
و من خطبه له علیه السّلام
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْیَا قَدْ أَدْبَرَتْ وَ آذَنَتْ بِوَدَاعٍ- وَ إِنَّ الْآخِرَهَ قَدْ أَشْرَفَتْ بِاطِّلَاعٍ- أَلَا وَ إِنَّ الْیَوْمَ الْمِضْمَارَ وَ غَداً
السِّبَاقَ- وَ السَّبَقَهُ الْجَنَّهُ وَ الْغَایَهُ النَّارُ- أَ فَلَا تَائِبٌ مِنْ خَطِیئَتِهِ قَبْلَ مَنِیَّتِهِ- أَ لَا عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ یَوْمِ
بُؤْسِهِ- أَلَا وَ إِنَّکُمْ فِی أَیَّامِ أَمَلٍ مِنْ وَرَائِهِ أَجَلٌ- فَمَنْ عَمِلَ فِی أَیَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ- فَقَدْ نَفَعَهُ عَمَلُهُ وَ
لَمْ یَضْرُرْهُ أَجَلُهُ- وَ مَنْ قَصَّرَ فِی أَیَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ- فَقَدْ خَسِرَ عَمَلُهُ وَ ضَرَّهُ أَجَلُهُ- أَلَا فَاعْمَلُوا فِی
الرَّغْبَهِ کَمَا تَعْمَلُونَ فِی الرَّهْبَهِ- أَلَا وَ إِنِّی لَمْ أَرَ کَالْجَنَّهِ نَامَ طَالِبُهَا وَ لَا کَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا- أَلَا وَ إِنَّهُ مَنْ لَا
یَنْفَعُهُ الْحَقُّ یَضُرُّهُ الْبَاطِلُ- وَ مَنْ لَا یَسْتَقِیمُ بِهِ الْهُدَى یَجُرُّ بِهِ الضَّلَالُ إِلَى الرَّدَى- أَلَا وَ إِنَّکُمْ قَدْ أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ
وَ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ- وَ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَیْکُمْ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَ طُولُ الْأَمَلِ- فَتَزَوَّدُوا مِنَ الدُّنْیَا- مَا تَحْرُزُونَ بِهِ
أَنْفُسَکُمْ غَداً
قال الشریف: أقول: لو کان کلام یأخذ بالأعناق إلى الزهد فى الدنیا و یضطر إلى عمل الآخره لکان هذا الکلام، و کفى به قاطعا لعلائق الآمال، و قادحا زناد الاتعاظ و الازدجار، و من أعجبه قوله علیه السّلام «ألا و إنّ الیوم المضمار و غدا السّباق و السّبقه الجنّه و الغایه النّار» فإن فیه- مع فخامه اللفظ، و عظم قدر المعنى، و صادق التمثیل، و واقع التشبیه- سرا عجیبا، و معنى لطیفا، و هو قوله علیه السّلام: «و السبقه الجنه، و الغایه النار» فخالف بین اللفظین لاختلاف المعنیین، و لم یقل «السبقه النار» کما قال «السبقه الجنه»، لأن الاستباق إنما یکون إلى أمر محبوب، و غرض مطلوب، و هذه صفه الجنه و لیس هذا المعنى موجودا فى النار نعوذ باللّه منها، فلم یجز أن یقول «و السبقه النار» بل قال «و الغایه النار»، لأن الغایه ینتهى إلیها من لا یسره الانتهاء و من یسره ذلک، فصلح أن یعبر بها عن الأمرین معا، فهى فى هذا الموضع کالمصیر و المآل، قال اللّه تعالى: (وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِیُضِلُّوا عَنْ) و لا یجوز فى هذا الموضع أن یقال: سبقتکم- بسکون الباء- إلى النار، فتأمل ذلک فباطنه عجیب و غوره بعید. و کذلک أکثر کلامه علیه السّلام، و فى بعض النسخ، و قد جاء فی روایه أخرى «و السبقه الجنه»- بضم السین- و السبقه عندهم: اسم لما یجعل للسابق إذا سبق من مال أو عرض، و المعنیان متقاربان لأن ذلک لا یکون جزاء على فعل الأمر المذموم، و إنما یکون جزاء على فعل الأمر المحمود. أقول: هذا الفصل من الخطبه الّتی فی أوّلها الحمد للّه غیر مقنوط من رحمته. و سیجیء بعد، و إنّما قدّمه الرضیّ علیها لما سبق من اعتذاره فی خطبه الکتاب أنّه لا یراعى التتالى و النسق فی کلامه علیه السّلام.
اللغه
و قوله: قد أدبرت أى ولىّ دبره. و آذنت أى أعلمت. و أشرفت أى أطّلعت، و المضمار: المدّه الّتی یضمر فیها الخیل للمسابقه أى تعلف حتّى تسمن ثمّ تردّ إلى القوت و المدّه أربعون یوما، و قد یطلق على الموضع الّذی یضمر فیه أیضا. و السباق: مصدر مرادف للمسابقه و هو أیضا جمع سبقه کنظفه و نظاف، أو سبقه کحجله و حجال، أو سبق کجمل و جمال. و الثلاثه اسم لما یجعل للسابق من مال أو غرض، و المنیّه: الموت، و البؤس: شدّه الحاجه، و تحرزون: تحفظون.
و اعلم انّ هذا الفصل یشتمل على أحد عشر تنبیها:
الأوّل: على وجوب النفار عن الدنیا و عدم الرکون إلیها.
و ذلک بقوله: ألا و إنّ الدنیا قد أدبرت و آذنت بوداع. و أشار بإدبار الدنیا و إعلامها بالوداع إلى تقضّى الأحوال الحاضره بالنسبه إلى کلّ شخص من الناس من صحّه و شباب و جاه و مال و کلّ ما یکون سببا لصلاح حال الإنسان، و أنّ کلّ ذلک فی هذا الحیاه الدنیا لدنوّهامن الإنسان. و لمّا کانت هذه الامور أبدا فی التغیّر و التقضّى المقتضى لمفارقه الإنسان لها و بعدها عنه لا جرم حسن إطلاق اسم الإدبار على تقضّیها و بعدها استعاره تشبیها لها بالحیوان فی إدباره. فقیل لکلّ أمر یکون الإنسان فیه من خیر و شرّ إذا کان فی أوّله: أقبل، و إذا کان فی آخره و بعد تقتضیّه: أدبر، و کذلک اسم الوداع فإنّ التقضّى لمّا استلزم المفارقه و کانت مفارقه الدنیا مستلزمه لأسف الإنسان علیها و وجده لها أشبه ذلک ما یفعله الإنسان فی حقّ صدیقه المرتحل عنه فی وداعه له من الأسف على فراقه و الحزن و البکاء و نحوه. فاستعیر اسم الوداع له، و کنّى بإعلامها بذلک عن الشعور الحاصل بمفارقتها من تقضّیها شیئا فشیئا، أو هو إعلام بلسان الحال.
الثانی: التنبیه على الإقبال على الآخره و التیقّظ للاستعداد لها
بقوله: ألا و إنّ الآخره- قد أقبلت- و أشرفت باطّلاع. و لمّا کانت الآخره عباره عن الدار الجامعه للأحوال الّتی یکون الناس علیها بعد الموت من سعاده و شقاوه و ألم و لذّه، و کان تقضّى العمر مقرّبا للوصول إلى تلک الدار و الحصول فیما یشمل علیه من خیر أو شرّ حسن إطلاق لفظ الإقبال علیها مجازا. ثمّ نزّلها لشرفها على الدنیا فی حال إقبالها منزله حال عند سافل. فأسند إلیها لفظ الإشراف. و لأجل إحصاء الأعمال الدنیویّه فیها منزله عالم مطّلع.
فأطلق علیها لفظ الاطّلاع، و یحتمل أن یکون إسناد الإشراف بکیفیّه الاطّلاع إلى ربّ الآخره، و إنّما عبّر بالآخره عنه تعظیما لجلاله کما یکنّى عن الرجل الفاضل بمجلسه و حضرته و یکون کیفیّه الاطّلاع قرینه ذلک.
الثالث: التنبیه على وجوب الاستعداد بذکر ما یستعدّ لأجله
و هو السباق، و ذکر ما یستبق إلیه و ما هو غایه المقصّر المتخلّف عن نداء اللّه. و ذلک قوله: و إنّ الیوم المضمار. إلى قوله: و الغایه النار. کنّى بالیوم عن عمر الإنسان الباقیه له و أخبر بالمضمار عنها.
و اعلم أنّه قد ورد المضمار و السباق مرفوعین و منصوبین: فأمّا رفع المضمار فلأنّه خبر أنّ. و الیوم اسمها، و إنّما اطلق اسم المضمار على تلک المدّه لما بینهما من المشابهه فإنّ الإنسان فی مدّه عمره یستعدّ بالتقوى و یرتاض بالأعمال الصالحه لتکمیل قوّته فیکون من السابقین إلى لقاء اللّه و المقرّبین فی حضرته کما یستعدّ الفرس بالتضمیر لسبق مثله، و أمّا نصبه ففیه شکّ. إذ یحتمل أن یقال: إنّ المضمار زمان و الیوم زمان فلو أخبرنا عنه بالیوم لکان ذلک إخبارا بوقوع الزمان فی الزمان فیکون الزمان محتاجا إلى زمان آخر. و ذلک محال. و جوابه: لا نسلّم أنّ الإخبار بوقوع الزمان فی الزمان محوج للزمان إلى زمان آخر. فإنّ بعض أجزاء الزمان قد یخبر عنها بالزمان بمعنى أنّها أجزاؤه و الجزء فی الکلّ لا بمعنى أنّها حاصله فی زمان آخر. و إن کان إنّما یحسن الإخبار عنها به إذا قیّدت بوصف و اشتملت على أحداث یتخصّص بها کما تقول: أنّ مصطبح القوم الیوم. فکذلک المضمار لمّا کان وقتا مشتملا على التضمیر و هو حدث صحّ الإخبار عنه بالیوم. و أمّا نصب السباق فلأنّه اسم إنّ أى و إنّ غدا السباق و کنّى بغد عمّا بعد الموت، و أمّا رفعه فلا وجه له إلّا أن یکون مبتدأ خبره غدا و یکون اسم إنّ ضمیر الشأن. و قال بعض الشارحین: یجوز أن یکون خبر إنّ. و هو ظاهر الفساد لأنّ الحکم بشیء على شیء إمّا بمعنى أنّه هو هو کما یقال: الإنسان هو الضحّاک. و هو ما یسمّیه المنطقیّون حمل المواطاه، أو على أنّ المحکوم علیه ذو المحکوم به کما یقال: الجسم أبیض أى ذو بیاض.
و هو ما یسمّونه حمل الاشتقاق. و لا واحد من المعنیین بحاصل فی الحکم بالسباق على غد. فیمتنع أن یکون خبر إنّ، اللّهم إلّا على تقدیر حذف المضاف و إقامه المضاف إلیه مقامه: أى و إنّ غدا وقت السباق. لکن لا یکون السباق هو الخبر فی الحقیقه.
ثمّ إن قلنا: إنّ السباق مصدر. کان التقدیر ضمّروا أنفسکم الیوم فإنّکم غدا تستبقون.
و تحقیق ذلک أنّ الإنسان کلّما کان أکمل فی قوّتیه النظریّه و العملیّه کان وصوله إلى حضره القدس قبل وصول من هو أنقص منه و لمّا کان مبدء النقصان فی هاتین القوّتین إنّما هو محبّه ما عدا الواحد الحقّ، و اتّباع الشهوات، و المیل إلى أنواع اللذّات الفانیه، و الإعراض بسبب ذلک عن تولّى القبله الحقیقیّه. و مبدء الکمال فیهما هو الإعراض عمّا عدا الواحد الحقّ من الامور المعدوده، و الإقبال علیه بالکلّیه. و کان الناس فی محبّه الدنیا و فی الإعراض عنها و الاستکمال بطاعه اللّه على مراتب مختلفه و درجات متفاوته کان کون الیوم هو المضمار و غدا السباق متصوّرا جلیّا. فإنّ کلّ من کان أکثر استعدادا و أقطع لعلائق الدنیا عن قلبه لم یکن له بعد الموت عائق یعوقه عن الوصول إلى اللّه و ما أعدّ له فی الجنّه من الثواب الجزیل، بل کان خفیف الظهر ناجیا من ثقل الوزر کما أشار إلیه الرسول صلى اللّه علیه و آله و سلّم بقوله: نجا المخفّفون. و کما سبق من إشاره علىّ علیه السّلام إلى ذلک بقوله: تخفّفوا تلحقوا. فیکون بعد الموت سابقا ممّن کان أضعف استکمالا منه، و ممّن لسعت عقارب الهیئات البدنیّه و الملکات الردیئه قلبه و أثقلت الأوزار ظهره و أوجب له التخلّف عن درجه السابقین الأوّلین. و کذلک یکون سبق هذا بالنسبه إلى من هو أقلّ استعدادا منه و أشدّ علاقه للدنیا بقلبه. فکان معنى المسابقه ظاهرا إن کان استعاره من السباق المتعارف بین العرب.
و إن قلنا: إنّ السباق جمع سبقه: اسم لمّا یستبق إلیه و یجعل للسابق. فالمعنى أیضا ظاهر فإنّ ما یستبق إلیه إنّما یکمل الوصول إلیه بعد المفارقه، و یکون الاستباق إمّا قبل المفارقه و هو السعى فی درجات الریاضات کما أشار إلیه سبحانه بقوله سابِقُوا إِلى مَغْفِرَهٍ مِنْ رَبِّکُمْ وَ جَنَّهٍ عَرْضُها کَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِینَ آمَنُوا«» الآیه، و قوله فَاسْتَبِقُوا الْخَیْراتِ. أو بعد المفارقه کما أشرنا إلیه.
و یکون قوله بعد ذلک: و السبقه الجنّه. تعیینا للمستبق إلیه بعد التنبیه علیه إجمالا و أمّا قوله: و الغایه النار. فالّذی ذکره الرضىّ- رضوان اللّه علیه- فی تخصیص الجنّه بالسبقه و النار بالغایه حسن و کاف فی بیان مراده علیه السّلام إلّا أنّه یبقى هاهنا بحث و هو أنّ هذه الغایه من أىّ الغایات هی و هل هی غایه حقیقیّه أو لازمه لغایه فنقول: إنّ ما ینتهى إلیه قد یکون بسوق طبیعىّ، و قد یکون بسوق إرادیّ. و کلّ واحد منهما قد یکون ذاتیّا، و قد یکون عرضیّا. فالسوق الذّاتی منهما یقال له غایه إمّا طبیعیّه کاستقرار الحجر فی حیّزه عن حرکته بسوق طبیعته له إلیه و إمّا إرادیّه کغایات الإنسان من حرکاته المنتهى إلیها بسوق إرادته. و أمّا المنتهى إلیه بالسوق العرضىّ فهو من لوازم إحدى الغایتین و قد یسمّى غایه عرضیّه. فاللازم عن الطبیعیّه کمنع الحجر غیره أن یحلّ بحیث هو فإنّ ذلک من لوازم استقراره فی حیّزه، و عن الإرادیّه کاستضاءه الجار بسراج جاره فإنّ ذلک من لواحق استضاءته و کهلاک الطائر فی حبائل الصیّاد عن المیل إلى التقاط حبّه.
إذا عرفت ذلک فنقول: إنّ کون النار غایه بهذا المعنى الرابع.
و بیانه: أن محبّه الدنیا و المیل إلیها و الانهماک فی مشتهیاتها. سواء کان معها مسکه للإنسان باللّه تعالى أو لم یکن فإنّ من لوازمها الانتهاء إلى النار إلّا أن یشاء اللّه کما قال تعالى مَنْ کانَ یُرِیدُ حَرْثَ الدُّنْیا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِی الْآخِرَهِ مِنْ نَصِیبٍ«» و کان المقصود الأوّل للإنسان هو تناول اللذّات الحاضره لکن لمّا کان من لوازم الوصول إلى تلک اللذّات و الإقبال علیها دخول النار و الانتهاء إلیها کانت عرضیّه.
الرابع: التنبیه على التوبه قبل الموت
هو قوله: أفلا تائب من خطیئه قبل منیّته. و لا شکّ أنّها یجب أن تکون مقدّمه على الأعمال لأنّک علمت أنّ التوبه هی انزجار النفس العاقله عن متابعه النفس الأمّاره بالسوء لجاذب إلهىّ اطّلعت معه على قبح ما کانت علیه من اتّباع شیاطینها و هو من مقام الزهد و التخلّى. و قد علمت فی بیان کیفیّه السلوک إلى اللّه تعالى أنّ مقام التخلیه مقدّم على مقام التحلیه. فکان الأمر بها مقدّما على الأمر بسایر الطاعات.
الخامس: التنبیه على العمل للنفس قبل یوم البؤس
و الإشاره إلى ما بعد الموت من العذاب اللازم للنقصان اللازم عن التقصیر فی العمل إذ الواصل إلى یوم بؤسه على غیر عمل أسیر فی ید شیاطینه. و قد علمت أن غایه الاسترسال فی ید الشیطان دخول النار و الحجب عن لقاء ربّ العالمین. و لمّا کان العمل هو المعین على قهر الشیاطین و المخلص من أسره نبّه علیه، ثمّ أردفه بالتنبیه على وجود الزمان الّذی یمکنهم فیه العمل و هو أیّام آمالهم للعمل و غیره على أنّ ذلک الزمان منقطع بلحوق الأجل، ثمّ أردفه ببیان فایده العمل فی ذلک الزمان و هی المنفعه بالثواب فی الآخره و ما یلزمها من عدم مضرّه الأجل، و بیان ثمره التقصیر فی العمل فیه و هی خسران العمل المستلزم لمضرّه الأجل. و أحسن باستعارته علیه لفظ الخسران لفوات العمل فإنّ الخسران فی البیع لمّا کان هو النقصان فی رأس المال أو ذهاب جملته، و کان العمل هو رأس مال العامل الّذی یکتسب الکمال و السعاده الاخرویّه لا جرم حسنت استعاره لفظ الخسران لعدم العمل، و أمّا استلزام المنفعه لعدم مضرّه الموت و استلزام الخسران لمضرّته فهو أمر ظاهر إذ کان الکامل فی قوّتیه المعرض عن متاع الدنیا غیر ملتفت إلیها بعد المفارقه فلم یحصل له بسببها تعذیب.
فکانت المضرّه منفیّه عنه. و کان المقصّر عن الاستکمال فیهما من ضروره طباعه المیل إلى اللذّات الحسّیه. فإذا قصر عن العمل و التعلّق بطاعه اللّه الجاذبه إلیه فلا بدّ و أن یستضرّ بحضور الأجل إذ کان الأجل قاطعا لزمان الاستکمال و حائلا بین الإنسان و بین ما هو معشوق له من حاضر اللذّات.
السادس: التنبیه على وجوب التسویه للعامل بین العمل فی الرغبه و العمل فی الرهبه.
و فیه شمیمه التوبیخ للعبد على غفلته عن ذکر اللّه و إعراضه عن عبادته فی حال صفاء اللذّات الحاضره له، و لجأه إلیه و فزعه عند نازله إن نزلت به. فإنّ ذلک لیس من شأن العبودیّه الصادقه للّه. و إلى مثل هذا التوبیخ أشار التنزیل الإلهىّ بقوله وَ إِذا مَسَّکُمُ الضُّرُّ فِی الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِیَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاکُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ کانَ الْإِنْسانُ کَفُوراً«» و غیره من الآیات، بل من شأن العابد للّه القاصد له أن یتساوى عبادته فی أزمان شدّته و رخائه. فیقابل الشدّه بالصبر، و الرخاء بالشکر، و أن یعبده لا لرغبه و لا رهبه و أن یعبده فیهما من غیر فرق.
السابع: قوله: ألا و إنّى لم أر کالجنّه نام طالبها و لا کالنار نام هاربها
قوله: ألا و إنّى لم أر کالجنّه نام طالبها و لا کالنار نام هاربها. و اعلم أنّ الضمیر فی طالبها و هاربها یعود إلى المفعول الأوّل لرأیت المحذوف المشبّه فی الموضعین و التقدیر لم أر نعمه کالجنّه نام طالبها و لا نقمه کالنار نام هاربها، و نام فی محلّ النصب مفعولا ثانیا. و مغزى هذا الکلام أنّه نفى علمه بما یشبه الجنّه و ما یشبه النار و لم ینف علمه بذات التشبیه بل علمه من جهه الشبه و هی نوم الطالب و الهارب. و لذلک استدعت أرى بمعنى أعلم هنا مفعولین أى لم أر نعمه کالجنّه بصفه نوم الطالب لها. فنبّه على وجه الشبه بقوله: نام طالبها، ثمّ نفى التشبیه من تلک الجهه.
و کذلک قوله: و لا کالنار بصفه نوم هاربها. و المفعول الثانی فی الجملتین صفه جاریه على غیر من هی له. و هی تنبیه للموقنین بالجنّه و النار على کونهم نائمین فی مراقد الطبیعه لینتبهوا منها و یتفطّنوا [یتّعظوا خ] للاستعداد بالعمل التامّ لما ورائهم من مرغوب و مرهوب. و فیه شمیمه التعجّب من جمع الموقن بالجنّه و النار بین علمه بما فی الجنّه من تمام النعمه و تقصیره عن طلبها بما یؤدّى إلیها من الأعمال الصالحه، و جمع الموقن بالنار بین علمه بما فیها من عظیم العذاب و بین تقصیره و غفلته عن الهرب إلى ما یخلص منها.
الثامن: قوله ألا و إنّه من لم ینفعه الحقّ یضرّه الباطل
قوله ألا و إنّه من لم ینفعه الحقّ یضرّه الباطل. فالضمیر فی إنّه ضمیر الشأن. و أراد بالحقّ الإقبال على اللّه بلزوم الأعمال الصالحه المطابقه للعقاید المطابقه، و بالباطل الالتفات عنه إلى غیر ذلک ممّا لا یجدی نفعا فی الآخره. و هو تنبیه على استلزام عدم منفعه الحقّ لمضرّه الباطل فی صوره شرطیّه متّصله، و بیان الملازمه فیها ظاهر فإنّ وجود الحقّ مستلزم لمنفعته فعدم منفعته إذن مستلزم لعدمه و عدمه مستلزم لوجود الباطل لأن اعتقاد المکلّف و عمله إمّا أن یطابقا أوامر اللّه تعالی، أو لیس.
و الأوّل هو الحق، و الثانی هو الباطل. و ظاهر أنّ عدم الأوّل مستلزم لوجود الثانی. ثمّ إنّ وجود الباطل مستلزم لمضرّته. فیظهر بهذا البیان أنّ عدم منفعه الحقّ مستلزم لوجود مضرّه الباطل. و إذا ثبت ذلک فنقول: مراده علیه السّلام بلزوم الحقّ ما هو المستلزم لمنفعته و بنفى الباطل ما هو المستلزم لعدم مضرّته. فإنّ لزوم الطاعه للّه بامتثال أوامره و الإقبال علیه مستلزم للوصول إلى جواره المقدّس، و الالتفات إلى ما عداه المعبّر عنه بالباطل مستلزم للنقصان الموجب للتخلّف عن السابقین و الهوى فی درک الهالکین. و ذلک محض المضرّه. فظهر أذن سرّ قوله: علیه السّلام من لم ینفعه الحقّ یضرره الباطل. و من غفله بعض من یدّعى العلم عن بیان هذه الملازمه ذهب إلى أنّ الوعیدات الوارده فی الکتب الإلهیّه إنما جاءت للتخویف دون أن یکون هناک شقاوه للعصاه.
محتجّا على ذلک بتمثیلات خطابیّه عن مشهورات فی بادىء الرأى إذا تعقّبها النظر زالت شهرتها.
التاسع و من لا یستقم به الهدى یجرّ به الضلال إلى الردى
و من لا یستقم به الهدى یجرّ به الضلال إلى الردى. أراد بالهدى نور العلم و الإیمان، و بالضلال الجهل و الخروج عن أمر اللّه. و المعنى أنّ من لم یکن الهدى دلیله القائد له بزمام عقله فی سبیل اللّه و یستقیم به فی سلوک صراطه المستقیم فلا بدّ و أن ینحرف به الضلال عن سواء الصراط إلى أحد جانبى التفریط و الإفراط.
و ملازمه هذه الشرطیّه أیضا ظاهره. لأنّ وجود الهدى لمّا استلزم وجود استقامه بالإنسان على سواء السبیل کان عدم استقامه الهدى به مستلزما لعدم الهدى المستلزم لوجود الضلال المستلزم للجرّ بالإنسان إلى مهاوى الردى، و العدول به عن الصراط المستقیم إلى سواء الجحیم.
العاشر: ألا و إنّکم قد امرتم بالظعن و دللتم على الزاد
قوله: ألا و إنّکم قد امرتم بالظعن و دللتم على الزاد. و هو تنبیه على ملاحظه الأوامر الوارده بالظعن کقوله تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّی لَکُمْ مِنْهُ نَذِیرٌ مُبِینٌ«» و کقوله تعالى سابِقُوا إِلى مَغْفِرَهٍ مِنْ رَبِّکُمْ«» على الأمر باتّخاذ الزاد کقوله تعالى وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوى«» و أحسن باستعارته الظعن للسفر إلى اللّه و استعاره الزاد لما یقرّب إلیه. و وجه درجه الاستعاره الاولى: أنّ الظعن لمّا کان عباره عن قطع المراحل المحسوسه بالرجل و الجمل و نحوه فکذلک السفر إلى اللّه عباره عن قطع المراحل المعقوله بقدم العقل، و وجه الثانیه أنّ الزاد لمّا کان إنّما یعدّ لتقوى به الطبیعه على الحرکه الحسّیه و کانت الامور المقرّبه إلى اللّه تعالى ممّا تقوى به النفس على الوصول إلى جنابه المقدّس کان ذلک من أتمّ المشابهه الّتی یقرّب معها اتّحاد المتشابهین. و بحسب قوّه المشابهه یکون قوّه حسن الاستعاره.
الحادى عشر: التنبیه على أخوف الامور
الّتی ینبغی أن تخاف لتجتنب و هو الجمع بین اتّباع الهوى و طول الأمل. و سیذکر علیه السّلام هذا الکلام فی موضع آخر مع ذکر علّه التحذیر من هذین الأمرین، و سنوضح معناه هناک. و یکفى هاهنا أن یقال: إنّما حذّر منهما عقیب التنبیه على الظعن و الأمر باتّخاد الزاد لکون الجمع بینهما مستلزما للإعراض عن الآخره فیکون مستلزما لعدم الظعن و عدم اتّخاذ الزاد. فخوّف منهما لیجتنبا. فیحصل مع اجتنابهما الإقبال على اتّخاذ الزاد و الاهبّه للظعن و لذلک أردف التخویف منهما بالأمر باتّخاذ الزاد. و فی قوله: من الدنیا فی الدنیا لطف. فإنّ الزاد الموصل إلى اللّه تعالى إمّا علم أو عمل و کلاهما یحصلان من الدنیا: أمّا العمل فلا شکّ أنّه عباره من حرکات و سکنات تستلزم هیئات مخصوصه إنّما تحصل بواسطه هذا البدن و کلّ ذلک من الدنیا فی الدنیا، و أمّا العلم فلأنّ الاستکمال به إنّما یحصل بواسطه هذا البدن أیضا إمّا بواسطه الحواسّ الظاهره و الباطنه، أو بتفطّن النفس لمشارکات بین المحسوسات و مباینات بینها و ظاهر أنّ ذلک من الدنیا فی الدنیا و أشار بقوله: ما تحرزون أنفسکم به غدا. أنّ کلّ زاد عدّ به الإنسان نفسه للوصول إلى جوا اللّه فقد تدرع به من غدا به و حفظ به نفسه یوم لا ینفع مال و لا بنون.
و قد اشتمل هذا الفصل على استدراجات لطیفه لانفعالات عن أوامر للّه و زواجره، و إذا تأمّلت اسلوب کلامه علیه السّلام، و راعیت ما فیه: من فخامه الألفاظ، و جزاله المعانی المطابقه للبراهین العقلیّه، و حسن الاستعارات و التشبیهات و مواقعها، و صحّه ترتیب أجزائه. و وضع کلّ مع ما یناسبه. وجدته لا یصدر إلّا عن علم لدنىّ و فیض ربّانیّ. و أمکنک حینئذ الفرق بین کلامه علیه السّلام و کلام غیره و التمییز بینهما بسهوله. و باللّه العصمه و التوفیق.
شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۲ ، صفحهى ۴۰
بازدیدها: ۱۳
دیدگاهها