و من كلام له عليه السّلام لأبى ذر رحمه اللّه لما اخرج إلى الربذة
يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ غَضِبْتَ لِلَّهِ فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ- إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ وَ خِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ- فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ- وَ اهْرُبْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ- فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ- و مَا أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ- وَ سَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابِحُ غَداً وَ الْأَكْثَرُ حُسَّداً- وَ لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْدٍ رَتْقاً- ثُمَّ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً- لَا يُؤْنِسَنَّكَ إِلَّا الْحَقُّ- وَ لَا يُوحِشَنَّكَ إِلَّا الْبَاطِلُ- فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لَأَحَبُّوكَ- وَ لَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لَأَمَّنُوكَ
المعنى
أقول: أبوذرّ: اسمه جندب بن جنادة، و هو من بنى غفار قبيلة من كنانه، و أسلم بمكّة و لم يشهد بدرا و لا الخندق لأنّه حين أسلم رجع إلى بلاد قومه فأقام حتّى مضت [قامت خ] هذه المشاهد. ثمّ قدم المدينة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كانّ يتولّى عليّا و أهل بيته، و هو الّذي قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حقّه: ما أقلّت الغبراء و لا أظلّت الخضراء على ذى لهجة أصدق من أبى ذرّ، و روى ابن المعمّر عنه قال: رأيت أباذرّ آخذا بحلقة باب الكعبة و هو يقول: أنا أبوذرّ الغفارىّ فمن لم يعرفني فأنا جندب صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول: مثل أهل بيتى كمثل سفينة نوح من ركبها نجى و من تخلّف عنها غرق. و كان قد أخرجه عثمان إلى الربذة، و هى موضع قريب إلى المدينة. و اختلف في سبب إخراجه فروى عن زيد بن وهب أنّه قال: قلت لأبى ذرّ- رحمة اللّه عليه- و هو بالربذة: ما أنزلك هذا المنزل قال: اخبرك أنّى كنت بالشام في أيّام معاوية فذكرت قوله تعالى «وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ» الاية«» فقال معاوية هذه نزلت في أهل الكتاب. قلت: بل فينا و فيهم. فكتب معاوية إلى عثمان يشكومنّى في ذلك فكتب إلىّ أن أقدم علىّ فقدمت عليه فامثال الناس علىّ كأنّهم لم يعرفوني فشكوت ذلك إلى عثمان فخيّرنى فقال: أنزل حيث شئت فنزلت الربذة. و هذا قول من نزّه عثمان عن ظلم أبى ذرّ و نفيه. إذ كان خروجه إلى الربذة باختياره، و قيل: بل كان يغلّظ القول في إنكار ما يراه منكرا و في حقّ عثمان، و يقول: لم تبق أصحاب محمّد على ما عهد. و ينفرّ بهذا القول و أمثاله عنه. فأخرجه لذلك، و خطابه عليه السّلام لأبى ذرّ أليق بالقول الثاني.
فقوله: إنّك عضبت للّه. شهادة له أنّ إنكاره لما ينكره إنّما يقصد به وجه اللّه تعالى. و قوله: إنّ القوم خافوك على دنياهم. أى على أمر الخلافة بالتنفير عنهم، و خفتهم على دينك باجتناب موافقتهم و أخذ عطائهم على غير السنّة. و قوله: فاترك. إلى قوله: منعوك. أى اترك لهم دنياهم و انج بدينك فما أحوجهم إلى دينك و أغناك عن دنياهم. و قوله: ستعلم من الرابح غدا و الأكثر حسّدا. أشار به إلى يوم القيامة، و ظاهر كون تارك الدنيا أربح من المقبل عليها. و أكثريّة الحسّد من لواحق أكثريّة الربح. و قوله: و لو أنّ السماوات. إلى قوله: مخرجا. بشارة له بخلاصه ممّا هو فيه من ضيق الحال بسبب الإخراج، و شرط في ذلك تقوى اللّه إشارةً إلى قوله تعالى «وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً»«» قال ابن عبّاس قرء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من يتّق اللّه يجعل له مخرجا، قال: من شبهات الدنيا، و من غمرات الموت و شدائد يوم القيامة. و ظاهر كون التقوى عند استشعارها سببا قاطعا لطمع المتّقى من الدنيا و قيناتها، و هو مستلزم لراجيه من مجاذبة النفس الأمّارة بالسوء عن الوقوع في شبهات الدنيا، و هى في استلزام الخلاص من غمرات الموت و شدائد يوم القيامة أظهر، و كنّى عليه السّلام بالغاية المذكورة و هي رتق السماوات و الأرض على العبد عن غاية الشدّة مبالغة ليتبيّن فضل التقوى، ثمّ أمره بالاستيناس بالحقّ وحده، و الاستيحاش من الباطل وحده. و أكّد الحصر في الموضعين بقوله: وحده. تنفيرا عن أن يستوحش من حقّ ما فيترك و ينفر عنه و إن صعب و شقّ على النفس، أو يستأنس بباطل ما فيفعل أو يسكت عليه و إن لذّ لها. و نبّه على علّة بغضهم و إخافتهم له و هو عدم مشاركتهم في دنياهم و الانفراد بالإنكار و غلظة القول عليهم، و كنّى بالقرض من الدنيا عن الأخذ. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 145