و من کلام له علیه السّلام قاله بعد تلاوته: (ألهاکم التکاثر حتى زرتم المقابر)
یَا لَهُ مَرَاماً مَا أَبْعَدَهُ وَ زَوْراً مَا أَغْفَلَهُ- وَ خَطَراً مَا أَفْظَعَهُ- لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَیَّ مُدَّکِرٍ وَ تَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَکَانٍ بَعِیدٍ- أَ فَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ یَفْخَرُونَ- أَمْ بِعَدِیدِ الْهَلْکَى یَتَکَاثَرُونَ یَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ وَ حَرَکَاتٍ سَکَنَتْ- وَ لَأَنْ یَکُونُوا عِبَراً أَحَقُّ مِنْ أَنْ یَکُونُوا مُفْتَخَراً- وَ لَأَنْ یَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّهٍ- أَحْجَى مِنْ أَنْ یَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّهٍ- لَقَدْ نَظَرُوا إِلَیْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَهِ- وَ ضَرَبُوا مِنْهُمْ فِی غَمْرَهِ جَهَالَهٍ- وَ لَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْکَ الدِّیَارِ الْخَاوِیَهِ- وَ الرُّبُوعِ الْخَالِیَهِ لَقَالَتْ- ذَهَبُوا فِی الْأَرْضِ ضُلَّالًا وَ ذَهَبْتُمْ فِی أَعْقَابِهِمْ جُهَّالًا- تَطَئُونَ فِی هَامِهِمْ وَ تَسْتَنْبِتُونَ فِی أَجْسَادِهِمْ- وَ تَرْتَعُونَ فِیمَا لَفَظُوا وَ تَسْکُنُونَ فِیمَا خَرَّبُوا- وَ إِنَّمَا الْأَیَّامُ بَیْنَکُمْ وَ بَیْنَهُمْ بَوَاکٍ وَ نَوَائِحُ عَلَیْکُمْ- أُولَئِکُمْ سَلَفُ غَایَتِکُمْ وَ فُرَّاطُ مَنَاهِلِکُمْ- الَّذِینَ کَانَتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ الْعِزِّ-وَ حَلَبَاتُ الْفَخْرِ مُلُوکاً وَ سُوَقاً سَلَکُوا فِی بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِیلًا سُلِّطَتِ الْأَرْضُ عَلَیْهِمْ فِیهِ- فَأَکَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ وَ شَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ- فَأَصْبَحُوا فِی فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لَا یَنْمُونَ- وَ ضِمَاراً لَا یُوجَدُونَ- لَا یُفْزِعُهُمْ وُرُودُ الْأَهْوَالِ- وَ لَا یَحْزُنُهُمْ تَنَکُّرُ الْأَحْوَالِ- وَ لَا یَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ وَ لَا یَأْذَنُونَ لِلْقَوَاصِفِ- غُیَّباً لَا یُنْتَظَرُونَ وَ شُهُوداً لَا یَحْضُرُونَ- وَ إِنَّمَا کَانُوا جَمِیعاً فَتَشَتَّتُوا وَ أُلَّافاً فَافْتَرَقُوا- وَ مَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ وَ لَا بُعْدِ مَحَلِّهِمْ- عَمِیَتْ أَخْبَارُهُمْ وَ صَمَّتْ دِیَارُهُمْ- وَ لَکِنَّهُمْ سُقُوا کَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً- وَ بِالسَّمْعِ صَمَماً وَ بِالْحَرَکَاتِ سُکُوناً- فَکَأَنَّهُمْ فِی ارْتِجَالِ الصِّفَهِ صَرْعَى سُبَاتٍ- جِیرَانٌ لَا یَتَأَنَّسُونَ وَ أَحِبَّاءُ لَا یَتَزَاوَرُونَ- بَلِیَتْ بَیْنَهُمْ عُرَا التَّعَارُفِ- وَ انْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الْإِخَاءِ- فَکُلُّهُمْ وَحِیدٌ وَ هُمْ جَمِیعٌ- وَ بِجَانِبِ الْهَجْرِ وَ هُمْ أَخِلَّاءُ- لَا یَتَعَارَفُونَ لِلَیْلٍ صَبَاحاً وَ لَا لِنَهَارٍ مَسَاءً- أَیُّ الْجَدِیدَیْنِ ظَعَنُوا فِیهِ کَانَ عَلَیْهِمْ سَرْمَداً- شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا- وَ رَأَوْا مِنْ آیَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا- فَکِلْتَا الْغَایَتَیْنِ مُدَّتْ لَهُمْ- إِلَى مَبَاءَهٍ فَاتَتْ مَبَالِغَ الْخَوْفِ وَ الرَّجَاءِ- فَلَوْ کَانُوا یَنْطِقُونَ بِهَا- لَعَیُّوا بِصِفَهِ مَا شَاهَدُوا وَ مَا عَایَنُوا- وَ لَئِنْ عَمِیَتْ آثَارُهُمْ وَ انْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ- لَقَدْ رَجَعَتْ فِیهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ- وَ سَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ- وَ تَکَلَّمُوا مِنْ غَیْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ- فَقَالُوا کَلَحَتِ الْوُجُوهُ النَّوَاضِرُ وَ خَوَتِ الْأَجْسَامُ النَّوَاعِمُ- وَ لَبِسْنَا أَهْدَامَ الْبِلَى وَ تَکَاءَدَنَا ضِیقُ الْمَضْجَعِ- وَ تَوَارَثْنَا الْوَحْشَهَ وَ تَهَکَّمَتْ عَلَیْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ- فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا وَ تَنَکَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا- وَ طَالَتْ فِی مَسَاکِنِ الْوَحْشَهِ إِقَامَتُنَا- وَ لَمْ نَجِدْ مِنْ کَرْبٍ فَرَجاً وَ لَا مِنْ ضِیقٍ مُتَّسَعاً- فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِکَ- أَوْ کُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَکَ- وَ قَدِ ارْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَکَّتْ- وَ اکْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَاب فَخَسَفَتْ- وَ تَقَطَّعَتِ الْأَلْسِنَهُ فِی أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلَاقَتِهَا- وَ هَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِی صُدُورِهِمْ بَعْدَ یَقَظَتِهَا- وَ عَاثَ فِی کُلِّ جَارِحَهٍ مِنْهُمْ جَدِیدُ بِلًى سَمَّجَهَا- وَ سَهَّلَ طُرُقَ الْآفَهِ إِلَیْهَا- مُسْتَسْلِمَاتٍ فَلَا أَیْدٍ تَدْفَعُ وَ لَا قُلُوبٌ تَجْزَعُ- لَرَأَیْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ وَ أَقْذَاءَ عُیُونٍ- لَهُمْ فِی کُلِّ فَظَاعَهٍ صِفَهُ حَالٍ لَا تَنْتَقِلُ- وَ غَمْرَهٌ لَا تَنْجَلِی- فَکَمْ أَکَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ عَزِیزِ جَسَدٍ وَ أَنِیقِ لَوْنٍ- کَانَ فِی الدُّنْیَا غَذِیَّ تَرَفٍ وَ رَبِیبَ شَرَفٍ- یَتَعَلَّلُ بِالسُّرُورِ فِی سَاعَهِ حُزْنِهِ- وَ یَفْزَعُ إِلَى السَّلْوَهِ إِنْ مُصِیبَهٌ نَزَلَتْ بِهِ- ضَنّاً بِغَضَارَهِ عَیْشِهِ وَ شَحَاحَهً بِلَهْوِهِ وَ لَعِبِهِ فَبَیْنَا هُوَ یَضْحَکُ إِلَى الدُّنْیَا وَ تَضْحَکُ إِلَیْهِ- فِی ظِلِّ عَیْشٍ غَفُولٍ إِذْ وَطِئَ الدَّهْرُ بِهِ حَسَکَهُ- وَ نَقَضَتِ الْأَیَّامُ قُوَاهُ- وَ نَظَرَتْ إِلَیْهِ الْحُتُوفُ مِنْ کَثَبٍ- فَخَالَطَهُ بَثٌّ لَا یَعْرِفُهُ وَ نَجِیُّ هَمٍّ مَا کَانَ یَجِدُهُ- وَ تَوَلَّدَتْ فِیهِ فَتَرَاتُ عِلَلٍ آنَسَ مَا کَانَ بِصِحَّتِهِ- فَفَزِعَ إِلَى مَا کَانَ عَوَّدَهُ الْأَطِبَّاءُ- مِنْ تَسْکِینِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ وَ تَحْرِیکِ الْبَارِدِ بِالْحَارِّ- فَلَمْ یُطْفِئْ بِبَارِدٍ إِلَّا ثَوَّرَ حَرَارَهً- وَ لَا حَرَّکَ بِحَارٍّ إِلَّا هَیَّجَ بُرُودَهً- وَ لَا اعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ لِتِلْکَ الطَّبَائِعِ- إِلَّا أَمَدَّ مِنْهَا کُلَّ ذَاتِ دَاءٍ- حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ وَ ذَهَلَ مُمَرِّضُهُ- وَ تَعَایَا أَهْلُهُ بِصِفَهِ دَائِهِ- وَ خَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّاِئِلینَ عَنْهُ- وَ تَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِیَّ خَبَرٍ یَکْتُمُونَهُ- فَقَائِلٌ هُوَ لِمَا بِهِ وَ مُمَنٍّ لَهُمْ إِیَابَ عَافِیَتِهِ- وَ مُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِهِ- یُذَکِّرُهُمْ أُسَى الْمَاضِینَ مِنْ قَبْلِهِ- فَبَیْنَا هُوَ کَذَلِکَ عَلَى جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْیَا- وَ تَرْکِ الْأَحِبَّهِ- إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ- فَتَحَیَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ وَ یَبِسَتْ رُطُوبَهُ لِسَانِهِ- فَکَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَیَّ عَنْ رَدِّهِ- وَ دُعَاءٍ مُؤْلِمٍ بِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عَنْهُ- مِنْ کَبِیرٍ کَانَ یُعَظِّمُهُ أَوْ صَغِیرٍ کَانَ یَرْحَمُهُ- وَ إِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِیَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَهٍ- أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْیَا
اللغه
أقول: المرام: المطلوب.
و الزور: الزائرون.
و الخطر: الإشراف على الهلاک.
و الفظیع: الشدید الّذی جاوز الحدّ فی شدّته.
و استحلوا: أى اتّخذوا تحلیه الذکر و أبهم و شأنهم، و قیل: استخلوا: أى وجدوه خالیا.
و التناوش:التنازل.
و أحجى: أولى بالحجى و هو العقل.
و العشوه: رکوب الأمر على جهل به.
و ترتعون: یتنعمون.
و لفظوا: أرموا و ترکوا.
و الفارط: السابق إلى الماء و المورد.
و حلبات الفخر: جماعاته.
و السوق: جمع سوقه و هى الرعیّه.
و البرزخ: ما بین الدنیا و الآخره من وقت الموت إلى البعث.
و الفجوات: جمع فجوه و هى المتّسع من الأرض.
و الضمار: الغایب الّذی لا یرجى إیابه.
و یحفلون: یبالون.
و الرواجف: الزلازل.
و یأذنون: یسمعون.
و ارتجال الصفه: انتشاؤها.
و السبات: النوم، و أصله الراحه.
و أفظع: أشدّ.
و المباءه: الموضع یبوء الإنسان إلیه: أى یرجع: و عىّ عن الکلام: أى عجز عنه.
و الکلوح: تکشّر فی عبوس.
و الأهدام: جمع هدم، و هو الثوب البالى.
و تکاءدنا: شقّ علینا و صعب.
و تهکّعت: تهدّمت.
و ارتسخت: ثبتت فی قرارها الهوام.
و استکّت: انسدّت.
و ذلاقه اللسان: حدّته و سهوله الکلام به.
و همدت: سکنت و بلیت.
و عاث: انسدّ.
و سمّجها: قبّحها.
و الأشجان: الأحزان.
و الأنیق: العجب للناظر.
و غضاره العیش: طیّبه.
و الکثب: القرب.
و البثّ: الحال من همّ و حزن.
و القارّ و القرور: الماء البارد.
المعنى
و فی الفصل فوائد:
فالاولى: اللام فی قوله: یا له. لام الجرّ للتعجّب کقولهم: یا للدواهى، و الجارّ و المجرور فی محلّ النصب لأنّه المنادى و یروى: یا مراما. و مراما و زورا و خطرا منصوبات على التمیز لمعنى التعجّب من بعد ذلک المرام و هو التکاثر فإنّ الغایه المطلوبه منه لا یدرکها الإنسان لأنّ کلّ غایه بلغها ففوقها غایه اخرى قد أدرکها غیره فنفسه تطمح إلیها، و ذلک التعجّب من شدّه غفله الزور: أى الزائرین للمقابر لأنّ الکلام خرج بسبب الآیه، و ظاهر أنّ غفله الإنسان عمّا یزور و یقدم بعد تلک الزیاره علیه غفله عظیمه و هى محلّ التعجّب، و کذلک التعجّب من فظاعه الخطر و الإشراف على شدائد الآخره فإنّ کلّ خطر دنیائى یستحقر فی جنبه، و الضمیر فی قوله: استحلوا للأحیاء، و فی منهم للأموات، و عنّى بالذکر عمّا خلّفوه من الآثار الّتی هى محلّ العبره. و قوله: أىّ مدّکر. استفهام على سبیل التعجّب من ذلک المدّکر فی أحسن إفادته للعبر لاولى الأبصار، و تناوشوهم من مکان بعید: أى ترکهم ما ینتفعون به و هو المدّکر من جهه الاعتبار به و تناولوهم من جهه بعیده، و الّذی تناولوه هو افتخار کلّ منهم بأبه و قبیلته، و مکاثرته بالماضین من قومه الّذینهم بعد الموت أبعد الناس عنه أو الّذین کمالاتهم أبعد الکمالات عنه، و کنّى بالمکان البعید عن ذلک الاعتبار فإنّ الأموات و کمالاتهم فی أبعد الاعتبارات عن الأحیاء و الأبناء، و لذلک استفهم عن ذلک استفهام إنکار و توبیخ فقال: أ فبمصارع آبائهم یفخرون. إلى قوله: سکنت، و ذلک الارتجاع بالمفاخره بهم فکأنّهم بذکرهم لهم فی الفخر قد ارتجعوهم بعد موتهم، و یحتمل أن یکون ذلک مستفهما عنه أیضا على سبیل الإنکار و إن لم یکن حرف الاستفهام، و التقدیر أ یرتجعون منهم بفخرهم لهم أجسادا خوت.
و قوله: و لأن یکونوا عبرا أحقّ من أن یکونوا مفتخرا. مؤکّد لتوبیخه لهم ترک العبره بالمدّکر الّذی هو وجه النفع و أخذهم بالوجه البعید و هو الافتخار، و کشف لمعناه. و کذلک قوله: لأن یهبطوا بهم جناب ذلّه: أى بالاعتبار بمصارعهم فإنّه یستلزم الخشوع لعزّه اللّه و الخشیه منه. و ذلک أولى بالعقل و التدبیر من أن یقوموا بهم مقام عزّه بالمفاخره و المکاثره، و أضاف الأبصار إلى العشوه لنسبتها إلیها: أى نظروا إلیها بأبصار قلوب غطّى علیها الجهل بأحوالهم فساروا فی تلک الأحوال بجهاله غامره لهم. و قوله: و لو استنطقوا. إلى قوله: لقالت. أى لو طلبت منها النطق لقالت بلسان حالها کذا و کذا. إلى قوله: و تسکنون فیما خرّبوا، و یحتمل أن یکون باقى الفصل کلّه مقولا بلسان حال تلک الدیار، و النصب فی قوله: ضلّالا و جهّالا على الحال: أى ذهبوا فی الأرض هالکین و ذهبتم بعدهم جاهلین بأحوالهم تطئون رؤسهم و تستنبتون الأشجار فی أجسادهم و ذلک فی المواضع الّتی بلیت فیها الأجساد، و استعار لفظ البواکى و النوائح لأیّام الحیاه ملاحظه لشبهها فی مفارقتهم لها بالامّهات الّتی فارقها أولادها بالموت. و قوله: اولئک سلف غایتکم و فرّاط مناهلکم. السابقون لکم إلى غایتکم و هى الموت و ما بعده، و إلى مناهلکم و هى تلک الموارد أیضا، و مقاوم: جمع مقام لأنّ ألفه عن واو، و ملوکا و سوقا نصب على الحال، و بطون البرزخ ما غاب و بطن منه عن علومنا و مشاهداتنا، و السبیل فیه هى مسلک القدر بهم إلى غایاتهم الاخرویّه من سعاده أو شقاوه، و نسبه الأکل و الشرب إلى الأرض مجاز یقارب الحقیقه فی کثره الاستعمال، و إنّما سلب عنهم النموّ و الفزع من ورود أهوال الأرض علیهم، و الحزن من تغیّر الأحوال بهم، و الحفله بزلازل الأرض و سماع الریاح القاصفه، لکون انتظار ذلک من توابع الحیاه و صفاتها.
فإن قلت: فهذا ینافی ما نقل من عذاب القبر فإنّه یستلزم الفزع و الحزن.
قلت: إنّما سلب عنهم الفزع و الحزن من أحوال الدنیا المشاهده لنا، و کذلک الحفله بأهوالها و سماعها. و عذاب القبر لیس من ذلک القبیل بل من أحوال الآخره و أهوالها، و لا یلزم من سلب الفزع الخاصّ سلب العامّ، و نبّه على أنّ غیبتهم و شهودهم لیس کغیبه أهل الدنیا و شهودهم. إذ کان الغائب فی الدنیا من شأنه أن ینتظر و الشاهد فیها حاضر و هم شاهدون بأبدانهم مع صدق الغیبه علیهم عنّا: أى بأنفسهم، و لمّا امتنع ذلک العود لا جرم صدق أنّهم غیّب لا ینتظرون و شهود لا یحضرون. و قوله: و ما عن طول عهدهم. إلى قوله: سکونا. أى عدم علمنا بأخبارهم و صمم دیارهم عند ندائنا لیس لأجل طول عهد بیننا و بینهم و لا بعد محلّتهم و مستقرّهم فإنّ المیّت حال موته و هو بعد مطروح الجسد مشاهد لنا تعمى علینا أخباره و لا یسمع نداءنا دیاره، و لکن ذلک لأجل أنّهم سقوا کأس المنیّه فبدّلتهم بالنطق خرسا و بالسمع صمما و بالحرکات سکونا و إسناد العمى إلى الأخبار و الصمم إلى الدیار مجاز کقولهم: نهاره صائم و لیله قایم. و قوله: فکأنّهم. إلى قوله: سبات. أى إذا أراد أحد ینشىء صفه حالهم، شبّههم بالصرعى عن النوم، و وجه الشبه عدم الحرکات و السماع و النطق مع الهیئه المشاهده من المستغرق فی نومه. ثمّ نبّه على أنّهم فی أحوالهم الاخرویّه من تجاورهم مع وحدتهم و تهاجرهم لیس کتلک الأحوال فی الدنیا. إذ من شأن الجیران فیها أن یأنس بعضهم ببعض، و الأحیاء أن تزاوروا، و الواحد أن لا یکون فی جماعه. و أشار بالجوار إلى تقارب أبدانهم فی القبور، و بالمحابّه إلى ما کانوا علیه من التحابّ فی الدنیا، و بهجرهم إلى عدم تزاورهم، و کذلک خلالهم إلى ما کانوا علیه من المودّه فی الدنیا، و کونهم لا یتعارفون للیل صباحا و لا لنهار مساء لکون اللیل و النهار من لواحق الحرکات الدنیویّه الفانیه عنهم فتساوى اللیل و النهار بالنسبه إلیهم،
و کذلک قوله: أىّ الجدیدین.إلى قوله: سرمدا، و الجدیدان اللیل و النهار لتجدّد کلّ منهما أبدا. و استعار وصف الظعن لانتقالهم إلى الدار الآخره، و کون ذلک الجدید الّذی ظعنوا فیه سرمدا علیهم لیس حقیقه لعدم عوده بعینه بل إسناد السرمدیّه إلیه لکونه جزء من الزمان الّذی یلزمه السرمدیّه لذاته حقیقه.
و قوله: شاهدوا. إلى قوله: عاینوا. إشاره إلى صعوبه أهوال الآخره و عظمه أحوالها بالنسبه إلى ما یخاف منها فی الدنیا، و ذلک أمر عرف بأخبار الشریعه الحقّه و تأکّد باستقراء اللذّات و الآلام العقلیّه و نسبتها إلى الحسیّه. ثمّ إنّ الخوف و الرجاء لامور الآخره إنّما یبعثان منّا بسبب وصف تلک الامور، و إنّما یفعل من تلک الأوصاف ما کان فیه مناسبه و تشبّه بالامور المخوفه و المرجّوه فی الدنیا فنحن نتصوّر تلک على قیاس هذه فذلک سبب سهولتها علینا و ضعف خوفنا منها و رجائنا لها حتّى لو شاهدنا أخطار تلک الدار لشاهدنا أشدّ ممّا نخافه الآن و نتصوّره و نقدّره بأوهامنا. فلا جرم لمّا وصل السابقون شاهدوا أفظع ممّا خافوا، و لو أمکنهم النطق لعیّوا بصفه ما شاهدوا منها و عجزوا عن شرحها.
و قوله: فکلتا الغایتین. أى غایه المؤمنین و الکافرین من سعاده و شقاوه مدّت: أى مدّ لهم أجل ینتهون فیه إلى غایه و مرجع و هو الجنّه أو النار، و ذلک المرجع یفوت مبالغ خوفنا و رجاءنا: أى هو أعظم ممّا نخافه و نرجوه، و أسند المدّ إلى الغایه مجازا. و قوله: لقد رجعت. إلى قوله. النطق. من أفصح الکلام و أبلغه، و أبصار العبر أبصار البصائر الّتی یعتبر بها، و آذان العقول مجاز فی علمها بأحوالهم الّتی من شأنها أن تسمع إطلاقا لاسم السبب على المسبّب.
و قوله: و تکلّموا من غیر جهات النطق. أى من غیر أفواه و ألسنه لحمانیّه و لکن بألسنه أحوالیّه. و قوله: فقالوا. إلى قوله: متّسعا. إشاره إلى ما تنطق به ألسنه أحوالهم و تحکیه منها فی القبور، و روى عوض خلت خوت، و استعار لفظ الأهدام للتغیّر و التقشّف و التمزیق العارض لجسم المیّت لمشابهتها العظم البالى، و یحتمل أن یرید بها الأکفان، و المضجع: القبر. و توارث الوحشه: أى وحشه القبر، و استعار لفظ التوارث لکون تلک الوحشه کانت لآبائهم قبلهم فحصلت لهم بعدهم، و الربوع الصموت: أیضا القبور.
و کذلک مساکن الوحشه. و معارف صورهم: ما کان معروفا منها فی الدنیا. و قوله: فلو مثّلتهم بعقلک. أى تخیّلت صورهم و استحضرتها فی خیالک و کشف عنهم محجوب الغطاء لک: أى ما حجب بأغطیه التراب و السواتر لأجسادهم عن بصرک. و الواو فی قوله: و قد ارتسخت. للحال، و یقظه قلوبهم استعاره لحیاتهم و حرکاتها، و إسناد العبث إلى جدید البلى مجاز، و مستسلمات حال للجوارح و العامل عاث و سهل، واللام فی قوله: لرأیت. جواب لو، و أحسن بقوله: لهم فی کلّ فظاعه صفه حال لا تنتقل و غمره لا تنجلى. وصفا إجمالیّا. فإنّه لا مزید علیه فی البلاغه اللذیذه، و أراد بالغمره من الفظاعه ما یغمرهم من الشدائد، و الغذىّ فعیل بمعنى مفعول: أى مغذى بالترف. و قوله: و یفزع إلى السلوه. أى عن المصیبه النازله له إلى المسرّات و المتنزّهات، و ضحکه إلى الدنیا کنایه عن ابتهاجه بها و ما فیها من القینات و غایه إقباله علیه لأنّ غایه المبتهج بالشیء أن یضحک له، و کذلک ضحک الدنیا مجاز فی إقبالها علیه إطلاقا لاسم السبب الغائى على مسبّبه، و أصل بینا بین و الألف عن إشباع الفتحه، و العیش الغفول الّذی یکثر الغفله فیه لطیبه. و استعار لفظ الحسک للآلام و الأمراض و مصائب الدهر، و وجه المشابهه استلزامها للأذى کاستلزام الحسک له، و رشّح بذکر الوطى، و کذلک استعار وصف النظر لإقبال الحتوف إلیه لاستعداد لها فشابهت فی ذلک الراصد للشیء المصوب إلیه نظره لیقتنصه، و البثّ و النجىّ من الهمّ الحال الّتی یجدها الإنسان عند و هم الموت من الوسواس و التخیّلات و الغموم و الأحزان الّتی عند و هم الموت من الوسواس و التخیّلات و الغموم و الأحزان الّتی لم تکن تعرض له. و قوله: فتولّدت فیه فترات علل آنس ما کان بصحّته. و انتصاب آنس على الحال، و ما بمعنى الزمان، و کان تامّه، و بصحّته متعلّق بآنس: أى حال ما هو آنس زمان مدّه صحّته، و قیل: ما مصدریّه، و التقدیر آنس کونه على أحواله لصحّته. و قوله، فلم یطفىء ببارد إلّا ثوّر حراره. إلى قوله: ذات داء. إشاره إلى لوازم العلاج عند سقوطه العلّه من المرض الحارّه و البارد المقاوم لها، و لیس العلاج بالبارد هو المثوّر للحراره و لا بالعکس لأنّ الدواء معین للطبیعه على مقاومه المرض فلا یکون مثوّرا له، و لکن ما کان مع ذلک العلاج و تلک الإعانه لغلب الحراره و البروده و یظهر بسبب ذلک: أى الدواء، و کذلک قوله: و لا اعتدل بممازج لتلک الطبایع إلّا أمدّ منها کلّ ذات داء: أى و لا اعتدل المریض فی علاجه نفسه بما یمازج تلک الطبایع من الحراره و البروده و الرطوبه و الیبوسه إلّا کان مادّه لداء، و لیس مادّه على الحقیقه و لکن لمّا کان یغلب معه المرض على القوّه فکأنّه مادّه له فنسب إلیه و هى امور عرفیّه یقال کثیرا، و الکلام فیها على المتعارف. و قوله: حتّى فتر معلّله. غایه تلک اللوازم. و معلّله: طبیبه و ممرّضه. و خرس أهله عن جواب السائل: إشاره إلى سکوتهم عند السؤال من حاله، و ذلک أنّهم لا یخبرون عن عافیه لعدمها، و تکره نفوسهم الإخبار عنه بما هو علیه من الحال لشدّتها علیهم، فیکون شأنهم فی ذلک السکوت عن حاله المشبه للخرس فی جوابه. فذلک استعاره له. و قوله: و تنازعوا. إلى قوله: من قبله. إشاره إلى ما یتحاوره أهل المریض المشرف على الموت من أحواله و صوره بما العاده جاریه أن یقولوه. و قوله: فبینا هو کذلک. صفه حال الأخذ فی الموت المعتاد للناس. و قوله: إنّ للموت. إلى آخره. تلک الغمرات و کونها، أفظع من أن یحیط بها وصف الإنسان أو یستقیم شرحها على الإنسان کما یخبر علیه السّلام. و یعلم ذلک على سبیل الجمله و بالحدس و القیاس إلى الأمراض الصعبه الّتی یمارسها الناس و یشتدّ علیهم فیعرف عند مقاساتها و معاناه شدایدها. و کان صلّى اللّه علیه و آله و سلّم یقول فی سکرات موته: الّلهمّ أعنّى على سکرات الموت. و ما یستعین علیه الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلّم مع کمال اتّصاله بالعالم الأعلى فلا شکّ فی شدّته. و باللّه التوفیق.
شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۴ ، صفحهى ۵۶
بازدیدها: ۲۰