و من خطبة له عليه السّلام
و قد قام إليه رجل من أصحابه فقال:
نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فلم ندر أى الأمرين أرشد فصفق عليه السلام إحدى يديه على الأخرى ثم قال:
هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْعُقْدَةَ- أَمَا وَ اللَّهِ لَوْ أَنِّي حِينَ أَمَرْتُكُمْ- بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الْمَكْرُوهِ- الَّذِي يَجْعَلُ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً- فَإِنِ اسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ- وَ إِنِ اعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُكُمْ- وَ إِنْ أَبَيْتُمْ تَدَارَكْتُكُمْ لَكَانَتِ الْوُثْقَى- وَ لَكِنْ بِمَنْ وَ إِلَى مَنْ- أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُمْ وَ أَنْتُمْ دَائِي- كَنَاقِشِ الشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ- وَ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا مَعَهَا- اللَّهُمَّ قَدْ مَلَّتْ أَطِبَّاءُ هَذَا الدَّاءِ الدَّوِيِّ- وَ كَلَّتِ النَّزَعَةُ بِأَشْطَانِ الرَّكِيِّ- أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَبِلُوهُ- وَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ- وَ هِيجُوا إِلَى الْجِهَادِ فَوَلِهُوا- وَلَهَ اللِّقَاحِ إِلَى أَوْلَادِهَا- وَ سَلَبُوا السُّيُوفَ أَغْمَادَهَا- وَ أَخَذُوا بِأَطْرَافِ الْأَرْضِ زَحْفاً زَحْفاً- وَ صَفّاً صَفّاً بَعْضٌ هَلَكَ وَ بَعْضٌ نَجَا- لَا يُبَشَّرُونَ بِالْأَحْيَاءِ- وَ لَا يُعَزَّوْنَ عَنِ الْمَوْتَى- مُرْهُ الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ- خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ- ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنَ الدُّعَاءِ- صُفْرُ الْأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ- عَلَى وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعِينَ- أُولَئِكَ إِخْوَانِي الذَّاهِبُونَ- فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ- وَ نَعَضَّ الْأَيْدِي عَلَى فِرَاقِهِمْ- إِنَّ الشَّيْطَانَ يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ- وَ يُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً- وَ يُعْطِيَكُمْ بِالْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةَ- فَاصْدِفُوا عَنْ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ- وَ اقْبَلُوا النَّصِيحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَيْكُمْ- وَ اعْقِلُوهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ
اللغة
أقول: الضلع بفتح الضاد و سكون اللام: الميل و الهوى. و الداء الدوىّ: الشديد- وصف بما هو من لفظه. و الذوىّ: اسم فاعل من دوى إذا مرض. و النزعة: المستقون. و الركىّ: جمع ركيّة و هى البئر. و مره: جمع مارهة و هى العين الّتى فسدت: أى عيونهم مارهة. و سنّى له كذا: حسّنه و سهّله. و عقلت عليه كذا: أى حبسته عليه.
المعنى
و كان هذا الكلام منه عليه السّلام بصفّين حين أمرهم بالحكومة بعد أن نهاهم عنها، و السبب أنّ معاوية لمّا أحسّ بالعجز و ظفر علىّ عليه السّلام به ليلة الهرير راجع عمرو بن العاص. فقال: إنّى خبأت لك رأيا لمثل هذا الوقت و هو أن تأمر أصحابك برفع المصاحف على الأرماح و يدعوا أصحاب علىّ إلى المحاكمة إلى كتاب اللّه فإنّهم إن فعلوا افترقوا و إن لم يفعلوا افترقوا، و كان الأشتر صبيحة تلك الليلة قد أشرف على الظفر فلمّا أصبحوا رفعوا المصاحف الكبيرة بالجامع الأعظم على عشرة أرماح و هم يستغيثون: معاشر المسلمين اللّه في إخوانكم في الدين حاكمونا إلى كتاب اللّه، اللّه اللّه في النساء و البنات. فقال أصحاب علىّ عليه السّلام: إخواننا و أهل دعوتنا استقالونا و استراحونا إلى كتاب اللّه فالرأى النفيس كشف لكربه عنهم فغضب عليه السّلام من هذا الرأى. فقال: إنّها كلمة حقّ يراد بها باطل. كما سبق القول فيه. فافترق أصحابه فريقين: منهم من رأى رأيه عليه السّلام في الإصرار على الحرب، و منهم من رأى ترك الحرب و الرجوع إلى الحكومة و كانوا كثيرين فاجتمعوا إليه عليه السّلام.
فقالوا: إن لم تفعل قتلناك كما قتلنا عثمان فرجع إلى قولهم و أمر بردّ الأشتر عن الحرب. ثمّ كتبوا كتاب الصلح و طافوا به في أصحابه عليه السّلام و اتّفقوا على الحكومة فخرج بعض أصحابه من هذا الأمر و قالوا: كنت نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها فما ندرى أىّ الأمرين أرشد. و هذا يدلّ على أنّك شاكّ في إمامة نفسك. فصفق بإحدى يديه على الاخرى فعل النادم غضبا من قولهم، و قال: هذا جزاء من ترك العقدة: أى عقدة الأمر الّذي عقده و أحكمه و هو الرأى في الحرب و الإصرار عليها، و الّذي كان أمرهم به هو البقاء على الحرب، و هو المكروه الّذي يجعل اللّه فيه خيرا من الظفر و سلامة العاقبة. و قوّمتكم: أى بالقتل و الضرب و نحوه، و كذلك معنى قوله: تداركتكم. و قوله: لكانت الوثقى.
أى الفعلة المحكمة. و قوله: و لكن بمن أى بمن كنت أستعين عليكم، و إلى من أى إلى من أرجع في ذلك. و قوله: اريد أن اداوى بكم. أى اريد أن اداوى ما بى من بعضكم ببعض، و أنتم دائى. فأكون في ذلك كناقش الشوكة بالشوكة و هو يعلم أنّ ضلعها معها، و هذا مثل تضربه العرب لمن يستعان به في إصلاح من يراد إصلاحه و ميله إلى المستعان عليه يقال: لا تنقش الشوكة بالشوكة فإنّ ضلعها معها. يقول: إنّ استعانتى ببعضكم في إصلاح بعض كنقش الشوكة بالشوكة، و وجه المشابهة أنّ طباع بعضكم يشبه طباع بعض و يميل إليها كما تشبه الشوكة الشوكة و تميل إليها فربّما انكسرت معها في العضو و احتاجت إلى منقاش آخر. ثمّ رجع إلى الشكاية إلى اللّه، و أراد بالداء الدوىّ ما هم عليه من الاعتياد المخالفة لأمره و تثاقلهم عن صوته، و بالأطبّاء نفسه. فإنّ داء الجهل و ما يستلزمه أعظم من سائر الأدواء المحسوسة، و فضل أطبّاء النفوس على أطبّاء الأبدان بقدر شرف النفوس على الأبدان، و هى استعارة تكاد أن تكون حقيقة، و كذلك استعارة لفظ النزعة له مثل ضربه لنفسه معهم فكأنّهم عن المصلحة في قعر بئر عميق قد كلّ هو من جذبهم إليها. ثمّ أخذ في السؤال عن إخوانه من أكابر الصحابة الّذين بذلوا جهدهم في نصرة الدين و أعرضوا عن الدنيا استفهاما على سبيل التوبيخ لفقدهم، و هذا كما يقول أحدنا إذا وقع في شدّة أين أخى عنّى ثمّ وصفهم بالأوصاف الحميدة ترغيبا للسامعين في مثل حالهم و إزراءً عليهم حيث لم يكونوا بهذه الأوصاف، و ذلك بطريق المفهوم. و قوله: أولادها. نصب بإسقاط الجارّ. إذ الفعل و هو قوله: و لهوا. غير متعدّى إلى مفعولين بنفسه، و في الخبر: لا توله والدة بولدها. و تولّههم لها بركوبهم إيّاها عند خروجهم للجهاد. و قوله: و أخذوا بأطراف الأرض. أى أخذوها بأطرافها، و زحفا زحفا و صفّا صفّا: مصدران موكّدان بمثليهما قاما مقام الحال. و قوله: لا يبشّرون بالأحياء و لا يعزّون عن القتلى [الموتى خ]. أى كانوا في تلك الحال غير ملتفتين إلى حيّهم و لا مراعين و لا محافظين على حياته حتّى يبشّرون ببقائه أو يجزعون لموته فيعزّون عليه بل مجرّدون للجهاد في سبيل اللّه، و لعلّهم يفرحون بقتل من يقتلونه في سبيله و إن كان ولدا لوالده أو بالعكس، و إنّما كان السهر موجبا لصفرة اللون لأنّه يهيّج الحرارة و يفسد السحنة و ينجف البدن و يكثر فيه المرّة، و الصفرة من توابع ذلك لا سيّما في الأبدان النحيفة كما عليه أهل المدينة و مكّة و الحجاز. و غبرة الخاشعين قشف الزاهدين الخائفين من اللّه لعدم تحلّيهم بالدنيا، و استعار لفظ الظماء للشوق إليهم ملاحظة لشبههم بالماء في شدّة الحاجة إليه فنزل الشوق إليهم، و الحاجة إلى لقائهم منزلة العطش إلى الماء فأعطاه لفظه، و أراد بعقدة الدين ما احكم منه من القوانين و القواعد، و بحلّ الشيطان لها تزيينه ترك قانون قانون. و سنّة الاجتماع عقدة عقدها الشارع لما سبق فيها من المصالح و أكّدها. فكانت الفرقة حلّا لتلك العقدة، و نزعات الشيطان حركاته بالإفساد، و نفثاته إلقائه الوسوسة في القلوب مرّة بعد اخرى، و عنى بمن أهدى إليهم النصيحة نفسه. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 115