خطبه۲شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام بعد انصرافه من صفین

القسم الأول

أَحْمَدُهُ اسْتِتْمَاماً لِنِعْمَتِهِ وَ اسْتِسْلَاماً لِعِزَّتِهِ- وَ اسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِیَتِهِ- وَ أَسْتَعِینُهُ فَاقَهً إِلَى کِفَایَتِهِ- إِنَّهُ لَا یَضِلُّ مَنْ هَدَاهُ وَ لَا یَئِلُ مَنْ عَادَاهُ- وَ لَا یَفْتَقِرُ مَنْ کَفَاهُ- فَإِنَّهُ أَرْجَحُ مَا وُزِنَ وَ أَفْضَلُ مَا خُزِنَ- وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِیکَ لَهُ- شَهَادَهً مُمْتَحَناً إِخْلَاصُهَا مُعْتَقَداً مُصَاصُهَا- نَتَمَسَّکُ بِهَا أَبَداً مَا أَبْقَانَا- وَ نَدَّخِرُهَا لِأَهَاوِیلِ مَا یَلْقَانَا- فَإِنَّهَا عَزِیمَهُ الْإِیمَانِ وَ فَاتِحَهُ الْإِحْسَانِ- وَ مَرْضَاهُ الرَّحْمَنِ وَ مَدْحَرَهُ الشَّیْطَانِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- أَرْسَلَهُ بِالدِّینِ الْمَشْهُورِ وَ الْعَلَمِ الْمَأْثُورِ- وَ الْکِتَابِ الْمَسْطُورِ وَ النُّورِ السَّاطِعِ- وَ الضِّیَاءِ اللَّامِعِ وَ الْأَمْرِ الصَّادِعِ- إِزَاحَهً لِلشُّبُهَاتِ وَ احْتِجَاجاً بِالْبَیِّنَاتِ- وَ تَحْذِیراً بِالْآیَاتِ وَ تَخْوِیفاً بِالْمَثُلَاتِ- وَ النَّاسُ فِی فِتَنٍ انْجَذَمَ فِیهَا حَبْلُ الدِّینِ- وَ تَزَعْزَعَتْ سَوَارِی الْیَقِینِ- وَ اخْتَلَفَ النَّجْرُ وَ تَشَتَّتَ الْأَمْرُ- وَ ضَاقَ الْمَخْرَجُ وَ عَمِیَ الْمَصْدَرُ- فَالْهُدَى‏ خَامِلٌ وَ الْعَمَى شَامِلٌ- عُصِیَ الرَّحْمَنُ وَ نُصِرَ الشَّیْطَانُ وَ خُذِلَ الْإِیمَانُ- فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ وَ تَنَکَّرَتْ مَعَالِمُهُ- وَ دَرَسَتْ سُبُلُهُ وَ عَفَتْ شُرُکُهُ- أَطَاعُوا الشَّیْطَانَ فَسَلَکُوا مَسَالِکَهُ وَ وَرَدُوا مَنَاهِلَهُ- بِهِمْ سَارَتْ أَعْلَامُهُ وَ قَامَ لِوَاؤُهُ- فِی فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا وَ وَطِئَتْهُمْ بِأَظْلَافِهَا- وَ قَامَتْ عَلَى سَنَابِکِهَا- فَهُمْ فِیهَا تَائِهُونَ حَائِرُونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ- فِی خَیْرِ دَارٍ وَ شَرِّ جِیرَانٍ- نَوْمُهُمْ سُهُودٌ وَ کُحْلُهُمْ دُمُوعٌ- بِأَرْضٍ عَالِمُهَا مُلْجَمٌ وَ جَاهِلُهَا مُکْرَمٌ

اللغه

أقول: صفین اسم موضع بالشام و الاستسلام الانقیاد و وال فلان یئل والا و على فعول إذا لجأ فنجا و منه الموئل الملجأ، و الفاقه الفقر و لا فعل لها، و مصاص کلّ شی‏ء خالصه و الذخیره الجنیئه، و الأهاویل الامور المخوّفه الّتی یعظم اعتبار النفس لها، و عزیمه الإیمان عقد القلب علیه، و المدحره محلّ الدحر و هو الطرد و الإبعاد، و المأثور المقدّم على غیره، و المأثور أیضا المنقول، و المثلات جمع مثله بفتح المیم و ضمّ الثاء و هی العقوبه، و الفتن جمع فتنه هی کلّ أمر صرف عن قصد اللّه و اشتغل عنه من بلاء و محنه و هوى متّبع، و انجذم انقطع، و الزعزعه الاهتزاز و الاضطراب، و السوارى الأساطین، و النجر الطبع و الأصل، و الخامل الساقط، و انهارت انهدمت، و المعالم الآثار لأنّ بها یعلم الشی‏ء و یستدلّ علیه، و الشرک جمع شرکه بفتح الشین و الراء و هی معظم الطریق و وسطها، و المناهل المشارب، و السنابک أطراف مقدّم الحوافر. الواحد سنبکه، و السهود مصدر کالجمود مرادف للسهاد و الأرق

المعنى

و اعلم أنّ المراد بالحمد هاهنا الشکر، و استتماما و ما بعدها من المنصوبات منصوبات على المفعول له، و قد جعل علیه السّلام لحمده هاهنا غایتین، الاولى منهما الاستتمام لنعمه اللّه و ذلک لأنّ العبد یستعدّ بمزید الشکر لمزید النعمه و هو فی ذلک ناظرا إلى قوله تعالى «وَ لَئِنِ‏ شَکَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّکُمْ» لما یشتمل علیه الآیه من البعث على رجاء المزید، و الثانیه الاستسلام لعزّته فإنّ العبد أیضا یستعدّ بکمال الشکر لمعرفه المشکور و هو اللّه سبحانه و هی مستلزمه للانقیاد لعزّته و الخشوع لعظمته و هو فی ذلک ناظر إلى قوله «وَ لَئِنْ کَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِی لَشَدِیدٌ» لما یشتمل علیه الآیه من التخویف المانع من مقابله نعم اللّه تعالى بالکفر، ثمّ لمّا کان الاستعداد لتمام النعم و التأهّل لکمال الخضوع و الانقیاد لعزّه اللّه سبحانه إنّما یتمّ بعد أن یکون العنایه الإلهیّه آخذه بضبعی العبد و جاذبه له عن ورطات المعاصی مبّعده له عن أسباب التورّط فیها بکفایه المؤن و الأسباب الداعیه إلى ارتکاب أحد طرفی الإفراط و التفریط جعل علیه السّلام للحمد غایه اخرى هی الوسیله إلى الغایتین المذکورتین و هی الاستعصام باللّه سبحانه من معصیته، و عقّب ذلک الشکر بطلب المعونه منه على تمام الاستعداد لما سأل و شکر لأجله، و جعل لتلک الاستعانه علّه حامله و هی الفاقه نحو غایه هی کفایه دواعی التفریط و الإفراط بالجذبات الإلهیّه و لا شکّ أنّ الغایتین المذکورتین لا یتمّ بدون عصمته و المعونه بکفایته و ذلک قوله و استعصاما من معصیته و أستعینه فاقه إلى کفایته. قوله إنّه لا یضلّ من هداه و لا یئل من عاداه و لا یفتقر من کفاه تعلیل لطلبه المعونه على تحصیل الکفایه فإنّه لمّا کان حصول الکفایه مانعا من دواعی طرفی التفریط و الإفراط کان العبد مستقیم الحرکات على سواء الصراط و ذلک هدى اللّه یهدی به من یشاء فکأنّه قال: و أستعینه على أن یرزقنی الکفایه المستلزمه للهدایه الّتی هی الغنى الحقیقی و الملک الأبدیّ فإنّه لا یضلّ من هداه و لا ینجو من عذابه من عاداه و أعرض عن شکره و الاستعانه به و قد أطلق علیه السّلام هاهنا لفظ المعاداه اللّه کما أطلقها القرآن الکریم على ما هو من لوازمها و هو الإعراض عن عبادته و البغض لها و لمن تلبّس بها من عباده مجازا.

قوله فإنّه أرجح ما وزن و أفضل ما خزن الضمیر یعود إلى اللّه سبحانه و لمّا کانت ذاته مقدّسه عن الوزن و الخزن اللّذین هما من صفات الأجسام فبالحریّ أن یکون المقصود رجحان عرفانه فی میزان العقل إذ لا یوازنه عرفان ما عداه بل لا یخطر ببال العارف عند الإخلاص سواه حتّى یصدق هناک موازنه یقال فیها أرجح، و یکون المراد بالخزن خزن‏ ذلک العرفان فی أسرار النفوس القدسیّه، و قیل: الضمیر یرجع إلى ما دلّ علیه قوله أحمده من الحمد على طریقه قولهم من کذب کان شرّا له. قوله و أشهد أن لا إله إلّا اللّه هذه الکلمه أشرف کلمه وحّد بها الخالق عزّ اسمه و قد أشرنا فی الخطبه الاولى إلى ما تضمّنه ترکیبها من حسن الوضع المؤدىّ للمقصود التامّ منها، و بالجمله هی منطبقه على جمیع مراتب التوحید، و قد زعم النحویّون أنّ فیها شیئا مقدّرا یکون خبرا للا. قالوا: و تقدیره لا إله لنا إلّا اللّه أولا إله موجود إلّا اللّه، و اعلم أنّ کلّ تقدیر یقدّر هاهنا فهو مخرج لهذه الکلمه عمّا یفید إطلاقها و یفیدها تخصیصا لم یکن و هو ممّا یجده الإنسان من نفسه عند الاعتبار فالأولى أن یکون خبر لا قولنا إلّا اللّه و لا حاجه إلى تقدیر أمر زائد، و قد وردت لهذه الکلمه فضائل: الاولى قوله صلى اللّه علیه و آله: أفضل الذکر لا إله إلّا اللّه و أفضل الدعاء الحمد للّه. الثانیه عن ابن عمر قال: قال صلى اللّه علیه و آله: لیس على أهل لا إله إلّا اللّه وحشه فی الموت و لا عند النشر و کأنّی أنظر إلى أهل لا إله إلّا اللّه عند الصیحه ینفضون شعورهم من التراب و یقولون: الحمد للّه الّذی أذهب عنّا الحزن.

الثالثه یروى أنّ المأمون لمّا انصرف من مرو یرید العراق و احتاز بنیسابور و کان على مقدّمته علیّ بن موسى الرضا علیه السّلام فقام إلیه قوم من المشایخ، و قالوا: نسألک بحقّ قرابتک من رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله أن تحدّثنا بحدیث ینفعنا فروى عن أبیه عن آبائه رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله عن جبرئیل عن ربّه أنّه قال: لا إله إلّا اللّه حصنی فمن دخل حصنی أمن من عذابی. الرابعه قال صلى اللّه علیه و آله: أن أقاتل الناس حتّى یقولوا لا إله إلّا اللّه فإذا قالوها عصموا منّی دماءهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابهم على اللّه. قال بعض العلماء: إنّ اللّه تعالى جعل العذاب عذابین: أحدهما السیف فی ید المسلمین، و الثانی عذاب الآخره، و السیف فی غلاف یرى و النار فی غلاف لا یرى فقال تعالى لرسول اللّه صلى اللّه علیه و آله: من أخرج لسانه من الغلاف المرئیّ و هو الفم فقال: لا إله إلّا اللّه أدخلنا السیف فی الغمد المرئیّ، و من أخرج لسان قلبه من الغلاف الّذی لا یرى و هو غلاف الشرک فقال: لا إله إلّا اللّه أدخلنا سیف عذاب الآخره فی غمد الرحمه واحده بواحده جزاء، و لا ظلم الیوم. قوله شهاده ممتحنا إخلاصها معتقدا مصاصها. مصدر وصف بوصفین جریا على غیر من‏ هماله، و الممتحن المختبر أراد أنّه مختبر نفسه فی إخلاص هذه الشهاده واجد لها عریّه عن شبهات الباطل، معرضه عن کلّ خاطر سوى الحقّ سبحانه متمثّله فیها حلیه التوحید و خالصه مبرّاه عن شوائب الشرک الخفیّ کما عرفت من التوحید المطلق و الإخلاص المحقّق.

قوله نتمسّک بها أبدا ما أبقانا و ندّخرها لأهاویل ما یلقانا فإنّها عزیمه الإیمان إلى قوله و مدحره الشیطان. إشاره إلى أنّه یجب التمسّک بها مدّه البقاء فی دار الدنیا لعزائم الامور و الاستعداد بها لأحوال الآخره و شدائدها ثمّ عقّبها بذکر علّه التمسّک بها و ادّخارها، و ذکر أربعه أوصاف یوجب ذلک: أوّلها أنّها عقیده الإیمان و عزیمته المطلوبه للّه سبحانه من خلقه و کلّ ما عداها ممّا وردت به الشریعه من قواعد الدین و فروعه فهی حقوق لها و توابع و متممّات و معیّنات على الوقوف على سرّها و الوصول إلى إخلاصها. و ثانیها أنّها فاتحه الإحسان فإنّها أوّل کلمه افتتحت به الشریعه و استعدّ العبد بالسلوک فی طریق إخلاصها لإفاضه إحسان اللّه و نعمه شیئا فشیئا، و کما أنّها أوّل مطلوب للّه من خلقه فی فطرتهم الأصلیّه و على ألسنه رسله علیهم السّلام فهی أیضا غایتهم الّتی ینالون بإخلاصها و استصحاب مصاصها السعاده الباقیه. و ثالثها أنّها مرضاه الرحمن، و ذلک ظاهر إذ هی محلّ رضوان اللّه و السبب المستنزل لتمام رحمته و مزید نعمته على محلّ تنور بها و رفع السخط عنه کما قال: امرت أن اقاتل الناس حتّى یقولوا لا إله إلّا اللّه الخبر. و رابعها أنّها مدحره الشیطان و ذلک أیضا ظاهر فإنّ غایه دعوه الشیطان هو الشرک الظاهر أو الخفیّ، و هذه الکلمه إنّما وضعت فی مقابله دعوته فظاهرها دافع لظاهر ما یدعو إلیه، و باطنها قامع لباطن ما یدعو إلیه، و کما أنّ الشرک على مراتب لا تتناهى فکذلک الإخلاص فی هذه الکلمه فبقدر کلّ مرتبه من السلوک فی إخلاصها یسقط فی مقابلته مرتبه من الشرک، و یبطل سعى الشیطان فی بناء تلک المرتبه إلى أن یتمّ الإخلاص بقدر الإمکان، و قد انهدمت قواعد الشیطان بکلّیّتها و صار أبعد مطرود عن قبول ما یقول «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَیْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْکَ رَحْمَهً إِنَّکَ أَنْتَ الْوَهَّابُ»«».

قوله و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله. قال رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله: من قال أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه فجرى بها لسانه و أطمأنّ بها قلبه حرمت النار علیه، و إنّما قرنت هذه الکلمه بکلمه التوحید لأنّک عرفت أنّ غرض الشریعه إنّما هو إخلاص تلک الکلمه، و لن یحصل إخلاصها إلّا بسلوک مراتبها، و لن یحصل ذلک إلّا بمعرفه کیفیّه السلوک، و علمت أنّ مدار إرسال الرسل و وضع الشرائع کیفیّه السلوک فی درجات الإخلاص فکانت الشهاده و الإقرار بصدق المبلّغ لهذه الرساله و المبیّن لطریق الإخلاص أجلّ کلمه بعد کلمه الإخلاص لأنّها بمنزله الباب لها فلأجل ذلک قرنت بها. قوله أرسله بالدین المشهور إلى قوله و الأمر الصادع. إشاره إلى تعظیم الرسول صلى اللّه علیه و آله بما جاء به، و أشار بالدین المشهور إلى دینه المشتمل على تعریف کیفیّه سلوک الصراط المستقیم، و بالعلم المأثور إلى اعتبار کون ذلک الدین هادیا قائدا للخلق یهتدون به إلى حضره القدس الّتی هی مقصد جمیع الشرائع إذ ذلک هو شأن العلم، و کونه مأثورا إشاره إمّا إلى کونه مقدّما على سائر الأدیان کما یقدّم العلم و یهتدى به قوم بعد قوم أو إلى نقله من قرن إلى قرن، و بالکتاب المسطور إلى القرآن المسطوره حقائقه فی ألواح النفوس، و بالنور الساطع و الضیاء اللامع إلى السرّ الّذی جاء به الرسول صلى اللّه علیه و آله یحبّ هذه الطریقه و أمر بقصده منها و هو نور یستشرفه مرأى النفوس الصافیه عن صداء الشبهات و کدورات الشرک بخصوصیّه الأمر، و وصفه بکونه صادعا إلى اعتبار قهره بأوامر اللّه و ردعه لمن لم یسلک الطریق المأمور بسلوکها عن رغبه و اختیار حتّى شقّ بالأمر الإلهیّ وجه باطله و صدع ما کان ملتئما من بناء فساده کما قال تعالى «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِکِینَ»«»

قوله إزاحه للشبهات إلى قوله و تخویفا بالمثلات إشاره إلى الوجوه القریبه لمقاصد البعثه، و ذکر علیه السّلام منها ثلاث مقاصد: أوّلها إزاحه الشبهات و هو أهمّها فإنّ حذف شواغل الدنیا و شبهات الباطل عن قلوب الخلق أهمّ مقاصد الشارع.
الثانی سبب تلک الإزاحه و هو الاحتجاج على الخلق بالحجج الواضحه لهم و الخطابات الواصله إلى أقصى أذهانهم کما قال تعالى «وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ». الثالث التحذیر بالآیات النازعه بالعصاه، و التخویف بالعقوبات الواقعه بأهل الجنایات کما قال تعالى «أَ فَلَمْ یَهْدِ لَهُمْ کَمْ أَهْلَکْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ یَمْشُونَ فِی مَساکِنِهِمْ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِأُولِی النُّهى‏»«» و هذا الإنذار مؤیّد للحجج و الخطابات الشرعیّه فی حقّ من لم یرزق‏

صفاء ذهن یؤثّر فیه مجرّد الخطابات فیحتاج إلى التحذیر و الإنذار. قوله و الناس فی فتن انجذم فیها حبل الدین إلى قوله و قام لواؤه. أقول: یحتمل أن یکون الواو فی قوله و الناس للابتداء، و یکون ذلک منه علیه السّلام شروعا فی ذمّ أحوال زمانه و ما هم فیه من البلاء و المحنه و المخاوف و الحروب بسبب تشتّت أهوائهم و اختلاف آرائهم، و غرضه علیه السّلام تنبیه السامعین على ما عساهم غافلین عنه ممّا فیه من الفتن المشتمله على المذامّ الّتی عدّدها لینّبهوا من رقده الغفله، و یشمّروا فی سلوک سبیل الحقّ عن ساق الجدّ و الاجتهاد، و ذکر من المذامّ الّتی حصل الناس علیها بسبب ما هم فیه من الفتن امورا یرجع حاصلها و إن تعدّدت إلى ترک مراسم الشریعه، و عدم سلوک سبیل الحقّ، و ارتکاب طریق الباطل فانقطاع حبل الدین إشاره إلى انحراف الخلق عن سواء السبیل و عدم تمسّکهم بأوامر اللّه سبحانه حال وقوع تلک الفتن، و استعمال لفظ الحبل هاهنا و فی التنزیل الإلهیّ «فاعتصموا بحبل اللّه جمیعا» استعاره لقانون الشریعه المطلوب منها لزومه و التمسّک به، و کذلک استعمال السواری إمّا لقواعد الدین و أرکانه المأمور بتشییدها کالجهاد الّذی هو أقوى مطالبه لذلک الوقت من الناس، و یکون المراد بتزعزعها عدم استقامتها و استقرار الناس علیها مجازا.

و إمّا لأهل الدین الّذی به یقوم و رجاله العاملین به الّذین لم یأخذهم فی اللّه لومه لائم، و تزعزعها موت اولئک أو خوفهم من الأعداء المارقین و کلّ ذلک استعاره لطیفه و وجوه المشابهه فیها ظاهره، و أشار باختلاف النجر إلى اختلاف الأصل الّذی کان یجمع الخلق و الفطره الّتی فطر الناس علیها و وردت الشریعه بلزومها فإنّها کانت متّفقه بوجود الرسول صلى اللّه علیه و آله فاختلف بعده بسلوک کلّ فرقه مذهبا غیر الاخرى على أنّ النجر هو الحسب أیضا، و الحسب هو الدین، فیحتمل أن یرید و اختلف الدین، و أشار بتشتّت الأمر إلى تفرّق کلمه المسلمین، و بقوله و ضاق المخرج و عمى المصدر إلى أنّ الخلق بعد تورّطهم فی فتن الشبهات الموجبه لتفرّق کلمتهم ضاق مخرجهم منها و عمى علیهم طریق صدورهم منها، و العمى هاهنا هو المشار إلیه بقوله تعالى «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لکِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِی فِی الصُّدُورِ»«» و هو استعاره حسنه إذ العمى حقیقه عباره عن عدم ملکه البصر، و وجه المشابهه أنّ الأعمى کما لا یهتدى لمقاصده المحسوسه بالبصر لعدمه کذلک أعمى البصیره لا یهتدی لمقاصده المعقوله لاختلال بصیرته و عدم عقله لوجوه رشده، و أشار بخمول الهدى إلى عدم ظهوره بینهم حال عمّاهم عن مصدرهم من ضلالهم إذ کان ضوءه ساقطا بینهم غیر موجود، و الفاء لعطف الجمله الاسمیّه على الفعلیّه و أشار بشمول العمى إلى اشتراکهم فی عدم رؤیتهم لسبیل الحقّ الّذی به یخرجون من شبهات الباطل و ظلمته ثمّ أشار بعصیانهم للرحمن و نصرهم للشیطان إلى أنّ ما هم فیه جور عن الحقّ و نصره للباطل الّذی هو مأمول الشیطان فبالحریّ أن یکون نصره للشیطان و عصیانا للرحمن و من نصر الشیطان بالذّب على الباطل فقد خذل الإیمان بترکه تشیید قواعده و الذّب عنه، و بترک الإیمان و خذلانه لا یبقى له دعامه یقوم بها و تحمله، و الإشاره بالدعائم و المعالم إلى دعاه الحقّ و حمله الإیمان و بانهیارها إلى عدمهم أو عدم قبول قولهم، و بتنکّر المعالم إلى عدم معرفتهم فی الخلق لقلّتهم، و یحتمل أن یراد بالدعائم القواعد الّتی للدین کالجهاد و غیره و انهیارها عدم القیام بها، و بتنکّر المعالم إلى انمحائه من القلوب الّتی هی معالم الدین و محالّه و بدروس سبله و عفاء شرکه إلى أنّه لم یبق له أثر یعرف به، و کلّ ذلک مبالغه فی ضعف الدین و مسالک الشیطان و مناهله ما یجرّهم إلیه من مناهی اللّه سبحانه فیتّبعونه فیها، و أعلام الشیطان و لواؤه إمّا القاده إلیه و الدعاه إلى باطله المقتدى بهم أو صور الباطل الّتی تصوّرت فی أذهان الخلق و صارت غایات لهم فانقادوا لها و اتّبعوها فهم کالأعلام و الألویه فی الحروب و غیرها. قوله فی فتن داستهم بأخفافها و وطئتهم بأظلافها و قامت على سنابکها یحتمل أن یکون فی فتن متعلّقا بقوله بهم سارت أعلامه و قام لواؤه، و یحتمل أن یتعلّق بمقدّر یکون خبرا ثانیا لقوله و الناس، و هذه الفتن هی الّتی أشار إلیها أوّلا و إنّما أوردها ثانیا بزیاده أوصاف فبالغ علیه السّلام فی تشبیهها بأنواع الحیوان فاستعار لها أخفافا و أظلافا و حوافرا و جعل لها دوسا و وطئا و قیاما على الحوافر، و یحتمل أن یکون هناک إضمار أی داستهم بأخفاف إبلها و وطئتهم بأظلاف بقرها و قامت على سنابک خیلها فحذف المضاف و أقام المضاف إلیه مقامه و حینئذ یکون التجوّز فی نسبه الوطی و الدروس و القیام إلیها فقط و هو المجاز فی الإسناد. قوله فهم فیها تائهون. الفاء للتعقیب و أشار بتیههم إلى ضلالهم عن القصد فی ظلمات الفتن و بحیرتهم إلى تردّدهم فی أنّ الحقّ فی أیّ جهه و عدم درایتهم أهو مع علیّ أمّ مع معاویه و بجهلهم إلى عدم علمهم بالحقّ و اعتقاد بعضهم الباطل عن شبهه تحکیم الحکمین و اعتقاد آخرین له عن شبهه دم عثمان، و أمثال ذلک ممّا هو جهل مرکّب و بکونهم مفتونین إلى فتنه غیرهم لهم و إضلاله عن الحقّ و هو الشیطان و اتباعه. قوله فی خیر دار و شرّ جیران هذا الظرف یجوز أن یکون کالّذی قبله فی کونه خبرا ثالثا و یجوز أن یتعلّق بقوله تائهون أو ما بعده من الأفعال، و قد اختلف الشارحون لکلام علیّ علیه السّلام فی مراده بخیر دار فقال بعضهم: أراد الشام لأنّها الأرض المقدّسه و أهلها القاسطون، و قال معنى قوله نومهم سهود و کحلهم دموع أنّهم لا ینامون اهتماما بامورهم و إعداد أنفسهم للقتال و یبکون قتلاهم، و قوله بأرض عالمها ملجم یرید نفسه و الناصرین للحقّ، و جاهلها مکرم یرید معاویه، و قال آخرون: أراد بخیر دار العراق و شرّ جیران یعنی أصحابه المستصرخ بهم للجهاد، و إنّما کانوا شرّ جیران أی شرّ متجاورین لتخاذلهم عن الحقّ و نصره الدین لأنّ خیر المتجاورین المتعاضدون فی اللّه، و قوله و نومهم سهود أی خوفا من الحرب و حیره فی التدبیر، و کحلهم دموع أی یبکون قتلاهم أیضا، و قیل نفاقا لأنّ من تمّ نفاقه ملک عینیه، و قال آخرون أراد بها دار الدنیا لأنّها دار العمل و أکثر الخلق بها أشرار جهّال و لیس المقصود بکونها خیرا تفضیلها على غیرها لیوهم أنّها أفضل من الآخره بل إثبات فضیلتها فقط فإنّ أفعل التفضیل کما یرد الإثبات الأفضلیّه کذلک یرد لإثبات الفضیله و الدنیا دار فاضله لمن قام فیها بأوامر اللّه وراعى ما خلق لأجله و هی مزرعه الآخره کما ورد به الحدیث و کون أهلها شرّ جیران فأمّا شرّ متجاورین کما سبق أو شرّ جیران لمن التجأ إلیهم و جاورهم للانتصار بهم على أعداء الدین و ذلک لعدم نصرتهم له و القیام معه، و قوله نومهم سهود، و کحلهم دموع ظاهره عموم لفظ الناس فی أصحابه و أصحاب معاویه و من عناه أمر الحرب و دخل فیها، و قد بالغ علیه السّلام فی وصفهم بقلّه النوم لخوف الحرب و هجوم بعضهم على بعض و شدّه اهتمامهم بأمر القتال و حیرتهم فی تیه الباطل حتى ألحق قلّه نومهم بالسهد لاستلزامه عدم النوم فاستعار له لفظه و صیّره هو هو، و قوله و کحلهم دموع بالغ فی تشبیه دموعهم بالکحل و صیّره هو هو. و وجه المشابهه أنّ الدموع لکثرته منهم و ملازمته أجفانهم أشبه فی ذلک الأمر الکثیر المعتاد لعیونهم و هو الکحل فلذلک استعار لفظ الکحل له، و قوله بأرض عالمها ملجم و جاهلها مکرّم الجار و المجرور حکمه حکم الظرف الّذی قبله فیما یتعلّق به ثمّ إن حملنا خیر دار على الدنیا کان قوله بأرض تخصیصا لمکان الناس من الدنیا فکأنّه قال و الناس فی خیر دار هی الدنیا و هم منها بأرض من حالها أنّ عالمها ملجم بلجام الذلّ من أهلها عن الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر لعدم العلم بینهم و غلبه الجهل علیهم، و جاهلها مکرّم لمناسبته لهم فی الجهل و موافقته لهم على الباطل، و یکون المراد بتلک الأرض إمّا الشام أو العراق، و إن حملنا خیر دار على الشام أو العراق کان قوله بأرض من حالها کذا یجری مجرى البیان، و یکون الذّم اللاحق من هذا الکلام راجعا إلى أهل تلک الأرض لتعلّق إلجام العالم، و إکرام الجاهل بهم و إن نسب ذلک إلیها لکونهم بها إذ لو رددنا الذّم إلى الأرض لنا فی ذلک وصفه لها بأنّها خیر دار، و یحتمل أن یکون الواو فی قوله و الناس للحال و العامل أرسله، و الفتن المشاهر إلیها فی فتن العرب فی الجاهلیّه و حال البعثه و خیر دار یعنی مکّه و شرّ جیران یعنی قریشا، و العالم الملجم هو من کان حینئذ عالما بصدق الرسول و حقّ بعثته فهم ملجم بلجام التقیّه و الخوف، و الجاهل المکرّم هو من کذّبه و هذا الاحتمال حسن، و اعلم أنّ الّذی یتبادر إلى الذهن أنّ هذا القدر الّذی أورده السیّد من هذه الخطبه فصول ملفّقه لیست على نظامها الّتی خرجت علیه و إن کان کذلک فربّما یلوح لها لو انتظمت مقاصد توضح ما أورده الناس، و اختلفوا فیه منها، و اللّه أعلم،

القسم الثانی و منها یعنى آل النبی علیه الصلاه و السّلام

هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ وَ لَجَأُ أَمْرِهِ- وَ عَیْبَهُ عِلْمِهِ وَ مَوْئِلُ حُکْمِهِ- وَ کُهُوفُ کُتُبِهِ وَ جِبَالُ دِینِهِ- بِهِمْ أَقَامَ انْحِنَاءَ ظَهْرِهِ وَ أَذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ ب‏ئ

اللغه

ب‏ئ‏أقول: و اللجأ الملجأ، و الموئل المرجع من آل یؤول إلى کذا إذا رجع و انتهى إلیه، و الانحناء الاعوجاج، و الفرائض جمع فریضه و هی اللحمه الّتی بین الجنب و الکتف لا تزال ترعد من الدابّه،

المعنى

و قد وردت هذه القرائن الأربع بالسجع المتوازی، و الضمائر المفرده هاهنا کلّها راجعه إلى اللّه تعالى إلّا الضمیر فی ظهره و فرائضه فإنّهما للرسول صلى اللّه علیه و آله کما سبق ذکر اللّه و رسوله فی صدر الخطبه، و قیل الکلّ للرسول صلى اللّه علیه و آله، و أشار بکونهم موضع سرّه إلى کمال استعداد نفوسهم علیهم السّلام لأسرار اللّه و حکمته إذ الموضع الحقیقی للشی‏ء هو ما قبله و استعدّ له، و بکونهم ملجأ أمره إلى أنّهم الناصرون له و القائمون بأوامر اللّه و الذابّون عن الدین فإلیهم یلتجى‏ء و بهم یقوم سلطانه، و کونهم عیبه علمه مرادف لکونهم موضع سرّه إذ یقال فی العرف فلان عیبه العلم إذا کان موضع أسراره، و لفظ العیبه استعاره لنفوسهم الشریفه و وجه المشابهه ظاهر إذ العیبه لمّا کان من شأنها حفظ ما یودع فیها و صائنه عن التلف و الأدناس، و کانت أذهانهم الطاهره حافظه للعلم عن عدمه و صائنه له عن تدنّسه بأذهان غیر أهله لا جرم حسنت استعاره لفظ العیبه لأذهانهم، و بکونهم موئل حکمه إلى کونهم مرجعا لحکمته إذا ضلّت عن أذهان غیرهم فمنهم تطلب و عنهم تکتسب، و بکونهم کهوف کتبه إلى أنّهم أهل حفظها و دراستها و تفسیرها و عندهم علمها و تأویلها، و الکتب إشاره إلى القرآن و ما قبله من کتب اللّه کما نقل عنه علیه السّلام فی موضع آخر لو کسرت إلى الوساده ثمّ جلست علیها لحکمت بین أهل التوراه بتوراتهم و بین أهل الإنجیل بإنجیلهم و بین أهل الزبور بزبورهم و بین أهل الفرقان بفرقانهم، و اللّه ما من آیه نزلت فی برّ أو بحر أو سهل أو جبل أو سماء أو أرض أو لیل أو نهار إلّا و أنا أعلم فیمن نزلت و فی أیّ وقت نزلت، و استعاره لفظ الکهف قریبه من استعاره لفظ العیبه، و بکونهم جبال دینه إلى دین اللّه سبحانه‏ بهم یعتصم عن و صمات الشیاطین و تبدیلهم و تحریفهم کما یعتصم الخائف بالجبل ممّن یؤذیه و هی استعاره لطیفه، و قوله بهم أقام انحناء ظهره إشاره إلى أنّ اللّه سبحانه جعلهم له أعضادا یشدّون أزره و یقوّمون ظهره و یؤیّدون أمره، و انحناء الظهر کنایه عن ضعفه فی بدؤ الإسلام فبالحریّ أن یکون إقامتهم لانحناء ظهره تقویتهم ذلک الضعف بالنصره للدین و الذبّ عنه، و قوله و أذهب ارتعاد فرائضه أی أنّ اللّه أزال عنه بمعونتهم خوفه الّذی کان یتوقّعه من المشرکین على حوزه الدین و هو کنایه عن الشی‏ء ببعض لوازمه إذ کان ارتعاد الفرائض من لوازم شدّه الخوف، و کلّ هذه الامور ظاهره لأهله الأدنین من بنی هاشم کالعبّاس و حمزه و جعفر و علیّ بن أبی طالب فی الذبّ عن الرسول صلى اللّه علیه و آله و الهدایه إلیه و البلاء فی الدین و اللّه أعلم.

القسم الثالث و منها یعنى قوما آخرین:

زَرَعُوا الْفُجُورَ وَ سَقَوْهُ الْغُرُورَ وَ حَصَدُوا الثُّبُورَ- لَا یُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ ص مِنْ هَذِهِ الْأُمَّهِ أَحَدٌ- وَ لَا یُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَیْهِ أَبَداً- هُمْ أَسَاسُ الدِّینِ وَ عِمَادُ الْیَقِینِ- إِلَیْهِمْ یَفِی‏ءُ الْغَالِی وَ بِهِمْ یُلْحَقُ التَّالِی- وَ لَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَایَهِ- وَ فِیهِمُ الْوَصِیَّهُ وَ الْوِرَاثَهُ- الْآنَ إِذْ رَجَعَ الْحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ وَ نُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ ب‏ئ

اللغه

ب‏ئ‏أقول: الغرور الغفله، و الثبور الهلاک، و القیاس نسبه الشی‏ء إلى الشی‏ء و إلحاقه به فی الحکم، وفاء یفی‏ء رجع، و الغلوّ تجاوز الحدّ الّذی ینبغی إلى ما لا ینبغی، و التالی التابع، و الولایه الاسم من قولک و لیت الأمر إلیه ولیّا، و أصله القرب من الشی‏ء و الدنوّ منه، و الخصائص جمع خصیصه و هی فعیله بمعنى فاعله أى خاصّه أو مختصّه،

المعنى

و اعلم أنّ قوله زرعوا الفجور و سقوه‏ الغرور استعاره لطیفه فإنّ الفجور لمّا کان هو الخروج عن ملکه العفّه و الزهد و تجاوزها إلى طرف الإفراط منهم، و کان معنى الزرع إلقاء الحبّ فی الأرض استعار علیه السّلام لفظ الزرع لبذر الفجور فی أراضی قلوبهم، و لأنّ انتشاره عنهم و نموّه فیهم یشبه نموّ الزرع و انتشاره فی الأرض، و لمّا کان غرورهم و غفلتهم عن الطریق المستقیم بسبب عدولهم عنها و تجاوزهم إلى طرف الإفراط و مهاوی الهلاک و هو مادّه تمادیهم فی غیّهم و زیاده فجورهم و عدولهم عن سواء السبیل أشبه الماء الّذی هو سبب حیاه الزرع و نموّه و مادّه زیادته و لأجلها یناسب استعاره لفظ السقی الّذی هو خاصّه الماء له و نسبته إلیهم، ثمّ لمّا کانت غایه ذلک الفجور هلاکهم فی الدنیا بالسیف و فی الآخره بعذابها لا جرم أشبهت تلک الغایه الثمره فاستعیر لکونها غایه لهم لفظ الحصاد و نسب إلیهم و قد اشتملت لفظ هذه الألفاظ مع حسن الاستعاره على الترصیع قال الوبری- رحمه اللّه- الإشاره بهذا الکلام إلى الخوارج، و قیل فی المنافقین کما ورد مصرّحا به فی بعض النسخ، و أقول: یحتمل أن یکون متناولا لکلّ من نابذه علیه السّلام و خرج عن طاعته زاعما أنّه بذلک متعصّب للدین و ناصر له، و ذلک لأنّ الفجور کما عرفت عبور و تجاوز إلى طرف الإفراط و کلّ من نابذه و هو مدّعی أنّه طالب للحقّ فقد خرج فی طلبه للحقّ عن حاقّ العدل و تعدّاه إلى طرف الفجور و الغلوّ و یدخل فی ذلک القاسطون و هم أصحاب معاویه، و المارقون و هم الخوارج و من فی معناهم إذ زعم الکلّ أنّهم بقتاله طالبون للحقّ ناصرون له.

قوله لا یقاس بآل محمّد علیهم السّلام من هذه الأمّه أحد. إلى آخره. مدح لهم مستلزم لإسقاط غیرهم عن بلوغ درجتهم و استحقاق منزلتهم، و الکلام و إن کان عامّا فی تفضیل آل محمّد على کلّ من عداهم من امّته إلّا أنّه خرج على سبب و هو قتاله علیه السّلام مع معاویه فهو إذن مشیر إلى تفضیل نفسه على معاویه و عدم ترشّحه للخلافه، فقوله لا یقاس بآل محمّد من هذه الامّه أحد و لا یسوىّ بهم من جرت نعمتهم علیه أبدا. إشاره إلى عدم مناسبه غیرهم لهم فی الفضل، و النعمه هاهنا نعمه الدین و الإرشاد إلیه، و الحکم ظاهر الصدق فإنّ المنعم علیه بمثل هذه النعمه الّتی لا یمکن أحدا أن یقابلها بجزاء لا یتأهّل أبدا أن یصیر فی قوّه المنعم، و خواصّه الّذین اختصّهم بمزیدها على حسب استحقاقهم و استعدادهم التامّ الوافرعلى تأهّل غیرهم لها، و لا یبلغ درجتهم حتّى یقوم مقامهم مع وجودهم فی إفاضه هذه النعمه و إعداد سائر الأمّه لها و تعلیمهم و إرشادهم إلى کیفیّه الوصول بها إلى اللّه سبحانه، و قوله هم أساس الدین إشاره إلى أنّ بهم استقامته و ثباته، و تفرّعه عنهم کما یقوم البناء على أساسه، و کذلک قوله و عماد الیقین، و قوله إلیهم یفی‏ء الغالی إشاره إلى أنّ المتجاوز للفضائل الإنسانیّه الّتی مدارها على الحکمه و العفّه و الشجاعه و العداله إلى طرف الإفراط منها یرجع إلیهم و یهتدی بهم فی تحصیل هذه الفضائل لکونهم علیها إذا أخذ التوفیق بیده، و أشار بقوله و بهم یلحق التالی إلى أنّ المقصّر عن بلوغ هذه الفضائل المرتکب لطرف التفریط فی تحصیلها یلحق بهم عند طلبه لها و معونه اللّه له بالهدایه إلى ذلک، و قوله و لهم خصائص حقّ الولایه. إشاره إلى أنّ ولایه امور المسلمین و خلافه رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله لها خصائص هی موجوده فیهم و شروط بها یتأهّل الشخص لها و یستحقّها، و تلک الخصائص ما نبّهنا علیه من الفضائل الأربع النفسانیّه، و لا شکّ فی صدقه علیه السّلام فی ذلک فإنّ هذه الفضائل و إن وجد بعضها أو کلّها فی غیرهم فعنهم اخذ و إلیهم فیها انتسب، و هل یقائس بین البحر و الوشل، و قوله و فیهم الوصیّه و الوراثه إشاره إلى اختصاصه علیه السّلام بوصیّه رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله و اختصاص أهله بوراثته و قیل أراد بالوراثه. ما یراه هو أنّه أولى به من أمر الخلافه، و قوله الآن إذ رجع الحقّ إلى أهله و نقل إلى منتقله (فی بعض النسخ قد رجع) و ذلک إشاره منه علیه السّلام إلى أنّ الإمامه کانت فی غیر أهلها و أنّه هو أهلها و الآن وقت رجوعها إلیه بعد انتقالها عنه، و لفظ الحقّ و إن کان یحتمل حقّا آخر غیر الإمامه إلّا أنّها المتبادره إلى الذهن من اللفظ هاهنا و باللّه التوفیق و العصمه.

شرح‏ نهج‏ البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۲۴۹-۲۳۶

بازدیدها: ۱۳

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.