
و من خطبه له علیه السّلام
أَیُّهَا النَّاسُ الْمُجْتَمِعَهُ أَبْدَانُهُمْ- الْمُخْتَلِفَهُ أَهْوَاؤُهُمْ- کَلَامُکُمْ یُوهِی الصُّمَّ الصِّلَابَ- وَ فِعْلُکُمْ یُطْمِعُ فِیکُمُ
الْأَعْدَاءَ- تَقُولُونَ فِی الْمَجَالِسِ کَیْتَ وَ کَیْتَ- فَإِذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ حِیدِی حَیَادِ- مَا عَزَّتْ دَعْوَهُ مَنْ دَعَاکُمْ- وَ لَا
اسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاکُمْ- أَعَالِیلُ بِأَضَالِیلَ دِفَاعَ ذِی الدَّیْنِ الْمَطُولِ- لَا یَمْنَعُ الضَّیْمَ الذَّلِیلُ- وَ لَا یُدْرَکُ الْحَقُّ
إِلَّا بِالْجِدِّ- أَیَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِکُمْ تَمْنَعُونَ- وَ مَعَ أَیِّ إِمَامٍ بَعْدِی تُقَاتِلُونَ- الْمَغْرُورُ وَ اللَّهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ- وَ مَنْ فَازَ بِکُمْ
فَقَدْ فَازَ وَ اللَّهِ بِالسَّهْمِ الْأَخْیَبِ- وَ مَنْ رَمَى بِکُمْ فَقَدْ رَمَى بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ-
أَصْبَحْتُ وَ اللَّهِ لَا أُصَدِّقُ قَوْلَکُمْ- وَ لَا أَطْمَعُ فِی نَصْرِکُمْ- وَ لَا أُوعِدُ الْعَدُوَّ بِکُمْ- مَا بَالُکُمْ مَا دَوَاؤُکُمْ مَا طِبُّکُمْ-
الْقَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُکُمْ- أَ قَوْلًا بِغَیْرِ عِلْمٍ- وَ غَفْلهً مِنْ غَیْرِ وَرَعٍ- وَ طَمَعاً فِی غَیْرِ حَقٍّ
أقول: روى أنّ السبب فی هذه الخطبه هو غاره الضحّاک بن قیس بعد قصّه الحکمین و عزمه على المسیر إلى الشام. و ذلک أنّ معاویه لمّا سمع باختلاف الناس على علیّ علیه السّلام، و تفرّقهم عنه، و قتله من قتل من الخوارج بعث الضحّاک بن قیس فی نحو من أربعه آلاف فارس و أوعز علیه بالنهب و الغاره. فأقبل الضحّاک یقتل و ینهب حتّى مرّ بالثعلبیّه. فأغار على الحاجّ فأخذ أمتعتهم. و قتل عمرو بن عمیس بن مسعود ابن أخی عبد اللّه بن مسعود صاحب رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله و سلّم و قتل معه ناسا من أصحابه. فلمّا بلغ علیّا علیه السّلام ذلک استصرخ أصحابه على أطراف أعماله و استشارهم إلى لقاء العدوّ فتلکّؤوا.
و رأى منهم تعاجزا و فشلا. فخطبهم هذه الخطبه. و لنرجع إلى المتن.
اللغه
فالأهواء: الآراء، و الوهی: الضعف، و کیت و کیت: کنایه عن الحدیث. و حاد عن الأمر: عدل عنه. قال الجوهری: قولهم حیدی حیاد کقولهم: فیحی فیاح، و نقل أنّ فیاح اسم للغاره کقطام. فحیاد أیضا اسم لها. و المعنیّ: اعزلی عنّا [عنها خ] أیّتها الحرب، و یحتمل أن یکون حیاد من أسماء الأفعال کنزال. فیکون قد أمر بالتنحّی مرّتین بلفظین مختلفین. و أعالیل و أضالیل: جمع أعلال و أضلال و هما جمع علّه: اسم لما یتعلّل به من مرض و غیره، و ضلّه: اسم من الضلال بمعنى الباطل، و المطول: کثیر المطال و هو تطویل الوعد و تسویفه، و الجدّ: الاجتهاد، و الأخیب: أشدّ خیبه و هی الحرمان، لأفوق: السهم المکسور الفوق و هو موضع الوتر منه، و الناصل: الّذی لا نصل فیه.
المعنى
و المقصود أنّه علیه السّلام نبّههم على ما یستقبح فی الدین، و مراعاه حسن السیره من أحوالهم و أقوالهم و أفعالهم: أمّا أحوالهم فاجتماع أبدانهم مع تفرّق آرائهم الموجب لتخاذلهم عن الذبّ عن الدین و المفرّق لشمل مصالحهم. و أمّا أقوالهم فکلامهم الّذی یضعف عند سماعه القلوب الصلبه الثابته و یظنّ سامعه أن تحته نجده و ثباتا و هو قولهم مثلا فی مجالسهم: إنّه لا محلّ لخصومنا، و إنّا سنفعل بهم کذا، و سیکون منّا کذا. و أمثاله.
و استعار لفظی الصمّ الصلاب من أوصاف الحجاره للقلوب الّتی تضعف من سماع کلامهم کما شبّه القرآن الکریم بها: فَهِیَ کَالْحِجارَهِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَهً. و أمّا أفعالهم فهو تعقیب هذه الأقوال عند حضور القتال و دعوتهم إلى الحرب بالتخاذل و عدم التناصر و التقاعد عن إجابه داعی اللّه و کراهیّه الحرب و الفرار عن مقاتله العدوّ، و کنّى بقوله: قلتم حیدی حیاد. عن ذلک، و هى کلمه کانت تستعملها العرب عند الفرار. ثمّ أردف ذلک بما العاده أن یأنف منه من یطلب الانتصار به على وجه التضجّر منهم عن کثره تقاعدهم عن صوته.
و ذلک قوله: ما عزّت دعوه من دعاکم. المستلزم للحکم بذلّه داعیهم، و لا استراح قلب من قاساکم. المتلزم للحکم بتعبه، و قوله: أعالیل بأضالیل. خبر مبتدأ محذوف أی و إذا دعوتکم إلى القتال تعللّتم بأعالیل هی باطله ضلالا عن سبیل اللّه و سألتمونی التأخیر و تطویل المدّه دفاعا،
و قوله: دفاع ذی الدین المطول. یحتمل أن بکون تشبیها لدفاعهم له بدفاع ذی الدین فیکون منصوبا محذوف الجار، و یحتمل أن یکون قد استعار دفاع ذى الدین المطول لدفاعهم فیکون مرفوعا، و وجه الاستعاره أنّ المدین المطول أبدا مشتهی لعدم المطالبه و تودّ نفسه أن لا یراه غریمه فکذلک فهم علیه السّلام منهم أنّهم کانوا یحبّون أن لا یعرض لهم بذکر القتال و لا یطالبهم به. فاستعار لدفاعهم الدفاع المذکور لمکان المشابهه، ثمّ نبّههم على قبح الذلّ لیفیؤوا إلى فضیله الشجاعه بذکر بعض لوازمه المنفره و هو أنّ صاحبه لا یتمکّن من رفع الضیم عن نفسه، و على قبح التوانی و التخاذل بأنّه لا یدرک الإنسان حقّه إلّا بضدّ ذلک و هو الجدّ و التشمیر فی طلبه، ثمّ أعقب ذلک بالسؤال على جهه الإنکار و التقریع عن تعبین الدار الّتی ینبغی لهم حمایتها بعد دار الإسلام الّتی لا نسبه لغیرها إلیها فی العزّ و الکرامه عند اللّه و وجوب الدفع عنها و الّتی هی موطنهم و محلّ دولتهم. کذلک قوله: و مع أىّ إمام بعدی تقاتلون. و فیه تنبیه لهم على أفضلیّته و ما وثق به من إخلاص نفسه للّه فی جمیع حرکاته، و تثبیت لهم على طاعته إذ کان علیه السّلام یتوهّم فی بعضهم المیل إلى معاویه و الرغبه فیما عنده من الدنیا. ثمّ أردف ذلک بذمّ من اغترّ بکلامهم و نسبه إلى الغرور و الغفله.
ثمّ بالإخبار عن سوء حال من کانوا حزبه و من یقاتل بهم: أمّا الأوّل: فهو قوله: المغرور و اللّه من غرّرتموه. و المقصود بالحقیقه ذمّهم و توبیخهم على خلف المواعید و المماطله بالنفار إلى الحرب لأنّه إنّما ینسب من وثق بهم إلى الغرور بعد خلفهم فی وعدهم له بالنهوض معه. و جعل المغرور مبتدأ و من خبره أبلغ فی إثبات الغرّه لمن اغترّ بهم من العکس لاقتضاء الکلام إذن انحصار المغرور فی من اغترّ بهم. و لا کذلک لو کان من مبتدأ. و أمّا الثانی: فهو قوله: و من فاز بکم فقد فاز بالسهم الأخیب و من رمى بکم فقد رمى بأفوق ناصل. و قد شبّه نفسه و خصومه باللاعبین بالمیسر، و لا حظ شبه حصولهم فی حقّه. بخروج أحد السهام الخائبه الّتی لا غنم لها أو الأوغاد الّتی فیها غرم کالّتی لم یخرج حتّى استوفیت أجزاء الجزور فحصل لصاحبها غرم و خیبه. فلأجل ملاحظه هذا الشبه استعار لهم لفظ السهم بصفه الأخیب، و إطلاق الفوز هنا مجاز فی حصولهم له من باب إطلاق اسم أحد الضدّین على الآخر کتسمیه السیّئه جزاء. کذلک لاحظ المشابهه بین رجال الحرب و بین السهام فی کون کلّ منهما عدّه للحرب و دفع العدوّ و لاحظها أیضا بین إرسالهم فی الحرب و بین الرمی بالسهام. فلأجل ذلک استعار أوصاف السهم من الأفوق و الناصل، و استعار لفظ الرمی لمقاتلته بهم ثمّ خصّصهم بأردء أوصاف السهم الّتی یبطل معها فائدته لمشابتهم ذلک السهم فی عدم الانتفاع بهم فی الحرب. و کأنّه أیضا خصّص بعثه لهم إلى الحرب باستعاره الرمى بالسهم الموصوف لزیاده الشبه و هی عدم انبعاثهم عن أمره.
و تجاوزهم أوطانهم کالرمى بالسهم الّذی لا فوق له و لا نصل فإنّه لا یکاد یتجاوز عن القوس مسافه. و هی من لطائف ملاحظات المشابهه و الاستعاره عنها. و المعنى أنّ من حصلتم فی حربه فالخیبه حاصله له فیما یطلب بکم، و من قاتل بکم عدوّه فلا نفع له فیکم. ثمّ أردفه بالإخبار عن نفسه بامور نشأت عن إساءه ظنّه بهم و عدم وثوقه بأقوالهم بکثره خلفهم و مواعیدهم الباطله بالنهوض معه و هی أنّه لا یصدّقهم لأنّه من أکثر من شیء عرف به. و من أمثالهم: إنّ الکذوب لا یصدّق و أنّه لا یطمع فی نصرهم و أنّه لا یوعد بهم عدوّهم إذ کان وعیده بهم مع طول تخلّفهم و شعور العدوّ بذلک ممّا یوجب جرأته و تسلّطه و أمانه من المقاومه. ثمّ أردفه بالاستفهام على سبیل الاستنکار و التقریع عن حالهم الّتی توجب لهم التخاذل و التصامم عن ندائه و هو قوله: ما بالکم. ثمّ عن دوائهم الصالح للمرض الّذی هم فیه.
ثمّ عن کیفیّه علاجهم منه بقوله: ما دوائکم ما طبّکم. و قیل أراد بقوله ما طبّکم أی ما عادتکم و الأوّل أظهر و ألیق. ثمّ نبّههم على ما عساهم یتوهّمونه من قوّه خصومهم و بأسهم بأنّهم رجال أمثالکم فی الرجولیّه الّتی هی مظنّه الشجاعه و البأس فلا مزیّه لهم علیکم فلا معنى للخوف منهم. ثمّ عاد إلى سؤالهم على جهه التقریع و نبّههم به على امور لا ینبغی، منفور عنها، مستقبحه فی الشریعه و العاده.
فأوّلا: عن قولهم ما لا یفعلون و هو إشاره إلى ما یعدون به من النهوض إلى الحرب ثمّ لا یفعلون و ذلک بقوله: أقولا بغیر عمل تذکیرا لهم بما یستلزم ذلک من المقت عند اللّه کما اشیر إلیه فی القرآن الکریم یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ کَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ«» و على الروایه الثانیه و هی أقولا بغیر علم أى أ تقولون بألسنتکم ما لیس فی قلوبکم و لا تعتقدونه و تجزمون به من أنّا سنفعل کذا. و یحتمل أن یکون معناه أ تقولون إنّا مخلصون للّه و إنّا مسلمون و لا تعلمون شرائط الإسلام و الایمان. و ثانیا: عن غفلتهم الّتی لیست عن ورع و هی عدم تعقّلهم للمصالح الّتی ینبغی أن یکونوا علیها و هی طرف التفریط من فضیله الفطانه. و هذه بخلاف الغفله مع الورع.
فإنّ تلک نافعه فی المعاد إن کان الورع عباره عن لزوم الأعمال الجمیله المستعدّه فی الآخره فالغفله معه عن الامور الدنیویّه و المصالح المتعلّقه بجزئیّاتها لیست بضارّه، بل ربما کانت سببا للخلاص من عذاب ما فی الآخره. و ثالثا: عن طمعهم فی غیر حقّ أى فی أن یمنحهم ما لا یستحقّونه لینهضوا معه و یجیبوا دعوته، و کأنّه علیه السّلام عقل من بعضهم أنّ أحد أسباب تخلّفهم من ندائه
إنّما هو طمعهم فی أن یوفر عطیّاتهم و یمنحهم زیاده على ما یستحقّون کما فعل غیره مع غیرهم فأشار إلى ذلک و نبّههم على قبحه من حیث إنّه طمع فی غیر حقّ.
و اللّه أعلم.
شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۲ ، صفحهى ۵۰
بازدیدها: ۹
دیدگاهها