أسمع العواتق في بيوتهنّ. فقال: ألا لا تغتابوا المسلمين و لا تتّبعوا عوراتهم فمن تتّبع عورة أخيه تتّبع اللّه عورته و من تتّبع اللّه عورته يفضحه في جوف بيته. ثمّ نهى عن الاستعجال و التسرّع إلى العيب، و نبّه على وجوب ذلك الاحتمال [لانتهاء- خ- ] باحتمال أن يكون الذنب الّذي يعيب أخاه به مغفورا له و إن كان كبيرا، و ذلك لاحتمال أن يكون حالة لم تتمكّن من جوهر نفسه، و نهى عن أن يأمن على نفسه صغير معصية يرتكبها لاحتمال أن يعذّب عليها لصيرورتها ملكة متمكّنة من جوهر نفسه. ثمّ عاد إلى الأمر بالكفّ عن العيب باعتبار ما يعلم الإنسان من عيب نفسه، و أن يكون الشكر للّه دأبه على السلامة من التورّط في مورد الهلكة الّذي سلكه صاحب الذنب و ابتلاه اللّه به.
و اعلم أن تعريف الغيبة يعود إلى ذكر الإنسان بما يكره نسبته إليه ممّا يعدّ نقصانا في العرف ذكرا على سبيل قصد الانتقاص و الذمّ سواء كان ذلك النقصان عدم كمال بدنىّ كالعور و العمى، أو نفسانىّ كالجهل و الشره و الظلم، أو عدم كمال من خارج كسقوط الأصل و دناءة الآباء. و احترزنا بالقيد الأخير في تعريفها و هو قصد الانتقاص عن ذكر العيب للطبيب مثلا أو لاستدعاء الرحمة من السلطان في حقّ الزمن و الأعمى بذكر نقصانهما. ثمّ الغيبة قد تكون باللسان و هي الحقيقيّة، و قد تكون بالإشارة و غيرها من ساير ما يعلم به انتقاص أخيك و التنبيه على عيبه، و تسمّى غيبة مجازا لقيامها مقام الغيبة. و لها أسباب غائيّة: أحدها: شفاء الغيظ. فانّ الإنسان كثيرا ما يشفى غيظه بذكر مساوى من غاظه. الثاني: المباهاة و التفاضل كما يقول من يتعاطى الإنشاء و الشعر: كلام فلان ركيك و شعره بارد. الثالث: اللعب و الهزل و ترجية الوقت فيذكر غيره بما يضحك الحاضرين. الرابع: أن يستشعر من غيره أنّه سيذمّه عند السلطان مثلا فيقصد سبقه بذكر مساويه ليسقط شهادته عنده عليه، و قد تكون لها غايات أخر. و قد وردت الرخصة في غيبة الفاسق المتجاهر بفسقه كالخمّار و المخنّث و العشّار الّذي ربّما يفتخر بعيبه و لا يستحيى منه. قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له. لكن تركها إلى السكوت أولى. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 176