۱: فمن خطبه له ع- یذکر فیها ابتداء خلق السماء و الأرض و خلق آدم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی لَا یَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ- وَ لَا یُحْصِی نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ- وَ لَا یُؤَدِّی حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَ- الَّذِی لَا یُدْرِکُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ- وَ لَا یَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ- الَّذِی لَیْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ- وَ لَا نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لَا وَقْتٌ مَعْدُودٌ- وَ لَا أَجْلٌ مَمْدُودٌ- فَطَرَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ- وَ نَشَرَ الرِّیَاحَ بِرَحْمَتِهِ- وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَیَدَانَ أَرْضِهِ
الذی علیه أکثر الأدباء و المتکلمین- أن الحمد و المدح أخوان لا فرق بینهما- تقول حمدت زیدا على إنعامه و مدحته على إنعامه- و حمدته على شجاعته و مدحته على شجاعته- فهما سواء یدخلان فیما کان من فعل الإنسان- و فیما لیس من فعله کما ذکرناه من المثالین- فأما الشکر فأخص من المدح- لأنه لا یکون إلا على النعمه خاصه- و لا یکون إلا صادرا من منعم علیه- فلا یجوز عندهم أن یقال- شکر زید عمرا لنعمه أنعمها عمرو على إنسان غیر زید- . إن قیل الاستعمال خلاف ذلک- لأنهم یقولون حضرنا عند فلان- فوجدناه یشکر الأمیر على معروفه عند زید- قیل ذلک إنما یصح إذا کان إنعام الأمیر على زید- أوجب سرور فلان- فیکون شکر إنعام الأمیر على زید- شکرا على السرور الداخل على قلبه بالإنعام على زید- و تکون لفظه زید التی استعیرت ظاهرا- لاستناد الشکر إلى مسماها کنایه لا حقیقه- و یکون ذلک الشکر شکرا باعتبار السرور المذکور- و مدحا باعتبار آخر- و هو المناداه على ذلک الجمیل و الثناء- الواقع بجنسه- . ثم إن هؤلاء المتکلمین الذین حکینا قولهم- یزعمون أن الحمد و المدح و الشکر- لا یکون إلا باللسان مع انطواء القلب- على الثناء و التعظیم- فإن استعمل شیء من ذلک- فی الأفعال بالجوارح کان مجازا- و بقی البحث عن اشتراطهم مطابقه القلب للسان- فإن الاستعمال لا یساعدهم- لأن أهل الاصطلاح یقولون لمن مدح غیره- أو شکره ریاء و سمعه- إنه قد مدحه و شکره و إن کان منافقا عندهم- و نظیر هذا الموضع الإیمان- فإن أکثر المتکلمین لا یطلقونه- على مجرد النطق اللسانی- بل یشترطون فیه الاعتقاد القلبی- فأما أن یقصروا به علیه- کما هو مذهب الأشعریه و الإمامیه- أو تؤخذ معه أمور أخرى- و هی فعل الواجب و تجنب القبیح- کما هو مذهب المعتزله- و لا یخالف جمهور المتکلمین فی هذه المسأله- إلا الکرامیه- فإن المنافق عندهم یسمى مؤمنا- و نظروا إلى مجرد الظاهر- فجعلوا النطق اللسانی وحده إیمانا- . و المدحه هیئه المدح کالرکبه هیئه الرکوب- و الجلسه هیئه الجلوس و المعنى مطروق جدا- و منه فی الکتاب العزیز کثیر- کقوله تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَهَ اللَّهِ لا تُحْصُوها و فی الأثر النبوی لا أحصی ثناء علیک أنت کما أثنیت على نفسک
– و قال الکتاب من ذلک ما یطول ذکره- فمن جید ذلک قول بعضهم- الحمد لله على نعمه التی منها- إقدارنا على الاجتهاد فی حمدها- و إن عجزنا عن إحصائها و عدها- و قالت الخنساء بنت عمرو بن الشرید-
فما بلغت کف امرئ متناول
بها المجد إلا و الذی نلت أطول
و لا حبر المثنون فی القول مدحه
و إن أطنبوا إلا و ما فیک أفضل
– . و من مستحسن ما وقفت علیه- من تعظیم البارئ عز جلاله بلفظ الحمد- قول بعض الفضلاء فی خطبه أرجوزه علمیه-
الحمد لله بقدر الله
لا قدر وسع العبد ذی التناهی
و الحمد لله الذی برهانه
أن لیس شأن لیس فیه شانه
و الحمد لله الذی من ینکره
فإنما ینکر من یصوره
– . و أما قوله الذی لا یدرکه- فیرید أن همم النظار و أصحاب الفکر- و إن علت و بعدت فإنها لا تدرکه تعالى و لا تحیط به- و هذا حق لأن کل متصور فلا بد أن یکون محسوسا- أو متخیلا أو موجودا من فطره النفس- و الاستقراء یشهد بذلک- مثال المحسوس السواد و الحموضه- مثال المتخیل إنسان یطیر أو بحر من دم- مثال الموجود من فطره النفس تصور الألم و اللذه- و لما کان البارئ سبحانه خارجا عن هذا أجمع- لم یکن متصورا- . فأما قوله الذی لیس لصفته حد محدود- فإنه یعنی بصفته هاهنا کنهه و حقیقته- یقول لیس لکنهه حد- فیعرف بذلک الحد قیاسا على الأشیاء المحدوده- لأنه لیس بمرکب و کل محدود مرکب- . ثم قال و لا نعت موجود- أی و لا یدرک بالرسم کما تدرک الأشیاء برسومها- و هو أن تعرف بلازم من لوازمها و صفه من صفاتها- ثم قال و لا وقت معدود و لا أجل ممدود- فیه إشاره إلى الرد على من قال- إنانعلم کنه البارئ سبحانه لا فی هذه الدنیا بل فی الآخره- فإن القائلین برؤیته فی الآخره یقولون- إنا نعرف حینئذ کنهه- فهو ع رد قولهم- و قال إنه لا وقت أبدا على الإطلاق- تعرف فیه حقیقته و کنهه لا الآن و لا بعد الآن- و هو الحق لأنا لو رأیناه فی الآخره- و عرفنا کنهه لتشخص تشخصا- یمنع من حمله على کثیرین- و لا یتصور أن یتشخص هذا التشخص- إلا ما یشار إلى جهته و لا جهه له سبحانه- و قد شرحت هذا الموضع فی کتابی- المعروف بزیادات النقضین- و بینت أن الرؤیه المنزهه عن الکیفیه- التی یزعمها أصحاب الأشعری- لا بد فیها من إثبات الجهه- و أنها لا تجری مجرى العلم- لأن العلم لا یشخص المعلوم و الرؤیه تشخص المرئی- و التشخیص لا یمکن إلا مع کون المتشخص ذا جهه- . و اعلم أن نفی الإحاطه مذکور فی الکتاب العزیز- فی مواضع منها قوله تعالى وَ لا یُحِیطُونَ بِهِ عِلْماً- و منها قوله یَنْقَلِبْ إِلَیْکَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِیرٌ- و قال بعض الصحابه- العجز عن درک الإدارک إدراک- و قد غلا محمد بن هانئ- فقال فی ممدوحه المعز أبی تمیم معد بن المنصور العلوی-
أتبعته فکری حتى إذا بلغت
غایاتها بین تصویب و تصعید
رأیت موضع برهان یلوح و ما
رأیت موضع تکییف و تحدید
– . و هذا مدح یلیق بالخالق تعالى و لا یلیق بالمخلوق- . فأما قوله فطر الخلائق إلى آخر الفصل- فهو تقسیم مشتق من الکتاب العزیز- فقوله فطر الخلائق بقدرته- من قوله تعالى قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَیْنَهُمَا- و قوله و نشر الریاح برحمته- من قوله یرسل الریاح نشرا بین یدی رحمته- . و قوله و وتد بالصخور میدان أرضه- من قوله وَ الْجِبالَ أَوْتاداً- و المیدان التحرک و التموج- . فأما القطب الراوندی رحمه الله فإنه قال- إنه ع أخبر عن نفسه بأول هذا الفصل أنه یحمد الله- و ذلک من ظاهر کلامه- ثم أمر غیره من فحوى کلامه أن یحمد الله- و أخبر ع أنه ثابت على ذلک مده حیاته- و أنه یجب على المکلفین ثبوتهم علیه ما بقوا- و لو قال أحمد الله لم یعلم منه جمیع ذلک- ثم قال و الحمد أعم من الشکر و الله أخص من الإله- قال فأما قوله الذی لا یبلغ مدحته القائلون- فإنه أظهر العجز عن القیام بواجب مدائحه- فکیف بمحامده- و المعنى أن الحمد کل الحمد ثابت للمعبود- الذی حقت العباده له فی الأزل- و استحقها حین خلق الخلق- و أنعم بأصول النعم التی یستحق بها العباده- . و لقائل أن یقول- إنه لیس فی فحوى کلامه أنه أمر غیره أن یحمد الله- و لیس یفهم من قول بعض رعیه الملک لغیره منهم- العظمه و الجلال لهذا الملک- أنه قد أمرهم بتعظیمه و إجلاله- و لا أیضا فی الکلام ما یدل على أنه ثابت على ذلک- مده حیاته- و أنه یجب على المکلفین ثبوتهم علیه ما بقوا- . و لا أعلم کیف قد وقع ذلک للراوندی- فإن زعم أن العقل یقتضی ذلک فحق- و لکن لیس مستفادا من الکلام- و هو أنه قال إن ذلک موجود فی الکلام- . فأما قوله لو کان قال أحمد الله لم یعلم منه جمیع ذلک- فإنه لا فرق فی انتفاء دلاله أحمد الله على ذلک- و دلاله الحمد لله- و هما سواء فی أنهما لا یدلان على شیء- من أحوال غیر القائل- فضلا عن دلالتهما على ثبوت ذلک- و دوامه فی حق غیر القائل- . و أما قوله الله أخص من الإله- فإن أراد فی أصل اللغه فلا فرق- بل الله هو الإله و فخم بعد حذف الهمزه- هذا قول کافه البصریین- و إن أراد أن أهل الجاهلیه- کانوا یطلقون على الأصنام لفظه الإلهه- و لا یسمونها الله- فحق و ذلک عائد إلى عرفهم و اصطلاحهم- لا إلى أصل اللغه و الاشتقاق- أ لا ترى أن الدابه فی العرف لا تطلق على القمله- و إن کانت فی أصل اللغه دابه- . فأما قوله قد أظهر العجز عن القیام بواجب مدائحه- فکیف بمحامده- فکلام یقتضی أن المدح غیر الحمد- و نحن لا نعرف فرقا بینهما- و أیضا فإن الکلام لا یقتضی العجز عن القیام بالواجب- لا من الممادح و لا من المحامد- و لا فیه تعرض لذکر الوجوب- و إنما نفى أن یبلغ القائلون مدحته لم یقل غیر ذلک- . و أما قوله الذی حقت العباده له فی الأزل- و استحقها حین خلق الخلق و أنعم بأصول النعم- فکلام ظاهره متناقض- لأنه إذا کان إنما استحقها حین خلق الخلق- فکیف یقال إنه استحقها فی الأزل- و هل یکون فی الأزل مخلوق لیستحق علیه العباده- . و اعلم أن المتکلمین لا یطلقون على البارئ سبحانه- أنه معبود فی الأزل أو مستحق للعباده فی الأزل- إلا بالقوه لا بالفعل- لأنه لیس فی الأزل مکلف یعبده تعالى- و لا أنعم على أحد فی الأزل- بنعمه یستحق بها العباده- حتى أنهم قالوا فی الأثر الوارد- یا قدیم الإحسان- إن معناه أن إحسانه متقادم العهد- لا أنه قدیم حقیقه کما جاء فی الکتاب العزیز- حَتَّى عادَ کَالْعُرْجُونِ الْقَدِیمِ- أی الذی قد توالت علیه الأزمنه المتطاوله- . ثم قال الراوندی- و الحمد و المدح یکونان بالقول و بالفعل- و الألف و اللام فی القائلون لتعریف الجنس- کمثلهما فی الحمد- و البلوغ المشارفه- یقال بلغت المکان إذا أشرفت علیه- و إذا لم تشرف على حمده تعالى بالقول- فکیف توصل إلیه بالفعل- و الإله مصدر بمعنى المألوه- . و لقائل أن یقول الذی سمعناه- أن التعظیم یکون بالقول و الفعل- و بترک القول و الفعل- قالوا فمن قال لغیره یا عالم فقد عظمه- و من قام لغیره فقد عظمه- و من ترک مد رجله بحضره غیره فقد عظمه- و من کف غرب لسانه عن غیره فقد عظمه- و کذلک الاستخفاف و الإهانه- تکون بالقول و الفعل و بترکهما- حسب ما قدمنا ذکره فی التعظیم- . فأما الحمد و المدح فلا وجه لکونهما بالفعل- و أما قوله إن اللام فی القائلون لتعریف الجنس- کما أنها فی الحمد کذلک فعجیب- لأنها للاستغراق فی القائلون- لا شبهه فی ذلک کالمؤمنین و المشرکین- و لا یتم المعنى إلا به لأنه للمبالغه- بل الحق المحض أنه لا یبلغ مدحته کل القائلین بأسرهم- و جعل اللام للجنس ینقص عن هذا المعنى- إن أراد بالجنس المعهود- و إن أراد الجنسیه العامه فلا نزاع بیننا و بینه- إلا أن قوله کما أنها فی الحمد کذلک- یمنع من أن یحمل کلامه على المحمل الصحیح- لأنها لیست فی الحمد للاستغراق- یبین ذلک أنها لو کانت للاستغراق- لما جاز أن یحمد رسول الله ص و لا غیره من الناس- و هذا باطل- .
و أیضا فإنها لفظ واحد مفرد معرف بلام الجنس- و الأصل فی مثل ذلک أن یفید الجنسیه المطلقه- و لا یفید الاستغراق- فإن جاء منه شیء للاستغراق- کقوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِی خُسْرٍ- و أهلک الناس الدرهم و الدینار- فمجاز و الحقیقه ما ذکرناه- فأما قوله البلوغ المشارفه- یقال بلغت المکان إذا أشرفت علیه- فالأجود أن یقول قالوا بلغت المکان إذا شارفته- و بین قولنا شارفته و أشرفت علیه فرق- . و أما قوله و إذا لم یشرف على حمده بالقول- فکیف یوصل إلیه بالفعل- فکلام مبنی على أن الحمد قد یکون بالفعل- و هو خلاف ما یقوله أرباب هذه الصناعه- . و قوله و الإله مصدر بمعنى المألوه کلام طریف- أما أولا فإنه لیس بمصدر بل هو اسم- کوجار للضبع و سرار للشهر- و هو اسم جنس کالرجل و الفرس- یقع على کل معبود بحق أو باطل- ثم غلب على المعبود بالحق- کالنجم اسم لکل کوکب ثم غلب على الثریا- و السنه اسم لکل عام ثم غلب على عام القحط- و أظنه رحمه الله لما رآه فعالا- ظن أنه اسم مصدر کالحصاد و الجذاذ و غیرهما- و أما ثانیا فلأن المألوه صیغه مفعول- و لیست صیغه مصدر إلا فی ألفاظ نادره- کقولهم لیس له معقول و لا مجلود- و لم یسمع مألوه فی اللغه- لأنه قد جاء أله الرجل إذا دهش و تحیر- و هو فعل لازم لا یبنى منه مفعول- . ثم قال الراوندی و فی قول الله تعالى- وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَهَ اللَّهِ لا تُحْصُوها بلفظ الإفراد- و قول أمیر المؤمنین ع- لا یحصی نعماءه العادون بلفظ الجمع- سر عجیب- لأنه تعالى أراد أن نعمه واحده من نعمه- لا یمکن العباد عد وجوه کونها نعمه- و أراد أمیر المؤمنین ع أن أصول نعمه لا تحصى لکثرتها- فکیف تعد وجوه فروع نعمائه- و کذلک فی کون الآیه وارده بلفظه إن الشرطیه- و کلام أمیر المؤمنین ع على صیغه الخبر- تحته لطیفه عجیبه- لأنه سبحانه یرید أنکم إن أردتم أن تعدوا نعمه- لم تقدروا على حصرها- و علی ع أخبر أنه قد أنعم النظر- فعلم أن أحدا لا یمکنه حصر نعمه تعالى- . و لقائل أن یقول الصحیح أن المفهوم من قوله- وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَهَ اللَّهِ الجنس- کما یقول القائل- أنا لا أجحد إحسانک إلى و امتنانک علی- و لا یقصد بذلک إحسانا واحدا بل جنس الإحسان- . و ما ذکره من الفرق بین کلام البارئ- و کلام أمیر المؤمنین ع- غیر بین- فإنه لو قال تعالى و إن تعدوا نعم الله- و قال ع و لا یحصی نعمته العادون- لکان کل واحد منهما سادا مسد الآخر- . أما اللطیفه الثانیه فغیر ظاهره أیضا و لا ملیحه- لأنه لو انعکس الأمر فکان القرآن بصیغه الخبر- و کلام علی ع بصیغه الشرط- لکان مناسبا أیضا حسب مناسبته- و الحال بعکس ذلک- اللهم إلا أن تکون قرینه السجعه من کلام علی ع- تنبو عن لفظه الشرط- و إلا فمتى حذفت القرینه السجعیه عن وهمک- لم تجد فرقا- و نحن نعوذ بالله من التعسف و التعجرف- الداعی إلى ارتکاب هذه الدعاوی المنکره- . ثم قال الراوندی- إنه لو قال أمیر المؤمنین ع- الذی لا یعد نعمه الحاسبون- لم تحصل المبالغه التی أرادها بعبارته- لأن اشتقاق الحساب من الحسبان و هو الظن- قال و أما اشتقاق العدد فمن العد- و هو الماء الذی له ماده- و الإحصاء الإطاقه أحصیته أی أطقته- فتقدیر الکلام لا یطیق عد نعمائه العادون-
و معنى ذلک أن مدائحه تعالى- لا یشرف على ذکرها الأنبیاء و المرسلون- لأنها أکثر من أن تعدها الملائکه المقربون- و الکرام الکاتبون- . و لقائل أن یقول- أما الحساب فلیس مشتقا من الحسبان بمعنى الظن- کما توهمه- بل هو أصل برأسه- أ لا ترى أن أحدهما حسبت أحسب- و الآخر حسبت أحسب و أحسب بالفتح و الضم- و هو من الألفاظ الأربعه التی جاءت شاذه- و أیضا فإن حسبت بمعنى ظننت- یتعدى إلى مفعولین لا یجوز الاقتصار على أحدهما- و حسبت من العدد یتعدى إلى مفعول واحد- ثم یقال له و هب أن الحاسبین- لو قالها مشتقه من الظن لم تحصل المبالغه- بل المبالغه کادت تکون أکثر- لأن النعم التی لا یحصرها الظان بظنونه- أکثر من النعم التی لا یعدها العالم بعلومه- و أما قوله العدد مشتق من العد- و هو الماء الذی له ماده فلیس کذلک بل هما أصلان- و أیضا لو کان أحدهما مشتقا من الآخر- لوجب أن یکون العد مشتقا من العدد- لأن المصادر هی الأصول التی یقع الاشتقاق منها- سواء أ کان المشتق فعلا أو اسما- أ لا تراهم قالوا فی کتب الاشتقاق- أن الضرب الرجل الخفیف مشتق من الضرب- أی السیر فی الأرض للابتغاء- قال الله تعالى لا یَسْتَطِیعُونَ ضَرْباً فِی الْأَرْضِ- فجعل الاسم منقولا و مشتقا من المصدر- . و أما الإحصاء فهو الحصر و العد- و لیس هو الإطاقه کما ذکر- لا یقال أحصیت الحجر أی أطقت حمله- . و أما ما قال إنه معنى الکلمه فطریف- لأنه ع لم یذکر الأنبیاء و لاالملائکه- لا مطابقه و لا تضمنا و لا التزاما- و أی حاجه إلى هذا التقدیر الطریف- الذی لا یشعر الکلام به- و مراده ع- و هو أن نعمه جلت لکثرتها أن یحصیها عاد ما- هو نفی لمطلق العادین من غیر تعرض لعاد مخصوص- .
قال الراوندی فأما قوله لا یدرکه بعد الهمم- فالإدراک هو الرؤیه و النیل و الإصابه- و معنى الکلام الحمد لله الذی لیس بجسم و لا عرض- إذ لو کان أحدهما لرآه الراءون إذا أصابوه- و إنما خص بعد الهمم بإسناد نفی الإدراک- و غوص الفطن بإسناد نفی النیل لغرض صحیح- و ذلک أن الثنویه یقولون بقدم النور و الظلمه- و یثبتون النور جهه العلو و الظلمه جهه السفل- و یقولون إن العالم ممتزج منهما- فرد ع علیهم بما معناه- أن النور و الظلمه جسمان- و الأجسام محدثه و البارئ تعالى قدیم- . و لقائل أن یقول إنه لم یجر للرؤیه ذکر فی الکلام- لأنه ع لم یقل الذی لا تدرکه العیون و لا الحواس- و إنما قال لا یدرکه بعد الهمم- و هذا یدل على أنه إنما أراد- أن العقول لا تحیط بکنهه و حقیقته- . و أیضا فلو سلمنا أنه إنما نفى الرؤیه- لکان لمحاج أن یحاجه فیقول له- هب أن الأمر کما تزعم- أ لست ترید بیان الأمر- الذی لأجله خصص بعد الهمم بنفی الإدراک- و خصص غوص الفطن بنفی النیل- و قلت إنما قسم هذا التقسیم لغرض صحیح- و ما رأیناک أوضحت هذا الغرض- و إنما حکیت مذهب الثنویه- و لیس یدل مذهبهم على وجوب تخصیص بعد الهمم- بنفی الإدراک دون نفی النیل- و لا یوجب تخصیص غوص الفطن-
بنفی النیل دون نفی الإدراک- و أکثر ما فی حکایه مذهبهم- أنهم یزعمون أن إلهی العالم النور و الظلمه- و هما جسمان- و أمیر المؤمنین ع یقول- لو کان صانع العالم جسما لرئی- و حیث لم یر لم یکن جسما- أی شیء فی هذا مما یدل على وجوب ذلک التقسیم- و التخصیص الذی زعمت- أنه إنما خصصه و قسمه لغرض صحیح- .
ثم قال الراوندی- و یجوز أن یقال البعد و الغوص مصدران- هاهنا بمعنى الفاعل- کقولهم فلأن عدل أی عادل- و قوله تعالى إِنْ أَصْبَحَ ماؤُکُمْ غَوْراً أی غائرا- فیکون المعنى- لا یدرکه العالم البعید الهمم فکیف الجاهل- و یکون المقصد بذلک الرد على من قال- إن محمدا ص رأى ربه لیله الإسراء- و إن یونس ع رأى ربه لیله هبوطه إلى قعر البحر- . و لقائل أن یقول- أن المصدر الذی جاء بمعنى الفاعل ألفاظ معدوده- لا یجوز القیاس علیها- و لو جاز لما کان المصدر هاهنا بمعنى الفاعل- لأنه مصدر مضاف- و المصدر المضاف لا یکون بمعنى الفاعل- و لو جاز أن یکون المصدر المضاف بمعنى الفاعل- لم یجز أن یحمل کلامه ع على الرد- على من أثبت أن البارئ سبحانه مرئی- لأنه لیس فی الکلام نفی الرؤیه أصلا- و إنما غرض الکلام نفی معقولیته سبحانه- و أن الأفکار و الأنظار لا تحیط بکنهه- و لا تتعقل خصوصیه ذاته جلت عظمته- . ثم قال الراوندی- فأما قوله الذی لیس لصفته حد محدود- و لا نعت موجود و لا وقت معدود و لا أجل ممدود- فالوقت تحرک الفلک و دورانه على وجه- و الأجل مده الشیء- و معنى الکلام أن شکری لله تعالى متجدد- عند تجدد کل ساعه- و لهذا أبدل هذه الجمله من الجمله التی قبلها و هی الثانیه- کما أبدل الثانیه من الأولى- . و لقائل أن یقول- الوقت عند أهل النظر مقدار حرکه الفلک- لا نفس حرکته- و الأجل لیس مطلق الوقت- أ لا تراهم یقولون جئتک وقت العصر- و لا یقولون أجل العصر- و الأجل عندهم هو الوقت الذی یعلم الله تعالى- أن حیاه الحیوان تبطل فیه- مأخوذ من أجل الدین و هو الوقت الذی یحل قضاؤه فیه- .
فأما قوله و معنى الکلام أن شکری- متجدد لله تعالى فی کل وقت- ففاسد- و لا ذکر فی هذه الألفاظ للشکر- و لا أعلم من أین خطر هذا للراوندی- و ظنه أن هذه الجمل من باب البدل غلط- لأنها صفات کل واحده منها صفه بعد أخرى- کما تقول مررت بزید العالم الظریف الشاعر- . قال الراوندی فأما قوله الذی لیس لصفته حد- فظاهره إثبات الصفه له سبحانه- و أصحابنا لا یثبتون لله سبحانه صفه- کما یثبتها الأشعریه- لکنهم یجعلونه على حال أو یجعلونه متمیزا بذاته- فأمیر المؤمنین ع بظاهر کلامه و إن أثبت له صفه- إلا أن من له أنس بکلام العرب یعلم- أنه لیس بإثبات على الحقیقه- و قد سألنی سائل فقال هاهنا کلمتان- إحداهما کفر و الأخرى لیست بکفر- و هما لله تعالى شریک غیر بصیر- لیس شریک الله تعالى بصیرا- فأیهما کلمه الکفر- فقلت له القضیه الثانیه- و هی لیس شریک الله تعالى بصیرا کفر- لأنها تتضمن إثبات الشریک- و أما الکلمه الأخرى- فیکون معناها لله شریک غیر بصیر- بهمزه الاستفهام المقدره المحذوفه- .
ثم أخذ فی کلام طویل یبحث فیه عن الصفه و المعنى- و یبطل مذهب الأشعریه- بما یقوله المتکلمون من أصحابنا- و أخذ فی توحید الصفه- لم جاء و کیف یدل نفی الصفه الواحده- على نفی مطلق الصفات- و انتقل من ذلک إلى الکلام فی الصفه الخامسه- التی أثبتها أبو هاشم- ثم خرج إلى مذهب أبی الحسین- و أطال جدا فیما لا حاجه إلیه- . و لقائل أن یقول الأمر أسهل مما تظن- فإنا قد بینا أن مراده نفی الإحاطه بکنهه- و أیضا یمکن أن یجعل الصفه هاهنا قول الواصف- فیکون المعنى لا ینتهی الواصف إلى حد- إلا و هو قاصر عن النعت لجلالته و عظمته جلت قدرته- .
فأما القضیتان اللتان سأله السائل عنهما- فالصواب غیر ما أجاب به فیهما- و هو أن القضیه الأولى کفر- لأنها صریحه فی إثبات الشریک- و الثانیه لا تقتضی ذلک- لأنه قد ینفی قول الشریک بصیرا على أحد وجهین- إما لأن هناک شریکا لکنه غیر بصیر- أو لأن الشریک غیر موجود- و إذا لم یکن موجودا لم یکن بصیرا- فإذا کان هذا الاعتبار الثانی مرادا- لم یکن کفرا و صار کالأثر المنقول- کان مجلس رسول الله ص لا تؤثر هفواته- أی لم یکن فیه هفوات فتؤثر و تحکى- و لیس أنه کان المراد فی مجلسه هفوات إلا أنها لم تؤثر- . قال الراوندی- فإن قیل ترکیب هذه الجمله- یدل على أنه تعالى فطر الخلیقه- قبل خلق السموات و الأرض- .
قلنا قد اختلف فی ذلک- فقیل أول ما یحسن منه تعالى خلقه ذاتا حیه- یخلق فیها شهوه لمدرک تدرکه فتلتذ به- و لهذا قیل تقدیم خلق الجماد على خلق الحیوان عبث و قبیح- و قیل لا مانع من تقدیم خلق الجماد- إذا علم أن علم بعض المکلفین- فیما بعد بخلقه قبله لطف له- و لقائل أن یقول أما إلى حیث انتهى به الشرح- فلیس فی الکلام ترکیب یدل على أنه تعالى فطر خلقه- قبل خلق السموات و الأرض- و إنما قد یوهم تأمل کلامه ع فیما بعد شیئا من ذلک- لما قال ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء- على أنا إذا تأملنا لم نجد فی کلامه ع- ما یدل على تقدیم خلق الحیوان- لأنه قبل أن یذکر خلق السماء- لم یذکر إلا أنه فطر الخلائق- و تاره قال أنشأ الخلق- و دل کلامه أیضا على أنه نشر الریاح- و أنه خلق الأرض و هی مضطربه فأرساها بالجبال- کل هذا یدل علیه کلامه- و هو مقدم فی کلامه على فتق الهواء و الفضاء- و خلق السماء- فأما تقدیم خلق الحیوان أو تأخیره- فلم یتعرض کلامه ع له- فلا معنى لجواب الراوندی- و ذکره ما یذکره المتکلمون- من أنه هل یحسن تقدیم خلق الجماد على الحیوان أم لا:
أَوَّلُ الدِّینِ مَعْرِفَتُهُ وَ کَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِیقُ بِهِ- وَ کَمَالُ التَّصْدِیقِ بِهِ تَوْحِیدُهُ- وَ کَمَالُ تَوْحِیدِهِ الْ۱: فمن خطبه له ع-
یذکر فیها ابتداء خلق السماء و الأرض و خلق آدم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی لَا یَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ- وَ لَا یُحْصِی نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ- وَ لَا یُؤَدِّی حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَ- الَّذِی لَا یُدْرِکُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ- وَ لَا یَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ- الَّذِی لَیْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ- وَ لَا نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لَا وَقْتٌ مَعْدُودٌ- وَ لَا أَجْلٌ مَمْدُودٌ- فَطَرَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ- وَ نَشَرَ الرِّیَاحَ بِرَحْمَتِهِ- وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَیَدَانَ أَرْضِهِ وَ مَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَیْهِ- وَ مَنْ أَشَارَ إِلَیْهِ فَقَدْ حَدَّهُ وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ- وَ مَنْ قَالَ فِیمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُ- وَ مَنْ قَالَ عَلَامَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ
إنما قال ع أول الدین معرفته لأن التقلید باطل- و أول الواجبات الدینیه المعرفه- و یمکن أن یقول قائل أ لستم تقولون فی علم الکلام- أول الواجبات النظر فی طریق معرفه الله تعالى- و تاره تقولون القصد إلى النظر- فهل یمکن الجمع بین هذا و بین کلامه ع- .
و جوابه أن النظر و القصد إلى النظر- إنما وجبا بالعرض لا بالذات- لأنهما وصله إلى المعرفه- و المعرفه هی المقصود بالوجوب- و أمیر المؤمنین ع أراد- أول واجب مقصود بذاته من الدین- معرفه البارئ سبحانه- فلا تناقض بین کلامه و بین آراء المتکلمین- . و أما قوله و کمال معرفته التصدیق به- فلأن معرفته قد تکون ناقصه- و قد تکون غیر ناقصه- فالمعرفه الناقصه هی المعرفه بان للعالم صانعا غیر العالم- و ذلک باعتبار أن الممکن لا بد له من مؤثر- فمن علم هذا فقط علم الله تعالى و لکن علما ناقصا- و أما المعرفه التی لیست ناقصه- فأن تعلم أن ذلک المؤثر خارج عن سلسله الممکنات- و الخارج عن کل الممکنات لیس بممکن- و ما لیس بممکن فهو واجب الوجود- فمن علم أن للعالم مؤثرا واجب الوجود- فقد عرفه عرفانا- أکمل من عرفان أن للعالم مؤثرا فقط- و هذا الأمر الزائد هو المکنی عنه بالتصدیق به- لأن أخص ما یمتاز به البارئ عن مخلوقاته- هو وجوب الوجود- .
و أما قوله ع و کمال التصدیق به توحیده- فلأن من علم أنه تعالى واجب الوجود- مصدق بالبارئ سبحانه- لکن ذلک التصدیق قد یکون ناقصا و قد یکون غیر ناقص- فالتصدیق الناقص أن یقتصر- على أن یعلم أنه واجب الوجود فقط- و التصدیق الذی هو أکمل من ذلک و أتم- هو العلم بتوحیده سبحانه- باعتبار أن وجوب الوجود لا یمکن أن یکون لذاتین- لأن فرض واجبی الوجود- یفضی إلى عموم وجوب الوجود لهما- و امتیاز کل واحد منهما بأمر غیر الوجوب المشترک- و ذلک یفضی إلى ترکیبهما- و إخراجهما عن کونهما واجبی الوجود- فمن علم البارئ سبحانه واحدا- أی لا واجب الوجود- إلا هو یکون أکمل تصدیقا ممن لم یعلم ذلک- و إنما اقتصر على أن صانع العالم واجب الوجود فقط- .
و أما قوله و کمال توحیده الإخلاص له- فالمراد بالإخلاص له هاهنا- هو نفی الجسمیه و العرضیه و لوازمهما عنه- لأن الجسم مرکب و کل مرکب ممکن- و واجب الوجود لیس بممکن- و أیضا فکل عرض مفتقر- و واجب الوجود غیر مفتقر- فواجب الوجود لیس بعرض- و أیضا فکل جرم محدث و واجب الوجود لیس بمحدث- فواجب الوجود لیس بجرم- و لا عرض- فلا یکون حاصلا فی جهه- فمن عرف وحدانیه البارئ و لم یعرف هذه الأمور- کان توحیده ناقصا- و من عرف هذه الأمور بعد العلم بوحدانیته تعالى- فهو المخلص فی عرفانه جل اسمه- و معرفته تکون أتم و أکمل- . و أما قوله و کمال الإخلاص له نفی الصفات عنه- فهو تصریح بالتوحید الذی تذهب إلیه المعتزله- و هو نفی المعانی القدیمه التی تثبتها الأشعریه و غیرهم-
قال ع لشهاده کل صفه أنها غیر الموصوف- و شهاده کل موصوف أنه غیر الصفه- و هذا هو دلیل المعتزله بعینه- قالوا لو کان عالما بمعنى قدیم- لکان ذلک المعنى إما هو أو غیره- أو لیس هو و لا غیره- و الأول باطل- لأنا نعقل ذاته قبل أن نعقل أو نتصور له علما- و المتصور مغایر لما لیس بمتصور- و الثالث باطل أیضا- لأن إثبات شیئین أحدهما لیس هو الآخر و لا غیره- معلوم فساده ببدیهه العقل- فتعین القسم الثانی و هو محال- أما أولا فبإجماع أهل المله- و أما ثانیا فلما سبق- من أن وجوب الوجود لا یجوز أن یکون لشیئین- فإذا عرفت هذا فاعرف أن الإخلاص له تعالى- قد یکون ناقصا و قد لا یکون- فالإخلاص الناقص هو العلم بوجوب وجوده- و أنه واحد لیس بجسم و لا عرض- و لا یصح علیه ما یصح على الأجسام و الأعراض- و الإخلاص التام هو العلم بأنه لا تقوم به المعانی القدیمه- مضافا إلى تلک العلوم السابقه- و حینئذ تتم المعرفه و تکمل- .
ثم أکد أمیر المؤمنین ع هذه الإشارات الإلهیه- بقوله فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه- و هذا حق لأن الموصوف یقارن الصفه و الصفه تقارنه- . قال و من قرنه فقد ثناه و هذا حق- لأنه قد أثبت قدیمین و ذلک محض التثنیه- . قال و من ثناه فقد جزأه و هذا حق- لأنه إذا أطلق لفظه الله تعالى على الذات و العلم القدیم- فقد جعل مسمى هذا اللفظ و فائدته متجزئه- کإطلاق لفظ الأسود على الذات التی حلها سواد- . قال و من جزأه فقد جهله و هذا حق- لأن الجهل هو اعتقاد الشیء على خلاف ما هو به- . قال و من أشار إلیه فقد حده و هذا حق- لأن کل مشار إلیه فهو محدود-لأن المشار إلیه لا بد أن یکون فی جهه مخصوصه- و کل ما هو فی جهه فله حد و حدود- أی أقطار و أطراف- . قال و من حده فقد عده- أی جعله من الأشیاء المحدثه و هذا حق- لأن کل محدود معدود فی الذوات المحدثه- . قال و من قال فیم فقد ضمنه و هذا حق- لأن من تصور أنه فی شیء- فقد جعله إما جسما مستترا فی مکان- أو عرضا ساریا فی محل- و المکان متضمن للتمکن و المحل متضمن للعرض- . قال و من قال علام فقد أخلى منه و هذا حق- لأن من تصور أنه تعالى على العرش أو على الکرسی- فقد أخلى منه غیر ذلک الموضع- و أصحاب تلک المقاله یمتنعون من ذلک- و مراده ع إظهار تناقض أقوالهم- و إلا فلو قالوا- هب أنا قد أخلینا منه غیر ذلک الموضع- أی محذور یلزمنا- فإذا قیل لهم لو خلا منه موضع دون موضع- لکان جسما و لزم حدوثه- قالوا لزوم الحدوث و الجسمیه- إنما هو من حصوله فی الجهه لا من خلو بعض الجهات عنه- و أنتم إنما احتججتم علینا بمجرد خلو بعض الجهات منه- فظهر أن توجیه الکلام علیهم إنما هو إلزام لهم- لا استدلال على فساد قولهم- فأما القطب الراوندی فإنه قال- فی معنى قوله نفی الصفات عنه- أی صفات المخلوقین- قال لأنه تعالى عالم قادر و له بذلک صفات- فکیف یجوز أن یقال لا صفه له- .
و أیضا فإنه ع قد أثبت لله تعالى صفه أولا- حیث قال الذی لیس لصفته حد محدود- فوجب أن یحمل کلامه على ما یتنزه عن المناقضه- .
و أیضا فإنه قد قال فیما بعد فی صفه الملائکه- أنهم لا یصفون الله تعالى بصفات المصنوعین- فوجب أن یحمل قوله الآن- و کمال توحیده نفی الصفات عنه- على صفات المخلوقین- حملا للمطلق على المقید- . و لقائل أن یقول لو أراد نفی صفات المخلوقین عنه- لم یستدل على ذلک بدلیل الغیریه- و هو قوله لشهاده کل صفه أنها غیر الموصوف- لأن هذا الاستدلال لا ینطبق- على دعوى أنه غیر موصوف بصفات المخلوقین- بل کان ینبغی أن یستدل بان صفات المخلوقین- من لوازم الجسمیه و العرضیه- و البارئ لیس بجسم و لا عرض- و نحن قد بینا أن مراده ع- إبطال القول بالمعانی القدیمه- و هی المسماه بالصفات فی الاصطلاح القدیم- و لهذا یسمى أصحاب المعانی بالصفاتیه- فأما کونه قادرا و عالما- فأصحابها أصحاب الأحوال- و قد بینا أن مراده ع بقوله لیس لصفته حد محدود- أی لکنهه و حقیقته- و أما کون الملائکه لا تصف البارئ بصفات المصنوعین- فلا یقتضی أن یحمل کل موضوع فیه- ذکر الصفات على صفات المصنوعین- لأجل تقیید ذلک فی ذکر الملائکه- و أین هذا من باب حمل المطلق على المقید- لا سیما و قد ثبت أن التعلیل و الاستدلال- یقضی ألا یکون المراد صفات المخلوقین- . و قد تکلف الراوندی لتطبیق تعلیله ع نفی الصفات عنه- بقوله لشهاده کل صفه أنها غیر الموصوف- بکلام عجیب و أنا أحکی ألفاظه لتعلم- قال معنى هذا التعلیل- أن الفعل فی الشاهد لا یشابه الفاعل- و الفاعل غیر الفعل- لأن ما یوصف به الغیر إنما هو الفعل أو معنى الفعل- کالضارب و الفهم- فإن الفهم و الضرب کلاهما فعل و الموصوف بهما فاعل- و الدلیل لا یختلف شاهدا و غائبا- فإذا کان تعالى قدیما و هذه الأجسام محدثه- کانت معدومه ثم وجدت- یدل على أنها غیر الموصوف بأنه خالقها و مدبرها- .
انقضى کلامه و حکایته تغنی عن الرد علیه- . ثم قال الأول على وزن أفعل- یستوی فیه المذکر و المؤنث- إذا لم یکن فیه الألف و اللام- فإذا کانا فیه قیل للمؤنث الأولى- . و هذا غیر صحیح- لأنه یقال کلمت فضلاهن و لیس فیه ألف و لام- و کان ینبغی أن یقول إذا کان منکرا- مصحوبا بمن استوى المذکر و المؤنث فی لفظ أفعل- تقول زید أفضل من عمرو و هند أحسن من دعد: کَائِنٌ لَا عَنْ حَدَثٍ مَوْجُودٌ لَا عَنْ عَدَمٍ- مَعَ کُلِّ شَیْءٍ لَا بِمُقَارَنَهٍ وَ غَیْرُ کُلِّ شَیْءٍ لَا بِمُزَایَلَهٍ- فَاعِلٌ لَا بِمَعْنَى الْحَرَکَاتِ وَ الآْلَهِ- بَصِیرٌ إِذْ لَا مَنْظُورَ إِلَیْهِ مِنْ خَلْقِهِ- مُتَوَحِّدٌ إِذْ لَا سَکَنَ یَسْتَأْنِسُ بِهِ وَ لَا یَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ- أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وَ ابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً- بِلَا رَوِیَّهٍ أَجَالَهَا وَ لَا تَجْرِبَهٍ اسْتَفَادَهَا- وَ لَا حَرَکَهٍ أَحْدَثَهَا وَ لَا هَمَامَهِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِیهَا- أَحَالَ الْأَشْیَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَ لَاءَمَ بَیْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا- وَ غَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَ أَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا- عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا- مُحِیطاً بِحُدُودِهَا وَ انْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَ أَحْنَائِهَا قوله ع کائن- و إن کان فی الاصطلاح العرفی- مقولا على ما ینزه البارئ عنه- فمراده به المفهوم اللغوی- و هو اسم فاعل من کان بمعنى وجد- کأنه قال موجود غیر محدث- .
فان قیل فقد قال بعده موجود لا عن عدم- فلا یبقى بین الکلمتین فرق- . قیل بینهما فرق- و مراده بالموجود لا عن عدم هاهنا- وجوب وجوده و نفی إمکانه- لأن من أثبت قدیما ممکنا- فإنه و إن نفى حدوثه الزمانی فلم ینف حدوثه الذاتی- و أمیر المؤمنین ع نفى عن البارئ تعالى- فی الکلمه الأولى الحدوث الزمانی- و نفى عنه فی الکلمه الثانی الذاتی- و قولنا فی الممکن أنه موجود من عدم صحیح عند التأمل- لا بمعنى أن عدمه سابق له زمانا بل سابق لوجوده ذاتا- لأن الممکن یستحق من ذاته أنه لا یستحق الوجود من ذاته- . و أما قوله مع کل شیء لا بمقارنه- فمراده بذلک أنه یعلم الجزئیات و الکلیات- کما قال سبحانه ما یَکُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَهٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ- . و أما قوله و غیر کل شیء لا بمزایله فحق- لأن الغیرین فی الشاهد هما ما زایل أحدهما الآخر- و باینه بمکان أو زمان- و البارئ سبحانه یباین الموجودات مباینه- منزهه عن المکان و الزمان- فصدق علیه أنه غیر کل شیء لا بمزایله- . و أما قوله فاعل لا بمعنى الحرکات و الآله فحق- لأن فعله اختراع- و الحکماء یقولون إبداع و معنى الکلمتین واحد- و هو أنه یفعل لا بالحرکه و الآله- کما یفعل الواحد منا- و لا یوجد شیئا من شیء- . و أما قوله بصیر إذ لا منظور إلیه من خلقه- فهو حقیقه مذهب أبی هاشم رحمه الله و أصحابه- لأنهم یطلقون علیه فی الأزل أنه سمیع بصیر- و لیس هناک مسموع و لا مبصر- و معنى ذلک کونه بحال- یصح منه إدراک المسموعات و المبصرات إذا وجدت-
و ذلک یرجع إلى کونه حیا لا آفه به- و لا یطلقون علیه أنه سامع مبصر فی الأزل- لأن السامع المبصر هو المدرک بالفعل لا بالقوه- . و أما قوله متوحد إذ لا سکن یستأنس به و یستوحش لفقده- فإذ هاهنا ظرف- و معنى الکلام أن العاده و العرف- إطلاق متوحد على من قد کان له من یستأنس بقربه- و یستوحش ببعده فانفرد عنه- و البارئ سبحانه یطلق علیه أنه متوحد فی الأزل- و لا موجود سواه- و إذا صدق سلب الموجودات کلها فی الأزل- صدق سلب ما یؤنس أو یوحش- فتوحده سبحانه بخلاف توحد غیره- . و أما قوله ع أنشأ الخلق إنشاء و ابتدأه ابتداء- فکلمتان مترادفتان على طریقه الفصحاء و البلغاء- کقوله سبحانه- لا یَمَسُّنا فِیها نَصَبٌ وَ لا یَمَسُّنا فِیها لُغُوبٌ- و قوله لِکُلٍّ جَعَلْنا مِنْکُمْ شِرْعَهً وَ مِنْهاجاً- . و قوله بلا رویه أجالها- فالرویه الفکره و أجالها رددها- و من رواه أحالها بالحاء أراد صرفها- و قوله و لا تجربه استفادها- أی لم یکن قد خلق من قبل أجساما- فحصلت له التجربه التی أعانته على خلق هذه الأجسام- . و قوله و لا حرکه أحدثها- فیه رد على الکرامیه الذین یقولون- إنه إذا أراد أن یخلق شیئا مباینا عنه- أحدث فی ذاته حادثا یسمى الأحداث- فوقع ذلک الشیء المباین عن ذلک المعنى المتجدد- المسمى أحداثا- . و قوله و لا همامه نفس اضطرب فیها- فیه رد على المجوس و الثنویه القائلین بالهمامه- و لهم فیها خبط طویل یذکره أصحاب المقالات- و هذا یدل على صحه ما یقال- إن أمیر المؤمنین ع کان یعرف آراء المتقدمین و المتأخرین- و یعلم العلوم کلها- و لیس ذلک ببعید من فضائله و مناقبه ع- .
و أما قوله أحال الأشیاء لأوقاتها- فمن رواها أحل الأشیاء لأوقاتها- فمعناه جعل محل کل شیء و وقته کمحل الدین- و من رواها أحال- فهو من قولک حال فی متن فرسه أی وثب- و أحاله غیره أی أوثبه على متن الفرس عداه بالهمزه- و کأنه لما أقر الأشیاء فی أحیانها و أوقاتها- صار کمن أحال غیره على فرسه- . و قوله و لاءم بین مختلفاتها- أی جعل المختلفات ملتئمات- کما قرن النفس الروحانیه بالجسد الترابی جلت عظمته- و قوله و غرز غرائزها المروی بالتشدید- و الغریزه الطبیعه و جمعها غرائز- و قوله غرزها أی جعلها غرائز- کما قیل سبحان من ضوأ الأضواء- و یجوز أن یکون من غرزت الإبره بمعنى غرست- و قد رأیناه فی بعض النسخ بالتخفیف- . و قوله و ألزمها أشباحها- الضمیر المنصوب فی ألزمها عائد إلى الغرائز- أی ألزم الغرائز أشباحها أی أشخاصها- جمع شبح و هذا حق- لأن کلا مطبوع على غریزه لازمه- فالشجاع لا یکون جبانا و البخیل لا یکون جوادا- و کذلک کل الغرائز لازمه لا تنتقل- . و قوله عالما بها قبل ابتدائها- إشاره إلى أنه عالم بالأشیاء فیما لم یزل- و قوله محیطا بحدودها و انتهائها- أی بأطرافها و نهایاتها- . و قوله عارفا بقرائنها و أحنائها- القرائن جمع قرونه و هی النفس- و الأحناء الجوانب جمع حنو- یقول إنه سبحانه عارف بنفوس هذه الغرائز- التی ألزمها أشباحها- عارف بجهاتها و سائر أحوالها المتعلقه بها و الصادره عنها- .
فأما القطب الراوندی فإنه قال معنى قوله ع- کائن لا عن حدث موجود لا عن عدم- أنه لم یزل موجودا و لا یزال موجودا- فهو باق أبدا کما کان موجودا أولا- و هذا لیس بجید- لأن اللفظ لا یدل على ذلک- و لا فیه تعرض بالبقاء فیما لا یزال- . و قال أیضا قوله ع لا یستوحش کلام مستأنف- و لقائل أن یقول کیف یکون کلاما مستأنفا- و الهاء فی فقده ترجع إلى السکن المذکور أولا- . و قال أیضا- یقال ما له فی الأمر همه و لا همامه أی لا یهم به- و الهمامه التردد کالعزم- و لقائل أن یقول العزم هو إراده جازمه- حصلت بعد التردد- فبطل قوله أن الهمامه هی نفس التردد کالعزم- و أیضا فقد بینا مراده ع بالهمامه- حکى زرقان فی کتاب المقالات- و أبو عیسى الوراق و الحسن بن موسى- و ذکره شیخنا أبو القاسم البلخی- فی کتابه فی المقالات أیضا عن الثنویه- أن النور الأعظم اضطربت عزائمه و إرادته- فی غزو الظلمه و الإغاره علیها- فخرجت من ذاته قطعه و هی الهمامه المضطربه فی نفسه- فخالطت الظلمه غازیه لها- فاقتطعتها الظلمه عن النور الأعظم- و حالت بینها و بینه- و خرجت همامه الظلمه غازیه للنور الأعظم- فاقتطعها النور الأعظم عن الظلمه و مزجها بأجزائه- و امتزجت همامه النور بأجزاء الظلمه أیضا- ثم ما زالت الهمامتان تتقاربان و تتدانیان- و هما ممتزجتان بأجزاء هذا و هذا- حتى انبنى منهما هذا العالم المحسوس- و لهم فی الهمامه کلام مشهور- و هی لفظه اصطلحوا علیها- و اللغه العربیه ما عرفنا فیها استعمال الهمامه بمعنى الهمه- و الذی عرفناه الهمه بالکسر و الفتح و المهمه- و تقول لا همام لی بهذا الأمر مبنی على الکسر کقطام- و لکنها لفظه اصطلاحیه مشهوره عند أهلها:
ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ الْأَجْوَاءِ- وَ شَقَّ الْأَرْجَاءِ وَ سَکَائِکَ الْهَوَاءِ- فَأَجْرَى فِیهَا مَاءً مُتَلَاطِماً تَیَّارُهُ- مُتَرَاکِماً زَخَّارُهُ حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّیحِ الْعَاصِفَهِ- وَ الزَّعْزَعِ الْقَاصِفَهِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ- وَ سَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ وَ قَرَنَهَا إِلَى حَدِّهِ- الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِیقٌ وَ الْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِیقٌ- ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِیحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا- وَ أَدَامَ مُرَبَّهَا وَ أَعْصَفَ مَجْرَاهَا- وَ أَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِیقِ الْمَاءِ الزَّخَّارِ- وَ إِثَارَهِ مَوْجِ الْبِحَارِ فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقَاءِ- وَ عَصَفَتْ بِهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ- تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِهِ وَ سَاجِیَهُ عَلَى مَائِرِهِ حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ- وَ رَمَى بِالزَّبَدِ رُکَامُهُ- فَرَفَعَهُ فِی هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وَ جَوٍّ مُنْفَهِقٍ- فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ- جَعَلَ سُفْلَاهُنَّ مَوْجاً مَکْفُوفاً- وَ عُلْیَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ سَمْکاً مَرْفُوعاً- بِغَیْرِ عَمَدٍ یَدْعَمُهَا وَ لَا دِسَارٍ یَنْتَظِمُهَا ثُمَّ زَیَّنَهَا بِزِینَهِ الْکَوَاکِبِ وَ ضِیَاءِ الثَّوَاقِبِ- وَ أَجْرَى فِیهَا سِرَاجاً مُسْتَطِیراً وَ قَمَراً مُنِیراً- فِی فَلَکٍ دَائِرٍ وَ سَقْفٍ سَائِرٍ وَ رَقِیمٍ مَائِرٍ
لسائل أن یسأل فیقول- ظاهر هذا الکلام أنه سبحانه خلق الفضاء و السموات- بعد خلق کل شیء- لأنه قد قال قبل- فطر الخلائق و نشر الریاح و وتد الأرض بالجبال- ثم عاد فقال أنشأ الخلق إنشاء و ابتدأه ابتداء- و هو الآن یقول ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء- و لفظه ثم للتراخی- . فالجواب أن قوله ثم هو تعقیب و تراخ- لا فی مخلوقات البارئ سبحانه بل فی کلامه ع- کأنه یقول ثم أقول الآن بعد قولی المتقدم- إنه تعالى أنشأ فتق الأجواء- و یمکن أن یقال إن لفظه ثم هاهنا- تعطی معنى الجمع المطلق کالواو- و مثل ذلک قوله تعالى- وَ إِنِّی لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى- . و اعلم أن کلام أمیر المؤمنین ع فی هذا الفصل- یشتمل على مباحث- منها أن ظاهر لفظه أن الفضاء الذی هو الفراغ- الذی یحصل فیه الأجسام- خلقه الله تعالى و لم یکن من قبل- و هذا یقتضی کون الفضاء شیئا- لأن المخلوق لا یکون عدما محضا- و لیس ذلک ببعید فقد ذهب إلیه قوم من أهل النظر- و جعلوه جسما لطیفا خارجا عن مشابهه هذه الأجسام- و منهم من جعله مجردا- . فإن قیل هذا الکلام یشعر- بأن خلق الأجسام فی العدم المحض قبل خلق الفضاء- لیس بممکن و هذا ینافی العقل- . قیل بل هذا هو محض مذهب الحکماء- فإنهم یقولون إنه لا یمکن وجود جسم-و لا حرکه جسم خارج الفلک الأقصى- و لیس ذلک إلا لاستحاله وجود الأجسام و حرکتها- إلا فی الفضاء- . و منها أن البارئ سبحانه خلق فی الفضاء- الذی أوجده ماء جعله على متن الریح- فاستقل علیها و ثبت و صارت مکانا له- ثم خلق فوق ذلک الماء ریحا أخرى سلطها علیه- فموجته تمویجا شدیدا حتى ارتفع- فخلق منه السموات- و هذا أیضا قد قاله قوم من الحکماء- و من جملتهم تالیس الإسکندرانی- و زعم أن الماء أصل کل العناصر- لأنه إذا انجمد صار أرضا و إذا لطف صار هواء- و الهواء یستحیل نارا لأن النار صفوه الهواء- .
و یقال- إن فی التوراه فی أول السفر الأول کلاما یناسب هذا- و هو أن الله تعالى خلق جوهرا- فنظر إلیه نظر الهیبه فذابت أجزاؤه فصارت ماء- ثم ارتفع من ذلک الماء بخار کالدخان- فخلق منه السموات و ظهر على وجه ذلک الماء زبد- فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال- . و منها أن السماء الدنیا موج مکفوف- بخلاف السموات الفوقانیه- و هذا أیضا قول قد ذهب إلیه قوم- و استدلوا علیه بما نشاهده- من حرکه الکواکب المتحیره- و ارتعادها فی مرأى العین و اضطرابها- قالوا لأن المتحیره متحرکه فی أفلاکها- و نحن نشاهدها بالحس البصری- و بیننا و بینها أجرام الأفلاک الشفافه- و نشاهدها مرتعده- حسب ارتعاد الجسم السائر فی الماء- و ما ذاک إلا لأن السماء الدنیا ماء متموج- فارتعاد الکواکب المشاهده حسا- إنما هو بحسب ارتعاد أجزاء الفلک الأدنى- قالوا فأما الکواکب الثابته- فإنا لم نشاهدها کذلک لأنها لیست بمتحرکه- و أما القمر و إن کان فی السماء الدنیا- إلا أن فلک تدویره من جنس الأجرام الفوقانیه- و لیس بماء متموج کالفلک الممثل التحتانی- و کذلک القول فی الشمس- . و منها أن الکواکب فی قوله- ثم زینها بزینه الکواکب أین هی- فإن اللفظ محتمل- و ینبغی أن یتقدم على ذلک بحث- فی أصل قوله تعالى- إِنَّا زَیَّنَّا السَّماءَ الدُّنْیا بِزِینَهٍ الْکَواکِبِ- وَ حِفْظاً مِنْ کُلِّ شَیْطانٍ مارِدٍ- . فنقول إن ظاهر هذا اللفظ- أن الکواکب فی السماء الدنیا- و أنها جعلت فیها حراسه للشیاطین من استراق السمع- فمن دنا منهم لذلک رجم بشهاب- و هذا هو الذی یقتضیه ظاهر اللفظ- و مذهب الحکماء- أن السماء الدنیا لیس فیها إلا القمر وحده- و عندهم أن الشهب المنقضه- هی آثار تظهر فی الفلک الأثیری الناری- الذی تحت فلک القمر- و الکواکب لا ینقض منها شیء- و الواجب التصدیق بما فی ظاهر لفظ الکتاب العزیز- و أن یحمل کلام أمیر المؤمنین ع على مطابقته- فیکون الضمیر فی قوله زینها- راجعا إلى سفلاهن- التی قال إنها موج مکفوف- و یکون الضمیر فی قوله و أجرى فیها- راجعا إلى جمله السموات- إذا وافقنا الحکماء فی أن الشمس فی السماء الرابعه- .
و منها أن ظاهر الکلام یقتضی- أن خلق السموات بعد خلق الأرض- أ لا تراه کیف لم یتعرض فیه لکیفیه خلق الأرض أصلا- و هذا قول قد ذهب إلیه جماعه من أهل المله-و استدلوا علیه بقوله تعالى- قُلْ أَ إِنَّکُمْ لَتَکْفُرُونَ بِالَّذِی خَلَقَ الْأَرْضَ فِی یَوْمَیْنِ- وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِکَ رَبُّ الْعالَمِینَ- ثم قال ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِیَ دُخانٌ- . و منها أن الهاء فی قوله فرفعه فی هواء منفتق- و الهاء فی قوله فسوى منه سبع سموات- إلى ما ذا ترجع- فإن آخر المذکورات قبلها الزبد- و هل یجوز أن تکون السموات مخلوقه من زبد الماء- الحق أن الضمائر ترجع إلى الماء الذی عب عبابه- لا إلى الزبد- فإن أحدا لم یذهب إلى أن السماء مخلوقه من زبد الماء- و إنما قالوا إنها مخلوقه من بخاره- . و منها أن یقال إن البارئ سبحانه قادر- على خلق الأشیاء إبداعا و اختراعا- فما الذی اقتضى أنه خلق المخلوقات على هذا الترتیب- و هلا أوجدها إیجاد الماء الذی ابتدعه أولا من غیر شیء- . فیقال فی جواب ذلک على طریق أصحابنا- لعل إخباره للمکلفین بذلک- على هذا الترتیب یکون لطفا بهم- و لا یجوز الإخبار منه تعالى- إلا و المخبر عنه مطابق للإخبار- . فهذا حظ المباحث المعنویه من هذا الفصل- . ثم نشرع فی تفسیر ألفاظه- أما الأجواء فجمع جو- و الجو هنا الفضاء العالی بین السماء و الأرض- و الأرجاء الجوانب واحدها رجا مثل عصا- و السکائک جمع سکاکه و هی أعلى الفضاء- کما قالوا ذؤابه و ذوائب- و التیار الموج و المتراکم الذی بعضه فوق بعض- و الزخار الذی یزخر أی یمتد و یرتفع- و الریح الزعزع الشدیده الهبوب- و کذلک القاصفه کأنها تهلک الناس بشده هبوبها- و معنى قوله فأمرها برده أی بمنعه عن الهبوط- لأن الماء ثقیل و من شأن الثقیل الهوی- و معنى قوله و سلطها على شده أی على وثاقه- کأنه سبحانه لما سلط البریح على منعه من الهبوط- فکأنه قد شده بها و أوثقه و منعه من الحرکه- و معنى قوله و قرنها إلى حده أی جعلها مکانا له- أی جعل حد الماء المذکور و هو سطحه الأسفل- مما ساطح الریح التی تحمله و تقله- و الفتیق المفتوق المنبسط- و الدفیق المدفوق- و اعتقم مهبها أی جعل هبوبها عقیما- و الریح العقیم التی لا تلقح سحابا و لا شجرا- و کذلک کانت تلک الریح المشار إلیها- لأنه سبحانه إنما خلقها لتمویج الماء فقط- و أدام مربها أی ملازمتها- أرب بالمکان مثل ألب به أی لازمه- .
و معنى قوله و عصفت به عصفها بالفضاء- فیه معنى لطیف- یقول إن الریح إذا عصفت بالفضاء الذی لا أجسام فیه- کان عصفها شدیدا لعدم المانع- و هذه الریح عصفت بذلک الماء العظیم عصفا شدیدا- کأنها تعصف فی فضاء لا ممانع لها فیه من الأجسام- . و الساجی الساکن و المائر الذی یذهب و یجیء- و عب عبابه أی ارتفع أعلاه و رکامه ثبجه و هضبه- و الجو المنفهق المفتوح الواسع- و الموج المکفوف الممنوع من السیلان- و عمد یدعمها یکون لها دعامه- و الدسار واحد الدسر و هی المسامیر- . و الثواقب النیره المشرقه- و سراجا مستطیرا أی منتشر الضوء- یقال قد استطارالفجر أی انتشر ضوءه- و رقیم مائر أی لوح متحرک- سمی الفلک رقیما تشبیها باللوح لأنه مسطح- فأما القطب الراوندی فقال- إنه ع ذکر قبل هذه الکلمات- أنه أنشأ حیوانا له أعضاء و أحناء- ثم ذکر هاهنا أنه فتق السماء و میز بعضها عن بعض- ثم ذکر أن بین کل سماء و سماء مسیره خمسمائه عام- و هی سبع سموات- و کذلک بین کل أرض و أرض و هی سبع أیضا- و روى حدیث البقره التی تحمل الملک الحامل للعرش- و الصخره التی تحمل البقره و الحوت الذی یحمل الصخره- . و لقائل أن یقول إنه ع لم یذکر فیما تقدم- أن الله تعالى خلق حیوانا ذا أعضاء- و لا قوله الآن ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء- هو معنى قوله تعالى- أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ کانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما- أ لا تراه کیف صرح ع- بأن البارئ سبحانه خلق الهواء الذی هو الفضاء- و عبر عن ذلک بقوله ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء- و لیس فتق الأجواء هو فتق السماء- . فإن قلت فکیف یمکن التطبیق بین کلامه ع و بین الآیه- . قلت إنه تعالى لما سلط الریح على الماء فعصفت به- حتى جعلته بخارا و زبدا- و خلق من أحدهما السماء و من الآخر الأرض- کان فاتقا لهما من شیء واحد و هو الماء- . فأما حدیث البعد بین السموات- و کونه مسیره خمسمائه عام بین کل سماء و سماء- فقد ورد ورودا لم یوثق به- و أکثر الناس على خلاف ذلک- و کون الأرض سبعا أیضا-
خلاف ما یقوله جمهور العقلاء- و لیس فی القرآن العزیز ما یدل على تعدد الأرض- إلا قوله تعالى وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ- و قد أولوه على الأقالیم السبعه- و حدیث الصخره و الحوت و البقره- من الخرافات فی غالب الظن- و الصحیح أن الله تعالى یمسک الکل بغیر واسطه جسم آخر- . ثم قال الراوندی السکائک جمع سکاک و هذا غیر جائز- لأن فعالا لا یجمع على فعائل- و إنما هو جمع سکاکه ذکر ذلک الجوهری- . ثم قال و سلطها على شده الشد العدو- و لا یجوز حمل الشد هاهنا على العدو- لأنه لا معنى له و الصحیح ما ذکرناه- . و قال فی تفسیر قوله ع جعل سفلاهن موجا مکفوفا- أراد تشبیهها بالموج لصفائها و اعتلائها- فیقال له إن الموج لیس بعال لیشبه به الجسم العالی- و أما صفاؤه فإن کل السموات صافیه- فلما ذا خص سفلاهن بذلک- . ثم قال و یمکن أن تکون السماء السفلى- قد کانت أول ما وجدت موجا ثم عقدها- یقال له و السموات الأخر کذلک کانت- فلما ذا خص السفلى بذلک- . ثم قال الریح الأولى غیر الریح الثانیه- لأن إحداهما معرفه و الأخرى نکره- و هذا مثل قوله صم الیوم صم یوما فإنه یقتضی یومین- . یقال له لیست المغایره بینهما- مستفاده من مجرد التعریف و التنکیر- لأنه لو کان قال
ع- و حمله على متن ریح عاصفه و زعزع قاصفه- لکانت الریحان الأولى و الثانیه منکرتین معا- و هما متغایرتان و إنما علمنا تغایرهما- لأن إحداهما تحت الماء و الأخرى فوقه- و الجسم الواحد لا یکون فی جهتین: ثُمَّ فَتَقَ مَا بَیْنَ السَّمَوَاتِ الْعُلَا- فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلَائِکَتِهِ- مِنْهُمْ سُجُودٌ لَا یَرْکَعُونَ وَ رُکُوعٌ لَا یَنْتَصِبُونَ- وَ صَافُّونَ لَا یَتَزَایَلُونَ وَ مُسَبِّحُونَ لَا یَسْأَمُونَ- لَا یَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُیُونِ وَ لَا سَهْوُ الْعُقُولِ- وَ لَا فَتْرَهُ الْأَبْدَانِ وَ لَا غَفْلَهُ النِّسْیَانِ- وَ مِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْیِهِ وَ أَلْسِنَهٌ إِلَى رُسُلِهِ- وَ مُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَ أَمْرِهِ- وَ مِنْهُمُ الْحَفَظَهُ لِعِبَادِهِ وَ السَّدَنَهُ لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ- وَ مِنْهُمُ الثَّابِتَهُ فِی الْأَرَضِینَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ- وَ الْمَارِقَهُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْیَا أَعْنَاقُهُمْ- وَ الْخَارِجَهُ مِنَ الْأَقْطَارِ أَرْکَانُهُمْ- وَ الْمُنَاسِبَهُ لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَکْتَافُهُمْ- نَاکِسَهٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ- مَضْرُوبَهٌ بَیْنَهُمْ وَ بَیْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّهِ- وَ أَسْتَارُ الْقُدْرَهِ- لَا یَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِیرِ- وَ لَا یُجْرُونَ عَلَیْهِ صِفَاتِ الْمَصْنُوعِینَ- وَ لَا یَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاکِنِ وَ لَا یُشِیرُونَ إِلَیْهِ بِالنَّظَائِرِ
القول فی إالملائکه و أقسامهم
الملک عند المعتزله حیوان نوری- فمنه شفاف عادم اللون کالهواء و منه ملون بلون الشمس- و الملائکه عندهم قادرون عالمون- أحیاء بعلوم و قدر و حیاه کالواحد منا- و مکلفون کالواحد منا إلا أنهم معصومون- و لهم فی کیفیه تکلیفهم کلام- لأن التکلیف مبنی على الشهوه- . و فی کیفیه خلق الشهوه فیهم نظر- و لیس هذا الکتاب موضوعا للبحث فی ذلک- و قد جعلهم ع فی هذا الفصل أربعه أقسام- القسم الأول أرباب العباده- فمنهم من هو ساجد أبدا لم یقم من سجوده لیرکع- و منهم من هو راکع أبدا لم ینتصب قط- و منهم الصافون فی الصلاه- بین یدی خالقهم لا یتزایلون- و منهم المسبحون- الذین لا یملون التسبیح و التحمید له سبحانه- . و القسم الثانی- السفراء بینه تعالى و بین المکلفین من البشر- بتحمل الوحی الإلهی إلى الرسل- و المختلفون بقضائه و أمره إلى أهل الأرض- . و القسم الثالث ضربان- أحدهما حفظه العباد کالکرام الکاتبین- و کالملائکه الذین یحفظون البشر من المهالک و الورطات- و لو لا ذلک لکان العطب أکثر من السلامه- و ثانیهما سدنه الجنان- . القسم الرابع حمله العرش
– . و یجب أن یکون الضمیر فی دونه و هو الهاء- راجعا إلى العرش لا إلى البارئ سبحانه- و کذلک الهاء فی قوله تحته- و یجب أن تکون الإشاره بقوله و بین من دونهم- إلى الملائکه الذین دون هؤلاء فی الرتبه- . فأما ألفاظ الفصل فکلها غنیه عن التفسیر إلا یسیرا- کالسدنه جمع سادن و هو الخادم- و المارق الخارج و تلفعت بالثوب أی التحفت به- . و أما القطب الراوندی فجعل الأمناء على الوحی- و حفظه العباد و سدنه الجنان-
قسما واحدا- فأعاد الأقسام الأربعه إلى ثلاثه و لیس بجید- لأنه قال و منهم الحفظه- فلفظه و منهم تقتضی کون الأقسام أربعه- لأنه بها فصل بین الأقسام- . و قال أیضا معنى قوله ع لا یغشاهم نوم العیون- یقتضی أن لهم نوما قلیلا لا یغفلهم عن ذکر الله سبحانه- فأما البارئ سبحانه فإنه لا تأخذه سنه و لا نوم أصلا- مع أنه حی و هذه هی المدحه العظمى- . و لقائل أن یقول لو ناموا قلیلا- لکانوا زمان ذلک النوم و إن قل- غافلین عن ذکر الله سبحانه- لأن الجمع بین النوم و بین الذکر مستحیل- . و الصحیح أن الملک لا یجوز علیه النوم- کما لا یجوز علیه الأکل و الشرب- لأن النوم من توابع المزاج و الملک لا مزاج له- و أما مدح البارئ بأنه لا تأخذه سنه و لا نوم- فخارج عن هذا الباب- لأنه تعالى یستحیل علیه النوم استحاله ذاتیه- لا یجوز تبدلها و الملک یجوز أن یخرج عن کونه ملکا- بأن یخلق فی أجزاء جسمه رطوبه و یبوسه- و حراره و بروده- یحصل من اجتماعها مزاج و یتبع ذلک المزاج النوم- فاستحاله النوم علیه إنما هی ما دام ملکا- فهو کقولک الماء بارد أی ما دام ماء- لأنه یمکن أن یستحیل هواء ثم نارا فلا یکون باردا- لأنه لیس حینئذ ماء- و البارئ جلت عظمته یستحیل على ذاته أن یتغیر- فاستحال علیه النوم استحاله مطلقه مع أنه حی- و من هذا إنشاء التمدح-
و روى أبو هریره عن النبی ص أن الله خلق الخلق أربعه أصناف- الملائکه و الشیاطین و الجن و الإنس- ثم جعل الأصناف الأربعه عشره أجزاء- فتسعه منها الملائکه- و جزء واحد الشیاطین و الجن و الإنس- ثم جعل هؤلاء الثلاثه عشره أجزاء- فتسعه منها الشیاطین و جزء واحد الجن و الإنس- ثم جعل الجن و الإنس عشره أجزاء- فتسعه منها الجن و جزء واحد الإنس و فی الحدیث الصحیح أن الملائکه کانت تصافح عمران بن الحصین و تزوره- ثم افتقدها- فقال یا رسول الله إن رجالا کانوا یأتوننی- لم أر أحسن وجوها و لا أطیب أرواحا منهم- ثم انقطعوا- فقال ع أصابک جرح فکنت تکتمه- فقال أجل قال ثم أظهرته قال أجل- قال أما لو أقمت على کتمانه- لزارتک الملائکه إلى أن تموت – و کان هذا الجرح أصابه فی سبیل الله- . و قال سعید بن المسیب و غیره- الملائکه لیسوا بذکور و لا إناث- و لا یتوالدون و لا یأکلون و لا یشربون- و الجن یتوالدون و فیهم ذکور و إناث و یموتون- و الشیاطین ذکور و إناث و یتوالدون- و لا یموتون حتى یموت إبلیس- .
و قال النبی ص فی روایه أبی ذر إنی أرى ما لا ترون و أسمع ما لا تسمعون- أطت السماء و حق لها أن تئط- فما فیها موضع شبر إلا و فیه ملک- قائم أو راکع أو ساجد واضع جبهته لله- و الله لو تعلمون ما أعلم لضحکتم قلیلا- و لبکیتم کثیرا- و ما تلذذتم بالنساء على الفرش- و لخرجتم إلى الفلوات تجأرون إلى الله- و الله لوددت أنی کنت شجره تعضد قلت و یوشک هذه الکلمه الأخیره أن تکون قول أبی ذر- . و اتفق أهل الکتب- على أن رؤساء الملائکه و أعیانهم أربعه- جبرائیل و میکائیل و إسرافیل و عزرائیل- و هو ملک الموت- و قالوا إن إسرافیل صاحب الصور و إلیه النفخه- و إن میکائیل صاحب النبات و المطر- و إن عزرائیل على أرواح الحیوانات- و إن جبرائیل على جنود السموات و الأرض کلها- و إلیه تدبیر الریاح- و هو ینزل إلیهم کلهم بما یؤمرون به- .
و روى أنس بن مالک أنه قیل لرسول الله ص- ما هؤلاء الذین استثنی بهم فی قوله تعالى- فَصَعِقَ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ مَنْ فِی الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ- فقال جبرائیل و میکائیل و إسرافیل و عزرائیل- فیقول الله عز و جل لعزرائیل یا ملک الموت من بقی- و هو سبحانه أعلم- فیقول سبحانک ربی ذا الجلال و الإکرام- بقی جبرائیل و میکائیل و إسرافیل و ملک الموت- فیقول یا ملک الموت خذ نفس إسرافیل- فیقع فی صورته التی خلق علیها- کأعظم ما یکون من الأطواد- ثم یقول و هو أعلم من بقی یا ملک الموت- فیقول سبحانک ربی یا ذا الجلال و الإکرام- جبرائیل و میکائیل و ملک الموت- فیقول خذ نفس میکائیل- فیقع فی صورته التی خلق علیها- و هی أعظم ما یکون من خلق إسرافیل بأضعاف مضاعفه- ثم یقول سبحانه یا ملک الموت من بقی- فیقول سبحانک ربی ذا الجلال و الإکرام- جبرائیل و ملک الموت- فیقول تعالى یا ملک الموت مت فیموت- و یبقى جبرائیل و هو من الله تعالى بالمکان الذی ذکر لکم- فیقول الله یا جبرائیل إنه لا بد من أن یموت أحدنا- فیقع جبرائیل ساجدا یخفق بجناحیه- یقول سبحانک ربی و بحمدک- أنت الدائم القائم الذی لا یموت- و جبرائیل الهالک المیت الفانی- فیقبض الله روحه فیقع على میکائیل و إسرافیل- و أن فضل خلقه على خلقهما کفضل الطود العظیم- على الظرب من الظراب و فی الأحادیث الصحیحه- أن جبرائیل کان یأتی رسول الله ص- على صوره دحیه الکلبی- و أنه کان یوم بدر على فرس اسمه حیزوم- و أنه سمع ذلک الیوم صوته أقدم حیزوم- .
و الکروبیون عند أهل المله ساده الملائکه- کجبرائیل و میکائیل- و عند الفلاسفه أن ساده الملائکه هم الروحانیون- یعنون العقول الفعاله- و هی المفارقه للعالم الجسمانی المسلوبه التعلق به- لا بالحول و لا بالتدبیر- و أما الکروبیون فدون الروحانیین فی المرتبه- و هی أنفس الأفلاک المدبره لها- الجاریه منها مجرى نفوسنا مع أجسامنا- . ثم هی على قسمین قسم أشرف و أعلى من القسم الآخر- فالقسم الأشرف ما کان نفسا ناطقه- غیر حاله فی جرم الفلک- کأنفسنا بالنسبه إلى أبداننا- و القسم الثانی ما کان حالا فی جرم الفلک- و یجری ذلک مجرى القوى التی فی أبداننا- کالحس المشترک و القوه الباصره:
مِنْهَا فِی صِفَهِ خَلْقِ آدَمَ ع-
ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الْأَرْضِ وَ سَهْلِهَا- وَ عَذْبِهَا وَ سَبَخِهَا- تُرْبَهً سَنَّهَا بِالْمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ- وَ لَاطَهَا بِالْبِلَّهِ حَتَّى لَزَبَتْ- فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَهً ذَاتَ أَحْنَاءٍ وَ وُصُولٍ وَ أَعْضَاءٍ- وَ فُصُولٍ أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَکَتْ- وَ أَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وَ أَجَلٍ مَعْلُومٍ- ثُمَّ نَفَخَ فِیهَا مِنْ رُوحِهِ- فَتَمَثَّلَتْ إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ یُجِیلُهَا- وَ فِکَرٍ یَتَصَرَّفُ بِهَا وَ جَوَارِحَ یَخْتَدِمُهَا- وَ أَدَوَاتٍ یُقَلِّبُهَا وَ مَعْرِفَهٍ یَفْرُقُ بِهَا بَیْنَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ- وَ الْأَذْوَاقِ وَ الْمَشَامِّ وَ الْأَلْوَانِ وَ الْأَجْنَاسِ- مَعْجُوناً بِطِینَهِ الْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَهِ-وَ الْأَشْبَاهِ الْمُؤْتَلِفَهِ وَ الْأَضْدَادِ الْمُتَعَادِیَهِ- وَ الْأَخْلَاطِ الْمُتَبَایِنَهِ مِنَ الْحَرِّ وَ الْبَرْدِ- وَ الْبِلَّهِ وَ الْجُمُودِ- وَ الْمَسَاءَهِ وَ السُّرُورِ وَ اسْتَأْدَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمَلَائِکَهَ وَدِیعَتَهُ لَدَیْهِمْ- وَ عَهْدَ وَصِیَّتِهِ إِلَیْهِمْ فِی الْإِذْعَانِ بِالسُّجُودِ لَهُ- وَ الْخُنُوعِ لِتَکْرِمَتِهِ- فَقَالَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِیسَ- وَ قَبیلَهُ اعْتَرَتْهُمُ الْحَمِیَّهُ- وَ غَلَبَتْ عَلَیْهِمُ الشِّقْوَهُ- وَ تَعَزَّزُوا بِخِلْقَهِ النَّارِ وَ اسْتَوْهَنُوا خَلْقَ الصَّلْصَالِ- فَأَعْطَاهُ اللَّهُ النَّظِرَهَ اسْتِحْقَاقاً لِلسَّخْطَهِ- وَ اسْتِتْمَاماً لِلْبَلِیَّهِ وَ إِنْجَازاً لِلْعِدَهِ- فَقَالَ فَإِنَّکَ مِنَ الْمُنْظَرِینَ إِلى یَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ
الحزن ما غلظ من الأرض و سبخها ما ملح منها- و سنها بالماء أی ملسها- قال ثم خاصرتها إلى القبه الخضراء تمشی فی مرمر مسنون- . أی مملس- و لاطها من قولهم لطت الحوض بالطین- أی ملطته و طینته به- و البله بفتح الباء من البلل- و لزبت بفتح الزای أی التصقت و ثبتت- فجبل منها أی خلق و الأحناء الجوانب جمع حنو- و أصلدها جعلها صلدا أی صلبا متینا- و صلصلت یبست و هو الصلصال- و یختدمها یجعلها فی مآربه و أوطاره- کالخدم الذین تستعملهم و تستخدمهم- و استأدى الملائکه ودیعته طلب منهم أداءها- و الخنوع الخضوع و الشقوه بکسر الشین- و فی الکتاب العزیز رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَیْنا شِقْوَتُنا- و استوهنوا عدوه واهنا ضعیفا- و النظره بفتح النون و کسر الظاء الإمهال و التأخیر- . فأما معانی الفصل فظاهره و فیه مع ذلک مباحث- . منها أن یقال اللام فی قوله لوقت معدود بما ذا تتعلق- . و الجواب أنها تتعلق بمحذوف- تقدیره حتى صلصلت کائنه لوقت- فیکون الجار و المجرور فی موضع الحال- و یکون معنى الکلام أنه أصلدها- حتى یبست و جفت معده لوقت معلوم- فنفخ حینئذ روحه فیها- و یمکن أن تکون اللام متعلقه بقوله فجبل أی جبل- و خلق من الأرض هذه الجثه لوقت- أی لأجل وقت معلوم و هو یوم القیامه- . و منها أن یقال لما ذا قال- من حزن الأرض و سهلها و عذبها و سبخها- . و الجواب أن المراد من ذلک- أن یکون الإنسان مرکبا من طباع مختلفه- و فیه استعداد للخیر و الشر و الحسن و القبح- . و منها أن یقال- لما ذا أخر نفخ الروح فی جثه آدم مده طویله- فقد قیل إنه بقی طینا تشاهده الملائکه أربعین سنه- و لا یعلمون ما المراد به- . و الجواب یجوز أن یکون فی ذلک لطف للملائکه- لأنهم تذهب ظنونهم فی ذلک کل مذهب- فصار کإنزال المتشابهات- الذی تحصل به ریاضه الأذهان و تخریجها- و فی ضمن ذلک یکون اللطف- و یجوز أن یکون فی أخبار ذریه آدم- بذلک فیما بعد لطف بهم- و لا یجوز إخبارهم بذلک إلا إذا کان المخبر عنه حقا-
و منها أن یقال ما المعنی بقوله ثم نفخ فیها من روحه- . الجواب أن النفس لما کانت جوهرا مجردا- لا متحیزه و لا حاله فی المتحیز- حسن لذلک نسبتها إلى البارئ- لأنها أقرب إلى الانتساب إلیه من الجثمانیات- و یمکن أیضا أن تکون لشرفها مضافه إلیه- کما یقال بیت الله للکعبه- و أما النفخ فعباره عن إفاضه النفس على الجسد- و لما نفخ الریح فی الوعاء- عباره عن إدخال الریح إلى جوفه- و کان الإحیاء عباره عن إفاضه النفس على الجسد- و یستلزم ذلک حلول القوى و الأرواح فی الجثه- باطنا و ظاهرا- سمی ذلک نفخا مجازا- . و منها أن یقال ما معنى قوله- معجونا بطینه الألوان المختلفه- . الجواب أنه ع قد فسر ذلک بقوله- من الحر و البرد و البله و الجمود- یعنی الرطوبه و الیبوسه- و مراده بذلک المزاج الذی هو کیفیه واحده- حاصله من کیفیات مختلفه قد انکسر بعضها ببعض- و قوله معجونا صفه إنسانا- و الألوان المختلفه یعنى الضروب و الفنون- کما تقول فی الدار ألوان من الفاکهه- . و منها أن یقال ما المعنی بقوله- و استأدى الملائکه ودیعته لدیهم- و کیف کان هذا العهد و الوصیه بینه و بینهم- . الجواب أن العهد و الوصیه هو قوله تعالى لهم- إِنِّی خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِینٍ- فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ- .
و منها أن یقال- کیف کانت شبهه إبلیس و أصحابه فی التعزز بخلقه النار- . الجواب لما کانت النار مشرقه بالذات و الأرض مظلمه- و کانت النار أشبه بالنور و النور أشبه بالمجردات- جعل إبلیس ذلک حجه احتج بها- فی شرف عنصره على عنصر آدم ع- و لأن النار أقرب إلى الفلک من الأرض- و کل شیء کان أقرب إلى الفلک من غیره کان أشرف- و البارئ تعالى لم یعتبر ذلک- و فعل سبحانه ما یعلم أنه المصلحه و الصواب- . و منها أن یقال کیف یجوز السجود لغیر الله تعالى- . و الجواب أنه قیل إن السجود لم یکن إلا لله تعالى- و إنما کان آدم ع قبله- و یمکن أن یقال إن السجود لله على وجه العباده- و لغیره على وجه التکرمه- کما سجد أبو یوسف و إخوته له- و یجوز أن تختلف الأحوال و الأوقات- فی حسن ذلک و قبحه- . و منها أن یقال- کیف جاز على ما تعتقدونه من حکمه البارئ- أن یسلط إبلیس على المکلفین- أ لیس هذا هو الاستفساد الذی تأبونه و تمنعونه- . و الجواب أما الشیخ أبو علی رحمه الله فیقول- حد المفسده ما وقع عند الفساد- و لولاه لم یقع مع تمکن المکلف من الفعل فی الحالین- و من فسد بدعاء إبلیس لم یتحقق فیه هذا الحد- لأن الله تعالى علم أن کل من فسد عند دعائه- فإنه یفسد و لو لم یدعه- . و أما أبو هاشم رحمه الله- فیحد المفسده بهذا الحد أیضا- و یقول إن فی الإتیان بالطاعه مع دعاء إبلیس إلى القبیح- مشقه زائده على مشقه الإتیان بها- لو لم یدع إبلیس إلى القبیح- فصار الإتیان بها مع اعتبار دعاء إبلیس إلى خلافها- خارجا عن الحد المذکور و داخلا فی حیز التمکن- الذی لو فرضنا ارتفاعه لما صح من المکلف الإتیان بالفعل- و نحن قلنا فی الحد- مع تمکن المکلف من الإتیان بالفعل فی الحالین- . و منها أن یقال کیف جاز للحکیم سبحانه أن یقول لإبلیس- إِنَّکَ مِنَ الْمُنْظَرِینَ إلى یوم القیامه- و هذا إغراء بالقبیح- و أنتم تمنعون أن یقول الحکیم لزید- أنت لا تموت إلى سنه بل إلى شهر أو یوم واحد- لما فیه من الإغراء بالقبیح- و العزم على التوبه قبل انقضاء الأمد- .
و الجواب أن أصحابنا قالوا- إن البارئ تعالى لم یقل لإبلیس- إنی منظرک إلى یوم القیامه- و إنما قال إِلى یَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ- و هو عباره عن وقت موته و اخترامه- و کل مکلف من الإنس و الجن- منظر إلى یوم الوقت المعلوم على هذا التفسیر- و إذا کان کذلک لم یکن إبلیس عالما أنه یبقى لا محاله- فلم یکن فی ذلک إغراء له بالقبیح- . فإن قلت فما معنى قوله ع و إنجازا للعده- أ لیس معنى ذلک- أنه قد کان وعده أن یبقیه إلى یوم القیامه- . قلت إنما وعده الإنظار- و یمکن أن یکون إلى یوم القیامه و إلى غیره من الأوقات- و لم یبین له فهو تعالى أنجز له وعده فی الإنظار المطلق- و ما من وقت إلا و یجوز فیه أن یخترم إبلیس- فلا یحصل الإغراء بالقبیح- و هذا الکلام عندنا ضعیف- و لنا فیه نظر مذکور فی کتبنا الکلامیه
: ثُمَّ أَسْکَنَ آدَمَ دَاراً أَرْغَدَ فِیهَا عِیشَتَهُ- وَ آمَنَ فِیهَا مَحَلَّتَهُ وَ حَذَّرَهُ إِبْلِیسَ وَ عَدَاوَتَهُ- فَاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفَاسَهً عَلَیْهِ بِدَارِ الْمُقَامِ- وَ مُرَافَقَهِ الْأَبْرَارِ- فَبَاعَ الْیَقِینَ بِشَکِّهِ وَ الْعَزِیمَهَ بِوَهْنِهِ- وَ اسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلًا وَ بِالِاعْتِزَازِ نَدَماً- ثُمَّ بَسَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِی تَوْبَتِهِ- وَ لَقَّاهُ کَلِمَهَ رَحْمَتِهِ وَ وَعَدَهُ الْمَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ- فَأَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ الْبَلِیَّهِ وَ تَنَاسُلِ الذُّرِّیَّهِ
أماالألفاظ فظاهره و المعانی أظهر- و فیها ما یسأل عنه- . فمنها أن یقال الفاء فی قوله ع فأهبطه- تقتضی أن تکون التوبه على آدم قبل هبوطه من الجنه- . و الجواب أن ذلک أحد قولی المفسرین- و یعضده قوله تعالى- وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى- ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَیْهِ وَ هَدى قالَ اهْبِطا مِنْها- فجعل الهبوط بعد قبول التوبه- . و منها أن یقال- إذا کان تعالى قد طرد إبلیس من الجنه- لما أبى السجود- فکیف توصل إلى آدم و هو فی الجنه- حتى استنزله عنها بتحسین أکل الشجره له- . الجواب أنه یجوز أن یکون إنما منع من دخول الجنه- على وجه التقریب و الإکرام کدخول الملائکه- و لم یمنع من دخولها على غیر ذلک الوجه- و قیل إنه دخل فی جوف الحیه کما ورد فی التفسیر- . و منها أن یقال کیف اشتبه على آدم الحال- فی الشجره المنهی عنها فخالف النهی- . الجواب أنه قیل له لا تقربا هذه الشجره- و أرید بذلک نوع الشجره فحمل آدم النهی على الشخص- و أکل من شجره أخرى من نوعها- . و منها أن یقال هذا الکلام من أمیر المؤمنین ع- تصریح بوقوع المعصیه من آدم ع- و هو قوله فباع الیقین بشکه و العزیمه بوهنه- فما قولکم فی ذلک- . الجواب أما أصحابنا فإنهم لا یمتنعون من إطلاق العصیان علیه- و یقولون إنها کانت صغیره- و عندهم أن الصغائر جائزه على الأنبیاء ع- و أما الإمامیه فیقولون- إن النهی کان نهی تنزیه لا نهی تحریم- لأنهم لا یجیزون على الأنبیاء الغلط و الخطأ- لا کبیرا و لا صغیرا- و ظواهر هذه الألفاظ تشهد بخلاف قولهم
اختلاف الأقوال فی ابتداء خلق البشر
و اعلم أن الناس اختلفوا- فی ابتداء خلق البشر کیف کان- فذهب أهل الملل من المسلمین و الیهود و النصارى- إلى أن مبدأ البشر هو آدم الأب الأول ع- و أکثر ما فی القرآن العزیز من قصه آدم- مطابق لما فی التوراه- . و ذهب طوائف من الناس إلى غیر ذلک- أما الفلاسفه فإنهم زعموا أنه لا أول لنوع البشر- و لا لغیرهم من الأنواع- . و أما الهند فمن کان منهم على رأی الفلاسفه- فقوله ما ذکرناه- و من لم یکن منهم
على رأی الفلاسفه- و یقول بحدوث الأجسام لا یثبت آدم- و یقول إن الله تعالى خلق الأفلاک- و خلق فیها طباعا محرکه لها بذاتها- فلما تحرکت و حشوها أجسام لاستحاله الخلاء- کانت تلک الأجسام على طبیعه واحده- فاختلفت طباؤعها بالحرکه الفلکیه- فکان القریب من الفلک المتحرک أسخن و ألطف- و البعید أبرد و أکثف- ثم اختلطت العناصر و تکونت منها المرکبات- و منها تکون نوع البشر- کما یتکون الدود فی الفاکهه و اللحم- و البق فی البطائح و المواضع العفنه- ثم تکون بعض البشر من بعض بالتوالد- و صار ذلک قانونا مستمرا- و نسی التخلیق الأول الذی کان بالتولد- و من الممکن أن یکون بعض البشر- فی بعض الأراضی القاصیه مخلوقا بالتولد- و إنما انقطع التولد- لأن الطبیعه إذا وجدت للتکون طریقا- استغنت به عن طریق ثان- . و أما المجوس فلا یعرفون آدم و لا نوحا- و لا ساما و لا حاما و لا یافث- و أول متکون عندهم من البشر البشری- المسمى کیومرث و لقبه کوشاه أی ملک الجبل- لأن کو هو الجبل بالفهلویه- و کان هذا البشر فی الجبال- و منهم من یسمیه کلشاه أی ملک الطین و کل اسم الطین- لأنه لم یکن حینئذ بشر لیملکهم- .
و قیل تفسیر کیومرث حی ناطق میت- قالوا و کان قد رزق من الحسن- ما لا یقع علیه بصر حیوان- إلا و بهت و أغمی علیه- و یزعمون أن مبدأ تکونه و حدوثه- أن یزدان و هو الصانع الأول عندهم أفکر فی أمر أهرمن- و هو الشیطان عندهم- فکره أوجبت أن عرق جبینه- فمسح العرق و رمى به فصار منه کیومرث- و لهم خبط طویل فی کیفیه تکون أهرمن من فکره یزدان- أو من إعجابه بنفسه أو من توحشه- و بینهم خلاف فی قدم أهرمن- و حدوثه لا یلیق شرحه بهذا الموضع-
ثم اختلفوا فی مده بقاء کیومرث فی الوجود- فقال الأکثرون ثلاثون سنه- و قال الأقلون أربعون سنه- و قال قوم منهم إن کیومرث مکث فی الجنه- التی فی السماء ثلاثه آلاف سنه- و هی ألف الحمل و ألف الثور و ألف الجوزاء- ثم أهبط إلى الأرض فکان بها آمنا مطمئنا- ثلاثه آلاف سنه أخرى- و هی ألف السرطان و ألف الأسد و ألف السنبله- . ثم مکث بعد ذلک ثلاثین أو أربعین سنه- فی حرب و خصام بینه و بین أهرمن حتى هلک- . و اختلفوا فی کیفیه هلاکه- مع اتفاقهم على أنه هلک قتلا- فالأکثرون قالوا إنه قتل ابنا لأهرمن یسمى خزوره- فاستغاث أهرمن منه إلى یزدان- فلم یجد بدا من أن یقاصه به- حفظا للعهود التی بینه و بین أهرمن- فقتله بابن أهرمن- و قال قوم بل قتله أهرمن فی صراع کان بینهما- قهره فیه أهرمن و علاه و أکله- . و ذکروا فی کیفیه ذلک الصراع- أن کیومرث کان هو القاهر لأهرمن فی بادئ الحال- و أنه رکبه و جعل یطوف به فی العالم إلى أن سأله أهرمن- أی الأشیاء أخوف له و أهولها عنده فقال له باب جهنم- فلما بلغ به أهرمن إلیها جمح به حتى سقط من فوقه- و لم یستمسک فعلاه و سأله- عن أی الجهات یبتدئ به فی الأکل- فقال من جهه الرجل لأکون ناظرا إلى حسن العالم مده ما- فابتدأه أهرمن فأکله من عند رأسه- فبلغ إلى موضع الخصی و أوعیه المنی من الصلب- فقطر من کیومرث قطرتا نطفه على الأرض- فنبت منها ریباستان فی جبل بإصطخر- یعرف بجبل دام داذ- ثم ظهرت على تینک الریباستین الأعضاء البشریه- فی أول الشهر التاسع و تمت فی آخره- فتصور منهما بشران ذکر و أنثى- و هما میشى و میشانه- و هما بمنزله آدم و حواء عند الملیین- و یقال لهما أیضا ملهى و ملهیانه- و یسمیهما مجوس خوارزم مرد و مردانه-
و زعموا أنهما مکثا خمسین سنه- مستغنین عن الطعام و الشراب- متنعمین غیر متأذیین بشیء- إلى أن ظهر لهما أهرمن فی صوره شیخ کبیر- فحملهما على التناول من فواکه الأشجار و أکل منها- و هما یبصرانه شیخا فعاد شابا- فأکلا منها حینئذ فوقعا فی البلایا و الشرور- و ظهر فیهما الحرص حتى تزاوجا- و ولد لهما ولد فأکلاه حرصا- ثم ألقى الله تعالى فی قلوبهما رأفه- فولد لهما بعد ذلک سته أبطن- کل بطن ذکر و أنثى- و أسماؤهم فی کتاب أپستا- و هو الکتاب الذی جاء به زرادشت- معروفه- ثم کان فی البطن السابع سیامک و فرواک فتزاوجا- فولد لهما الملک المشهور الذی لم یعرف قبله ملک- و هو أوشهنج و هو الذی خلف جده کیومرث- و عقد له التاج و جلس على السریر- و بنى مدینتی بابل و السوس- . فهذا ما یذکره المجوس فی مبدأ الخلق
تصویب الزنادقه إبلیس لامتناعه عن السجود لآدم
و کان فی المسلمین ممن یرمى بالزندقه- من یذهب إلى تصویب إبلیس فی الامتناع من السجود- و یفضله على آدم- و هو بشار بن برد المرعث- و من الشعر المنسوب إلیه-
النار مشرقه و الأرض مظلمه
و النار معبوده مذ کانت النار
و کان أبو الفتوح أحمد بن محمد الغزالی الواعظ- أخو أبی حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالی- الفقیه الشافعی- قاصا لطیفا و واعظا مفوها- و هو من خراسان من مدینه طوس- و قدم إلى بغداد و وعظ بها- و سلک فی وعظه مسلکا منکرا- لأنه کان یتعصب لإبلیس و یقول إنه سید الموحدین- و قال یوما على المنبر- من لم یتعلم التوحید من إبلیس فهو زندیق- أمر أن یسجد لغیر سیده فأبى- و لست بضارع إلا إلیکم و أما غیرکم حاشا و کلا
– . و قال مره أخرى لما قال له موسى أرنی فقال لن- قال هذا شغلک تصطفی آدم ثم تسود وجهه- و تخرجه من الجنه و تدعونی إلى الطور- ثم تشمت بی الأعداء هذا عملک بالأحباب- فکیف تصنع بالأعداء- . و قال مره أخرى و قد ذکر إبلیس على المنبر- لم یدر ذلک المسکین أن أظافیر القضاء إذا حکت أدمت- و أن قسی القدر إذا رمت أصمت-
ثم قال لسان حال آدم ینشد فی قصته و قصه إبلیس-
و کنت و لیلى فی صعود من الهوى
فلما توافینا ثبت و زلت
– . و قال مره أخرى التقى موسى و إبلیس عند عقبه الطور- فقال موسى یا إبلیس لم لم تسجد لآدم- فقال کلا ما کنت لأسجد لبشر- کیف أوحده ثم ألتفت إلى غیره- و لکنک أنت یا موسى سألت رؤیته ثم نظرت إلى الجبل- فأنا أصدق منک فی التوحید- .
و کان هذا النمط فی کلامه ینفق على أهل بغداد- و صار له بینهم صیت مشهور و اسم کبیر- و حکى عنه أبو الفرج بن الجوزی فی التاریخ- أنه قال على المنبر معاشر الناس- إنی کنت دائما أدعوکم إلى الله- و أنا الیوم أحذرکم منه- و الله ما شدت الزنانیر إلا فی حبه- و لا أدیت الجزیه إلا فی عشقه- . و قال أیضا إن رجلا یهودیا أدخل علیه لیسلم على یده- فقال له لا تسلم- فقال له الناس کیف تمنعه من الإسلام- فقال احملوه إلى أبی حامد یعنی أخاه لیعلمه لا- لا المنافقین- ثم قال ویحکم أ تظنون أن قوله لا إله إلا الله- منشور ولایته ذا منشور عزله- و هذا نوع تعرفه الصوفیه بالغلو و الشطح- . و یروى عن أبی یزید البسطامی منه کثیر- . و مما یتعلق بما نحن فیه ما رووه عنه من قوله-
فمن آدم فی البین
و من إبلیس لولاکا
فتنت الکل و الکل
مع الفتنه یهواکا
– . و یقال أول من قاس إبلیس فأخطأ فی القیاس و هلک بخطئه- و یقال إن أول حمیه و عصبیه ظهرت عصبیه إبلیس و حمیته
اختلاف الأقوال فی خلق الجنه و النار فإن قیل فما قول شیوخکم فی الجنه و النار- فإن المشهور عنهم أنهما لم یخلقا- و سیخلقانعند قیام الأجسام- و قد دل القرآن العزیز- و نطق کلام أمیر المؤمنین ع فی هذا الفصل- بأن آدم کان فی الجنه و أخرج منها- . قیل قد اختلف شیوخنا رحمهم الله فی هذه المسأله- فمن ذهب منهم إلى أنهما غیر مخلوقتین الآن- یقول قد ثبت بدلیل السمع أن سائر الأجسام تعدم- و لا یبقى فی الوجود إلا ذات الله تعالى- بدلیل قوله کُلُّ شَیْءٍ هالِکٌ إِلَّا وَجْهَهُ- و قوله هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ- فلما کان أولا- بمعنى أنه لا جسم فی الوجود معه فی الأزل- وجب أن یکون آخرا- بمعنى أنه لا یبقى فی الوجود- جسم من الأجسام معه فیما لا یزال- و بآیات کثیره أخرى- و إذا کان لا بد من عدم سائر الأجسام- لم یکن فی خلق الجنه و النار- قبل أوقات الجزاء فائده- لأنه لا بد أن یفنیهما مع الأجسام- التی تفنى یوم القیامه- فلا یبقى مع خلقهما من قبل معنى- و یحملون الآیات التی دلت على کون آدم ع- کان فی الجنه و أخرج منها- على بستان من بساتین الدنیا- قالوا و الهبوط لا یدل على کونهما فی السماء- لجواز أن یکون فی الأرض- إلا أنهما فی موضع مرتفع عن سائر الأرض- . و أما غیر هؤلاء من شیوخنا فقالوا- إنهما مخلوقتان الآن- و اعترفوا بأن آدم کان فی جنه الجزاء و الثواب- و قالوا لا یبعد أن یکون فی إخبار المکلفین- بوجود الجنه و النار لطف لهم فی التکلیف- و إنما یحسن الإخبار بذلک إذا کان صدقا- و إنما یکون صدقا إذا کان خبره على ما هو علیه
القول فی آدم و الملائکه أیهما أفضل
فإن قیل فما الذی یقوله شیوخکم فی آدم و الملائکه- أیهما أفضل- . قیل لا خلاف بین شیوخنا رحمهم الله- أن الملائکه أفضل من آدم و من جمیع الأنبیاءع- و لو لم یدل على ذلک إلا قوله تعالى فی هذه القصه- إِلَّا أَنْ تَکُونا مَلَکَیْنِ أَوْ تَکُونا مِنَ الْخالِدِینَ- لکفى- . و قد احتج أصحابنا أیضا بقوله تعالى- لَنْ یَسْتَنْکِفَ الْمَسِیحُ أَنْ یَکُونَ عَبْداً لِلَّهِ- وَ لَا الْمَلائِکَهُ الْمُقَرَّبُونَ- و هذا کما تقول لا یستنکف الوزیر أن یعظمنی- و یرفع من منزلتی و لا الملک أیضا- فإن هذا یقتضی کون الملک أرفع منزله من الوزیر- و کذلک قوله وَ لَا الْمَلائِکَهُ الْمُقَرَّبُونَ- یقتضی کونهم أرفع منزله من عیسى- . و مما احتجوا به قولهم- إنه تعالى لما ذکر جبریل و محمدا ع فی معرض المدح- مدح جبریل ع بأعظم مما مدح به محمدا ع- فقال إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ کَرِیمٍ ذِی قُوَّهٍ عِنْدَ ذِی الْعَرْشِ مَکِینٍ- مُطاعٍ ثَمَّ أَمِینٍ وَ ما صاحِبُکُمْ بِمَجْنُونٍ- وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِینِ وَ ما هُوَ عَلَى الْغَیْبِ بِضَنِینٍ- فالمدیح الأول لجبریل و الثانی لمحمد ع- و لا یخفى تفاوت ما بین المدحین- . فإن قیل فهل کان إبلیس من الملائکه أم من نوع آخر- قیل قد اختلف فی ذلک- فمن قال إنه من الملائکه احتج بالاستثناء فی قوله- فَسَجَدَ الْمَلائِکَهُ کُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِیسَ- و قال إن الاستثناء من غیر الجنس خلاف الأصل- و من قال إنه لم یکن منهم احتج بقوله تعالى- إِلَّا إِبْلِیسَ کانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ- . و أجاب الأولون عن هذا فقالوا- إن الملائکه یطلق علیهم لفظ الجن- لاجتنانهم و استتارهم عن الأعین- و قالوا قد ورد ذلک فی القرآن أیضا فی قوله تعالى- وَ جَعَلُوا بَیْنَهُ وَ بَیْنَ الْجِنَّهِ نَسَباً
– و الجنه هاهنا هم الملائکه- لأنهم قالوا إن الملائکه بنات الله بدلیل قوله- أَ فَأَصْفاکُمْ رَبُّکُمْ بِالْبَنِینَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِکَهِ إِناثاً- و کتب التفسیر تشتمل من هذا- على ما لا نرى الإطاله بذکره
– . فأما القطب الراوندی- فقال فی هذین الفصلین فی تفسیر ألفاظهما اللغویه- العذب من الأرض ما ینبت و السبخ ما لا ینبت- و هذا غیر صحیح لأن السبخ ینبت النخل- فیلزم أن یکون عذبا على تفسیره- . و قال فجبل منها صوره أی خلق خلقا عظیما- و لفظه جبل فی اللغه تدل على خلق- سواء کان المخلوق عظیما أو غیر عظیم- . و قال الوصول جمع وصل و هو العضو- و کل شیء اتصل بشیء فما بینهما وصله- و الفصول جمع فصل و هو الشیء المنفصل- و ما عرفنا فی کتب اللغه أن الوصل هو العضو- و لا قیل هذا- . و قوله بعد ذلک و کل شیء اتصل بشیء فما بینهما وصله- لا معنى لذکره بعد ذلک التفسیر- و الصحیح أن مراده ع أظهر- من أن یتکلف له هذا التکلف- و مراده ع أن تلک الصوره ذات أعضاء متصله- کعظم الساق أو عظم الساعد- و ذات أعضاء منفصله فی الحقیقه- و إن کانت متصله بروابط خارجه عن ذواتها- کاتصال الساعد بالمرفق و اتصال الساق بالفخذ- . ثم قال یقال استخدمته لنفسی و لغیری- و اختدمته لنفسی خاصه- و هذا مما لم أعرفه و لعله نقله من کتاب- .
ثم قال و الإذعان الانقیاد و الخنوع الخضوع- و إنما کرر الخنوع بعد الإذعان- لأن الأول یفید أنهم أمروا بالخضوع له فی السجود- و الثانی یفید ثباتهم على الخضوع لتکرمته أبدا- . و لقائل أن یقول إنه لم یکرر لفظه الخنوع- و إنما ذکر أولا الإذعان و هو الانقیاد و الطاعه- و معناه أنهم سجدوا- ثم ذکر الخنوع الذی معناه الخضوع- و هو یعطی معنى غیر المعنى الأول- لأنه لیس کل ساجد خاضعا بقلبه- فقد یکون ساجدا بظاهره دون باطنه- و قول الراوندی أفاد بالثانی ثباتهم على الخضوع له- لتکرمته أبدا تفسیر لا یدل علیه اللفظ- و لا معنى الکلام- . ثم قال قبیل إبلیس نسله- قال تعالى إِنَّهُ یَراکُمْ هُوَ وَ قَبِیلُهُ- و کل جیل من الإنس و الجن قبیل- و الصحیح أن قبیله نوعه کما أن البشر قبیل کل بشری- سواء کانوا من ولده أو لم یکونوا- و قد قیل أیضا کل جماعه قبیل و إن اختلفوا- نحو أن یکون بعضهم روما و بعضهم زنجا و بعضهم عربا- و قوله تعالى إِنَّهُ یَراکُمْ هُوَ وَ قَبِیلُهُ- لا یدل على أنهم نسله- . و قوله بعد و کل جیل من الإنس و الجن قبیل- ینقض دعواه أن قبیله لا یکون إلا نسله- . ثم تکلم فی المعانی فقال- إن القیاس الذی قاسه إبلیس کان باطلا- لأنه ادعى أن النار أشرف من الأرض- و الأمر بالعکس لأن کل ما یدخل إلى النار ینقص- و کل ما یدخل التراب یزید و هذا عجیب- فإنا نرى الحیوانات المیته- إذا دفنت فی الأرض تنقص أجسامها- و کذلک الأشجار المدفونه فی الأرض- على أن التحقیق أن المحترق بالنار و البالی بالتراب- لم تعدم أجزاؤه و لا بعضها- و إنما استحالت إلى صور أخرى- .
ثم قال و لما علمنا أن تقدیم المفضول على الفاضل قبیح- علمنا أن آدم کان أفضل من الملائکه- فی ذلک الوقت و فیما بعده- . و لقائل أن یقول- أ لیس قد سجد یعقوب لیوسف ع- أ فیدل ذلک على أن یوسف أفضل من یعقوب- و لا یقال إن قوله تعالى- وَ رَفَعَ أَبَوَیْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً- لا یدل على سجود الوالدین- فلعل الضمیر یرجع إلى الإخوه خاصه- لأنا نقول هذا الاحتمال مدفوع بقوله- وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَیْتُهُمْ لِی ساجِدِینَ- و هو کنایه عن الوالدین- . و أیضا قد بینا أن السجود إنما کان لله سبحانه- و أن آدم کان قبله- و القبله لا تکون أفضل من الساجد إلیها- أ لا ترى أن الکعبه لیست أفضل من النبی ع:
وَ اصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِیَاءَ- أَخَذَ عَلَى الْوَحْیِ مِیثَاقَهُمْ- وَ عَلَى تَبْلِیغِ الرِّسَالَهِ أَمَانَتَهُمْ- لَمَّا بَدَّلَ أَکْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللَّهِ إِلَیْهِمْ- فَجَهِلُوا حَقَّهُ وَ اتَّخَذُوا الْأَنْدَادَ مَعَهُ- وَ اجْتَالَتْهُمُ الشَّیَاطِینُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ- وَ اقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ فَبَعَثَ فِیهِمْ رُسُلَهُ- وَ وَاتَرَ إِلَیْهِمْ أَنْبِیَاءَهُ لِیَسْتَأْدُوهُمْ مِیثَاقَ فِطْرَتِهِ- وَ یُذَکِّرُوهُمْ مَنْسِیَّ نِعْمَتِهِ- وَ یَحْتَجُّوا عَلَیْهِمْ بِالتَّبْلِیغِ- وَ یُثِیرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ- وَ یُرُوهُمْ آیَاتِ الْمَقْدِرَهِ- مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ وَ مِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ- وَ مَعَایِشَ تُحْیِیهِمْ وَ آجَالٍ تُفْنِیهِمْ وَ أَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ- وَ أَحْدَاثٍ تَتَتَابَعُ عَلَیْهِمْ- وَ لَمْ یُخْلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِیٍّ مُرْسَلٍ- أَوْ کِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّهٍ لَازِمَهٍأَوْ مَحَجَّهٍ قَائِمَهٍ- رُسُلٌ لَا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّهُ عَدَدِهِمْ- وَ لَا کَثْرَهُ الْمُکَذِّبِینَ لَهُمْ- مِنْ سَابِقٍ سُمِّیَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ
اجتالتهم الشیاطین أدارتهم- تقول اجتال فلان فلانا- و اجتاله عن کذا و على کذا أی أداره علیه- کأنه یصرفه تاره هکذا و تاره هکذا- یحسن له فعله و یغریه به- . و قال الراوندی اجتالتهم عدلت بهم و لیس بشیء- . و قوله ع واتر إلیهم أنبیاءه- أی بعثهم و بین کل نبیین فتره- و هذا مما تغلط فیه العامه فتظنه کما ظن الراوندی- أن المراد به المرادفه و المتابعه- و الأوصاب الأمراض و الغابر الباقی- . و یسأل فی هذا الفصل عن أشیاء- منها عن قوله ع أخذ على الوحی میثاقهم- . و الجواب أن المراد أخذ على أداء الوحی میثاقهم- و ذلک أن کل رسول أرسل فمأخوذ علیه أداء الرساله- کقوله تعالى یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ- وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ- . و منها أن یقال ما معنى قوله ع لیستأدوهم میثاق فطرته- هل هذاإشاره إلى ما یقوله أهل الحدیث- فی تفسیر قوله تعالى وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّکَ مِنْ بَنِی آدَمَ- مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ- وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ قالُوا بَلى- . و الجواب أنه لا حاجه فی تفسیر هذه اللفظه- إلى تصحیح ذلک الخبر- و مراده ع بهذا اللفظ- أنه لما کانت المعرفه به تعالى و أدله التوحید و العدل- مرکوزه فی العقول- أرسل سبحانه الأنبیاء أو بعضهم- لیؤکدوا ذلک المرکوز فی العقول- و هذه هی الفطره المشار إلیها بقوله ع کل مولود یولد على الفطره
– . و منها أن یقال إلى ما ذا یشیر بقوله أو حجه لازمه- هل هو إشاره إلى ما یقوله الإمامیه- من أنه لا بد فی کل زمان من وجود إمام معصوم- . الجواب أنهم یفسرون هذه اللفظه بذلک- و یمکن أن یکون المراد بها حجه العقل- . و أما القطب الراوندی فقال فی قوله ع- و اصطفى سبحانه من ولده أنبیاء- الولد یقال على الواحد و الجمع لأنه مصدر فی الأصل- و لیس بصحیح لأن الماضی فعل بالفتح- و المفتوح لا یأتی مصدره بالفتح- و لکن فعلا مصدر فعل بالکسر- کقولک ولهت علیه ولها و وحمت المرأه وحما- . ثم قال إن الله تعالى بعث یونس قبل نوح- و هذا خلاف إجماع المفسرین و أصحاب السیر- . ثم قال و کل واحد من الرسل و الأئمه کان یقوم بالأمر- و لا یردعه عن ذلک قله عدد أولیائه و لا کثره عدد أعدائه- فیقال له هذا خلاف قولک فی الأئمه المعصومین- فإنک تجیز علیهم التقیه و ترک القیام بالأمر- إذا کثرت أعداؤهم- . و قال فی تفسیر قوله ع- من سابق سمی له من بعده أو غابر عرفه من قبله- کان من ألطاف الأنبیاء المتقدمین و أوصیائهم- أن یعرفوا الأنبیاء المتأخرین و أوصیاءهم- فعرفهم الله تعالى ذلک- و کان من اللطف بالمتأخرین و أوصیائهم- أن یعرفوا أحوال المتقدمین من الأنبیاء و الأوصیاء- فعرفهم الله تعالى ذلک أیضا فتم اللطف لجمیعهم- . و لقائل أن یقول لو کان ع قال- أو غابر عرف من قبله- لکان هذا التفسیر مطابقا- و لکنه ع لم یقل ذلک- و إنما قال عرفه من قبله- و لیس هذا التفسیر مطابقا لقوله عرفه- و الصحیح أن المراد به- من نبی سابق عرف من یأتی بعده من الأنبیاء- أی عرفه الله تعالى ذلک- أو نبی غابر نص علیه من قبله- و بشر به کبشاره الأنبیاء بمحمد ع:
عَلَى ذَلِکَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ وَ مَضَتِ الدُّهُورُ- وَ سَلَفَتِ الآْبَاءُ وَ خَلَفَتِ الْأَبْنَاءُ- إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً ص- لِإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَ إِتْمَامِ نُبُوَّتِهِ- مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِیِّینَ مِیثَاقُهُ- مَشْهُورَهً سِمَاتُهُ کَرِیماً مِیلَادُهُ- وَ أَهْلُ الْأَرْضِ یَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَهٌ- وَ أَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَهٌ وَ طَرَائِقُ مُتَشَتِّتَهٌ- بَیْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِی اسْمِهِ- أَوْ مُشِیرٍ إِلَى غَیْرِهِ- فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَهِ وَ أَنْقَذَهُمْ بِمَکَانِهِ مِنَ الْجَهَالَهِ- ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ ص لِقَاءَهُ- وَ رَضِیَ لَهُ مَا عِنْدَهُ وَ أَکْرَمَهُ عَنْ دَارِ الدُّنْیَا- وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَامِ الْبَلْوَى- فَقَبَضَهُ إِلَیْهِ کَرِیماً- وَ خَلَّفَ فِیکُمْ مَا خَلَّفَتِ الْأَنْبِیَاءُ فِی أُمَمِهَا- إِذْ لَمْ یَتْرُکُوهُمْ هَمَلًا بِغَیْرِ طَرِیقٍ وَاضِحٍ وَ لَا عَلَمٍ قَائِمٍ- کِتَابَ رَبِّکُمْ مُبَیِّناً حَلَالَهُ وَ حَرَامَهُ- وَ فَرَائِضَهُ وَ فَضَائِلَهُ وَ نَاسِخَهُ وَ مَنْسُوخَهُ- وَ رُخَصَهُ وَ عَزَائِمَهُ وَ خَاصَّهُ وَ عَامَّهُ- وَ عِبَرَهُ وَ أَمْثَالَهُ وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ- وَ مُحْکَمَهُ وَ مُتَشَابِهَهُ مُفَسِّراً جُمَلَهُ وَ مُبَیِّناً غَوَامِضَهُ- بَیْنَ مَأْخُوذٍ مِیثَاقُ عِلْمِهِ وَ مُوَسَّعٍ عَلَى الْعِبَادِ فِی جَهْلِهِ- وَ بَیْنَ مُثْبَتٍ فِی الْکِتَابِ فَرْضُهُ- وَ مَعْلُومٍ فِی السُّنَّهِ نَسْخُهُ- وَ وَاجِبٍ فِی السُّنَّهِ أَخْذُهُ- وَ مُرَخَّصٍ فِی الْکِتَابِ تَرْکُهُ- وَ بَیْنَ وَاجِبٍ لِوَقْتِهِ وَ زَائِلٍ فِی مُسْتَقْبَلِهِ- وَ مُبَایَنٌ بَیْنَ مَحَارِمِهِ مِنْ کَبِیرٍ أَوْعَدَ عَلَیْهِ نِیرَانَهُ- أَوْ صَغِیرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ- وَ بَیْنَ مَقْبُولٍ فِی أَدْنَاهُ وَ مُوَسَّعٍ فِی أَقْصَاهُ قوله ع
نسلت القرون ولدت- و الهاء فی قوله لإنجاز عدته- راجعه إلى البارئ سبحانه- و الهاء فی قوله و إتمام نبوته- راجعه إلى محمد ص- و قوله مأخوذ على النبیین میثاقه- قیل لم یکن نبی قط إلا و بشر بمبعث محمد ص- و أخذ علیه تعظیمه و إن کان بعد لم یوجد- . فأما قوله و أهل الأرض یومئذ ملل متفرقه- فإن العلماء یذکرون أن النبی ص بعث- و الناس أصناف شتى فی أدیانهم- یهود و نصارى و مجوس- و صائبون و عبده أصنام و فلاسفه و زنادقه.
القول فی أدیان العرب فی الجاهلیه
فأما الأمه التی بعث محمد ص فیها فهم العرب- و کانوا أصنافا شتىفمنهم معطله و منهم غیر معطله- فأما المعطله منهم- فبعضهم أنکر الخالق و البعث و الإعاده- و قالوا ما قال القرآن العزیز عنهم- ما هِیَ إِلَّا حَیاتُنَا الدُّنْیا نَمُوتُ وَ نَحْیا- وَ ما یُهْلِکُنا إِلَّا الدَّهْرُ- فجعلوا الجامع لهم الطبع و المهلک لهم الدهر- و بعضهم اعترف بالخالق سبحانه و أنکر البعث- و هم الذین أخبر سبحانه عنهم بقوله- قالَ مَنْ یُحْیِ الْعِظامَ وَ هِیَ رَمِیمٌ- و منهم من أقر بالخالق و نوع من الإعاده- و أنکروا الرسل و عبدوا الأصنام- و زعموا أنها شفعاء عند الله فی الآخره- و حجوا لها و نحروا لها الهدی- و قربوا لها القربان و حللوا و حرموا- و هم جمهور العرب و هم الذین قال الله تعالى عنهم- وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ- یَأْکُلُ الطَّعامَ وَ یَمْشِی فِی الْأَسْواقِ- . فممن نطق شعره بإنکار البعث بعضهم یرثی قتلى بدر-
فما ذا بالقلیب قلیب بدر
من الفتیان و القوم الکرام
و ما ذا بالقلیب قلیب بدر
من الشیزى تکلل بالسنام
أ یخبرنا ابن کبشه أن سنحی
ا و کیف حیاه أصداء وهام
إذا ما الرأس زال بمنکبیه
فقد شبع الأنیس من الطعام
أ یقتلنی إذا ما کنت حیا
و یحیینی إذ رمت عظامی
أ یقتلنی إذا ما کنت حیا و یحیینی إذ رمت عظامی و کان من العرب من یعتقد التناسخ- و تنقل الأرواح فی الأجساد- و من هؤلاء أرباب الهامه التی قال ع عنهم لا عدوى و لا هامه و لا صفر – و قال ذو الإصبع
یا عمرو إلا تدع شتمی و منقصتی
أضربک حیث تقول الهامه اسقونی
– . و قالوا إن لیلى الأخیلیه لما سلمت على قبر توبه بن الحمیر- خرج إلیها هامه من القبر صائحه- أفزعت ناقتها فوقصت بها فماتت- و کان ذلک تصدیق قوله-
و لو أن لیلى الأخیلیه سلمت
علی و دونی جندل و صفائح
لسلمت تسلیم البشاشه أو زقا
إلیها صدى من جانب القبر صائح
– . و کان توبه و لیلى فی أیام بنی أمیه- . و کانوا فی عباده الأصنام مختلفین- فمنهم من یجعلها مشارکه للبارئ تعالى- و یطلق علیها لفظه الشریک- و من ذلک قولهم فی التلبیه لبیک اللهم لبیک- لا شریک لک إلا شریکا هو لک تملکه و ما ملک- و منهم من لا یطلق علیها لفظ الشریک- و یجعلها وسائل و ذرائع إلى الخالق سبحانه- و هم الذین قالوا ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِیُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى- . و کان فی العرب مشبهه و مجسمه- منهم أمیه بن أبی الصلت و هو القائل-
من فوق عرش جالس قد حط
رجلیه إلى کرسیه المنصوب
– . و کان جمهورهم عبده الأصنام- فکان ود لکلب بدومه الجندل- و سواع لهذیل و نسر لحمیر- و یغوث لهمدان و اللات لثقیف بالطائف- و العزى لکنانه و قریش و بعض بنی سلیم- و مناه لغسان و الأوس و الخزرج- و کان هبل لقریش خاصه على ظهر الکعبه- و أساف و نائله على الصفا و المروه- و کان فی العرب من یمیل إلى الیهودیه- منهم جماعه من التبابعه و ملوک الیمن- و منهم نصارى کبنی تغلب- و العبادیین رهط عدی بن زید و نصارى نجران- و منهم من کان یمیل إلى الصابئه- و یقول بالنجوم و الأنواء- . فأما الذین لیسوا بمعطله من العرب فالقلیل منهم- و هم المتألهون أصحاب الورع و التحرج عن القبائح- کعبد الله و عبد المطلب و ابنه أبی طالب- و زید بن عمرو بن نفیل و قس بن ساعده الإیادی- و عامر بن الظرب العدوانی و جماعه غیر هؤلاء- . و غرضنا من هذا الفصل بیان قوله ع- بین مشبه لله بخلقه أو ملحد فی اسمه- إلى غیر ذلک و قد ظهر بما شرحناه
– . ثم ذکر ع أن محمدا ص خلف فی الأمه بعده- کتاب الله تعالى طریقا واضحا و علما قائما- و العلم المنار یهتدى به- . ثم قسم ما بینه ع فی الکتاب أقساما- فمنها حلاله و حرامه- فالحلال کالنکاح و الحرام کالزنا- . و منها فضائله و فرائضه فالفضائل النوافل- أی هی فضله غیر واجبه کرکعتی الصبح و غیرهما- و الفرائض کفریضه الصبح- . و قال الراوندی الفضائل هاهنا جمع فضیله- و هی الدرجه الرفیعه و لیس بصحیح- أ لا تراه کیف جعل الفرائض فی مقابلتها و قسیما لها- فدل ذلک على أنه أراد النوافل- .
و منها ناسخه و منسوخه- فالناسخ کقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِکِینَ- و المنسوخ کقوله لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ- . و منها رخصه و عزائمه- فالرخص کقوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ فِی مَخْمَصَهٍ- و العزائم کقوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ- . و منها خاصه و عامه فالخاص کقوله تعالى- وَ امْرَأَهً مُؤْمِنَهً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِیِّ- و العام کالألفاظ الداله على الأحکام العامه- لسائر المکلفین- کقوله وَ أَقِیمُوا الصَّلاهَ- و یمکن أن یراد بالخاص العمومات- التی یراد بها الخصوص- کقوله وَ أُوتِیَتْ مِنْ کُلِّ شَیْءٍ- و بالعام ما لیس مخصوصا بل هو على عمومه- کقوله تعالى وَ اللَّهُ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ- . و منها عبره و أمثاله فالعبر کقصه أصحاب الفیل- و کالآیات التی تتضمن النکال و العذاب النازل- بأمم الأنبیاء من قبل- و الأمثال کقوله کَمَثَلِ الَّذِی اسْتَوْقَدَ ناراً- . و منها مرسله و محدوده و هو عباره عن المطلق و المقید- و سمی المقید محدودا و هی لفظه فصیحه جدا- کقوله فَتَحْرِیرُ رَقَبَهٍ- و قال فی موضع آخر وَ تَحْرِیرُ رَقَبَهٍ مُؤْمِنَهٍ- و منها محکمه و متشابهه- فمحکمه کقوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ- و المتشابه کقوله إِلى رَبِّها ناظِرَهٌ- . ثم قسم ع الکتاب قسمه ثانیه- فقال إن منه ما لا یسع أحدا جهله-
و منه ما یسع الناس جهله- مثال الأول قوله اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَیُّ الْقَیُّومُ- و مثال الثانی کهیعص حم عسق- . ثم قال و منه ما حکمه مذکور فی الکتاب منسوخ بالسنه- و ما حکمه مذکور فی السنه منسوخ بالکتاب- مثال الأول قوله تعالى- فَأَمْسِکُوهُنَّ فِی الْبُیُوتِ حَتَّى یَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ- نسخ بما سنه ع من رجم الزانی المحصن- و مثال الثانی صوم یوم عاشوراء کان واجبا بالسنه- ثم نسخه صوم شهر رمضان الواجب بنص الکتاب- . ثم قال و بین واجب بوقته و زائل فی مستقبله- یرید الواجبات الموقته کصلاه الجمعه- فإنها تجب فی وقت مخصوص- و یسقط وجوبها فی مستقبل ذلک الوقت- . ثم قال ع و مباین بین محارمه- الواجب أن یکون و مباین بالرفع لا بالجر- فإنه لیس معطوفا على ما قبله- أ لا ترى أن جمیع ما قبله یستدعی الشیء و ضده- أو الشیء و نقیضه- و قوله و مباین بین محارمه لا نقیض و لا ضد له- لأنه لیس القرآن العزیز على قسمین- أحدهما مباین بین محارمه و الآخر غیر مباین- فإن ذلک لا یجوز فوجب رفع مباین- و أن یکون خبر مبتدأ محذوف- ثم فسر ما معنى المباینه بین محارمه- فقال إن محارمه تنقسم إلى کبیره و صغیره- فالکبیره أوعد سبحانه علیها بالعقاب- و الصغیره مغفوره- و هذا نص مذهب المعتزله فی الوعید- . ثم عدل ع عن تقسیم المحارم المتباینه- و رجع إلى تقسیم الکتاب- فقال و بین مقبول فی أدناه و موسع فی أقصاه- کقوله فَاقْرَؤُا ما تَیَسَّرَ مِنْهُ- . فإن القلیل من القرآن مقبول- و الکثیر منه موسع مرخص فی ترکه
: وَ فَرَضَ عَلَیْکُمْ حَجَّ بَیْتِهِ الْحَرَامِ- الَّذِی جَعَلَهُ قِبْلَهً لِلْأَنَامِ- یَرِدُونَهُ وُرُودَ الْأَنْعَامِ وَ یَوْلَهُونَ إِلَیْهِ وَلَهَ الْحَمَامِ- وَ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَامَهً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ- وَ إِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ- وَ اخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَیْهِ دَعْوَتَهُ- وَ صَدَّقُوا کَلِمَتَهُ وَ وَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِیَائِهِ- وَ تَشَبَّهُوا بِمَلَائِکَتِهِ الْمُطِیفِینَ بِعَرْشِهِ- یُحْرِزُونَ الْأَرْبَاحَ فِی مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ- وَ یَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ- جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لِلْإِسْلَامِ عَلَماً- وَ لِلْعَائِذِینَ حَرَماً وَ فَرَضَ حَقَّهُ وَ أَوْجَبَ حَجَّهُ- وَ کَتَبَ عَلَیْهِ وِفَادَتَهُ- فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلًا- وَ مَنْ کَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِیٌّ عَنِ الْعالَمِینَ
الوله شده الوجد حتى یکاد العقل یذهب- وله الرجل یوله ولها- و من روى یألهون إلیه ولوه الحمام- فسره بشیء آخر و هو یعکفون علیه عکوف الحمام- و أصل أله عبد و منه الإله أی المعبود- و لما کان العکوف على الشیء کالعباده له- لملازمته و الانقطاع إلیه- قیل أله فلان إلى کذا أی عکف علیه کأنه یعبده- و لا یجوز أن یقال یألهون إلیه فی هذا الموضع- بمعنى یولهون- و أن أصل الهمزه الواو
کما فسره الراوندی- لأن فعولا لا یجوز أن یکون مصدرا- من فعلت بالکسر- و لو کان یألهون هو یولهون- کان أصله أله بالکسر- فلم یجز أن یقول ولوه الحمام- و أما على ما فسرناه نحن- فلا یمتنع أن یکون الولوه مصدرا- لأن أله مفتوح فصار کقولک دخل دخولا- و باقی الفصل غنی عن التفسیر
فصل فی فضل البیت و الکعبه
جاء فی الخبر الصحیح أن فی السماء بیتا- یطوف به الملائکه طواف البشر بهذا البیت- اسمه الضراح- و أن هذا البیت تحته على خط مستقیم- و أنه المراد بقوله تعالى وَ الْبَیْتِ الْمَعْمُورِ- أقسم سبحانه به لشرفه و منزلته عنده-
و فی الحدیث أن آدم لما قضى مناسکه- و طاف بالبیت لقیته الملائکه فقالت یا آدم- لقد حججنا هذا البیت قبلک بألفی عام
قال مجاهد- إن الحاج إذا قدموا مکه استقبلتهم الملائکه- فسلموا على رکبان الإبل- و صافحوا رکبان الحمیر و اعتنقوا المشاه اعتناقا- . من سنه السلف أن یستقبلوا الحاج- و یقبلوا بین أعینهم و یسألوهم الدعاء لهم- و یبادروا ذلک قبل أن یتدنسوا بالذنوب و الآثام- .
و فی الحدیث أن الله تعالى قد وعد هذا البیت- أن یحجه فی کل سنه ستمائه ألف- فإن نقصوا أتمهم الله بالملائکه- و أن الکعبه تحشر کالعروس المزفوفه- و کل من حجها متعلق بأستارها یسعون حولها- حتى تدخل الجنه فیدخلون معها و فی الحدیث أن من الذنوب ذنوبا لا یکفرها إلا الوقوف بعرفه- و فیه أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفه- فظن أن الله لا یغفر له – . عمر بن ذر الهمدانی- لما قضى مناسکه أسند ظهره إلى الکعبه- و قال مودعا للبیت- ما زلنا نحل إلیک عروه و نشد إلیک أخرى- و نصعد لک أکمه و نهبط أخرى- و تخفضنا أرض و ترفعنا أخرى حتى أتیناک- فلیت شعری بم یکون منصرفنا- أ بذنب مغفور فأعظم بها من نعمه- أم بعمل مردود فأعظم بها من مصیبه- فیا من له خرجنا و إلیه قصدنا و بحرمه أنخنا ارحم- یا معطی الوفد بفنائک فقد أتیناک بها معراه جلودها- ذابله أسنمتها نقبه أخفافها- و إن أعظم الرزیه أن نرجع و قد اکتنفتنا الخیبه- اللهم و إن للزائرین حقا فاجعل حقنا علیک غفران ذنوبنا- فإنک جواد کریم ماجد لا ینقصک نائل و لا یبخلک سائل- . ابن جریج- ما ظننت أن الله ینفع أحدا بشعر عمر بن أبی ربیعه- حتى کنت بالیمن فسمعت منشدا ینشد قوله-
بالله قولا له فی غیر معتبه
ما ذا أردت بطول المکث فی الیمن
إن کنت حاولت دنیا أو ظفرت بها
فما أخذت بترک الحج من ثمن
– . فحرکنی ذلک على ترک الیمن و الخروج إلى مکه- فخرجت فحججت- . سمع أبو حازم امرأه حاجه ترفث فی کلامها- فقال یا أمه الله أ لست حاجه- أ لا تتقین الله فسفرت عن وجه صبیح- ثم قالت له أنا من اللواتی قال فیهن العرجی-
أماطت کساء الخز عن حر وجهها
و ردت على الخدین بردا مهلهلا
من اللاء لم یحججن یبغین حسبه
و لکن لیقتلن البریء المغفلا
– . فقال أبو حازم- فأنا أسأل الله ألا یعذب هذا الوجه بالنار- فبلغ ذلک سعید بن المسیب فقال رحم الله أبا حازم- لو کان من عباد العراق- لقال لها اعزبی یا عدوه الله- و لکنه ظرف نساک الحجاز
فصل فی الکلام على السجع
و اعلم أن قوما من أرباب علم البیان عابوا السجع- و أدخلوا خطب أمیر المؤمنین ع فی جمله ما عابوه- لأنه یقصد فیها السجع- و قالوا إن الخطب الخالیه من السجع- و القرائن و الفواصل- هی خطب العرب- و هی المستحسنه الخالیه من التکلف- کخطبه النبی ص فی حجه الوداع و هی الحمد لله نحمده و نستعینه و نستغفره و نتوب إلیه- و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سیئات أعمالنا- من یهد الله فلا مضل له و من یضلل الله فلا هادی له- و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شریک له- و أشهد أن محمدا عبده و رسوله- أوصیکم عباد الله بتقوى الله- و أحثکم على العمل بطاعته- و أستفتح الله بالذی هو خیر- أما بعد أیها الناس اسمعوا منی أبین لکم- فإنی لا أدری لعلی لا ألقاکم بعد عامی هذا- فی موقفی هذا- أیها الناس إن دماءکم و أموالکم علیکم حرام- إلى أن تلقوا ربکم- کحرمه یومکم هذا فی شهرکم هذا فی بلدکم هذا- ألا أ هل بلغت اللهم اشهد- من کانت عنده أمانه فلیؤدها إلى من ائتمنه علیها- و إن ربا الجاهلیه موضوع- و أول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب- و إن دماء الجاهلیه موضوعه- و أول دم أبدأ به- دم آدم بن ربیعه بن الحارث بن عبد المطلب- و إن مآثر الجاهلیه موضوعه غیرالسدانه و السقایه- و العمد قود- و شبه العمد ما قتل بالعصا و الحجر فیه مائه بعیر- فمن ازداد فهو من الجاهلیه- أیها الناس إن الشیطان قد یئس أن یعبد بأرضکم هذه- و لکنه قد رضی أن یطاع فیما سوى ذلک- فیما تحتقرون من أعمالکم- أیها الناس إنما النسیء زیاده فی الکفر- یضل به الذین کفروا یحلونه عاما و یحرمونه عاما- و إن الزمان قد استدار- کهیئته یوم خلق الله السموات و الأرض- و إن عده الشهور عند الله اثنا عشر شهرا- فی کتاب الله یوم خلق السموات و الأرض- منها أربعه حرم ثلاثه متوالیات و واحد فرد- ذو القعده و ذو الحجه و محرم و رجب- الذی بین جمادى و شعبان- ألا هل بلغت- أیها الناس إن لنسائکم علیکم حقا و لکم علیهن حقا- فعلیهن ألا یوطئن فرشکم غیرکم- و لا یدخلن بیوتکم أحدا تکرهونه إلا بإذنکم- و لا یأتین بفاحشه- فإن فعلن فقد أذن لکم- أن تهجروهن فی المضاجع و تضربوهن- فإن انتهین و أطعنکم- فعلیکم کسوتهن و رزقهن بالمعروف- فإنما النساء عندکم عوان- لا یملکن لأنفسهن شیئا- أخذتموهن بأمانه الله- و استحللتم فروجهن بکلمه الله- فاتقوا الله فی النساء و استوصوا بهن خیرا-
أیها الناس إنما المؤمنون إخوه- و لا یحل لامرئ مال أخیه إلا على طیب نفس- ألا هل بلغت اللهم اشهد- ألا لا ترجعوا بعدی کفارا یضرب بعضکم رقاب بعض- فإنی قد ترکت فیکم ما إن أخذتم به لم تضلوا- کتاب الله ربکم- ألا هل بلغت اللهم اشهد- أیها الناس إن ربکم واحد و إن أباکم واحد- کلکم لآدم و آدم من تراب- إن أکرمکم عند الله أتقاکم- و لیس لعربی على عجمی فضل إلا بالتقوى- ألا فلیبلغ الشاهد الغائب- أیها الناس إن الله قسم لکل وارث نصیبه من المیراث- و لا تجوز وصیه فی أکثر من الثلث- و الولد للفراش و للعاهر الحجر- من ادعى إلى غیر أبیه أو تولى غیر موالیه فهو ملعون- لا یقبل الله منه صرفا و لا عدلا- و السلام علیکم و رحمه الله علیکم
– . و اعلم أن السجع لو کان عیبا- لکان کلام الله سبحانه معیبا لأنه مسجوع- کله ذو فواصل و قرائن- و یکفی هذا القدر وحده مبطلا لمذهب هؤلاء- فأما خطبه رسول الله ص هذه- فإنها و إن لم تکن ذات سجع- فإن أکثر خطبه مسجوع-
کقوله إن مع العز ذلا و إن مع الحیاه موتا- و إن مع الدنیا آخره و إن لکل شیء حسابا- و لکل حسنه ثوابا و لکل سیئه عقابا- و إن على کل شیء رقیبا- و إنه لا بد لک من قرین یدفن معک- هو حی و أنت میت- فإن کان کریما أکرمک و إن کان لئیما أسلمک- ثم لا یحشر إلا معک و لا تبعث إلا معه و لا تسأل إلا عنه- فلا تجعله إلا صالحا فإنه إن صلح أنست به- و إن فسد لم تستوحش إلا منه و هو عملک
– . فأکثر هذا الکلام مسجوع کما تراه- و کذلک خطبه الطوال کلها- و أما کلامه القصیر فإنه غیر مسجوع- لأنه لا یحتمل السجع- و کذلک القصیر من کلام أمیر المؤمنین ع- . فأما قولهم إن السجع یدل على التکلف- فإن المذموم هو التکلف الذی تظهر سماجته- و ثقله للسامعین- فأما التکلف المستحسن فأی عیب فیه- أ لا ترى أن الشعر نفسه لا بد فیه من تکلف إقامه الوزن- و لیس لطاعن أن یطعن فیه بذلک- . و احتج عائبو السجع بقوله ع لبعضهم منکرا علیه- أ سجعا کسجع الکهان- و لو لا أن السجع منکر لما أنکر ع سجع الکهان و أمثاله- فیقال لهم إنما أنکر ع السجع الذی یسجع الکهان أمثاله- لا السجع على الإطلاق- و صوره الواقعه أنه ع أمر فی الجنین بغره- فقال قائل أ أدی من لا شرب و لا أکل- و لا نطق و لا استهل- و مثل هذا یطل فأنکر ع ذلک- لأن الکهان کانوا یحکمون فی الجاهلیه- بألفاظ مسجوعه- کقولهم حبه بر فی إحلیل مهر- و قولهم عبد المسیح على جمل مشیح- لرؤیا الموبذان و ارتجاس الإیوان- و نحو ذلک من کلامهم- و کان ع قد أبطل الکهانه و التنجیم و السحر و نهى عنها- فلما سمع کلام ذلک القائل أعاد الإنکار- و مراده به تأکید تحریم العمل على أقوال الکهنه- و لو کان ع قد أنکر السجع لما قاله- و قد بینا أن کثیرا من کلامه مسجوع و ذکرنا خطبته- . و من کلامه ع المسجوع-
خبر ابن مسعود رحمه الله تعالى قال قال رسول الله ص استحیوا من الله حق الحیاء- فقلنا إنا لنستحیی یا رسول الله من الله تعالى- فقال لیس ذلک ما أمرتکم به- و إنما الاستحیاء من الله أن تحفظ الرأس
شرح نهج البلاغه(ابن أبی الحدید)، ج ۱ ، صفحهى ۱۳۰
و ما وعى- و البطن و ما حوى و تذکر الموت و البلى- و من أراد الآخره ترک زینه الحیاه الدنیا
– . و من ذلک
کلامه المشهور لما قدم المدینه ع أول قدومه إلیها أیها الناس أفشوا السلام و أطعموا الطعام- و صلوا الأرحام و صلوا باللیل و الناس نیام- تدخلوا الجنه بسلام
و عوذ الحسن ع- فقال أعیذک من الهامه و السامه و کل عین لامه
– و إنما أراد ملمه فقال لامه لأجل السجع- . و کذلک
قوله ارجعن مأزورات غیر مأجورات
– و إنما هو موزورات بالواو
شرح نهج البلاغه(ابن أبی الحدید)، ج ۱ ، صفحهى۵۳- ۱۳۰
بازدیدها: ۲۳۱