107 و من خطبة له ع- و هي من خطب الملاحم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ- وَ الظَّاهِرِ لِقُلُوبِهِمْ بِحُجَّتِهِ- خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ- إِذْ كَانَتِ الرَّوِيَّاتُ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِذَوِي الضَّمَائِرِ- وَ لَيْسَ بِذِي ضَمِيرٍ فِي نَفْسِهِ- خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ السُّتُرَاتِ- وَ أَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ السَّرِيرَاتِ الملاحم جمع ملحمة- و هي الوقعة العظيمة في الحرب- و لما كانت دلائل إثبات الصانع ظاهرة ظهور الشمس- وصفه ع بكونه ظهر و تجلى لخلقه- و دلهم عليه بخلقه إياهم و إيجاده لهم- . ثم أكد ذلك بقوله و الظاهر لقلوبهم بحجته- و لم يقل لعيونهم لأنه غير مرئي- و لكنه ظاهر للقلوب- بما أودعها من الحجج الدالة عليه- .
ثم نفى عنه الروية و الفكر و التمثيل بين خاطرين- ليعمل على أحدهما- لأن ذلك إنما يكون لأرباب الضمائر و القلوب- أولي النوازع المختلفة و البواعث المتضادة- . ثم وصفه بأن علمه محيط بالظاهر- و الباطن و الماضي و المستقبل- فقال إن علمه خرق باطن الغيوب المستورة- و أحاط بالغامض من عقائد السرائر:
مِنْهَا فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ ص- اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الْأَنْبِيَاءِ- وَ مِشْكَاةِ الضِّيَاءِ وَ ذُؤَابَةِ الْعَلْيَاءِ- وَ سُرَّةِ الْبَطْحَاءِ وَ مَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ- وَ يَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ شجرة الأنبياء أولاد إبراهيم ع- لأن أكثر الأنبياء منهم- و المشكاة كوة غير نافذة يجعل فيها المصباح- و الذؤابة طائفة من شعر الرأس- و سرة البطحاء وسطها- و بنو كعب بن لؤي يفخرون على بني عامر بن لؤي- بأنهم سكنوا البطاح- و سكنت عامر بالجبال المحيطة بمكة- و سكن معها بنو فهر بن مالك- رهط أبي عبيدة بن الجراح و غيره قال الشاعر-
فحللت منها بالبطاح
و حل غيرك بالظواهر
و قال طريح بن إسماعيل-
أنت ابن مسلنطح البطاح و لم
تطرق عليك الحني و الولج
و قال بعض الطالبيين-
و أنا ابن معتلج البطاح إذا غدا
غيري و راح على متون ظواهر
يفتر عني ركنها و حطيمها
كالجفن يفتح عن سواد الناظر
كجبالها شرفي و مثل سهولها
خلقي و مثل ظبائهن مجاوري
وَ مِنْهَا طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ- وَ أَحْمَى مَوَاسِمَهُ يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ- مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَ آذَانٍ صُمٍّ- وَ أَلْسِنَةٍ بُكْمٍ- مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ- وَ مَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ إنما قال دوار بطبه- لأن الطبيب الدوار أكثر تجربة- أو يكون عنى به أنه يدور على من يعالجه- لأن الصالحين يدورون على مرضى القلوب فيعالجونهم- و يقال إن المسيح رئي خارجا من بيت مومسة- فقيل له يا سيدنا أ مثلك يكون هاهنا- فقال إنما يأتي الطبيب المرضي- . و المراهم الأدوية المركبة للجراحات و القروح- و المواسم حدائد يوسم بها الخيل و غيرها- . ثم ذكر أنه إنما يعالج بذلك من يحتاج إليه- و هم أولو القلوب العمي- و الآذان الصم- و الألسنة البكم أي الخرس- و هذا تقسيم صحيح حاصر- لأن الضلال و مخالفةالحق يكون بثلاثة أمور- إما بجهل القلب أو بعدم سماع المواعظ و الحجج- أو بالإمساك عن شهادة التوحيد و تلاوة الذكر- فهذه أصول الضلال و أما أفعال المعاصي ففروع عليها
فصل في التقسيم و ما ورد فيه من الكلام
و صحة التقسيم باب من أبواب علم البيان و منه قوله سبحانه ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ- الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا- فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ- وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ- . و هذه قسمة صحيحة- لأن المكلفين إما كافر أو مؤمن- أو ذو المنزلة بين المنزلتين- هكذا قسم أصحابنا الآية على مذهبهم في الوعيد- . و غيرهم يقول العباد إما عاص ظالم لنفسه- أو مطيع مبادر إلى الخير- أو مقتصد بينهما- . و من التقسيم أيضا قوله- وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً- فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ- وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ- وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ و مثل ذلك- . و قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً- لأن الناس عند رؤية البرق بين خائف و طامع- . و وقف سائل على مجلس الحسن البصري- فقال رحم الله عبدا أعطى من سعة- أو واسى من كفاف أو آثر من قلة- فقال الحسن لم تترك لأحد عذرا- .و من التقسيمات الفاسدة في الشعر قول البحتري-
ذاك وادي الأراك فاحبس قليلا
مقصرا في ملامة أو مطيلا
قف مشوقا أو مسعدا أو حزينا
أو معينا أو عاذرا أو عذولا
فالتقسيم في البيت الأول صحيح- و في الثاني غير صحيح- لأن المشوق يكون حزينا- و المسعد يكون معينا- فكذلك يكون عاذرا- و يكون مشوقا و يكون حزينا- . و قد وقع المتنبي في مثل ذلك فقال-
فافخر فإن الناس فيك ثلاثة
مستعظم أو حاسد أو جاهل
فإن المستعظم يكون حاسدا- و الحاسد يكون مستعظما- . و من الأبيات التي ليس تقسيمها بصحيح- ما ورد في شعر الحماسة
و أنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا
فخنت و إما قلت قولا بلا علم
فأنت من الأمر الذي قد أتيته
بمنزلة بين الخيانة و الإثم
و ذلك لأن الخيانة أخص من الإثم- و الإثم شامل لها لأنه أعم منها- فقد دخل أحد القسمين في الآخر- و يمكن أن يعتذر له- فيقال عنى بالإثم الكذب نفسه- و كذلك هو المعني أيضا بقوله قولا بلا علم- كأنه قال له إما أن أكون أفشيت سري إليك فخنتني- أو لم أفش فكذبت علي- فأنت فيما أتيت بين أن تكون خائنا أو كاذبا- . و مما جاء من ذلك في النثر قول بعضهم- من جريح مضرج بدمائه- أو هارب لا يلتفت إلى ورائه- و ذلك أن الجريح قد يكون هاربا- و الهارب قد يكون جريحا- . و قد أجاد البحتري لما قسم هذا المعنى و قال-
غادرتهم أيدي المنية صبحا
للقنا بين ركع و سجود
فهم فرقتان بين قتيل
قبضت نفسه بحد الحديد
أو أسير غدا له السجن لحدا
فهو حي في حالة الملحود
فرقة للسيوف ينفذ فيها الحكم
قسرا و فرقة للقيود
و من ذلك قول بعض الأعراب- النعم ثلاث نعمة في حال كونها- و نعمة ترجى مستقبلة- و نعمة تأتي غير محتسبة- فأبقى الله عليك ما أنت فيه- و حقق ظنك فيما ترتجيه- و تفضل عليك بما لم تحتسبه- و ذلك أنه أغفل النعمة الماضية- و أيضا فإن النعمة التي تأتي غير محتسبة- داخلة في قسم النعمة المستقبلة- . و قد صحح القسمة أبو تمام فقال-
جمعت لنا فرق الأماني منكم
بأبر من روح الحياة و أوصل
كالمزن من ماضي الرباب و مقبل
متنظر و مخيم متهلل
فصنيعة في يومها و صنيعة
قد أحولت و صنيعة لم تحول
فإن قلت- فإن ما عنيت به فساد التقسيم على البحتري و المتنبي- يلزمك مثله فيما شرحته- لأن الأعمى القلب قد يكون أبكم اللسان أصم السمع- . قلت إن الشاعرين ذكرا التقسيم بأو- و أمير المؤمنين ع قسم بالواو و الواو للجمع- فغير منكر أن تجتمع الأقسام الوحد- أو أن تعطي معنى الانفراد فقط فافترق الموضعان:
لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ- وَ لَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ- فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ- وَ الصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ- قَدِ انْجَابَتِ السَّرَائِرُ لِأَهْلِ الْبَصَائِرِ- وَ وَضَحَتْ مَحَجَّةُ الْحَقِّ لِخَابِطِهَا- وَ أَسْفَرَتِ السَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا- وَ ظَهَرَتِ الْعَلَامَةُ لِمُتَوَسِّمِهَا- مَا لِي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلَا أَرْوَاحٍ- وَ أَرْوَاحاً بِلَا أَشْبَاحٍ- وَ نُسَّاكاً بِلَا صَلَاحٍ- وَ تُجَّاراً بِلَا أَرْبَاحٍ- وَ أَيْقَاظاً نُوَّماً- وَ شُهُوداً غُيَّباً- وَ نَاظِرَةً عَمْيَاءَ- وَ سَامِعَةً صَمَّاءَ- وَ نَاطِقَةً بَكْمَاءَ انجابت انكشفت و المحجة الطريق- و الخابط السائر على غير سبيل واضحة- و أسفرت الساعة أضاءت و أشرقت- و عن متعلقة بمحذوف- و تقديره كاشفة عن وجهها- .
و المتوسم المتفرس أشباها بلا أرواح- أي أشخاصا لا أرواح لها و لا عقول- و أرواحا بلا أشباح- يمكن أن يريد به الخفة و الطيش- تشبيها بروح بلا جسد- و يمكن أن يعني به نقصهم- لأن الروح غير ذات الجسد ناقصة- عن الاعتمال و التحريك اللذين كانا من فعلها- حيث كانت تدير الجسد- . و نساكا بلا صلاح نسبهم إلى النفاق و تجارا بلا أرباح- نسبهم إلى الرياء و إيقاع الأعمال على غير وجهها- . ثم وصفهم بالأمور المتضادة ظاهرا- و هي مجتمعة في الحقيقة- فقال أيقاظا نوما لأنهم أولو يقظة- و هم غفول عن الحق كالنيام- و كذلك باقيها قال تعالى- فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ- وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ: رَايَةُ ضَلَالٍ قَدْ قَامَتْ عَلَى قُطْبِهَا- وَ تَفَرَّقَتْ بِشُعَبِهَا- تَكِيلُكُمْ بِصَاعِهَا- وَ تَخْبِطُكُمْ بِبَاعِهَا- قَائِدُهَا خَارِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ- قَائِمٌ عَلَى الضَّلَّةِ- فَلَا يَبْقَى يَوْمَئِذٍ مِنْكُمْ إِلَّا ثُفَالَةٌ كَثُفَالَةِ الْقِدْرِ- أَوْ نُفَاضَةٌ كَنُفَاضَةِ الْعِكْمِ- تَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الْأَدِيمِ- وَ تَدُوسُكُمْ دَوْسَ الْحَصِيدِ- وَ تَسْتَخْلِصُ الْمُؤْمِنَ مِنْ بَيْنِكُمُ- اسْتِخْلَاصَ الطَّيْرِ الْحَبَّةَ الْبَطِينَةَ- مِنْ بَيْنِ هَزِيلِ الْحَبِّ هذا كلام منقطع عما قبله- لأن الشريف الرضي رحمه الله- كان يلتقط الفصول التي في الطبقة العليا- من الفصاحة من كلام أمير المؤمنين ع فيذكرها- و يتخطى ما قبلها و ما بعدها-
و هو ع يذكر هاهنا- ما يحدث في آخر الزمان من الفتن- كظهور السفياني و غيره- . و القطب في قوله ع قامت على قطبها- الرئيس الذي عليه يدور أمر الجيش- و الشعب القبيلة العظيمة- و ليس التفرق للراية نفسها- بل لنصارها و أصحابها فحذف المضاف- و معنى تفرقهم- أنهم يدعون إلى تلك الدعوة المخصوصة في بلاد متفرقة- أي تفرق ذلك الجمع العظيم في الأقطار- داعين إلى أمر واحد- و يروى بشعبها جمع شعبة-و تقدير تكيلكم بصاعها تكيل لكم فحذف اللام- كما في قوله تعالى وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ- أي كالوا لهم أو وزنوا لهم- و المعنى تحملكم على دينها و دعوتها- و تعاملكم بما يعامل به من استجاب لها- و يجوز أن يريد بقوله تكيلكم بصاعها- يقهركم أربابها على الدخول في أمرهم- و يتلاعبون بكم- و يرفعونكم و يضعونكم- كما يفعل كيال البر به إذا كاله بصاعه- .
و تخبطكم بباعها تظلمكم و تعسفكم- قائدها ليس على ملة الإسلام- بل مقيم على الضلالة- يقال ضلة لك- و إنه ليلومني ضلة- إذا لم يوفق للرشاد في عذله- . و الثفالة ما ثفل في القدر من الطبيخ- و النفاضة ما سقط من الشيء المنفوض- . و العكم العدل- و العكم أيضا نمط تجعل فيه المرأة ذخيرتها- . و عركت الشيء دلكته بقوة- و الحصيد الزرع المحصود- . و معنى استخلاص الفتنة المؤمن أنها تخصه بنكايتها و أذاها- كما قيل المؤمن ملقى و الكافر موقى و في الخبر المرفوع آفات الدنيا أسرع إلى المؤمن- من النار في يبيس العرفج
أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمُ الْمَذَاهِبُ- وَ تَتِيهُ بِكُمُ الْغَيَاهِبُ- وَ تَخْدَعُكُمُ الْكَوَاذِبُ- وَ مِنْ أَيْنَ تُؤْتَوْنَ- وَ أَنَّى تُؤْفَكُونَ- فَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ- وَ لِكُلِّ غَيْبَةٍ إِيَابٌ- فَاسْتَمِعُوا مِنْ رَبَّانِيِّكُمْ- وَ أَحْضِرُوهُ قُلُوبَكُمْ- وَ اسْتَيْقِظُوا إِنْ هَتَفَ بِكُمْ-وَ لْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ- وَ لْيَجْمَعْ شَمْلَهُ- وَ لْيُحْضِرْ ذِهْنَهُ- فَلَقَدْ فَلَقَ لَكُمُ الْأَمْرَ فَلْقَ الْخَرَزَةِ- وَ قَرَفَهُ قَرْفَ الصَّمْغَةِ الغياهب الظلمات الواحد غيهب- و تتيه بكم تجعلكم تائهين- عدي الفعل اللازم بحرف الجر- كما تقول في ذهب ذهبت به- و التائه المتحير- . و الكواذب هاهنا الأماني- فحذف الموصوف و أبقى الصفة- كقوله
إلا بكفي كان من أرمى البشر
أي بكفي غلام هذه صفته- . و قوله و لكل أجل كتاب- أظنه منقطعا أيضا عن الأول- مثل الفصل الذي تقدم- و قد كان قبله ما ينطبق عليه- و يلتئم معه لا محالة- و يمكن على بعد أن يكون متصلا بما هو مذكور هاهنا- . و قوله و لكل غيبة إياب- قد قاله عبيد بن الأبرص- و استثنى من العموم الموت فقال-
و كل ذي غيبة يئوب
و غائب الموت لا يئوب
و هو رأي زنادقة العرب- فأما أمير المؤمنين- و هو ثاني صاحب الشريعة التي جاءت بعود الموتى- فإنه لا يستثني و يحمق عبيدا في استثنائه- . و الرباني الذي أمرهم بالاستماع منه- إنما يعني به نفسه ع- و يقال رجل رباني أي متأله عارف بالرب سبحانه- و في وصف الحسن لأمير المؤمنين ع- كان و الله رباني هذه الأمة و ذا فضلها- و ذا قرابتها و ذا سابقتها- . ثم قال و أحضروه قلوبكم- أي اجعلوا قلوبكم حاضرة عنده- أي لا تقنعوا لأنفسكم- بحضور الأجساد و غيبة القلوب- فإنكم لا تنتفعون بذلك- و هتف بكم صاح- و الرائد الذي يتقدم المنتجعين- لينظر لهم الماء و الكلأ- و في المثل الرائد لا يكذب أهله- .
و قوله و ليجمع شمله- أي و ليجمع عزائمه و أفكاره لينظر- فقد فلق هذا الرباني لكم الأمر- أي شق ما كان مبهما- و فتح ما كان مغلقا- كما تفلق الخرزة فيعرف باطنها- . و قرفه أي قشره- كما تقشر الصمغة عن عود الشجرة و تقلع: فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ الْبَاطِلُ مَآخِذَهُ- وَ رَكِبَ الْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ- وَ عَظُمَتِ الطَّاغِيَةُ وَ قَلَّتِ الدَّاعِيَةُ- وَ صَالَ الدَّهْرُ صِيَالَ السَّبُعِ الْعَقُورِ- وَ هَدَرَ فَنِيقُ الْبَاطِلِ بَعْدَ كُظُومٍ- وَ تَوَاخَى النَّاسُ عَلَى الْفُجُورِ- وَ تَهَاجَرُوا عَلَى الدِّينِ- وَ تَحَابُّوا عَلَى الْكَذِبِ- وَ تَبَاغَضُوا عَلَى الصِّدْقِ- فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ غَيْظاً- وَ الْمَطَرُ قَيْظاً وَ تَفِيضُ اللِّئَامُ فَيْضاً- وَ تَغِيضُ الْكِرَامُ غَيْضاً- وَ كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ ذِئَاباً- وَ سَلَاطِينُهُ سِبَاعاً وَ أَوْسَاطُهُ أَكَالًا- وَ فُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً وَ غَارَ الصِّدْقُ- وَ فَاضَ الْكَذِبُ- وَ اسْتُعْمِلَتِ الْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ- وَ تَشَاجَرَ النَّاسُ بِالْقُلُوبِ- وَ صَارَ الْفُسُوقُ نَسَباً- وَ الْعَفَافُ عَجَباً- وَ لُبِسَ الْإِسْلَامُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباًتقول أخذ الباطل مأخذه- كما تقول عمل عمله أي قوي سلطانه و قهر- و مثله ركب الجهل مراكبه- .
و عظمت الطاغية أي الطغيان- فاعلة بمعنى المصدر كقوله تعالى- لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي تكذيب- و يجوز أن تكون الطاغية هاهنا صفة فاعل محذوف- أي عظمت الفئة الطاغية- و قلت الداعية مثله أي الفرقة الداعية- . و صال حمل و وثب صولا و صولة- يقال رب قول أشد من صول و الصيال- و المصاولة هي المواثبة صايله صيالا و صيالة- و الفحلان يتصاولان أي يتواثبان- . و الفنيق فحل الإبل- و هدر ردد صوته في حنجرته- و إبل هوادر- و كذلك هدر بالتشديد تهديرا- و في المثل هو كالمهدر في العنة- يضرب للرجل يصيح و يجلب- و ليس وراء ذلك شيء كالبعير الذي يحبس في العنة- و هي الحظيرة و يمنع من الضراب و هو يهدر- و قال الوليد بن عقبة لمعاوية-
قطعت الدهر كالسدم المعنى
تهدر في دمشق و لا تريم
و الكظوم الإمساك و السكوت- كظم البعير يكظم كظوما- إذا أمسك الجرة و هو كاظم- و إبل كظوم لا تجتر و قوم كظم ساكتون- . و تواخى الناس صاروا إخوة و الأصل تآخى الناس- فأبدلت الهمزة واوا- كآزرته أي أعنته و وازرته- . يقول اصطلحوا على الفجور- و تهاجروا على الدين أي تعادوا و تقاطعوا- . فإن قلت فإن من شعار الصالحين- أن يهجروا في الدين و يعادوا فيه-قلت لم يذهب أمير المؤمنين حيث ظننت- و إنما أراد أن صاحب الدين مهجور عندهم- لأن صاحب الدين مهجور- و صاحب الفجور جار عندهم مجرى الأخ في الحنو عليه- و الحب له لأنه صاحب فجور- .
ثم قال كان الولد غيظا- أي لكثرة عقوق الأبناء للآباء- و صار المطر قيظا- يقال إنه من علامات الساعة و أشراطها- . و أوساطه أكالا أي طعاما- يقال ما ذقت أكالا- و في هذا الموضع إشكال- لأنه لم ينقل هذا الحرف إلا في الجحد خاصة- كقولهم ما بها صافر- فالأجود الرواية الأخرى- و هي آكالا بمد الهمزة على أفعال جمع أكل- و هو ما أكل كقفل و أقفال-
و قد روي أكالا بضم الهمزة على فعال- و قالوا إنه جمع أكل للمأكول- كعرق و عراق و ظئر و ظؤار إلا أنه شاذ عن القياس- و وزن واحدهما مخالف لوزن واحد- أكال لو كان جمعا يقول- صار أوساط الناس طعمة للولاة و أصحاب السلاطين- و كالفريسة للأسد- . و غار الماء سفل لنقصه و فاض سال- . و تشاجر الناس تنازعوا و هي المشاجرة- و شجر بين القوم إذا اختلف الأمر بينهم- و اشتجروا مثل تشاجروا- . و صار الفسوق نسبا يصير الفاسق صديق الفاسق- حتى يكون ذلك كالنسب بينهم- و حتى يعجب الناس من العفاف لقلته و عدمه- .و لبس الإسلام لبس الفرو- و للعرب عادة بذلك- و هي أن تجعل الخمل إلى الجسد و تظهر الجلد- و المراد انعكاس الأحكام الإسلامية في ذلك الزمان
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 7