۸۳ و من کلام له ع فی ذکر عمرو بن العاص
عَجَباً لِابْنِ النَّابِغَهِ یَزْعُمُ لِأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِیَّ دُعَابَهٌ- وَ أَنِّی امْرُؤٌ تِلْعَابَهٌ أُعَافِسُ وَ أُمَارِسُ- لَقَدْ قَالَ بَاطِلًا وَ نَطَقَ آثِماً- أَمَا وَ شَرُّ الْقَوْلِ الْکَذِبُ إِنَّهُ لَیَقُولُ فَیِکْذِبُ وَ یَعِدُ فَیُخْلِفُ- وَ یُسْأَلُ فَیَبْخَلُ وَ یَسْأَلُ فَیُلْحِفُ وَ یَخُونُ الْعَهْدَ وَ یَقْطَعُ الْإِلَّ- فَإِذَا کَانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَیُّ زَاجِرٍ وَ آمِرٍ هُوَ- مَا لَمْ تَأْخُذِ السُّیُوفُ مَآخِذَهَا- فَإِذَا کَانَ ذَلِکَ کَانَ أَکْبَرُ [أَکْبَرَ] مَکِیدَتِهِ أَنْ یَمْنَحَ الْقَوْمَ سَبَّتَهُ- أَمَا وَ اللَّهِ إِنِّی لَیَمْنَعُنِی مِنَ اللَّعِبِ ذِکْرُ الْمَوْتِ- وَ إِنَّهُ لَیَمْنَعُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْیَانُ الآْخِرَهِ- وَ إِنَّهُ لَمْ یُبَایِعْ مُعَاوِیَهَ حَتَّى شَرَطَ لَهُ أَنْ یُؤْتِیَهُ أَتِیَّهً- وَ یَرْضَخَ لَهُ عَلَى تَرْکِ الدِّینِ رَضِیخَهً الدعابه المزاح دعب الرجل بالفتح- و رجل تلعابه بکسر التاء کثیر اللعب- و التلعاب بالفتح مصدر لعب- . و المعافسه المعالجه و المصارعه- و منه الحدیث عافسنا النساء و الممارسه نحوه- .
یقول ع إن عمرا یقدح فی عند أهل الشام بالدعابه و اللعب- و أنی کثیرالممازحه- حتى أنی ألاعب النساء و أغازلهن- فعل المترف الفارغ القلب- الذی تتقضى أوقاته بملاذ نفسه- . و یلحف یلح فی السؤال- قال تعالى لا یَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً- و منه المثل لیس للملحف مثل الرد- . و الإل العهد و لما اختلف اللفظان حسن التقسیم بهما- و إن کان المعنى واحدا- . و معنى قوله ما لم تأخذ السیوف مآخذها- أی ما لم تبلغ الحرب إلى أن تخالط الرءوس- أی هو ملیء بالتحریض و الإغراء قبل أن تلتحم الحرب- فإذا التحمت و اشتدت فلا یمکث و فعل فعلته التی فعل- . و السبه الاست و سبه یسبه طعنه فی السبه- . و یجوز رفع أکبر و نصبه- فإن رفعت فهو الاسم و إن نصبت فهو الخبر- . و الأتیه العطیه و الإیتاء الإعطاء- و رضخ له رضخا أعطاه عطاء بالکثیر- و هی الرضیخه لما یعطى
نسب عمرو بن العاص و طرف من أخباره
و نحن نذکر طرفا من نسب عمرو بن العاص- و أخباره إلى حین وفاته إن شاء الله- . هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعید بن سهم- بن عمرو بن هصیص بن کعب بن لؤی بن غالب بن فهر- بن مالک بن النضر یکنى أبا عبد الله و یقال أبو محمد- .
أبوه العاص بن وائل أحد المستهزءین برسول الله ص- و المکاشفین له بالعداوه و الأذى- و فیه و فی أصحابه أنزل قوله تعالى- إِنَّا کَفَیْناکَ الْمُسْتَهْزِئِینَ- . و یلقب العاص بن وائل فی الإسلام بالأبتر- لأنه قال لقریش سیموت هذا الأبتر غدا- فینقطع ذکره یعنی رسول الله ص- لأنه لم یکن له ص ولد ذکر یعقب منه- فأنزل الله سبحانه إِنَّ شانِئَکَ هُوَ الْأَبْتَرُ- . و کان عمرو أحد من یؤذی رسول الله ص بمکه- و یشتمه و یضع فی طریقه الحجاره- لأنه کان ص یخرج من منزله لیلا فیطوف بالکعبه- و کان عمرو یجعل له الحجاره فی مسلکه لیعثر بها- و هو أحد القوم الذین خرجوا إلى زینب ابنه رسول الله ص- لما خرجت مهاجره من مکه إلى المدینه- فروعوها و قرعوا هودجها بکعوب الرماح- حتى أجهضت جنینا میتا من أبی العاص بن الربیع بعلها- فلما بلغ ذلک رسول الله ص- نال منه و شق علیه مشقه شدیده و لعنهم- روى ذلک الواقدی- .
و روى الواقدی أیضا و غیره من أهل الحدیث- أن عمرو بن العاص هجا رسول الله ص هجاء کثیرا- کان یعلمه صبیان مکه- فینشدونه و یصیحون برسول الله إذا مر بهم- رافعین أصواتهم بذلک الهجاء-فقال رسول الله ص و هو یصلی بالحجر اللهم إن عمرو بن العاص هجانی- و لست بشاعر فالعنه بعدد ما هجانی- .
و روى أهل الحدیث أن النضر بن الحارث- و عقبه بن أبی معیط و عمرو بن العاص- عهدوا إلى سلی جمل فرفعوه بینهم- و وضعوه على رأس رسول الله ص و هو ساجد بفناء الکعبه- فسال علیه فصبر و لم یرفع رأسه- و بکى فی سجوده و دعا علیهم-فجاءت ابنته فاطمه ع و هی باکیه- فاحتضنت ذلک السلا فرفعته عنه فألقته- و قامت على رأسه تبکی فرفع رأسه ص-و قال اللهم علیک بقریش قالها ثلاثا- ثم قال رافعا صوته إنی مظلوم فانتصر قالها ثلاثاثم قام فدخل منزله و ذلک بعد وفاه عمه أبی طالب بشهرین- .
و لشده عداوه عمرو بن العاص لرسول الله ص- أرسله أهل مکه إلى النجاشی لیزهده فی الدین- و لیطرد عن بلاده مهاجره الحبشه- و لیقتل جعفر بن أبی طالب عنده إن أمکنه قتله- فکان منه فی أمر جعفر هناک ما هو مذکور مشهور فی السیر- و سنذکر بعضه- . فأما النابغه فقد ذکر الزمخشری فی کتاب ربیع الأبرار- قال کانت النابغه أم عمرو بن العاص- أمه لرجل من عنزه فسبیت- فاشتراها عبد الله بن جدعان التیمی بمکه- فکانت بغیا ثم أعتقها- فوقع علیها أبو لهب بن عبد المطلب- و أمیه بن خلف الجمحی و هشام بن المغیره المخزومی- و أبو سفیان بن حرب- و العاص بن وائل السهمی فی طهر واحد- فولدت عمرا فادعاه کلهم فحکمت أمه فیه- فقالت هو من العاص بن وائل- و ذاک لأن العاص بن وائل کان ینفق علیها کثیرا- قالوا و کان أشبه بأبی سفیان و فی ذلک یقول أبو سفیان بن الحارث- بن عبد المطلب فی عمرو بن العاص-
أبوک أبو سفیان لا شک قد بدت
لنا فیک منه بینات الشمائل
و قال أبو عمر بن عبد البر صاحب کتاب الإستیعاب- کان اسمها سلمى و تلقبت بالنابغه بنت حرمله- من بنی جلان بن عنزه بن أسد بن ربیعه بن نزارأصابها سباء- فصارت إلى العاص بن وائل- بعد جماعه من قریش فأولدها عمرا- . قال أبو عمر یقال إنه جعل لرجل ألف درهم- على أن یسأل عمرا و هو على المنبر من أمه فسأله- فقال أمی سلمى بنت حرمله تلقب بالنابغه- من بنی عنزه ثم أحد بنی جلان- و أصابتها راح العرب فبیعت بعکاظ- فاشتراها الفاکه بن المغیره- ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان- ثم صارت إلى العاص بن وائل فولدت فأنجبت- فإن کان جعل لک شیء فخذ- .
و قال المبرد فی کتاب الکامل اسمها لیلى- و ذکر هذا الخبر و قال إنها لم تکن فی موضع مرضی- قال المبرد و قال المنذر بن الجارود مره لعمرو بن العاص- أی رجل أنت لو لا أن أمک أمک- فقال إنی أحمد الله إلیک لقد فکرت البارحه فیها- فأقبلت أنقلها فی قبائل العرب ممن أحب أن تکون منها- فما خطرت لی عبد القیس على بال- . و قال المبرد و دخل عمرو بن العاص مکه- فرأى قوما من قریش قد جلسوا حلقه- فلما رأوه رمقوه بأبصارهم فعدل إلیهم- فقال أحسبکم کنتم فی شیء من ذکری قالوا أجل- کنا نمثل بینک و بین أخیک هشام بن العاص أیکما أفضل- فقال عمرو إن لهشام علی أربعه- أمه بنت هشام بن المغیره و أمی من قد عرفتم- و کان أحب إلى أبیه منی- و قد علمتم معرفه الوالد بولده- و أسلم قبلی و استشهد و بقیت- .
و روى أبو عبیده معمر بن المثنى فی کتاب الأنساب- أن عمرا اختصم فیه یوم ولادته رجلان- أبو سفیان بن حرب و العاص بن وائل فقیل لتحکم أمه- فقالت أمه إنه من العاص بن وائل- فقال أبو سفیان أما إنی لا أشک أنی وضعته فی رحم أمه- فأبت إلا العاص- . فقیل لها أبو سفیان أشرف نسبا- فقالت إن العاص بن وائل کثیر النفقه علی- و أبو سفیان شحیح- . ففی ذلک یقول حسان بن ثابت لعمرو بن العاص- حیث هجاه مکافئا له عن هجاء رسول الله ص-
أبوک أبو سفیان لا شک قد بدت
لنا فیک منه بینات الدلائل
ففاخر به إما فخرت و لا تکن
تفاخر بالعاص الهجین بن وائل
و إن التی فی ذاک یا عمرو حکمت
فقالت رجاء عند ذاک لنائل
من العاص عمرو تخبر الناس کلما
تجمعت الأقوام عند المحافل
مفاخره بین الحسن بن علی و رجالات من قریش
و روى الزبیر بن بکار فی کتاب المفاخرات- قال اجتمع عند معاویه عمرو بن العاص- و الولید بن عقبه بن أبی معیط- و عتبه بن أبی سفیان بن حرب و المغیره بن شعبه- و قد کان بلغهم عن الحسن بن علی ع قوارص- و بلغه عنهم مثل ذلک- فقالوا یا أمیر المؤمنین- إن الحسن قد أحیا أباه و ذکره و قال فصدق و أمر فأطیع- و خفقت له النعال و إن ذلک لرافعه إلى ما هو أعظم منه- و لا یزال یبلغنا عنه ما یسوءنا- . قال معاویه فما تریدون- قالوا ابعث علیه فلیحضر لنسبه و نسب أباه و نعیره- و نوبخه و نخبره أن أباه قتل عثمان و نقرره بذلک- و لا یستطیع أن یغیر علینا شیئا من ذلک- .
قال معاویه إنی لا أرى ذلک و لا أفعله- قالوا عزمنا علیک یا أمیر المؤمنین لتفعلن- فقال ویحکم لا تفعلوا- فو الله ما رأیته قط جالسا عندی إلا خفت مقامه و عیبه لی- قالوا ابعث إلیه على کل حال- قال إن بعثت إلیه لأنصفنه منکم- . فقال عمرو بن العاص أ تخشى أن یأتی باطله على حقنا- أو یربی قوله على قولنا- قال معاویه أما إنی إن بعثت إلیه- لآمرنه أن یتکلم بلسانه کله قالوا مره بذلک- . قال أما إذ عصیتمونی و بعثتم إلیه- و أبیتم إلا ذلک فلا تمرضوا له فی القول- و اعلموا أنهم أهل بیت لا یعیبهم العائب- و لا یلصق بهم العار و لکن اقذفوه بحجره- تقولون له إن أباک قتل عثمان- و کره خلافه الخلفاء من قبله- .
فبعث إلیه معاویه فجاءه رسوله- فقال إن أمیر المؤمنین یدعوک- . قال من عنده فسماهم له- فقال الحسن ع ما لهم خر علیهم السقف من فوقهم- و أتاهم العذاب من حیث لا یشعرون- ثم قال یا جاریه ابغینی ثیابی- اللهم إنی أعوذ بک من شرورهم- و أدرأ بک فی نحورهم و أستعین بک علیهم- فاکفنیهم کیف شئت و أنى شئت- بحول منک و قوه یا أرحم الراحمین- ثم قام فلما دخل على معاویه- أعظمه و أکرمه و أجلسه إلى جانبه- و قد ارتاد القوم و خطروا خطران الفحول- بغیا فی أنفسهم و علوا- ثم قال یا أبا محمد إن هؤلاء بعثوا إلیک و عصونی- .
فقال الحسن ع سبحان الله- الدار دارک و الإذن فیها إلیک- و الله إن کنت أجبتهم إلى ما أرادوا و ما فی أنفسهم- إنی لأستحیی لک من الفحش- و إن کانوا غلبوک على رأیک إنی لأستحیی لک من الضعف- فأیهما تقرر و أیهما تنکر- أما إنی لو علمت بمکانهم- جئت معی بمثلهم من بنی عبد المطلب- و ما لی أن أکون مستوحشا منک و لا منهم- إن ولیی الله و هو یتولى الصالحین- .
فقال معاویه یا هذا إنی کرهت أن أدعوک- و لکن هؤلاء حملونی على ذلک مع کراهتی له- و إن لک منهم النصف و منی- و إنما دعوناک لنقررک أن عثمان قتل مظلوما- و أن أباک قتله فاستمع منهم ثم أجبهم- و لا تمنعک وحدتک و اجتماعهم أن تتکلم بکل لسانک- . فتکلم عمرو بن العاص فحمد الله و صلى على رسوله- ثم ذکر علیا ع- فلم یترک شیئا یعیبه به إلا قاله- و قال إنه شتم أبا بکر و کره خلافته و امتنع من بیعته- ثم بایعه مکرها و شرک فی دم عمر و قتل عثمان ظلما- و ادعى من الخلافه ما لیس له- .
ثم ذکر الفتنه یعیره بها و أضاف إلیه مساوئ- و قال إنکم یا بنی عبد المطلب لم یکن الله- لیعطیکم الملک على قتلکم الخلفاء- و استحلالکم ما حرم الله من الدماء- و حرصکم على الملک و إتیانکم ما لا یحل- ثم إنک یا حسن تحدث نفسک أن الخلافه صائره إلیک- و لیس عندک عقل ذلک و لا لبه- کیف ترى الله سبحانه سلبک عقلک- و ترکک أحمق قریش یسخر منک و یهزأ بک- و ذلک لسوء عمل أبیک- و إنما دعوناک لنسبک و أباک- فأما أبوک فقد تفرد الله به و کفانا أمره- و أما أنت فإنک فی أیدینا نختار فیک الخصال- و لو قتلناک ما کان علینا إثم من الله- و لا عیب من الناس فهل تستطیع أن ترد علینا و تکذبنا- فإن کنت ترى أنا کذبنا فی شیء فاردده علینا فیما قلنا- و إلا فاعلم أنک و أباک ظالمان- ثم تکلم الولید بن عقبه بن أبی معیط- فقال یا بنی هاشم إنکم کنتم أخوال عثمان- فنعم الولد کان لکن فعرف حقکم- و کنتم أصهاره فنعم الصهر کان لکم- یکرمکم فکنتم أول من حسده- فقتله أبوک ظلما لا عذر له و لا حجه- فکیف ترون الله طلب بدمه و أنزلکم منزلتکم- و الله إن بنی أمیه خیر لبنی هاشم من بنی هاشم لبنی أمیه- و إن معاویه خیر لک من نفسک- .
ثم تکلم عتبه بن أبی سفیان- فقال یا حسن کان أبوک شر قریش لقریش- أسفکها لدمائها و أقطعها لأرحامها- طویل السیف و اللسان- یقتل الحی و یعیب المیت- و إنک ممن قتل عثمان و نحن قاتلوک به- و أما رجاؤک الخلافه فلست فی زندها قادحا- و لا فی میزانها راجحا- و إنکم یا بنی هاشم قتلتم عثمان- و إن فی الحق أن نقتلک و أخاک به- فأما أبوک فقد کفانا الله أمره و أقاد منه و أما أنت- فو الله ما علینا لو قتلناک بعثمان إثم و لا عدوان- . ثم تکلم المغیره بن شعبه فشتم علیا- و قال و الله ما أعیبه فی قضیه یخون و لا فی حکم یمیل- و لکنه قتل عثمان ثم سکتوا- .
فتکلم الحسن بن علی ع فحمد الله و أثنى علیه- و صلى على رسوله ص- ثم قال أما بعد یا معاویه- فما هؤلاء شتمونی و لکنک شتمتنی- فحشا ألفته و سوء رأی عرفت به- و خلقا سیئا ثبت علیه و بغیا علینا- عداوه منک لمحمد و أهله- و لکن اسمع یا معاویه- و اسمعوا فلأقولن فیک و فیهم ما هو دون ما فیکم- أنشدکم الله أیها الرهط- أ تعلمون أن الذی شتمتموه منذ الیوم- صلى القبلتین کلتیهما و أنت یا معاویه بهما کافر- تراها ضلاله و تعبد اللات و العزى غوایه- و أنشدکم الله هل تعلمون أنه بایع البیعتین کلتیهما- بیعه الفتح و بیعه الرضوان- و أنت یا معاویه بإحداهما کافر و بالأخرى ناکث- و أنشدکم الله هل تعلمون أنه أول الناس إیمانا- و أنک یا معاویه و أباک من المؤلفه قلوبهم- تسرون الکفر و تظهرون الإسلام و تستمالون بالأموال- و أنشدکم الله أ لستم تعلمون- أنه کان صاحب رایه رسول الله ص یوم بدر- و أن رایه المشرکین کانت مع معاویه و مع أبیه- ثم لقیکم یوم أحد و یوم الأحزاب و معه رایه رسول الله ص- و معک و مع أبیک رایه الشرک- و فی کل ذلک یفتح الله له و یفلج حجته- و ینصر دعوته و یصدق حدیثه- و رسول الله ص فی تلک المواطن کلها عنه راض- و علیک و على أبیک ساخط- و أنشدک الله یا معاویه- أ تذکر یوما جاء أبوک على جمل أحمر و أنت تسوقه- و أخوک عتبه هذا یقوده فرآکم رسول الله ص- فقال اللهم العن الراکب و القائد و السائق- أ تنسى یا معاویه الشعر الذی کتبته إلى أبیک- لما هم أن یسلم تنهاه عن ذلک-
یا صخر لا تسلمن یوما فتفضحنا
بعد الذین ببدر أصبحوا فرقا
خالی و عمی و عم الأم ثالثهم
و حنظل الخیر قد أهدى لنا الأرقا
لا ترکنن إلى أمر تکلفنا
و الراقصات به فی مکه الخرقا
فالموت أهون من قول العداه لقد
حاد ابن حرب عن العزى إذا فرقا
و الله لما أخفیت من أمرک أکبر مما أبدیت- و أنشدکم الله أیها الرهط أ تعلمون- أن علیا حرم الشهوات على نفسه بین أصحاب رسول الله ص- فأنزل فیه یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا- لا تُحَرِّمُوا طَیِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَکُمْ- و أن رسول الله ص بعث أکابر أصحابه إلى بنی قریظه- فنزلوا من حصنهم فهزموا فبعث علیا بالرایه- فاستنزلهم على حکم الله و حکم رسوله- و فعل فی خیبر مثلها-ثم قال یا معاویه أظنک لا تعلم- أنی أعلم ما دعا به علیک رسول الله ص- لما أراد أن یکتب کتابا إلى بنی خزیمه- فبعث إلیک ابن عباس فوجدک تأکل- ثم بعثه إلیک مره أخرى فوجدک تأکل- فدعا علیک الرسول بجوعک و نهمک إلى أن تموت- و أنتم أیها الرهط نشدتکم الله- أ لا تعلمون أن رسول الله ص لعن أبا سفیان فی سبعه مواطن- لا تستطیعون ردها-
أولها یوم لقی رسول الله ص خارجا من مکه إلى الطائف- یدعو ثقیفا إلى الدین- فوقع به و سبه و سفهه و شتمه و کذبه و توعده- و هم أن یبطش به- فلعنه الله و رسوله و صرف عنه-
و الثانیه یوم العیر- إذ عرض لها رسول الله ص و هی جائیه من الشام- فطردها أبو سفیان و ساحل بها فلم یظفر المسلمون بها- و لعنه رسول الله ص و دعا علیه- فکانت وقعه بدر لأجلها-
و الثالثه یوم أحد حیث وقف تحت الجبل- و رسول الله ص فی أعلاه و هو ینادی أعل هبل مرارا- فلعنه رسول الله ص عشر مرات و لعنه المسلمون-
و الرابعه یوم جاء بالأحزاب و غطفان و الیهود- فلعنه رسول الله و ابتهل-
و الخامسه یوم جاء أبو سفیان فی قریش- فصدوا رسول الله ص عن المسجد الحرام- و الهدی معکوفا أن یبلغ محله ذلک یوم الحدیبیه- فلعن رسول الله ص أبا سفیان و لعن القاده و الأتباع- و قال ملعونون کلهم و لیس فیهم من یؤمن- فقیل یا رسول الله- أ فما یرجى الإسلام لأحد منهم فکیف باللعنه- فقال لا تصیب اللعنه أحدا من الأتباع- و أما القاده فلا یفلح منهم أحد-
و السادسه یوم الجمل الأحمر-
و السابعه یوم وقفوا لرسول الله ص فی العقبه- لیستنفروا ناقته و کانوا اثنی عشر رجلا منهم أبو سفیان- فهذا لک یا معاویه و أما أنت یا ابن العاص- فإن أمرک مشترک- وضعتک أمک مجهولا من عهر و سفاح- فیک أربعه من قریش فغلب علیک جزارها- ألأمهم حسبا و أخبثهم منصبا ثم قام أبوک- فقال أنا شانئ محمد الأبتر فأنزل الله فیه ما أنزل- و قاتلت رسول الله ص فی جمیع المشاهد- و هجوته و آذیته بمکه و کدته کیدک کله- و کنت من أشد الناس له تکذیبا و عداوه- ثم خرجت ترید النجاشی مع أصحاب السفینه- لتأتی بجعفر و أصحابه إلى أهل مکه- فلما أخطأک ما رجوت و رجعک الله خائبا- و أکذبک واشیا جعلت حدک على صاحبک عماره بن الولید- فوشیت به إلى النجاشی حسدا لما ارتکب مع حلیلتک- ففضحک الله و فضح صاحبک- فأنت عدو بنی هاشم فی الجاهلیه و الإسلام- ثم إنک تعلم و کل هؤلاء الرهط یعلمون- أنک هجوت رسول الله ص بسبعین بیتا من الشعر-
فقال رسول الله ص اللهم إنی لا أقول الشعر و لا ینبغی لی- اللهم العنه بکل حرف ألف لعنه- فعلیک إذا من الله ما لا یحصى من اللعن و أما ذکرت من أمر عثمان- فأنت سعرت علیه الدنیا نارا ثم حلقت بفلسطین- فلما أتاک قتله قلت أنا أبو عبد الله- إذا نکأت قرحه أدمیتها- ثم حبست نفسک إلى معاویه- و بعت دینک بدنیاه فلسنا نلومک على بغض- و لا نعاتبک على ود- و بالله ما نصرت عثمان حیا و لا غضبت له مقتولا- ویحک یا ابن العاص أ لست القائل فی بنی هاشم- لما خرجت من مکه إلى النجاشی-
تقول ابنتی أین هذا الرحیل
و ما السیر منی بمستنکر
فقلت ذرینی فإنی امرؤ
أرید النجاشی فی جعفر
لأکویه عنده کیه
أقیم بها نخوه الأصعر
و شانئ أحمد من بینهم
و أقولهم فیه بالمنکر
و أجری إلى عتبه جاهدا
و لو کان کالذهب الأحمر
و لا أنثنی عن بنی هاشم
و ما اسطعت فی الغیب و المحضر
فإن قبل العتب منی له
و إلا لویت له مشفری
فهذا جوابک هل سمعته- و أما أنت یا ولید فو الله ما ألومک على بغض علی- و قد جلدک ثمانین فی الخمر- و قتل أباک بین یدی رسول الله صبرا- و أنت الذی سماه الله الفاسق و سمى علیا المؤمن- حیث تفاخرتما فقلت له اسکت یا علی- فأنا أشجع منک جنانا و أطول منک لسانا- فقال لک علی اسکت یا ولید فأنا مؤمن و أنت فاسق- فأنزل الله تعالى فی موافقه قوله- أَ فَمَنْ کانَ مُؤْمِناً کَمَنْ کانَ فاسِقاً لا یَسْتَوُونَ- ثم أنزل فیک على موافقه قوله أیضا- إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا- ویحک یا ولید مهما نسیت- فلا تنس قول الشاعر فیک و فیه-
أنزل الله و الکتاب عزیز
فی علی و فی الولید قرآنا
فتبوأ الولید إذ ذاک فسقا
و علی مبوأ إیمانا
لیس من کان مؤمنا عمرک الله
کمن کان فاسقا خوانا
سوف یدعى الولید بعد قلیل
و علی إلى الحساب عیانا
فعلی یجزى بذاک جنانا
و ولید یجزى بذاک هوانا
رب جد لعقبه بن أبان
لابس فی بلادنا تبانا
– و ما أنت و قریش إنما أنت علج من أهل صفوریه- و أقسم بالله لأنت أکبر فی المیلاد و أسن ممن تدعى إلیه- و أما أنت یا عتبه فو الله ما أنت بحصیف فأجیبک- و لا عاقل فأحاورک و أعاتبک- و ما عندک خیر یرجى و لا شر یتقى- و ما عقلک و عقل أمتک إلا سواء- و ما یضر علیا لو سببته على رءوس الأشهاد- و أما وعیدک إیای بالقتل- فهلا قتلت اللحیانی إذا وجدته على فراشک- أما تستحیی من قول نصر بن حجاج فیک-
یا للرجال و حادث الأزمان
و لسبه تخزی أبا سفیان
نبئت عتبه خانه فی عرسه
جبس لئیم الأصل من لحیان
و بعد هذا ما أربأ بنفسی عن ذکره لفحشه- فکیف یخاف أحد سیفک و لم تقتل فاضحک- و کیف ألومک على بغض علی- و قد قتل خالک الولید مبارزه یوم بدر- و شرک حمزه فی قتل جدک عتبه- و أوحدک من أخیک حنظله فی مقام واحد- و أما أنت یا مغیره فلم تکن بخلیق أن تقع فی هذا و شبهه- و إنما مثلک مثل البعوضه إذ قالت للنخله- استمسکی فإنی طائره عنک- فقالت النخله و هل علمت بک واقعه علی- فأعلم بک طائره عنی-و الله ما نشعر بعداوتک إیانا- و لا اغتممنا إذ علمنا بها و لا یشق علینا کلامک- و إن حد الله فی الزنا لثابت علیک- و لقد درأ عمر عنک حقا الله سائله عنه- و لقد سألت رسول الله ص- هل ینظر الرجل إلى المرأه یرید أن یتزوجها- فقال لا بأس بذلک یا مغیره ما لم ینو الزنا- لعلمه بأنک زان-
و أما فخرکم علینا بالإماره فإن الله تعالى یقول- وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِکَ قَرْیَهً أَمَرْنا مُتْرَفِیها- فَفَسَقُوا فِیها فَحَقَّ عَلَیْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِیراً- . ثم قام الحسن فنفض ثوبه و انصرف- فتعلق عمرو بن العاص بثوبه و قال یا أمیر المؤمنین- قد شهدت قوله فی و قذفه أمی بالزنا- و أنا مطالب له بحد القذف- فقال معاویه خل عنه لا جزاک الله خیرا فترکه- فقال معاویه قد أنبأتکم أنه ممن لا تطاق عارضته- و نهیتکم أن تسبوه فعصیتمونی- و الله ما قام حتى أظلم على البیت قوموا عنی- فلقد فضحکم الله و أخزاکم بترککم الحزم- و عدولکم عن رأی الناصح المشفق و الله المستعان
عمرو بن العاص و معاویه
و روى الشعبی- قال دخل عمرو بن العاص على معاویه یسأله حاجه- و قد کان بلغ معاویه عنه ما کرهه- فکره قضاءها و تشاغل- فقال عمرو یا معاویه إن السخاء فطنه و اللؤم تغافل- و الجفاء لیس من أخلاق المؤمنین- فقال معاویه یا عمرو- بما ذا تستحق منا قضاء الحوائج العظام- فغضب عمرو و قال بأعظم حق و أوجبه- إذ کنت فی بحر عجاج- فلو لا عمرو لغرقت فی أقل مائه و أرقه- و لکنی دفعتک فیه دفعه فصرت فی وسطه- ثم دفعتک فیه أخرى فصرت فی أعلى المواضع منه- فمضى حکمک و نفذ أمرک- و انطلق لسانک بعد تلجلجه- و أضاء وجهک بعد ظلمته- و طمست لک الشمس بالعهن المنفوش- و أظلمت لک القمر باللیله المدلهمه- . فتناوم معاویه و أطبق جفنیه ملیا- فخرج عمرو فاستوى معاویه جالسا- و قال لجلسائه أ رأیتم ما خرج من فم ذلک الرجل- ما علیه لو عرض ففی التعریض ما یکفی- و لکنه جبهنی بکلامه و رمانی بسموم سهامه- .
فقال بعض جلسائه یا أمیر المؤمنین- إن الحوائج لتقضى على ثلاث خصال- إما أن یکون السائل لقضاء الحاجه مستحقا فتقضى له بحقه- و إما أن یکون السائل لئیما- فیصون الشریف نفسه عن لسانه فیقضی حاجته- و إما أن یکون المسئول کریما فیقضیها لکرمه- صغرت أو کبرت- . فقال معاویه لله أبوک ما أحسن ما نطقت- و بعث إلى عمرو فأخبره و قضى حاجته و وصله بصله جلیله- فلما أخذها ولى منصرفا- فقال معاویه فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا- وَ إِنْ لَمْ یُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ یَسْخَطُونَ- فسمعها عمرو فالتفت إلیه مغضبا- و قال و الله یا معاویه لا أزال آخذ منک قهرا- و لا أطیع لک أمرا و أحفر لک بئرا عمیقا- إذا وقعت فیه لم تدرک إلا رمیما فضحک معاویه- فقال ما أریدک یا أبا عبد الله بالکلمه- و إنما کانت آیه تلوتها من کتاب الله عرضت بقلبی- فاصنع ما شئت
عبد الله بن جعفر و عمرو بن العاص فی مجلس معاویه
و روى المدائنی- قال بینا معاویه یوما جالسا عنده عمرو بن العاص- إذ قال الآذن قد جاء عبد الله بن جعفر بن أبی طالب- فقال عمرو و الله لأسوءنه الیوم- فقال معاویه لا تفعل یا أبا عبد الله فإنک لا تنصف منه- و لعلک أن تظهر لنا من منقبته ما هو خفی عنا- و ما لا نحب أن نعلمه منه- .
و غشیهم عبد الله بن جعفر فأدناه معاویه و قربه- فمال عمرو إلى بعض جلساء معاویه- فنال من علی ع جهارا غیر ساتر له- و ثلبه ثلبا قبیحا- . فالتمع لون عبد الله بن جعفر و اعتراه- أفکل حتى أرعدت خصائله ثم نزل عن السریر کالفنیق- فقال عمرو مه یا أبا جعفر- فقال له عبد الله مه لا أم لک- ثم قال
أظن الحلم دل علی قومی
و قد یستجهل الرجل الحلیم
ثم حسر عن ذراعیه- و قال یا معاویه حتام نتجرع غیظک- و إلى کم الصبر على مکروه قولک- و سیئ أدبک و ذمیم أخلاقک هبلتک الهبول- أ ما یزجرک ذمام المجالسه عن القذع لجلیسک- إذا لم تکن لک حرمه من دینک تنهاک عما لا یجوز لک- أما و الله لو عطفتک أواصر الأرحام- أو حامیت على سهمک من الإسلام- ما أرعیت بنی الإماء المتک- و العبید الصک أعراض قومک- . و ما یجهل موضع الصفوه إلا أهل الجفوه- و إنک لتعرف وشائظ قریش و صبوه غرائزها- فلا یدعونک تصویب ما فرط من خطئک- فی سفک دماء المسلمین و محاربه أمیر المؤمنین- إلى التمادی فیما قد وضح لک الصواب فی خلافه- فاقصد لمنهج الحق- فقد طال عمهک عن سبیل الرشد- و خبطک فی بحور ظلمه الغی- .
فإن أبیت إلا تتابعنا فی قبح اختیارک لنفسک- فأعفنا من سوء القاله فینا إذا ضمنا و إیاک الندی- و شأنک و ما ترید إذا خلوت و الله حسیبک- فو الله لو لا ما جعل الله لنا فی یدیک لما أتیناک- . ثم قال إنک إن کلفتنی ما لم أطق- ساءک ما سرک منی من خلق- . فقال معاویه یا أبا جعفر أقسمت علیک لتجلسن- لعن الله من أخرج ضب صدرک من وجاره- محمول لک ما قلت و لک عندنا ما أملت- فلو لم یکن محمدک و منصبک- لکان خلقک و خلقک شافعین لک إلینا- و أنت ابن ذی الجناحین و سید بنی هاشم- . فقال عبد الله کلا- بل سید بنی هاشم حسن و حسین لا ینازعهما فی ذلک أحد- . فقال أبا جعفر أقسمت علیک- لما ذکرت حاجه لک إلا قضیتها کائنه ما کانت- و لو ذهبت بجمیع ما أملک- فقال أما فی هذا المجلس فلا ثم انصرف- . فأتبعه معاویه بصره- و قال و الله لکأنه رسول الله ص- مشیه و خلقه و خلقه و إنه لمن مشکاته- و لوددت أنه أخی بنفیس ما أملک- . ثم التفت إلى عمرو فقال أبا عبد الله- ما تراه منعه من الکلام معک- قال ما لا خفاء به عنک- قال أظنک تقول إنه هاب جوابک لا و الله- و لکنه ازدراک و استحقرک و لم یرک للکلام أهلا- أ ما رأیت إقباله علی دونک ذاهبا بنفسه عنک- . فقال عمرو فهل لک أن تسمع ما أعددته لجوابه- قال معاویه اذهب إلیک أبا عبد الله- فلاه حین جواب سائر الیوم- . و نهض معاویه و تفرق الناس
عبد الله بن العباس و رجالات قریش فی مجلس معاویه
و روى المدائنی أیضا- قال وفد عبد الله بن عباس على معاویه مره- فقال معاویه لابنه یزید و لزیاد بن سمیه- و عتبه بن أبی سفیان و مروان بن الحکم- و عمرو بن العاص و المغیره بن شعبه و سعید بن العاص- و عبد الرحمن بن أم الحکم- إنه قد طال العهد بعبد الله بن عباس- و ما کان شجر بیننا و بینه و بین ابن عمه- و لقد کان نصبه للتحکیم فدفع عنه- فحرکوه على الکلام لنبلغ حقیقه صفته- و نقف على کنه معرفته- و نعرف ما صرف عنا من شبا حده و زوی عنا من دهاء رأیه- فربما وصف المرء بغیر ما هو فیه- و أعطی من النعت و الاسم ما لا یستحقه- . ثم أرسل إلى عبد الله بن عباس-
فلما دخل و استقر به المجلس ابتدأه ابن أبی سفیان- فقال یا ابن عباس ما منع علیا أن یوجه بک حکما- فقال أما و الله لو فعل لقرن عمرا بصعبه من الإبل- یوجع کفه مراسها و لأذهلت عقله و أجرضته بریقه- و قدحت فی سویداء قلبه فلم یبرم أمرا و لم ینفض ترابا- إلا کنت منه بمرأى و مسمع- فإن أنکأه أدمیت قواه- و إن أدمه فصمت عراه بغرب مقول لا یقل حده- و أصاله رأی کمتاح الأجل لا وزر منه أصدع به أدیمه- و أفل به شبا حده و أشحذ به عزائم المتقین- و أزیح به شبه الشاکین- .
فقال عمرو بن العاص- هذا و الله یا أمیر المؤمنین نجوم أول الشر- و أفول آخر الخیر و فی حسمه قطع مادته- فبادره بالحمله و انتهز منه الفرصه- و اردع بالتنکیل به غیره و شرد به من خلفه- .فقال ابن عباس یا ابن النابغه ضل و الله عقلک- و سفه حلمک و نطق الشیطان على لسانک- هلا تولیت ذلک بنفسک یوم صفین حین دعیت نزال- و تکافح الأبطال و کثرت الجراح و تقصفت الرماح- و برزت إلى أمیر المؤمنین مصلولا- فانکفأ نحوک بالسیف حاملا- فلما رأیت الکواشر من الموت- أعددت حیله السلامه قبل لقائه- و الانکفاء عنه بعد إجابه دعائه- فمنحته رجاء النجاه عورتک- و کشفت له خوف بأسه سوأتک- حذرا أن یصطلمک بسطوته و یلتهمک بحملته- ثم أشرت على معاویه کالناصح له بمبارزته- و حسنت له التعرض لمکافحته رجاء أن تکتفی مئونته- و تعدم صورته فعلم غل صدرک- و ما انحنت علیه من النفاق أضلعک- و عرف مقر سهمک فی غرضک- .
فاکفف غرب لسانک و اقمع عوراء لفظک- فإنک لمن أسد خادر و بحر زاخر- إن تبرزت للأسد افترسک و إن عمت فی البحر قمسک- . فقال مروان بن الحکم یا ابن عباس- إنک لتصرف أنیابک و توری نارک- کأنک ترجو الغلبه و تؤمل العافیه- و لو لا حلم أمیر المؤمنین عنکم لتناولکم بأقصر أنامله- فأوردکم منهلا بعیدا صدره- و لعمری لئن سطا بکم لیأخذن بعض حقه منکم- و لئن عفا عن جرائرکم فقدیما ما نسب إلى ذلک- .
فقال ابن عباس و إنک لتقول ذلک یا عدو الله- و طرید رسول الله و المباح دمه- و الداخل بین عثمان و رعیته- بما حملهم على قطع أوداجه و رکوب أثباجه- أما و الله لو طلب معاویه ثأره لأخذک به- و لو نظر فی أمر عثمان لوجدک أوله و آخره- . و أما قولک لی إنک لتصرف أنیابک و توری نارک- فسل معاویه و عمرا یخبراک لیله الهریر- کیف ثباتنا للمثلات و استخفافنا بالمعضلات- و صدق جلادنا عند المصاوله- و صبرنا على اللأواء و المطاوله- و مصافحتنا بجباهنا السیوف المرهفه- و مباشرتنا بنحورنا حد الأسنه- هل خمنا عن کرائم تلک المواقف- أم لم نبذل مهجنا للمتالف- و لیس لک إذ ذاک فیها مقام محمود- و لا یوم مشهود و لا أثر معدود- و إنهما شهدا ما لو شهدت لأقلقک- فأربع على ظلعک و لا تتعرض لما لیس لک- فإنک کالمغروز فی صفد لا یهبط برجل و لا یرقى بید- .
فقال زیاد یا ابن عباس- إنی لأعلم ما منع حسنا و حسینا- من الوفود معک على أمیر المؤمنین- إلا ما سولت لهما أنفسهما- و غرهما به من هو عند البأساء سلمهما- و ایم الله لو ولیتهما- لأدأبا فی الرحله إلى أمیر المؤمنین أنفسهما- و لقل بمکانهما لبثهما- . فقال ابن عباس إذن و الله یقصر دونهما باعک- و یضیق بهما ذراعک- و لو رمت ذلک لوجدت من دونهما فئه صدقا- صبرا على البلاء لا یخیمون عن اللقاء- فلعرکوک بکلاکلهم و وطئوک بمناسمهم- و أوجروک مشق رماحهم و شفار سیوفهم و و خز أسنتهم- حتى تشهد بسوء ما أتیت- و تتبین ضیاع الحزم فیما جنیت- فحذار حذار من سوء النیه فتکافأ برد الأمنیه- و تکون سببا لفساد هذین الحیین بعد صلاحهما- و سعیا فی اختلافهما بعد ائتلافهما- حیث لا یضرهما إبساسک و لا یغنی عنهما إیناسک- .
فقال عبد الرحمن بن أم الحکم لله در ابن ملجم- فقد بلغ الأمل و أمن الوجل- و أحد الشفره و الآن المهره و أدرک الثأر و نفى العار- و فاز بالمنزله العلیا و رقی الدرجه القصوى- . فقال ابن عباس أما و الله- لقد کرع کأس حتفه بیده و عجل الله إلى النار بروحه-و لو أبدى لأمیر المؤمنین صفحته- لخالطه الفحل القطم و السیف الخذم و لألعقه صابا- و سقاه سما و ألحقه بالولید و عتبه و حنظله- فکلهم کان أشد منه شکیمه و أمضى عزیمه- ففرى بالسیف هامهم و رملهم بدمائهم- و قرى الذئاب أشلاءهم و فرق بینهم و بین أحبائهم- أولئک حصب جهنم هم لها واردون- و هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم رکزا- و لا غرو إن ختل و لا وصمه إن قتل- فإنا لکما قال درید بن الصمه-
فإنا للحم السیف غیر مکره
و نلحمه طورا و لیس بذی نکر
یغار علینا واترین فیشتفى
بنا إن أصبنا أو نغیر على وتر
فقال المغیره بن شعبه- أما و الله لقد أشرت على علی بالنصیحه فآثر رأیه- و مضى على غلوائه فکانت العاقبه علیه لا له- و إنی لأحسب أن خلقه یقتدون بمنهجه- . فقال ابن عباس کان و الله- أمیر المؤمنین ع أعلم بوجوه الرأی- و معاقد الحزم و تصریف الأمور- من أن یقبل مشورتک فیما نهى الله عنه و عنف علیه- قال سبحانه لا تَجِدُ قَوْماً یُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ- یُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ- و لقد وقفک على ذکر مبین و آیه متلوه قوله تعالى- وَ ما کُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّینَ عَضُداً- و هل کان یسوغ له- أن یحکم فی دماء المسلمین و فیء المؤمنین- من لیس بمأمون عنده و لا موثوق به فی نفسه- هیهات هیهات هو أعلم بفرض الله و سنه رسوله- أن یبطن خلاف ما یظهر إلا للتقیه و لات حین تقیه- مع وضوح الحق و ثبوت الجنان و کثره الأنصار- یمضی کالسیف المصلت فی أمر الله مؤثرا لطاعه ربه- و التقوى على آراء أهل الدنیا- . فقال یزید بن معاویه یا ابن عباس- إنک لتنطق بلسان طلق ینبئ عن مکنون قلب حرق- فاطو ما أنت علیه کشحا فقد محا ضوء حقنا ظلمه باطلکم- .
فقال ابن عباس مهلا یزید- فو الله ما صفت القلوب لکم- منذ تکدرت بالعداوه علیکم- و لا دنت بالمحبه إلیکم مذ نأت بالبغضاء عنکم- لا رضیت الیوم منکم ما سخطت بالأمس من أفعالکم- و إن تدل الأیام نستقض ما سد عنا- و نسترجع ما ابتز منا کیلا بکیل و وزنا بوزن- و إن تکن الأخرى فکفى بالله ولیا لنا- و وکیلا على المعتدین علینا- . فقال معاویه إن فی نفسی منکم لحزازات یا بنی هاشم- و إنی لخلیق أن أدرک فیکم الثأر و أنفی العار- فإن دماءنا قبلکم و ظلامتنا فیکم- .
فقال ابن عباس و الله إن رمت ذلک یا معاویه- لتثیرن علیک أسدا مخدره و أفاعی مطرقه- لا یفثؤها کثره السلاح و لا یعضها نکایه الجراح- یضعون أسیافهم على عواتقهم- یضربون قدما قدما من ناوأهم- یهون علیهم نباح الکلاب و عواء الذئاب-لا یفاتون بوتر و لا یسبقون إلى کریم ذکر- قد وطنوا على الموت أنفسهم- و سمت بهم إلى العلیاء هممهم کما قالت الأزدیه-
قوم إذا شهدوا الهیاج فلا
ضرب ینهنههم و لا زجر
و کأنهم آساد غینه قد
غرثت و بل متونها القطر
فلتکونن منهم بحیث أعددت لیله الهریر للهرب فرسک- و کان أکبر همک سلامه حشاشه نفسک- و لو لا طغام من أهل الشام وقوک بأنفسهم- و بذلوا دونک مهجهم حتى إذا ذاقوا وخز الشفار- و أیقنوا بحلول الدمار رفعوا المصاحف مستجیرین بها- و عائذین بعصمتها لکنت شلوا مطروحا بالعراء- تسفی علیک ریاحها و یعتورک ذبابها- . و ما أقول هذا أرید صرفک عن عزیمتک- و لا إزالتک عن معقود نیتک- لکن الرحم التی تعطف علیک- و الأوامر التی توجب صرف النصیحه إلیک- .
فقال معاویه لله درک یا ابن عباس- ما تکشف الأیام منک إلا عن سیف صقیل و رأی أصیل- و بالله لو لم یلد هاشم غیرک لما نقص عددهم- و لو لم یکن لأهلک سواک لکان الله قد کثرهم- . ثم نهض فقام ابن عباس و انصرف- . و روى أبو العباس أحمد بن یحیى ثعلب فی أمالیه- أن عمرو بن العاص قال لعتبه بن أبی سفیان یوم الحکمین- أ ما ترى ابن عباس قد فتح عینیه و نشر أذنیه- و لو قدر أن یتکلم بهما فعل- و إن غفله أصحابه لمجبوره بفطنته- و هی ساعتنا الطولى فاکفنیه- . قال عتبه بجهدی- .
قال فقمت فقعدت إلى جانبه- فلما أخذ القوم فی الکلام أقبلت علیه بالحدیث- فقرع یدی و قال لیست ساعه حدیث- قال فأظهرت غضبا و قلت یا ابن عباس- إن ثقتک بأحلامنا أسرعت بک إلى أعراضنا- و قد و الله تقدم من قبل العذر و کثر منا الصبر- ثم أقذعته فجاش لی مرجله و ارتفعت أصواتنا- فجاء القوم فأخذوا بأیدینا فنحوه عنی و نحونی عنه- فجئت فقربت من عمرو بن العاص فرمانی بمؤخر عینیه- و قال ما صنعت فقلت کفیتک التقواله- فحمحم کما یحمحم الفرس للشعیر- قال و فات ابن عباس أول الکلام فکره أن یتکلم فی آخره- . و قد ذکرنا نحن هذا الخبر فیما تقدم- فی أخبار صفین على وجه آخر غیر هذا الوجه
عماره بن الولید و عمرو بن العاص فی الحبشه
فأما خبر عماره بن الولید بن المغیره المخزومی- أخی خالد بن الولید مع عمرو بن العاص- فقد ذکره ابن إسحاق فی کتاب المغازی قال- کان عماره بن الولید بن المغیره- و عمرو بن العاص بن وائل بعد مبعث رسول الله ص- خرجا إلى أرض الحبشه على شرکهما- و کلاهما کان شاعرا عارما فاتکا- . و کان عماره بن الولید رجلا جمیلا وسیما تهواه النساء- صاحب محادثه لهن- فرکبا البحر و مع عمرو بن العاص امرأته- حتى إذا صاروا فی البحر لیالی أصابا من خمر معهما- فلما انتشى عماره قال لامرأه عمرو بن العاص قبلینی- فقال لها عمرو قبلی ابن عمک فقبلته فهویها عماره- و جعل یراودها عن نفسها فامتنعت منه- ثم إن عمرا جلس على منجاف السفینه یبول- فدفعه عماره فی البحر فلما وقع عمرو سبح- حتى أخذ بمنجاف السفینه-.
فقال له عماره أما و الله لو علمت أنک سابح ما طرحتک- و لکننی کنت أظن أنک لا تحسن السباحه- فضغن عمرو علیه فی نفسه و علم أنه کان أراد قتله- و مضیا على وجههما ذلک حتى قدما أرض الحبشه- فلما نزلاها کتب عمرو إلى أبیه العاص بن وائل أن اخلعنی- و تبرأ من جریرتی إلى بنی المغیره و سائر بنی مخزوم- و خشی على أبیه أن یتبغ بجریرته- فلما قدم الکتاب على العاص بن وائل- مشى إلى رجال بنی المغیره و بنی مخزوم- فقال إن هذین الرجلین قد خرجا حیث علمتم- و کلاهما فاتک صاحب شر غیر مأمونین على أنفسهما- و لا أدری ما یکون منهما- و إنی أبرأ إلیکم من عمرو و جریرته فقد خلعته- فقال عند ذلک بنو المغیره و بنو مخزوم- و أنت تخاف عمرا على عماره- و نحن فقد خلعنا عماره و تبرأنا إلیک من جریرته- فحل بین الرجلین قال قد فعلت- فخلعوهما و برئ کل قوم من صاحبهم و ما یجری منه- .
قال فلما اطمأنا بأرض الحبشه- لم یلبث عماره بن الولید أن دب لامرأه النجاشی- و کان جمیلا صبیحا وسیما فأدخلته فاختلف إلیها- و جعل إذا رجع من مدخله ذلک یخبر عمرا بما کان من أمره- فیقول عمرو لا أصدقک أنک قدرت على هذا- إن شأن هذه المرأه أرفع من ذلک- فلما أکثر علیه عماره بما کان یخبره- و کان عمرو قد علم صدقه و عرف أنه دخل علیها- و رأى من حاله و هیئته و ما تصنع المرأه به إذا کان معها- و بیتوتته عندها حتى یأتی إلیه مع السحر ما عرف به ذلک- و کانا فی منزل واحد- و لکنه کان یرید أن یأتیه بشیء لا یستطاع دفعه- إن هو رفع شأنه إلى النجاشی- فقال له فی بعض ما یتذاکران من أمرها- إن کنت صادقا فقل لها فلتدهنک بدهن النجاشی- الذی لا یدهن به غیره فإنی أعرفه- و ائتنی بشیء منه حتى أصدقک قال أفعل- .
فجاء فی بعض ما یدخل إلیها فسألها ذلک فدهنته منه- و أعطته شیئا فی قاروره فلما شمه عمرو عرفه- فقال أشهد أنک قد صدقت- لقد أصبت شیئا ما أصاب أحد من العرب مثله قط- و نلت من امرأه الملک شیئا ما سمعنا بمثل هذا- و کانوا أهل جاهلیه و شبانا- و ذلک فی أنفسهم فضل لمن أصابه و قدر علیه- . ثم سکت عنه حتى اطمأن و دخل على النجاشی-
فقال أیها الملک إن معی سفیها من سفهاء قریش- و قد خشیت أن یعرنی عندک أمره- و أردت أن أعلمک بشأنه- و ألا أرفع ذلک إلیک حتى استثبت- أنه قد دخل على بعض نسائک فأکثر- و هذا دهنک قد أعطته و ادهن به- . فلما شم النجاشی الدهن قال صدقت- هذا دهنی الذی لا یکون إلا عند نسائی- فلما أثبت أمره دعا بعماره و دعا نسوه أخر- فجردوه من ثیابه- ثم أمرهن أن ینفخن فی إحلیله ثم خلى سبیله- . فخرج هاربا فی الوحش فلم یزل فی أرض الحبشه- حتى کانت خلافه عمر بن الخطاب- فخرج إلیه رجال من بنی المغیره- منهم عبد الله بن أبی ربیعه بن المغیره- و کان اسم عبد الله قبل أن یسلم بجیرا- فلما أسلم سماه رسول الله ص عبد الله- فرصدوه على ماء بأرض الحبشه کان یرده مع الوحش- فزعموا أنه أقبل فی حمر من حمر الوحش لیرد معها- فلما وجد ریح الإنس هرب منه حتى إذا أجهده العطش- ورد فشرب حتى تملأ و خرجوا فی طلبه- .
قال عبد الله بن أبی ربیعه فسبقت إلیه فالتزمته- فجعل یقول أرسلنی أنی أموت إن أمسکتنی- قال عبد الله فضبطته فمات فی یدی مکانه- فواروه ثم انصرفوا- . و کان شعره فیما یزعمون قد غطى کل شیء منه- فقال عمرو بن العاص یذکر ما کان صنع به- و ما أراد من امرأته-
تعلم عمار أن من شر سنه
على المرء أن یدعى ابن عم له ابنما
أ أن کنت ذا بردین أحوى مرجلا
فلست براع لابن عمک محرما
إذا المرء لم یترک طعاما یحبه
و لم ینه قلبا غاویا حیث یمما
قضى وطرا منه یسیرا و أصبحت
إذا ذکرت أمثالها تملأ الفما
أمر عمرو بن العاص مع جعفر بن أبی طالب فی الحبشه
و أما خبر عمرو بن العاص فی شخوصه إلى الحبشه- لیکید جعفر بن أبی طالب- و المهاجرین من المؤمنین عند النجاشی- فقد رواه کل من صنف فی السیره- قال محمد بن إسحاق فی کتاب المغازی قال- حدثنی محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهری- عن أبی بکر بن عبد الرحمن- بن الحارث بن هشام المخزومی- عن أم سلمه بنت أبی أمیه بن المغیره المخزومیه- زوجه رسول الله ص- قالت لما نزلنا بأرض الحبشه جاورنا بها خیر جار- النجاشی أمنا على دیننا- و عبدنا الله لا نؤذى کما کنا نؤذى بمکه- و لا نسمع شیئا نکرهه- فلما بلغ ذلک قریشا ائتمروا بینهم- أن یبعثوا إلى النجاشی فی أمرنا رجلین منهم جلدین- و أن یهدوا للنجاشی هدایا مما یستطرف من متاع مکه- و کان من أعجب ما یأتیه منه الأدم فجمعوا أدما کثیرا- و لم یترکوا من بطارقته بطریقا إلا أهدوا إلیه هدیه- ثم بعثوا بذلک مع عبد الله بن أبی ربیعه- بن المغیره المخزومی و عمرو بن العاص بن وائل السهمی- و أمروهما أمرهم و قالوا لهما ادفعا إلى کل بطریق هدیته- قبل أن تکلما النجاشی فیهم- .
ثم قدما إلى النجاشی و نحن عنده فی خیر دار عند خیر جار- فلم یبق من بطارقته بطریق إلا دفعا إلیه هدیته- قبل أن یکلما النجاشی ثم قالا للبطارقه- أنه قد فر إلى بلد الملک منا غلمان سفهاء- فارقوا دین قومهم و لم یدخلوا فی دینکم- و جاءوا بدین مبتدع لا نعرفه نحن و لا أنتم- و قد بعثنا إلى الملک أشراف قومهم لنردهم إلیهم- فإذا کلمنا الملک فیهم فأشیروا علیه- أن یسلمهم إلینا و لا یکلمهم- فإن قومهم أعلى بهم عینا- و أعلم بما عابوا علیهم فقالوا لهما نعم- .
ثم إنهما قربا هدایا الملک إلیه فقبلها منهم- ثم کلماه فقالا له- أیها الملک قد فر إلى بلادک منا غلمان سفهاء- فارقوا دین قومهم و لم یدخلوا فی دینک- جاءوا بدین ابتدعوه لا نعرفه نحن و لا أنت- و قد بعثنا فیهم إلیک أشراف قومنا- من آبائهم و أعمامهم و عشائرهم- لتردهم علیهم فهم أعلى بهم عینا- و أعلم بما عابوا علیهم و عاینوه منهم- . قالت أم سلمه و لم یکن شیء أبغض- إلى عبد الله بن أبی ربیعه و عمرو بن العاص- من أن یسمع النجاشی کلامهم- . فقالت بطارقه الملک و خواصه حوله صدقا أیها الملک- قومهم أعلى بهم عینا و أعلمبما عابوا علیهم- فلیسلمهم الملک إلیهما لیرادهم إلى بلادهم و قومهم- .
فغضب الملک و قال لا ها الله إذا لا أسلمهم إلیهما- و لا أخفر قوما جاورونی و نزلوا بلادی- و اختارونی على سوای- حتى أدعوهم و أسألهم عما یقول هذان فی أمرهم- فإن کانوا کما یقولون أسلمتهم إلیهما- و رددتهم إلى قومهم و إن کانوا على غیر ذلک منعتهم منهم- و أحسنت جوارهم ما جاورونی- .
قالت ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله ص فدعاهم- فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض- ما تقولون للرجل إذا جئتموه- قالوا نقول و الله ما علمناه- و ما أمرنا به نبینا ص کائنا فی ذلک ما هو کائن- فلما جاءوه و قد دعا النجاشی أساقفته- فنشروا مصاحفهم حوله سألهم- فقال لهم ما هذا الدین الذی فارقتم فیه قومکم- و لم تدخلوا فی دینی و لا فی دین أحد من هذه الملل- قالت أم سلمه و کان الذی کلمه جعفر بن أبی طالب فقال له- أیها الملک إنا کنا قوما فی جاهلیه نعبد الأصنام- و نأکل المیته و نأتی الفواحش- و نقطع الأرحام و نسیء الجوار و یأکل القوی منا الضعیف- فکنا على ذلک حتى بعث الله عز و جل علینا رسولا منا- نعرف نسبه و صدقه و أمانته و عفافه- فدعانا إلى الله لنوحده و نعبده- و نخلع ما کنا علیه نحن و آباؤنا من دونه- من الحجاره و الأوثان و أمرنا بصدق الحدیث- و أداء الأمانه و صله الرحم و حسن التجاور- و الکف عن المحارم و الدماء- و نهانا عن سائر الفواحش و قول الزور- و أکل مال الیتیم و قذف المحصنه- و أمرنا أن نعبد الله لا نشرک به شیئا- و بالصلاه و بالزکاه و الصیام- .
قالت فعدد علیه أمور الإسلام کلها فصدقناه و آمنا به- و اتبعناه على ما جاء به من الله- فعبدنا الله وحده فلم نشرک به شیئا- و حرمنا ما حرم علینا و أحللنا ما أحل لنا- فعدا علینا قومنا فعذبونا و فتنونا عن دیننا- لیردونا إلى عباده الأصنام و الأوثان عن عباده الله- و أن نستحل ما کنا نستحل من الخبائث- فلما قهرونا و ظلمونا و ضیقوا علینا- و حالوا بیننا و بین دیننا خرجنا إلى بلدک- و اخترناک على من سواک و رغبنا فی جوارک- و رجونا ألا نظلم عندک أیها الملک- .
فقال النجاشی فهل معک مما جاء به صاحبکم عن الله شیء- فقال جعفر نعم فقال اقرأه علی- فقرأ علیه صدرا من کهیعص فبکى حتى اخضلت لحیته- و بکت أساقفته حتى أخضلوا لحاهم- ثم قال النجاشی و الله إن هذا و الذی جاء به عیسى- لیخرج من مشکاه واحده و الله لا أسلمکم إلیهم- . قالت أم سلمه فلما خرج القوم من عنده- قال عمرو بن العاص و الله لأعیبهم غدا عنده- بما یستأصل به خضراءهم فقال له عبد الله بن أبی ربیعه- و کان أتقى الرجلین لا تفعل- فإن لهم أرحاما و إن کانوا قد خالفوا- قال و الله لأخبرنه غدا- أنهم یقولون فی عیسى ابن مریم أنه عبد- ثم غدا علیه من الغد فقال أیها الملک- إن هؤلاء یقولون فی عیسى ابن مریم قولا عظیما- فأرسل إلیهم فسلهم عما یقولون فیه فأرسل إلیهم- . قالت أم سلمه فما نزل بنا مثلها و اجتمع المسلمون- و قال بعضهم لبعض ما تقولون فی عیسى إذا سألکم عنه- فقال جعفر بن أبی طالب نقول فیه و الله ما قال عز و جل- و ما جاء به نبینا ع کائنا فی ذلک ما هو کائن- .
فلما دخلوا علیه قال لهم ما تقولون فی عیسى ابن مریم- فقال جعفر نقول إنه عبد الله و رسوله و روحه و کلمته- ألقاها إلى مریم العذراء البتول- . قالت فضرب النجاشی یدیه على الأرض- و أخذ منها عودا و قال- ما عدا عیسى ابن مریم ما قال هذا العود- . قالت فقد کانت بطارقته تناخرت حوله- حین قال جعفر ما قال فقال لهم النجاشی و إن تناخرتم- . ثم قال للمسلمین اذهبوا فأنتم سیوم بأرضی أی آمنون- من سبکم غرم ثم من سبکم غرم ثم من سبکم غرم- ما أحب أن لی دبرا ذهبا و أنی آذیت رجلا منکم- و الدبر بلسان الحبشه الجبل- ردوا علیهما هدایاهما فلا حاجه لی فیها- فو الله ما أخذ الله منی الرشوه حتى ردنی إلى ملکی- فآخذ الرشوه فیه و ما أطاع الناس فی أ فأطیعهم فیه- . قالت فخرج الرجلان من عنده مقبوحین- مردودا علیهما ما جاءا به- و أقمنا عنده فی خیر دار مع خیر جار- فو الله إنا لعلى ذلک- إذ نزل به رجل من الحبشه ینازعه فی ملکه- .
قالت أم سلمه فو الله ما أصابنا خوف و حزن قط- کان أشد من خوف و حزن نزل بنا- أن یظهر ذلک الرجل على النجاشی- فیأتی رجل لا یعرف من حقنا ما کان یعرف منه- . قالت و سار إلیه النجاشی و بینهما عرض النیل- فقال أصحاب رسول الله ص- من رجل یخرج حتى یحضر وقعه القوم ثم یأتینا بالخبر- فقال الزبیر بن العوام أنا- و کان من أحدث المسلمین سنا- فنفخوا له قربه فجعلناها تحت صدره- ثم سبح علیها حتى خرج إلى ناحیه النیل- التی بها یلتقی القوم ثم انطلق حتى حضرهم- قالت و دعونا الله للنجاشی بالظهور على عدوه- و التمکین له فی بلاده- فو الله إنا لعلى ذلک متوقعون لما هو کائن- إذ طلع الزبیر یسعى و یلوح بثوبه و یقول ألا أبشروا- فقد ظهر النجاشی و أهلک الله عدوه- . قالت فو الله ما أعلمنا فرحنا فرحه مثلها قط- و رجع النجاشی و قد أهلک الله عدوه- و تمکن و مکن له فی بلاده و استوثق له أمر الحبشه- فکنا عنده فی خیر منزل و دار- إلى أن رجعنا إلى رسول الله ص بمکه- .
و روی عن عبد الله بن جعفر بن محمد ع- أنه قال لقد کاد عمرو بن العاص عمنا جعفرا- بأرض الحبشه عند النجاشی و عند کثیر من رعیته- بأنواع الکید ردها الله تعالى عنه بلطفه- رماه بالقتل و السرق و الزنا- فلم یلصق به شیء من تلک العیوب- لما شاهده القوم من طهارته و عبادته- و نسکه و سیما النبوه علیه فلما نبا معوله عن صفاته- هیأ له سما قذفه إلیه فی طعام- فأرسل الله هرا کفأ تلک الصحفه- و قد مد یده نحو ثم مات لوقته و قد أکل منها- فتبین لجعفر کیده و غائلته فلم یأکل بعدها عنده- و ما زال ابن الجزار عدوا لنا أهل البیت
أمر عمرو بن العاص فی صفین
و أما خبر عمرو فی صفین و اتقائه حمله علی ع- بطرحه نفسه على الأرض و إبداء سوأته- فقد ذکره کل من صنف فی السیر کتابا- و خصوصا الکتب الموضوعه لصفین- .قال نصر بن مزاحم فی کتاب صفین قال- حدثنا محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبی عمرو- و عن عبد الرحمن بن حاطب- قال کان عمرو بن العاص عدوا للحارث بن نضر الخثعمی- و کان من أصحاب علی ع- و کان علی ع- قد تهیبته فرسان الشام و ملأ قلوبهم بشجاعته- و امتنع کل منهم من الإقدام علیه- و کان عمرو قلما جلس مجلسا- إلا ذکر فیه الحارث بن نضر الخثعمی و عابه- فقال الحارث-
لیس عمرو بتارک ذکره الحارث
بالسوء أو یلاقی علیا
واضع السیف فوق منکبه الأیمن
لا یحسب الفوارس شیا
لیت عمرا یلقاه فی حومه النقع
و قد أمست السیوف عصیا
حیث یدعو للحرب حامیه القوم
إذا کان بالبراز ملیا
فالقه إن أردت مکرمه الدهر
أو الموت کل ذاک علیا
فشاعت هذه الأبیات حتى بلغت عمرا- فأقسم بالله لیلقین علیا و لو مات ألف موته- فلما اختلطت الصفوف لقیه فحمل علیه برمحه- فتقدم علی ع و هو مخترط سیفامعتقل رمحا- فلما رهقه همز فرسه لیعلو علیه- فألقى عمرو نفسه عن فرسه إلى الأرض شاغرا برجلیه- کاشفا عورته فانصرف عنه لافتا وجهه مستدبرا له- فعد الناس ذلک من مکارمه و سؤدده و ضرب بها المثل- . قال نصر و حدثنی محمد بن إسحاق- قال اجتمع عند معاویه فی بعض لیالی صفین- عمرو بن العاص و عتبه بن أبی سفیان و الولید بن عقبه- و مروان بن الحکم و عبد الله بن عامر- و ابن طلحه الطلحات الخزاعی- فقال عتبه إن أمرنا و أمر علی بن أبی طالب لعجب- ما فینا إلا موتور مجتاح- .
أما أنا فقتل جدی عتبه بن ربیعه و أخی حنظله- و شرک فی دم عمی شیبه یوم بدر- . و أما أنت یا ولید فقتل أباک صبرا- و أما أنت یا ابن عامر فصرع أباک و سلب عمک- . و أما أنت یا ابن طلحه- فقتل أباک یوم الجمل و أیتم إخوتک- و أما أنت یا مروان فکما قال الشاعر-
و أفلتهن علباء جریضا
و لو أدرکنه صفر الوطاب
فقال معاویه هذا الإقرار فأین الغیر- قال مروان و أی غیر ترید قال أرید أن تشجروه بالرماح- قال و الله یا معاویه ما أراک إلا هاذیا أو هازئا- و ما أرانا إلا ثقلنا علیک فقال ابن عقبه-
یقول لنا معاویه بن حرب
أ ما فیکم لواترکم طلوب
یشد على أبی حسن علی
بأسمر لا تهجنه الکعوب
فیهتک مجمع اللبات منه
و نقع الحرب مطرد یئوب
فقلت له أ تلعب یا ابن هند
کأنک بیننا رجل غریب
أ تغرینا بحیه بطن واد
إذا نهشت فلیس لها طبیب
و ما ضبع یدب ببطن واد
أتیح له به أسد مهیب
بأضعف حیله منا إذا ما
لقیناه و لقیاه عجیب
سوى عمرو وقته خصیتاه
و کان لقلبه منه وجیب
کان القوم لما عاینوه
خلال النقع لیس لهم قلوب
لعمر أبی معاویه بن حرب
و ما ظنی ستلحقه العیوب
لقد ناداه فی الهیجا علی
فأسمعه و لکن لا یجیب
فغضب عمرو و قال إن کان الولید صادقا فلیلق علیا- أو فلیقف حیث یسمع صوته- . و قال عمرو-
یذکرنی الولید دعا علی
و نطق المرء یملؤه الوعید
متى تذکر مشاهده قریش
یطر من خوفه القلب الشدید
فأما فی اللقاء فأین منه
معاویه بن حرب و الولید
و عیرنی الولید لقاء لیث
إذا ما شد هابته الأسود
لقیت و لست أجهله علیا
و قد بلت من العلق اللبود
فأطعنه و یطعنی خلاسا
و ما ذا بعد طعنته أرید
فرمها منه یا ابن أبی معیط
و أنت الفارس البطل النجید
و أقسم لو سمعت ندا علی
لطار القلب و انتفخ الورید
و لو لاقیته شقت جیوب
علیک و لطمت فیک الخدود
و ذکر أبو عمر بن عبد البر فی کتاب الإستیعاب- فی باب بسر بن أرطاه قال- کان بسر من الأبطال الطغاه و کان مع معاویه بصفین- فأمره أن یلقى علیا ع فی القتال- و قال له إنی سمعتک تتمنى لقاءه- فلو أظفرک الله به و صرعته- حصلت على الدنیا و الآخره- و لم یزل یشجعه و یمنیه حتى رأى علیا فی الحرب فقصده- و التقیا فصرعه علی ع- و عرض له معه مثل ما عرض له- مع عمرو بن العاص فی کشف السوأه- . قال أبو عمر و ذکر ابن الکلبی فی کتابه فی أخبار صفین- أن بسر بن أرطاه بارز علیا یوم صفین- فطعنه علی ع فصرعه فانکشف له فکف عنه- کما عرض له مثل ذلک مع عمرو بن العاص- . قال و للشعراء فیهما أشعار- مذکوره فی موضعها من ذلک الکتاب- منها فیما ذکر ابن الکلبی و المدائنی- قول الحارث بن نضر الخثعمی- و کان عدوا لعمرو بن العاص و بسر بن أرطاه-
أ فی کل یوم فارس لک ینتهی
و عورته وسط العجاحه بادیه
یکف لها عنه علی سنانه
و یضحک منها فی الخلاء معاویه
بدت أمس من عمرو فقنع رأسه
و عوره بسر مثلها حذو حاذیه
فقولا لعمرو ثم بسر ألا انظرا
لنفسکما لا تلقیا اللیث ثانیه
و لا تحمدا إلا الحیا و خصاکما
هما کانتا و الله للنفس واقیه
و لولاهما لم تنجوا من سنانه
و تلک بما فیها إلى العود ناهیه
متى تلقیا الخیل المغیره صبحه
و فیها علی فاترکا الخیل ناحیه
و کونا بعیدا حیث لا یبلغ القنا
نحورکما إن التجارب کافیه
و روى الواقدی قال قال معاویه یوما- بعد استقرار الخلافه له لعمرو بن العاص- یا أبا عبد الله لا أراک إلا و یغلبنی الضحک قال بما ذا- قال أذکر یوم حمل علیک أبو تراب فی صفین- فأزریت نفسک فرقا من شبا سنانه و کشفت سوأتک له- فقال عمرو أنا منک أشد ضحکا- إنی لأذکر یوم دعاک إلى البراز فانتفخ سحرک- و ربا لسانک فی فمک و غصصت بریقک- و ارتعدت فرائصک و بدا منک ما أکره ذکره لک- فقال معاویه لم یکن هذا کله- و کیف یکون و دونی عک و الأشعریون- قال إنک لتعلم أن الذی وصفت دون ما أصابک- و قد نزل ذلک بک و دونک عک و الأشعریون- فکیف کانت حالک لو جمعکما مأقط الحرب- فقال یا أبا عبد الله خض بنا الهزل إلى الجد- إن الجبن و الفرار من علی لا عار على أحد فیهما
خبر إسلام عمرو بن العاص
فأما القول فی إسلام عمرو بن العاص- فقد ذکره محمد بن إسحاق فی کتاب المغازی قال- حدثنی زید بن أبی حبیب عن راشد مولى حبیب بن أبی أوس الثقفی عن حبیب بن أبی أوس- قال حدثنی عمرو بن العاص من فیه- قال لما انصرفنا مع الأحزاب من الخندق- جمعت رجالا من قریش کانوا یرون رأیی و یسمعون منی- فقلت لهم و الله- إنی لأرى أمر محمد یعلو الأمور علوا منکرا- و إنی قد رأیت رأیا فما ترون فیه فقالوا ما رأیت- فقلت أرى أن نلحق بالنجاشی فنکون عنده- فإن ظهر محمد على قومه أقمنا عند النجاشی- فأن نکون تحت یدیه أحب إلینا- من أن نکون تحت یدی محمد- فإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن یأتنا منهم إلا خیر- قالوا إن هذا الرأی فقلت فاجمعوا ما نهدی له- و کان أحب ما یأتیه من أرضنا الأدم- فجمعنا له أدما کثیرا ثم خرجنا حتى قدمنا علیه- فو الله إنا لعنده إذ قدم عمرو بن أمیه الضمری- و کان رسول الله ص بعثه إلیه- فی شأن جعفر بن أبی طالب و أصحابه- . قال فدخل علیه ثم خرج من عنده- فقلت لأصحابی هذا عمرو بن أمیه- لو قد دخلت على النجاشی فسألته إیاه- فأعطانیه فضربت عنقه فإذا فعلت ذلک رأت قریش- أنی قد أجزأت عنها حین قتلت رسول محمد- قال فدخلت علیه فسجدت له- فقال مرحبا بصدیقی أهدیت إلی من بلادک شیئا- قلت نعم أیها الملک قد أهدیت لک أدما کثیرا- ثم قربته إلیه فأعجبه و اشتهاه- ثم قلت له أیها الملک إنی قد رأیت رجلا خرج من عندک- و هو رسول رجل عدو لنا فأعطنیه لأقتله- فإنه قد أصاب من أشرافنا و خیارنا- .
فغضب الملک ثم مد یده- فضرب بها أنفه ضربه ظننت أنه قد کسره- فلو انشقت لی الأرض لدخلت فیها فرقا منه- ثم قلت أیها الملک- و الله لو ظننت أنک تکره هذا ما سألتکه- فقال أ تسألنی أن أعطیک رسول رجل- یأتیه الناموس الأکبر الذی کان یأتی موسى لتقتله- فقلت أیها الملک أ کذلک هو- فقال إی و الله أطعنی ویحک و اتبعه فإنه و الله لعلى حق- و لیظهرن على من خالفه کما ظهر موسى على فرعون و جنوده- قلت فبایعنی له على الإسلام فبسط یده- فبایعته على الإسلام و خرجت عامدا لرسول الله ص- فلما قدمت المدینه جئت إلى رسول الله ص- و قد أسلم خالد بن الولید- و قد کان صحبنی فی الطریق إلیه فقلت یا رسول الله- أبایعک على أن تغفر لی ما تقدم من ذنبی- و لم أذکر ما تأخر-فقال بایع یا عمرو فإن الإسلام یجب ما قبله- و إن الهجره تجب ما قبلها- فبایعته و أسلمت- . و ذکر أبو عمر فی الإستیعاب أن إسلامه کان سنه ثمان- و أنه قدم و خالد بن الولید و عثمان بن طلحه المدینه- فلما رآهم رسول الله قال رمتکم مکه بأفلاذ کبدها- . قال و قد قیل إنه أسلم بین الحدیبیه و خیبر- و القول الأول أصح
بعث رسول الله عمرا إلى ذات السلاسل
قال أبو عمر و بعث رسول الله عمرا إلى ذات السلاسل- من بلاد قضاعه فی ثلاثمائه- و کانت أم العاص بن وائل من بلی- فبعث رسول الله ص عمرا إلى أرض بلی و عذره- یتألفهم بذلک و یدعوهم إلى الإسلام- فسار حتى إذا کان على ماء أرض جذام یقال له السلاسل- و قد سمیت تلک الغزاه ذات السلاسل خاف- فکتب إلى رسول الله ص یستنجد فأمده بجیش فیه مائتا فارس- فیه أهل الشرف و السوابق من المهاجرین و الأنصار- فیهم أبو بکر و عمر و أمر علیهم أبا عبیده بن الجراح- فلما قدموا على عمرو- قال عمرو أنا أمیرکم و إنما أنتم مددی- فقال أبو عبیده بل أنا أمیر من معی و أنت أمیر من معک- فأبى عمرو ذلک- فقال أبو عبیده إن رسول الله ص عهد إلی- فقال إذا قدمت إلى عمرو فتطاوعا و لا تختلفا- فإن خالفتنی أطعتک- قال عمرو فإنی أخالفک فسلم إلیه أبو عبیده- و صلى خلفه فی الجیش کله- و کان أمیرا علیهم و کانوا خمسمائه
ولایات عمرو فی عهد الرسول و الخلفاء
قال أبو عمر ثم ولاه رسول الله ص عمان- فلم یزل علیها حتى قبض رسول الله ص- و عمل لعمر و عثمان و معاویه- و کان عمر بن الخطاب ولاه- بعد موت یزید بن أبی سفیان فلسطین و الأردن- و ولى معاویه دمشق و بعلبک و البلقاء- و ولى سعید بن عامر بن خذیم حمص- ثم جمع الشام کلها لمعاویه- و کتب إلى عمرو بن العاص أن یسیر إلى مصر- فسار إلیها فافتتحها فلم یزل علیها والیا حتى مات عمر- فأمره عثمان علیها أربع سنین و نحوها- ثم عزله عنها و ولاها عبد الله بن سعد العامری- .
قال أبو عمر ثم إن عمرو بن العاص ادعى- على أهل الإسکندریه أنهم قد نقضوا العهد- الذی کان عاهدهم فعمد إلیها فحارب أهلها و افتتحها- و قتل المقاتله و سبى الذریه فنقم ذلک علیه عثمان- و لم یصح عنده نقضهم العهد- فأمر برد السبی الذی سبوا من القرى إلى مواضعهم- و عزل عمرا عن مصر- و ولى عبد الله بن سعد بن أبی سرح العامری مصر بدله- فکان ذلک بدو الشر بین عمرو بن العاص و عثمان بن عفان- فلما بدا بینهما من الشر ما بدا- اعتزل عمرو فی ناحیه فلسطین بأهله- و کان یأتی المدینه أحیانا- فلما استقر الأمر لمعاویه- بالشام- بعثه إلى مصر بعد تحکیم الحکمین فافتتحها- فلم یزل بها إلى أن مات أمیرا علیها- فی سنه ثلاث و أربعین و قیل سنه اثنتین و أربعین- و قیل سنه ثمان و أربعین و قیل سنه إحدى و خمسین- .
قال أبو عمر و الصحیح أنه مات فی سنه ثلاث و أربعین- و مات یوم عید الفطر من هذه السنه و عمره تسعون سنه- و دفن بالمقطم من ناحیه السفح و صلى علیه ابنه عبد الله- ثم رجع فصلى بالناس صلاه العید فولاه معاویه مکانه- ثم عزله و ولى مکانه أخاه عتبه بن أبی سفیان- . قال أبو عمر و کان عمرو بن العاص من فرسان قریش- و أبطالهم فی الجاهلیه مذکورا فیهم بذلک- و کان شاعرا حسن الشعر- و أحد الدهاه المتقدمین فی الرأی و الذکاء- و کان عمر بن الخطاب إذا استضعف رجلا فی رأیه و عقله- قال أشهد أن خالقک و خالق عمرو واحد یرید خالق الأضداد
نبذ من کلام عمرو بن العاص
و نقلت أنا من کتب متفرقه کلمات حکمیه- تنسب إلى عمرو بن العاص استحسنتها و أوردتها- لأنی لا أجحد لفاضل فضله و إن کان دینه عندی غیر مرضی- . فمن کلامه ثلاث لا أملهن جلیسی ما فهم عنی و ثوبی ما سترنی- و دابتی ما حملت رحلی- .و قال لعبد الله بن عباس بصفین- إن هذا الأمر الذی نحن و أنتم فیه- لیس بأول أمر قاده البلاء- و قد بلغ الأمر منا و منکم ما ترى- و ما أبقت لنا هذه الحرب حیاه و لا صبرا- و لسنا نقول لیت الحرب عادت- و لکنا نقول لیتها لم تکن کانت- فافعل فیما بقی بغیر ما مضى- فإنک رأس هذا الأمر بعد علی- و إنما هو آمر مطاع و مأمور مطیع و مبارز مأمون و أنت هو- . و لما نصب معاویه قمیص عثمان على المنبر- و بکى أهل الشام حوله قال قد هممت أن أدعه على المنبر- فقال له عمرو إنه لیس بقمیص یوسف- أنه إن طال نظرهم إلیه و بحثوا عن السبب- وقفوا على ما لا تحب أن یقفوا علیه- و لکن لذعهم بالنظر إلیه فی الأوقات- .
و قال ما وضعت سری عند أحد فأفشاه فلمته- لأنی أحق باللوم منه إذ کنت أضیق به صدرا منه- . و قال لیس العاقل الذی یعرف الخیر من الشر- لکن العاقل من یعرف خیر الشرین- . و قال عمر بن الخطاب لجلسائه یوما و عمرو فیهم- ما أحسن الأشیاء فقال کل منهم ما عنده- فقال ما تقول أنت یا عمرو فقالالغمرات ثم ینجلینا- و قال لعائشه لوددت أنک قتلت یوم الجمل- قالت و لم لا أبا لک- قال کنت تموتین بأجلک و تدخلین الجنه- و نجعلک أکبر التشنیع على علی بن أبی طالب ع- .
و قال لبنیه یا بنی اطلبوا العلم- فإن استغنیتم کان جمالا و إن افتقرتم کان مالا- . و من کلامه أمیر عادل خیر من مطر وابل- و أسد حطوم خیر من سلطان ظلوم- و سلطان ظلوم خیر من فتنه تدوم و زله الرجل عظم یجبر- و زله اللسان لا تبقى و لا تذر و استراح من لا عقل له- .
و کتب إلیه عمر یسأله عن البحر- فکتب إلیه خلق عظیم یرکبه خلق ضعیف- . دود على عود بین غرق و نزق- . و قال لعثمان و هو یخطب على المنبر یا عثمان- إنک قد رکبت بهذه الأمه نهایه من الأمر- و زغت فزاغوا فاعتدل أو اعتزل- . و من کلامه استوحش من الکریم الجائع- و من اللئیم الشبعان- فإن الکریم یصول إذا جاع و اللئیم یصول إذا شبع- . و قال جمع العجز إلى التوانی فنتج بینهما الندامه- و جمع الجبن إلى الکسل فنتج بینهما الحرمان- .
و روى عبد الله بن عباس- قال دخلت على عمرو بن العاص و قد احتضر- فقلت یا أبا عبد الله- کنت تقول أشتهی أنی أرى عاقلا یموت- حتى أسأله کیف تجد فما ذا تجد- قال أجد السماء کأنها مطبقه على الأرض و أنا بینهما- و أرانی کأنما أتنفس من خرق إبره- ثم قال اللهم خذ منی حتى ترضى ثم رفع یده- فقال اللهم أمرت فعصینا و نهیت فرکبنا- فلا برئ فأعتذر و لا قوی فأنتصر- و لکن لا إله إلا الله فجعل یرددها حتى فاض- .
و قد روى أبو عمر بن عبد البر هذا الخبر- فی کتاب الإستیعاب- قال لما حضرت عمرو بن العاص الوفاه- قال اللهم أمرتنی فلم آتمر و زجرتنی فلم أنزجر- و وضع یده فی موضع الغل- ثم قال اللهم لا قوی فأنتصر و لا برئ فأعتذر- و لا مستکبر بل مستغفر لا إله إلا أنت- فلم یزل یرددها حتى مات- . قال أبو عمر و حدثنی خلف بن قاسم- قال حدثنی الحسن بن رشیق قال حدثنا الطحاوی- قال حدثنا المزنی قال سمعت الشافعی- یقول دخل ابن عباس على عمرو بن العاص فی مرضه فسلم علیه- فقال کیف أصبحت یا أبا عبد الله- قال أصبحت و قد أصلحت من دنیای قلیلا- و أفسدت من دینی کثیرا- فلو کان الذی أصلحت هو الذی أفسدت- و الذی أفسدت هو الذی أصلحت لفزت- و لو کان ینفعنی أن أطلب طلبت- و لو کان ینجینی أن أهرب هربت- فقد صرت کالمنخنق بین السماء و الأرض- لا أرقى بیدین و لا أهبط برجلین- فعظنی بعظه أنتفع بها یا ابن أخی- فقال ابن عباس هیهات أبا عبد الله- صار ابن أخیک أخاک و لا تشاء أن تبلى إلا بلیت- کیف یؤمر برحیل من هو مقیم- فقال عمرو على حینها- من حین ابن بضع و ثمانین تقنطنی من رحمه ربی- اللهم إن ابن عباس یقنطنی من رحمتک- فخذ منی حتى ترضى- فقال ابن عباس هیهات أبا عبد الله- أخذت جدیدا و تعطى خلقا- قال عمرو ما لی و لک یا ابن عباس- ما أرسل کلمه إلا أرسلت نقیضها- .
و روى أبو عمر فی کتاب الإستیعاب أیضا عن رجال- قد ذکرهم و عددهم أن عمرا لما حضرته الوفاه- قال له ابنه عبد الله و قد رآه یبکی لم تبکی- أ جزعا من الموت قال لا و الله و لکن لما بعده- فقال له لقد کنت على خیر- فجعل یذکره صحبه رسول الله ص و فتوحه بالشام- فقال له عمرو ترکت أفضل من ذلک شهاده أن لا إله إلا الله- إنی کنت على ثلاثه أطباق- لیس منها طبق إلا عرفت نفسی فیه- کنت أول أمری کافرا- فکنت أشد الناس على رسول الله ص- فلو مت حینئذ وجبت لی النار- فلما بایعت رسول الله ص کنت أشد الناس حیاء منه- فما ملأت منه عینی قط- فلو مت یومئذ قال الناس هنیئا لعمرو- أسلم و کان على خیر و مات على خیر أحواله- فسرحوا له بالجنه- ثم تلبثت بعد ذلک بالسلطان و بأشیاء- فلا أدریأ علی أم لی فإذا مت فلا تبکین علی باکیه- و لا یتبعنی نائح و لا تقربوا من قبری نارا- و شدوا علی إزاری فإنی مخاصم و شنوا علی التراب شنا- فإن جنبی الأیمن لیس بأحق من جنبی الأیسر- و لا تجعلوا فی قبری خشبه و لا حجرا و إذا واریتمونی- فاقعدوا عندی قدر نحر جزور و تقطیعها أستأنس بکم- .
فإن قلت- فما الذی یقوله أصحابک المعتزله فی عمرو بن العاص- قلت إنهم یحکمون على کل من شهد صفین- بما یحکم به على الباغی الخارج على الإمام العادل- و مذهبهم فی صاحب الکبیره إذا لم یتب معلوم- . فإن قلت أ لیس فی هذه الأخبار ما یدل على توبته- نحو قوله و لا مستکبر بل مستغفر- و قوله اللهم خذ منی حتى ترضى- و قوله أمرت فعصیت و نهیت فرکبت- . و هذا اعتراف و ندم و هو معنى التوبه- قلت إن قوله تعالى- وَ لَیْسَتِ التَّوْبَهُ لِلَّذِینَ یَعْمَلُونَ السَّیِّئاتِ- حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّی تُبْتُ الْآنَ- یمنع من کون هذا توبه- و شروط التوبه و أرکانها معلومه- و لیس هذا الاعتراف و التأسف منها فی شیء- . و قال شیخنا أبو عبد الله- أول من قال بالإرجاء المحض معاویه و عمرو بن العاص- کانا یزعمان أنه لا یضر مع الإیمان عصیه- و لذلک قال معاویه لمن قال له- حاربت من تعلم و ارتکبت ما تعلم- فقال وثقت بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعاً-و إلى هذا المعنى أشار عمرو بقوله لابنه- ترکت أفضل من ذلک شهاده أن لا إله إلا الله
فصل فی شرح ما نسب إلى علی من الدعابه
فأما ما کان یقوله عمرو بن العاص فی علی ع لأهل الشام- إن فیه دعابه یروم أن یعیبه بذلک عندهم- فأصل ذلک کلمه قالها عمر فتلقفها- حتى جعلها أعداؤه عیبا له و طعنا علیه- . قال أبو العباس أحمد بن یحیى ثعلب فی کتاب الأمالی- کان عبد الله بن عباس عند عمر فتنفس عمر نفسا عالیا- قال ابن عباس حتى ظننت أن أضلاعه قد انفرجت- فقلت له ما أخرج هذا النفس منک- یا أمیر المؤمنین إلا هم شدید- . قال إی و الله یا ابن عباس- إنی فکرت فلم أدر فیمن أجعل هذا الأمر بعدی- ثم قال لعلک ترى صاحبک لها أهلا- قلت و ما یمنعه من ذلک- مع جهاده و سابقته و قرابته و علمه- قال صدقت و لکنه امرؤ فیه دعابه- قلت فأین أنت من طلحه- قال هو ذو البأو بإصبعه المقطوعه قلت فعبد الرحمن- قال رجل ضعیف لو صار الأمر إلیه- لوضع خاتمه فی ید امرأته- قلت فالزبیر قال شکس لقس- یلاطم فی البقیع فی صاع من بر- قلت فسعد بن أبی وقاص قال صاحب مقنب و سلاح- قلت فعثمان قال أوه أوه مرارا- ثم قال و الله لئن ولیها- لیحملن بنی أبی معیط على رقاب الناس- ثم لتنهضن إلیه العرب فتقتله- ثم قال یا ابن عباس- إنه لا یصلح لهذا الأمر إلا حصیف العقده قلیل الغره- لا تأخذه فی الله لومه لائم یکون شدیدا من غیر عنف- لینا من غیر ضعف- جوادا من غیر سرف ممسکا من غیر وکف- قال ابن عباس و کانت هذه صفات عمر ثم أقبل علی- فقال إن أحراهم أن یحملهم على کتاب ربهم- و سنه نبیهم لصاحبک و الله لئن ولیها- لیحملنهم على المحجه البیضاء و الصراط المستقیم- .
و اعلم أن الرجل ذا الخلق المخصوص- لا یرى الفضیله إلا فی ذلک الخلق- أ لا ترى أن الرجل یبخل- فیعتقد أن الفضیله فی الإمساک و البخیل- یعیب أهل السماح و الجود- و ینسبهم إلى التبذیر و إضاعه الحزم- و کذلک الرجل الجواد یعیب البخلاء- و ینسبهم إلى ضیق النفس و سوء الظن و حب المال- و الجبان یعتقد أن الفضیله فی الجبن و یعیب الشجاعه- و یعتقد کونها خرقا و تغریرا بالنفس کما قال المتنبی-یرى الجبناء أن الجبن حزم- و الشجاع یعیب الجبان و ینسبه إلى الضعف- و یعتقد أن الجبن ذل و مهانه- و هکذا القول فی جمیع الأخلاق- و السجایا المقتسمه بین نوع الإنسان- و لما کان عمر شدید الغلظه وعر الجانب- خشن الملمس دائم العبوس- کان یعتقد أن ذلک هو الفضیله و أن خلافه نقص- و لو کان سهلا طلقا مطبوعا على البشاشه و سماحه الخلق- لکان یعتقد أن ذاک هو الفضیله و أن خلافه نقص- حتى لو قدرنا أن خلقه حاصل لعلی ع و خلق علی حاصل له- لقال فی علی لو لا شراسه فیه- .
فهو غیر ملوم عندی فیما قاله- و لا منسوب إلى أنه أراد الغض من علی- و القدحفیه و لکنه أخبر عن خلقه- ظانا أن الخلافه لا تصلح- إلا لشدید الشکیمه العظیم الوعوره- و بمقتضى ما کان یظنه من هذا المعنى- تمم خلافه أبی بکر بمشارکته إیاه- فی جمیع تدابیراته و سیاسته و سائر أحواله- لرفق و سهوله کانت فی أخلاق أبی بکر- و بمقتضى هذا الخلق المتمکن عنده- کان یشیر على رسول الله ص فی مقامات کثیره- و خطوب متعده بقتل قوم کان یرى قتلهم- و کان النبی ص یرى استبقاءهم و استصلاحهم- فلم یقبل ع مشورته على هذا الخلق- . و أما إشارته علیه یوم بدر بقتل الأسرى- حیث أشار أبو بکر بالفداء- فکان الصواب مع عمر و نزل القرآن بموافقته- فلما کان فی الیوم الثانی و هو یوم الحدیبیه- أشار بالحرب و کره الصلح فنزل القرآن بضد ذلک- فلیس کل وقت یصلح تجرید السیف- و لا کل وقت یصلح إغماده- و السیاسه لا تجری على منهاج واحد و لا تلزم نظاما واحدا- .
و جمله الأمر أنه رضی الله عنه لم یقصد عیب علی ع- و لا کان عنده معیبا و لا منقوصا- أ لا ترى أنه قال فی آخر الخبر أن أحراهم أن ولیها- أن یحملهم على کتاب الله و سنه رسوله لصاحبک- ثم أکد ذلک بأن قال إن ولیهم- لیحملنهم على المحجه البیضاء و الصراط المستقیم- فلو کان أطلق تلک اللفظه- و عنى بها ما حملها علیه الخصوم- لم یقل فی خاتمه کلامه ما قاله- . و أنت إذا تأملت حال علی ع فی أیام رسول الله ص- وجدته بعیدا عن أن ینسب إلى الدعابه و المزاح- لأنه لم ینقل عنه شیء من ذلک أصلا- لا فی کتب الشیعه و لا فی کتب المحدثین- و کذلک إذا تأملت حاله فی أیام الخلیفتین أبی بکر و عمر- لم تجد فی کتب السیره حدیثا واحدا- یمکن أن یتعلق به متعلق فی دعابته و مزاحه- فکیف یظن بعمر أنه نسبه إلى أمر لم ینقله عنه ناقل- و لا ندد به صدیق و عدو- و إنما أراد سهوله خلقه لا غیر- و ظن أن ذلک مما یفضی به إلى ضعف إن ولی أمر الأمه- لاعتقاده أن قوام هذا الأمر إنما هو بالوعوره- بناء على ما قد ألفته نفسه و طبعت علیه سجیته- و الحال فی أیام عثمان- و أیام ولایته ع الأمر کالحال فیما تقدم- فی أنه لم یظهر منه دعابه- و لا مزاح یسمى الإنسان لأجله ذا دعابه و لعب- و من تأمل کتب السیر عرف صدق هذا القول- و عرف أن عمرو بن العاص أخذ کلمه عمر- إذ لم یقصد بها العیب فجعلها عیبا- و زاد علیها أنه کثیر اللعب- یعافس النساء و یمارسهن و أنه صاحب هزل- .
و لعمر الله لقد کان أبعد الناس من ذلک- و أی وقت کان یتسع لعلی ع حتى یکون فیه على هذه الصفات- فإن أزمانه کلها فی العباده و الصلاه- و الذکر و الفتاوی و العلم- و اختلاف الناس إلیه فی الأحکام و تفسیر القرآن- و نهاره کله أو معظمه مشغول بالصوم- و لیله کله أو معظمه مشغول بالصلاه هذا فی أیام سلمه- فأما أیام حربه فبالسیف الشهیر و السنان الطریر- و رکوب الخیل و قود الجیش و مباشره الحروب- .
و لقد صدق ع فی قوله-إننی لیمنعنی من اللعب ذکر الموت- و لکن الرجل الشریف النبیل- الذی لا یستطیع أعداؤه أن یذکروا له عیبا- أو یعدوا علیه وصمه- لا بد أن یحتالوا و یبذلوا جهدهم- فی تحصیل أمر ما و إن ضعف- یجعلونه عذرا لأنفسهم فی ذمه- و یتوسلون به إلى أتباعهم- فی تحسینهم لهم مفارقته و الانحراف عنه- و ما زال المشرکون و المنافقون- یصنعون لرسول الله ص الموضوعات- ینسبون إلیه ما قد برأه الله عنه من العیوب و المطاعن- فی حیاته و بعد وفاته إلى زماننا هذا- و ما یزیده الله سبحانه إلا رفعه و علوا- فغیر منکر أن یعیب علیا ع عمرو بن العاص- و أمثاله من أعدائه بما إذا تأمله المتأمل- علم أنهم باعتمادهم علیه و تعلقهم به- قد اجتهدوا فی مدحه و الثناء علیه- لأنهم لو وجدوا عیبا غیر ذلک لذکروه- و لو بالغ أمیر المؤمنین و بذل جهده فی أن یثنى أعداؤه- و شانئوه علیه من حیث لا یعلمون- لم یستطع إلى أن یجد إلى ذلک طریقا ألطف- من هذه الطریق التی أسلکهم الله تعالى فیها- و هداهم إلى منهاجها فظنوا أنهم یغضون منه- و إنما أعلوا شأنه و یضعون من قدره- و إنما رفعوا منزلته و مکانه
أقوال و حکایات فی المزاح
و نحن نذکر من بعد- ما جاء فی الأحادیث الصحاح و الآثار المستفیضه- المتفق على نقلها مزاح رسول الله ص- و مزاح الأشراف و الأفاضل و الأکابر- من أصحابه و التابعین له- لیعلم أن المزاح إذا لم یخرج عن القاعده الشرعیه- لم یکن قبیحا- .فأول ذلک ما رواه الناس قاطبه أن رسول الله ص قال إنی أمزح و لا أقول إلا حقا- . و قیل لسفیان الثوری المزاح هجنه فقال بل هو سنه-لقول رسول الله ص إنی أمزح و لا أقول إلا الحقو جاء فی الخبر أن رسول الله ص قال لامرأه من الأنصار- الحقی زوجک فإن فی عینه بیاضا- فسعت نحوه مرعوبه فقال لها ما دهاک فأخبرته- فقال نعم إن فی عینی بیاضا لا لسوء فخفضی علیک- فهذا من مزاح رسول الله ص و أتت عجوز من الأنصار إلیه ع- فسألته أن یدعو الله تعالى لها بالجنه- فقال إن الجنه لا تدخلها العجز فصاحت فتبسم ع فقال- إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبکارا
و فی الخبر أیضا أن امرأه استحملته- فقال إنا حاملوک إن شاء الله تعالى على ولد الناقه- فجعلت تقول یا رسول الله و ما أصنع بولد الناقه- و هل یستطیع أن یحملنی- و هو یبتسم و یقول لا أحملک إلا علیه- حتى قال لها أخیرا و هل یلد الإبل إلا النوقو فی الخبر أنه ع مر ببلال و هو نائم فضربه برجله- و قال أ نائمه أم عمرو فقال بلال مرعوبا- فضرب بیده إلى مذاکیره فقال له ما بالک- قال ظننت أنی تحولت امرأه- قیل فلم یمزح رسول الله بعد هذهو فی الخبر أیضا أن نغرا کان لصبی من صبیان الأنصار فطار من یده- فبکى الغلام فکان رسول الله ص یمر به- فیقول یا أبا عمیر ما فعل النغیر و الغلام یبکیو کان یمازح ابنی بنته مزاحا مشهورا- و کان یأخذ الحسین ع فیجعله على بطنه- و هو ع نائم على ظهرهو یقول له حزقه حزقه ترق عین بقه
و فی الحدیث الصحیح المتفق علیه أنه مر على أصحاب الدرکله و هم یلعبون و یرقصون- فقال جدوا یا بنی أرفده- حتى یعلم الیهود و النصارى أن فی دیننا فسحه- .
قال أهل اللغه الدرکله بکسر الدال و الکاف- لعبه للحبش فیها ترقص- و بنو أرفده جنس من الحبش یرقصون- .و جاء فی الخبر أنه سابق عائشه فسبقته ثم سابقها فسبقها- فقال هذه بتلکو فی الخبر أیضا أن أصحاب الزفافه و هم الراقصون- کانوا یقمعون باب حجره عائشه- فتخرج إلیهم مستمعه و مبصره- فیخرج هو ع من ورائها مستترا بهاو کان نعیمان و هو من أهل بدر- أولع الناس بالمزاح عند رسول الله ص-و کان یکثر الضحک- فقال رسول الله ص یدخل الجنه و هو یضحک- .
و خرج نعیمان هو و سویبط بن عبد العزى و أبو بکر الصدیق- فی تجاره قبل وفاه رسول الله ص بعامین- و کان سویبط على الزاد فکان نعیمان یستطعمه- فیقول حتى یجیء أبو بکر فمر برکب من نجران- فباعه نعیمان منهم على أنه عبد له بعشر قلائص- و قال لهم إنه ذو لسان و لهجه- و عساه یقول لکم أنا حر فقالوا لا علیک- . و جاءوا إلیه فوضعوا عمامته فی عنقه و ذهبوا به- فلما جاء أبو بکر أخبر بذلک فرده و أعاد القلائص إلیهم- فضحک رسول الله ص و أصحابه من ذلک سنه- .
و روی أن أعرابیا باع نعیمان عکه عسل فاشتراها منه- فجاء بها إلى بیت عائشه فی یومها و قال خذوها- فظن رسول الله ص أنه أهداها إلیه و مضى نعیمان- فنزل الأعرابی على الباب- فلما طال قعوده نادى یا هؤلاء- إما أن تعطونا ثمن العسل أو تردوه علینا- فعلم رسول الله ص بالقصه و أعطى الأعرابی الثمن- و قال لنعیمان ما حملک على ما فعلت- قال رأیتک یا رسول الله تحب العسل- و رأیت العکه مع الأعرابی- فضحک رسول الله ص و لم ینکر علیه- . و سئل النخعی هل کان أصحاب رسول الله یضحکون و یمزحون- فقال نعم و الإیمان فی قلوبهم مثل الجبال الرواسی- .
و جاء فی الخبر أن یحیى ع لقی عیسى ع و عیسى متبسم- فقال یحیى ع ما لی أراک لاهیا کأنک آمن- فقال ع ما لی أراک عابساکأنک آیس- فقالا لا نبرح حتى ینزل علینا الوحی- فأوحى الله إلیهما أحبکما إلی الطلق البسام- أحسنکما ظنا بی- . و روی عن کبراء الصحابه رضی الله تعالى عنهم- أنهم کانوا یتمازحون و یتناشدون الأشعار- فإذا خاضوا فی الدین انقلبت حمالیقهم- و صاروا فی صور أخرى- . و روی أن عبد الله بن عمر قال لجاریته- خلقنی خالق الخیر و خلقک خالق الشر فبکت- فقال لا علیک- فإن الله تعالى هو خالق الخیر و هو خالق الشر- . قلت یعنی بالشر المرض و الغلاء و نحوهما- . و کان ابن سیرین ینشد-
نبئت أن فتاه کنت أخطبها
عرقوبها مثل شهر الصوم فی الطول
ثم یضحک حتى یسیل لعابه- . و جاء عبد الرحمن بن عوف إلى باب عمر بن الخطاب- فوجده مستلقیا على مرفقه له- رافعا إحدى رجلیه على الأخرى منشدا بصوت عال-
و کیف ثوائی بالمدینه بعد ما
قضى وطرا منها جمیل بن معمر
فلما دخل عبد الرحمن و جلس قال یا أبا محمد- إنا إذا خلونا قلنا کما یقول الناس- . و کان سعید بن المسیب ینشد-
لقد أصبحت عرس الفرزدق جامحا
و لو رضیت رمح استه لاستقرت
و یضحک حتى یستغرق- . و کان یقال لا بأس بقلیل المزاح- یخرج منه الرجل عن حد العبوس- .و من کلام بعض الأدباء و نحن نحمد الله إلیک- فإن عقده الإسلام فی قلوبنا صحیحه- و أواخیه عندنا ثابته- و قد اجتهد قوم أن یدخلوا قلوبنا من مرض قلوبهم- و أن یشوبوا یقیننا بشکهم فعصم الله منهم- و حال توفیقه دونهم و لنا بعد مذهب فی الدعابه جمیل- لا یشوبه أذى و لا قذى یخرج بنا إلى الأنس من العبوس- و إلى الاسترسال من القطوب- و یلحقنا بأحرار الناس الذین ارتفعوا عن لبسه الریاء- و أنفوا من التشوف بالتصنع- .
و قال ابن جریج سألت عطاء عن القراءه- على ألحان الغناء و الحداء فقال لی لا بأس بذلک- حدثنی عبید الله بن عمر اللیثی- أنه کان لداود النبی ع معزفه- قد یضرب بها إذا قرأ الزبور- فتجمع إلیه الطیر و الوحش فیبکی و یبکی من حوله- . و قال جابر بن عبد الله الجعفی- رأیت الشعبی یقول لخیاط یمازحه- عندنا حب مکسور و أحب أن تخیطه- فقال الخیاط أحضر لی خیوطا من ریح لأخیطه لک- . و سئل الشعبی هل یجوز أن یؤکل الجنی لو ظفر به- فقال لیتنا نخرج منه کفافا لا لنا و لا علینا- .
و سأل إنسان محمد بن سیرین عن هشام بن حسان- فقال توفی البارحه أ ما شعرت- فخرج یسترجع فلما رأى ابن سیرین جزعه- قرأ اللَّهُ یَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِینَ مَوْتِها- . و کان زید بن ثابت من أفکه الناس فی بیته و أرفثهم- و قد أباح الله تعالى الرفث إلى النساء- فقال أُحِلَّ لَکُمْ لَیْلَهَ الصِّیامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِکُمْ- هُنَّ لِباسٌ لَکُمْوَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ- و قال أهل اللغه الرفث- القول الفاحش تخاطب به المرأه حال الجماع- . و مر بالشعبی حمال على ظهره دن خل فوضع الدن- و قال له ما کان اسم امرأه إبلیس- فقال الشعبی ذلک نکاح ما شهدناه- . و قال عکرمه ختن ابن عباس بنیه فأرسلنی- فدعوت اللعابین فلعبوا فأعطاهم أربعه دراهم- . و تقدم رجلان إلى شریح فی خصومه- فأقر أحدهما بما ادعی علیه و هو لا یدری فقضى شریح علیه- فقال أصلحک الله أ تقضی علی بغیر بینه- قال بلى شهد عندی ثقه- قال و من هو قال ابن أخت خالتک- .
و جاء فی الخبر أن النبی ص مر بصهیب و هو أرمد یأکل تمرا فنهاه- فقال إنما آکله عن جانب العین الصحیحه یا رسول الله- فضحک منه و لم ینکر علیهو فی الخبر أنه ص مر بحسان بن ثابت- و قد رش أطماره و عنده جاریه تغنیه-هل على ویحکماإن لغوت من حرج- فقال ص لا حرج إن شاء الله- . و قیل إن عبد الله بن جعفر- قال لحسان بن ثابت فی أیام معاویه- لو غنتک فلانه جاریتی صوت کذا- لم تدرک رکابک فقال یا أبا جعفر- فکلوا منها و أطعموا البائس الفقیر- .
و قال أسلم مولى عمر بن الخطاب مر بی عمر- و أنا و عاصم نغنی غناء النصب فوقف و قال أعیدا علی- فأعدنا علیه و قلنا أینا أحسن صنعه یا أمیر المؤمنین- فقال مثلکما کحماری العبادی قیل له أی حماریک شر- فقال هذا ثم هذا فقلت یا أمیر المؤمنین- أنا الأول من الحمارین فقال أنت الثانی منهما- . و مر نعیمان و هو بدری بمخرمه بن نوفل فی خلافه عثمان- و قد کف بصره فقال أ لا یقودنی رجل حتى أبول- فأخذ نعیمان بیده حتى صار به إلى مؤخر المسجد- و قال هاهنا فبل فبال فصاح به الناس- فقال من قادنی قیل نعیمان- قال لله علی أن أضربه بعصای هذه فبلغ نعیمان فأتاه- فقال بلغنی أنک أقسمت لتضربن نعیمان فهل لک فیه- قال نعم قال قم- فقام معه حتى وافى به عثمان بن عفان و هو یصلی- فقال دونک الرجل فجمع محرمه یدیه فی العصا و ضربه بها- فصاح الناس ویلک أمیر المؤمنین- قال من قادنی قالوا نعیمان- قال و ما لی و لنعیمان لا أعرض له أبدا- . و کان طویس یتغنى فی عرس- فدخل النعمان بن بشیر الأنصاری العرس و طویس یغنیهم-
أ جد بعمره هجرانها
و تسخط أم شاننا شانها
فأشاروا إلیه بالسکوت- فقال النعمان دعوه إنه لم یقل بأسا إنما قال-
و عمره من سروات النساء
تنفح بالمسک أردانها
و عمره هذه أم النعمان و فیها قیل هذا النسیب- . و قد روی عن جماعه- من الصحابه و التابعین اللعب بالنرد و الشطرنج- و منهم من روی عنهم شرب النبیذ و سماع الغناء المطرب- .
فأما أمیر المؤمنین علی ع- فإذا نظرت إلى کتب الحدیث و السیر- لم تجد أحدا من خلق الله عدوا و لا صدیقا- روى عنه شیئا من هذا الفن لا قولا و لا فعلا- و لم یکن جد أعظم من جده و لا وقار أتم من وقاره- و ما هزل قط و لا لعب- و لا فارق الحق و الناموس الدینی سرا و لا جهرا- و کیف یکون هازلاو من کلامه المشهور عنه ما مزح امرؤ مزحه إلا و مج معها من عقله مجه- و لکنه خلق على سجیه لطیفه و أخلاق سهله و وجه طلق- و قول حسن و بشر ظاهر و ذلک من فضائله ع- و خصائصه التی منحه الله بشرفها و اختصه بمزیتها- و إنما کانت غلظته و فظاظته فعلا لا قولا- و ضربا بالسیف لا جبها بالقول- و طعنا بالسنان لا عضها باللسان کما قال الشاعر-
و تسفه أیدینا و یحلم رأینا
و نشتم بالأفعال لا بالتکلم
نبذ و أقول فی حسن الخلق و مدحه
فأما سوء الخلق فلم یکن من سجایاه-فقد قال النبی ص خصلتان لا یجتمعان فی مؤمن البخل و سوء الخلق- و قال الله تعالى لنبیه ص وَ إِنَّکَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِیمٍ- و قال أیضا- وَ لَوْ کُنْتَ فَظًّا غَلِیظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِکَ- .و قیل لرسول الله ص ما الشؤم فقال سوء الخلق
– . و صحب جابر رجلا فی طریق مکه فآذاه سوء خلقه- فقال جابر إنی لأرحمه نحن نفارقه و یبقى معه سوء خلقه- .
و قیل لعبد الله بن جعفر- کیف تجاور بنی زهره و فی أخلاقهم زعاره- قال لا یکون لی قبلهم شیء إلا ترکته- و لا یطلبون منی شیئا إلا أعطیتهم- .و فی الحدیث المرفوع أنه ص قال أ لا أنبئکم بشر الناس قالوا بلى یا رسول الله- قال من نزل وحده و منع رفده و ضرب عبده- ثم قال أ لا أنبئکم بشر من ذلک قالوا بلى- قال من لم یقل عثره و لا یقبل معذره- .
و قال إبراهیم بن عباس الصولی- لو وزنت کلمه رسول الله ص بمحاسن الخلق کلها لرجحت-قوله إنکم لن تسعوا الناس بأموالکم فسعوهم بأخلاقکمو فی الخبر المرفوع حسن الخلق زمام من رحمه الله فی أنف صاحبه- و الزمام بید الملک و الملک یجره إلى الخیر- و الخیر یجره إلى الجنه- و سوء الخلق زمام من عذاب الله فی أنف صاحبه- و الزمام بید الشیطان و الشیطان یجره إلى الشر- و الشر یجره إلى النار
و روى الحسن بن علی ع عن النبی ص أن الرجل یدرک بحسن خلقه درجه الصائم القائم- و إنه لیکتب جبارا و لا یملک إلا أهله
و روى أبو موسى الأشعری قال بینا رسول الله ص یمشی و امرأه بین یدیه- فقلت الطریق لرسول الله ص فقالت الطریق معرض- إن شاء أخذ یمینا و إن شاء أخذ شمالا- فقال ص دعوها فإنها جباره- .
و قال بعض السلف الحسن الخلق ذو قرابه عند الأجانب- و السیئ الخلق أجنبی عند أهله- . و من کلام الأحنف أ لا أخبرکم بالمحمده بلا مذمه- الخلق السجیح و الکف عن القبیح- أ لا أخبرکم بأدوأ الداء الخلق الدنیء و اللسان البذیء- .و فی الحدیث المرفوع أول ما یوضع فی المیزان الخلق الحسنو جاء مرفوعا أیضا المؤمن هین لین کالجمل الأنف- إن قید انقاد و إن أنیخ على صخره استناخو جاء مرفوعا أیضا أ لا أخبرکم بأحبکم إلی- و أقربکم منی مجالس یوم القیامه- أحاسنکم أخلاقا الموطئون أکنافا- الذین یألفون و یؤلفون- أ لا أخبرکم بأبغضکم إلی- و أبعدکم منی مجالس یوم القیامه- الثرثارون المتفیهقون- . أبو رجاء العطاردی من سره أن یکون مؤمنا حقا- فلیکن أذل من قعود کل من مر به ادعاه- .
فضیل بن عیاض لأن یصحبنی فاجر حسن الخلق- أحب إلی من أن صحبنی عابد سیئ الخلق- لأن الفاسق إذا حسن خلقه خف على الناس و أحبوه- و العابد إذا ساء خلقه ثقل على الناس و مقتوه- .دخل فرقد و محمد بن واسع على رجل یعودانه- فجرى ذکر العنف و الرفق- فروى فرقد عن رسول الله ص أنه قیل له- على من حرمت النار یا رسول الله- قال على الهین اللین السهل القریب- فلم یجد محمد بن واسع بیاضا یکتب ذلک فیه- فکتبه على ساقه- . عبد الله بن الدارانی ما ضرب عبد بعقوبه- أعظم من قسوه القلب- .عائشه قال رسول الله ص إذا أراد الله بأهل بیت خیرا أدخل علیهم باب رفقو عنها عنه ص من أعطی حظه من الرفق أعطی حظه من خیر الدنیا و الآخرهجریر بن عبد الله البحلی رفعه أن الله لیعطی على الرفق ما لا یعطی على الخرق- فإذا أحب الله عبدا أعطاه الرفق- و کان یقال ما دخل الرفق فی شیء إلا زانه- . أبو عون الأنصاری ما تکلم الإنسان بکلمه عنیفه- إلا و إلى جانبها کلمه ألین منها تجری مجراها- .
سئلت عائشه عن خلق رسول الله ص- فقالت کان خلقه القرآن- خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِینَ- . و سئل ابن المبارک عن حسن الخلق- فقال بسط الوجه و کف الأذى و بذل الندى- .ابن عباس أن الخلق الحسن یذیب الخطایا- کما تذیب الشمس الجلید- و أن الخلق السیئ یفسد العمل کما یفسد الخل العسلعلی ع ما من شیء فی المیزان أثقل من خلق حسنو عنه ع عنوان صحیفه المؤمن حسن خلقهو عنه ع مرفوعا علیکم بحسن الخلق فإنه فی الجنه- و إیاکم و سوء الخلق فإنه فی النار- .
قال المنصور لأخیه أبی العباس فی بنی حسن- لما أزمعوا الخروج علیه- آنسهم یا أمیر المؤمنین بالإحسان- فإن استوحشوا فالشر یصلح ما یعجز عنه الخیر- و لا تدع محمدا یمرح فی أعنه العقوق- فقال أبو العباس یا أبا جعفر- إنه من شدد نفر و من لان ألف- و التغافل من سجایا الکرام
فصل فی ذکر أسباب الغلظه و الفظاظه
و نحن نذکر بعد کلاما کلیا- فی سبب الغلظه و الفظاظه- و هو الخلق المنافی للخلق الذی کان علیه أمیر المؤمنین- فنقولإنه قد یکون لأمر عائد إلى المزاج الجسمانی- و قد یکون لأمر راجع إلى النفس- فأما الأول- فإنما یکون من غلبه الأخلاط السوداویه و ترمدها- و عدم صفاء الدم و کثره کدرته و عکره- فإذا غلظ الدم و ثخن غلظ الروح النفسانی و ثخن أیضا- لأنه متولد من الدم- فیحدث منه نوع مما یحدث لأصحاب الفطره- من الاستیحاش و النبوه عن الناس- و عدم الاستئناس و البشاشه- و صار صاحبه ذا جفاء و أخلاق غلیظه- و یشبه أن یکون هذا سببا مادیا- فإن الذی یقوى فی نفسی- أن النفوس إن صحت و ثبتت مختلفه بالذات- .
و أما الراجع إلى النفس- فأن یجتمع عندها أسقاط و أنصباء من قوى مختلفه مذمومه- نحو أن تکون القوه الغضبیه عندها متوافره- و ینضاف إلیها تصور الکمال فی ذاتها- و توهم النقصان فی غیرها- فیعتقد أن حرکات غیره واقعه على غیر الصواب- و أن الصواب ما توهمه- . و ینضاف إلى ذلک قله أدب النفس- و عدم الضبط لها و استحقارها للغیر- و یقل التوقیر له و ینضاف إلى ذلک لجاج- و ضیق فی النفس و حده و استشاطه و قله صبر علیه- فیتولد من مجموع هذه الأمور خلق دنی- و هو الغلظه و الفظاظه و الوعوره و البادره المکروهه- و عدم حبه الناس و لقاؤهم بالأذى و قله المراقبه لهم- و استعمال القهر فی جمیع الأمور و تناول الأمر من السماء- و هو قادر على أن یتناوله من الأرض- .
و هذا الخلق خارج عن الاعتدال و داخل فی حیز الجور- و لا ینبغی أن یسمى بأسماء المدح- و أعنی بذلک أن قوما یسمون هذا النوع من العنف- و الخلق الوعر رجولیه و شده و شکیمه- و یذهبون به مذهب قوه النفس و شجاعتها- الذی هو بالحقیقه مدح و شتان بین الخلقین- فإن صاحب هذا الخلق الذی ذممناه- تصدر عنه أفعال کثیره یجور فیها على نفسه ثم على إخوانه- على الأقرب فالأقرب من معاملیه- حتى ینتهی إلى عبیده و حرمه- فیکون علیهم سوط عذاب لا یقیلهم عثره- و لا یرحم لهم عبره و إن کانوا برآء الذنوب- غیر مجرمین و لا مکتسبی سوء بل یتجرم علیهم- و یهیج من أدنى سبب یجد به طریقا إلیهم-حتى یبسط یده و لسانه و هم لا یمتنعون منه- و لا تجاسرون على رده عن أنفسهم- بل یذعنون له و یقرون بذنوب لم یقترفوها- استکفافا لعادیته و تسکینا لغضبه- و هو فی ذلک یستمر على طریقته لا یکف یدا و لا لسانا- .
و أصل هذا الخلق الذی ذکرناه- أنه مرکب من قوى مختلفه من شده القوه الغضبیه- فهی الحامله لصاحب هذا الخلق- على ما یصدر عنه من البادره المکروهه و الجبه و القحه- و قد رأینا و شاهدنا من تشتد القوه الغضبیه فیه- فیتجاوز الغضب على نوع الإنسان- إلى البهائم التی لا تعقل و إلى الأوانی التی لا تحس- و ربما قام إلى الحمار و إلى البرذون فضربهما و لکمهما- و ربما کسر الآنیه لشده غضبه- و ربما عض القفل إذا تعسر علیه- و ربما کسر القلم إذا تعلقت به شعره من الدواه- و اجتهد فی إزالتها فلم تزل- .
و یحکى عن بعض ملوک الیونان المتقدمین- أنه کان یغضب على البحر إذا هاج و اضطرب- و تأخرت سفنه عن النفوذ فیه- فیقسم بمعبوده لیطمنه- و لیطرحن الجبال فیه حتى یصیر أرضا- و یقف بنفسه على البحر و یهدده بذلک- و یزجره زجرا عنیفا- حتى تدر أوداجه و یشتد احمرار وجهه- و منهم من لا یسکن غضبه- حتى یصب علیه ماء بارد أو حتى یبول- و لهذا ورد فی الشریعه- الأمر لمن اشتد غضبه أن یتوضأ للصلاه و یصلی- . و کان عمر بن الخطاب إذا غضب على واحد من أهله- لا یسکن غضبه حتى یعض یده عضا شدیدا حتى یدمیها- .
و ذکر الزبیر بن بکار فی الموفقیات- أن سریه جاءت لعبد الرحمن- أو لعبید الله بن عمر بن الخطاب إلیه تشکوه- فقالت یا أمیر المؤمنین أ لا تعذرنی من أبی عیسى- قال و من أبو عیسى قالت ابنک عبید الله- قال ویحک و قد تکنی بأبی عیسى ثم دعاه- فقال أیها اکتنیت بأبی عیسى فحذر و فزع- و أخذ یده فعضها ثم ضربه- و قال ویلک و هل لعیسى أب أ تدری ما کنى العرب- أبو سلمه أبو حنظله أبو عرفطه أبو مره- . قال الزبیر و کان عمر إذا غضب على بعض أهله- لم یسکن غضبه حتى یعض یده عضا شدیدا- و کان عبد الله بن الزبیر کذلک و لقوه هذا الخلق عنده- أضمر عبد الله بن عباس فی خلافته إبطال القول بالعول- و أظهره بعده فقیل له هلا قلت هذا فی أیام عمر- فقال هبته و کان أمیرا مهیبا- .
و لذلک قال أیضا أبو سفیان فی استلحاق زیاد- أخاف من هذا العیر الجالس أن یخرق علی إهابی- فإذا هابه أبو سفیان- و هو من بنی عبد مناف فی المنزله التی تعلم- و حوله بنو عبد شمس و هم جمره قریش- فما ظنک بمن هو دونه- . و قد علمت حال جبله بن الأیهم و ارتداده عن الإسلام- لتهدده له و وعیده إیاه أن یضربه بالدره- و فساد الحال بینه و بین خالد بن الولید- بعد أن کان ولیا مصافیا و منحرفا عن غیره قالیا- و الشأن الذی کان بینه و بین طلحه حتى هم أن یوقع به- و حتى هم طلحه أن یجاهره- و طلحه هو الذی قال لأبی بکر عند موته- ما ذا تقول لربک و قد ولیت فینا فظا غلیظا- و هو القائل له یا خلیفه رسول الله- إنا کنا لا نحتمل شراسته و أنت حی تأخذ على یدیه- فکیف یکون حالنا معه و أنت میت و هو الخلیفه- .
و اعلم أنا لا نرید بهذا القول ذمه رضی الله عنه- و کیف نذمه و هو أولى الناس بالمدح و التعظیم- لیمن نقیبته و برکه خلافته و کثره الفتوح فی أیامه- و انتظام أمور الإسلام على یده- و لکنا أردنا أن نشرح حال العنف و الرفق- و حال سعه الخلق و ضیقه و حال البشاشه و العبوس- و حال الطلاقه و الوعوره- فنذکر کل واحد منها ذکرا کلیا- لا نخص به إنسانا بعینه- فأما عمر فإنه و إن کان وعرا شدیدا خشنا- فقد رزق من التوفیق و العنایه الإلهیه و نجح المساعی- و طاعه الرعیه و نفوذ الحکم- و قوه الدین و حسن النیه و صحه الرأی- ما یربی محاسنه و محامده- على ما فی ذلک الخلق من نقص- و لیس الکامل المطلق إلا الله تعالى وحده- . فأما حدیث الرضیخه- و ما جعل معاویه لعمرو بن العاص- من جعاله على مبایعته و نصرته- فقد تقدم ذکره فی أخبار صفین- المشروحه فی هذا الکتاب من قبل
شرح نهج البلاغه(ابن أبی الحدید) ج ۶
بازدیدها: ۲۲۸