1: فمن خطبة له ع- يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض و خلق آدم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ- وَ لَا يُحْصِي نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ- وَ لَا يُؤَدِّي حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَ- الَّذِي لَا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ- وَ لَا يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ- الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ- وَ لَا نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لَا وَقْتٌ مَعْدُودٌ- وَ لَا أَجْلٌ مَمْدُودٌ- فَطَرَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ- وَ نَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ- وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ
الذي عليه أكثر الأدباء و المتكلمين- أن الحمد و المدح أخوان لا فرق بينهما- تقول حمدت زيدا على إنعامه و مدحته على إنعامه- و حمدته على شجاعته و مدحته على شجاعته- فهما سواء يدخلان فيما كان من فعل الإنسان- و فيما ليس من فعله كما ذكرناه من المثالين- فأما الشكر فأخص من المدح- لأنه لا يكون إلا على النعمة خاصة- و لا يكون إلا صادرا من منعم عليه- فلا يجوز عندهم أن يقال- شكر زيد عمرا لنعمة أنعمها عمرو على إنسان غير زيد- . إن قيل الاستعمال خلاف ذلك- لأنهم يقولون حضرنا عند فلان- فوجدناه يشكر الأمير على معروفه عند زيد- قيل ذلك إنما يصح إذا كان إنعام الأمير على زيد- أوجب سرور فلان- فيكون شكر إنعام الأمير على زيد- شكرا على السرور الداخل على قلبه بالإنعام على زيد- و تكون لفظة زيد التي استعيرت ظاهرا- لاستناد الشكر إلى مسماها كناية لا حقيقة- و يكون ذلك الشكر شكرا باعتبار السرور المذكور- و مدحا باعتبار آخر- و هو المناداة على ذلك الجميل و الثناء- الواقع بجنسه- . ثم إن هؤلاء المتكلمين الذين حكينا قولهم- يزعمون أن الحمد و المدح و الشكر- لا يكون إلا باللسان مع انطواء القلب- على الثناء و التعظيم- فإن استعمل شيء من ذلك- في الأفعال بالجوارح كان مجازا- و بقي البحث عن اشتراطهم مطابقة القلب للسان- فإن الاستعمال لا يساعدهم- لأن أهل الاصطلاح يقولون لمن مدح غيره- أو شكره رياء و سمعة- إنه قد مدحه و شكره و إن كان منافقا عندهم- و نظير هذا الموضع الإيمان- فإن أكثر المتكلمين لا يطلقونه- على مجرد النطق اللساني- بل يشترطون فيه الاعتقاد القلبي- فأما أن يقصروا به عليه- كما هو مذهب الأشعرية و الإمامية- أو تؤخذ معه أمور أخرى- و هي فعل الواجب و تجنب القبيح- كما هو مذهب المعتزلة- و لا يخالف جمهور المتكلمين في هذه المسألة- إلا الكرامية- فإن المنافق عندهم يسمى مؤمنا- و نظروا إلى مجرد الظاهر- فجعلوا النطق اللساني وحده إيمانا- . و المدحة هيئة المدح كالركبة هيئة الركوب- و الجلسة هيئة الجلوس و المعنى مطروق جدا- و منه في الكتاب العزيز كثير- كقوله تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها و في الأثر النبوي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
– و قال الكتاب من ذلك ما يطول ذكره- فمن جيد ذلك قول بعضهم- الحمد لله على نعمه التي منها- إقدارنا على الاجتهاد في حمدها- و إن عجزنا عن إحصائها و عدها- و قالت الخنساء بنت عمرو بن الشريد-
فما بلغت كف امرئ متناول
بها المجد إلا و الذي نلت أطول
و لا حبر المثنون في القول مدحة
و إن أطنبوا إلا و ما فيك أفضل
– . و من مستحسن ما وقفت عليه- من تعظيم البارئ عز جلاله بلفظ الحمد- قول بعض الفضلاء في خطبة أرجوزة علمية-
الحمد لله بقدر الله
لا قدر وسع العبد ذي التناهي
و الحمد لله الذي برهانه
أن ليس شأن ليس فيه شانه
و الحمد لله الذي من ينكره
فإنما ينكر من يصوره
– . و أما قوله الذي لا يدركه- فيريد أن همم النظار و أصحاب الفكر- و إن علت و بعدت فإنها لا تدركه تعالى و لا تحيط به- و هذا حق لأن كل متصور فلا بد أن يكون محسوسا- أو متخيلا أو موجودا من فطرة النفس- و الاستقراء يشهد بذلك- مثال المحسوس السواد و الحموضة- مثال المتخيل إنسان يطير أو بحر من دم- مثال الموجود من فطرة النفس تصور الألم و اللذة- و لما كان البارئ سبحانه خارجا عن هذا أجمع- لم يكن متصورا- . فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود- فإنه يعني بصفته هاهنا كنهه و حقيقته- يقول ليس لكنهه حد- فيعرف بذلك الحد قياسا على الأشياء المحدودة- لأنه ليس بمركب و كل محدود مركب- . ثم قال و لا نعت موجود- أي و لا يدرك بالرسم كما تدرك الأشياء برسومها- و هو أن تعرف بلازم من لوازمها و صفة من صفاتها- ثم قال و لا وقت معدود و لا أجل ممدود- فيه إشارة إلى الرد على من قال- إنانعلم كنه البارئ سبحانه لا في هذه الدنيا بل في الآخرة- فإن القائلين برؤيته في الآخرة يقولون- إنا نعرف حينئذ كنهه- فهو ع رد قولهم- و قال إنه لا وقت أبدا على الإطلاق- تعرف فيه حقيقته و كنهه لا الآن و لا بعد الآن- و هو الحق لأنا لو رأيناه في الآخرة- و عرفنا كنهه لتشخص تشخصا- يمنع من حمله على كثيرين- و لا يتصور أن يتشخص هذا التشخص- إلا ما يشار إلى جهته و لا جهة له سبحانه- و قد شرحت هذا الموضع في كتابي- المعروف بزيادات النقضين- و بينت أن الرؤية المنزهة عن الكيفية- التي يزعمها أصحاب الأشعري- لا بد فيها من إثبات الجهة- و أنها لا تجري مجرى العلم- لأن العلم لا يشخص المعلوم و الرؤية تشخص المرئي- و التشخيص لا يمكن إلا مع كون المتشخص ذا جهة- . و اعلم أن نفي الإحاطة مذكور في الكتاب العزيز- في مواضع منها قوله تعالى وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً- و منها قوله يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ- و قال بعض الصحابة- العجز عن درك الإدارك إدراك- و قد غلا محمد بن هانئ- فقال في ممدوحه المعز أبي تميم معد بن المنصور العلوي-
أتبعته فكري حتى إذا بلغت
غاياتها بين تصويب و تصعيد
رأيت موضع برهان يلوح و ما
رأيت موضع تكييف و تحديد
– . و هذا مدح يليق بالخالق تعالى و لا يليق بالمخلوق- . فأما قوله فطر الخلائق إلى آخر الفصل- فهو تقسيم مشتق من الكتاب العزيز- فقوله فطر الخلائق بقدرته- من قوله تعالى قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا- و قوله و نشر الرياح برحمته- من قوله يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته- . و قوله و وتد بالصخور ميدان أرضه- من قوله وَ الْجِبالَ أَوْتاداً- و الميدان التحرك و التموج- . فأما القطب الراوندي رحمه الله فإنه قال- إنه ع أخبر عن نفسه بأول هذا الفصل أنه يحمد الله- و ذلك من ظاهر كلامه- ثم أمر غيره من فحوى كلامه أن يحمد الله- و أخبر ع أنه ثابت على ذلك مدة حياته- و أنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا- و لو قال أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك- ثم قال و الحمد أعم من الشكر و الله أخص من الإله- قال فأما قوله الذي لا يبلغ مدحته القائلون- فإنه أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه- فكيف بمحامده- و المعنى أن الحمد كل الحمد ثابت للمعبود- الذي حقت العبادة له في الأزل- و استحقها حين خلق الخلق- و أنعم بأصول النعم التي يستحق بها العبادة- . و لقائل أن يقول- إنه ليس في فحوى كلامه أنه أمر غيره أن يحمد الله- و ليس يفهم من قول بعض رعية الملك لغيره منهم- العظمة و الجلال لهذا الملك- أنه قد أمرهم بتعظيمه و إجلاله- و لا أيضا في الكلام ما يدل على أنه ثابت على ذلك- مدة حياته- و أنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا- . و لا أعلم كيف قد وقع ذلك للراوندي- فإن زعم أن العقل يقتضي ذلك فحق- و لكن ليس مستفادا من الكلام- و هو أنه قال إن ذلك موجود في الكلام- . فأما قوله لو كان قال أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك- فإنه لا فرق في انتفاء دلالة أحمد الله على ذلك- و دلالة الحمد لله- و هما سواء في أنهما لا يدلان على شيء- من أحوال غير القائل- فضلا عن دلالتهما على ثبوت ذلك- و دوامه في حق غير القائل- . و أما قوله الله أخص من الإله- فإن أراد في أصل اللغة فلا فرق- بل الله هو الإله و فخم بعد حذف الهمزة- هذا قول كافة البصريين- و إن أراد أن أهل الجاهلية- كانوا يطلقون على الأصنام لفظة الإلهة- و لا يسمونها الله- فحق و ذلك عائد إلى عرفهم و اصطلاحهم- لا إلى أصل اللغة و الاشتقاق- أ لا ترى أن الدابة في العرف لا تطلق على القملة- و إن كانت في أصل اللغة دابة- . فأما قوله قد أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه- فكيف بمحامده- فكلام يقتضي أن المدح غير الحمد- و نحن لا نعرف فرقا بينهما- و أيضا فإن الكلام لا يقتضي العجز عن القيام بالواجب- لا من الممادح و لا من المحامد- و لا فيه تعرض لذكر الوجوب- و إنما نفى أن يبلغ القائلون مدحته لم يقل غير ذلك- . و أما قوله الذي حقت العبادة له في الأزل- و استحقها حين خلق الخلق و أنعم بأصول النعم- فكلام ظاهره متناقض- لأنه إذا كان إنما استحقها حين خلق الخلق- فكيف يقال إنه استحقها في الأزل- و هل يكون في الأزل مخلوق ليستحق عليه العبادة- . و اعلم أن المتكلمين لا يطلقون على البارئ سبحانه- أنه معبود في الأزل أو مستحق للعبادة في الأزل- إلا بالقوة لا بالفعل- لأنه ليس في الأزل مكلف يعبده تعالى- و لا أنعم على أحد في الأزل- بنعمة يستحق بها العبادة- حتى أنهم قالوا في الأثر الوارد- يا قديم الإحسان- إن معناه أن إحسانه متقادم العهد- لا أنه قديم حقيقة كما جاء في الكتاب العزيز- حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ- أي الذي قد توالت عليه الأزمنة المتطاولة- . ثم قال الراوندي- و الحمد و المدح يكونان بالقول و بالفعل- و الألف و اللام في القائلون لتعريف الجنس- كمثلهما في الحمد- و البلوغ المشارفة- يقال بلغت المكان إذا أشرفت عليه- و إذا لم تشرف على حمده تعالى بالقول- فكيف توصل إليه بالفعل- و الإله مصدر بمعنى المألوه- . و لقائل أن يقول الذي سمعناه- أن التعظيم يكون بالقول و الفعل- و بترك القول و الفعل- قالوا فمن قال لغيره يا عالم فقد عظمه- و من قام لغيره فقد عظمه- و من ترك مد رجله بحضرة غيره فقد عظمه- و من كف غرب لسانه عن غيره فقد عظمه- و كذلك الاستخفاف و الإهانة- تكون بالقول و الفعل و بتركهما- حسب ما قدمنا ذكره في التعظيم- . فأما الحمد و المدح فلا وجه لكونهما بالفعل- و أما قوله إن اللام في القائلون لتعريف الجنس- كما أنها في الحمد كذلك فعجيب- لأنها للاستغراق في القائلون- لا شبهة في ذلك كالمؤمنين و المشركين- و لا يتم المعنى إلا به لأنه للمبالغة- بل الحق المحض أنه لا يبلغ مدحته كل القائلين بأسرهم- و جعل اللام للجنس ينقص عن هذا المعنى- إن أراد بالجنس المعهود- و إن أراد الجنسية العامة فلا نزاع بيننا و بينه- إلا أن قوله كما أنها في الحمد كذلك- يمنع من أن يحمل كلامه على المحمل الصحيح- لأنها ليست في الحمد للاستغراق- يبين ذلك أنها لو كانت للاستغراق- لما جاز أن يحمد رسول الله ص و لا غيره من الناس- و هذا باطل- .
و أيضا فإنها لفظ واحد مفرد معرف بلام الجنس- و الأصل في مثل ذلك أن يفيد الجنسية المطلقة- و لا يفيد الاستغراق- فإن جاء منه شيء للاستغراق- كقوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ- و أهلك الناس الدرهم و الدينار- فمجاز و الحقيقة ما ذكرناه- فأما قوله البلوغ المشارفة- يقال بلغت المكان إذا أشرفت عليه- فالأجود أن يقول قالوا بلغت المكان إذا شارفته- و بين قولنا شارفته و أشرفت عليه فرق- . و أما قوله و إذا لم يشرف على حمده بالقول- فكيف يوصل إليه بالفعل- فكلام مبني على أن الحمد قد يكون بالفعل- و هو خلاف ما يقوله أرباب هذه الصناعة- . و قوله و الإله مصدر بمعنى المألوه كلام طريف- أما أولا فإنه ليس بمصدر بل هو اسم- كوجار للضبع و سرار للشهر- و هو اسم جنس كالرجل و الفرس- يقع على كل معبود بحق أو باطل- ثم غلب على المعبود بالحق- كالنجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا- و السنة اسم لكل عام ثم غلب على عام القحط- و أظنه رحمه الله لما رآه فعالا- ظن أنه اسم مصدر كالحصاد و الجذاذ و غيرهما- و أما ثانيا فلأن المألوه صيغة مفعول- و ليست صيغة مصدر إلا في ألفاظ نادرة- كقولهم ليس له معقول و لا مجلود- و لم يسمع مألوه في اللغة- لأنه قد جاء أله الرجل إذا دهش و تحير- و هو فعل لازم لا يبنى منه مفعول- . ثم قال الراوندي و في قول الله تعالى- وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها بلفظ الإفراد- و قول أمير المؤمنين ع- لا يحصي نعماءه العادون بلفظ الجمع- سر عجيب- لأنه تعالى أراد أن نعمة واحدة من نعمه- لا يمكن العباد عد وجوه كونها نعمة- و أراد أمير المؤمنين ع أن أصول نعمه لا تحصى لكثرتها- فكيف تعد وجوه فروع نعمائه- و كذلك في كون الآية واردة بلفظة إن الشرطية- و كلام أمير المؤمنين ع على صيغة الخبر- تحته لطيفة عجيبة- لأنه سبحانه يريد أنكم إن أردتم أن تعدوا نعمه- لم تقدروا على حصرها- و علي ع أخبر أنه قد أنعم النظر- فعلم أن أحدا لا يمكنه حصر نعمه تعالى- . و لقائل أن يقول الصحيح أن المفهوم من قوله- وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ الجنس- كما يقول القائل- أنا لا أجحد إحسانك إلى و امتنانك علي- و لا يقصد بذلك إحسانا واحدا بل جنس الإحسان- . و ما ذكره من الفرق بين كلام البارئ- و كلام أمير المؤمنين ع- غير بين- فإنه لو قال تعالى و إن تعدوا نعم الله- و قال ع و لا يحصي نعمته العادون- لكان كل واحد منهما سادا مسد الآخر- . أما اللطيفة الثانية فغير ظاهرة أيضا و لا مليحة- لأنه لو انعكس الأمر فكان القرآن بصيغة الخبر- و كلام علي ع بصيغة الشرط- لكان مناسبا أيضا حسب مناسبته- و الحال بعكس ذلك- اللهم إلا أن تكون قرينة السجعة من كلام علي ع- تنبو عن لفظة الشرط- و إلا فمتى حذفت القرينة السجعية عن وهمك- لم تجد فرقا- و نحن نعوذ بالله من التعسف و التعجرف- الداعي إلى ارتكاب هذه الدعاوي المنكرة- . ثم قال الراوندي- إنه لو قال أمير المؤمنين ع- الذي لا يعد نعمه الحاسبون- لم تحصل المبالغة التي أرادها بعبارته- لأن اشتقاق الحساب من الحسبان و هو الظن- قال و أما اشتقاق العدد فمن العد- و هو الماء الذي له مادة- و الإحصاء الإطاقة أحصيته أي أطقته- فتقدير الكلام لا يطيق عد نعمائه العادون-
و معنى ذلك أن مدائحه تعالى- لا يشرف على ذكرها الأنبياء و المرسلون- لأنها أكثر من أن تعدها الملائكة المقربون- و الكرام الكاتبون- . و لقائل أن يقول- أما الحساب فليس مشتقا من الحسبان بمعنى الظن- كما توهمه- بل هو أصل برأسه- أ لا ترى أن أحدهما حسبت أحسب- و الآخر حسبت أحسب و أحسب بالفتح و الضم- و هو من الألفاظ الأربعة التي جاءت شاذة- و أيضا فإن حسبت بمعنى ظننت- يتعدى إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما- و حسبت من العدد يتعدى إلى مفعول واحد- ثم يقال له و هب أن الحاسبين- لو قالها مشتقة من الظن لم تحصل المبالغة- بل المبالغة كادت تكون أكثر- لأن النعم التي لا يحصرها الظان بظنونه- أكثر من النعم التي لا يعدها العالم بعلومه- و أما قوله العدد مشتق من العد- و هو الماء الذي له مادة فليس كذلك بل هما أصلان- و أيضا لو كان أحدهما مشتقا من الآخر- لوجب أن يكون العد مشتقا من العدد- لأن المصادر هي الأصول التي يقع الاشتقاق منها- سواء أ كان المشتق فعلا أو اسما- أ لا تراهم قالوا في كتب الاشتقاق- أن الضرب الرجل الخفيف مشتق من الضرب- أي السير في الأرض للابتغاء- قال الله تعالى لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ- فجعل الاسم منقولا و مشتقا من المصدر- . و أما الإحصاء فهو الحصر و العد- و ليس هو الإطاقة كما ذكر- لا يقال أحصيت الحجر أي أطقت حمله- . و أما ما قال إنه معنى الكلمة فطريف- لأنه ع لم يذكر الأنبياء و لاالملائكة- لا مطابقة و لا تضمنا و لا التزاما- و أي حاجة إلى هذا التقدير الطريف- الذي لا يشعر الكلام به- و مراده ع- و هو أن نعمه جلت لكثرتها أن يحصيها عاد ما- هو نفي لمطلق العادين من غير تعرض لعاد مخصوص- .
قال الراوندي فأما قوله لا يدركه بعد الهمم- فالإدراك هو الرؤية و النيل و الإصابة- و معنى الكلام الحمد لله الذي ليس بجسم و لا عرض- إذ لو كان أحدهما لرآه الراءون إذا أصابوه- و إنما خص بعد الهمم بإسناد نفي الإدراك- و غوص الفطن بإسناد نفي النيل لغرض صحيح- و ذلك أن الثنوية يقولون بقدم النور و الظلمة- و يثبتون النور جهة العلو و الظلمة جهة السفل- و يقولون إن العالم ممتزج منهما- فرد ع عليهم بما معناه- أن النور و الظلمة جسمان- و الأجسام محدثة و البارئ تعالى قديم- . و لقائل أن يقول إنه لم يجر للرؤية ذكر في الكلام- لأنه ع لم يقل الذي لا تدركه العيون و لا الحواس- و إنما قال لا يدركه بعد الهمم- و هذا يدل على أنه إنما أراد- أن العقول لا تحيط بكنهه و حقيقته- . و أيضا فلو سلمنا أنه إنما نفى الرؤية- لكان لمحاج أن يحاجه فيقول له- هب أن الأمر كما تزعم- أ لست تريد بيان الأمر- الذي لأجله خصص بعد الهمم بنفي الإدراك- و خصص غوص الفطن بنفي النيل- و قلت إنما قسم هذا التقسيم لغرض صحيح- و ما رأيناك أوضحت هذا الغرض- و إنما حكيت مذهب الثنوية- و ليس يدل مذهبهم على وجوب تخصيص بعد الهمم- بنفي الإدراك دون نفي النيل- و لا يوجب تخصيص غوص الفطن-
بنفي النيل دون نفي الإدراك- و أكثر ما في حكاية مذهبهم- أنهم يزعمون أن إلهي العالم النور و الظلمة- و هما جسمان- و أمير المؤمنين ع يقول- لو كان صانع العالم جسما لرئي- و حيث لم ير لم يكن جسما- أي شيء في هذا مما يدل على وجوب ذلك التقسيم- و التخصيص الذي زعمت- أنه إنما خصصه و قسمه لغرض صحيح- .
ثم قال الراوندي- و يجوز أن يقال البعد و الغوص مصدران- هاهنا بمعنى الفاعل- كقولهم فلأن عدل أي عادل- و قوله تعالى إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا- فيكون المعنى- لا يدركه العالم البعيد الهمم فكيف الجاهل- و يكون المقصد بذلك الرد على من قال- إن محمدا ص رأى ربه ليلة الإسراء- و إن يونس ع رأى ربه ليلة هبوطه إلى قعر البحر- . و لقائل أن يقول- أن المصدر الذي جاء بمعنى الفاعل ألفاظ معدودة- لا يجوز القياس عليها- و لو جاز لما كان المصدر هاهنا بمعنى الفاعل- لأنه مصدر مضاف- و المصدر المضاف لا يكون بمعنى الفاعل- و لو جاز أن يكون المصدر المضاف بمعنى الفاعل- لم يجز أن يحمل كلامه ع على الرد- على من أثبت أن البارئ سبحانه مرئي- لأنه ليس في الكلام نفي الرؤية أصلا- و إنما غرض الكلام نفي معقوليته سبحانه- و أن الأفكار و الأنظار لا تحيط بكنهه- و لا تتعقل خصوصية ذاته جلت عظمته- . ثم قال الراوندي- فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود- و لا نعت موجود و لا وقت معدود و لا أجل ممدود- فالوقت تحرك الفلك و دورانه على وجه- و الأجل مدة الشيء- و معنى الكلام أن شكري لله تعالى متجدد- عند تجدد كل ساعة- و لهذا أبدل هذه الجملة من الجملة التي قبلها و هي الثانية- كما أبدل الثانية من الأولى- . و لقائل أن يقول- الوقت عند أهل النظر مقدار حركة الفلك- لا نفس حركته- و الأجل ليس مطلق الوقت- أ لا تراهم يقولون جئتك وقت العصر- و لا يقولون أجل العصر- و الأجل عندهم هو الوقت الذي يعلم الله تعالى- أن حياة الحيوان تبطل فيه- مأخوذ من أجل الدين و هو الوقت الذي يحل قضاؤه فيه- .
فأما قوله و معنى الكلام أن شكري- متجدد لله تعالى في كل وقت- ففاسد- و لا ذكر في هذه الألفاظ للشكر- و لا أعلم من أين خطر هذا للراوندي- و ظنه أن هذه الجمل من باب البدل غلط- لأنها صفات كل واحدة منها صفة بعد أخرى- كما تقول مررت بزيد العالم الظريف الشاعر- . قال الراوندي فأما قوله الذي ليس لصفته حد- فظاهره إثبات الصفة له سبحانه- و أصحابنا لا يثبتون لله سبحانه صفة- كما يثبتها الأشعرية- لكنهم يجعلونه على حال أو يجعلونه متميزا بذاته- فأمير المؤمنين ع بظاهر كلامه و إن أثبت له صفة- إلا أن من له أنس بكلام العرب يعلم- أنه ليس بإثبات على الحقيقة- و قد سألني سائل فقال هاهنا كلمتان- إحداهما كفر و الأخرى ليست بكفر- و هما لله تعالى شريك غير بصير- ليس شريك الله تعالى بصيرا- فأيهما كلمة الكفر- فقلت له القضية الثانية- و هي ليس شريك الله تعالى بصيرا كفر- لأنها تتضمن إثبات الشريك- و أما الكلمة الأخرى- فيكون معناها لله شريك غير بصير- بهمزة الاستفهام المقدرة المحذوفة- .
ثم أخذ في كلام طويل يبحث فيه عن الصفة و المعنى- و يبطل مذهب الأشعرية- بما يقوله المتكلمون من أصحابنا- و أخذ في توحيد الصفة- لم جاء و كيف يدل نفي الصفة الواحدة- على نفي مطلق الصفات- و انتقل من ذلك إلى الكلام في الصفة الخامسة- التي أثبتها أبو هاشم- ثم خرج إلى مذهب أبي الحسين- و أطال جدا فيما لا حاجة إليه- . و لقائل أن يقول الأمر أسهل مما تظن- فإنا قد بينا أن مراده نفي الإحاطة بكنهه- و أيضا يمكن أن يجعل الصفة هاهنا قول الواصف- فيكون المعنى لا ينتهي الواصف إلى حد- إلا و هو قاصر عن النعت لجلالته و عظمته جلت قدرته- .
فأما القضيتان اللتان سأله السائل عنهما- فالصواب غير ما أجاب به فيهما- و هو أن القضية الأولى كفر- لأنها صريحة في إثبات الشريك- و الثانية لا تقتضي ذلك- لأنه قد ينفي قول الشريك بصيرا على أحد وجهين- إما لأن هناك شريكا لكنه غير بصير- أو لأن الشريك غير موجود- و إذا لم يكن موجودا لم يكن بصيرا- فإذا كان هذا الاعتبار الثاني مرادا- لم يكن كفرا و صار كالأثر المنقول- كان مجلس رسول الله ص لا تؤثر هفواته- أي لم يكن فيه هفوات فتؤثر و تحكى- و ليس أنه كان المراد في مجلسه هفوات إلا أنها لم تؤثر- . قال الراوندي- فإن قيل تركيب هذه الجملة- يدل على أنه تعالى فطر الخليقة- قبل خلق السموات و الأرض- .
قلنا قد اختلف في ذلك- فقيل أول ما يحسن منه تعالى خلقه ذاتا حية- يخلق فيها شهوة لمدرك تدركه فتلتذ به- و لهذا قيل تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان عبث و قبيح- و قيل لا مانع من تقديم خلق الجماد- إذا علم أن علم بعض المكلفين- فيما بعد بخلقه قبله لطف له- و لقائل أن يقول أما إلى حيث انتهى به الشرح- فليس في الكلام تركيب يدل على أنه تعالى فطر خلقه- قبل خلق السموات و الأرض- و إنما قد يوهم تأمل كلامه ع فيما بعد شيئا من ذلك- لما قال ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء- على أنا إذا تأملنا لم نجد في كلامه ع- ما يدل على تقديم خلق الحيوان- لأنه قبل أن يذكر خلق السماء- لم يذكر إلا أنه فطر الخلائق- و تارة قال أنشأ الخلق- و دل كلامه أيضا على أنه نشر الرياح- و أنه خلق الأرض و هي مضطربة فأرساها بالجبال- كل هذا يدل عليه كلامه- و هو مقدم في كلامه على فتق الهواء و الفضاء- و خلق السماء- فأما تقديم خلق الحيوان أو تأخيره- فلم يتعرض كلامه ع له- فلا معنى لجواب الراوندي- و ذكره ما يذكره المتكلمون- من أنه هل يحسن تقديم خلق الجماد على الحيوان أم لا:
أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ- وَ كَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ- وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْ1: فمن خطبة له ع-
يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض و خلق آدم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ- وَ لَا يُحْصِي نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ- وَ لَا يُؤَدِّي حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَ- الَّذِي لَا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ- وَ لَا يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ- الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ- وَ لَا نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لَا وَقْتٌ مَعْدُودٌ- وَ لَا أَجْلٌ مَمْدُودٌ- فَطَرَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ- وَ نَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ- وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ وَ مَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ- وَ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ- وَ مَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُ- وَ مَنْ قَالَ عَلَامَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ
إنما قال ع أول الدين معرفته لأن التقليد باطل- و أول الواجبات الدينية المعرفة- و يمكن أن يقول قائل أ لستم تقولون في علم الكلام- أول الواجبات النظر في طريق معرفة الله تعالى- و تارة تقولون القصد إلى النظر- فهل يمكن الجمع بين هذا و بين كلامه ع- .
و جوابه أن النظر و القصد إلى النظر- إنما وجبا بالعرض لا بالذات- لأنهما وصله إلى المعرفة- و المعرفة هي المقصود بالوجوب- و أمير المؤمنين ع أراد- أول واجب مقصود بذاته من الدين- معرفة البارئ سبحانه- فلا تناقض بين كلامه و بين آراء المتكلمين- . و أما قوله و كمال معرفته التصديق به- فلأن معرفته قد تكون ناقصة- و قد تكون غير ناقصة- فالمعرفة الناقصة هي المعرفة بان للعالم صانعا غير العالم- و ذلك باعتبار أن الممكن لا بد له من مؤثر- فمن علم هذا فقط علم الله تعالى و لكن علما ناقصا- و أما المعرفة التي ليست ناقصة- فأن تعلم أن ذلك المؤثر خارج عن سلسلة الممكنات- و الخارج عن كل الممكنات ليس بممكن- و ما ليس بممكن فهو واجب الوجود- فمن علم أن للعالم مؤثرا واجب الوجود- فقد عرفه عرفانا- أكمل من عرفان أن للعالم مؤثرا فقط- و هذا الأمر الزائد هو المكني عنه بالتصديق به- لأن أخص ما يمتاز به البارئ عن مخلوقاته- هو وجوب الوجود- .
و أما قوله ع و كمال التصديق به توحيده- فلأن من علم أنه تعالى واجب الوجود- مصدق بالبارئ سبحانه- لكن ذلك التصديق قد يكون ناقصا و قد يكون غير ناقص- فالتصديق الناقص أن يقتصر- على أن يعلم أنه واجب الوجود فقط- و التصديق الذي هو أكمل من ذلك و أتم- هو العلم بتوحيده سبحانه- باعتبار أن وجوب الوجود لا يمكن أن يكون لذاتين- لأن فرض واجبي الوجود- يفضي إلى عموم وجوب الوجود لهما- و امتياز كل واحد منهما بأمر غير الوجوب المشترك- و ذلك يفضي إلى تركيبهما- و إخراجهما عن كونهما واجبي الوجود- فمن علم البارئ سبحانه واحدا- أي لا واجب الوجود- إلا هو يكون أكمل تصديقا ممن لم يعلم ذلك- و إنما اقتصر على أن صانع العالم واجب الوجود فقط- .
و أما قوله و كمال توحيده الإخلاص له- فالمراد بالإخلاص له هاهنا- هو نفي الجسمية و العرضية و لوازمهما عنه- لأن الجسم مركب و كل مركب ممكن- و واجب الوجود ليس بممكن- و أيضا فكل عرض مفتقر- و واجب الوجود غير مفتقر- فواجب الوجود ليس بعرض- و أيضا فكل جرم محدث و واجب الوجود ليس بمحدث- فواجب الوجود ليس بجرم- و لا عرض- فلا يكون حاصلا في جهة- فمن عرف وحدانية البارئ و لم يعرف هذه الأمور- كان توحيده ناقصا- و من عرف هذه الأمور بعد العلم بوحدانيته تعالى- فهو المخلص في عرفانه جل اسمه- و معرفته تكون أتم و أكمل- . و أما قوله و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه- فهو تصريح بالتوحيد الذي تذهب إليه المعتزلة- و هو نفي المعاني القديمة التي تثبتها الأشعرية و غيرهم-
قال ع لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف- و شهادة كل موصوف أنه غير الصفة- و هذا هو دليل المعتزلة بعينه- قالوا لو كان عالما بمعنى قديم- لكان ذلك المعنى إما هو أو غيره- أو ليس هو و لا غيره- و الأول باطل- لأنا نعقل ذاته قبل أن نعقل أو نتصور له علما- و المتصور مغاير لما ليس بمتصور- و الثالث باطل أيضا- لأن إثبات شيئين أحدهما ليس هو الآخر و لا غيره- معلوم فساده ببديهة العقل- فتعين القسم الثاني و هو محال- أما أولا فبإجماع أهل الملة- و أما ثانيا فلما سبق- من أن وجوب الوجود لا يجوز أن يكون لشيئين- فإذا عرفت هذا فاعرف أن الإخلاص له تعالى- قد يكون ناقصا و قد لا يكون- فالإخلاص الناقص هو العلم بوجوب وجوده- و أنه واحد ليس بجسم و لا عرض- و لا يصح عليه ما يصح على الأجسام و الأعراض- و الإخلاص التام هو العلم بأنه لا تقوم به المعاني القديمة- مضافا إلى تلك العلوم السابقة- و حينئذ تتم المعرفة و تكمل- .
ثم أكد أمير المؤمنين ع هذه الإشارات الإلهية- بقوله فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه- و هذا حق لأن الموصوف يقارن الصفة و الصفة تقارنه- . قال و من قرنه فقد ثناه و هذا حق- لأنه قد أثبت قديمين و ذلك محض التثنية- . قال و من ثناه فقد جزأه و هذا حق- لأنه إذا أطلق لفظة الله تعالى على الذات و العلم القديم- فقد جعل مسمى هذا اللفظ و فائدته متجزئة- كإطلاق لفظ الأسود على الذات التي حلها سواد- . قال و من جزأه فقد جهله و هذا حق- لأن الجهل هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به- . قال و من أشار إليه فقد حده و هذا حق- لأن كل مشار إليه فهو محدود-لأن المشار إليه لا بد أن يكون في جهة مخصوصة- و كل ما هو في جهة فله حد و حدود- أي أقطار و أطراف- . قال و من حده فقد عده- أي جعله من الأشياء المحدثة و هذا حق- لأن كل محدود معدود في الذوات المحدثة- . قال و من قال فيم فقد ضمنه و هذا حق- لأن من تصور أنه في شيء- فقد جعله إما جسما مستترا في مكان- أو عرضا ساريا في محل- و المكان متضمن للتمكن و المحل متضمن للعرض- . قال و من قال علام فقد أخلى منه و هذا حق- لأن من تصور أنه تعالى على العرش أو على الكرسي- فقد أخلى منه غير ذلك الموضع- و أصحاب تلك المقالة يمتنعون من ذلك- و مراده ع إظهار تناقض أقوالهم- و إلا فلو قالوا- هب أنا قد أخلينا منه غير ذلك الموضع- أي محذور يلزمنا- فإذا قيل لهم لو خلا منه موضع دون موضع- لكان جسما و لزم حدوثه- قالوا لزوم الحدوث و الجسمية- إنما هو من حصوله في الجهة لا من خلو بعض الجهات عنه- و أنتم إنما احتججتم علينا بمجرد خلو بعض الجهات منه- فظهر أن توجيه الكلام عليهم إنما هو إلزام لهم- لا استدلال على فساد قولهم- فأما القطب الراوندي فإنه قال- في معنى قوله نفي الصفات عنه- أي صفات المخلوقين- قال لأنه تعالى عالم قادر و له بذلك صفات- فكيف يجوز أن يقال لا صفة له- .
و أيضا فإنه ع قد أثبت لله تعالى صفة أولا- حيث قال الذي ليس لصفته حد محدود- فوجب أن يحمل كلامه على ما يتنزه عن المناقضة- .
و أيضا فإنه قد قال فيما بعد في صفة الملائكة- أنهم لا يصفون الله تعالى بصفات المصنوعين- فوجب أن يحمل قوله الآن- و كمال توحيده نفي الصفات عنه- على صفات المخلوقين- حملا للمطلق على المقيد- . و لقائل أن يقول لو أراد نفي صفات المخلوقين عنه- لم يستدل على ذلك بدليل الغيرية- و هو قوله لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف- لأن هذا الاستدلال لا ينطبق- على دعوى أنه غير موصوف بصفات المخلوقين- بل كان ينبغي أن يستدل بان صفات المخلوقين- من لوازم الجسمية و العرضية- و البارئ ليس بجسم و لا عرض- و نحن قد بينا أن مراده ع- إبطال القول بالمعاني القديمة- و هي المسماة بالصفات في الاصطلاح القديم- و لهذا يسمى أصحاب المعاني بالصفاتية- فأما كونه قادرا و عالما- فأصحابها أصحاب الأحوال- و قد بينا أن مراده ع بقوله ليس لصفته حد محدود- أي لكنهه و حقيقته- و أما كون الملائكة لا تصف البارئ بصفات المصنوعين- فلا يقتضي أن يحمل كل موضوع فيه- ذكر الصفات على صفات المصنوعين- لأجل تقييد ذلك في ذكر الملائكة- و أين هذا من باب حمل المطلق على المقيد- لا سيما و قد ثبت أن التعليل و الاستدلال- يقضي ألا يكون المراد صفات المخلوقين- . و قد تكلف الراوندي لتطبيق تعليله ع نفي الصفات عنه- بقوله لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف- بكلام عجيب و أنا أحكي ألفاظه لتعلم- قال معنى هذا التعليل- أن الفعل في الشاهد لا يشابه الفاعل- و الفاعل غير الفعل- لأن ما يوصف به الغير إنما هو الفعل أو معنى الفعل- كالضارب و الفهم- فإن الفهم و الضرب كلاهما فعل و الموصوف بهما فاعل- و الدليل لا يختلف شاهدا و غائبا- فإذا كان تعالى قديما و هذه الأجسام محدثة- كانت معدومة ثم وجدت- يدل على أنها غير الموصوف بأنه خالقها و مدبرها- .
انقضى كلامه و حكايته تغني عن الرد عليه- . ثم قال الأول على وزن أفعل- يستوي فيه المذكر و المؤنث- إذا لم يكن فيه الألف و اللام- فإذا كانا فيه قيل للمؤنث الأولى- . و هذا غير صحيح- لأنه يقال كلمت فضلاهن و ليس فيه ألف و لام- و كان ينبغي أن يقول إذا كان منكرا- مصحوبا بمن استوى المذكر و المؤنث في لفظ أفعل- تقول زيد أفضل من عمرو و هند أحسن من دعد: كَائِنٌ لَا عَنْ حَدَثٍ مَوْجُودٌ لَا عَنْ عَدَمٍ- مَعَ كُلِّ شَيْءٍ لَا بِمُقَارَنَةٍ وَ غَيْرُ كُلِّ شَيْءٍ لَا بِمُزَايَلَةٍ- فَاعِلٌ لَا بِمَعْنَى الْحَرَكَاتِ وَ الآْلَةِ- بَصِيرٌ إِذْ لَا مَنْظُورَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ- مُتَوَحِّدٌ إِذْ لَا سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِهِ وَ لَا يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ- أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وَ ابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً- بِلَا رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا وَ لَا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا- وَ لَا حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا وَ لَا هَمَامَةِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِيهَا- أَحَالَ الْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَ لَاءَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا- وَ غَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَ أَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا- عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا- مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَ انْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَ أَحْنَائِهَا قوله ع كائن- و إن كان في الاصطلاح العرفي- مقولا على ما ينزه البارئ عنه- فمراده به المفهوم اللغوي- و هو اسم فاعل من كان بمعنى وجد- كأنه قال موجود غير محدث- .
فان قيل فقد قال بعده موجود لا عن عدم- فلا يبقى بين الكلمتين فرق- . قيل بينهما فرق- و مراده بالموجود لا عن عدم هاهنا- وجوب وجوده و نفي إمكانه- لأن من أثبت قديما ممكنا- فإنه و إن نفى حدوثه الزماني فلم ينف حدوثه الذاتي- و أمير المؤمنين ع نفى عن البارئ تعالى- في الكلمة الأولى الحدوث الزماني- و نفى عنه في الكلمة الثاني الذاتي- و قولنا في الممكن أنه موجود من عدم صحيح عند التأمل- لا بمعنى أن عدمه سابق له زمانا بل سابق لوجوده ذاتا- لأن الممكن يستحق من ذاته أنه لا يستحق الوجود من ذاته- . و أما قوله مع كل شيء لا بمقارنة- فمراده بذلك أنه يعلم الجزئيات و الكليات- كما قال سبحانه ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ- . و أما قوله و غير كل شيء لا بمزايلة فحق- لأن الغيرين في الشاهد هما ما زايل أحدهما الآخر- و باينه بمكان أو زمان- و البارئ سبحانه يباين الموجودات مباينة- منزهة عن المكان و الزمان- فصدق عليه أنه غير كل شيء لا بمزايلة- . و أما قوله فاعل لا بمعنى الحركات و الآلة فحق- لأن فعله اختراع- و الحكماء يقولون إبداع و معنى الكلمتين واحد- و هو أنه يفعل لا بالحركة و الآلة- كما يفعل الواحد منا- و لا يوجد شيئا من شيء- . و أما قوله بصير إذ لا منظور إليه من خلقه- فهو حقيقة مذهب أبي هاشم رحمه الله و أصحابه- لأنهم يطلقون عليه في الأزل أنه سميع بصير- و ليس هناك مسموع و لا مبصر- و معنى ذلك كونه بحال- يصح منه إدراك المسموعات و المبصرات إذا وجدت-
و ذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به- و لا يطلقون عليه أنه سامع مبصر في الأزل- لأن السامع المبصر هو المدرك بالفعل لا بالقوة- . و أما قوله متوحد إذ لا سكن يستأنس به و يستوحش لفقده- فإذ هاهنا ظرف- و معنى الكلام أن العادة و العرف- إطلاق متوحد على من قد كان له من يستأنس بقربه- و يستوحش ببعده فانفرد عنه- و البارئ سبحانه يطلق عليه أنه متوحد في الأزل- و لا موجود سواه- و إذا صدق سلب الموجودات كلها في الأزل- صدق سلب ما يؤنس أو يوحش- فتوحده سبحانه بخلاف توحد غيره- . و أما قوله ع أنشأ الخلق إنشاء و ابتدأه ابتداء- فكلمتان مترادفتان على طريقة الفصحاء و البلغاء- كقوله سبحانه- لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ- و قوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً- . و قوله بلا روية أجالها- فالروية الفكرة و أجالها رددها- و من رواه أحالها بالحاء أراد صرفها- و قوله و لا تجربة استفادها- أي لم يكن قد خلق من قبل أجساما- فحصلت له التجربة التي أعانته على خلق هذه الأجسام- . و قوله و لا حركة أحدثها- فيه رد على الكرامية الذين يقولون- إنه إذا أراد أن يخلق شيئا مباينا عنه- أحدث في ذاته حادثا يسمى الأحداث- فوقع ذلك الشيء المباين عن ذلك المعنى المتجدد- المسمى أحداثا- . و قوله و لا همامة نفس اضطرب فيها- فيه رد على المجوس و الثنوية القائلين بالهمامة- و لهم فيها خبط طويل يذكره أصحاب المقالات- و هذا يدل على صحة ما يقال- إن أمير المؤمنين ع كان يعرف آراء المتقدمين و المتأخرين- و يعلم العلوم كلها- و ليس ذلك ببعيد من فضائله و مناقبه ع- .
و أما قوله أحال الأشياء لأوقاتها- فمن رواها أحل الأشياء لأوقاتها- فمعناه جعل محل كل شيء و وقته كمحل الدين- و من رواها أحال- فهو من قولك حال في متن فرسه أي وثب- و أحاله غيره أي أوثبه على متن الفرس عداه بالهمزة- و كأنه لما أقر الأشياء في أحيانها و أوقاتها- صار كمن أحال غيره على فرسه- . و قوله و لاءم بين مختلفاتها- أي جعل المختلفات ملتئمات- كما قرن النفس الروحانية بالجسد الترابي جلت عظمته- و قوله و غرز غرائزها المروي بالتشديد- و الغريزة الطبيعة و جمعها غرائز- و قوله غرزها أي جعلها غرائز- كما قيل سبحان من ضوأ الأضواء- و يجوز أن يكون من غرزت الإبرة بمعنى غرست- و قد رأيناه في بعض النسخ بالتخفيف- . و قوله و ألزمها أشباحها- الضمير المنصوب في ألزمها عائد إلى الغرائز- أي ألزم الغرائز أشباحها أي أشخاصها- جمع شبح و هذا حق- لأن كلا مطبوع على غريزة لازمة- فالشجاع لا يكون جبانا و البخيل لا يكون جوادا- و كذلك كل الغرائز لازمة لا تنتقل- . و قوله عالما بها قبل ابتدائها- إشارة إلى أنه عالم بالأشياء فيما لم يزل- و قوله محيطا بحدودها و انتهائها- أي بأطرافها و نهاياتها- . و قوله عارفا بقرائنها و أحنائها- القرائن جمع قرونة و هي النفس- و الأحناء الجوانب جمع حنو- يقول إنه سبحانه عارف بنفوس هذه الغرائز- التي ألزمها أشباحها- عارف بجهاتها و سائر أحوالها المتعلقة بها و الصادرة عنها- .
فأما القطب الراوندي فإنه قال معنى قوله ع- كائن لا عن حدث موجود لا عن عدم- أنه لم يزل موجودا و لا يزال موجودا- فهو باق أبدا كما كان موجودا أولا- و هذا ليس بجيد- لأن اللفظ لا يدل على ذلك- و لا فيه تعرض بالبقاء فيما لا يزال- . و قال أيضا قوله ع لا يستوحش كلام مستأنف- و لقائل أن يقول كيف يكون كلاما مستأنفا- و الهاء في فقده ترجع إلى السكن المذكور أولا- . و قال أيضا- يقال ما له في الأمر همة و لا همامة أي لا يهم به- و الهمامة التردد كالعزم- و لقائل أن يقول العزم هو إرادة جازمة- حصلت بعد التردد- فبطل قوله أن الهمامة هي نفس التردد كالعزم- و أيضا فقد بينا مراده ع بالهمامة- حكى زرقان في كتاب المقالات- و أبو عيسى الوراق و الحسن بن موسى- و ذكره شيخنا أبو القاسم البلخي- في كتابه في المقالات أيضا عن الثنوية- أن النور الأعظم اضطربت عزائمه و إرادته- في غزو الظلمة و الإغارة عليها- فخرجت من ذاته قطعة و هي الهمامة المضطربة في نفسه- فخالطت الظلمة غازية لها- فاقتطعتها الظلمة عن النور الأعظم- و حالت بينها و بينه- و خرجت همامة الظلمة غازية للنور الأعظم- فاقتطعها النور الأعظم عن الظلمة و مزجها بأجزائه- و امتزجت همامة النور بأجزاء الظلمة أيضا- ثم ما زالت الهمامتان تتقاربان و تتدانيان- و هما ممتزجتان بأجزاء هذا و هذا- حتى انبنى منهما هذا العالم المحسوس- و لهم في الهمامة كلام مشهور- و هي لفظة اصطلحوا عليها- و اللغة العربية ما عرفنا فيها استعمال الهمامة بمعنى الهمة- و الذي عرفناه الهمة بالكسر و الفتح و المهمة- و تقول لا همام لي بهذا الأمر مبني على الكسر كقطام- و لكنها لفظة اصطلاحية مشهورة عند أهلها:
ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ الْأَجْوَاءِ- وَ شَقَّ الْأَرْجَاءِ وَ سَكَائِكَ الْهَوَاءِ- فَأَجْرَى فِيهَا مَاءً مُتَلَاطِماً تَيَّارُهُ- مُتَرَاكِماً زَخَّارُهُ حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ- وَ الزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ- وَ سَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ وَ قَرَنَهَا إِلَى حَدِّهِ- الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ وَ الْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ- ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا- وَ أَدَامَ مُرَبَّهَا وَ أَعْصَفَ مَجْرَاهَا- وَ أَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ الْمَاءِ الزَّخَّارِ- وَ إِثَارَةِ مَوْجِ الْبِحَارِ فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقَاءِ- وَ عَصَفَتْ بِهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ- تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِهِ وَ سَاجِيَهُ عَلَى مَائِرِهِ حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ- وَ رَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ- فَرَفَعَهُ فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وَ جَوٍّ مُنْفَهِقٍ- فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ- جَعَلَ سُفْلَاهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً- وَ عُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ سَمْكاً مَرْفُوعاً- بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا وَ لَا دِسَارٍ يَنْتَظِمُهَا ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ وَ ضِيَاءِ الثَّوَاقِبِ- وَ أَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً وَ قَمَراً مُنِيراً- فِي فَلَكٍ دَائِرٍ وَ سَقْفٍ سَائِرٍ وَ رَقِيمٍ مَائِرٍ
لسائل أن يسأل فيقول- ظاهر هذا الكلام أنه سبحانه خلق الفضاء و السموات- بعد خلق كل شيء- لأنه قد قال قبل- فطر الخلائق و نشر الرياح و وتد الأرض بالجبال- ثم عاد فقال أنشأ الخلق إنشاء و ابتدأه ابتداء- و هو الآن يقول ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء- و لفظة ثم للتراخي- . فالجواب أن قوله ثم هو تعقيب و تراخ- لا في مخلوقات البارئ سبحانه بل في كلامه ع- كأنه يقول ثم أقول الآن بعد قولي المتقدم- إنه تعالى أنشأ فتق الأجواء- و يمكن أن يقال إن لفظة ثم هاهنا- تعطي معنى الجمع المطلق كالواو- و مثل ذلك قوله تعالى- وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى- . و اعلم أن كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل- يشتمل على مباحث- منها أن ظاهر لفظه أن الفضاء الذي هو الفراغ- الذي يحصل فيه الأجسام- خلقه الله تعالى و لم يكن من قبل- و هذا يقتضي كون الفضاء شيئا- لأن المخلوق لا يكون عدما محضا- و ليس ذلك ببعيد فقد ذهب إليه قوم من أهل النظر- و جعلوه جسما لطيفا خارجا عن مشابهة هذه الأجسام- و منهم من جعله مجردا- . فإن قيل هذا الكلام يشعر- بأن خلق الأجسام في العدم المحض قبل خلق الفضاء- ليس بممكن و هذا ينافي العقل- . قيل بل هذا هو محض مذهب الحكماء- فإنهم يقولون إنه لا يمكن وجود جسم-و لا حركة جسم خارج الفلك الأقصى- و ليس ذلك إلا لاستحالة وجود الأجسام و حركتها- إلا في الفضاء- . و منها أن البارئ سبحانه خلق في الفضاء- الذي أوجده ماء جعله على متن الريح- فاستقل عليها و ثبت و صارت مكانا له- ثم خلق فوق ذلك الماء ريحا أخرى سلطها عليه- فموجته تمويجا شديدا حتى ارتفع- فخلق منه السموات- و هذا أيضا قد قاله قوم من الحكماء- و من جملتهم تاليس الإسكندراني- و زعم أن الماء أصل كل العناصر- لأنه إذا انجمد صار أرضا و إذا لطف صار هواء- و الهواء يستحيل نارا لأن النار صفوة الهواء- .
و يقال- إن في التوراة في أول السفر الأول كلاما يناسب هذا- و هو أن الله تعالى خلق جوهرا- فنظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء- ثم ارتفع من ذلك الماء بخار كالدخان- فخلق منه السموات و ظهر على وجه ذلك الماء زبد- فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال- . و منها أن السماء الدنيا موج مكفوف- بخلاف السموات الفوقانية- و هذا أيضا قول قد ذهب إليه قوم- و استدلوا عليه بما نشاهده- من حركة الكواكب المتحيرة- و ارتعادها في مرأى العين و اضطرابها- قالوا لأن المتحيرة متحركة في أفلاكها- و نحن نشاهدها بالحس البصري- و بيننا و بينها أجرام الأفلاك الشفافة- و نشاهدها مرتعدة- حسب ارتعاد الجسم السائر في الماء- و ما ذاك إلا لأن السماء الدنيا ماء متموج- فارتعاد الكواكب المشاهدة حسا- إنما هو بحسب ارتعاد أجزاء الفلك الأدنى- قالوا فأما الكواكب الثابتة- فإنا لم نشاهدها كذلك لأنها ليست بمتحركة- و أما القمر و إن كان في السماء الدنيا- إلا أن فلك تدويره من جنس الأجرام الفوقانية- و ليس بماء متموج كالفلك الممثل التحتاني- و كذلك القول في الشمس- . و منها أن الكواكب في قوله- ثم زينها بزينة الكواكب أين هي- فإن اللفظ محتمل- و ينبغي أن يتقدم على ذلك بحث- في أصل قوله تعالى- إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ- وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ- . فنقول إن ظاهر هذا اللفظ- أن الكواكب في السماء الدنيا- و أنها جعلت فيها حراسة للشياطين من استراق السمع- فمن دنا منهم لذلك رجم بشهاب- و هذا هو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ- و مذهب الحكماء- أن السماء الدنيا ليس فيها إلا القمر وحده- و عندهم أن الشهب المنقضة- هي آثار تظهر في الفلك الأثيري الناري- الذي تحت فلك القمر- و الكواكب لا ينقض منها شيء- و الواجب التصديق بما في ظاهر لفظ الكتاب العزيز- و أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع على مطابقته- فيكون الضمير في قوله زينها- راجعا إلى سفلاهن- التي قال إنها موج مكفوف- و يكون الضمير في قوله و أجرى فيها- راجعا إلى جملة السموات- إذا وافقنا الحكماء في أن الشمس في السماء الرابعة- .
و منها أن ظاهر الكلام يقتضي- أن خلق السموات بعد خلق الأرض- أ لا تراه كيف لم يتعرض فيه لكيفية خلق الأرض أصلا- و هذا قول قد ذهب إليه جماعة من أهل الملة-و استدلوا عليه بقوله تعالى- قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ- وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ- ثم قال ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ- . و منها أن الهاء في قوله فرفعه في هواء منفتق- و الهاء في قوله فسوى منه سبع سموات- إلى ما ذا ترجع- فإن آخر المذكورات قبلها الزبد- و هل يجوز أن تكون السموات مخلوقة من زبد الماء- الحق أن الضمائر ترجع إلى الماء الذي عب عبابه- لا إلى الزبد- فإن أحدا لم يذهب إلى أن السماء مخلوقة من زبد الماء- و إنما قالوا إنها مخلوقة من بخاره- . و منها أن يقال إن البارئ سبحانه قادر- على خلق الأشياء إبداعا و اختراعا- فما الذي اقتضى أنه خلق المخلوقات على هذا الترتيب- و هلا أوجدها إيجاد الماء الذي ابتدعه أولا من غير شيء- . فيقال في جواب ذلك على طريق أصحابنا- لعل إخباره للمكلفين بذلك- على هذا الترتيب يكون لطفا بهم- و لا يجوز الإخبار منه تعالى- إلا و المخبر عنه مطابق للإخبار- . فهذا حظ المباحث المعنوية من هذا الفصل- . ثم نشرع في تفسير ألفاظه- أما الأجواء فجمع جو- و الجو هنا الفضاء العالي بين السماء و الأرض- و الأرجاء الجوانب واحدها رجا مثل عصا- و السكائك جمع سكاكة و هي أعلى الفضاء- كما قالوا ذؤابة و ذوائب- و التيار الموج و المتراكم الذي بعضه فوق بعض- و الزخار الذي يزخر أي يمتد و يرتفع- و الريح الزعزع الشديدة الهبوب- و كذلك القاصفة كأنها تهلك الناس بشدة هبوبها- و معنى قوله فأمرها برده أي بمنعه عن الهبوط- لأن الماء ثقيل و من شأن الثقيل الهوي- و معنى قوله و سلطها على شدة أي على وثاقة- كأنه سبحانه لما سلط البريح على منعه من الهبوط- فكأنه قد شده بها و أوثقه و منعه من الحركة- و معنى قوله و قرنها إلى حده أي جعلها مكانا له- أي جعل حد الماء المذكور و هو سطحه الأسفل- مما ساطح الريح التي تحمله و تقله- و الفتيق المفتوق المنبسط- و الدفيق المدفوق- و اعتقم مهبها أي جعل هبوبها عقيما- و الريح العقيم التي لا تلقح سحابا و لا شجرا- و كذلك كانت تلك الريح المشار إليها- لأنه سبحانه إنما خلقها لتمويج الماء فقط- و أدام مربها أي ملازمتها- أرب بالمكان مثل ألب به أي لازمه- .
و معنى قوله و عصفت به عصفها بالفضاء- فيه معنى لطيف- يقول إن الريح إذا عصفت بالفضاء الذي لا أجسام فيه- كان عصفها شديدا لعدم المانع- و هذه الريح عصفت بذلك الماء العظيم عصفا شديدا- كأنها تعصف في فضاء لا ممانع لها فيه من الأجسام- . و الساجي الساكن و المائر الذي يذهب و يجيء- و عب عبابه أي ارتفع أعلاه و ركامه ثبجه و هضبه- و الجو المنفهق المفتوح الواسع- و الموج المكفوف الممنوع من السيلان- و عمد يدعمها يكون لها دعامة- و الدسار واحد الدسر و هي المسامير- . و الثواقب النيرة المشرقة- و سراجا مستطيرا أي منتشر الضوء- يقال قد استطارالفجر أي انتشر ضوءه- و رقيم مائر أي لوح متحرك- سمي الفلك رقيما تشبيها باللوح لأنه مسطح- فأما القطب الراوندي فقال- إنه ع ذكر قبل هذه الكلمات- أنه أنشأ حيوانا له أعضاء و أحناء- ثم ذكر هاهنا أنه فتق السماء و ميز بعضها عن بعض- ثم ذكر أن بين كل سماء و سماء مسيرة خمسمائة عام- و هي سبع سموات- و كذلك بين كل أرض و أرض و هي سبع أيضا- و روى حديث البقرة التي تحمل الملك الحامل للعرش- و الصخرة التي تحمل البقرة و الحوت الذي يحمل الصخرة- . و لقائل أن يقول إنه ع لم يذكر فيما تقدم- أن الله تعالى خلق حيوانا ذا أعضاء- و لا قوله الآن ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء- هو معنى قوله تعالى- أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما- أ لا تراه كيف صرح ع- بأن البارئ سبحانه خلق الهواء الذي هو الفضاء- و عبر عن ذلك بقوله ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء- و ليس فتق الأجواء هو فتق السماء- . فإن قلت فكيف يمكن التطبيق بين كلامه ع و بين الآية- . قلت إنه تعالى لما سلط الريح على الماء فعصفت به- حتى جعلته بخارا و زبدا- و خلق من أحدهما السماء و من الآخر الأرض- كان فاتقا لهما من شيء واحد و هو الماء- . فأما حديث البعد بين السموات- و كونه مسيرة خمسمائة عام بين كل سماء و سماء- فقد ورد ورودا لم يوثق به- و أكثر الناس على خلاف ذلك- و كون الأرض سبعا أيضا-
خلاف ما يقوله جمهور العقلاء- و ليس في القرآن العزيز ما يدل على تعدد الأرض- إلا قوله تعالى وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ- و قد أولوه على الأقاليم السبعة- و حديث الصخرة و الحوت و البقرة- من الخرافات في غالب الظن- و الصحيح أن الله تعالى يمسك الكل بغير واسطة جسم آخر- . ثم قال الراوندي السكائك جمع سكاك و هذا غير جائز- لأن فعالا لا يجمع على فعائل- و إنما هو جمع سكاكة ذكر ذلك الجوهري- . ثم قال و سلطها على شده الشد العدو- و لا يجوز حمل الشد هاهنا على العدو- لأنه لا معنى له و الصحيح ما ذكرناه- . و قال في تفسير قوله ع جعل سفلاهن موجا مكفوفا- أراد تشبيهها بالموج لصفائها و اعتلائها- فيقال له إن الموج ليس بعال ليشبه به الجسم العالي- و أما صفاؤه فإن كل السموات صافية- فلما ذا خص سفلاهن بذلك- . ثم قال و يمكن أن تكون السماء السفلى- قد كانت أول ما وجدت موجا ثم عقدها- يقال له و السموات الأخر كذلك كانت- فلما ذا خص السفلى بذلك- . ثم قال الريح الأولى غير الريح الثانية- لأن إحداهما معرفة و الأخرى نكرة- و هذا مثل قوله صم اليوم صم يوما فإنه يقتضي يومين- . يقال له ليست المغايرة بينهما- مستفادة من مجرد التعريف و التنكير- لأنه لو كان قال
ع- و حمله على متن ريح عاصفة و زعزع قاصفة- لكانت الريحان الأولى و الثانية منكرتين معا- و هما متغايرتان و إنما علمنا تغايرهما- لأن إحداهما تحت الماء و الأخرى فوقه- و الجسم الواحد لا يكون في جهتين: ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ الْعُلَا- فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلَائِكَتِهِ- مِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْكَعُونَ وَ رُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ- وَ صَافُّونَ لَا يَتَزَايَلُونَ وَ مُسَبِّحُونَ لَا يَسْأَمُونَ- لَا يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ وَ لَا سَهْوُ الْعُقُولِ- وَ لَا فَتْرَةُ الْأَبْدَانِ وَ لَا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ- وَ مِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ وَ أَلْسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ- وَ مُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَ أَمْرِهِ- وَ مِنْهُمُ الْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَ السَّدَنَةُ لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ- وَ مِنْهُمُ الثَّابِتَةُ فِي الْأَرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ- وَ الْمَارِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ- وَ الْخَارِجَةُ مِنَ الْأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ- وَ الْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ- نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ- مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّةِ- وَ أَسْتَارُ الْقُدْرَةِ- لَا يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ- وَ لَا يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ الْمَصْنُوعِينَ- وَ لَا يَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاكِنِ وَ لَا يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ
القول في إالملائكة و أقسامهم
الملك عند المعتزلة حيوان نوري- فمنه شفاف عادم اللون كالهواء و منه ملون بلون الشمس- و الملائكة عندهم قادرون عالمون- أحياء بعلوم و قدر و حياة كالواحد منا- و مكلفون كالواحد منا إلا أنهم معصومون- و لهم في كيفية تكليفهم كلام- لأن التكليف مبني على الشهوة- . و في كيفية خلق الشهوة فيهم نظر- و ليس هذا الكتاب موضوعا للبحث في ذلك- و قد جعلهم ع في هذا الفصل أربعة أقسام- القسم الأول أرباب العبادة- فمنهم من هو ساجد أبدا لم يقم من سجوده ليركع- و منهم من هو راكع أبدا لم ينتصب قط- و منهم الصافون في الصلاة- بين يدي خالقهم لا يتزايلون- و منهم المسبحون- الذين لا يملون التسبيح و التحميد له سبحانه- . و القسم الثاني- السفراء بينه تعالى و بين المكلفين من البشر- بتحمل الوحي الإلهي إلى الرسل- و المختلفون بقضائه و أمره إلى أهل الأرض- . و القسم الثالث ضربان- أحدهما حفظة العباد كالكرام الكاتبين- و كالملائكة الذين يحفظون البشر من المهالك و الورطات- و لو لا ذلك لكان العطب أكثر من السلامة- و ثانيهما سدنة الجنان- . القسم الرابع حملة العرش
– . و يجب أن يكون الضمير في دونه و هو الهاء- راجعا إلى العرش لا إلى البارئ سبحانه- و كذلك الهاء في قوله تحته- و يجب أن تكون الإشارة بقوله و بين من دونهم- إلى الملائكة الذين دون هؤلاء في الرتبة- . فأما ألفاظ الفصل فكلها غنية عن التفسير إلا يسيرا- كالسدنة جمع سادن و هو الخادم- و المارق الخارج و تلفعت بالثوب أي التحفت به- . و أما القطب الراوندي فجعل الأمناء على الوحي- و حفظة العباد و سدنة الجنان-
قسما واحدا- فأعاد الأقسام الأربعة إلى ثلاثة و ليس بجيد- لأنه قال و منهم الحفظة- فلفظة و منهم تقتضي كون الأقسام أربعة- لأنه بها فصل بين الأقسام- . و قال أيضا معنى قوله ع لا يغشاهم نوم العيون- يقتضي أن لهم نوما قليلا لا يغفلهم عن ذكر الله سبحانه- فأما البارئ سبحانه فإنه لا تأخذه سنة و لا نوم أصلا- مع أنه حي و هذه هي المدحة العظمى- . و لقائل أن يقول لو ناموا قليلا- لكانوا زمان ذلك النوم و إن قل- غافلين عن ذكر الله سبحانه- لأن الجمع بين النوم و بين الذكر مستحيل- . و الصحيح أن الملك لا يجوز عليه النوم- كما لا يجوز عليه الأكل و الشرب- لأن النوم من توابع المزاج و الملك لا مزاج له- و أما مدح البارئ بأنه لا تأخذه سنة و لا نوم- فخارج عن هذا الباب- لأنه تعالى يستحيل عليه النوم استحالة ذاتية- لا يجوز تبدلها و الملك يجوز أن يخرج عن كونه ملكا- بأن يخلق في أجزاء جسمه رطوبة و يبوسة- و حرارة و برودة- يحصل من اجتماعها مزاج و يتبع ذلك المزاج النوم- فاستحالة النوم عليه إنما هي ما دام ملكا- فهو كقولك الماء بارد أي ما دام ماء- لأنه يمكن أن يستحيل هواء ثم نارا فلا يكون باردا- لأنه ليس حينئذ ماء- و البارئ جلت عظمته يستحيل على ذاته أن يتغير- فاستحال عليه النوم استحالة مطلقة مع أنه حي- و من هذا إنشاء التمدح-
و روى أبو هريرة عن النبي ص أن الله خلق الخلق أربعة أصناف- الملائكة و الشياطين و الجن و الإنس- ثم جعل الأصناف الأربعة عشرة أجزاء- فتسعة منها الملائكة- و جزء واحد الشياطين و الجن و الإنس- ثم جعل هؤلاء الثلاثة عشرة أجزاء- فتسعة منها الشياطين و جزء واحد الجن و الإنس- ثم جعل الجن و الإنس عشرة أجزاء- فتسعة منها الجن و جزء واحد الإنس و في الحديث الصحيح أن الملائكة كانت تصافح عمران بن الحصين و تزوره- ثم افتقدها- فقال يا رسول الله إن رجالا كانوا يأتونني- لم أر أحسن وجوها و لا أطيب أرواحا منهم- ثم انقطعوا- فقال ع أصابك جرح فكنت تكتمه- فقال أجل قال ثم أظهرته قال أجل- قال أما لو أقمت على كتمانه- لزارتك الملائكة إلى أن تموت – و كان هذا الجرح أصابه في سبيل الله- . و قال سعيد بن المسيب و غيره- الملائكة ليسوا بذكور و لا إناث- و لا يتوالدون و لا يأكلون و لا يشربون- و الجن يتوالدون و فيهم ذكور و إناث و يموتون- و الشياطين ذكور و إناث و يتوالدون- و لا يموتون حتى يموت إبليس- .
و قال النبي ص في رواية أبي ذر إني أرى ما لا ترون و أسمع ما لا تسمعون- أطت السماء و حق لها أن تئط- فما فيها موضع شبر إلا و فيه ملك- قائم أو راكع أو ساجد واضع جبهته لله- و الله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا- و لبكيتم كثيرا- و ما تلذذتم بالنساء على الفرش- و لخرجتم إلى الفلوات تجأرون إلى الله- و الله لوددت أني كنت شجرة تعضد قلت و يوشك هذه الكلمة الأخيرة أن تكون قول أبي ذر- . و اتفق أهل الكتب- على أن رؤساء الملائكة و أعيانهم أربعة- جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل- و هو ملك الموت- و قالوا إن إسرافيل صاحب الصور و إليه النفخة- و إن ميكائيل صاحب النبات و المطر- و إن عزرائيل على أرواح الحيوانات- و إن جبرائيل على جنود السموات و الأرض كلها- و إليه تدبير الرياح- و هو ينزل إليهم كلهم بما يؤمرون به- .
و روى أنس بن مالك أنه قيل لرسول الله ص- ما هؤلاء الذين استثني بهم في قوله تعالى- فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ- فقال جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل- فيقول الله عز و جل لعزرائيل يا ملك الموت من بقي- و هو سبحانه أعلم- فيقول سبحانك ربي ذا الجلال و الإكرام- بقي جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت- فيقول يا ملك الموت خذ نفس إسرافيل- فيقع في صورته التي خلق عليها- كأعظم ما يكون من الأطواد- ثم يقول و هو أعلم من بقي يا ملك الموت- فيقول سبحانك ربي يا ذا الجلال و الإكرام- جبرائيل و ميكائيل و ملك الموت- فيقول خذ نفس ميكائيل- فيقع في صورته التي خلق عليها- و هي أعظم ما يكون من خلق إسرافيل بأضعاف مضاعفة- ثم يقول سبحانه يا ملك الموت من بقي- فيقول سبحانك ربي ذا الجلال و الإكرام- جبرائيل و ملك الموت- فيقول تعالى يا ملك الموت مت فيموت- و يبقى جبرائيل و هو من الله تعالى بالمكان الذي ذكر لكم- فيقول الله يا جبرائيل إنه لا بد من أن يموت أحدنا- فيقع جبرائيل ساجدا يخفق بجناحيه- يقول سبحانك ربي و بحمدك- أنت الدائم القائم الذي لا يموت- و جبرائيل الهالك الميت الفاني- فيقبض الله روحه فيقع على ميكائيل و إسرافيل- و أن فضل خلقه على خلقهما كفضل الطود العظيم- على الظرب من الظراب و في الأحاديث الصحيحة- أن جبرائيل كان يأتي رسول الله ص- على صورة دحية الكلبي- و أنه كان يوم بدر على فرس اسمه حيزوم- و أنه سمع ذلك اليوم صوته أقدم حيزوم- .
و الكروبيون عند أهل الملة سادة الملائكة- كجبرائيل و ميكائيل- و عند الفلاسفة أن سادة الملائكة هم الروحانيون- يعنون العقول الفعالة- و هي المفارقة للعالم الجسماني المسلوبة التعلق به- لا بالحول و لا بالتدبير- و أما الكروبيون فدون الروحانيين في المرتبة- و هي أنفس الأفلاك المدبرة لها- الجارية منها مجرى نفوسنا مع أجسامنا- . ثم هي على قسمين قسم أشرف و أعلى من القسم الآخر- فالقسم الأشرف ما كان نفسا ناطقة- غير حالة في جرم الفلك- كأنفسنا بالنسبة إلى أبداننا- و القسم الثاني ما كان حالا في جرم الفلك- و يجري ذلك مجرى القوى التي في أبداننا- كالحس المشترك و القوة الباصرة:
مِنْهَا فِي صِفَةِ خَلْقِ آدَمَ ع-
ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الْأَرْضِ وَ سَهْلِهَا- وَ عَذْبِهَا وَ سَبَخِهَا- تُرْبَةً سَنَّهَا بِالْمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ- وَ لَاطَهَا بِالْبِلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ- فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاءٍ وَ وُصُولٍ وَ أَعْضَاءٍ- وَ فُصُولٍ أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ- وَ أَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وَ أَجَلٍ مَعْلُومٍ- ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ- فَتَمَثَّلَتْ إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ يُجِيلُهَا- وَ فِكَرٍ يَتَصَرَّفُ بِهَا وَ جَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا- وَ أَدَوَاتٍ يُقَلِّبُهَا وَ مَعْرِفَةٍ يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ- وَ الْأَذْوَاقِ وَ الْمَشَامِّ وَ الْأَلْوَانِ وَ الْأَجْنَاسِ- مَعْجُوناً بِطِينَةِ الْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ-وَ الْأَشْبَاهِ الْمُؤْتَلِفَةِ وَ الْأَضْدَادِ الْمُتَعَادِيَةِ- وَ الْأَخْلَاطِ الْمُتَبَايِنَةِ مِنَ الْحَرِّ وَ الْبَرْدِ- وَ الْبِلَّةِ وَ الْجُمُودِ- وَ الْمَسَاءَةِ وَ السُّرُورِ وَ اسْتَأْدَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمَلَائِكَةَ وَدِيعَتَهُ لَدَيْهِمْ- وَ عَهْدَ وَصِيَّتِهِ إِلَيْهِمْ فِي الْإِذْعَانِ بِالسُّجُودِ لَهُ- وَ الْخُنُوعِ لِتَكْرِمَتِهِ- فَقَالَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ- وَ قَبيلَهُ اعْتَرَتْهُمُ الْحَمِيَّةُ- وَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشِّقْوَةُ- وَ تَعَزَّزُوا بِخِلْقَةِ النَّارِ وَ اسْتَوْهَنُوا خَلْقَ الصَّلْصَالِ- فَأَعْطَاهُ اللَّهُ النَّظِرَةَ اسْتِحْقَاقاً لِلسَّخْطَةِ- وَ اسْتِتْمَاماً لِلْبَلِيَّةِ وَ إِنْجَازاً لِلْعِدَةِ- فَقَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ
الحزن ما غلظ من الأرض و سبخها ما ملح منها- و سنها بالماء أي ملسها- قال ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء تمشي في مرمر مسنون- . أي مملس- و لاطها من قولهم لطت الحوض بالطين- أي ملطته و طينته به- و البلة بفتح الباء من البلل- و لزبت بفتح الزاي أي التصقت و ثبتت- فجبل منها أي خلق و الأحناء الجوانب جمع حنو- و أصلدها جعلها صلدا أي صلبا متينا- و صلصلت يبست و هو الصلصال- و يختدمها يجعلها في مآربه و أوطاره- كالخدم الذين تستعملهم و تستخدمهم- و استأدى الملائكة وديعته طلب منهم أداءها- و الخنوع الخضوع و الشقوة بكسر الشين- و في الكتاب العزيز رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا- و استوهنوا عدوه واهنا ضعيفا- و النظرة بفتح النون و كسر الظاء الإمهال و التأخير- . فأما معاني الفصل فظاهرة و فيه مع ذلك مباحث- . منها أن يقال اللام في قوله لوقت معدود بما ذا تتعلق- . و الجواب أنها تتعلق بمحذوف- تقديره حتى صلصلت كائنة لوقت- فيكون الجار و المجرور في موضع الحال- و يكون معنى الكلام أنه أصلدها- حتى يبست و جفت معدة لوقت معلوم- فنفخ حينئذ روحه فيها- و يمكن أن تكون اللام متعلقة بقوله فجبل أي جبل- و خلق من الأرض هذه الجثة لوقت- أي لأجل وقت معلوم و هو يوم القيامة- . و منها أن يقال لما ذا قال- من حزن الأرض و سهلها و عذبها و سبخها- . و الجواب أن المراد من ذلك- أن يكون الإنسان مركبا من طباع مختلفة- و فيه استعداد للخير و الشر و الحسن و القبح- . و منها أن يقال- لما ذا أخر نفخ الروح في جثة آدم مدة طويلة- فقد قيل إنه بقي طينا تشاهده الملائكة أربعين سنة- و لا يعلمون ما المراد به- . و الجواب يجوز أن يكون في ذلك لطف للملائكة- لأنهم تذهب ظنونهم في ذلك كل مذهب- فصار كإنزال المتشابهات- الذي تحصل به رياضة الأذهان و تخريجها- و في ضمن ذلك يكون اللطف- و يجوز أن يكون في أخبار ذرية آدم- بذلك فيما بعد لطف بهم- و لا يجوز إخبارهم بذلك إلا إذا كان المخبر عنه حقا-
و منها أن يقال ما المعني بقوله ثم نفخ فيها من روحه- . الجواب أن النفس لما كانت جوهرا مجردا- لا متحيزة و لا حالة في المتحيز- حسن لذلك نسبتها إلى البارئ- لأنها أقرب إلى الانتساب إليه من الجثمانيات- و يمكن أيضا أن تكون لشرفها مضافة إليه- كما يقال بيت الله للكعبة- و أما النفخ فعبارة عن إفاضة النفس على الجسد- و لما نفخ الريح في الوعاء- عبارة عن إدخال الريح إلى جوفه- و كان الإحياء عبارة عن إفاضة النفس على الجسد- و يستلزم ذلك حلول القوى و الأرواح في الجثة- باطنا و ظاهرا- سمي ذلك نفخا مجازا- . و منها أن يقال ما معنى قوله- معجونا بطينة الألوان المختلفة- . الجواب أنه ع قد فسر ذلك بقوله- من الحر و البرد و البلة و الجمود- يعني الرطوبة و اليبوسة- و مراده بذلك المزاج الذي هو كيفية واحدة- حاصلة من كيفيات مختلفة قد انكسر بعضها ببعض- و قوله معجونا صفة إنسانا- و الألوان المختلفة يعنى الضروب و الفنون- كما تقول في الدار ألوان من الفاكهة- . و منها أن يقال ما المعني بقوله- و استأدى الملائكة وديعته لديهم- و كيف كان هذا العهد و الوصية بينه و بينهم- . الجواب أن العهد و الوصية هو قوله تعالى لهم- إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ- فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ- .
و منها أن يقال- كيف كانت شبهة إبليس و أصحابه في التعزز بخلقة النار- . الجواب لما كانت النار مشرقة بالذات و الأرض مظلمة- و كانت النار أشبه بالنور و النور أشبه بالمجردات- جعل إبليس ذلك حجة احتج بها- في شرف عنصره على عنصر آدم ع- و لأن النار أقرب إلى الفلك من الأرض- و كل شيء كان أقرب إلى الفلك من غيره كان أشرف- و البارئ تعالى لم يعتبر ذلك- و فعل سبحانه ما يعلم أنه المصلحة و الصواب- . و منها أن يقال كيف يجوز السجود لغير الله تعالى- . و الجواب أنه قيل إن السجود لم يكن إلا لله تعالى- و إنما كان آدم ع قبلة- و يمكن أن يقال إن السجود لله على وجه العبادة- و لغيره على وجه التكرمة- كما سجد أبو يوسف و إخوته له- و يجوز أن تختلف الأحوال و الأوقات- في حسن ذلك و قبحه- . و منها أن يقال- كيف جاز على ما تعتقدونه من حكمة البارئ- أن يسلط إبليس على المكلفين- أ ليس هذا هو الاستفساد الذي تأبونه و تمنعونه- . و الجواب أما الشيخ أبو علي رحمه الله فيقول- حد المفسدة ما وقع عند الفساد- و لولاه لم يقع مع تمكن المكلف من الفعل في الحالين- و من فسد بدعاء إبليس لم يتحقق فيه هذا الحد- لأن الله تعالى علم أن كل من فسد عند دعائه- فإنه يفسد و لو لم يدعه- . و أما أبو هاشم رحمه الله- فيحد المفسدة بهذا الحد أيضا- و يقول إن في الإتيان بالطاعة مع دعاء إبليس إلى القبيح- مشقة زائدة على مشقة الإتيان بها- لو لم يدع إبليس إلى القبيح- فصار الإتيان بها مع اعتبار دعاء إبليس إلى خلافها- خارجا عن الحد المذكور و داخلا في حيز التمكن- الذي لو فرضنا ارتفاعه لما صح من المكلف الإتيان بالفعل- و نحن قلنا في الحد- مع تمكن المكلف من الإتيان بالفعل في الحالين- . و منها أن يقال كيف جاز للحكيم سبحانه أن يقول لإبليس- إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إلى يوم القيامة- و هذا إغراء بالقبيح- و أنتم تمنعون أن يقول الحكيم لزيد- أنت لا تموت إلى سنة بل إلى شهر أو يوم واحد- لما فيه من الإغراء بالقبيح- و العزم على التوبة قبل انقضاء الأمد- .
و الجواب أن أصحابنا قالوا- إن البارئ تعالى لم يقل لإبليس- إني منظرك إلى يوم القيامة- و إنما قال إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ- و هو عبارة عن وقت موته و اخترامه- و كل مكلف من الإنس و الجن- منظر إلى يوم الوقت المعلوم على هذا التفسير- و إذا كان كذلك لم يكن إبليس عالما أنه يبقى لا محالة- فلم يكن في ذلك إغراء له بالقبيح- . فإن قلت فما معنى قوله ع و إنجازا للعدة- أ ليس معنى ذلك- أنه قد كان وعده أن يبقيه إلى يوم القيامة- . قلت إنما وعده الإنظار- و يمكن أن يكون إلى يوم القيامة و إلى غيره من الأوقات- و لم يبين له فهو تعالى أنجز له وعده في الإنظار المطلق- و ما من وقت إلا و يجوز فيه أن يخترم إبليس- فلا يحصل الإغراء بالقبيح- و هذا الكلام عندنا ضعيف- و لنا فيه نظر مذكور في كتبنا الكلامية
: ثُمَّ أَسْكَنَ آدَمَ دَاراً أَرْغَدَ فِيهَا عِيشَتَهُ- وَ آمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَهُ وَ حَذَّرَهُ إِبْلِيسَ وَ عَدَاوَتَهُ- فَاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفَاسَةً عَلَيْهِ بِدَارِ الْمُقَامِ- وَ مُرَافَقَةِ الْأَبْرَارِ- فَبَاعَ الْيَقِينَ بِشَكِّهِ وَ الْعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ- وَ اسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلًا وَ بِالِاعْتِزَازِ نَدَماً- ثُمَّ بَسَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِي تَوْبَتِهِ- وَ لَقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ وَ وَعَدَهُ الْمَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ- فَأَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ الْبَلِيَّةِ وَ تَنَاسُلِ الذُّرِّيَّةِ
أماالألفاظ فظاهرة و المعاني أظهر- و فيها ما يسأل عنه- . فمنها أن يقال الفاء في قوله ع فأهبطه- تقتضي أن تكون التوبة على آدم قبل هبوطه من الجنة- . و الجواب أن ذلك أحد قولي المفسرين- و يعضده قوله تعالى- وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى- ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى قالَ اهْبِطا مِنْها- فجعل الهبوط بعد قبول التوبة- . و منها أن يقال- إذا كان تعالى قد طرد إبليس من الجنة- لما أبى السجود- فكيف توصل إلى آدم و هو في الجنة- حتى استنزله عنها بتحسين أكل الشجرة له- . الجواب أنه يجوز أن يكون إنما منع من دخول الجنة- على وجه التقريب و الإكرام كدخول الملائكة- و لم يمنع من دخولها على غير ذلك الوجه- و قيل إنه دخل في جوف الحية كما ورد في التفسير- . و منها أن يقال كيف اشتبه على آدم الحال- في الشجرة المنهي عنها فخالف النهي- . الجواب أنه قيل له لا تقربا هذه الشجرة- و أريد بذلك نوع الشجرة فحمل آدم النهي على الشخص- و أكل من شجرة أخرى من نوعها- . و منها أن يقال هذا الكلام من أمير المؤمنين ع- تصريح بوقوع المعصية من آدم ع- و هو قوله فباع اليقين بشكه و العزيمة بوهنه- فما قولكم في ذلك- . الجواب أما أصحابنا فإنهم لا يمتنعون من إطلاق العصيان عليه- و يقولون إنها كانت صغيرة- و عندهم أن الصغائر جائزة على الأنبياء ع- و أما الإمامية فيقولون- إن النهي كان نهي تنزيه لا نهي تحريم- لأنهم لا يجيزون على الأنبياء الغلط و الخطأ- لا كبيرا و لا صغيرا- و ظواهر هذه الألفاظ تشهد بخلاف قولهم
اختلاف الأقوال في ابتداء خلق البشر
و اعلم أن الناس اختلفوا- في ابتداء خلق البشر كيف كان- فذهب أهل الملل من المسلمين و اليهود و النصارى- إلى أن مبدأ البشر هو آدم الأب الأول ع- و أكثر ما في القرآن العزيز من قصة آدم- مطابق لما في التوراة- . و ذهب طوائف من الناس إلى غير ذلك- أما الفلاسفة فإنهم زعموا أنه لا أول لنوع البشر- و لا لغيرهم من الأنواع- . و أما الهند فمن كان منهم على رأي الفلاسفة- فقوله ما ذكرناه- و من لم يكن منهم
على رأي الفلاسفة- و يقول بحدوث الأجسام لا يثبت آدم- و يقول إن الله تعالى خلق الأفلاك- و خلق فيها طباعا محركة لها بذاتها- فلما تحركت و حشوها أجسام لاستحالة الخلاء- كانت تلك الأجسام على طبيعة واحدة- فاختلفت طباؤعها بالحركة الفلكية- فكان القريب من الفلك المتحرك أسخن و ألطف- و البعيد أبرد و أكثف- ثم اختلطت العناصر و تكونت منها المركبات- و منها تكون نوع البشر- كما يتكون الدود في الفاكهة و اللحم- و البق في البطائح و المواضع العفنة- ثم تكون بعض البشر من بعض بالتوالد- و صار ذلك قانونا مستمرا- و نسي التخليق الأول الذي كان بالتولد- و من الممكن أن يكون بعض البشر- في بعض الأراضي القاصية مخلوقا بالتولد- و إنما انقطع التولد- لأن الطبيعة إذا وجدت للتكون طريقا- استغنت به عن طريق ثان- . و أما المجوس فلا يعرفون آدم و لا نوحا- و لا ساما و لا حاما و لا يافث- و أول متكون عندهم من البشر البشري- المسمى كيومرث و لقبه كوشاه أي ملك الجبل- لأن كو هو الجبل بالفهلوية- و كان هذا البشر في الجبال- و منهم من يسميه كلشاه أي ملك الطين و كل اسم الطين- لأنه لم يكن حينئذ بشر ليملكهم- .
و قيل تفسير كيومرث حي ناطق ميت- قالوا و كان قد رزق من الحسن- ما لا يقع عليه بصر حيوان- إلا و بهت و أغمي عليه- و يزعمون أن مبدأ تكونه و حدوثه- أن يزدان و هو الصانع الأول عندهم أفكر في أمر أهرمن- و هو الشيطان عندهم- فكرة أوجبت أن عرق جبينه- فمسح العرق و رمى به فصار منه كيومرث- و لهم خبط طويل في كيفية تكون أهرمن من فكرة يزدان- أو من إعجابه بنفسه أو من توحشه- و بينهم خلاف في قدم أهرمن- و حدوثه لا يليق شرحه بهذا الموضع-
ثم اختلفوا في مدة بقاء كيومرث في الوجود- فقال الأكثرون ثلاثون سنة- و قال الأقلون أربعون سنة- و قال قوم منهم إن كيومرث مكث في الجنة- التي في السماء ثلاثة آلاف سنة- و هي ألف الحمل و ألف الثور و ألف الجوزاء- ثم أهبط إلى الأرض فكان بها آمنا مطمئنا- ثلاثة آلاف سنة أخرى- و هي ألف السرطان و ألف الأسد و ألف السنبلة- . ثم مكث بعد ذلك ثلاثين أو أربعين سنة- في حرب و خصام بينه و بين أهرمن حتى هلك- . و اختلفوا في كيفية هلاكه- مع اتفاقهم على أنه هلك قتلا- فالأكثرون قالوا إنه قتل ابنا لأهرمن يسمى خزورة- فاستغاث أهرمن منه إلى يزدان- فلم يجد بدا من أن يقاصه به- حفظا للعهود التي بينه و بين أهرمن- فقتله بابن أهرمن- و قال قوم بل قتله أهرمن في صراع كان بينهما- قهره فيه أهرمن و علاه و أكله- . و ذكروا في كيفية ذلك الصراع- أن كيومرث كان هو القاهر لأهرمن في بادئ الحال- و أنه ركبه و جعل يطوف به في العالم إلى أن سأله أهرمن- أي الأشياء أخوف له و أهولها عنده فقال له باب جهنم- فلما بلغ به أهرمن إليها جمح به حتى سقط من فوقه- و لم يستمسك فعلاه و سأله- عن أي الجهات يبتدئ به في الأكل- فقال من جهة الرجل لأكون ناظرا إلى حسن العالم مدة ما- فابتدأه أهرمن فأكله من عند رأسه- فبلغ إلى موضع الخصي و أوعية المني من الصلب- فقطر من كيومرث قطرتا نطفة على الأرض- فنبت منها ريباستان في جبل بإصطخر- يعرف بجبل دام داذ- ثم ظهرت على تينك الريباستين الأعضاء البشرية- في أول الشهر التاسع و تمت في آخره- فتصور منهما بشران ذكر و أنثى- و هما ميشى و ميشانه- و هما بمنزلة آدم و حواء عند المليين- و يقال لهما أيضا ملهى و ملهيانه- و يسميهما مجوس خوارزم مرد و مردانه-
و زعموا أنهما مكثا خمسين سنة- مستغنين عن الطعام و الشراب- متنعمين غير متأذيين بشيء- إلى أن ظهر لهما أهرمن في صورة شيخ كبير- فحملهما على التناول من فواكه الأشجار و أكل منها- و هما يبصرانه شيخا فعاد شابا- فأكلا منها حينئذ فوقعا في البلايا و الشرور- و ظهر فيهما الحرص حتى تزاوجا- و ولد لهما ولد فأكلاه حرصا- ثم ألقى الله تعالى في قلوبهما رأفة- فولد لهما بعد ذلك ستة أبطن- كل بطن ذكر و أنثى- و أسماؤهم في كتاب أپستا- و هو الكتاب الذي جاء به زرادشت- معروفة- ثم كان في البطن السابع سيامك و فرواك فتزاوجا- فولد لهما الملك المشهور الذي لم يعرف قبله ملك- و هو أوشهنج و هو الذي خلف جده كيومرث- و عقد له التاج و جلس على السرير- و بنى مدينتي بابل و السوس- . فهذا ما يذكره المجوس في مبدأ الخلق
تصويب الزنادقة إبليس لامتناعه عن السجود لآدم
و كان في المسلمين ممن يرمى بالزندقة- من يذهب إلى تصويب إبليس في الامتناع من السجود- و يفضله على آدم- و هو بشار بن برد المرعث- و من الشعر المنسوب إليه-
النار مشرقة و الأرض مظلمة
و النار معبودة مذ كانت النار
و كان أبو الفتوح أحمد بن محمد الغزالي الواعظ- أخو أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي- الفقيه الشافعي- قاصا لطيفا و واعظا مفوها- و هو من خراسان من مدينة طوس- و قدم إلى بغداد و وعظ بها- و سلك في وعظه مسلكا منكرا- لأنه كان يتعصب لإبليس و يقول إنه سيد الموحدين- و قال يوما على المنبر- من لم يتعلم التوحيد من إبليس فهو زنديق- أمر أن يسجد لغير سيده فأبى- و لست بضارع إلا إليكم و أما غيركم حاشا و كلا
– . و قال مرة أخرى لما قال له موسى أرني فقال لن- قال هذا شغلك تصطفي آدم ثم تسود وجهه- و تخرجه من الجنة و تدعوني إلى الطور- ثم تشمت بي الأعداء هذا عملك بالأحباب- فكيف تصنع بالأعداء- . و قال مرة أخرى و قد ذكر إبليس على المنبر- لم يدر ذلك المسكين أن أظافير القضاء إذا حكت أدمت- و أن قسي القدر إذا رمت أصمت-
ثم قال لسان حال آدم ينشد في قصته و قصة إبليس-
و كنت و ليلى في صعود من الهوى
فلما توافينا ثبت و زلت
– . و قال مرة أخرى التقى موسى و إبليس عند عقبة الطور- فقال موسى يا إبليس لم لم تسجد لآدم- فقال كلا ما كنت لأسجد لبشر- كيف أوحده ثم ألتفت إلى غيره- و لكنك أنت يا موسى سألت رؤيته ثم نظرت إلى الجبل- فأنا أصدق منك في التوحيد- .
و كان هذا النمط في كلامه ينفق على أهل بغداد- و صار له بينهم صيت مشهور و اسم كبير- و حكى عنه أبو الفرج بن الجوزي في التاريخ- أنه قال على المنبر معاشر الناس- إني كنت دائما أدعوكم إلى الله- و أنا اليوم أحذركم منه- و الله ما شدت الزنانير إلا في حبه- و لا أديت الجزية إلا في عشقه- . و قال أيضا إن رجلا يهوديا أدخل عليه ليسلم على يده- فقال له لا تسلم- فقال له الناس كيف تمنعه من الإسلام- فقال احملوه إلى أبي حامد يعني أخاه ليعلمه لا- لا المنافقين- ثم قال ويحكم أ تظنون أن قوله لا إله إلا الله- منشور ولايته ذا منشور عزله- و هذا نوع تعرفه الصوفية بالغلو و الشطح- . و يروى عن أبي يزيد البسطامي منه كثير- . و مما يتعلق بما نحن فيه ما رووه عنه من قوله-
فمن آدم في البين
و من إبليس لولاكا
فتنت الكل و الكل
مع الفتنة يهواكا
– . و يقال أول من قاس إبليس فأخطأ في القياس و هلك بخطئه- و يقال إن أول حمية و عصبية ظهرت عصبية إبليس و حميته
اختلاف الأقوال في خلق الجنة و النار فإن قيل فما قول شيوخكم في الجنة و النار- فإن المشهور عنهم أنهما لم يخلقا- و سيخلقانعند قيام الأجسام- و قد دل القرآن العزيز- و نطق كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل- بأن آدم كان في الجنة و أخرج منها- . قيل قد اختلف شيوخنا رحمهم الله في هذه المسألة- فمن ذهب منهم إلى أنهما غير مخلوقتين الآن- يقول قد ثبت بدليل السمع أن سائر الأجسام تعدم- و لا يبقى في الوجود إلا ذات الله تعالى- بدليل قوله كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ- و قوله هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ- فلما كان أولا- بمعنى أنه لا جسم في الوجود معه في الأزل- وجب أن يكون آخرا- بمعنى أنه لا يبقى في الوجود- جسم من الأجسام معه فيما لا يزال- و بآيات كثيرة أخرى- و إذا كان لا بد من عدم سائر الأجسام- لم يكن في خلق الجنة و النار- قبل أوقات الجزاء فائدة- لأنه لا بد أن يفنيهما مع الأجسام- التي تفنى يوم القيامة- فلا يبقى مع خلقهما من قبل معنى- و يحملون الآيات التي دلت على كون آدم ع- كان في الجنة و أخرج منها- على بستان من بساتين الدنيا- قالوا و الهبوط لا يدل على كونهما في السماء- لجواز أن يكون في الأرض- إلا أنهما في موضع مرتفع عن سائر الأرض- . و أما غير هؤلاء من شيوخنا فقالوا- إنهما مخلوقتان الآن- و اعترفوا بأن آدم كان في جنة الجزاء و الثواب- و قالوا لا يبعد أن يكون في إخبار المكلفين- بوجود الجنة و النار لطف لهم في التكليف- و إنما يحسن الإخبار بذلك إذا كان صدقا- و إنما يكون صدقا إذا كان خبره على ما هو عليه
القول في آدم و الملائكة أيهما أفضل
فإن قيل فما الذي يقوله شيوخكم في آدم و الملائكة- أيهما أفضل- . قيل لا خلاف بين شيوخنا رحمهم الله- أن الملائكة أفضل من آدم و من جميع الأنبياءع- و لو لم يدل على ذلك إلا قوله تعالى في هذه القصة- إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ- لكفى- . و قد احتج أصحابنا أيضا بقوله تعالى- لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ- وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ- و هذا كما تقول لا يستنكف الوزير أن يعظمني- و يرفع من منزلتي و لا الملك أيضا- فإن هذا يقتضي كون الملك أرفع منزلة من الوزير- و كذلك قوله وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ- يقتضي كونهم أرفع منزلة من عيسى- . و مما احتجوا به قولهم- إنه تعالى لما ذكر جبريل و محمدا ع في معرض المدح- مدح جبريل ع بأعظم مما مدح به محمدا ع- فقال إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ- مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ- وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ- فالمديح الأول لجبريل و الثاني لمحمد ع- و لا يخفى تفاوت ما بين المدحين- . فإن قيل فهل كان إبليس من الملائكة أم من نوع آخر- قيل قد اختلف في ذلك- فمن قال إنه من الملائكة احتج بالاستثناء في قوله- فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ- و قال إن الاستثناء من غير الجنس خلاف الأصل- و من قال إنه لم يكن منهم احتج بقوله تعالى- إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ- . و أجاب الأولون عن هذا فقالوا- إن الملائكة يطلق عليهم لفظ الجن- لاجتنانهم و استتارهم عن الأعين- و قالوا قد ورد ذلك في القرآن أيضا في قوله تعالى- وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً
– و الجنة هاهنا هم الملائكة- لأنهم قالوا إن الملائكة بنات الله بدليل قوله- أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً- و كتب التفسير تشتمل من هذا- على ما لا نرى الإطالة بذكره
– . فأما القطب الراوندي- فقال في هذين الفصلين في تفسير ألفاظهما اللغوية- العذب من الأرض ما ينبت و السبخ ما لا ينبت- و هذا غير صحيح لأن السبخ ينبت النخل- فيلزم أن يكون عذبا على تفسيره- . و قال فجبل منها صورة أي خلق خلقا عظيما- و لفظة جبل في اللغة تدل على خلق- سواء كان المخلوق عظيما أو غير عظيم- . و قال الوصول جمع وصل و هو العضو- و كل شيء اتصل بشيء فما بينهما وصلة- و الفصول جمع فصل و هو الشيء المنفصل- و ما عرفنا في كتب اللغة أن الوصل هو العضو- و لا قيل هذا- . و قوله بعد ذلك و كل شيء اتصل بشيء فما بينهما وصلة- لا معنى لذكره بعد ذلك التفسير- و الصحيح أن مراده ع أظهر- من أن يتكلف له هذا التكلف- و مراده ع أن تلك الصورة ذات أعضاء متصلة- كعظم الساق أو عظم الساعد- و ذات أعضاء منفصلة في الحقيقة- و إن كانت متصلة بروابط خارجة عن ذواتها- كاتصال الساعد بالمرفق و اتصال الساق بالفخذ- . ثم قال يقال استخدمته لنفسي و لغيري- و اختدمته لنفسي خاصة- و هذا مما لم أعرفه و لعله نقله من كتاب- .
ثم قال و الإذعان الانقياد و الخنوع الخضوع- و إنما كرر الخنوع بعد الإذعان- لأن الأول يفيد أنهم أمروا بالخضوع له في السجود- و الثاني يفيد ثباتهم على الخضوع لتكرمته أبدا- . و لقائل أن يقول إنه لم يكرر لفظة الخنوع- و إنما ذكر أولا الإذعان و هو الانقياد و الطاعة- و معناه أنهم سجدوا- ثم ذكر الخنوع الذي معناه الخضوع- و هو يعطي معنى غير المعنى الأول- لأنه ليس كل ساجد خاضعا بقلبه- فقد يكون ساجدا بظاهره دون باطنه- و قول الراوندي أفاد بالثاني ثباتهم على الخضوع له- لتكرمته أبدا تفسير لا يدل عليه اللفظ- و لا معنى الكلام- . ثم قال قبيل إبليس نسله- قال تعالى إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ- و كل جيل من الإنس و الجن قبيل- و الصحيح أن قبيله نوعه كما أن البشر قبيل كل بشري- سواء كانوا من ولده أو لم يكونوا- و قد قيل أيضا كل جماعة قبيل و إن اختلفوا- نحو أن يكون بعضهم روما و بعضهم زنجا و بعضهم عربا- و قوله تعالى إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ- لا يدل على أنهم نسله- . و قوله بعد و كل جيل من الإنس و الجن قبيل- ينقض دعواه أن قبيله لا يكون إلا نسله- . ثم تكلم في المعاني فقال- إن القياس الذي قاسه إبليس كان باطلا- لأنه ادعى أن النار أشرف من الأرض- و الأمر بالعكس لأن كل ما يدخل إلى النار ينقص- و كل ما يدخل التراب يزيد و هذا عجيب- فإنا نرى الحيوانات الميتة- إذا دفنت في الأرض تنقص أجسامها- و كذلك الأشجار المدفونة في الأرض- على أن التحقيق أن المحترق بالنار و البالي بالتراب- لم تعدم أجزاؤه و لا بعضها- و إنما استحالت إلى صور أخرى- .
ثم قال و لما علمنا أن تقديم المفضول على الفاضل قبيح- علمنا أن آدم كان أفضل من الملائكة- في ذلك الوقت و فيما بعده- . و لقائل أن يقول- أ ليس قد سجد يعقوب ليوسف ع- أ فيدل ذلك على أن يوسف أفضل من يعقوب- و لا يقال إن قوله تعالى- وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً- لا يدل على سجود الوالدين- فلعل الضمير يرجع إلى الإخوة خاصة- لأنا نقول هذا الاحتمال مدفوع بقوله- وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ- و هو كناية عن الوالدين- . و أيضا قد بينا أن السجود إنما كان لله سبحانه- و أن آدم كان قبلة- و القبلة لا تكون أفضل من الساجد إليها- أ لا ترى أن الكعبة ليست أفضل من النبي ع:
وَ اصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ- أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ- وَ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ- لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ- فَجَهِلُوا حَقَّهُ وَ اتَّخَذُوا الْأَنْدَادَ مَعَهُ- وَ اجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ- وَ اقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ- وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ- وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ- وَ يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ- وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ- وَ يُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ- مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ وَ مِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ- وَ مَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ وَ آجَالٍ تُفْنِيهِمْ وَ أَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ- وَ أَحْدَاثٍ تَتَتَابَعُ عَلَيْهِمْ- وَ لَمْ يُخْلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ- أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لَازِمَةٍأَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ- رُسُلٌ لَا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ- وَ لَا كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ- مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ
اجتالتهم الشياطين أدارتهم- تقول اجتال فلان فلانا- و اجتاله عن كذا و على كذا أي أداره عليه- كأنه يصرفه تارة هكذا و تارة هكذا- يحسن له فعله و يغريه به- . و قال الراوندي اجتالتهم عدلت بهم و ليس بشيء- . و قوله ع واتر إليهم أنبياءه- أي بعثهم و بين كل نبيين فترة- و هذا مما تغلط فيه العامة فتظنه كما ظن الراوندي- أن المراد به المرادفة و المتابعة- و الأوصاب الأمراض و الغابر الباقي- . و يسأل في هذا الفصل عن أشياء- منها عن قوله ع أخذ على الوحي ميثاقهم- . و الجواب أن المراد أخذ على أداء الوحي ميثاقهم- و ذلك أن كل رسول أرسل فمأخوذ عليه أداء الرسالة- كقوله تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ- وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ- . و منها أن يقال ما معنى قوله ع ليستأدوهم ميثاق فطرته- هل هذاإشارة إلى ما يقوله أهل الحديث- في تفسير قوله تعالى وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ- مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ- وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى- . و الجواب أنه لا حاجة في تفسير هذه اللفظة- إلى تصحيح ذلك الخبر- و مراده ع بهذا اللفظ- أنه لما كانت المعرفة به تعالى و أدلة التوحيد و العدل- مركوزة في العقول- أرسل سبحانه الأنبياء أو بعضهم- ليؤكدوا ذلك المركوز في العقول- و هذه هي الفطرة المشار إليها بقوله ع كل مولود يولد على الفطرة
– . و منها أن يقال إلى ما ذا يشير بقوله أو حجة لازمة- هل هو إشارة إلى ما يقوله الإمامية- من أنه لا بد في كل زمان من وجود إمام معصوم- . الجواب أنهم يفسرون هذه اللفظة بذلك- و يمكن أن يكون المراد بها حجة العقل- . و أما القطب الراوندي فقال في قوله ع- و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء- الولد يقال على الواحد و الجمع لأنه مصدر في الأصل- و ليس بصحيح لأن الماضي فعل بالفتح- و المفتوح لا يأتي مصدره بالفتح- و لكن فعلا مصدر فعل بالكسر- كقولك ولهت عليه ولها و وحمت المرأة وحما- . ثم قال إن الله تعالى بعث يونس قبل نوح- و هذا خلاف إجماع المفسرين و أصحاب السير- . ثم قال و كل واحد من الرسل و الأئمة كان يقوم بالأمر- و لا يردعه عن ذلك قلة عدد أوليائه و لا كثرة عدد أعدائه- فيقال له هذا خلاف قولك في الأئمة المعصومين- فإنك تجيز عليهم التقية و ترك القيام بالأمر- إذا كثرت أعداؤهم- . و قال في تفسير قوله ع- من سابق سمي له من بعده أو غابر عرفه من قبله- كان من ألطاف الأنبياء المتقدمين و أوصيائهم- أن يعرفوا الأنبياء المتأخرين و أوصياءهم- فعرفهم الله تعالى ذلك- و كان من اللطف بالمتأخرين و أوصيائهم- أن يعرفوا أحوال المتقدمين من الأنبياء و الأوصياء- فعرفهم الله تعالى ذلك أيضا فتم اللطف لجميعهم- . و لقائل أن يقول لو كان ع قال- أو غابر عرف من قبله- لكان هذا التفسير مطابقا- و لكنه ع لم يقل ذلك- و إنما قال عرفه من قبله- و ليس هذا التفسير مطابقا لقوله عرفه- و الصحيح أن المراد به- من نبي سابق عرف من يأتي بعده من الأنبياء- أي عرفه الله تعالى ذلك- أو نبي غابر نص عليه من قبله- و بشر به كبشارة الأنبياء بمحمد ع:
عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ وَ مَضَتِ الدُّهُورُ- وَ سَلَفَتِ الآْبَاءُ وَ خَلَفَتِ الْأَبْنَاءُ- إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً ص- لِإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَ إِتْمَامِ نُبُوَّتِهِ- مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ- مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ كَرِيماً مِيلَادُهُ- وَ أَهْلُ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ- وَ أَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وَ طَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ- بَيْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ- أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ- فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَ أَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ- ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ ص لِقَاءَهُ- وَ رَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ وَ أَكْرَمَهُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا- وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَامِ الْبَلْوَى- فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً- وَ خَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الْأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا- إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلًا بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ وَ لَا عَلَمٍ قَائِمٍ- كِتَابَ رَبِّكُمْ مُبَيِّناً حَلَالَهُ وَ حَرَامَهُ- وَ فَرَائِضَهُ وَ فَضَائِلَهُ وَ نَاسِخَهُ وَ مَنْسُوخَهُ- وَ رُخَصَهُ وَ عَزَائِمَهُ وَ خَاصَّهُ وَ عَامَّهُ- وَ عِبَرَهُ وَ أَمْثَالَهُ وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ- وَ مُحْكَمَهُ وَ مُتَشَابِهَهُ مُفَسِّراً جُمَلَهُ وَ مُبَيِّناً غَوَامِضَهُ- بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ وَ مُوَسَّعٍ عَلَى الْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ- وَ بَيْنَ مُثْبَتٍ فِي الْكِتَابِ فَرْضُهُ- وَ مَعْلُومٍ فِي السُّنَّةِ نَسْخُهُ- وَ وَاجِبٍ فِي السُّنَّةِ أَخْذُهُ- وَ مُرَخَّصٍ فِي الْكِتَابِ تَرْكُهُ- وَ بَيْنَ وَاجِبٍ لِوَقْتِهِ وَ زَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ- وَ مُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ- أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ- وَ بَيْنَ مَقْبُولٍ فِي أَدْنَاهُ وَ مُوَسَّعٍ فِي أَقْصَاهُ قوله ع
نسلت القرون ولدت- و الهاء في قوله لإنجاز عدته- راجعة إلى البارئ سبحانه- و الهاء في قوله و إتمام نبوته- راجعة إلى محمد ص- و قوله مأخوذ على النبيين ميثاقه- قيل لم يكن نبي قط إلا و بشر بمبعث محمد ص- و أخذ عليه تعظيمه و إن كان بعد لم يوجد- . فأما قوله و أهل الأرض يومئذ ملل متفرقة- فإن العلماء يذكرون أن النبي ص بعث- و الناس أصناف شتى في أديانهم- يهود و نصارى و مجوس- و صائبون و عبده أصنام و فلاسفة و زنادقة.
القول في أديان العرب في الجاهلية
فأما الأمة التي بعث محمد ص فيها فهم العرب- و كانوا أصنافا شتىفمنهم معطلة و منهم غير معطلة- فأما المعطلة منهم- فبعضهم أنكر الخالق و البعث و الإعادة- و قالوا ما قال القرآن العزيز عنهم- ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا- وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ- فجعلوا الجامع لهم الطبع و المهلك لهم الدهر- و بعضهم اعترف بالخالق سبحانه و أنكر البعث- و هم الذين أخبر سبحانه عنهم بقوله- قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ- و منهم من أقر بالخالق و نوع من الإعادة- و أنكروا الرسل و عبدوا الأصنام- و زعموا أنها شفعاء عند الله في الآخرة- و حجوا لها و نحروا لها الهدي- و قربوا لها القربان و حللوا و حرموا- و هم جمهور العرب و هم الذين قال الله تعالى عنهم- وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ- يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ- . فممن نطق شعره بإنكار البعث بعضهم يرثي قتلى بدر-
فما ذا بالقليب قليب بدر
من الفتيان و القوم الكرام
و ما ذا بالقليب قليب بدر
من الشيزى تكلل بالسنام
أ يخبرنا ابن كبشة أن سنحي
ا و كيف حياة أصداء وهام
إذا ما الرأس زال بمنكبيه
فقد شبع الأنيس من الطعام
أ يقتلني إذا ما كنت حيا
و يحييني إذ رمت عظامي
أ يقتلني إذا ما كنت حيا و يحييني إذ رمت عظامي و كان من العرب من يعتقد التناسخ- و تنقل الأرواح في الأجساد- و من هؤلاء أرباب الهامة التي قال ع عنهم لا عدوى و لا هامة و لا صفر – و قال ذو الإصبع
يا عمرو إلا تدع شتمي و منقصتي
أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
– . و قالوا إن ليلى الأخيلية لما سلمت على قبر توبة بن الحمير- خرج إليها هامة من القبر صائحة- أفزعت ناقتها فوقصت بها فماتت- و كان ذلك تصديق قوله-
و لو أن ليلى الأخيلية سلمت
علي و دوني جندل و صفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا
إليها صدى من جانب القبر صائح
– . و كان توبة و ليلى في أيام بني أمية- . و كانوا في عبادة الأصنام مختلفين- فمنهم من يجعلها مشاركة للبارئ تعالى- و يطلق عليها لفظة الشريك- و من ذلك قولهم في التلبية لبيك اللهم لبيك- لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك- و منهم من لا يطلق عليها لفظ الشريك- و يجعلها وسائل و ذرائع إلى الخالق سبحانه- و هم الذين قالوا ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى- . و كان في العرب مشبهة و مجسمة- منهم أمية بن أبي الصلت و هو القائل-
من فوق عرش جالس قد حط
رجليه إلى كرسيه المنصوب
– . و كان جمهورهم عبدة الأصنام- فكان ود لكلب بدومة الجندل- و سواع لهذيل و نسر لحمير- و يغوث لهمدان و اللات لثقيف بالطائف- و العزى لكنانة و قريش و بعض بني سليم- و مناة لغسان و الأوس و الخزرج- و كان هبل لقريش خاصة على ظهر الكعبة- و أساف و نائلة على الصفا و المروة- و كان في العرب من يميل إلى اليهودية- منهم جماعة من التبابعة و ملوك اليمن- و منهم نصارى كبني تغلب- و العباديين رهط عدي بن زيد و نصارى نجران- و منهم من كان يميل إلى الصابئة- و يقول بالنجوم و الأنواء- . فأما الذين ليسوا بمعطلة من العرب فالقليل منهم- و هم المتألهون أصحاب الورع و التحرج عن القبائح- كعبد الله و عبد المطلب و ابنه أبي طالب- و زيد بن عمرو بن نفيل و قس بن ساعدة الإيادي- و عامر بن الظرب العدواني و جماعة غير هؤلاء- . و غرضنا من هذا الفصل بيان قوله ع- بين مشبه لله بخلقه أو ملحد في اسمه- إلى غير ذلك و قد ظهر بما شرحناه
– . ثم ذكر ع أن محمدا ص خلف في الأمة بعده- كتاب الله تعالى طريقا واضحا و علما قائما- و العلم المنار يهتدى به- . ثم قسم ما بينه ع في الكتاب أقساما- فمنها حلاله و حرامه- فالحلال كالنكاح و الحرام كالزنا- . و منها فضائله و فرائضه فالفضائل النوافل- أي هي فضلة غير واجبة كركعتي الصبح و غيرهما- و الفرائض كفريضة الصبح- . و قال الراوندي الفضائل هاهنا جمع فضيلة- و هي الدرجة الرفيعة و ليس بصحيح- أ لا تراه كيف جعل الفرائض في مقابلتها و قسيما لها- فدل ذلك على أنه أراد النوافل- .
و منها ناسخه و منسوخه- فالناسخ كقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ- و المنسوخ كقوله لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ- . و منها رخصه و عزائمه- فالرخص كقوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ- و العزائم كقوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ- . و منها خاصه و عامه فالخاص كقوله تعالى- وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ- و العام كالألفاظ الدالة على الأحكام العامة- لسائر المكلفين- كقوله وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ- و يمكن أن يراد بالخاص العمومات- التي يراد بها الخصوص- كقوله وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ- و بالعام ما ليس مخصوصا بل هو على عمومه- كقوله تعالى وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ- . و منها عبره و أمثاله فالعبر كقصة أصحاب الفيل- و كالآيات التي تتضمن النكال و العذاب النازل- بأمم الأنبياء من قبل- و الأمثال كقوله كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً- . و منها مرسله و محدوده و هو عبارة عن المطلق و المقيد- و سمي المقيد محدودا و هي لفظة فصيحة جدا- كقوله فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ- و قال في موضع آخر وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ- و منها محكمه و متشابهه- فمحكمه كقوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ- و المتشابه كقوله إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ- . ثم قسم ع الكتاب قسمة ثانية- فقال إن منه ما لا يسع أحدا جهله-
و منه ما يسع الناس جهله- مثال الأول قوله اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ- و مثال الثاني كهيعص حم عسق- . ثم قال و منه ما حكمه مذكور في الكتاب منسوخ بالسنة- و ما حكمه مذكور في السنة منسوخ بالكتاب- مثال الأول قوله تعالى- فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ- نسخ بما سنه ع من رجم الزاني المحصن- و مثال الثاني صوم يوم عاشوراء كان واجبا بالسنة- ثم نسخه صوم شهر رمضان الواجب بنص الكتاب- . ثم قال و بين واجب بوقته و زائل في مستقبله- يريد الواجبات الموقتة كصلاة الجمعة- فإنها تجب في وقت مخصوص- و يسقط وجوبها في مستقبل ذلك الوقت- . ثم قال ع و مباين بين محارمه- الواجب أن يكون و مباين بالرفع لا بالجر- فإنه ليس معطوفا على ما قبله- أ لا ترى أن جميع ما قبله يستدعي الشيء و ضده- أو الشيء و نقيضه- و قوله و مباين بين محارمه لا نقيض و لا ضد له- لأنه ليس القرآن العزيز على قسمين- أحدهما مباين بين محارمه و الآخر غير مباين- فإن ذلك لا يجوز فوجب رفع مباين- و أن يكون خبر مبتدأ محذوف- ثم فسر ما معنى المباينة بين محارمه- فقال إن محارمه تنقسم إلى كبيرة و صغيرة- فالكبيرة أوعد سبحانه عليها بالعقاب- و الصغيرة مغفورة- و هذا نص مذهب المعتزلة في الوعيد- . ثم عدل ع عن تقسيم المحارم المتباينة- و رجع إلى تقسيم الكتاب- فقال و بين مقبول في أدناه و موسع في أقصاه- كقوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ- . فإن القليل من القرآن مقبول- و الكثير منه موسع مرخص في تركه
: وَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ- الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْأَنَامِ- يَرِدُونَهُ وُرُودَ الْأَنْعَامِ وَ يَوْلَهُونَ إِلَيْهِ وَلَهَ الْحَمَامِ- وَ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَامَةً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ- وَ إِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ- وَ اخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ- وَ صَدَّقُوا كَلِمَتَهُ وَ وَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ- وَ تَشَبَّهُوا بِمَلَائِكَتِهِ الْمُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ- يُحْرِزُونَ الْأَرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ- وَ يَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ- جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لِلْإِسْلَامِ عَلَماً- وَ لِلْعَائِذِينَ حَرَماً وَ فَرَضَ حَقَّهُ وَ أَوْجَبَ حَجَّهُ- وَ كَتَبَ عَلَيْهِ وِفَادَتَهُ- فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا- وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ
الوله شدة الوجد حتى يكاد العقل يذهب- وله الرجل يوله ولها- و من روى يألهون إليه ولوه الحمام- فسره بشيء آخر و هو يعكفون عليه عكوف الحمام- و أصل أله عبد و منه الإله أي المعبود- و لما كان العكوف على الشيء كالعبادة له- لملازمته و الانقطاع إليه- قيل أله فلان إلى كذا أي عكف عليه كأنه يعبده- و لا يجوز أن يقال يألهون إليه في هذا الموضع- بمعنى يولهون- و أن أصل الهمزة الواو
كما فسره الراوندي- لأن فعولا لا يجوز أن يكون مصدرا- من فعلت بالكسر- و لو كان يألهون هو يولهون- كان أصله أله بالكسر- فلم يجز أن يقول ولوه الحمام- و أما على ما فسرناه نحن- فلا يمتنع أن يكون الولوه مصدرا- لأن أله مفتوح فصار كقولك دخل دخولا- و باقي الفصل غني عن التفسير
فصل في فضل البيت و الكعبة
جاء في الخبر الصحيح أن في السماء بيتا- يطوف به الملائكة طواف البشر بهذا البيت- اسمه الضراح- و أن هذا البيت تحته على خط مستقيم- و أنه المراد بقوله تعالى وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ- أقسم سبحانه به لشرفه و منزلته عنده-
و في الحديث أن آدم لما قضى مناسكه- و طاف بالبيت لقيته الملائكة فقالت يا آدم- لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام
قال مجاهد- إن الحاج إذا قدموا مكة استقبلتهم الملائكة- فسلموا على ركبان الإبل- و صافحوا ركبان الحمير و اعتنقوا المشاة اعتناقا- . من سنة السلف أن يستقبلوا الحاج- و يقبلوا بين أعينهم و يسألوهم الدعاء لهم- و يبادروا ذلك قبل أن يتدنسوا بالذنوب و الآثام- .
و في الحديث أن الله تعالى قد وعد هذا البيت- أن يحجه في كل سنة ستمائة ألف- فإن نقصوا أتمهم الله بالملائكة- و أن الكعبة تحشر كالعروس المزفوفة- و كل من حجها متعلق بأستارها يسعون حولها- حتى تدخل الجنة فيدخلون معها و في الحديث أن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الوقوف بعرفة- و فيه أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفة- فظن أن الله لا يغفر له – . عمر بن ذر الهمداني- لما قضى مناسكه أسند ظهره إلى الكعبة- و قال مودعا للبيت- ما زلنا نحل إليك عروة و نشد إليك أخرى- و نصعد لك أكمة و نهبط أخرى- و تخفضنا أرض و ترفعنا أخرى حتى أتيناك- فليت شعري بم يكون منصرفنا- أ بذنب مغفور فأعظم بها من نعمة- أم بعمل مردود فأعظم بها من مصيبة- فيا من له خرجنا و إليه قصدنا و بحرمه أنخنا ارحم- يا معطي الوفد بفنائك فقد أتيناك بها معراة جلودها- ذابلة أسنمتها نقبة أخفافها- و إن أعظم الرزية أن نرجع و قد اكتنفتنا الخيبة- اللهم و إن للزائرين حقا فاجعل حقنا عليك غفران ذنوبنا- فإنك جواد كريم ماجد لا ينقصك نائل و لا يبخلك سائل- . ابن جريج- ما ظننت أن الله ينفع أحدا بشعر عمر بن أبي ربيعة- حتى كنت باليمن فسمعت منشدا ينشد قوله-
بالله قولا له في غير معتبة
ما ذا أردت بطول المكث في اليمن
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها
فما أخذت بترك الحج من ثمن
– . فحركني ذلك على ترك اليمن و الخروج إلى مكة- فخرجت فحججت- . سمع أبو حازم امرأة حاجة ترفث في كلامها- فقال يا أمة الله أ لست حاجة- أ لا تتقين الله فسفرت عن وجه صبيح- ثم قالت له أنا من اللواتي قال فيهن العرجي-
أماطت كساء الخز عن حر وجهها
و ردت على الخدين بردا مهلهلا
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة
و لكن ليقتلن البريء المغفلا
– . فقال أبو حازم- فأنا أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار- فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال رحم الله أبا حازم- لو كان من عباد العراق- لقال لها اعزبي يا عدوة الله- و لكنه ظرف نساك الحجاز
فصل في الكلام على السجع
و اعلم أن قوما من أرباب علم البيان عابوا السجع- و أدخلوا خطب أمير المؤمنين ع في جملة ما عابوه- لأنه يقصد فيها السجع- و قالوا إن الخطب الخالية من السجع- و القرائن و الفواصل- هي خطب العرب- و هي المستحسنة الخالية من التكلف- كخطبة النبي ص في حجة الوداع و هي الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره و نتوب إليه- و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا- من يهد الله فلا مضل له و من يضلل الله فلا هادي له- و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- و أشهد أن محمدا عبده و رسوله- أوصيكم عباد الله بتقوى الله- و أحثكم على العمل بطاعته- و أستفتح الله بالذي هو خير- أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم- فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا- في موقفي هذا- أيها الناس إن دماءكم و أموالكم عليكم حرام- إلى أن تلقوا ربكم- كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا- ألا أ هل بلغت اللهم اشهد- من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها- و إن ربا الجاهلية موضوع- و أول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب- و إن دماء الجاهلية موضوعة- و أول دم أبدأ به- دم آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- و إن مآثر الجاهلية موضوعة غيرالسدانة و السقاية- و العمد قود- و شبه العمد ما قتل بالعصا و الحجر فيه مائة بعير- فمن ازداد فهو من الجاهلية- أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه- و لكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك- فيما تحتقرون من أعمالكم- أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر- يضل به الذين كفروا يحلونه عاما و يحرمونه عاما- و إن الزمان قد استدار- كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض- و إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا- في كتاب الله يوم خلق السموات و الأرض- منها أربعة حرم ثلاثة متواليات و واحد فرد- ذو القعدة و ذو الحجة و محرم و رجب- الذي بين جمادى و شعبان- ألا هل بلغت- أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقا و لكم عليهن حقا- فعليهن ألا يوطئن فرشكم غيركم- و لا يدخلن بيوتكم أحدا تكرهونه إلا بإذنكم- و لا يأتين بفاحشة- فإن فعلن فقد أذن لكم- أن تهجروهن في المضاجع و تضربوهن- فإن انتهين و أطعنكم- فعليكم كسوتهن و رزقهن بالمعروف- فإنما النساء عندكم عوان- لا يملكن لأنفسهن شيئا- أخذتموهن بأمانة الله- و استحللتم فروجهن بكلمة الله- فاتقوا الله في النساء و استوصوا بهن خيرا-
أيها الناس إنما المؤمنون إخوة- و لا يحل لامرئ مال أخيه إلا على طيب نفس- ألا هل بلغت اللهم اشهد- ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض- فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا- كتاب الله ربكم- ألا هل بلغت اللهم اشهد- أيها الناس إن ربكم واحد و إن أباكم واحد- كلكم لآدم و آدم من تراب- إن أكرمكم عند الله أتقاكم- و ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى- ألا فليبلغ الشاهد الغائب- أيها الناس إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث- و لا تجوز وصية في أكثر من الثلث- و الولد للفراش و للعاهر الحجر- من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فهو ملعون- لا يقبل الله منه صرفا و لا عدلا- و السلام عليكم و رحمة الله عليكم
– . و اعلم أن السجع لو كان عيبا- لكان كلام الله سبحانه معيبا لأنه مسجوع- كله ذو فواصل و قرائن- و يكفي هذا القدر وحده مبطلا لمذهب هؤلاء- فأما خطبة رسول الله ص هذه- فإنها و إن لم تكن ذات سجع- فإن أكثر خطبه مسجوع-
كقوله إن مع العز ذلا و إن مع الحياة موتا- و إن مع الدنيا آخرة و إن لكل شيء حسابا- و لكل حسنة ثوابا و لكل سيئة عقابا- و إن على كل شيء رقيبا- و إنه لا بد لك من قرين يدفن معك- هو حي و أنت ميت- فإن كان كريما أكرمك و إن كان لئيما أسلمك- ثم لا يحشر إلا معك و لا تبعث إلا معه و لا تسأل إلا عنه- فلا تجعله إلا صالحا فإنه إن صلح أنست به- و إن فسد لم تستوحش إلا منه و هو عملك
– . فأكثر هذا الكلام مسجوع كما تراه- و كذلك خطبه الطوال كلها- و أما كلامه القصير فإنه غير مسجوع- لأنه لا يحتمل السجع- و كذلك القصير من كلام أمير المؤمنين ع- . فأما قولهم إن السجع يدل على التكلف- فإن المذموم هو التكلف الذي تظهر سماجته- و ثقله للسامعين- فأما التكلف المستحسن فأي عيب فيه- أ لا ترى أن الشعر نفسه لا بد فيه من تكلف إقامة الوزن- و ليس لطاعن أن يطعن فيه بذلك- . و احتج عائبو السجع بقوله ع لبعضهم منكرا عليه- أ سجعا كسجع الكهان- و لو لا أن السجع منكر لما أنكر ع سجع الكهان و أمثاله- فيقال لهم إنما أنكر ع السجع الذي يسجع الكهان أمثاله- لا السجع على الإطلاق- و صورة الواقعة أنه ع أمر في الجنين بغرة- فقال قائل أ أدي من لا شرب و لا أكل- و لا نطق و لا استهل- و مثل هذا يطل فأنكر ع ذلك- لأن الكهان كانوا يحكمون في الجاهلية- بألفاظ مسجوعة- كقولهم حبة بر في إحليل مهر- و قولهم عبد المسيح على جمل مشيح- لرؤيا الموبذان و ارتجاس الإيوان- و نحو ذلك من كلامهم- و كان ع قد أبطل الكهانة و التنجيم و السحر و نهى عنها- فلما سمع كلام ذلك القائل أعاد الإنكار- و مراده به تأكيد تحريم العمل على أقوال الكهنة- و لو كان ع قد أنكر السجع لما قاله- و قد بينا أن كثيرا من كلامه مسجوع و ذكرنا خطبته- . و من كلامه ع المسجوع-
خبر ابن مسعود رحمه الله تعالى قال قال رسول الله ص استحيوا من الله حق الحياء- فقلنا إنا لنستحيي يا رسول الله من الله تعالى- فقال ليس ذلك ما أمرتكم به- و إنما الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد)، ج 1 ، صفحهى 130
و ما وعى- و البطن و ما حوى و تذكر الموت و البلى- و من أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا
– . و من ذلك
كلامه المشهور لما قدم المدينة ع أول قدومه إليها أيها الناس أفشوا السلام و أطعموا الطعام- و صلوا الأرحام و صلوا بالليل و الناس نيام- تدخلوا الجنة بسلام
و عوذ الحسن ع- فقال أعيذك من الهامة و السامة و كل عين لامة
– و إنما أراد ملمة فقال لامة لأجل السجع- . و كذلك
قوله ارجعن مأزورات غير مأجورات
– و إنما هو موزورات بالواو
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد)، ج 1 ، صفحهى53- 130