و من خطبة له عليه السّلام
إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ- إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- الْإِيمَانُ بِهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ- فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الْإِسْلَامِ- وَ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ- وَ إِقَامُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ- وَ إِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ- وَ صَوْمُ شَهْرِرَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَابِ- وَ حَجُّ الْبَيْتِ وَ اعْتِمَارُهُ- فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَ يَرْحَضَانِ الذَّنْبَ- وَ صِلَةُ الرَّحِمِ- فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ وَ مَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ- وَ صَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ- وَ صَدَقَةُ الْعَلَانِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ- وَ صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارِعَ الْهَوَانِ- أَفِيضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الذِّكْرِ- وَ ارْغَبُوا فِيمَا وَعَدَ الْمُتَّقِينَ فَإِنَّ وَعْدَهُ أَصْدَقُ الْوَعْدِ- وَ اقْتَدُوا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْهَدْيِ- وَ اسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أَهْدَى السُّنَنِ وَ تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ- وَ تَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ- وَ اسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ- وَ أَحْسِنُوا تِلَاوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ- وَ إِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ- كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لَا يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ- بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَ الْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ- وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَلْوَمُ
اللغة
أقول: ذروة الشيء: أعلاه. و الملّة: الدين: و الجنّة: الوقاية. و يرحضان بفتح الحاء: يغسلان. و الرحض: الغسل. و المثراة: المكثرة، و هى محلّ كثرة المال و الثروة. و المنسأة: محلّ النسأ، و هو التأخير. و الإفاضة في الذكر: الاندفاع فيه. و الهدى: ضدّ الإضلال، و هو مصدر.
و قد أشار عليه السّلام في هذا الفصل إلى أنّ أفضل الوسائل الموصلة إلى اللّه سبحانه هو الإيمان
الكامل فالإيمان باللّه هو التصديق بوجوده، و هو إشارة إلى أصل الإيمان.
ثمّ له لواحق و كمالات:
أحدها: التصديق برسوله
و إنّما قدّمه على سائر العبادات لأنّه أصل لها لا تصحّ بدونه.
الثاني: الجهاد في سبيله
و قد عرفت فضائل الجهاد فيما سلف، و أشار إلى وجه فضيلته بكونه ذروة الإسلام، و استعار لفظ الذروة له ملاحظة لشبهه في العلوّ و المرتبة في الإسلام بالسنام للبعير و إنّما قدّمه على الصلاة لكون سالكه على يقين من لقاء اللّه و قوّة من التصديق بما جاء به الرسول حيث يلقى نفسه إلى التهلكة الحاضرة الّتي ربّما يغلب على ظنّه أو يتيقّنها، و لأنّه الأصل الأعظم في جمع العالم على الدين.
الثالث: كلمة الإخلاص
و هى كلمة التوحيد المستلزمة لنفى الشركاء و الأنداد و هى معنى الإخلاص و لذلك اضيفت إليه، و وجه فضيلتها كونها فطرة اللّه الّتي فطر الناس عليها فإنّ العقول السليمة البريّة عن شوائب العلائق البدنيّة و عوارض التربية شاهدة و مقرّة بما اخذ عليها من العهد القديم من توحيد صانعها و براءته عن الكثرة، و أطلق عليها اسم الفطرة و إن كانت الفطرة عليها مجازا إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه.
الرابع: إقامة الصلاة
و إنّما جعلها الملّة و إن كانت بعض أركان الدين لأنّها الركن القوىّ من أركانه فأطلق عليها ذلك اللفظ إطلاقا لاسم الكلّ على الجزء مجازا.
و أعلم أنّ للصلاة فضائل و أسرار يجب التنبيه عليها: أمّا فضيلتها فقد ورد فيها أخبار كثيرة بعد تأكيد القرآن الكريم للأمر بها كقوله صلى اللّه عليه و آله و سلم: الصلاة عمود الدين من تركها فقد هدم الدين، و قوله: مفتاح الجنّة الصلاة، و قوله في فضل إتمامها: إنّ الرجلين من امّتى يقومان في الصلاة و ركوعهما و سجودهما واحد و إنّما بين صلاتيهما ما بين السماء و الأرض، و قوله: أمّا يخاف الّذي يحوّل وجهه في الصلاة أن يحوّل اللّه وجهه وجه حمار، و قوله: من صلّى ركعتين لم يحدث فيهما نفسه بشيء من الدنيا غفر اللّه له ذنوبه. و أمّا أسرارها فيقسم إلى عامّة و إلى خاصّة،و أمّا العامّة فقد بيّنّا فيما سلف في ذكر الحجّ في الخطبة الاولى السرّ العامّ لجميع العبادات، و هى كونها متمّمة للغرض الثاني من أغراض العارف من الرياضة و معينة على تطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة و تمرينها على موافقتها، و إذا لاح لك هذا السرّ فقد علمت أنّ جميع الآيات و الأخبار الواردة في فضلها يرجع معناها إليه كنهيها عن الفحشاء و المنكر في قوله تعالى «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ» إذ كان سببهما القوّة الروعيّة [التروّعيّة خ] إذا خرجت عن حكم العقل فإذا كانت الصلاة هي الّتي توجب دخولها تحت حكم العقل و العقل ناه عن الفحشاء و المنكر فقد كانت الصلاة هى السبب في الانتهاء فكانت ناهية، فظهر أيضا معنى كونها عماد الدين. إذ قال: بنى الإسلام على خمس. فكلّ منها عماد بحسب شرائطه فمن أخلّ بها فقد هدم بنيانه الّذي يصعد به إلى اللّه، و كذلك كونها مفتاحا للجنّة. إذ بها ينفتح باب من أبواب الوصول إلى اللّه، و لذلك ظهر التفاوت الّذي يشير إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في صلاة الرجلين من امّته فإنّه إذا كانت فائدة الصلاة هو الالتفات إلى اللّه تعالى بقمع الشيطان و كان أحد الرجلين في صلاته خاشعا لخشية اللّه مستحضرا لعظمته، و الآخر غافل عن هذه الجهة قد صرف الشيطان وجه قلبه إلى غير القبلة فأين أحدهما من الآخر، و كذلك ما أشار إليه من التخويف لمن يحوّل وجهه في الصلاة فإنّه نهى منه عن الغفلة عن الالتفات إلى اللّه و ملاحظة عظمته في حال الصلاة فإنّ الملتفت يمينا و شمالا ملتفت عن اللّه و غافل عن مطالعة أنوار كبريائه، و من كان كذلك فيوشك أن تدوم تلك الغفلة عليه فيتحوّل وجه قلبه كوجه قلب الحمار في قلّة عقليّته للامور العلويّة و عدم إكرامه بشيء من العلوم و القرب إلى اللّه، و كذلك غفران ذنب المصلّى بسبب تركه حديث نفسه بشيء من الدنيا فإنّه في تلك الحال يلتفت إلى اللّه تعالى غافل عن غيره، و الالتفات إليه هو روح العبادة و خلاصتها، و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إنّما فرضت الصلاة و امر بالحجّ و الطواف و اشعرت المناسك لإقامة ذكر اللّه فإذا لم يكن في قلبك المذكور الّذي هو المقصود و المبتغى عظمته، و لا هيبته فما فيه ذكرك. و عن عايشة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يحدّثنا و نحدّثه فإذا حضرت الصلاة فكأنّه لم يعرفنا و لم نعرفه شغلا باللّه عن كلّ شيء. و كان علىّ عليه السّلام إذا حضر وقت الصلاة يتململ و يتزلزل و يتلوّن فيقال له: مالك يا أمير المؤمنين فيقول: جاء وقت أمانة عرضها اللّه على السماوات و الأرض فأبين أن يحملنها و أشفقن منها، و كان علىّ بن الحسين عليهما السّلام إذا حضر للوضوء اصفرّ لونه فيقول أهله: ما هذا الّذي يعتادك عند الوضوء فيقول: ما تدرون بين يدي من أقوم. و كلّ ذلك إشارة إلى استحضار عظمة اللّه و الالتفات إليه حال العبادة و الانقطاع عن غيره، و أمّا ما يخصّها من الأسرار فقد علمت أنّ الصلاة ليس إلّا ذكر و قراءة و ركوع و سجود و قيام و قعود: أمّا الذكر فظاهر أنّه محاورة و مناجاة للّه تعالى و غايتها استلزام الالتفات إليه، و تذكّر ما ينجذب القوى الشيطانيّة تحت قياد العقل و يستمرّ تعوّدها بذلك و هو المقصود من القرائة و الأذكار و الحمد و الثناء و التضرّع و الدعاء، و ليس المقصود منه الحرف و الصوت امتحانا للّسان بالعمل و إن حصلت الغفلة فإنّ تحريك اللسان بالهذيان خفيف على الإنسان لا كلفة فيه من حيث إنّه عمل، و سنبيّن حال الذكر و فضيلته و فائدته في موضع أليق به إنشاء اللّه تعالى، و أمّا الركوع و السجود و القيام و القعود فالغرض بها التعظيم للّه تعالى المستلزم للالتفات إليه و ذكره أيضا. إذ لو جاز أن يكون معظّما للّه بفعله و هو غافل عنه لجاز أن يعظّم صنما موضوعا بين يديه و هو غافل عنه، و يؤيّد ذلك ما روى عن معاذ بن جبل من عرف من على يمينه و شماله متعمّدا في الصلاة فلا صلاة له، و قال عليه السّلام: إنّ العبد ليصلّى الصلاة لا يكتب له سدسها و لا عشرها و إنّما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها، و لمّا عرفت أنّ الأصل من أركانها هو الالتفات إلى اللّه تعالى فاعلم أنّ الالتفات إليه مستلزم للتذكّر و التفهّم لأنّ الالتفات إليه إنّما يراد لمطالعة كبريائه و عظمته، و المطالعة ليس إلّا الفكر الّذي هو عين البصيرة و حدقة العقل الإنسانىّ.
ثمّ إنّ التذكّر و التفهّم مستلزم للتعظيم فإنّ مطالعة عظمة اللّه أعظم من أن لا يعظّمها العارف بها، و التعظيم مستلزم للخوف و الرجاء فإنّا نجد عند تصوّر عظمة ملك من ملوك الدنيا وجدانا ضروريّا أنّا ننقهر عن مكالمته و محاورته و نلزم معه السكون و الخضوع و ربّما يتبع ذلك رعدة البدن و تعثّم اللسان، و منشأ كلّ ذلك الخوف الحادث عن تصوّر عظمته فكيف يتصوّر جبّار الجبابرة و ملك الدنيا و الآخرة، و كذلك الرجاء فإنّا عند تصوّر عظمة اللّه نتصوّر أنّ الكلّ منه و ذلك باعث على رجائه، خصوصا و قد تأكّد ذلك بالآيات الواردة في باب الخوف و الرجاء، و كذلك يستلزم الحياء لأنّ المتصوّر لعظمة الآمر لا يزال مستشعرا تقصيرا و متوهّما ذنبا و ذلك الاستشعار و التوهّم يوجب الحياء من اللّه سبحانه.
الخامس: إيتاء الزكاة
و هى ركن قوىّ من أركان الدين، و أشار إلى وجه فضلها بكونها فريضة واجبة. قال قطب الدين الراوندى: أراد بالفريضة السهم المنقطع من المال للفقراء المستحقّين المسمّى زكاة. قال: و هو عرف شرعىّ لأنّ الفريضة بمعنى الواجب فإنّ كلّ العبادات الواجبة كذلك، و لأنّ الفرض و الواجب بمعنى فيكون قوله: فريضة واجبة. تكرارا، و أقول: ما ذكره وجه حسن، و هو إشارة إلى بعض أسرارها كما نبيّنه، و لهذه العبادة مع السرّ العامّ الشامل لجميع العبادات و هو الالتفات إلى اللّه تعالى و محبّته أسرار: الأوّل: أنّ المراد بكلمة الشهادة التوحيد المطلق و إفراد المعبود بالتوجّه إليه و ذلك لا يتمّ إلّا بنفي كلّ محبوب عداه فإنّ المحبّة لا يحتمل الشركة، و التوحيد باللسان قليل الفائدة في الباطن و إنّما تمتحن درجة الحبّ بمفارقة المحبوبات، و الأموال محبوبة عند الخلق لأنّها آلة تمتّعهم بالدنيا و انسهم بها و نفرتهم عن الموت فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب و استنزلوا عن المال الّذي هو معشوقهم كما قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» و لمّا فهم الناس هذا المعنى انقسموا أقساما: فطائفة أخلصوا في حبّ معشوقهم و وفوا بعهده فبذلوا أموالهم و لم يدّخروا منها شيئا حتّى قيل لبعضهم: كم تجب من الزكاة في مائتى درهم قال: أمّا على العوّام فبحكم الشرع خمسة دراهم، و أمّا علينا فيجب بذل الجميع، و منهم من قعد عن هذه المرتبة و أمسكوا أموالهم و راقبوا مواقيت الحاجة و مواسم الخيرات و جعلوا قصدهم في الادّخار الإنفاق على قصد الحاجة دون التنعّم، و صرف الفاضل عن الحاجة إلى وجوه البرّ، و هؤلاء لا يقتصرون على واجب الزكاة كالنخعىّ و الشعبيّ و مجاهد، و قيل للشعبىّ: هل في المال حقّ سوى الزكاة فقال: نعم أما سمعت قوله تعالى «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ» الآية و استدلّوا بقوله تعالى «وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» و لم يجعلوا ذلك مخصوصا بآية الزكاة بل هو داخل في حقّ المسلم على المسلم، و معناه أنّه يجب على المؤسر مهما وجد محتاجا أن يزيل حاجته بما يفضل عن مال الزكاة، و منهم من اقتصر على أداء الواجب من الزكاة من غير زيادة و لا نقصان و هى أدون الرتب و قد اقتصر مع العوامّ على ذلك لجهلهم بسرّ البذل و بخلهم المال و ضعف حبّهم للآخرة، و يلزم لهذا السرّ تطهير ذوى الأموال عن رذيلة البخل فإنّها من المهلكات قال عليه السّلام: ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، و هوى متّبع، و إعجاب المرء بنفسه، و وجه كونه مهلكا أنّه إنّما يصدر عن محبّة المال و قد علمت أنّ الدنيا و الآخرة ضرّتان بقدر ما يقرّب من إحداهما يبعّد من الاخرى فكانت محبّة المال صارفة عن التوجّه إلى اللّه و مبعّدة منه، و ذلك يستلزم الهلاك الاخروى كما بيّناه، و إنّما تزول هذه الرذيلة بتعوّد البذل. إذ حبّ الشيء لا ينقطع إلّا بقهر النفس على مفارقته بالتدريج حتّى يصير ذلك عادة فالزكاة بهذا المعنى طهور: أى تطهّر صاحبها عن خبث البخل المهلك و إنّما طهارته بقدر بذله و فرحه و استبشاره بصرفه في جنب اللّه طاعة و محبّة له و ملاحظة لحذف كلّ محبوب عداه من سمت القبلة. السرّ الثاني: شكر النعمة فإنّ للّه على العبد نعمة في نفسه و شكرها العبادات البدنيّة، و نعمة في ماله و شكرها العبادات الماليّة، و ليس أحد أخسّ و أبعد عن رحمة اللّه ممّن ينظر إلى فقير قد ضيّق عليه الرزق ثمّ اضطرّ إليه فلم يسمح نفسه بأن يؤدّى شكر اللّه تعالى على ما أغناه عن السؤال و أحوج غيره إليه بعشر ماله أو بربع عشره. السرّ الثالث: يتعلّق بإصلاح المدن و تدبير أحوال أهلها و هو أن جعل اللّه هذا الفرض في أموال الأغنياء شركة للفقراء لأن يسدّ به خلّتهم، و إليه أشار عليه السّلام بكونه فريضة واجبة، و في هذا السرّ سرّان: أحدهما: أن يكون ذلك عونا لهؤلاء على عبادة اللّه كى لا يشتغلوا بالطلب عنها. الثاني: أن تنكسر همّهم عن حسد أهل الأموال و السعى بالفساد في الأرض فلا ينتظم أمر المدنيّة، و تكون قلوبهم ساكنة إلى ذلك القدر معلّقة به مستمدّة من اللّه تعالى بالدعاء في حفظه متألّفة مع أهل الأموال منجذبة إليهم فيتمّ بذلك أمر المشاركة و المعاونة و الانس و المحبّة الموجبات للالفة الموجبة لنظام العالم و قوام أمر الدين و بقاء نوع الإنسان لما لأجله وجد.
السادس: صوم شهر رمضان.
و تخصيصه بكونه جنّة من العقاب مع أنّ سائر العبادات كذلك لما أنّه أشدّها وقاية، و بيان ذلك أنّه مستلزم لقهر أعداء اللّه الّتى هى الشّياطين المطيفة بالإنسان فإنّ وسيلة الشيطان هي الشهوات و إنّما يقوّى الشهوة و يثيرها الأكل و الشرب، و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الشيطان ليجرى من ابن آدم مجرى الدم فضيّقوا مجاربه بالجوع، و قال صلى اللّه عليه و آله و سلم لعايشة: داومى قرع باب الجنّة فقالت: بماذا قال: بالجوع. فكان الصوم على الخصوص أشدّ قمعا للشيطان و أسدّ لمسالكه و تضييق مجاريه، و لمّا كان العقاب إنّما يلحق الإنسان و يتفاوت في حقّه بالشدّة و الضعف بحسب تفاوت قربه من الشيطان و بعده منه و كانت هذه العبادة أبعد بعيد عن الشيطان كان بسببها أبعد بعيد عن العقاب فلذلك خصّت بكونها وقاية منه. و اعلم أنّ هذه العبادات و إن كانت عدميّة إلّا أنّها ليست عدما صرفا بل عدم ملكة يحرّك من الطبيعة تحريكا شديدا ينبّه صاحبه أنّه على جملة من الأمر ليس هذرا فيتذكّر سبب ما ينويه من ذلك و أنّه التقرّب إلى اللّه سبحانه كما هو غاية للسرّ العامّ للعبادات.
السابع: حجّ البيت و اعتماره
و قد سبقت منّا الإشارة إلى أسراره في الخطبة الاولى. و الّذي ذكره هاهنا كونهما ينفيان الفقر و يغسلان الذنب فجمع فيه بين منفعة الدنيا و منفعة الآخرة: أمّا منفعة الدنيا فكونهما ينفيان الفقر و ذلك بسبب التجارة الحاصلة في موسم الحجّ و قيام الأسواق بمكّة حينئذ، و أمّا منفعة الآخرة لكونهما يغسلان الذنب عن لوح النفس كما علمته في أسرار العبادات و هي هذه المنافع المشار إليها في القرآن الكريم بقوله «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ» قال أكثر المفسّرين: هي منافع الدنيا من التجارة و هو المنقول عن سعيد بن جبير و ابن عبّاس في رواية أبي رزين عنه، و منهم من جعلها عامّة في منافع الدنيا و الآخرة كالتجارة و الثواب، و هو المنقول عن مجاهد و ابن عبّاس في رواية عطاء عنه.
الثامن: صلة الرحم
و ذكر من فوائدها أمرين: أحدهما: كونها مثراة في المال، و ذلك من وجهين: أحدهما: أنّ العناية الإلهيّة قسّمت لكلّ حىّ قسطا من الرزق يناله مدّة الحياة الدنيا و تقوم به صورة بدنه فإذا أعدّت شخصا من الناس للقيام بأمر جماعة و كلّفته بإمدادهم و معونتهم وجب في العناية إفاضته أرزاقهم على يده و ما يقوم بإمدادهم بحسب استعداده لذلك سواء كانوا ذوى أرحام أو مرحومين في نظره حتّى لو نوى قطع أحد منهم فربّما نقص ماله بحسب رزق ذلك المقطوع، و ذلك معنى كونه مثراة للمال. الثاني: أنّ صلة الرحم من الأخلاق الحميدة الّتي يستمال بها طباع الخلق فواصل رحمه مرحوم في نظر الكلّ فيكون ذلك سببا لإمداده و معونته من ذوى الإمداد و المعونات كالملوك و نحوهم فكانت صلة الرحم مظنّة لزيادة المال. و الثاني: كونه منسأة للأجل و هو من وجهين: أحدهما: أنّ صلة الرحم توجب تعاطف ذوى الأرحام و توازرهم و معاضدتهم لواصلهم فيكون عن أذى الأعداد أبعد و في ذلك مظنّة تأخيره و طول عمره. الثاني: أنّ مواصلة ذوى الأرحام توجب تعلّق هممهم ببقاء واصلهم و إمداده بالدعاء و يكون دعائهم له و تعلّق هممهم ببقائه من شرائط بقائه و إنساء أجله فكانت مواصلتهم منسأة في أجله.
التاسع: صدقة السرّ
و ذكر من فوائدها كونها تكفّر الخطيئة، و إنّما خصّها بذلك مع أنّ سائر العبادات كذلك لكونها أبعد عن الرياء و مخالطة ما لا يراد به إلّا وجه اللّه تعالى فكان الإخلاص فيها للّه أتمّ فكانت أولى بالتقريب من اللّه و بمحو الخطيئة.
العاشر: صدقة العلانية
و ذكر من فوائدها أنّها تدفع ميتة السوء، و بيان ذلك أنّ صدقة العلانية تستلزم الشهرة بفعل الخيرات و توجب الذكر الجميل للمتصدّق، و لمّا كانت ميتات السوء كالحرق و الغرق و الصلب و القتل و نحو ذلك من الأحوال الشنيعة الّتي تكثر نفرة الناس عن الموت عليها. و كان قليلا ما يقع شيء منها بقصد من الناس لمن أحبّوه و اشتهر بالرحمة و استجلاب قلوب الفقراء بالصدقة و الإيثار. فلا جرم كانت تلك الصدقة مظنّة الدفع لميتات السوء.
الحادى عشر: صنايع المعروف
و ذكر من فوائدها أنّها تقى مصارع الهوان، و تقريره قريب ممّا قبله. إذ كان اصطناع المعروف مستلزما لتألّف قلوب الخلق و جامعا لهم على محبّة المصطنع فقلّما يقع من ذلك نسيبهم في مصرع هوان
ثمّ لمّا فرغ من تعداد كمالات الإيمان أمر بما يؤكّده في القلوب و يثبّته
و هي امور: أحدها: الاندفاع في ذكر اللّه. و هو من مؤكّدات الإيمان به، و رغّب فيه بكونه أحسن الذكر، و ذلك لما يستلزمه من الحصول على الكمالات المسعدة في الآخرة و الوصول إلى اللّه كما سنبيّن فائدته و فضيلته في موضع التوبة. الثاني: الرغبة فيما وعد المتّقين من ثواب الآخرة و أنواعه. و هو أيضا من مؤكّدات طاعته و العمل له، و لمّا كان الخلف في خبره تعالى محالا كان وعده أصدق الوعود. الثالث: الاقتداء بهدى النّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. الرابع: اتّباع سنّته. و لمّا كان أفضل الأنبياء كانت سنّته أشرف السنن و الاقتداء به و اتّباع سنّته أهدى الطرق إلى اللّه. الخامس: تعلّم القرآن. و ظاهر كونه من مؤكّدات الإيمان باللّه و رسوله، و استعار له لفظ الربيع، و وجه المشابهة كون القرآن جامعا لأنواع العلوم الشريفة و الأسرار العجيبة اللطيفة الّتي هي متنزّه القلوب كما أنّ زمن الربيع محلّ الأزهار الرايقة الّتي هي مستمتع النظر و مطرح السرور. السادس: الاستشفاء بنوره، و ظاهر كونه شافيا للقلوب من ظلمة الجهل. السابع: حسن تلاوته. و ذلك لأنّ حسن تلاوته مظنّة تفهّم معانيه و تدبّرها، و بحسن تلاوته تظهر فايدته و تحصل منفعة قصصه، و إنّما يكون أنفع القصص إذا تلى حقّ تلاوته كما سبق بيانه. ثمّ أكّد الأوامر المذكورة بالأعمال الّتي عدّدها ممّا ينبغي أن يعمل على وفق العلم بالتنبيه على نقصان العالم الّذي لا يعمل بعلمه فسوّى أوّلا بينه و بين الجاهل العادل عن سواء سبيل اللّه، و وجه التسوية اشتراكهما في ثمرة الجهل و هو الجور عن قصد السبيل و في عدم الانتفاع بفائدة العلم و ثمرته و هي الأعمال الصالحة. ثمّ جعل حال العالم أخسّ لثلاثة أوجه: أحدها: أنّ الحجّة عليه أعظم لأنّ للجاهلين أن يقولوا: إنا كنّا عن هذا غافلين. و ليس للعالم ذلك، و روى عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: العلم علمان: علم على اللسان فذلك حجّة اللّه على بن آدم، و علم في القلب فذلك العلم النافع. أى الّذي يستلزم الطاعة بالعمل. الثاني: أنّ الحسرة له ألزم. و ذلك أنّ النفوس الجاهلة غير عالمة بمقدار ما يفوتها من الكمال بالتحصيل فإذا فارقت أبدانها فهى و إن كانت محجوبة عن ثمار الجنّة و ما أعدّ اللّه فيها لأوليائه العلماء إلّا أنّها لمّا لم تجد لذّتها و لم تطعم حلاوة المعارف الإلهيّة لم تكن لها كثير حسرة عليها و لا أسف على التقصير في تحصيلها بخلاف العارف بها العالم بنسبتها إلى اللذّات الدنيويّة فإنّه بعد المفارقة إذا علم و انكشف له أنّ الصارف له و المانع عن الوصول إلى حضرة جلال اللّه هو تقصيره في العمل بما علم مع علمه بمقدار ما فاته من الكمالات و الدرجات كان أسفه و حسرته على ذلك أشدّ الحسرات. و جرى ذلك مجرى من علم قيمة جوهرة ثمينة يساوى جملة من المال ثمّ اشتغل عن تحصيلها ببعض لعبه حتّى فاتته فإنّه يعظم حسرته عليها و ندمه على التفريط فيها بخلاف الجاهل بقيمتها. الثالث: أنّه يكون عند اللّه ألوم، و أشدّيّة اللائمة بعد المفارقة مجاز في انقطاع لسان حاله عن العذر في معصيته عن علم و إنّما يكون ألوم لأنّ إقدام العالم على المعصية الّتي علم قبحها إنّما يكون عن نفس في غاية الانقياد للنفس الأمّارة بالسوء و الطاعة لإبليس و جنوده طاعة تفضل على طاعة الجاهل و انقياده لقيام الصارف في حقّ العالم و هو علمه بقبحها و ترجّح الداعى إليها عليه و عدم الصارف في حقّ الجاهل. و لا شكّ أنّ أشدّية اللائمة تابعة لأشديّة الانقياد لإبليس خصوصا مع العلم بما يستلزم متابعته من الهلاك. و ظاهر إذن كونه ألوم عند اللّه. و باللّه التوفيق و العصمة.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 74