خطبه ۲۴۳ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(یذکر فیها آل محمد ص)

۲۴۳ و من خطبه له ع یذکر فیها آل محمد ص

هُمْ عَیْشُ الْعِلْمِ وَ مَوْتُ الْجَهْلِ- یُخْبِرُکُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ وَ ظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ- وَ صَمْتُهُمْ عَنْ حُکْمِ مَنْطِقِهِمْ- لَا یُخَالِفُونَ الْحَقَّ وَ لَا یَخْتَلِفُونَ فِیهِ- وَ هُمْ دَعَائِمُ الْإِسْلَامِ وَ وَلَائِجُ الِاعْتِصَامِ- بِهِمْ عَادَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ وَ انْزَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ مَقَامِهِ- وَ انْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ مَنْبِتِهِ- عَقَلُوا الدِّینَ عَقْلَ وِعَایَهٍ وَ رِعَایَهٍ- لَا عَقْلَ سَمَاعٍ وَ رِوَایَهٍ- فَإِنَّ رُوَاهَ الْعِلْمِ کَثِیرٌ وَ رُعَاتَهُ قَلِیلٌ یقول بهم یحیا العلم و یموت الجهل- فسماهم حیاه ذاک و موت هذا نظرا إلى السببیه- یدلکم حلمهم و صفحهم عن الذنوب على علمهم و فضائلهم- و یدلکم ما ظهر منهم من الأفعال الحسنه على ما بطن من إخلاصهم- و یدلکم صمتهم و سکوتهم عما لا یعنیهم- عن حکمه منطقهم- و یروى و یدلکم صمتهم على منطقهم- و لیس فی هذه الروایه لفظه حکم- .

لا یخالفون الحق لا یعدلون عنه- و لا یختلفون فیه کما یختلف غیرهم من الفرق و أرباب المذاهب- فمنهم من له فی المسأله قولان و أکثر- و منهم من یقول قولا ثم یرجع عنه و منهم من یرى فی أصول الدین رأیا ثم ینفیه و یترکه- .

و دعائم الإسلام أرکانه- . و الولائج جمع ولیجه- و هی الموضع یدخل إلیه و یستتر فیه و یعتصم به- . و عاد الحق إلى نصابه رجع إلى مستقره و موضعه- و انزاح الباطل زال و انقطع لسانه انقطع حجته- . عقلوا الدین عقل رعایه- أی عرفوا الدین و علموه- معرفه من وعى الشی‏ء و فهمه و أتقنه- و وعایه أی وعوا الدین و حفظوه و حاطوه- لیس کما یعقله غیرهم عن سماع و روایه- فإن من یروی العلم و یسنده إلى الرجال- و یأخذه من أفواه الناس کثیر- و من یحفظ العلم حفظ فهم و إدراک- أصاله لا تقلیدا قلیل تم الجزء الثالث عشر- من شرح نهج البلاغه لابن أبی الحدید- 

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۸۳

خطبه ۲۴۲ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(فی شأن الحکمین و ذم أهل الشام)

۲۴۲ و من خطبه له ع فی شأن الحکمین و ذم أهل الشام

جُفَاهٌ طَغَامٌ عَبِیدٌ أَقْزَامٌ- جُمِعُوا مِنْ کُلِّ أَوْبٍ وَ تُلُقِّطُوا مِنْ کُلِّ شَوْبٍ- مِمَّنْ یَنْبَغِی أَنْ یُفَقَّهَ وَ یُؤَدَّبَ- وَ یُعَلَّمَ وَ یُدَرَّبَ وَ یُوَلَّى عَلَیْهِ- وَ یُؤْخَذَ عَلَى یَدَیْهِ- لَیْسُوا مِنَ الْمُهَاجِرِینَ وَ الْأَنْصَارِ- وَ لَا مِنَ الَّذِینَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَ الْإِیمَانَ- أَلَا وَ إِنَّ الْقَوْمَ اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ- أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا یُحِبُّونَ- وَ إِنَّکُمُ اخْتَرْتُمْ لِأَنْفُسِکُمْ- أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا تَکْرَهُونَ- وَ إِنَّمَا عَهْدُکُمْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَیْسٍ بِالْأَمْسِ یَقُولُ- إِنَّهَا فِتْنَهٌ فَقَطِّعُوا أَوْتَارَکُمْ وَ شِیمُوا سُیُوفَکُمْ- فَإِنْ کَانَ صَادِقاً فَقَدْ أَخْطَأَ بِمَسِیرِهِ غَیْرَ مُسْتَکْرَهٍ- وَ إِنْ کَانَ کَاذِباً فَقَدْ لَزِمَتْهُ التُّهْمَهُ- فَادْفَعُوا فِی صَدْرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ- وَ خُذُوا مَهَلَ الْأَیَّامِ وَ حُوطُوا قَوَاصِیَ الْإِسْلَامِ- أَ لَا تَرَوْنَ إِلَى بِلَادِکُمْ تُغْزَى وَ إِلَى صَفَاتِکُمْ تُرْمَى جفاه جمع جاف أی هم أعراب أجلاف- و الطغام أوغاد الناس الواحد و الجمع فیه سواء- . و یقال للأشرار و اللئام عبید و إن کانوا أحرارا- .
و الأقزام بالزای رذال الناس و سفلتهم- و المسموع قزم الذکر و الأنثى و الواحد و الجمع فیه سواء- لأنه فی معنى المصدر قال الشاعر-

و هم إذا الخیل جالوا فی کتائبها
فوارس الخیل لا میل و لا قزم‏

 و لکنه ع قال أقزام- لیوازن بها قوله طغام- و قد روی قزام و هی روایه جیده- و قد نطقت العرب بهذه اللفظه و قال الشاعر-

أحصنوا أمهم من عبدهم
تلک أفعال القزام الوکعه‏

 و جمعوا من کل أوب أی من کل ناحیه- . و تلقطوا من کل شوب أی من فرق مختلطه- . ثم وصف جهلهم و بعدهم عن العلم و الدین- فقال ممن ینبغی أن یفقه و یؤدب- أی یعلم الفقه و الأدب- و یدرب أی یعود اعتماد الأفعال الحسنه- و الأخلاق الجمیله- . و یولى علیه أی لا یستحقون أن یولوا أمرا- بل ینبغی أن یحجر علیهم- کما یحجر على الصبی و السفیه لعدم رشده-

و روی و یولى علیه بالتخفیف- و یؤخذ على یدیه أی یمنع من التصرف- . قوله ع- و لا الذین تبوءوا الدار و الإیمان- ظاهر اللفظ یشعر بأن الأقسام ثلاثه و لیست إلا اثنین- لأن الذین تبوءوا الدار و الإیمان الأنصار- و لکنه ع کرر ذکرهم تأکیدا- و أیضا فإن لفظه الأنصار- واقعه على کل من کان من الأوس و الخزرج- الذین أسلموا على عهد رسول الله ص- و الذین تبوءوا الدارو الإیمان فی الآیه- قوم مخصوصون منهم- و هم أهل الإخلاص و الإیمان التام- فصار ذکر الخاص بعد العام- کذکره تعالى جبریل و میکائیل- ثم قال وَ الْمَلائِکَهُ بَعْدَ ذلِکَ ظَهِیرٌ و هما من الملائکه- و معنى قوله تبوءوا الدار و الإیمان سکنوهما- و إن کان الإیمان لا یسکن کما تسکن المنازل- لکنهم لما ثبتوا علیه و اطمأنوا- سماه منزلا لهم و متبوأ- و یجوز أن یکون مثل قوله-

و رأیت زوجک فی الوغى
متقلدا سیفا و رمحا

 ثم ذکر ع أن أهل الشام- اختاروا لأنفسهم أقرب القوم مما یحبونه- و هو عمرو بن العاص- و کرر لفظه القوم و کان الأصل أن یقول- ألا و إن القوم اختاروا لأنفسهم أقربهم مما یحبون- فأخرجه مخرج قول الله تعالى- وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِیمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ- و الذی یحبه أهل الشام- هو الانتصار على أهل العراق و الظفر بهم- و کان عمرو بن العاص أقربهم إلى بلوغ ذلک- و الوصول إلیه بمکره و حیلته و خدائعه- و القوم فی قوله ثانیا أقرب القوم بمعنى الناس- کأنه قال و اخترتم لأنفسکم أقرب الناس- مما تکرهونه و هو أبو موسى الأشعری- و اسمه عبد الله بن قیس- و الذی یکرهه أهل العراق هو ما یحبه أهل الشام- و هو خذلان عسکر العراق و انکسارهم- و استیلاء أهل الشام علیهم- و کان أبو موسى أقرب الناس إلى وقوع ذلک- و هکذا وقع لبلهه و غفلته و فساد رأیه- و بغضه علیا ع من قبل- .

ثم قال أنتم بالأمس یعنی فی واقعه الجمل- قد سمعتم أبا موسى ینهى أهل الکوفه عن نصرتی- و یقول لهم هذه هی الفتنه التی وعدنا بها- فقطعوا أوتار قسیکم- و شیموا سیوفکم أی أغمدوها- فإن کان صادقا فما باله سار إلی- و صار معی فی الصف و حضر حرب صفین- و کثر سواد أهل العراق- و إن لم یحارب و لم یسل السیف- فإن من حضر فی إحدى الجهتین-

و إن لم یحارب کمن حارب- و إن کان کاذبا فیما رواه من خبر الفتنه- فقد لزمته التهمه و قبح الاختلاف إلیه فی الحکومه- و هذا یؤکد صحه إحدى الروایتین فی أمر أبی موسى- فإنه قد اختلفت الروایه- هل حضر حرب صفین مع أهل العراق أم لا- فمن قال حضر قال حضر و لم یحارب- و ما طلبه الیمانیون من أصحاب علی ع- لیجعلوه حکما کالأشعث بن قیس و غیره- إلا و هو حاضر معهم فی الصف- و لم یکن منهم على مسافه- و لو کان على مسافه لما طلبوه- و لکان لهم فیمن حضر غناء عنه- و لو کان على مسافه لما وافق علی ع على تحکیمه- و لا کان علی ع ممن یحکم من لم یحضر معه- . و قال الأکثرون إنه کان معتزلا للحرب- بعیدا عن أهل العراق و أهل الشام- .

فإن قلت فلم لا یحمل قوله ع- فإن کان صادقا فقد أخطأ بسیره غیر مستکره- على مسیره إلى أمیر المؤمنین ع- و أهل العراق حیث طلبوه لیفوضوا إلیه أمر الحکومه- قلت لو حملنا کلامه ع على هذا- لم یکن لازما لأبی موسى و کان الجواب عنه هینا- و ذلک لأن أبا موسى یقول- إنما أنکرت الحرب و ما سرت لأحارب- و لا لأشهد الحرب و لا أغری بالحرب- و إنما سرت للإصلاح بین الناس و إطفاء نائره الفتنه- فلیس یناقض ذلک ما رویته عن الرسول من خبر الفتنه- و لا ما قلته فی الکوفه فی واقعه الجمل- قطعوا أوتار قسیکم- .

قوله ع- فادفعوا فی صدر عمرو بن العاص بعبد الله بن العباس- یقال لمن یرام کفه عن أمر یتطاول له ادفع فی صدره- و ذلک لأن من یقدم على أمر ببدنه- فیدفع دافع فی صدره حقیقه- فإنه یرده أو یکاد فنقل ذلک إلى الدفع المعنوی- . قوله ع و خذوا مهل الأیام- أی اغتنموا سعه الوقت- و خذوه مناهبه قبل أن یضیق بکم أو یفوت- . قوله ع و حوطوا قواصی الإسلام- ما بعد من الأطراف و النواحی- . ثم قال لهم أ لا ترون إلى بلادکم تغزى- هذا یدل على أن هذه الخطبه- بعد انقضاء أمر التحکیم- لأن معاویه بعد أن تم على أبی موسى من الخدیعه ما تم- استعجل أمره- و بعث السرایا إلى أعمال أمیر المؤمنین علی ع- . و تقول قد رمى فلان صفاه فلان- إذا دهاه بداهیه قال الشاعر-

و الدهر یوتر قوسه
یرمی صفاتک بالمعابل‏

و أصل ذلک الصخره الملساء- لا یؤثر فیها السهام و لا یرمیها الرامی- إلا بعد أن نبل غیرها- یقول قد بلغت غارات أهل الشام حدود الکوفه- التی هی دار الملک و سریر الخلافه- و ذلک لا یکون إلا بعد الإثخان فی غیرها من الأطراف

فصل فی نسب أبی موسى و الرأی فیه عند المعتزله

و نحن نذکر نسب أبی موسى و شیئا من سیرته و حاله- نقلا من کتاب الإستیعاب لابن عبد البر المحدث- و نتبع ذلک بما نقلناه من غیر الکتاب المذکور- قال ابن عبد البر هو عبد الله بن قیس بن سلیم- بن حضاره بن حرب بن عامر بن عنز بن بکر- بن عامربن عذر بن وائل بن ناجیه- بن الجماهر بن الأشعر و هو نبت بن أدد- بن زید بن یشجب بن عریب بن کهلان- بن سبأ بن یشجب بن یعرب بن قحطان- و أمه امرأه من عک أسلمت و ماتت بالمدینه- و اختلف فی أنه هل هو من مهاجره الحبشه أم لا- و الصحیح أنه لیس منهم- و لکنه أسلم ثم رجع إلى بلاد قومه- فلم یزل بها حتى قدم هو و ناس من الأشعریین- على رسول الله ص- فوافق قدومهم قدوم أهل السفینتین- جعفر بن أبی طالب و أصحابه من أرض الحبشه- فوافوا رسول الله ص بخیبر- فظن قوم أن أبا موسى قدم من الحبشه مع جعفر- .

و قیل إنه لم یهاجر إلى الحبشه- و إنما أقبل فی سفینه مع قوم من الأشعریین- فرمت الریح سفینتهم إلى أرض الحبشه- و خرجوا منها مع جعفر و أصحابه فکان قدومهم معا- فظن قوم أنه کان من مهاجره الحبشه- . قال و ولاه رسول الله ص من مخالیف الیمن زبید- و ولاه عمر البصره لما عزل المغیره عنها- فلم یزل علیها إلى صدر من خلافه عثمان فعزله عثمان عنها- و ولاها عبد الله بن عامر بن کریز- فنزل أبو موسى الکوفه حینئذ و سکنها- فلما کره أهل الکوفه سعید بن العاص و دفعوه عنها- ولوا أبا موسى و کتبوا إلى عثمان یسألونه أن یولیه- فأقره على الکوفه- فلما قتل عثمان عزله علی ع عنها- فلم یزل واجدا لذلک على علی ع- حتى جاء منه ما قال حذیفه فیه- فقد روى حذیفه فیه کلاما کرهت ذکره و الله یغفر له- .

قلت الکلام الذی أشار إلیه أبو عمر بن عبد البر- و لم یذکره قوله فیه و قد ذکر عنده بالدین- أما أنتم فتقولون ذلک و أما أنا فأشهد أنه عدو لله و لرسوله- و حرب لهما فی الحیاه الدنیا و یوم یقوم الأشهاد- یوم لا ینفع الظالمین معذرتهم- و لهم اللعنه و لهم‏سوء الدار- و کان حذیفه عارفا بالمنافقین- أسر إلیه رسول الله ص أمرهم و أعلمه أسماءهم- . و روی أن عمارا سئل عن أبی موسى فقال- لقد سمعت فیه من حذیفه قولا عظیما- سمعته یقول صاحب البرنس الأسود- ثم کلح کلوحا علمت منه أنه کان لیله العقبه بین ذلک الرهط- .

و روی عن سوید بن غفله قال- کنت مع أبی موسى على شاطئ الفرات فی خلافه عثمان- فروى لی خبرا عن رسول الله ص- قال سمعته یقول إن بنی إسرائیل اختلفوا فلم یزل الاختلاف بینهم- حتى بعثوا حکمین ضالین ضلا و أضلا من اتبعهما- و لا ینفک أمر أمتی حتى یبعثوا حکمین- یضلان و یضلان من تبعهما فقلت له- احذر یا أبا موسى أن تکون أحدهما- قال فخلع قمیصه و قال أبرأ إلى الله من ذلک- کما أبرأ من قمیصی هذا- .

فأما ما تعتقده المعتزله فیه- فأنا أذکر ما قاله أبو محمد بن متویه- فی کتاب الکفایه قال رحمه الله- أما أبو موسى فإنه عظم جرمه بما فعله- و أدى ذلک إلى الضرر الذی لم یخف حاله- و کان علی ع یقنت علیه و على غیره- فیقول اللهم العن معاویه أولا و عمرا ثانیا- و أبا الأعور السلمی ثالثا و أبا موسى الأشعری رابعا روی عنه ع أنه کان یقول فی أبی موسى- صبغ بالعلم صبغا و سلخ منه سلخا – .

قال و أبو موسى هو الذی روى عن النبی ص أنه قال کان فی‏بنی إسرائیل حکمان ضالان- و سیکون فی أمتی حکمان ضالان ضال من اتبعهما – . و أنه قیل له أ لا یجوز أن تکون أحدهما- فقال لا أو کلاما ما هذا معناه- فلما بلی به قیل فیه البلاء موکل بالمنطق- و لم یثبت فی توبته ما ثبت فی توبه غیره- و إن کان الشیخ أبو علی قد ذکر فی آخر کتاب الحکمین- أنه جاء إلى أمیر المؤمنین ع فی مرض الحسن بن علی- فقال له أ جئتنا عائدا أم شامتا- فقال بل عائدا و حدث بحدیث فی فضل العیاده- . قال ابن متویه و هذه أماره ضعیفه فی توبته- .

انتهى کلام ابن متویه- و ذکرته لک لتعلم أنه عند المعتزله من أرباب الکبائر- و حکمه حکم أمثاله ممن واقع کبیره و مات علیها- . قال أبو عمر بن عبد البر و اختلف فی تاریخ موته- فقیل سنه اثنتین و أربعین و قیل سنه أربع و أربعین- و قیل سنه خمسین و قیل سنه اثنتین و خمسین- . و اختلف فی قبره فقیل مات بمکه و دفن بها- و قیل مات بالکوفه و دفن بها

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۵۰

خطبه ۲۴۱ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۴۱ و من خطبه له ع

فَاعْمَلُوا وَ أَنْتُمْ فِی نَفَسِ الْبَقَاءِ- وَ الصُّحُفُ مَنْشُورَهٌ وَ التَّوْبَهُ مَبْسُوطَهٌ- وَ الْمُدْبِرُ یُدْعَى وَ الْمُسِی‏ءُ یُرْجَى- قَبْلَ أَنْ یَخْمُدَ الْعَمَلُ وَ یَنْقَطِعَ الْمَهَلُ- وَ تَنْقَضِیَ الْمُدَّهُ وَ یُسَدَّ بَابُ التَّوْبَهِ- وَ تَصْعَدَ الْمَلَائِکَهُ- فَأَخَذَ امْرُؤٌ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَ أَخَذَ مِنْ حَیٍّ لِمَیِّتٍ- وَ مِنْ فَانٍ لِبَاقٍ وَ مِنْ ذَاهِبٍ لِدَائِمٍ- امْرُؤٌ خَافَ اللَّهَ- وَ هُوَ مُعَمَّرٌ إِلَى أَجَلِهِ وَ مَنْظُورٌ إِلَى عَمَلِهِ- امْرُؤٌ أَلْجَمَ نَفْسَهُ بِلِجَامِهَا وَ زَمَّهَا بِزِمَامِهَا- فَأَمْسَکَهَا بِلِجَامِهَا عَنْ مَعَاصِی اللَّهِ- وَ قَادَهَا بِزِمَامِهَا إِلَى طَاعَهِ اللَّهِ فی نفس البقاء بفتح الفاء أی فی سعته- تقول أنت فی نفس من أمرک أی فی سعه- .

و الصحف منشوره أی و أنتم بعد أحیاء- لأنه لا تطوى صحیفه الإنسان إلا إذا مات- و التوبه مبسوطه لکم غیر مقبوضه عنکم- و لا مردوده علیکم إن فعلتم- کما ترد على الإنسان توبته إذا احتضر- . و المدبر یدعى أی من یدبر منکم- و یولی عن الخیر یدعى إلیه- و ینادى یا فلان أقبل على ما یصلحک- .

و المسی‏ء یرجى أی یرجى عوده و إقلاعه- . قبل أن یجمد العمل استعاره ملیحه- لأن المیت یجمد عمله و یقف- و یروى یخمد بالخاء من خمدت النار و الأول أحسن- . و ینقطع المهل أی العمر الذی أمهلتم فیه- . و تصعد الملائکه- لأن الإنسان عند موته تصعد حفظته إلى السماء- لأنه لم یبق لهم شغل فی الأرض- .

قوله فأخذ امرؤ ماض یقوم مقام الأمر- و قد تقدم شرح ذلک- و المعنى أن من یصوم و یصلی- فإنما یأخذ بعض قوه نفسه مما یلقى من المشقه- لنفسه أی عده و ذخیره لنفسه یوم القیامه- و کذلک من یتصدق فإنه یأخذ من ماله- و هو جار مجرى نفسه لنفسه- .

و أخذ من حی لمیت أی من حال الحیاه لحال الموت- و لو قال من میت لحی کان جیدا أیضا- لأن الحی فی الدنیا لیس بحی على الحقیقه- و إنما الحیاه حیاه الآخره کما قال الله تعالى- وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَهَ لَهِیَ الْحَیَوانُ- . و روی أمسکها بلجامها بغیر فاء

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۴۸

خطبه ۲۴۰ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۴۰ و من کلام له ع اقتص فیه ذکر ما کان منه- بعد هجره النبی ص ثم لحاقه به

فَجَعَلْتُ أَتْبَعُ مَأْخَذَ رَسُولِ اللَّهِ ص- فَأَطَأُ ذِکْرَهُ حَتَّى انْتَهَیْتُ إِلَى الْعَرْجِ- فِی کَلَامٍ طَوِیلٍ قال الرضی رحمه الله تعالى- قوله ع فأطأ ذکره- من الکلام الذی رمی به إلى غایتی الإیجاز و الفصاحه- أراد أنی کنت أغطی خبره ص- من بدء خروجی إلى أن انتهیت إلى هذا الموضع- فکنى عن ذلک بهذه الکنایه العجیبه العرج منزل بین مکه و المدینه- إلیه ینسب العرجی الشاعر- و هو عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان- بن أبی العاص بن أمیه بن عبد شمس- .

قال محمد بن إسحاق فی کتاب المغازی- لم یعلم رسول الله ص أحدا من المسلمین- ما کان عزم علیه من الهجره- إلا علی بن أبی طالب و أبا بکر بن أبی قحافه- أما علی فإن رسول الله ص أخبره بخروجه- و أمره أن یبیت على‏فراشه- یخادع المشرکین عنه لیروا أنه لم یبرح فلا یطلبوه- حتى تبعد المسافه بینهم و بینه- و أن یتخلف بعده بمکه- حتى یؤدی عن رسول الله ص الودائع التی عنده للناس- و کان رسول الله ص استودعه رجال من مکه ودائع لهم- لما یعرفونه من أمانته و أما أبو بکر فخرج معه- .

و سألت النقیب أبا جعفر- یحیى بن أبی زید الحسنی رحمه الله- فقلت إذا کانت قریش قد محصت رأیها- و ألقى إلیها إبلیس کما روی ذلک الرأی- و هو أن یضربوه بأسیاف- من أیدی جماعه من بطون مختلفه- لیضیع دمه فی بطون قریش فلا تطلبه بنو عبد مناف- فلما ذا انتظروا به تلک اللیله الصبح- فإن الروایه جاءت بأنهم کانوا تسوروا الدار- فعاینوا فیها شخصا مسجى بالبرد الحضرمی الأخضر- فلم یشکوا أنه هو فرصدوه إلى أن أصبحوا فوجدوه علیا- و هذا طریف- لأنهم کانوا قد أجمعوا على قتله تلک اللیله- فما بالهم لم یقتلوا ذلک الشخص المسجى- و انتظارهم به النهار- دلیل على أنهم لم یکونوا أرادوا قتله تلک اللیله-

فقال فی الجواب- لقد کانوا هموا من النهار بقتله تلک اللیله- و کان إجماعهم على ذلک و عزمهم فی حقنه من بنی عبد مناف- لأن الذین محصوا هذا الرأی و اتفقوا علیه- النضر بن الحارث من بنی عبد الدار- و أبو البختری بن هشام و حکیم بن حزام- و زمعه بن الأسود بن المطلب- هؤلاء الثلاثه من بنی أسد بن عبد العزى- و أبو جهل بن هشام و أخوه الحارث- و خالد بن الولید بن المغیره- هؤلاء الثلاثه من بنی مخزوم- و نبیه و منبه ابنا الحجاج- و عمرو بن العاص- هؤلاء الثلاثه من بنی سهم- و أمیه بن خلف و أخوه أبی بن خلف- هذان من بنی جمح- فنما هذا الخبر من اللیل- إلى عتبه بن ربیعه بن عبد شمس- فلقی منهم قوما فنهاهم عنه-

و قال إن بنی عبد مناف لا تمسک عن دمه- و لکن صفدوه فی الحدید- و احبسوه فی دار من دورکم- و تربصوا به أن یصیبه من الموت ما أصاب أمثاله من الشعراء- و کان عتبه بن ربیعه سید بنی عبد شمس و رئیسهم- و هم من بنی عبد مناف و بنو عم الرجل و رهطه- فأحجم أبو جهل و أصحابه تلک اللیله عن قتله إحجاما- ثم تسوروا علیه و هم یظنونه فی الدار- فلما رأوا إنسانا مسجى بالبرد الأخضر الحضرمی- لم یشکوا أنه هو و ائتمروا فی قتله- فکان أبو جهل یذمرهم علیه فیهمون ثم یحجمون-

ثم قال بعضهم لبعض ارموه بالحجاره فرموه- فجعل علی یتضور منها- و یتقلب و یتأوه تأوها خفیفا- فلم یزالوا کذلک فی إقدام علیه و إحجام عنه- لما یریده الله تعالى من سلامته و نجاته- حتى أصبح و هو وقیذ من رمی الحجاره- و لو لم یخرج رسول الله ص إلى المدینه و أقام بینهم بمکه- و لم یقتلوه تلک اللیله لقتلوه فی اللیله التی تلیها- و إن شبت الحرب بینهم و بین عبد مناف- فإن أبا جهل لم یکن بالذی لیمسک عن قتله- و کان فاقد البصیره شدید العزم على الولوغ فی دمه- . قلت للنقیب أ فعلم رسول الله ص و علی ع- بما کان من نهی عتبه لهم قال لا- إنهما لم یعلما ذلک تلک اللیله و إنما عرفاه من بعد- و لقد قال رسول الله ص یوم بدر- لما رأى عتبه و ما کان منه- إن یکن فی القوم خیر ففی صاحب الجمل الأحمر- و لو قدرنا أن علیا ع- علم ما قال لهم عتبه لم یسقط ذلک فضیلته فی المبیت- لأنه لم یکن على ثقه من أنهم یقبلون قول عتبه- بل کان ظن الهلاک و القتل أغلب- .

و أما حال علی ع فلما أدى الودائع- خرج بعد ثلاث من هجره النبی‏ص- فجاء إلى المدینه راجلا قد تورمت قدماه- فصادف رسول الله ص- نازلا بقباء على کلثوم بن الهدم- فنزل معه فی منزله- و کان أبو بکر نازلا بقباء أیضا فی منزل حبیب بن یساف- ثم خرج رسول الله ص و هما معه من قباء- حتى نزل بالمدینه على أبی أیوب- خالد بن یزید الأنصاری و ابتنى المسجد

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۳۰

خطبه ۲۳۹ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۳۹ و من کلام له ع قاله لعبد الله بن عباس- و قد جاءه برساله من عثمان

و هو محصور یسأله فیها الخروج إلى ماله بینبع- لیقل هتف الناس باسمه للخلافه- بعد أن کان سأله مثل ذلک من قبل- فقال ع- یَا ابْنَ عَبَّاسٍ مَا یُرِیدُ عُثْمَانُ- إِلَّا أَنْ یَجْعَلَنِی جَمَلًا نَاضِحاً بِالْغَرْبِ أَقْبِلْ وَ أَدْبِرْ- بَعَثَ إِلَیَّ أَنْ أَخْرُجَ ثُمَّ بَعَثَ إِلَیَّ أَنْ أَقْدَمَ- ثُمَّ هُوَ الآْنَ یَبْعَثُ إِلَیَّ أَنْ أَخْرُجَ- وَ اللَّهِ لَقَدْ دَفَعْتُ عَنْهُ حَتَّى خَشِیتُ أَنْ أَکُونَ آثِماً ینبع على یفعل مثل یحلم و یحکم اسم موضع- کان فیه نخل لعلی بن أبی طالب ع- و ینبع الآن بلد صغیر من أعمال المدینه- . و هتف الناس باسمه نداؤهم و دعاؤهم- و أصله الصوت یقال هتف الحمام یهتف هتفا- و هتف زید بعمرو هتافا أی صاح به- و قوس هتافه و هتفى أی ذات صوت- . و الناضح البعیر یستقى علیه- و قال معاویه لقیس بن سعد- و قد دخل علیه‏فی رهط من الأنصار- ما فعلت نواضحکم یهزأ به- فقال أنصبناها فی طلب أبیک یوم بدر- .

و الغرب الدلو العظیمه- . قوله أقبل و أدبر- أی یقول لی ذلک کما یقال للناضح- و قد صرح العباس بن مرداس بهذه الألفاظ فقال-أراک إذا أصبحت للقوم ناضحا یقال له بالغرب أدبر و أقبل‏- .

قوله لقد دفعت عنه حتى خشیت أن أکون آثما- یحتمل أن یرید بالغت و اجتهدت فی الدفاع عنه- حتى خشیت أن أکون آثما- فی کثره مبالغتی و اجتهادی فی ذلک- و إنه لا یستحق الدفاع عنه لجرائمه و أحداثه- و هذا تأویل من ینحرف عن عثمان- و یحتمل أن یرید لقد دفعت عنه- حتى کدت أن ألقی نفسی فی الهلکه- و أن یقتلنی الناس الذین ثاروا به- فخفت الإثم فی تغریری بنفسی- و توریطها فی تلک الورطه العظیمه- و یحتمل أن یرید- لقد جاهدت الناس دونه و دفعتهم عنه- حتى خشیت أن أکون آثما بما نلت منهم- من الضرب بالسوط و الدفع بالید- و الإعانه بالقول- أی فعلت من ذلک أکثر مما یحب وصیه العباس قبل موته لعلیقرأت فی کتاب صنفه أبو حیان التوحیدی- فی تقریظ الجاحظ- قال نقلت من خط الصولی- قال الجاحظ إن العباس بن عبد المطلب- أوصى علی بن أبی طالب ع فی علته التی مات فیها- فقال أی بنی-

إنی مشف على الظعن عن الدنیا إلى الله- الذی فاقتی إلى عفوه و تجوزه- أکثر من حاجتی إلى ما أنصحک فیه و أشیر علیک به-و لکن العرق نبوض و الرحم عروض- و إذا قضیت حق العمومه فلا أبالی بعد- إن هذا الرجل یعنی عثمان قد جاءنی مرارا بحدیثک- و ناظرنی ملاینا و مخاشنا فی أمرک- و لم أجد علیک إلا مثل ما أجد منک علیه- و لا رأیت منه لک إلا مثل ما أجد منک له- و لست تؤتى من قله علم و لکن من قله قبول- و مع هذا کله فالرأی الذی أودعک به- أن تمسک عنه لسانک و یدک و همزک و غمزک- فإنه لا یبدؤک ما لم تبدأه و لا یجیبک عما لم یبلغه- و أنت المتجنی و هو المتأنی و أنت العائب و هو الصامت- فإن قلت کیف هذا و قد جلس مجلسا أنا به أحق- فقد قاربت و لکن ذاک بما کسبت یداک- و نکص عنه عقباک لأنک بالأمس الأدنى- هرولت إلیهم تظن أنهم یحلون جیدک- و یختمون إصبعک و یطئون عقبک- و یرون الرشد بک و یقولون لا بد لنا منک- و لا معدل لنا عنک- و کان هذا من هفواتک الکبر- و هناتک التی لیس لک منها عذر- و الآن بعد ما ثللت عرشک بیدک- و نبذت رأی عمک فی البیداء یتدهده فی السافیاء- خذ بأحزم مما یتوضح به وجه الأمر- لا تشار هذا الرجل و لا تماره- و لا یبلغنه عنک ما یحنقه علیک- فإنه إن کاشفک أصاب أنصارا- و إن کاشفته لم تر إلا ضرارا- و لم تستلج إلا عثارا- و اعرف من هو بالشام له- و من هاهنا حوله من یطیع أمره و یمتثل قوله لا تغترر بناس یطیفون بک-

و یدعون الحنو علیک و الحب لک- فإنهم بین مولى جاهل و صاحب متمن- و جلیس یرعى العین و یبتدر المحضر- و لو ظن الناس بک ما تظن بنفسک- لکان الأمر لک و الزمام فی یدک- و لکن هذا حدیث یوم مرض رسول الله ص فات- ثم حرم الکلام فیه حین مات- فعلیک الآن بالعزوف عن شی‏ء عرضک له رسول الله ص فلم یتم- و تصدیت له مره بعد مره فلم یستقم- و من ساور الدهر غلب و من حرص على ممنوع تعب- فعلى ذلک فقد أوصیت عبد الله بطاعتک- و بعثته على متابعتک و أوجرته محبتک- و وجدت عنده من ذلک ظنی به لک- لا توتر قوسک إلا بعد الثقه بها- و إذا أعجبتک فانظر إلى سیتها- ثم لا تفوق إلا بعد العلم- و لا تغرق فی النزع إلا لتصیب الرمیه-

و انظر لا تطرف یمینک عینک و لا تجن شمالک شینک- ودعنی بآیات من آخر سوره الکهف و قم إذا بدا لک قلت الناس یستحسنون رأی العباس لعلی ع- فی ألا یدخل فی أصحاب الشورى- و أما أنا فإنی أستحسنه إن قصد به معنى- و لا أستحسنه إن قصد به معنى آخر- و ذلک لأنه إن أجرى بهذا الرأی إلى ترفعه علیهم- و علو قدره عن أن یکون مماثلا لهم- أو أجرى به إلى زهده فی الإماره و رغبته عن الولایه- فکل هذا رأی حسن و صواب- و إن کان منزعه فی ذلک- إلى أنک إن ترکت الدخول معهم- و انفردت بنفسک فی دارک- أو خرجت عن المدینه إلى بعض أموالک- فإنهم یطلبونک و یضربون إلیک آباط الإبل- حتى یولوک الخلافه- و هذا هو الظاهر من کلامه- فلیس هذا الرأی عندی بمستحسن- لأنه لو فعل ذلک لولوا عثمان أو واحدا منهم غیره- و لم یکن عندهم من الرغبه فیه ع ما یبعثهم على طلبه- بل کان تأخره عنهم قره أعینهم و واقعا بإیثارهم- فإن قریشا کلها کانت تبغضه أشد البغض- و لو عمر عمر نوح- و توصل إلى الخلافه بجمیع أنواع التوصل- کالزهد فیها تاره و المناشده بفضائله تاره- و بما فعله فی ابتداء الأمر- من إخراج زوجته و أطفاله لیلا إلى بیوت الأنصار- و بما اعتمده إذ ذاک من تخلفه فی بیته- و إظهار أنه قد انعکف على جمع القرآن- و بسائر أنواع الحیل فیها- لم تحصل له إلا بتجرید السیف- کما فعل فی آخر الأمر و لست ألوم العرب- لا سیما قریشا فی بغضها له و انحرافها عنه- فإنه وترها و سفک دماءها- و کشف القناع فی منابذتها- و نفوس العرب و أکبادهم کما تعلم-و لیس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد فی النفوس- کما نشاهده الیوم عیانا- و الناس کالناس الأول و الطبائع واحده- فأحسب أنک کنت من سنتین أو ثلاث- جاهلیا أو من بعض الروم-

و قد قتل واحد من المسلمین ابنک أو أخاک ثم أسلمت- أ کان إسلامک یذهب عنک- ما تجده من بغض ذلک القاتل و شنآنه- کلا إن ذلک لغیر ذاهب- هذا إذا کان الإسلام صحیحا و العقیده محققه- لا کإسلام کثیر من العرب- فبعضهم تقلیدا و بعضهم للطمع و الکسب- و بعضهم خوفا من السیف- و بعضهم على طریق الحمیه و الانتصار- أو لعداوه قوم آخرین من أضداد الإسلام و أعدائه- .

و اعلم أن کل دم أراقه رسول الله ص- بسیف علی ع و بسیف غیره- فإن العرب بعد وفاته ع- عصبت تلک الدماء بعلی بن أبی طالب ع وحده- لأنه لم یکن فی رهطه- من یستحق فی شرعهم و سنتهم و عادتهم- أن یعصب به تلک الدماء إلا بعلی وحده- و هذه عاده العرب- إذا قتل منها قتلى طالبت بتلک الدماء القاتل- فإن مات أو تعذرت علیها مطالبته- طالبت بها أمثل الناس من أهله- . لما قتل قوم من بنی تمیم أخا لعمرو بن هند- قال بعض أعدائه یحرض عمرا علیهم-

من مبلغ عمرا بأن
المرء لم یخلق صباره‏

و حوادث الأیام لا
یبقى لها إلا الحجاره‏

ها إن عجزه أمه
بالسفح أسفل من أواره‏

تسفی الریاح خلال‏
کشحیه و قد سلبوا إزاره‏

فاقتل زراره لا أرى
فی القوم أمثل من زراره‏

فأمره أن یقتل زراره بن عدس رئیس بنی تمیم- و لم یکن قاتلا أخا الملک و لا حاضرا قتله- . و من نظر فی أیام العرب- و وقائعها و مقاتلها عرف ما ذکرناه- . سألت النقیب أبا جعفر یحیى بن أبی زید رحمه الله- فقلت له إنی لأعجب من علی ع- کیف بقی تلک المده الطویله بعد رسول الله ص- و کیف ما اغتیل و فتک به فی جوف منزله- مع تلظی الأکباد علیه- . فقال لو لا أنه أرغم أنفه بالتراب- و وضع خده فی حضیض الأرض لقتل- و لکنه أخمل نفسه- و اشتغل بالعباده و الصلاه و النظر فی القرآن- و خرج عن ذلک الزی الأول و ذلک الشعار- و نسی السیف و صار کالفاتک یتوب-

و یصیر سائحا فی الأرض أو راهبا فی الجبال- و لما أطاع القوم الذین ولوا الأمر- و صار أذل لهم من الحذاء ترکوه و سکتوا عنه- و لم تکن العرب لتقدم علیه- إلا بمواطاه من متولی الأمر و باطن فی السر منه- فلما لم یکن لولاه الأمر باعث و داع إلى قتله- وقع الإمساک عنه- و لو لا ذلک لقتل ثم أجل بعد معقل حصین- . فقلت له أ حق ما یقال فی حدیث خالد- فقال إن قوما من العلویه یذکرون ذلک- .

ثم قال و قد روی أن رجلا جاء إلى زفر بن الهذیل- صاحب أبی حنیفه- فسأله عما یقول أبو حنیفه- فی جواز الخروج من الصلاه بأمر غیر التسلیم- نحو الکلام و الفعل الکثیر أو الحدث- فقال إنه جائز قد قال أبو بکر فی تشهده ما قال- فقال الرجل‏و ما الذی قاله أبو بکر- قال لا علیک- فأعاد علیه السؤال ثانیه و ثالثه- فقال أخرجوه أخرجوه- قد کنت أحدث أنه من أصحاب أبی الخطاب- . قلت له فما الذی تقوله أنت- قال أنا أستبعد ذلک و إن روته الإمامیه- .

ثم قال أما خالد فلا أستبعد منه الإقدام علیه- بشجاعته فی نفسه و لبغضه إیاه- و لکنی أستبعده من أبی بکر فإنه کان ذا ورع- و لم یکن لیجمع بین أخذ الخلافه و منع فدک- و إغضاب فاطمه و قتل علی ع- حاش لله من ذلک- فقلت له أ کان خالد یقدر على قتله- قال نعم و لم لا یقدر على ذلک و السیف فی عنقه- و علی أعزل غافل عما یراد به- قد قتله ابن ملجم غیله و خالد أشجع من ابن ملجم- . فسألته عما ترویه الإمامیه فی ذلک کیف ألفاظه- فضحک و قال-
کم عالم بالشی‏ء و هو یسائل‏- . ثم قال دعنا من هذا- ما الذی تحفظ فی هذا المعنى- قلت قول أبی الطیب-

نحن أدرى و قد سألنا بنجد
أ طویل طریقنا أم یطول‏

و کثیر من السؤال اشتیاق‏
و کثیر من رده تعلیل‏

فاستحسن ذلک و قال- لمن عجز البیت الذی استشهدت به- قلت لمحمد بن هانئ المغربی و أوله-

فی کل یوم أستزید تجاربا
کم عالم بالشی‏ء و هو یسائل‏

 فبارک علی مرارا ثم قال نترک الآن هذا- و نتمم ما کنا فیه- و کنت أقرأ علیه فی ذلک الوقت- جمهره النسب لابن الکلبی فعدنا إلى القراءه- و عدلنا عن الخوض عما کان اعترض الحدیث فیه

شرح‏ نهج‏ البلاغه(ابن ‏أبی‏ الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۸۳

خطبه ۲۳۸ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(الثانی)

القول فی إسلام أبی بکر و علی و خصائص کل منهما

و ینبغی أن نذکر فی هذا الموضع- ملخص ما ذکره الشیخ أبو عثمان الجاحظ فی کتابه- المعروف بکتاب العثمانیه- فی تفضیل إسلام أبی بکر على إسلام علی ع- لأن هذا الموضع یقتضیه- لقوله ع حکایه عن قریش لما صدق رسول الله ص- و هل یصدقک فی أمرک إلا مثل هذا- لأنهم استصغروا سنه- فاستحقروا أمر محمد رسول الله ص- حیث لم یصدقه فی دعواه إلا غلام صغیر السن- و شبهه العثمانیه التی قررها الجاحظ- من هذه الشبهه نشأت و من هذه الکلمه تفرعت- لأن خلاصتها أن أبا بکر أسلم و هو ابن أربعین سنه- و علی أسلم و لم یبلغ الحلم- فکان إسلام أبی بکر أفضل- .

ثم نذکر ما اعترض به- شیخنا أبو جعفر الإسکافی على الجاحظ- فی کتابه المعروف بنقض العثمانیه- و یتشعب الکلام بینهما- حتى یخرج عن البحث فی الإسلامین- إلى البحث فی أفضلیه الرجلین و خصائصهما- فإن ذلک لا یخلو عن فائده جلیله- و نکتهلطیفه لا یلیق أن یخلو کتابنا هذا عنها- و لأن کلامهما بالرسائل و الخطابه أشبه- و فی الکتابه أقصد و أدخل- و کتابنا هذا موضوع لذکر ذلک و أمثاله- .

قال أبو عثمان قالت العثمانیه- أفضل الأمه و أولاها بالإمامه أبو بکر بن أبی قحافه- لإسلامه على الوجه الذی لم یسلم علیه أحد فی عصره- و ذلک أن الناس اختلفوا فی أول الناس إسلاما- فقال قوم أبو بکر- و قال قوم زید بن حارثه- و قال قوم خباب بن الأرت- .

و إذا تفقدنا أخبارهم- و أحصینا أحادیثهم و عددنا رجالهم- و نظرنا فی صحه أسانیدهم- کان الخبر فی تقدم إسلام أبی بکر- أعم و رجاله أکثر و أسانیده أصح- و هو بذاک أشهر و اللفظ فیه أظهر- مع الأشعار الصحیحه- و الأخبار المستفیضه فی حیاه رسول الله ص و بعد وفاته- و لیس بین الأشعار و الأخبار فرق إذا امتنع فی مجیئها- و أصل مخرجها التباعد و الاتفاق و التواطؤ- و لکن ندع هذا المذهب جانبا- و نضرب عنه صفحا اقتدارا على الحجه- و وثوقا بالفلج و القوه- و نقتصر على أدنى نازل فی أبی بکر- و ننزل على حکم الخصم فنقول- إنا وجدنا من یزعم أنه أسلم قبل زید و خباب- و وجدنا من یزعم أنهما أسلما قبله- و أوسط الأمور أعدلها و أقربها من محبه الجمیع- و رضا المخالف أن نجعل إسلامهم کان معا- إذ الأخبار متکافئه و الآثار متساویه على ما تزعمون- و لیست إحدى القضیتین أولى- فی صحه العقل من الأخرى- ثم نستدل على إمامه أبی بکر بما ورد فیه من الحدیث- و بما أبانه به الرسول ص من غیره- . قالوا فمما روی من تقدم إسلامه- ما حدث به أبو داود و ابن مهدی عن شعبه- و ابن عیینه عن الجریری- عن أبی هریره قال أبو بکر- أنا أحقکم بهذا الأمر یعنی الخلافه- أ لست أول من صلى- .

روى عباد بن صهیب عن یحیى بن عمیر- عن محمد بن المنکدر أن رسول الله ص قال إن الله بعثنی بالهدى و دین الحق إلى الناس کافه- فقالوا کذبت و قال أبو بکر صدقت- . و روى یعلى بن عبید قال جاء رجل إلى ابن عباس- فسأله من کان أول الناس إسلاما- فقال أ ما سمعت قول حسان بن ثابت-

إذا تذکرت شجوا من أخی ثقه
فاذکر أخاک أبا بکر بما فعلا

الثانی التالی المحمود مشهده‏
و أول الناس منهم صدق الرسلا

و قال أبو محجن

سبقت إلى الإسلام و الله شاهد
و کنت حبیبا بالعریش المشهر

و قال کعب بن مالک

سبقت أخا تیم إلى دین أحمد
و کنت لدى الغیران فی الکهف صاحبا

و روى ابن أبی شیبه- عن عبد الله بن إدریس و وکیع- عن شعبه عن عمرو بن مره قال- قال النخعی أبو بکر أول من أسلم- . وروى هیثم عن یعلى بن عطاء عن عمرو بن عنبسه قال أتیت النبی ص و هو بعکاظ- فقلت من بایعک على هذا الأمر- فقال بایعنی حر و عبد- فلقد رأیتنی یومئذ و أنا رابع الإسلام- .

قال بعض أصحاب الحدیث- یعنی بالحر أبا بکر و بالعبد بلالا- . وروى اللیث بن سعد عن معاویه بن صالح عن سلیم بن عامر عن أبی أمامه قال حدثنی عمرو بن عنبسه أنه سأل النبی ص و هو بعکاظ- فقال له من تبعک قال تبعنی حر و عبد- أبو بکر و بلالوروى عمرو بن إبراهیم الهاشمی عن عبد الملک بن عمیر عن أسید بن صفوان صاحب النبی ص قال لما قبض أبو بکر جاء علی بن أبی طالب ع فقال- رحمک الله أبا بکر کنت أول الناس إسلاما- .

و روى عباد عن الحسن بن دینار- عن بشر بن أبی زینب عن عکرمه مولى ابن عباس- قال إذا لقیت الهاشمیین قالوا- علی بن أبی طالب أول من أسلم- و إذا لقیت الذین یعلمون قالوا- أبو بکر أول من أسلم- . قال أبو عثمان الجاحظ قالت العثمانیه- فإن قال قائل فما بالکم- لم تذکروا علی بن أبی طالب فی هذه الطبقه- و قد تعلمون کثره مقدمیه و الروایه فیه- قلنا قد علمنا الروایه الصحیحه- و الشهاده القائمه أنه أسلم- و هو حدث غریر و طفل صغیر- فلم نکذب الناقلین- و لم نستطع أن نلحق إسلامه بإسلام البالغین- لأن المقلل زعم أنه أسلم و هو ابن خمس سنین- و المکثر زعم أنه أسلم و هو ابن تسع سنین- فالقیاس أن یؤخذ بالأوسط بین الروایتین- و بالأمر بین الأمرین و إنما یعرف حق ذلک من باطله- بأن نحصی سنیه التی ولی فیها الخلافه- و سنی عمر و سنی عثمان و سنی أبی بکر- و مقام النبی ص بالمدینه- و مقامه بمکه عند إظهار الدعوه- فإذا فعلنا ذلک صح أنه أسلم و هو ابن سبع سنین- فالتاریخ المجمع علیه أنه قتل ع- فی شهر رمضان سنه أربعین- .

قال شیخنا أبو جعفر الإسکافی- لو لا ما غلب على الناس من الجهل و حب التقلید- لم نحتج إلى نقض ما احتجت به العثمانیه- فقد علم الناس کافه أن الدوله و السلطان لأرباب مقالتهم- و عرف کل أحد علو أقدار شیوخهم- و علمائهم و أمرائهم و ظهور کلمتهم- و قهر سلطانهم و ارتفاع التقیه عنهم و الکرامه- و الجائزه لمن روى الأخبار و الأحادیث- فی فضل أبی بکر- و ما کان من تأکید بنی أمیه لذلک- و ما ولده المحدثون من الأحادیث طلبا لما فی أیدیهم- فکانوا لا یألون جهدا فی طول ما ملکوا- أن یخملوا ذکر علی ع و ولده- و یطفئوا نورهم و یکتموا فضائلهم- و مناقبهم و سوابقهم- و یحملوا على شتمهم و سبهم و لعنهم على المنابر- فلم یزل السیف یقطر من دمائهم- مع قله عددهم و کثره عدوهم- فکانوا بین قتیل و أسیر- و شرید و هارب و مستخف ذلیل و خائف مترقب- حتى إن الفقیه و المحدث و القاضی و المتکلم- لیتقدم إلیه و یتوعد- بغایه الإیعاد و أشد العقوبه- ألا یذکروا شیئا من فضائلهم- و لا یرخصوا لأحد أن یطیف بهم- و حتى بلغ من تقیه المحدث- أنه إذا ذکر حدیثا عن علی ع کنى عن ذکره- فقال قال رجل من قریش- و فعل رجل من قریش- و لا یذکر علیا ع و لا یتفوه باسمه- .

ثم رأینا جمیع المختلفین قد حاولوا نقض فضائله- و وجهوا الحیل و التأویلات نحوها- من خارجی مارق و ناصب حنق- و ثابت مستبهم و ناشئ معاند- و منافق مکذب و عثمانی حسود- یعترض فیها و یطعن- و معتزلی قد نقض فی الکلام و أبصر علم الاختلاف-و عرف الشبه و مواضع الطعن و ضروب التأویل- قد التمس الحیل فی إبطال مناقبه و تأول مشهور فضائله- فمره یتأولها بما لا یحتمل- و مره یقصد أن یضع من قدرها بقیاس منتقض- و لا یزداد مع ذلک إلا قوه و رفعه و وضوحا و استناره- و قد علمت أن معاویه و یزید و من کان بعدهما- من بنی مروان أیام ملکهم و ذلک نحو ثمانین سنه- لم یدعوا جهدا فی حمل الناس على شتمه و لعنه- و إخفاء فضائله و ستر مناقبه و سوابقه روى خالد بن عبد الله الواسطی- عن حصین بن عبد الرحمن عن هلال بن یساف- عن عبد الله بن ظالم قال- لما بویع لمعاویه أقام المغیره بن شعبه- خطباء یلعنون علیا ع- فقال سعید بن زید بن عمرو بن نفیل- أ لا ترون إلى هذا الرجل الظالم- یأمر بلعن رجل من أهل الجنه- .

روى سلیمان بن داود عن شعبه- عن الحر بن الصباح قال سمعت عبد الرحمن بن الأخنس یقول- شهدت المغیره بن شعبه خطب- فذکر علیا ع فنال منه- . روى أبو کریب قال حدثنا أبو أسامه- قال حدثنا صدقه بن المثنى النخعی- عن ریاح بن الحارث قال- بینما المغیره بن شعبه بالمسجد الأکبر- و عنده ناس إذ جاءه رجل یقال له- قیس بن علقمه فاستقبل المغیره فسب علیا ع- .

روى محمد بن سعید الأصفهانی عن شریک- عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن علی بن الحسین- عن أبیه علی بن الحسین ع قال قال لی مروان- ما کان فی القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبکم- قلت فما بالکم تسبونه على المنابر- قال إنه لا یستقیم لنا الأمر إلا بذلک- . روى مالک بن إسماعیل أبو غسان النهدی- عن ابن أبی سیف قال خطب مروان و الحسن ع جالس- فنال من علی ع فقال الحسن- ویلک یا مروان أ هذا الذی تشتم شر الناس- قال لا و لکنه خیر الناس- .

و روى أبو غسان أیضا قال قال عمر بن عبد العزیز- کان أبی یخطب فلا یزال مستمرا فی خطبته- حتى إذا صار إلى ذکر علی و سبه تقطع لسانه- و اصفر وجهه و تغیرت حاله- فقلت له فی ذلک فقال أ و قد فطنت لذلک- إن هؤلاء لو یعلمون من علی ما یعلمه أبوک- ما تبعنا منهم رجل- . و روى أبو عثمان قال حدثنا أبو الیقظان- قال قام رجل من ولد عثمان- إلى هشام بن عبد الملک یوم عرفه- فقال إن هذا یوم کانت الخلفاء تستحب فیه لعن أبی تراب- . و روى عمرو بن الفناد عن محمد بن فضیل- عن أشعث بن سوار قال- سب عدی بن أرطاه علیا ع على المنبر- فبکى الحسن البصری و قال- لقد سب هذا الیوم رجل- إنه لأخو رسول الله ص فی الدنیا و الآخره- .

و روى عدی بن ثابت عن إسماعیل بن إبراهیم- قال کنت أنا و إبراهیم بن یزید جالسین فی الجمعه- مما یلی أبواب کنده فخرج المغیره فخطب- فحمد الله ثم ذکر ما شاء أن یذکر- ثم وقع فی علی ع- فضرب إبراهیم على فخذی أو رکبتی- ثم قال أقبل علی- فحدثنی فإنا لسنا فی جمعه أ لا تسمع ما یقول هذا- .

و روى عبد الله بن عثمان الثقفی- قال حدثنا ابن أبی سیف قال- قال ابن لعامر بن عبد الله بن الزبیر لولده- لا تذکر یا بنی علیا إلا بخیر- فإن بنی أمیه لعنوه على منابرهم ثمانین سنه- فلم یزده الله بذلک إلا رفعه- إن الدنیا لم تبن شیئا قط- إلا رجعت على ما بنت فهدمته- و إن الدین لم یبن شیئا قط و هدمه- . و روى عثمان بن سعید قال حدثنا مطلب بن زیاد- عن أبی بکر بن عبد الله الأصبهانی قال- کان دعی لبنی أمیه یقال له خالد بن عبد الله- لا یزال یشتم علیا ع-فلما کان یوم جمعه و هو یخطب الناس- قال و الله إن کان رسول الله لیستعمله- و إنه لیعلم ما هو و لکنه کان ختنه- و قد نعس سعید بن المسیب ففتح عینیه- ثم قال ویحکم ما قال هذا الخبیث- رأیت القبر انصدع و رسول الله ص یقول- کذبت یا عدو الله- .

و روى القناد قال حدثنا أسباط بن نصر الهمدانی- عن السدی قال بینما أنا بالمدینه عند أحجار الزیت- إذ أقبل راکب على بعیر فوقف فسب علیا ع- فخف به الناس ینظرون إلیه فبینما هو کذلک- إذ أقبل سعد بن أبی وقاص فقال- اللهم إن کان سب عبدا لک صالحا فأر المسلمین خزیه- فما لبث أن نفر به بعیره فسقط فاندقت عنقه- . و روى عثمان بن أبی شیبه- عن عبد الله بن موسى عن فطر بن خلیفه- عن أبی عبد الله الجدلی قال- دخلت على أم سلمه رحمها الله فقالت لی- أ یسب رسول الله ص فیکم و أنتم أحیاء- قلت و أنى یکون هذا- قالت أ لیس یسب علی ع و من یحبه- .

و روى العباس بن بکار الضبی- قال حدثنی أبو بکر الهذلی عن الزهری قال- قال ابن عباس لمعاویه أ لا تکف عن شتم هذا الرجل- قال ما کنت لأفعل حتى یربو علیه الصغیر و یهرم فیه الکبیر- فلما ولی عمر بن عبد العزیز کف عن شتمه- فقال الناس ترک السنه- . قال و قد روی عن ابن مسعود إما موقوفا علیه أو مرفوعا کیف أنتم إذا شملتکم فتنه- یربو علیها الصغیر و یهرم فیها الکبیر- یجری علیها الناس فیتخذونها سنه- فإذا غیر منها شی‏ء قیل غیرت السنه- .

قال أبو جعفر و قد تعلمون- أن بعض الملوک ربما أحدثوا قولا- أو دینا لهوى فیحملون الناس على ذلک- حتى لا یعرفوا غیره- کنحو ما أخذ الناس الحجاج بن یوسف بقراءه عثمان- و ترک قراءه ابن مسعود و أبی بن کعب- و توعد على ذلک بدون ما صنع هو و جبابره بنی أمیه- و طغاه مروان بولد علی ع و شیعته- و إنما کان سلطانه نحو عشرین سنه- فما مات الحجاج- حتى اجتمع أهل العراق على قراءه عثمان- و نشأ أبناؤهم و لا یعرفون غیرها- لإمساک الآباء عنها و کف المعلمین عن تعلیمها- حتى لو قرأت علیهم قراءه عبد الله و أبی ما عرفوها- و لظنوا بتألیفها الاستکراه و الاستهجان- لإلف العاده و طول الجهاله- لأنه إذا استولت على الرعیه الغلبه- و طالت علیهم أیام التسلط- و شاعت فیهم المخافه و شملتهم التقیه- اتفقوا على التخاذل و التساکت- فلا تزال الأیام تأخذ من بصائرهم- و تنقص من ضمائرهم و تنقض من مرائرهم- حتى تصیر البدعه التی أحدثوها- غامره للسنه التی کانوا یعرفونها- و لقد کان الحجاج و من ولاه- کعبد الملک و الولید و من کان قبلهما و بعدهما- من فراعنه بنی أمیه على إخفاء محاسن علی ع و فضائله- و فضائل ولده و شیعته و إسقاط أقدارهم- أحرص منهم على إسقاط قراءه عبد الله و أبی- لأن تلک القراءات لا تکون سببا لزوال ملکهم- و فساد أمرهم و انکشاف حالهم- و فی اشتهار فضل علی ع و ولده- و إظهار محاسنهم بوارهم و تسلیط حکم الکتاب المنبوذ علیهم- فحرصوا و اجتهدوا فی إخفاء فضائله- و حملوا الناس على کتمانها و سترها- و أبى الله أن یزید أمره و أمر ولده- إلا استناره و إشراقا و حبهم إلا شغفا و شده- و ذکرهم إلا انتشارا و کثره- و حجتهم إلا وضوحا و قوه- و فضلهم إلا ظهورا و شأنهم إلا علوا- و أقدارهم إلا إعظاما- حتى أصبحوا بإهانتهم إیاهم أعزاء- و بإماتتهم ذکرهم أحیاء- و ما أرادوا به و بهم من الشر تحول خیرا- فانتهى إلینا من ذکر فضائله و خصائصه- و مزایاه و سوابقه ما لم یتقدمه السابقون- و لا ساواه فیه القاصدون و لا یلحقه الطالبون- و لو لا أنها کانت‏کالقبله المنصوبه فی الشهره- و کالسنن المحفوظه فی الکثره- لم یصل إلینا منها فی دهرنا حرف واحد- إذا کان الأمر کما وصفناه- .

قال فأما ما احتج به الجاحظ بإمامه أبی بکر- بکونه أول الناس إسلاما- فلو کان هذا احتجاجا صحیحا- لاحتج به أبو بکر یوم السقیفه- و ما رأیناه صنع ذلک لأنه أخذ بید عمر- و ید أبی عبیده بن الجراح و قال للناس- قد رضیت لکم أحد هذین الرجلین- فبایعوا منهما من شئتم- و لو کان هذا احتجاجا صحیحا لما قال عمر- کانت بیعه أبی بکر فلته وقى الله شرها- و لو کان احتجاجا صحیحا- لادعى واحد من الناس لأبی بکر الإمامه- فی عصره أو بعد عصره بکونه سبق إلى الإسلام- و ما عرفنا أحدا ادعى له ذلک- على أن جمهور المحدثین لم یذکروا- أن أبا بکر أسلم إلا بعد عده من الرجال- منهم علی بن أبی طالب و جعفر أخوه- و زید بن حارثه و أبو ذر الغفاری- و عمرو بن عنبسه السلمی و خالد بن سعید بن العاص- و خباب بن الأرت و إذا تأملنا الروایات الصحیحه- و الأسانید القویه و الوثیقه- وجدناها کلها ناطقه بأن علیا ع أول من أسلم- .

فأما الروایه عن ابن عباس أن أبا بکر أولهم إسلاما- فقد روی عن ابن عباس خلاف ذلک- بأکثر مما رووا و أشهر- فمن ذلک ما رواه یحیى بن حماد- عن أبی عوانه و سعید بن عیسى- عن أبی داود الطیالسی عن عمرو بن میمون- عن ابن عباس أنه قال- أول من صلى من الرجال علی ع- .

وروى الحسن البصری قال حدثنا عیسى بن راشد- عن أبی بصیر عن عکرمه عن ابن عباس قال فرض الله تعالى الاستغفار لعلی ع فی القرآن-على کل مسلم بقوله تعالى- رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِینَ سَبَقُونا بِالْإِیمانِ- فکل من أسلم بعد علی فهو یستغفر لعلی عوروى سفیان بن عیینه عن ابن أبی نجیح عن مجاهد عن ابن عباس قال السباق ثلاثه سبق یوشع بن نون إلى موسى- و سبق صاحب یس إلى عیسى- و سبق علی بن أبی طالب إلى محمد علیه و علیهم السلام- . فهذا قول ابن عباس فی سبق علی ع إلى الإسلام- و هو أثبت من حدیث الشعبی و أشهر- على أنه قد روی عن الشعبی خلاف ذلک- من حدیثأبی بکر الهذلی و داود بن أبی هند عن الشعبی قال قال رسول الله ص لعلی ع- هذا أول من آمن بی و صدقنی و صلى معی- .

قال فأما الأخبار الوارده بسبقه إلى الإسلام- المذکوره فی الکتب الصحاح و الأسانید الموثوق بها- فمنها ما روى شریک بن عبد الله- عن سلیمان بن المغیره عن زید بن وهب- عن عبد الله بن مسعود أنه قال- أول شی‏ء علمته من أمر رسول الله ص- أنی قدمت مکه مع عمومه لی و ناس من قومی- و کان من أنفسنا شراء عطر- فأرشدنا إلى العباس بن عبد المطلب فانتهینا إلیه- و هو جالس إلى زمزم فبینا نحن عنده جلوسا- إذ أقبل رجل من باب الصفا و علیه ثوبان أبیضان- و له وفره إلى أنصاف أذنیه جعده- أشم أقنى أدعج العینین- کث اللحیه براق الثنایا- أبیض تعلوه حمره کأنه القمر لیله البدر- و على یمینه غلام مراهق أو محتلم حسن الوجه- تقفوهم امرأه قد سترت محاسنها- حتى قصدوا نحو الحجر فاستلمه و استلمه الغلام- ثم استلمته المرأه ثم طاف بالبیت سبعا- و الغلام و المرأه یطوفان معه ثم استقبل الحجر-فقام و رفع یدیه و کبر- و قام الغلام إلى جانبه و قامت المرأه خلفها- فرفعت یدیها و کبرت فأطال القنوت- ثم رکع و رکع الغلام و المرأه- ثم رفع رأسه فأطال- و رفع الغلام و المرأه معه یصنعان مثل ما یصنع- فلما رأینا شیئا ننکره لا نعرفه بمکه- أقبلنا على العباس فقلنا یا أبا الفضل- إن هذا الدین ما کنا نعرفه فیکم- قال أجل و الله قلنا فمن هذا-

قال هذا ابن أخی هذا محمد بن عبد الله- و هذا الغلام ابن أخی أیضا هذا علی بن أبی طالب- و هذه المرأه زوجه محمد هذه خدیجه بنت خویلد- و الله ما على وجه الأرض أحد یدین بهذا الدین- إلا هؤلاء الثلاثه و من حدیث موسى بن داود عن خالد بن نافع- عن عفیف بن قیس الکندی- و قد رواه عن عفیف أیضا مالک بن إسماعیل النهدی- و الحسن بن عنبسه الوراق و إبراهیم بن محمد بن میمونه- قالوا جمیعا حدثنا سعید بن جشم- عن أسد بن عبد الله البجلی عن یحیى بن عفیف بن قیس- عن أبیه قال کنت فی الجاهلیه عطارا- فقدمت مکه فنزلت على العباس بن عبد المطلب- فبینا أنا جالس عنده أنظر إلى الکعبه- و قد تحلقت الشمس فی السماء- أقبل شاب کان فی وجهه القمر- حتى رمى ببصره إلى السماء- فنظر إلى الشمس ساعه- ثم أقبل حتى دنا من الکعبه- فصف قدمیه یصلی فخرج على أثره فتى- کأن وجهه صفیحه یمانیه فقام عن یمینه- فجاءت امرأه متلففه فی ثیابها فقامت خلفهما- فأهوى الشاب راکعا فرکعا معه- ثم أهوى إلى الأرض ساجدا فسجدا معه- فقلت للعباس یا أبا الفضل أمر عظیم- فقال أمر و الله عظیم أ تدری من هذا الشاب-

قلت لا قال هذا ابن أخی- هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب- أ تدری من هذا الفتى قلت لا قال- هذا ابن أخی علی بن أبی طالب بن عبد المطلب- أ تدری من المرأه قلت لا- قال هذه ابنه خویلد بن أسد بن عبد العزى- هذه خدیجه زوج محمد هذا- و إن محمدا هذا یذکر أن إلهه إله السماء و الأرض- و أمره بهذا الدین فهو علیه کما ترى‏و یزعم أنه نبی- و قد صدقه على قوله علی ابن عمه هذا الفتى- و زوجته خدیجه هذه المرأه- و الله ما أعلم على وجه الأرض کلها- أحدا على هذا الدین غیر هؤلاء الثلاثه- قال عفیف فقلت له- فما تقولون أنتم- قال ننتظر الشیخ ما یصنع یعنی أبا طالب أخاه- .

وروى عبد الله بن موسى و الفضل بن دکین و الحسن بن عطیه قالوا حدثنا خالد بن طهمان عن نافع بن أبی نافع عن معقل بن یسار قال کنت أوصى النبی ص فقال لی- هل لک أن نعود فاطمه قلت نعم یا رسول الله- فقام یمشی متوکئا علی و قال- أما إنه سیحمل ثقلها غیرک و یکون أجرها لک- قال فو الله کأنه لم یکن علی من ثقل النبی ص شی‏ء- فدخلنا على فاطمه ع- فقال لها ص کیف تجدینک- قالت لقد طال أسفی و اشتد حزنی- و قال لی النساء زوجک أبوک فقیرا لا مال له- فقال لها أ ما ترضین أنی زوجتک أقدم أمتی سلما- و أکثرهم علما و أفضلهم حلما- قالت بلى رضیت یا رسول الله: و قد روى هذا الخبر یحیى بن عبد الحمید و عبد السلام بن صالح عن قیس بن الربیع عن أبی أیوب الأنصاری بألفاظه أو نحوها- .

وروى عبد السلام بن صالح عن إسحاق الأزرق عن جعفر بن محمد عن آبائه أن رسول الله ص لما زوج فاطمه- دخل النساء علیها فقلن یا بنت رسول الله- خطبک فلان و فلان فردهم عنک- و زوجک فقیرا لا مال له- فلما دخل علیها أبوها ص رأى ذلک فی وجهها- فسألها فذکرت له ذلک فقال یا فاطمه- إن الله أمرنی فأنکحتک أقدمهم سلما- و أکثرهم علما و أعظمهم حلما- و ما زوجتک إلا بأمر من السماء- أ ما علمت أنه أخی فی الدنیا و الآخره وروى عثمان بن سعید عن الحکم بن ظهیر عن السدی أن أبا بکر و عمر خطبا فاطمه ع- فردهما رسول الله ص- و قال لم أومر بذلک- فخطبها علی ع فزوجه إیاها- و قال لها زوجتک أقدم الأمه إسلاماو ذکر تمام الحدیث- قال و قد روى هذا الخبر جماعه من الصحابه- منهم أسماء بنت عمیس و أم أیمن- و ابن عباس و جابر بن عبد الله- .

قال و قد روى محمد بن عبد الله بن أبی رافع عن أبیه عن جده أبی رافع قال أتیت أبا ذر بالربذه أودعه- فلما أردت الانصراف قال لی و لأناس معی- ستکون فتنه فاتقوا الله- و علیکم بالشیخ علی بن أبی طالب فاتبعوه- فإنی سمعت رسول الله ص یقول له- أنت أول من آمن بی- و أول من یصافحنی یوم القیامه- و أنت الصدیق الأکبر- و أنت الفاروق الذی یفرق بین الحق و الباطل- و أنت یعسوب المؤمنین و المال یعسوب الکافرین- و أنت أخی و وزیری و خیر من أترک بعدی- تقضی دینی و تنجز موعدیقال و قدروى ابن أبی شیبه عن عبد الله بن نمیر عن العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدی قال سمعت علی بن أبی طالب یقول أنا عبد الله و أخو رسوله- و أنا الصدیق الأکبر- لا یقولها غیری إلا کذاب- و لقد صلیت قبل الناس سبع سنین- .

وروت معاذه بنت عبد الله العدویه قالت سمعت علیا ع یخطب على منبر البصره و یقول- أنا الصدیق الأکبر آمنت قبل أن یؤمن أبو بکر- و أسلمت قبل أن یسلم- .

وروى حبه بن جوین العرنی أنه سمع علیا ع یقول أنا أول رجل أسلم‏مع رسول الله صرواه أبو داود الطیالسی عن شعبه عن سفیان الثوری عن سلمه بن کهیل عن حبه بن جوین وروى عثمان بن سعید الخراز عن علی بن حرار عن علی بن عامر عن أبی الحجاف عن حکیم مولى زاذان قال سمعت علیا ع یقول صلیت قبل الناس سبع سنین- و کنا نسجد و لا نرکع- و أول صلاه رکعنا فیها صلاه العصر- فقلت یا رسول الله ما هذا قال أمرت به وروى إسماعیل بن عمرو عن قیس بن الربیع عن عبد الله بن محمد بن عقیل عن جابر بن عبد الله- قال صلى رسول الله ص یوم الإثنین- و صلى علی یوم الثلاثاء بعدهو فی الروایه الأخرىعن أنس بن مالک استنبئ النبی ص یوم الإثنین- و أسلم علی یوم الثلاثاء بعدهوروى أبو رافع أن رسول الله ص- صلى أول صلاه صلاها غداه الإثنین- و صلت خدیجه آخر نهار یومها ذلک- و صلى علی ع یوم الثلاثاء غدا ذلک الیوم- .

قال و قد روی بروایات مختلفه کثیره متعدده- عن زید بن أرقم و سلمان الفارسی و جابر بن عبد الله- و أنس بن مالک أن علیا ع- أول من أسلم و ذکر الروایات و الرجال بأسمائهم- وروى سلمه بن کهیل عن رجاله الذین ذکرهم أبو جعفر فی الکتاب أن رسول الله- ص قال أولکم ورودا علی الحوض- أولکم إسلاما علی بن أبی طالبوروى یاسین بن محمد بن أیمن عن أبی حازم مولى ابن عباس عن ابن عباس‏قال سمعت عمر بن الخطاب و هو یقول کفوا عن علی بن أبی طالب فإنی سمعت من رسول الله ص یقول فیه خصالا- لو أن خصله منها فی جمیع آل الخطاب- کان أحب لی مما طلعت علیه الشمس- کنت ذات یوم و أبو بکر و عثمان و عبد الرحمن بن عوف- و أبو عبیده مع نفر من أصحاب رسول الله ص نطلبه- فانتهینا إلى باب أم سلمه- فوجدنا علیا متکئا على نجاف الباب- فقلنا أردنا رسول الله ص- فقال هو فی البیت رویدکم- فخرج رسول الله ص فسرنا حوله- فاتکأ على علی ع و ضرب بیده على منکبه- فقال أبشر یا علی بن أبی طالب إنک مخاصم- و إنک تخصم الناس بسبع لا یجاریک أحد فی واحده منهن- أنت أول الناس إسلاما و أعلمهم بأیام الله و ذکر الحدیث- .

قال و قد روى أبو سعید الخدری- عن النبی ص مثل هذا الحدیث- . قالروى أبو أیوب الأنصاری عن رسول الله ص أنه قال لقد صلت الملائکه علی و على علی ع سبع سنین- و ذلک أنه لم یصل معی رجل فیها غیرهقال أبو جعفر فأما ما رواه الجاحظ- منقوله ص إنما تبعنی حر و عبد- فإنه لم یسم فی هذا الحدیث أبا بکر و بلالا- و کیف و أبو بکر لم یشتر بلالا إلا بعد ظهور الإسلام بمکه- فلما أظهر بلال إسلامه عذبه أمیه بن خلف- و لم یکن ذلک حال إخفاء رسول الله ص الدعوه- و لا فی ابتداء أمر الإسلام- .

و قد قیل إنه ع إنما عنى بالحر- علی بن أبی طالب و بالعبد زید بن حارثه- . و روى ذلک محمد بن إسحاق- قال و قد روى إسماعیل بن نصر الصفار- عن محمد بن ذکوان عن الشعبی قال- قال الحجاج للحسن و عنده جماعه من التابعین- و ذکر علی بن أبی طالب ما تقول أنت یا حسن- فقال ما أقول هو أول من صلى إلى القبله- و أجاب دعوه رسول الله ص- و إن لعلی منزله من ربه و قرابه من رسوله- و قد سبقت له سوابق لا یستطیع ردها أحد- فغضب الحجاج غضبا شدیدا و قام عن سریره- فدخل بعض البیوت و أمر بصرفنا- . قال الشعبی و کنا جماعه- ما منا إلا من نال من علی ع مقاربه للحجاج- غیر الحسن بن أبی الحسن رحمه الله- .

و روى محرز بن هشام عن إبراهیم بن سلمه- عن محمد بن عبید الله قال- قال رجل للحسن ما لنا لا نراک تثنی على علی و تقرظه- قال کیف و سیف الحجاج یقطر دما- إنه لأول من أسلم و حسبکم بذلک- . قال فهذه الأخبار- . و أما الأشعار المرویه فمعروفه کثیره منتشره- فمنها قول عبد الله بن أبی سفیان بن الحارث- بن عبد المطلب مجیبا للولید بن عقبه بن أبی معیط-

و إن ولی الأمر بعد محمد
علی و فی کل المواطن صاحبه‏

وصی رسول الله حقا و صنوه‏
و أول من صلى و من لان جانبه‏

و قال خزیمه بن ثابت فی هذا-

وصی رسول الله من دون أهله
و فارسه مذ کان فی سالف الزمن‏

و أول من صلى من الناس کلهم‏
سوى خیره النسوان و الله ذو منن‏

و قال أبو سفیان بن حرب بن أمیه بن عبد شمس- حین بویع أبو بکر-

ما کنت أحسب أن الأمر منصرف
عن هاشم ثم منها عن أبی حسن‏

أ لیس أول من صلى لقبلتهم‏
و أعلم الناس بالأحکام و السنن‏

و قال أبو الأسود الدؤلی یهدد طلحه و الزبیر-

و إن علیا لکم مصحر
یماثله الأسد الأسود

أما إنه أول العابدین‏
بمکه و الله لا یعبد

و قال سعید بن قیس الهمدانی یرتجز بصفین-

هذا علی و ابن عم المصطفى
أول من أجابه فیما روى‏
هو الإمام لا یبالی من غوى‏

و قال زفر بن یزید بن حذیفه الأسدی-

فحوطوا علیا و انصروه فإنه
وصی و فی الإسلام أول أول‏

و إن تخذلوه و الحوادث جمه
فلیس لکم عن أرضکم متحول‏

قال و الأشعار کالأخبار- إذا امتنع فی مجی‏ء القبیلین التواطؤ و الاتفاق- کان ورودهما حجه فأما قول الجاحظ- فأوسط الأمور أن نجعل إسلامهما معا- فقد أبطل بهذا ما احتج به لإمامه أبی بکر- لأنه احتج بالسبق و قد عدل الآن عنه- . قال أبو جعفر و یقال لهم- لسنا نحتاج من ذکر سبق علی ع- إلا مجامعتکم إیانا على أنه أسلم قبل الناس- و دعواکم أنه أسلم و هو طفل دعوى غیر مقبوله لا بحجه- .

فإن قلتم و دعوتکم أنه أسلم- و هو بالغ دعوى غیر مقبوله إلا بحجه-قلنا قد ثبت إسلامه بحکم إقرارکم- و لو کان طفلا لکان فی الحقیقه غیر مسلم- لأن اسم الإیمان و الإسلام و الکفر- و الطاعه و المعصیه إنما یقع على البالغین- دون الأطفال و المجانین- و إذا أطلقتم و أطلقنا اسم الإسلام- فالأصل فی الإطلاق الحقیقه- کیف وقد قال النبی ص أنت أول من آمن بی- و أنت أول من صدقنیوقال لفاطمه زوجتک أقدمهم سلما أو قال إسلاما- فإن قالوا إنما دعاه النبی ص- إلى الإسلام على جهه العرض لا التکلیف- . قلنا قد وافقتمونا على الدعاء- و حکم الدعاء حکم الأمر و التکلیف- ثم ادعیتم أن ذلک کان على وجه العرض- و لیس لکم أن تقبلوا معنى الدعاء عن وجهه إلا لحجه- .

فإن قالوا لعله کان على وجه التأدیب و التعلیم- کما یعتمد مثل ذلک مع الأطفال- قلنا إن ذلک إنما یکون إذا تمکن الإسلام بأهله- أو عند النشوء علیه و الولاده فیه- فأما فی دار الشرک فلا یقع مثل ذلک- لا سیما إذا کان الإسلام غیر معروف و لا معتاد بینهم- على أنه لیس من سنه النبی ص- دعاء أطفال المشرکین إلى الإسلام- و التفریق بینهم و بین آبائهم قبل أن یبلغوا الحلم- .

و أیضا فمن شأن الطفل اتباع أهله و تقلید أبیه- و المضی على منشئه و مولده- و قد کانت منزله النبی ص حینئذ- منزله ضیق و شده و وحده- و هذه منازل لا ینتقل إلیها- إلا من ثبت الإسلام عنده بحجه- و دخل الیقین قلبه بعلم و معرفه- . فإن قالوا إن علیا ع- کان یألف النبی ص فوافقه على طریق المساعده له- قلنا إنه و إن کان یألفه- أکثر من أبویه و إخوته و عمومته و أهل بیته- و لم یکن الإلف لیخرجه عما نشأ علیه- و لم یکن الإسلام مما غذی به و کرر على سمعه-لأن الإسلام هو خلع الأنداد- و البراءه ممن أشرک بالله- و هذا لا یجتمع فی اعتقاد طفل- .

و من العجب قول العباس لعفیف بن قیس- ننتظر الشیخ و ما یصنع- فإذا کان العباس و حمزه ینتظران أبا طالب- و یصدران عن رأیه فکیف یخالفه ابنه- و یؤثر القله على الکثره- و یفارق المحبوب إلى المکروه و العز إلى الذل- و الأمن إلى الخوف- عن غیر معرفه و لا علم بما فیه- . فأما قوله إن المقلل یزعم- أنه أسلم و هو ابن خمس سنین- و المکثر یزعم أنه أسلم و هو ابن تسع سنین- فأول ما یقال فی ذلک- إن الأخبار جاءت فی سنه ع یوم أسلم- على خمسه أقسام فجعلناه فی قسمین- القسم الأول الذین قالوا- أسلم و هو ابن خمس عشره سنه- حدثنا بذلک أحمد بن سعید الأسدی- عن إسحاق بن بشر القرشی- عن الأوزاعی عن حمزه بن حبیب- عن شداد بن أوس قال- سألت خباب بن الأرت عن إسلام علی- فقال أسلم و هو ابن خمس عشره سنه- و لقد رأیته یصلی قبل الناس مع النبی ص- و هو یومئذ بالغ مستحکم البلوغ- و روى عبد الرزاق عن معمر عن قتاده عن الحسن- أن أول من أسلم علی بن أبی طالب- و هو ابن خمس عشره سنه- . القسم الثانی الذین قالوا- إنه أسلم و هو ابن أربع عشره سنه- رواه أبو قتاده الحرانی عن أبی حازم الأعرج- عن حذیفه بن الیمان قال- کنا نعبد الحجاره و نشرب الخمر- و علی من أبناء أربع عشره سنه- قائم یصلی مع النبی ص لیلا و نهارا- و قریش یومئذ تسافه رسول الله ص- ما یذب عنه إلا علی‏ع- و روى ابن أبی شیبه عن جریر بن عبد الحمید قال- أسلم علی و هو ابن أربع عشره سنه- . القسم الثالث الذین قالوا- أسلم و هو ابن إحدى عشره سنه-رواه إسماعیل بن عبد الله الرقی عن محمد بن عمر عن عبد الله بن سمعان- عن جعفر بن محمد ع عن أبیه عن محمد بن علی ع أن علیا حین أسلم کان ابن إحدى عشره سنهوروى عبد الله بن زیاد المدنی عن محمد بن علی الباقر ع قال أول من آمن بالله علی بن أبی طالب- و هو ابن إحدى عشره سنه- و هاجر إلى المدینه و هو ابن أربعه و عشرین سنه- .

القسم الرابع الذین قالوا- إنه أسلم و هو ابن عشر سنین- رواه نوح بن دراج عن محمد بن إسحاق- قال أول ذکر آمن و صدق بالنبوه علی بن أبی طالب ع- و هو ابن عشر سنین- ثم أسلم زید بن حارثه- ثم أسلم أبو بکر و هو ابن ست و ثلاثین سنه فیما بلغنا- . القسم الخامس الذین قالوا- إنه أسلم و هو ابن تسع سنین- رواه الحسن بن عنبسه الوراق عن سلیم مولى الشعبی- عن الشعبی قال أول من أسلم من الرجال- علی بن أبی طالب و هو ابن تسع سنین- و کان له یوم قبض رسول الله ص تسع و عشرون سنه- .

قال شیخنا أبو جعفر فهذه الأخبار کما تراها- فإما أن یکون الجاحظ جهلها أو قصد العناد- . فأما قوله فالقیاس أن نأخذ- بأوسط الأمرین من الروایتین- فنقول إنه أسلم و هو ابن سبع سنین- فإن هذا تحکم منه- و یلزمه مثله فی رجل ادعى قبل رجل عشرهدراهم- فأنکر ذلک و قال- إنما یستحق قبلی أربعه دراهم- فینبغی أن نأخذ الأمر المتوسط و یلزمه سبعه دراهم- و یلزمه فی أبی بکر حیث قال قوم کان کافرا- و قال قوم کان إماما عادلا أن نقول- أعدل الأقاویل أوسطها و هو منزله بین المنزلتین- فنقول کان فاسقا ظالما- و کذلک فی جمیع الأمور المختلف فیها- . فأما قوله و إنما یعرف حق ذلک من باطله- بأن نحصی سنی ولایه عثمان و عمر- و أبی بکر و سنی الهجره- و مقام النبی ص بمکه بعد الرساله إلى أن هاجر- فیقال له لو کانت الروایات متفقه- على هذه التاریخات لکان لهذا القول مساغ- و لکن الناس قد اختلفوا فی ذلک- فقیل إن رسول الله ص أقام بمکه- بعد الرساله خمس عشره سنه- رواه ابن عباس و قیل ثلاث عشره سنه- و روی عن ابن عباس أیضا و أکثر الناس یرونه- و قیل عشر سنین رواه عره بن الزبیر- و هو قول الحسن البصری و سعید بن المسیب- و اختلفوا فی سن رسول الله ص فقال قوم- کان ابن خمس و ستین- و قیل کان ابن ثلاث و ستین- و قیل کان ابن ستین- و اختلفوا فی سن علی ع- فقیل کان ابن سبع و ستین- و قیل کان ابن خمس و ستین- و قیل ابن ثلاث و ستین و قیل ابن ستین- و قیل ابن تسع و خمسین- .

فکیف یمکن مع هذه الاختلافات تحقیق هذه الحال- و إنما الواجب أن یرجع إلى إطلاق قولهم أسلم علی- فإن هذا الاسم لا یکون مطلقا إلا على البالغ- کما لا یطلق اسم الکافر إلا على البالغ- على أن ابن إحدى عشره سنه یکون بالغا- و یولد له الأولاد- فقد روت الرواه أن عمرو بن العاص- لم یکن أسن من ابنه عبد الله‏إلا باثنتی عشره سنه- و هذا یوجب أنه احتلم و بلغ- فی أقل من إحدى عشره سنه- .

و روی أیضا أن محمد بن عبد الله بن العباس- کان أصغر من أبیه علی بن عبد الله بن العباس- بإحدى عشره سنه- فیلزم الجاحظ أن یکون عبد الله بن العباس- حین مات رسول الله ص غیر مسلم على الحقیقه- و لا مثاب و لا مطیع بالإسلام- لأنه کان یومئذ ابن عشر سنین- رواه هشیم عن سعید بن جبیر عن ابن عباس- قال توفی رسول الله ص و أنا ابن عشر سنین- . قال الجاحظ فإن قالوا- فلعله و هو ابن سبع سنین أو ثمانی سنین- قد بلغ من فطنته و ذکائه- و صحه لبه و صدق حدسه- و انکشاف العواقب له- و إن لم یکن جرب الأمور و لا فاتح الرجال- و لا نازع الخصوم- ما یعرف به جمیع ما یحب على البالغ معرفته و الإقرار به- قیل لهم إنما نتکلم على ظواهر الأحوال- و ما شاهدنا علیه طبائع الأطفال- فإنا وجدنا حکم ابن سبع سنین أو ثمان- ما لم یعلم باطن أمره و خاصه طبعه حکم الأطفال- و لیس لنا أن نزیل ظاهر حکمه- و الذی نعرف من حال أفناء جنسه بلعل و عسى- لأنا و إن کنا لا ندری- لعله قد کان ذا فضیله فی الفطنه- فلعله قد کان ذا نقص فیها- .

هذا على تجویز أن یکون علی ع فی الغیب- قد أسلم و هو ابن سبع أو ثمان إسلام البالغ- غیر أن الحکم على مجرى أمثاله و أشکاله- الذین أسلموا و هم فی مثل سنه- إذ کان إسلام هؤلاء عن تربیه الحاضن- و تلقین القیم و ریاضه السائس- .

فأما عند التحقیق فإنه لا تجویز لمثل ذلک- لأنه لو کان أسلم و هو ابن سبع‏أو ثمان- و عرف فضل ما بین الأنبیاء و الکهنه- و فرق ما بین الرسل و السحره- و فرق ما بین خبر النبی و المنجم- و حتى عرف کید الأریب و موضع الحجه- و بعد غور المتنبئ کیف یلبس على العقلاء- و تستمال عقول الدهماء- و عرف الممکن فی الطبع من الممتنع- و ما یحدث بالاتفاق مما یحدث بالأسباب- و عرف قدر القوى و غایه الحیله- و منتهى التمویه و الخدیعه- و ما لا یحتمل أن یحدثه إلا الخالق سبحانه- و ما یجوز على الله فی حکمته مما لا یجوز- و کیف التحفظ من الهوى و الاحتراس من الخداع- لکان کونه على هذه الحال و هذه مع فرط الصبا و الحداثه- و قله التجارب و الممارسه خروجا من العاده- و من المعروف مما علیه ترکیب هذه الخلقه- و لیس یصل أحد إلى معرفه نبی و کذب متنبئ- حتى یجتمع فیه هذه المعارف التی ذکرناها- و الأسباب التی وصفناها و فصلناها- و لو کان علی ع على هذه الصفه- و معه هذه الخاصیه لکان حجه على العامه- و آیه تدل على النبوه- و لم یکن الله عز و جل لیخصه بمثل هذه الأعجوبه- إلا و هو یرید أن یحتج بها- و یجعلها قاطعه لعذر الشاهد و حجه على الغائب- و لو لا أن الله أخبر عن یحیى بن زکریا- أنه آتاه الحکم صبیا- و أنه أنطق عیسى فی المهد- ما کانا فی الحکم و لا فی المغیب- إلا کسائر الرسل و ما علیه جمیع البشر- فإذا لم ینطق لعلی ع بذلک قرآن- و لا جاء الخبر به مجی‏ء الحجه القاطعه- و المشاهده القائمه- فالمعلوم عندنا فی الحکم أن طباعه- کطباع عمیه حمزه و العباس- و هما أمس بمعدن جماع الخیر منه- أو کطباع جعفر و عقیل من رجال قومه و ساده رهطه- و لو أن إنسانا ادعى مثل ذلک- لأخیه جعفر أو لعمیه حمزه و العباس- ما کان عندنا فی أمره إلا مثل ما عندنا فیه أجاب شیخنا أبو جعفر رحمه الله فقال- هذا کله مبنی على أنه أسلم و هو ابن سبع أو ثمان-

و نحن قد بینا أنه أسلم بالغا ابن خمس عشره سنه- أو ابن أربع عشره سنه- علىأنا لو نزلنا على حکم الخصوم- و قلنا ما هو الأشهر و الأکثر من الروایه- و هو أنه أسلم و هو ابن عشر لم یلزم ما قاله الجاحظ- لأن ابن عشر قد یستجمع عقله- و یعلم من مبادئ المعارف- ما یستخرج به کثیرا من الأمور المعقوله- و متى کان الصبی عاقلا ممیزا کان مکلفا بالعقلیات- و إن کان تکلیفه بالشرعیات- موقوفا على حد آخر و غایه أخرى- فلیس بمنکر أن یکون علی ع- و هو ابن عشر قد عقل المعجزه- فلزمه الإقرار بالنبوه و أسلم إسلام عالم عارف- لا إسلام مقلد تابع- و إن کان ما نسقه الجاحظ و عدده- من معرفه السحر و النجوم- و الفصل بینهما و بین النبوه- و معرفه ما یجوز فی الحکمه مما لا یجوز- و ما لا یحدثه إلا الخالق- و الفرق بینه و بین ما یقدر علیه القادرون بالقدره- و معرفه التمویه و الخدیعه و التلبیس و المماکره- شرطا فی صحه الإسلام- لما صح إسلام أبی بکر و لا عمر و لا غیرهما من العرب-

و إنما التکلیف لهؤلاء بالجمل- و مبادئ المعارف لا بدقائقها و الغامض منها- و لیس یفتقر الإسلام إلى أن یکون المسلم- قد فاتح الرجال و جرب الأمور و نازع الخصوم- و إنما یفتقر إلى صحه الغریزه- و کمال العقل و سلامه الفطره- أ لا ترى أن طفلا لو نشأ فی دار- لم یعاشر الناس بها و لا فاتح الرجال- و لا نازع الخصوم ثم کمل عقله- و حصلت العلوم البدیهیه عنده لکان مکلفا بالعقلیات- .

فأما توهمه أن علیا ع أسلم عن تربیه الحاضن- و تلقین القیم و ریاضه السائس- فلعمری إن محمدا ص کان حاضنه و قیمه و سائسه- و لکن لم یکن منقطعا عن أبیه أبی طالب- و لا عن إخوته طالب و عقیل و جعفر- و لا عن عمومته و أهل بیته- و ما زال مخالطا لهم ممتزجا بهم مع خدمته لمحمد ص- فما باله لم یمل إلى الشرک و عباده الأصنام- لمخالطته إخوته و أباه و عمومته و أهله- و هم کثیر و محمد ص واحد- و أنت تعلم أن الصبی إذا کان له أهل ذوو کثره- و فیهم واحد یذهب إلى رأی مفرد- لا یوافقه علیه غیره منهم- فإنه إلى ذوی الکثره أمیل- و عن ذی الرأی الشاذ المنفرد أبعد- و على أن علیا ع لم یولد فی دار الإسلام-

و إنما ولد فی دار الشرک و ربی بین المشرکین- و شاهد الأصنام و عاین بعینه أهله و رهطه یعبدونها- فلو کان فی دار الإسلام لکان فی القول مجال- و لقیل إنه ولد بین المسلمین- فإسلامه عن تلقین الظئر و عن سماع کلمه الإسلام- و مشاهده شعاره لأنه لم یسمع غیره- و لا خطر بباله سواه فلما لم یکن ولد کذلک- ثبت أن إسلامه إسلام الممیز العارف بما دخل علیه- و لو لا أنه کذلک لما مدحه رسول الله ص بذلک- و لا أرضى ابنته فاطمه لما وجدت من تزویجه- بقوله لها زوجتک أقدمهم سلما- و لا قرن إلى قوله- و أکثرهم علما و أعظمهم حلما- و الحلم العقل و هذان الأمران غایه الفضل- فلو لا أنه أسلم إسلام عارف عالم ممیز- لما ضم إسلامه إلى العلم و الحلم- اللذین وصفه بهما- و کیف یجوز أن یمدحه بأمر لم یکن مثابا علیه- و لا معاقبا به لو ترکه- و لو کان إسلامه عن تلقین و تربیه- لما افتخر هو ع به على رءوس الأشهاد- و لا خطب على المنبر و هو بین عدو و محارب- و خاذل منافق فقال- أنا عبد الله و أخو رسوله و أنا الصدیق الأکبر- و الفاروق الأعظم- صلیت قبل الناس سبع سنین- و أسلمت قبل إسلام أبی بکر و آمنت قبل إیمانه- فهل بلغکم أن أحدا من أهل ذلک العصر- أنکر ذلک أو عابه أو ادعاه لغیره- أو قال له إنما کنت طفلا أسلمت على تربیه محمد ص ذلک- و تلقینه إیاک- کما یعلم الطفل الفارسیه و الترکیه منذ یکون رضیعا- فلا فخر له فی تعلم ذلک- و خصوصا فی عصر قد حارب فیه- أهل البصره و الشام و النهروان- و قد اعتورته الأعداء و هجته الشعراء- فقال فیه النعمان بن بشیر-

لقد طلب الخلافه من بعید
و سارع فی الضلال أبو تراب‏

معاویه الإمام و أنت منها
على وتح بمنقطع السراب‏

و قال فیه أیضا بعض الخوارج-

دسسنا له تحت الظلام ابن ملجم
جزاء إذا ما جاء نفسا کتابها

أبا حسن خذها على الرأس ضربه
بکف کریم بعد موت ثوابها

و قال عمران بن حطان یمدح قاتله-

یا ضربه من تقی ما أراد بها
إلا لیبلغ من ذی العرش رضوانا

إنی لأذکره حینا فأحسبه‏
أوفى البریه عند الله میزانا

فلو وجد هؤلاء سبیلا إلى دحض حجه- فیما کان یفخر به من تقدم إسلامه- لبدءوا بذلک و ترکوا ما لا معنى له- . و قد أوردنا ما مدحه الشعراء به من سبقه إلى الإسلام- فکیف لم یرد على هؤلاء الذین مدحوه بالسبق- شاعر واحد من أهل حربه- و لقد قال فی أمهات الأولاد- قولا خالف فیه عمر فذکروه بذلک و عابوه- فکیف ترکوا أن یعیبوه- بما کان یفتخر به مما لا فخر فیه عندهم- و عابوه بقوله فی أمهات الأولاد- .

ثم یقال له خبرنا عن عبد الله بن عمر- و قد أجازه النبی ص یوم الخندق- و لم یجزه یوم أحد- هل کان یمیز ما ذکرته- و هل کان یعلم فرق ما بین النبی و المتنبئ- و یفصل بین السحر و المعجزه- إلى غیره مما عددت و فصلت- . فإن قال نعم و تجاسر على ذلک- قیل له فعلی ع بذلک أولى من ابن عمر- لأنه أذکى و أفطن بلا خلاف بین العقلاء- و أنى یشک فی ذلک- و قد رویتم أنه‏ لم یمیز بین المیزان و العود- بعد طول السن و کثره التجارب- و لم یمیز أیضا بین إمام الرشد و إمام الغی- فإنه امتنع من بیعه علی ع- و طرق على الحجاج بابه لیلا لیبایع لعبد الملک- کیلا یبیت تلک اللیله بلا إمام زعم- لأنه روی عن النبی ص أنه قال- من مات و لا إمام له مات میته جاهلیه- و حتى بلغ من احتقار الحجاج له و استرذاله حاله- أن أخرج رجله من الفراش فقال- أصفق بیدک علیها- فذلک تمییزه بین المیزان و العود- و هذا اختیاره فی الأئمه- و حال علی ع فی ذکائه و فطنته- و توقد حسه و صدق حدسه- معلومه مشهوره- فإذا جاز أن یصح إسلام ابن عمر- و یقال عنه إنه عرف تلک الأمور- التی سردها الجاحظ و نسقها- و أظهر فصاحته و تشدقه فیها- فعلی بمعرفه ذلک أحق و بصحه إسلامه أولى- .

و إن قال لم یکن ابن عمر یعلم و یعرف ذلک- فقد أبطل إسلامه و طعن فی رسول الله ص- حیث حکم بصحه إسلامه و أجازه یوم الخندق- لأنه ع کان قال لا أجیز إلا البالغ العاقل- و لذلک لم یجزه یوم أحد- . ثم یقال له إن ما نقوله فی بلوغ علی ع- الحد الذی یحسن فیه التکلیف العقلی بل یجب- و هو ابن عشر سنین- لیس بأعجب من مجی‏ء الولد لسته أشهر- و قد صحح ذلک أهل العلم و استنبطوه من الکتاب- و إن کان خارجا من التعارف و التجارب و العاده- و کذلک مجی‏ء الولد لسنتین- خارج أیضا عن التعارف و العاده- و قد صححه الفقهاء و الناس- .

و یروى أن معاذا لما نهى عمر عن رجم الحامل- ترکها حتى ولدت غلاما قد نبتت ثنیتاه- فقال أبوه ابنی و رب الکعبه- فثبت ذلک سنه یعمل بها الفقهاء- و قد وجدنا العاده تقضی- بأن الجاریه تحیض لاثنتی عشره سنه- و أنه أقل سن تحیض فیه المرأه- و قدیکون فی الأقل نساء یحضن لعشر و لتسع- و قد ذکر ذلک الفقهاء و قد قال الشافعی فی اللعان- لو جاءت المرأه بحمل و زوجها صبی- له دون عشر سنین لم یکن ولدا له- لأن من لم یبلغ عشر سنین من الصبیان لا یولد له- و إن کان له عشر سنین جاز أن یکون الولد له- و کان بینهما لعان إذا لم یقر به- .

و قال الفقهاء أیضا إن نساء تهامه- یحضن لتسع سنین لشده الحر ببلادهن- . قال الجاحظ و لو لم یعرف باطل هذه الدعوى- من آثر التقوى و تحفظ من الهوى- إلا بترک علی ع ذکر ذلک لنفسه- و الاحتجاج به على خصمه- و قد نازع الرجال و ناوى الأکفاء- و جامع أهل الشورى لکان کافیا- و متى لم تصح لعلی ع هذه الدعوى فی أیامه- و لم یذکرها أهل عصره- فهی عن ولده أعجز و منهم أضعف- .

و لم ینقل أن علیا ع احتج بذلک فی موقف- و لا ذکره فی مجلس و لا قام به خطیبا- و لا أدلى به واثقا- لا سیما و قد رضیه الرسول ص عندکم مفزعا و معلما- و جعله للناس إماما- و لا ادعى له أحد ذلک فی عصره- کما لم یدعه لنفسه حتى یقول إنسان واحد- الدلیل على إمامته أن النبی ص دعاه إلى الإسلام- أو کلفه التصدیق قبل بلوغه- لیکون ذلک آیه للناس فی عصره- و حجه له و لولده من بعده- فهذا کان أشد على طلحه و الزبیر و عائشه- من کل ما ادعاه من فضائله و سوابقه و ذکر قرابته- .

قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- إن مثل الجاحظ مع فضله و علمه- لا یخفى علیه کذب‏ هذه الدعوى و فسادها- و لکنه یقول ما یقوله تعصبا و عنادا- و قد روى الناس کافه افتخار علی ع بالسبق إلى الإسلام- و أن النبی ص استنبئ یوم الإثنین- و أسلم علی یوم الثلاثاء- و أنه کان یقول صلیت قبل الناس سبع سنین- و أنه ما زال یقول أنا أول من أسلم- و یفتخر بذلک و یفتخر له به أولیاؤه- و مادحوه و شیعته فی عصره و بعد وفاته- و الأمر فی ذلک أشهر من کل شهیر- و قد قدمنا منه طرفا- و ما علمنا أحدا من الناس فیما خلا- استخف بإسلام علی ع و لا تهاون به- و لا زعم أنه أسلم إسلام حدث غریر و طفل صغیر- و من العجب أن یکون مثل العباس و حمزه- ینتظران أبا طالب و فعله لیصدرا عن رأیه- ثم یخالفه علی ابنه لغیر رغبه و لا رهبه- یؤثر القله على الکثره و الذل على العزه- من غیر علم و لا معرفه بالعاقبه و کیف ینکر الجاحظ و العثمانیه- أن رسول الله ص دعاه إلى الإسلام و کلفه التصدیق- .

و قد روی فی الخبر الصحیح- أنه کلفه فی مبدإ الدعوه قبل ظهور کلمه الإسلام- و انتشارها بمکه أن یصنع له طعاما- و أن یدعو له بنی عبد المطلب- فصنع له الطعام- و دعاهم له فخرجوا ذلک الیوم- و لم ینذرهم ص لکلمه قالها عمه أبو لهب- فکلفه فی الیوم الثانی أن یصنع مثل ذلک الطعام- و أن یدعوهم ثانیه فصنعه و دعاهم فأکلوا- ثم کلمهم ص فدعاهم إلى الدین- و دعاه معهم لأنه من بنی عبد المطلب- ثم ضمن لمن یوازره منهم و ینصره على قوله- أن یجعله أخاه فی الدین- و وصیه بعد موته و خلیفته من بعده- فأمسکوا کلهم و أجابه هو وحده و قال- أنا أنصرک على ما جئت به و أوازرک و أبایعک- فقال لهم لما رأى منهم الخذلان و منه النصر- و شاهد منهم المعصیه و منه الطاعه- و عاین منهم الإباء و منه الإجابه- هذا أخی و وصیی و خلیفتی من بعدی- فقاموا یسخرون و یضحکون- و یقولون لأبی طالب أطع ابنک فقد أمره علیک- فهل یکلف عمل‏الطعام و دعاء القوم- صغیر ممیز و غر غیر عاقل- و هل یؤتمن على سر النبوه طفل ابن خمس سنین أو ابن سبع- و هل یدعى فی جمله الشیوخ و الکهول إلا عاقل لبیب- و هل یضع رسول الله ص یده فی یده- و یعطیه صفقه یمینه بالأخوه و الوصیه و الخلافه- إلا و هو أهل لذلک بالغ حد التکلیف- محتمل لولایه الله و عداوه أعدائه- و ما بال هذا الطفل لم یأنس بأقرانه- و لم یلصق بأشکاله- و لم یر مع الصبیان فی ملاعبهم بعد إسلامه- و هو کأحدهم فی طبقته کبعضهم فی معرفته- .

و کیف لم ینزع إلیهم فی ساعه من ساعاته- فیقال دعاه داعی الصبا و خاطر من خواطر الدنیا- و حملته الغره و الحداثه- على حضور لهوهم و الدخول فی حالهم- بل ما رأیناه إلا ماضیا على إسلامه- مصمما فی أمره محققا لقوله بفعله- قد صدق إسلامه بعفافه و زهده- و لصق برسول الله ص من بین جمیع من بحضرته- فهو أمینه و ألیفه فی دنیاه و آخرته- و قد قهر شهوته و جاذب خواطره- صابرا على ذلک نفسه- لما یرجو من فوز العاقبه و ثواب الآخره- و قد ذکر هو ع فی کلامه و خطبه- بدء حاله و افتتاح أمره- حیث أسلم لما دعا رسول الله ص الشجره- فأقبلت تخد الأرض فقالت قریش- ساحر خفیف السحر فقال علی ع یا رسول الله- أنا أول من یؤمن بک آمنت بالله و رسوله- و صدقتک فیما جئت به- و أنا أشهد أن الشجره فعلت ما فعلت- بأمر الله تصدیقا لنبوتک- و برهانا على صحه دعوتک- فهل یکون إیمان قط أصح من هذا الإیمان- و أوثق عقده و أحکم مره- و لکن حنق العثمانیه و غیظهم- و عصبیه الجاحظ و انحرافه مما لا حیله فیه- ثم لینظر المنصف و لیدع الهوى جانبا- لیعلم نعمه الله على علی ع بالإسلام- حیث أسلم على الوضع الذی أسلم علیه-

فإنه لو لا الألطاف التی خص بها- و الهدایه التی منحها- لما کان إلا کبعض أقارب محمد ص و أهله- فقد کان ممازجا له کممازجته- و مخالطا له کمخالطه کثیر من أهله و رهطه- و لم یستجب منهم‏أحد له إلا بعد حین- و منهم من لم یستجب له أصلا- فإن جعفرا ع کان ملتصقا به- و لم یسلم حینئذ- و کان عتبه بن أبی لهب ابن عمه- و صهره زوج ابنته و لم یصدقه- بل کان شدیدا علیه- و کان لخدیجه بنون من غیره- و لم یسلموا حینئذ و هم ربائبه و معه فی دار واحده- و کان أبو طالب أباه فی الحقیقه- و کافله و ناصره و المحامی عنه- و من لولاه لم تقم له قائمه- و مع ذلک لم یسلم فی أغلب الروایات- و کان العباس عمه و صنو أبیه- و کالقرین له فی الولاده و المنشإ و التربیه- و لم یستجب له إلا بعد حین طویل- و کان أبو لهب عمه و کدمه و لحمه- و لم یسلم و کان شدیدا علیه- فکیف ینسب إسلام علی ع إلى الإلف و التربیه- و القرابه و اللحمه و التلقین و الحضانه- و الدار الجامعه و طول العشره و الأنس و الخلوه- و قد کان کل ذلک حاصلا لهؤلاء أو لکثیر منهم- و لم یهتد أحد منهم إذ ذاک- بل کانوا بین من جحد و کفر- و مات على کفره و من أبطأ و تأخر- و سبق بالإسلام و جاء سکیتا و قد فاز بالمنزله غیره- .

و هل یدل تأمل حال علی ع مع الإنصاف إلا على أنه أسلم- لأنه شاهد الأعلام و رأى المعجزات- و شم ریح النبوه و رأى نور الرساله- و ثبت الیقین فی قلبه بمعرفه- و علم و نظر صحیح لا بتقلید و لا حمیه- و لا رغبه و لا رهبه إلا فیما یتعلق بأمور الآخره- . قال الجاحظ فلو أن علیا ع کان بالغا حیث أسلم- لکان إسلام أبی بکر و زید بن حارثه- و خباب بن الأرت أفضل من إسلامه- لأن إسلام المقتضب الذی لم یعتد به و لم یعوده- و لم یمرن علیه أفضل من إسلام الناشئ الذی ربی فیه- و نشأ و حبب‏إلیه- و ذلک لأن صاحب التربیه یبلغ حیث یبلغ- و قد أسقط إلفه عنه مؤنه الرویه و الخاطر- و کفاه علاج القلب و اضطراب النفس- و زید و خباب و أبو بکر یعانون من کلفه النظر- و مؤنه التأمل و مشقه الانتقال- من الدین الذی قد طال إلفهم له ما هو غیر خاف- و لو کان علی حیث أسلم بالغا مقتضبا کغیره ممن عددنا- کان إسلامهم أفضل من إسلامه- لأن من أسلم و هو یعلم أن له ظهرا کأبی طالب- و ردءا کبنی هاشم و موضعا فی بنی عبد المطلب- لیس کالحلیف و المولى و التابع و العسیف- و کالرجل من عرض قریش- أ و لست تعلم أن قریشا خاصه و أهل مکه عامه- لم یقدروا على أذى النبی ص- ما کان أبو طالب حیا- و أیضا فإن أولئک اجتمع علیهم مع فراق الإلف مشقه الخواطر- و علی ع کان بحضره رسول الله ص- یشاهد الأعلام فی کل وقت- و یحضر منزل الوحی- فالبراهین له أشد انکشافا- و الخواطر على قلبه أقل اعتلاجا- و على قدر الکلفه و المشقه یعظم الفضل و یکثر الأجر- .

قال أبو جعفر رحمه الله- ینبغی أن ینظر أهل الإنصاف هذا الفصل- و یقفوا على قول الجاحظ و الأصم فی نصره العثمانیه- و اجتهادهما فی القصد إلى فضائل هذا الرجل و تهجینها- فمره یبطلان معناها- و مره یتوصلان إلى حط قدرها- فلینظر فی کل باب اعترضا فیه- أین بلغت حیلتهما- و ما صنعا فی احتیالهما فی قصصهما و سجعهما- أ لیس إذا تأملتها علمت أنها ألفاظ ملفقه بلا معنى- و أنها علیها شجى و بلاء- و إلا فما عسى أن تبلغ حیله الحاسد و یغنی کید الکائد الشانئ- لمن قد جل قدره عن النقص و أضاءت فضائله إضاءه الشمس- و أین قول الجاحظ من دلائل السماء- و براهین الأنبیاء- و قد علم‏الصغیر و الکبیر و العالم و الجاهل- ممن بلغه ذکر علی ع- و علم مبعث النبی ص- أن علیا ع لم یولد فی دار الإسلام- و لا غذی فی حجر الإیمان-

و إنما استضافه رسول الله ص- إلى نفسه سنه القحط و المجاعه- و عمره یومئذ ثمانی سنین- فمکث معه سبع سنین حتى أتاه جبرئیل بالرساله- فدعاه و هو بالغ کامل العقل إلى الإسلام- فأسلم بعد مشاهده المعجزه و بعد إعمال النظر و الفکره- و إن کان قد ورد فی کلامه- أنه صلى سبع سنین قبل الناس کلهم- فإنما یعنی ما بین الثمان و الخمس عشره- و لم یکن حینئذ دعوه و لا رساله و لا ادعاء نبوه-

و إنما کان رسول الله ص- یتعبد على مله إبراهیم و دین الحنیفیه- و یتحنث و یجانب الناس- و یعتزل و یطلب الخلوه و ینقطع فی جبل حراء- و کان علی ع معه کالتابع و التلمیذ- فلما بلغ الحلم- و جاءت النبی ص الملائکه و بشرته بالرساله- دعاه فأجابه عن نظر و معرفه بالأعلام المعجزه- فکیف یقول الجاحظ إن إسلامه لم یکن مقتضبا- . و إن کان إسلامه ینقص عن إسلام غیره فی الفضیله- لما کان یمرن علیه من التعبد- مع رسول الله ص قبل الدعوه- لتکونن طاعه کثیر من المکلفین- أفضل من طاعه رسول الله ص و أمثاله من المعصومین- لأن العصمه عند أهل العدل- لطف یمنع من اختص به من ارتکاب القبیح- فمن اختص بذلک اللطف کانت الطاعه علیه أسهل- فوجب أن یکون ثوابه أنقص- من ثواب من أطاع مع تلک الألطاف- .

و کیف یقول الجاحظ إن إسلامه ناقص عن إسلام غیره- و قد جاء فی الخبر أنه أسلم یوم الثلاثاء- و استنبئ النبی ص یوم الإثنین- فمن هذه حاله لم تکثر حجج الرساله على سمعه- و لا تواترت أعلام النبوه على مشاهدته- و لا تطاول الوقت علیه لتخف محنته و یسقط ثقل تکلیفه- بل بان فضله و ظهر حسن اختیاره لنفسه- إذ أسلم فی حال بلوغه و عانى نوازع طبعه- و لم یؤخر ذلک بعد سماعه- .

و قد غمر الجاحظ فی کتابه هذا- أن أبا بکر کان قبل إسلامه مذکورا- و رئیسا معروفا- یجتمع إلیه کثیر من أهل مکه فینشدون الأشعار- و یتذاکرون الأخبار و یشربون الخمر- و قد کان سمع دلائل النبوه و حجج الرسل- و سافر إلى البلدان و وصلت إلیه الأخبار- و عرف دعوى الکهنه و حیل السحره- و من کان کذلک کان انکشاف الأمور له أظهر- و الإسلام علیه أسهل- و الخواطر على قلبه أقل اعتلاجا- و کل ذلک عون لأبی بکر على الإسلام و مسهل إلیه سبیله- و لذلک لما قال النبی ص أتیت بیت المقدس-

سأله أبو بکر عن المسجد و مواضعه فصدقه و بان له أمره- و خفت مئونته لما تقدم من معرفته بالبیت- فخرج إذا إسلام أبی بکر على قول الجاحظ- من معنى المقتضب- و فی ذلک رویتم عنه ص- أنه قال ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا و کان له تردد و نبوه- إلا ما کان من أبی بکر فإنه لم یتلعثم حتى هجم به الیقین إلى المعرفه و الإسلام- فأین هذا و إسلام من خلی و عقله و ألجئ إلى نظره- مع صغر سنه و اعتلاج الخواطر على قلبه و نشأته- فی ضد ما دخل فیه- و الغالب على أمثاله و أقرانه حب اللعب و اللهو- فلجأ إلى ما ظهر له من دلائل الدعوه- و لم یتأخر إسلامه فیلزمه التقصیر بالمعصیه- فقهر شهوته و غالب خواطره-

و خرج من عادته و ما کان غذی به- لصحه نظره و لطافه فکره و غامض فهمه- فعظم استنباطه و رجح فضله و شرف قدر إسلامه- و لم یأخذ من الدنیا بنصیب- و لا تنعم فیها بنعیم حدثا و لا کبیرا- و حمى نفسه عن الهوى و کسر شره حداثته بالتقوى- و اشتغل بهم الدین عن نعیم الدنیا- و أشغل هم الآخره قلبه و وجه إلیه رغبته- فإسلامه هو السبیل الذی لم یسلم علیه أحد غیره- و ما سبیله فی ذلک إلا کسبیل الأنبیاء- لیعلم أن منزلته من النبی ص کمنزله هارون من موسى- و أنه و إن لم یکن نبیا فقد کان فی سبیل الأنبیاء سالکا- و لمنهاجهم متبعا- و کانت حاله کحال إبراهیم ع- فإن‏أهل العلم ذکروا أنه لما کان صغیرا- جعلته أمه فی سرب لم یطلع علیه أحد- فلما نشأ و درج و عقل قال لأمه من ربی قالت أبوک- قال فمن رب أبی فزبرته و نهرته- إلى أن طلع من شق السرب- فرأى کوکبا فقال هذا ربی- فلما أفل قال لا أحب الآفلین- فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربی- فلما أفل قال لئن لم یهدنی ربی لأکونن من القوم الضالین- فلما رأى الشمس بازغه قال هذا ربی هذا أکبر- فلما أفلت قال یا قوم إنی بری‏ء مما تشرکون- إنی وجهت وجهی للذی فطر السموات و الأرض حنیفا- و ما أنا من المشرکین- و فی ذلک یقول الله جل ثناؤه- وَ کَذلِکَ نُرِی إِبْراهِیمَ مَلَکُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ- وَ لِیَکُونَ مِنَ الْمُوقِنِینَ و على هذا کان إسلام الصدیق الأکبر ع- لسنا نقول إنه کان مساویا له فی الفضیله- و لکن کان مقتدیا بطریقه على ما قال الله تعالى- إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِیمَ لَلَّذِینَ اتَّبَعُوهُ- وَ هذَا النَّبِیُّ وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِیُّ الْمُؤْمِنِینَ-

و أما اعتلال الجاحظ- بأن له ظهرا کأبی طالب و ردءا کبنی هاشم- فإنه یوجب علیه أن تکون محنه أبی بکر و بلال- و ثوابهما و فضل إسلامهما أعظم مما لرسول الله ص- لأن أبا طالب ظهره و بنی هاشم ردؤه- و حسبک جهلا من معاند لم یستطع حط قدر علی ع- إلا بحطه من قدر رسول الله ص- و لم یکن أحد أشد على رسول الله ص من قراباته- الأدنى منهم فالأدنى- کأبی لهب عمه و امرأه أبی لهب- و هی أم جمیل بنت حرب بن أمیه و إحدى أولاد عبد مناف- ثم ما کان من عقبه بن أبی معیط و هو ابن عمه- و ما کان من النضر بن الحارث- و هو من بنی عبد الدار بن قصی و هو ابن عمه أیضا- و غیر هؤلاء ممن یطول تعداده- و کلهم کان یطرح الأذى فی طریقه و ینقل أخباره- و یرمیه بالحجاره و یرمی الکرش‏و الفرث علیه- و کانوا یؤذون علیا ع کأذاه-

و یجتهدون فی غمه و یستهزءون به- و ما کان لأبی بکر قرابه تؤذیه کقرابه علی- و لما کان بین علی و بین النبی ص- من الاتحاد و الإلف و الاتفاق- أحجم المنافقون بالمدینه عن أذى رسول الله ص- خوفا من سیفه- و لأنه صاحب الدار و الجیش و أمره مطاع و قوله نافذ- فخافوا على دمائهم منه- فاتقوه و أمسکوا عن إظهار بغضه- و أظهروا بغض علی ع و شنآنه- فقال رسول الله ص فی حقه- فیالخبر الذی روی فی جمیع الصحاح لا یحبک إلا مؤمن و لا یبغضک إلا منافق- و قال کثیر من أعلام الصحابه- کماروی فی الخبر المشهور بین المحدثین ما کنا نعرف المنافقین إلا ببغض علی بن أبی طالبو أین کان ظهر أبی طالب عن جعفر- و قد أزعجه الأذى عن وطنه- حتى هاجر إلى بلاد الحبشه و رکب البحر- أ یتوهم الجاحظ أن أبا طالب نصر علیا و خذل جعفرا- .

قال الجاحظ و لأبی بکر فضیله فی إسلامه- أنه کان قبل إسلامه کثیر الصدیق- عریض الجاه ذا یسار و غنى- یعظم لماله و یستفاد من رأیه- فخرج من عز الغنى و کثره الصدیق- إلى ذل الفاقه و عجز الوحده- و هذا غیر إسلام من لا حراک به و لا عز له- تابع غیر متبوع- لأن من أشد ما یبتلى الکریم به السب بعد التحیه- و الضرب بعد الهیبه و العسر بعد الیسر- ثم کان أبو بکر دعیه من دعاه الرسول- و کان یتلوه فی جمیع أحواله- فکان الخوف إلیه أشد و المکروه نحوه أسرع- و کان ممن تحسن مطالبته- و لا یستحیا من إدراک الثأر عنده لنباهته و بعد ذکره- و الحدث الصغیر یزدرى و یحتقر- لصغر سنه و خمول ذکره- .

قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- أما ما ذکر من کثره المال و الصدیق- و استفاضه الذکر و بعد الصیت و کبر السن- فکله علیه لا له- و ذلک لأنه قد علم أن من سیره العرب و أخلاقها- حفظ الصدیق و الوفاء بالذمام و التهیب لذی الثروه- و احترام ذی السن العالیه- و فی کل هذا ظهر شدید- و سند و ثقه یعتمد علیها عند المحن- و لذلک کان المرء منهم إذا تمکن من صدیقه- أبقى علیه و استحیا منه- و کان ذلک سببا لنجاته و العفو عنه- على أن علی بن أبی طالب ع إن لم یکن شهره سنه- فقد شهره نسبه و موضعه من بنی هاشم- و إن لم یستفض ذکره بلقاء الرجال و کثره الأسفار- استفاض بأبی طالب- فأنتم تعلمون أنه لیس تیم فی بعد الصیت کهاشم- و لا أبو قحافه کأبی طالب- و على حسب ذلک یعلو ذکر الفتى على ذی السن- و یبعد صیت الحدث على الشیخ- و معلوم أیضا أن علیا على أعناق المشرکین أثقل- إذ کان هاشمیا-

و إن کان أبوه حامى رسول الله ص و المانع لحوزته- و علی هو الذی فتح على العرب باب الخلاف و استهان بهم- بما أظهر من الإسلام و الصلاه و خالف رهطه و عشیرته- و أطاع ابن عمه فیما لم یعرف من قبل- و لا عهد له نظیر کما قال تعالى- لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ- ثم کان بعد صاحب رسول الله ص و مشتکى حزنه- و أنیسه فی خلوته و جلیسه و ألیفه فی أیامه کلها- و کل هذا یوجب التحریض علیه و معاداه العرب له- ثم أنتم معاشر العثمانیه- تثبتون لأبی بکر فضیله بصحبه الرسول ص- من مکه إلى یثرب و دخوله معه فی الغار- فقلتم مرتبه شریفه و حاله جلیله- إذ کان شریکه فی الهجره و أنیسه فی الوحشه- فأین هذه من صحبه علی ع له فی خلوته- و حیث لا یجد أنیسا غیره لیله و نهاره- أیام مقامه بمکه یعبد الله‏معه سرا- و یتکلف له الحاجه جهرا و یخدمه کالعبد یخدم مولاه- و یشفق علیه و یحوطه و کالولد یبر والده و یعطف علیه- ولما سئلت عائشه من کان أحب الناس إلى رسول الله ص- قالت أما من الرجال فعلی و أما من النساء ففاطمه- .

قال الجاحظ و کان أبو بکر من المفتونین- المعذبین بمکه قبل الهجره- فضربه نوفل بن خویلد المعروف بابن العدویه مرتین- حتى أدماه و شده مع طلحه بن عبید الله فی قرن- و جعلهما فی الهاجره- عمیر بن عثمان بن مره بن کعب بن سعد بن تیم بن مره- و لذلک کانا یدعیان القرینین- و لو لم یکن له غیر ذلک لکان لحاقه عسیرا- و بلوغ منزلته شدیدا- و لو کان یوما واحدا لکان عظیما- و علی بن أبی طالب رافه وادع لیس بمطلوب و لا طالب- و لیس أنه لم یکن فی طبعه الشهامه و النجده- و فی غریزته البساله فی الشجاعه- لکنه لم یکن قد تمت أداته و لا استکملت آلته- و رجال الطلب و أصحاب الثأر یغمصون ذا الحداثه- و یزدرون بذی الصبا و الغراره- إلى أن یلحق بالرجال و یخرج من طبع الأطفال- .

قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- أما القول فممکن و الدعوى سهله- سیما على مثل الجاحظ- فإنه لیس على لسانه من دینه و عقله رقیب- و هو من دعوى الباطل غیر بعید- فمعناه نزر و قوله لغو و مطلبه سجع- و کلامه لعب و لهو یقول الشی‏ء و خلافه- و یحسن القول و ضده- لیس له من نفسه واعظ و لا لدعواه حد قائم- و إلا فکیف تجاسر على القول بأن علیا حینئذ- لم یکن مطلوبا و لا طالبا- و قد بینا بالأخبار الصحیحه و الحدیث المرفوع المسند- أنه کان یوم أسلم بالغا کاملا- منابذا بلسانه و قلبه لمشرکی قریش‏ثقیلا على قلوبهم- و هو المخصوص دون أبی بکر بالحصار فی الشعب- و صاحب الخلوات برسول الله ص فی تلک الظلمات- المتجرع لغصص المرار من أبی لهب و أبی جهل و غیرهما- و المصطلی لکل مکروه و الشریک لنبیه فی کل أذى-

قد نهض بالحمل الثقیل و بان بالأمر الجلیل- و من الذی کان یخرج لیلا من الشعب على هیئه السارق- و یخفی نفسه و یضائل شخصه- حتى یأتی إلى من یبعثه إلیه أبو طالب من کبراء قریش- کمطعم بن عدی و غیره- فیحمل لبنی هاشم على ظهره أعدال الدقیق و القمح- و هو على أشد خوف من أعدائهم کأبی جهل و غیره- لو ظفروا به لأراقوا دمه- أ علی کان یفعل ذلک أیام الحصار فی الشعب أم أبو بکر-

و قد ذکر هو ع حاله یومئذ-فقال فی خطبه له مشهوره فتعاقدوا ألا یعاملونا و لا یناکحونا- و أوقدت الحرب علینا نیرانها و اضطرونا إلى جبل وعر- مؤمننا یرجو الثواب و کافرنا یحامی عن الأصل- و لقد کانت القبائل کلها اجتمعت علیهم- و قطعوا عنهم الماره و المیره- فکانوا یتوقعون الموت جوعا صباحا و مساء- لا یرون وجها و لا فرجا- قد اضمحل عزمهم و انقطع رجاؤهم- فمن الذی خلص إلیه مکروه تلک المحن- بعد محمد ص إلا علی ع وحده- و ما عسى أن یقول الواصف و المطنب فی هذه الفضیله- من تقصی معانیها و بلوغ غایه کنهها- و فضیله الصابر عندها- و دامت هذه المحنه علیهم ثلاث سنین- حتى انفرجت عنهم بقصه الصحیفه و القصه مشهوره- .

و کیف یستحسن الجاحظ لنفسه أن یقول فی علی ع- إنه قبل الهجره کان وادعا رافها- لم یکن مطلوبا و لا طالبا- و هو صاحب الفراش الذی فدى رسول الله ص بنفسه- و وقاه بمهجته- و احتمل السیوف و رضح الحجاره دونه- و هل ینتهی الواصف و إن أطنب- و المادح و إن أسهب- إلى الإبانه عن مقدار هذه الفضیله- و الإیضاح بمزیه هذه الخصیصه- .

فأما قوله إن أبا بکر عذب بمکه- فإنا لا نعلم أن العذاب کان واقعا إلا بعبد أو عسیف- أو لمن لا عشیره له تمنعه- فأنتم فی أبی بکر بین أمرین- تاره تجعلونه دخیلا ساقطا و هجینا رذیلا مستضعفا ذلیلا- و تاره تجعلونه رئیسا متبعا و کبیرا مطاعا- فاعتمدوا على أحد القولین- لنکلمکم بحسب ما تختارونه لأنفسکم- و لو کان الفضل فی الفتنه و العذاب- لکان عمار و خباب و بلال- و کل معذب بمکه أفضل من أبی بکر- لأنهم کانوا من العذاب فی أکثر مما کان فیه- و نزل فیهم من القرآن ما لم ینزل فیه- کقوله تعالى وَ الَّذِینَ هاجَرُوا فِی اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا- قالوا نزلت فی خباب و بلال- و نزل فی عمار قوله إِلَّا مَنْ أُکْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمانِ- و کان رسول الله ص-

یمر على عمار و أبیه و أمه و هم یعذبون- یعذبهم بنو مخزوم لأنهم کانوا حلفاءهم-فیقول صبرا آل یاسر فإن موعدکم الجنه- و کان بلال یقلب على الرمضاء- و هو یقول أحد أحد- و ما سمعنا لأبی بکر فی شی‏ء من ذلک ذکرا- و لقد کان لعلی ع عنده ید غراء- إن صح ما رویتموه فی تعذیبه- لأنه قتل نوفل بن خویلد و عمیر بن عثمان یوم بدر- ضرب نوفلا فقطع ساقه- فقال أذکرک الله و الرحم- فقال قد قطع الله کل رحم و صهر- إلا من کان تابعا لمحمد- ثم ضربه أخرى ففاضت نفسه- و صمد لعمیر بن عثمان التمیمی فوجده یروم الهرب- و قد ارتج علیه المسلک- فضربه على شراسیف صدره- فصار نصفه الأعلى بین رجلیه- و لیس أن أبا بکر لم یطلب بثأره منهما و یجتهد- لکنه لم یقدر على أن یفعل فعل علی ع- فبان علی ع بفعله دونه قال الجاحظ و لأبی بکر مراتب لا یشرکه فیها علی و لا غیره-

و ذلک قبل الهجره-فقد علم الناس أن علیا ع إنما ظهر فضله و انتشر صیته- و امتحن و لقی المشاق منذ یوم بدر- و أنه إنما قاتل فی الزمان الذی- استوفى فیه أهل الإسلام و أهل الشرک- و طمعوا فی أن یکون الحرب بینهم سجالا- و أعلمهم الله تعالى أن العاقبه للمتقین- و أبو بکر کان قبل الهجره معذبا و مطرودا مشردا- فی الزمان الذی لیس بالإسلام و أهله نهوض و لا حرکه- و لذلک قال أبو بکر فی خلافته- طوبى لمن مات فی فأفأه الإسلام- یقول فی ضعفه- .

قال أبو جعفر رحمه الله- لا أشک أن الباطل خان أبا عثمان و الخطأ أقعده- و الخذلان أصاره إلى الحیره- فما علم و عرف حتى قال ما قال- فزعم أن علیا ع قبل الهجره لم یمتحن و لم یکابد المشاق- و أنه إنما قاسى مشاق التکلیف- و محن الابتلاء منذ یوم بدر- و نسی الحصار فی الشعب و ما منی به منه- و أبو بکر وادع رافه- یأکل ما یرید و یجلس مع من یحب- مخلى سربه طیبه نفسه ساکنا قلبه- و علی یقاسی الغمرات و یکابد الأهوال- و یجوع و یظمأ- و یتوقع القتل صباحا و مساء- لأنه کان هو المتوصل المحتال- فی إحضار قوت زهید من شیوخ قریش و عقلائها سرا- لیقیم به رمق رسول الله ص و بنی هاشم و هم فی الحصار-

و لا یأمن فی کل وقت- مفاجأه أعداء رسول الله ص له بالقتل- کأبی جهل بن هشام و عقبه بن أبی معیط- و الولید بن المغیره و عتبه بن ربیعه- و غیرهم من فراعنه قریش و جبابرتها- و لقد کان یجیع نفسه و یطعم رسول الله ص زاده- و یظمئ نفسه و یسقیه ماءه- و هو کان المعلل له إذا مرض- و المؤنس له إذا استوحش- و أبو بکر بنجوه عن ذلک لا یمسه مما یمسهم ألم- و لم یلحقه مما یلحقهم مشقه- و لا یعلم بشی‏ء من أخبارهم و أحوالهم- إلا على سبیل الإجمال دون التفصیل- ثلاث سنین محرمه معاملتهم و مناکحتهم و مجالستهم- محبوسین محصورین ممنوعین من الخروج-و التصرف فی أنفسهم- فکیف أهمل الجاحظ هذه الفضیله- و نسی هذه الخصیصه و لا نظیر لها- و لکن لا یبالی الجاحظ بعد أن یسوغ له لفظه- و تنسق له خطابته ما ضیع من المعنى- و رجع علیه من الخطأ- .

فأما قوله و اعلموا أن العاقبه للمتقین- ففیه إشاره إلى معنى غامض قصده الجاحظ- یعنی أن لا فضیله لعلی ع فی الجهاد- لأن الرسول کان أعلمه أنه منصور و أن العاقبه له- و هذا من دسائس الجاحظ و همزاته و لمزاته- و لیس بحق ما قاله- لأن رسول الله ص أعلم أصحابه جمله أن العاقبه لهم- و لم یعلم واحدا منهم بعینه أنه لا یقتل لا علیا و لا غیره- و إن صح أنه کان أعلمه أنه لا یقتل- فلم یعلمه أنه لا یقطع عضو من أعضائه- و لم یعلمه أنه لا یمسه ألم جراح فی جسده- و لم یعلمه أنه لا یناله الضرب الشدید- .

و على أن رسول الله ص قد أعلم أصحابه قبل یوم بدر- و هو یومئذ بمکه أن العاقبه لهم- کما أعلم أصحابه بعد الهجره ذلک- فإن لم یکن لعلی و المجاهدین- فضیله فی الجهاد بعد الهجره لإعلامه إیاهم ذلک- فلا فضیله لأبی بکر و غیره فی احتمال المشاق قبل الهجره- لإعلامه إیاهم بذلک- فقد جاء فی الخبر أنه وعد أبا بکر قبل الهجره بالنصر- و أنه قال له أرسلت إلى هؤلاء بالذبح- و إن الله تعالى سیغنمنا أموالهم و یملکنا دیارهم- فالقول فی الموضعین متساو و متفق- .

قال الجاحظ- و إن بین المحنه فی الدهر الذی صار فیه أصحاب النبی ص- مقرنین لأهل مکه و مشرکی قریش- و معهم أهل یثرب أصحاب النخیل و الآطام- و الشجاعه و الصبر و المواساه- و الإیثار و المحاماه و العدد الدثر و الفعل الجزل- و بین الدهر الذی کانوا فیه بمکه یفتنون و یشتمون- و یضربون و یشردون و یجوعون و یعطشون-مقهورین لا حراک بهم- و أذلاء لا عز لهم و فقراء لا مال عندهم- و مستخفین لا یمکنهم إظهار دعوتهم لفرقا واضحا- و لقد کانوا فی حال أحوجت لوطا و هو نبی إلى أن قال- لَوْ أَنَّ لِی بِکُمْ قُوَّهً أَوْ آوِی إِلى‏ رُکْنٍ شَدِیدٍ- وقال النبی ص عجبت من أخی لوط کیف قال- أَوْ آوِی إِلى‏ رُکْنٍ شَدِیدٍ- و هو یأوی إلى الله تعالى- ثم لم یکن ذلک یوما و لا یومین و لا شهرا و لا شهرین- و لا عاما و لا عامین و لکن السنین بعد السنین- و کان أغلظ القوم و أشدهم محنه بعد رسول الله ص أبو بکر- لأنه أقام بمکه ما أقام رسول الله ص ثلاث عشره سنه- و هو أوسط ما قالوا فی مقام النبی ص- .

قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- ما نرى الجاحظ احتج لکون أبی بکر أغلظهم و أشدهم محنه- إلا بقوله لأنه أقام بمکه مده مقام الرسول ص بها- و هذه الحجه لا تخص أبا بکر وحده- لأن علیا ع أقام معه هذه المده- و کذلک طلحه و زید و عبد الرحمن و بلال و خباب و غیرهم- و قد کان الواجب علیه أن یخص أبا بکر وحده بحجه- تدل على أنه کان أغلظ الجماعه- و أشدهم محنه بعد رسول الله ص فالاحتجاج فی نفسه فاسد- .

ثم یقال له ما بالک- أهملت أمر مبیت علی ع على الفراش بمکه لیله الهجره- هل نسیته أم تناسیته- فإنها المحنه العظیمه- و الفضیله الشریفه التی متى امتحنها الناظر- و أجال فکره فیها- رأى تحتها فضائل متفرقه و مناقب متغایره- و ذلک أنه لما استقر الخبر عند المشرکین- أن رسول الله ص مجمع على الخروج من بینهم- للهجرهإلى غیرهم قصدوا إلى معاجلته- و تعاقدوا على أن یبیتوه فی فراشه- و أن یضربوه بأسیاف کثیره- بید کل صاحب قبیله من قریش سیف منها- لیضیع دمه بین الشعوب و یتفرق بین القبائل- و لا یطلب بنو هاشم بدمه- قبیله واحده بعینها من بطون قریش- و تحالفوا على تلک اللیله و اجتمعوا علیها- فلما علم رسول ص ذلک من أمرهم- دعا أوثق الناس عنده و أمثلهم فی نفسه- و أبذلهم فی ذات الإله لمهجته- و أسرعهم إجابه إلى طاعته-

فقال له إن قریشا قد تحالفت على أن تبیتنی هذه اللیله- فامض إلى فراشی و نم فی مضجعی- و التف فی بردی الحضرمی لیروا أنی لم أخرج- و إنی خارج إن شاء الله- فمنعه أولا من التحرز و إعمال الحیله- و صده عن الاستظهار لنفسه- بنوع من أنواع المکاید- و الجهات التی یحتاط بها الناس لنفوسهم- و ألجأه إلى أن یعرض نفسه- لظبات السیوف الشحیذه- من أیدی أرباب الحنق و الغیظه- فأجاب إلى ذلک سامعا مطیعا طیبه بها نفسه- و نام على فراشه صابرا محتسبا- واقیا له بمهجته ینتظر القتل- و لا نعلم فوق بذل النفس درجه یلتمسها صابر- و لا یبلغها طالب- و الجود بالنفس أقصى غایه الجود- و لو لا أن رسول الله ص علم أنه أهل لذلک لما أهله- و لو کان عنده نقص فی صبره- أو فی شجاعته أو فی مناصحته لابن عمه- و اختیر لذلک لکان من اختاره ص منقوضا فی رأیه- مضرا فی اختیاره- و لا یجوز أن یقول هذا أحد من أهل الإسلام- و کلهم مجمعون على أن الرسول ص عمل الصواب- و أحسن فی الاختیار- .

ثم فی ذلک إذا تأمله المتأمل وجوه من الفضل- منها أنه و إن کان عنده فی موضع الثقه- فإنه غیر مأمون علیه ألا یضبط السر- فیفسد التدبیر- بإفشائه تلک اللیله إلى من یلقیه إلى الأعداء- . و منها أنه و إن کان ضابطا للسر و ثقه عند من اختاره- فغیر مأمون علیه الجبن عندمفاجأه المکروه- و مباشره الأهوال فیفر من الفراش- فیفطن لموضع الحیله- و یطلب رسول الله ص فیظفر به- .

و منها أنه و إن کان ضابطا للسر شجاعا نجدا- فلعله غیر محتمل للمبیت على الفراش- لأن هذا أمر خارج عنالشجاعه- إن کان قد قامه مقام المکتوف الممنوع- بل هو أشد مشقه من المکتوف الممنوع- لأن المکتوف الممنوع یعلم من نفسه- أنه لا سبیل له إلى الهرب- و هذا یجد السبیل إلى الهرب و إلى الدفع عن نفسه- و لا یهرب و لا یدافع- .

و منها أنه و إن کان ثقه عنده ضابطا للسر- شجاعا محتملا للمبیت على الفراش- فإنه غیر مأمون أن یذهب صبره عند العقوبه الواقعه- و العذاب النازل بساحته حتى یبوح بما عنده- و یصیر إلى الإقرار بما یعلمه- و هو أنه أخذ طریق کذا فیطلب فیؤخذ- فلهذا قال علماء المسلمین- إن فضیله علی ع تلک اللیله- لا نعلم أحدا من البشر نال مثلها- إلا ما کان من إسحاق و إبراهیم عند استسلامه للذبح- و لو لا أن الأنبیاء لا یفضلهم غیرهم- لقلنا إن محنه علی أعظم- لأنه قد روی أن إسحاق تلکأ لما أمره أن یضطجع- و بکى على نفسه- و قد کان أبوه یعلم أن عنده فی ذلک وقفه- و لذلک قال له فَانْظُرْ ما ذا تَرى‏- و حال علی ع بخلاف ذلک- لأنه ما تلکأ و لا تتعتع- و لا تغیر لونه و لا اضطربت أعضاؤه- و لقد کان أصحاب النبی ص- یشیرون علیه بالرأی المخالف لما کان أمر به- و تقدم فیه فیترکه و یعمل بما أشاروا به- کما جرى یوم الخندق- فی مصانعه الأحزاب بثلث تمر المدینه- فإنهم أشاروا علیه بترک ذلک فترکه- و هذه کانت قاعدته معهم و عادته بینهم- و قد کان لعلی ع أن یعتل بعله و أن یقف-

و یقول یا رسول الله- أکون معک أحمیک من العدو- و أذب بسیفی عنک- فلست‏مستغنیا فی خروجک عن مثلی- و نجعل عبدا من عبیدنا فی فراشک قائما مقامک- یتوهم القوم برؤیته نائما فی بردک أنک لم تخرج- و لم تفارق مرکزک فلم یقل ذلک- و لا تحبس و لا توقف و لا تلعثم- و ذلک لعلم کل واحد منهما ص- أن أحدا لا یصبر على ثقل هذه المحنه- و لا یتورط هذه الهلکه- إلا من خصه الله تعالى بالصبر على مشقتها- و الفوز بفضیلتها- و له من جنس ذلک أفعال کثیره- کیوم دعا عمرو بن عبد ود المسلمین إلى المبارزه- فأحجم الناس کلهم عنه- لما علموا من بأسه و شدته ثم کرر النداء-

فقام علی ع-فقال أنا أبرز إلیه- فقال له رسول الله ص إنه عمرو قال نعم و أنا علی- فأمره بالخروج إلیه فلما خرجقال ص برز الإیمان کله إلى الشرک کلهو کیوم أحد حیث حمى رسول الله ص من أبطال قریش- و هم یقصدون قتله فقتلهم دونه- حتى قال جبرئیل ع یا محمد إن هذه هی المواساه-فقال إنه منی و أنا منهفقال جبریل و أنا منکما- و لو عددنا أیامه و مقاماته التی- شرى فیها نفسه لله تعالى لأطلنا و أسهبنا قال الجاحظ- فإن احتج محتج لعلی ع بالمبیت على الفراش- فبین الغار و الفراش فرق واضح- لأن الغار و صحبه أبی بکر للنبی ص- قد نطق به القرآن- فصار کالصلاه و الزکاه و غیرهما مما نطق به الکتاب- و أمر علی ع و نومه على الفراش و إن کان ثابتا صحیحا- إلا أنه لم یذکر فی القرآن- و إنما جاء مجی‏ء الروایات و السیر- و هذا لا یوازن هذا و لا یکایله- .

قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله هذا فرق غیر مؤثر- لأنه قد ثبت بالتواتر حدیث‏الفراش- فلا فرق بینه و بین ما ذکر فی نص الکتاب- و لا یجحده إلا مجنون أو غیر مخالط لأهل المله- أ رأیت کون الصلوات خمسا- و کون زکاه الذهب ربع العشر- و کون خروج الریح ناقضا للطهاره- و أمثال ذلک مما هو معلوم بالتواتر حکمه- هل هو مخالف لما نص فی الکتاب علیه من الأحکام- هذا مما لا یقوله رشید و لا عاقل- على أن الله تعالى لم یذکر اسم أبی بکر فی الکتاب- و إنما قال إِذْ یَقُولُ لِصاحِبِهِ- و إنما علمنا أنه أبو بکر بالخبر و ما ورد فی السیره-

و قد قال أهل التفسیر إن قوله تعالى- وَ یَمْکُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَیْرُ الْماکِرِینَ- کنایه عن علی ع لأنه مکر بهم- و أول الآیه وَ إِذْ یَمْکُرُ بِکَ الَّذِینَ کَفَرُوا- لِیُثْبِتُوکَ أَوْ یَقْتُلُوکَ أَوْ یُخْرِجُوکَ وَ یَمْکُرُونَ- وَ یَمْکُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَیْرُ الْماکِرِینَ- أنزلت فی لیله الهجره- و مکرهم کان توزیع السیوف على بطون قریش- و مکر الله تعالى هو منام علی ع على الفراش- فلا فرق بین الموضعین فی أنهما مذکوران کنایه لا تصریحا-

و قد روى المفسرون کلهم أن قول الله تعالى- وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ یَشْرِی نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ- أنزلت فی علی ع لیله المبیت على الفراش- فهذه مثل قوله تعالى إِذْ یَقُولُ لِصاحِبِهِ لا فرق بینهما- . قال الجاحظ و فرق آخر- و هو أنه لو کان مبیت علی ع على الفراش- جاء مجی‏ء کون أبی بکر فی الغار- لم یکن له فی ذلک کبیر طاعه- لأن الناقلیننقلوا أنه ص قال له نم فلن یخلص إلیک شی‏ء تکرهه- و لم ینقل ناقل أنه‏قال لأبی بکر فی صحبته إیاه- و کونه معه فی الغار مثل ذلک- و لا قال له أنفق و أعتق- فإنک لن تفتقر و لن یصل إلیک مکروه- .

قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- هذا هو الکذب الصراح- و التحریف و الإدخال فی الروایه ما لیس منها- و المعروف المنقولأنه ص قال له اذهب فاضطجع فی مضجعی- و تغش ببردی الحضرمی- فإن القوم سیفقدوننی- و لا یشهدون مضجعی- فلعلهم إذا رأوک یسکنهم ذلک حتى یصبحوا- فإذا أصبحت فاغد فی أداء أمانتی- و لم ینقل ما ذکره الجاحظ- و إنما ولده أبو بکر الأصم- و أخذه الجاحظ و لا أصل له- و لو کان هذا صحیحا لم یصل إلیه منهم مکروه- و قد وقع الاتفاق على أنه ضرب و رمی بالحجاره- قبل أن یعلموا من هو حتى تضور- و أنهم قالوا له رأینا تضورک- فإنا کنا نرمی محمدا و لا یتضور- و لأن لفظه المکروه إن کان قالها إنما یراد بها القتل- فهب أنه أمن القتل- کیف یأمن من الضرب و الهوان- و من أن ینقطع بعض أعضائه- و بأن سلمت نفسه- أ لیس الله تعالى قال لنبیه- بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ- وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ- وَ اللَّهُ یَعْصِمُکَ مِنَ النَّاسِ- و مع ذلک فقد کسرت رباعیته و شج وجهه و أدمیت ساقه- و ذلک لأنها عصمه من القتل خاصه- و کذلک المکروه الذی أومن علی ع منه- و إن کان صح ذلک فی الحدیث إنما هو مکروه القتل- .

ثم یقال له و أبو بکر لا فضیله له أیضا فی کونه فی الغار- لأن النبی ص قال له لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا- و من یکن الله معه فهو آمن لا محاله من کل سوء- فکیف قلت- و لم ینقل ناقل أنه قال لأبی بکر فی الغار مثل ذلک- فکل ما یجیب به عن هذا فهو جوابنا عما أورده- فنقول له هذا ینقلب علیک فی النبی ص-لأن الله تعالى وعده بظهور دینه و عاقبه أمره- فیجب على قولک ألا یکون مثابا عند الله تعالى- على ما یحتمله من المکروه- و لا ما یصیبه من الأذى- إذ کان قد أیقن بالسلامه و الفتح فی عدته- .

قال الجاحظ- و من جحد کون أبی بکر صاحب رسول الله ص فقد کفر- لأنه جحد نص الکتاب- ثم انظر إلى قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَنا- من الفضیله لأبی بکر- لأنه شریک رسول الله ص فی کون الله تعالى معه- و إنزال السکینه- قال کثیر من الناس- إنه فی الآیه مخصوص بأبی بکر- لأنه کان محتاجا إلى السکینه- لما تداخله من رقه الطبع البشری- و النبی ص کان غیر محتاج إلیها- لأنه یعلم أنه محروس من الله تعالى- فلا معنى لنزول السکینه علیه- و هذه فضیله ثالثه لأبی بکر- .

قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- إن أبا عثمان یجر على نفسه- ما لا طاقه له به من مطاعن الشیعه- و لقد کان فی غنیه عن التعلق بما تعلق به- لأن الشیعه تزعم أن هذه الآیه- بأن تکون طعنا و عیبا على أبی بکر- أولى من أن تکون فضیله و منقبه له- لأنه لما قال له لا تَحْزَنْ- دل على أنه قد کان حزن و قنط و أشفق على نفسه- و لیس هذا من صفات المؤمنین الصابرین- و لا یجوز أن یکون حزنه طاعه- لأن الله تعالى لا ینهى عن الطاعه- فلو لم یکن ذنبا لم ینه عنه- و قوله إِنَّ اللَّهَ مَعَنا- أی إن الله عالم بحالنا- و ما نضمره من الیقین أو الشک- کما یقول الرجل لصاحبه- لا تضمرن سوءا و لا تنوین قبیحا- فإن الله تعالى یعلم ما نسره و ما نعلنه- و هذا مثل قوله تعالى- وَ لا أَدْنى‏ مِنْ ذلِکَ وَ لا أَکْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَیْنَ ما کانُوا- أی هو عالم بهم و أما السکینهفکیف یقول- إنها لیست راجعه إلى النبی ص و بعدها قوله- وَ أَیَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها- أ ترى المؤید بالجنود کان أبا بکر أم رسول الله ص- .

و قوله إنه مستغن عنها لیس بصحیح- و لا یستغنی أحد عن ألطاف الله و توفیقه- و تأییده و تثبیت قلبه- و قد قال الله تعالى فی قصه حنین- وَ ضاقَتْ عَلَیْکُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّیْتُمْ مُدْبِرِینَ- ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَکِینَتَهُ عَلى‏ رَسُولِهِ ص- . و أما الصحبه فلا تدل إلا على المرافقه و الاصطحاب لا غیر- و قد یکون حیث لا إیمان- کما قال تعالى قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ یُحاوِرُهُ- أَ کَفَرْتَ بِالَّذِی خَلَقَکَ- و نحن و إن کنا نعتقد إخلاص أبی بکر- و إیمانه الصحیح السلیم و فضیلته التامه- إلا أنا لا نحتج له- بمثل ما احتج به الجاحظ من الحجج الواهیه- و لا نتعلق بما یجر علینا دواهی الشیعه و مطاعنها- .

قال الجاحظ و إن کان المبیت على الفراش فضیله- فأین هی من فضائل أبی بکر أیام مکه- من عتق المعذبین و إنفاق المال و کثره المستجیبین- مع فرق ما بین الطاعتین- لأن طاعه الشاب الغریر- و الحدث الصغیر الذی فی عز صاحبه عزه- لیست کطاعه الحلیم الکبیر- الذی لا یرجع تسوید صاحبه إلى رهطه و عشیرته- .

قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله أما کثره المستجیبین- فالفضل فیها راجع إلى المجیب‏لا إلى المجاب- على أنا قد علمنا أن من استجاب لموسى ع- أکثر ممن استجاب لنوح ع- و ثواب نوح أکثر لصبره على الأعداء- و مقاساه خلافهم و عنتهم- و أما إنفاق المال- فأین محنه الغنی من محنه الفقیر- و أین یعتدل إسلام من أسلم و هو غنی- إن جاع أکل و إن أعیا رکب و إن عری لبس- قد وثق بیساره و استغنى بماله- و استعان على نوائب الدنیا بثروته- ممن لا یجد قوت یومه- و إن وجد لم یستأثر به فکان الفقر شعاره- و فی ذلک قیل الفقر شعار المؤمن- وقال الله تعالى لموسى یا موسى إذا رأیت الفقر مقبلا- فقل مرحبا بشعار الصالحینوفی الحدیث أن الفقراء یدخلون الجنه قبل الأغنیاء بخمسمائه عام
وکان النبی ص یقول اللهم احشرنی فی زمره الفقراء- و لذلک أرسل الله محمدا ص فقیرا- و کان بالفقر سعیدا- فقاسى محنه الفقر و مکابده الجوع- حتى شد الحجر على بطنه- و حسبک بالفقر فضیله فی دین الله لمن صبر علیه- فإنک لا تجد صاحب الدنیا یتمناه- لأنه مناف لحال الدنیا و أهلها- و إنما هو شعار أهل الآخره- .

و أما طاعه علی ع- و کون الجاحظ زعم أنها کانت لأن فی عز محمد عزه و عز رهطه- بخلاف طاعه أبی بکر- فهذا یفتح علیه أن یکون جهاد حمزه کذلک- و جهاد عبیده بن الحارث- و هجره جعفر إلى الحبشه- بل لعل محاماه المهاجرین من قریش- على رسول الله ص کانت لأن فی دولته دولتهم- و فی نصرته استجداد ملک لهم- و هذا یجر إلى الإلحاد- و یفتح باب الزندقه- و یفضی إلى الطعن فی الإسلام و النبوه- . قال الجاحظ و على أنا لو نزلنا إلى ما یریدونه- جعلنا الفراش کالغار- و خلصت فضائل أبی بکر فی غیر ذلک عن معارض- .

قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- قد بینا فضیله المبیت على الفراش- على فضیله الصحبهفی الغار بما هو واضح لمن أنصف- و نزید هاهنا تأکیدا بما لم نذکره فیما تقدم- فنقول إن فضیله المبیت على الفراش- على الصحبه فی الغار لوجهین- أحدهما أن علیا ع قد کان أنس بالنبی ص- و حصل له بمصاحبته قدیما أنس عظیم و إلف شدید- فلما فارقه عدم ذلک الأنس و حصل به أبو بکر- فکان ما یجده علی ع من الوحشه- و ألم الفرقه موجبا زیاده ثوابه- لأن الثواب على قدر المشقه- .

و ثانیهما أن أبا بکر کان یؤثر الخروج من مکه- و قد کان خرج من قبل فردا فازداد کراهیه للمقام- فلما خرج مع رسول الله ص وافق ذلک هوى قلبه- و محبوب نفسه- فلم یکن له من الفضیله- ما یوازی فضیله من احتمل المشقه العظیمه- و عرض نفسه لوقع السیوف و رأسه لرضخ الحجاره- لأنه على قدر سهوله العباده یکون نقصان الثواب قال الجاحظ ثم الذی لقی أبو بکر فی مسجده- الذی بناه على بابه فی بنی جمح- فقد کان بنى مسجدا یصلی فیه- و یدعو الناس إلى الإسلام- و کان له صوت رقیق و وجه عتیق- و کان إذا قرأ بکى- فیقف علیه الماره- من الرجال و النساء و الصبیان و العبید- فلما أوذی فی الله و منع من ذلک المسجد- استأذن رسول الله ص فی الهجره فأذن له- فأقبل یرید المدینه فتلقاه الکنانی- فعقد له جوارا و قال و الله لا أدع مثلک یخرج من مکه- فرجع إلیها و عاد لصنیعه فی المسجد- فمشت قریش إلى جاره الکنانی و أجلبوا علیه- فقال له دع المسجد و ادخل بیتک- و اصنع فیه ما بدا لک- .

قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- کیف کانت بنو جمح تؤذی عثمان بن مظعون و تضربه- و هو فیهم ذو سطوه و قدر- و تترک أبا بکر یبنی مسجدا یفعل فیه ما ذکرتم- و أنتم الذین رویتم عن ابن مسعود أنه قال- ما صلینا ظاهرین حتى أسلم عمر بن الخطاب- و الذی تذکرونه من بناء المسجد- کان قبل إسلام عمر فکیف هذا- . و أما ما ذکرتم من رقه صوته و عتاق وجهه- فکیف یکون ذلک و قد روى الواقدی و غیره- أن عائشه رأت رجلا من العرب خفیف العارضین- معروق الخدین غائر العینین أجنأ لا یمسک إزاره- فقالت ما رأیت أشبه بأبی بکر من هذا- فلا نراها دلت على شی‏ء من الجمال فی صفته- . قال الجاحظ و حیث رد أبو بکر جوار الکنانی- و قال لا أرید جارا سوى الله- لقی من الأذى و الذل و الاستخفاف و الضرب ما بلغکم- و هذا موجود فی جمیع السیر- و کان آخر ما لقی هو و أهله فی أمر الغار- و قد طلبته قریش و جعلت فیه مائه بعیر- کما جعلت فی النبی ص- فلقی أبو جهل أسماء بنت بکر فسألها فکتمته- فلطمها حتى رمت قرطا کان فی أذنها- .

قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- هذا الکلام و هجر السکران سواء- فی تقارب المخرج و اضطراب المعنى- و ذلک أن قریشا لم تقدر على أذى النبی ص- و أبو طالب حی یمنعه- فلما مات طلبته لتقتله- فخرج تاره إلى بنی عامر و تاره إلى ثقیف- و تاره إلى بنی شیبان- و لم یکن یتجاسر على المقام بمکه إلا مستترا- حتى أجاره مطعم بن عدی ثم خرج إلى المدینه- فبذلت فیه مائه بعیر لشده حنقها علیه حین فاتها- فلم تقدر علیه- فما بالها بذلت فی أبی بکر مائه بعیر أخرى- و قد کان رد الجوار و بقی بینهم فردا لا ناصر له-و لا دافع عنده یصنعون به ما یریدون- إما أن یکونوا أجهل البریه کلها- أو یکون العثمانیه أکذب جیل فی الأرض و أوقحه وجها- فهذا مما لم یذکر فی سیره و لا روی فی أثر- و لا سمع به بشر و لا سبق الجاحظ به أحد- .

قال الجاحظ- ثم الذی کان من دعائه إلى الإسلام و حسن احتجاجه- حتى أسلم على یدیه طلحه و الزبیر- و سعد و عثمان و عبد الرحمن- لأنه ساعه أسلم دعا إلى الله و إلى رسوله- . قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله ما أعجب هذا القول- إذ تدعی العثمانیه لأبی بکر الرفق فی الدعاء و حسن الاحتجاج- و قد أسلم و معه فی منزله ابنه عبد الرحمن- فما قدر أن یدخله فی الإسلام طوعا- برفقه و لطف احتجاجه- و لا کرها بقطع النفقه عنه و إدخال المکروه علیه- و لا کان لأبی بکر عند ابنه عبد الرحمن- من القدر ما یطیعه فیما یأمره به و یدعوه إلیه- کما روی أن أبا طالب فقد النبی ص یوما- و کان یخاف علیه من قریش أن یغتالوه- فخرج و معه ابنه جعفر یطلبان النبی ص- فوجده قائما فی بعض شعاب مکه یصلی- و علی ع معه عن یمینه- فلما رآهما أبو طالب قال لجعفر- تقدم و صل جناح ابن عمک- فقام جعفر عن یسار محمد ص- فلما صاروا ثلاثه تقدم رسول الله ص و تأخر الأخوان- فبکى أبو طالب و قال-

إن علیا و جعفرا ثقتی
عند ملم الخطوب و النوب‏

لا تخذلا و انصرا ابن عمکما
أخی لأمی من بینهم و أبی‏

و الله لا أخذل النبی و لا
یخذله من بنی ذو حسب‏

فتذکر الرواه أن جعفرا أسلم منذ ذلک الیوم- لأن أباه أمره بذلک و أطاع أمره- و أبو بکر لم یقدر على إدخال ابنه عبد الرحمن فی الإسلام- حتى أقام بمکه على کفره ثلاث عشره سنه- و خرج یوم أحد فی عسکر المشرکین ینادی- أنا عبد الرحمن بن عتیق هل من مبارز- ثم مکث بعد ذلک على کفره حتى أسلم عام الفتح- و هو الیوم الذی دخلت فیه قریش فی الإسلام طوعا و کرها- و لم یجد أحد منها إلى ترک ذلک سبیلا- و أین کان رفق أبی بکر و حسن احتجاجه- عند أبیه أبی قحافه و هما فی دار واحده- هلا رفق به و دعاه إلى الإسلام فأسلم-

و قد علمتم أنه بقی على الکفر إلى یوم الفتح- فأحضره ابنه عند النبی ص و هو شیخ کبیر رأسه کالثغامه- فنفر رسول الله ص منه و قال غیروا هذا- فخضبوه ثم جاءوا به مره أخرى فأسلم- و کان أبو قحافه فقیرا مدقعا سیئ الحال- و أبو بکر عندهم کان مثریا فائض المال- فلم یمکنه استمالته إلى الإسلام بالنفقه و الإحسان- و قد کانت امرأه أبی بکر أم عبد الله ابنه- و اسمها نمله بنت عبد العزى بن أسعد بن عبد بن ود العامریه لم تسلم- و أقامت على شرکها بمکه و هاجر أبو بکر و هی کافره- فلما نزل قوله تعالى وَ لا تُمْسِکُوا بِعِصَمِ الْکَوافِرِ- فطلقها أبو بکر- فمن عجز عن ابنه و أبیه و امرأته- فهو عن غیرهم من الغرماء أعجز- و من لم یقبل منه أبوه و ابنه و امرأته- لا برفق و احتجاج و لا خوفا من قطع النفقه عنهم- و إدخال المکروه علیهم فغیرهم أقل قبولا منه- و أکثر خلافا علیه- .

قال الجاحظ و قالت أسماء بنت أبی بکر- ما عرفت أبی إلا و هو یدین بالدین- و لقد رجع إلینا یوم أسلم فدعانا إلى الإسلام- فما رمنا حتى أسلمنا و أسلم أکثر جلسائه- و لذلک قالوا- من أسلم بدعاء أبی بکر أکثر ممن أسلم بالسیف- و لم یذهبوا فی ذلک إلى العدد بل عنوا الکثره فی القدر- لأنه أسلم على یدیه خمسه من أهل الشورى-کلهم یصلح للخلافه و هم أکفاء علی ع- و منازعوه الرئاسه و الإمامه- فهؤلاء أکثر من جمیع الناس- .

قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- أخبرونا من هذا الذی أسلم ذلک الیوم- من أهل بیت أبی بکر إذا کانت امرأته لم تسلم- و ابنه عبد الرحمن لم یسلم و أبو قحافه لم یسلم- و أخته أم فروه لم تسلم- و عائشه لم تکن قد ولدت فی ذلک الوقت- لأنها ولدت بعد مبعث النبی ص بخمس سنین- و محمد بن أبی بکر ولد بعد مبعث رسول الله ص- بثلاث و عشرین سنه- لأنه ولد فی حجه الوداع- و أسماء بنت أبی بکر التی قد روى الجاحظ هذا الخبر عنها- کانت یوم بعث رسول الله ص بنت أربع سنین-

و فی روایه من یقول بنت سنتین- فمن الذی أسلم من أهل بیته یوم أسلم- نعوذ بالله من الجهل و الکذب و المکابره- و کیف أسلم سعد و الزبیر و عبد الرحمن بدعاء أبی بکر- و لیسوا من رهطه و لا من أترابه و لا من جلسائه- و لا کانت بینهم قبل ذلک صداقه متقدمه و لا أنس وکید- و کیف ترک أبو بکر عتبه بن ربیعه و شیبه بن ربیعه- لم یدخلهما فی الإسلام برفقه و حسن دعائه- و قد زعمتم أنهما کانا یجلسان إلیه- لعلمه و طریف حدیثه- و ما باله لم یدخل جبیر بن مطعم فی الإسلام-

و قد ذکرتم أنه أدبه و خرجه- و منه أخذ جبیر العلم بأنساب قریش و مآثرها- فکیف عجز عن هؤلاء الذین عددناهم- و هم منه بالحال التی وصفنا- و دعا من لم یکن بینه و بینه أنس و لا معرفه- إلا معرفه عیان- و کیف لم یقبل منه عمر بن الخطاب و قد کان شکله- و أقرب الناس شبها به فی أغلب أخلاقه- و لئن رجعتم إلى الإنصاف- لتعلمن أن هؤلاء لم یکن إسلامهم- إلا بدعاء الرسول ص لهم و على یدیه أسلموا- و لو فکرتم فی حسن التأتی فی الدعاء- لیصحن لأبی طالب فی ذلکعلى شرکه- أضعاف ما ذکرتموه لأبی بکر- لأنکم رویتم أن أبا طالب قال لعلی ع- یا بنی الزمه فإنه لن یدعوک إلا إلى خیر-

و قال لجعفر صل جناح ابن عمک فأسلم بقوله- و لأجله أصفق بنو عبد مناف على نصره رسول الله ص بمکه- من بنی مخزوم و بنی سهم و بنی جمح- و لأجله صبر بنو هاشم على الحصار فی الشعب- و بدعائه و إقباله على محمد ص- أسلمت امرأته فاطمه بنت أسد- فهو أحسن رفقا و أیمن نقیبه من أبی بکر و غیره- و إنما منعه عن الإسلام أن ثبت أنه لم یسلم إلا تقیه- و أبو بکر لم یکن له إلا ابن واحد و هو عبد الرحمن- فلم یمکنه أن یدخله فی الإسلام- و لا أمکنه إذ لم یقبل منه الإسلام- أن یجعله کبعض مشرکی قریش فی قله الأذى لرسول الله ص- و فیه أنزل وَ الَّذِی قالَ لِوالِدَیْهِ أُفٍّ لَکُما- أَ تَعِدانِنِی أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِی- وَ هُما یَسْتَغِیثانِ اللَّهَ وَیْلَکَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ- فَیَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِیرُ الْأَوَّلِینَ-

و إنما یعرف حسن رفق الرجل و تأتیه- بأن یصلح أولا أمر بیته و أهله- ثم یدعو الأقرب فالأقرب- فإن رسول الله ص لما بعث کان أول من دعا زوجته خدیجه- ثم مکفوله و ابن عمه علیا ع- ثم مولاه زیدا ثم أم أیمن خادمته- فهل رأیتم أحدا ممن کان یأوی إلى رسول الله ص لم یسارع- و هل التاث علیه أحد من هؤلاء- فهکذا یکون حسن التأتی و الرفق فی الدعاء- هذا و رسول الله مقل- و هو من جمله عیال خدیجه حین بعثه الله تعالى- و أبو بکر عندکم کان موسرا و کان أبوه مقترا- و کذلک ابنه و امرأته أم عبد الله- و الموسر فی فطره العقول أولى أن یتبع من المقتر- و إنما حسن التأتی و الرفق فی الدعاء- ما صنعه مصعب بن عمیر لسعد بن معاذ لما دعاه- و ما صنع سعد بن معاذ ببنی عبد الأشهل لما دعاهم- و ما صنع بریده بن الحصیب بأسلم لما دعاهم- قالوا أسلم بدعائه ثمانون بیتا من قومه-

و أسلم بنو عبد الأشهل بدعاء سعد فی یوم واحد- و أما من لم یسلم ابنه و لا امرأته- و لا أبوه و لا أخته بدعائه- فهیهات أن یوصف و یذکر بالرفق فی الدعاء- و حسن التأتی و الأناه- قال الجاحظ ثم أعتق أبو بکر بعد ذلک- جماعه من المعذبین فی الله- و هم ست رقاب منهم بلال و عامر بن فهیره- و زنیره النهدیه و ابنتها- و مر بجاریه یعذبها عمر بن الخطاب فابتاعها منه و أعتقها- و أعتق أبا عیسى فأنزل الله فیه فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اتَّقى‏- وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏ فَسَنُیَسِّرُهُ لِلْیُسْرى‏ إلى آخر السوره- . قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- أما بلال و عامر بن فهیره فإنما أعتقهما رسول الله ص-

روى ذلک الواقدی و ابن إسحاق و غیرهما- و أما باقی موالیهم الأربعه- فإن سامحناکم فی دعواکم- لم یبلغ ثمنهم فی تلک الحال لشده بغض موالیهم لهم- إلا مائه درهم أو نحوها فأی فخر فی هذا- و أما الآیه فإن ابن عباس قال فی تفسیرها- فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اتَّقى‏ وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏- فَسَنُیَسِّرُهُ لِلْیُسْرى‏ أی لأن یعود- . و قال غیره نزلت فی مصعب بن عمیر قال الجاحظ و قد علمتم ما صنع أبو بکر فی ماله- و کان ماله أربعین ألف درهم- فأنفقه فی نوائب الإسلام و حقوقه- و لم یکن خفیف الظهر قلیل العیال و النسل- فیکون فاقد جمیع الیسارین- بل کان ذا بنین و بنات و زوجه و خدم و حشم- و یعول والدیه و ما ولدا- و لم یکن النبی ص قبل ذلک عنده مشهورا- فیخاف العار فی ترک مواساته- فکان إنفاقه على الوجه الذی لا نجد فی غایه الفضل مثله- و لقدقال النبی ص ما نفعنی مال کما نفعنی مال أبی بکر- .

قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- أخبرونا على أی نوائب الإسلام أنفق هذا المال- و فی أی وجه وضعه- فإنه لیس بجائز أن یخفى ذلک و یدرس- حتى یفوت حفظه و ینسى ذکره- و أنتم فلم تقفوا على شی‏ء- أکثر من عتقه بزعمکم ست رقاب- لعلها لا یبلغ ثمنها فی ذلک العصر مائه درهم- و کیف یدعی له الإنفاق الجلیل- و قد باع من رسول الله ص بعیرین عند خروجه إلى یثرب- و أخذ منه الثمن فی مثل تلک الحال- و روى ذلک جمیع المحدثین- و قد رویتم أیضا أنه کان حیث کان بالمدینه غنیا موسرا- و رویتم عن عائشه أنها قالت- هاجر أبو بکر و عنده عشره آلاف درهم- و قلتم إن الله تعالى أنزل فیه- وَ لا یَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْکُمْ وَ السَّعَهِ أَنْ یُؤْتُوا أُولِی الْقُرْبى‏- قلتم هی فی أبی بکر و مسطح بن أثاثه- فأین الفقر الذی زعمتم أنه أنفق حتى تخلل بالعباءه-

و رویتم أن لله تعالى فی سمائه ملائکه قد تخللوا بالعباءه- و أن النبی ص رآهم لیله الإسراء- فسأل جبرائیل عنهم فقال- هؤلاء ملائکه تأسوا بأبی بکر بن أبی قحافه- صدیقک فی الأرض- فإنه سینفق علیک ماله حتى یخلل عباءه فی عنقه- و أنتم أیضا رویتم أن الله تعالى لما أنزل آیه النجوى- فقال یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا ناجَیْتُمُ الرَّسُولَ- فَقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیْ نَجْواکُمْ صَدَقَهً ذلِکَ خَیْرٌ لَکُمْ الآیه- لم یعمل بها إلا علی بن أبی طالب وحده- مع إقرارکم بفقره و قله ذات یده- و أبو بکر فی الحال التی ذکرنا من السعه أمسک عن مناجاته- فعاتب الله المؤمنین فی ذلک فقال- أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیْ نَجْواکُمْ صَدَقاتٍ- فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَیْکُمْ- فجعله سبحانه ذنبا یتوب علیهم منه- و هو إمساکهم عن تقدیم الصدقه- فکیف سخت نفسه بإنفاق أربعین ألفا- و أمسک عن مناجاه الرسول- و إنما کان یحتاج فیها إلى إخراج درهمین- .

و أما ما ذکر من کثره عیاله و نفقته علیهم- فلیس فی ذلک دلیل على تفضیله- لأن‏نفقته على عیاله واجبه- مع أن أرباب السیره ذکروا- أنه لم یکن ینفق على أبیه شیئا- و أنه کان أجیرا لابن جدعان- على مائدته یطرد عنها الذبان- . قال الجاحظ و قد تعلمون ما کان یلقى أصحاب النبی ص- ببطن مکه من المشرکین- و حسن صنیع کثیر منهم- کصنیع حمزه حین ضرب أبا جهل بقوسه ففلق هامته- و أبو جهل یومئذ سید البطحاء و رئیس الکفر- و أمنع أهل مکه- و قد عرفتم أن الزبیر سل سیفه و استقبل به المشرکین- لما أرجف أن محمدا ص قد قتل- و أن عمر بن الخطاب قال حین أسلم- لا یعبد الله سرا بعد الیوم- و أن سعدا ضرب بعض المشرکین بلحی جمل فأراق دمه- فکل هذه الفضائل- لم یکن لعلی بن أبی طالب فیها ناقه و لا جمل- و قد قال الله تعالى- لا یَسْتَوِی مِنْکُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ- أُولئِکَ أَعْظَمُ دَرَجَهً- مِنَ الَّذِینَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا- فإذا کان الله تعالى قد فضل من أنفق قبل الفتح- لأنه لا هجره بعد الفتح على من أنفق بعد الفتح- فما ظنکم بمن أنفق من قبل الهجره- و من لدن مبعث النبی ص إلى الهجره و إلى بعد الهجره- .

قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- إننا لا ننکر فضل الصحابه و سوابقهم- و لسنا کالإمامیه- الذین یحملهم الهوى على جحد الأمور المعلومه- و لکننا ننکر تفضیل أحد من الصحابه- على علی بن أبی طالب- و لسنا ننکر غیر ذلک- و ننکر تعصب الجاحظ للعثمانیه- و قصده إلى فضائل هذا الرجل و مناقبه بالرد و الإبطال- و أما حمزه فهو عندنا ذو فضل عظیم و مقام جلیل- و هو سید الشهداء الذین استشهدوا على عهد رسول اللهص- و أما فضل عمر فغیر منکر- و کذلک الزبیر و سعد- و لیس فیما ذکر ما یقتضی کون علی ع مفضولا لهم أو لغیرهم- إلا قوله و کل هذه الفضائل- لم یکن لعلی ع فیها ناقه و لا جمل- فإن هذا من التعصب البارد و الحیف الفاحش- و قد قدمنا من آثار علی ع قبل الهجره- و ما له إذ ذاک من المناقب و الخصائص- ما هو أفضل و أعظم و أشرف من جمیع ما ذکر لهؤلاء- على أن أرباب السیره یقولون- إن الشجه التی شجها سعد- و إن السیف الذی سله الزبیر- هو الذی جلب الحصار فی الشعب على النبی ص و بنی هاشم- و هو الذی سیر جعفرا و أصحابه إلى الحبشه- و سل السیف- فی الوقت الذی لم یؤمر المسلمون فیه بسل السیف- غیر جائز- قال تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِینَ قِیلَ لَهُمْ- کُفُّوا أَیْدِیَکُمْ وَ أَقِیمُوا الصَّلاهَ وَ آتُوا الزَّکاهَ- فَلَمَّا کُتِبَ عَلَیْهِمُ الْقِتالُ- إِذا فَرِیقٌ مِنْهُمْ یَخْشَوْنَ النَّاسَ کَخَشْیَهِ اللَّهِ- فتبین أن التکلیف له أوقات- فمنها وقت لا یصلح فیه سل السیف- و منها وقت یصلح فیه و یجب- فأما قوله تعالى لا یَسْتَوِی مِنْکُمْ مَنْ أَنْفَقَ- فقد ذکرنا ما عندنا من دعواهم لأبی بکر إنفاق المال-

و أیضا فإن الله تعالى لم یذکر إنفاق المال مفردا- و إنما قرن به القتال- و لم یکن أبو بکر صاحب قتال و حرب فلا تشمله الآیه- و کان علی ع صاحب قتال و إنفاق قبل الفتح- أما قتاله فمعلوم بالضروره- و أما إنفاقه فقد کان على حسب حاله و فقره- و هو الذی أطعم الطعام على حبه مسکینا و یتیما و أسیرا- و أنزلت فیه و فی زوجته و ابنیه سوره کامله من القرآن- و هو الذی ملک أربعه دراهم- فأخرج منها درهما سرا و درهما علانیه لیلا- ثم أخرج منها فی النهار درهما سرا و درهما علانیه- فأنزل فیه قوله تعالى- الَّذِینَ یُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّیْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِیَهً- و هو الذی قدم بین یدی نجواه صدقه-دون المسلمین کافه- و هو الذی تصدق بخاتمه و هو راکع فأنزل الله فیه- إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا- الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاهَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاهَ وَ هُمْ راکِعُونَ- .

قال الجاحظ- و الحجه العظمى للقائلین بتفضیل علی ع- قتله الأقران و خوضه الحرب- و لیس له فی ذلک کبیر فضیله- لأن کثره القتل و المشی بالسیف إلى الأقران- لو کان من أشد المحن و أعظم الفضائل- و کان دلیلا على الرئاسه و التقدم- لوجب أن یکون للزبیر و أبی دجانه- و محمد بن مسلمه و ابن عفراء و البراء بن مالک- من الفضل ما لیس لرسول الله ص- لأنه لم یقتل بیده إلا رجلا واحدا- و لم یحضر الحرب یوم بدر و لا خالط الصفوف- و إنما کان معتزلا عنهم فی العریش و معه أبو بکر- و أنت ترى الرجل الشجاع قد یقتل الأقران- و یجندل الأبطال- و فوقه من العسکر من لا یقتل و لا یبارز- و هو الرئیس أو ذوی الرأی و المستشیر فی الحرب- لأن للرؤساء من الاکتراث و الاهتمام- و شغل البال و العنایه و التفقد ما لیس لغیرهم- و لأن الرئیس هو المخصوص بالمطالبه- و علیه مدار الأمور- و به یستبصر المقاتل و یستنصر- و باسمه ینهزم العدو- و لو لم یکن له إلا أن الجیش لو ثبت و فر هو- لم یغن ثبوت الجیش کله و کانت الدبره علیه- و لو ضیع القوم جمیعا و حفظ هو- لانتصر و کانت الدوله له- و لهذا لا یضاف النصر و الهزیمه إلا إلیه- ففضل أبی بکر بمقامه فی العریش مع رسول الله یوم بدر- أعظم من جهاد علی ع ذلک الیوم و قتله أبطال قریش- .

قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- لقد أعطی أبو عثمان مقولا و حرم معقولا- إن کان‏یقول هذا على اعتقاد و جد- و لم یذهب به مذهب اللعب و الهزل- أو على طریق التفاصح و التشادق و إظهار القوه- و السلاطه و ذلاقه اللسان- و حده الخاطر و القوه على جدال الخصوم- أ لم یعلم أبو عثمان أن رسول الله ص کان أشجع البشر- و أنه خاض الحروب- و ثبت فی المواقف التی طاشت فیها الألباب- و بلغت القلوب الحناجر- فمنها یوم أحد- و وقوفه بعد أن فر المسلمون بأجمعهم- و لم یبق معه إلا أربعه- علی و الزبیر و طلحه و أبو دجانه- فقاتل و رمى بالنبل حتى فنیت نبله- و انکسرت سیه قوسه و انقطع وتره- فأمر عکاشه بن محصن أن یوترها- فقال یا رسول الله لا یبلغ الوتر فقال أوتر ما بلغ- قال عکاشه فو الذی بعثه بالحق لقد أوترت حتى بلغ- و طویت منه شبرا على سیه القوس-

ثم أخذها فما زال یرمیهم- حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت- و بارز أبی بن خلف فقال له أصحابه إن شئت عطف علیه بعضنا فأبى- و تناول الحربه من الحارث بن الصمه ثم انتقض بأصحابه- کما ینتقض البعیر- قالوا فتطایرنا عنه تطایر الشعاریر فطعنه بالحربه- فجعل یخور کما یخور الثور- و لو لم یدل على ثباته حین انهزم أصحابه و ترکوه- إلا قوله تعالى إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى‏ أَحَدٍ- وَ الرَّسُولُ یَدْعُوکُمْ فِی أُخْراکُمْ- فکونه ع فی أخراهم و هم یصعدون و لا یلوون هاربین- دلیل على أنه ثبت و لم یفر- و ثبت یوم حنین فی تسعه من أهله و رهطه الأدنین- و قد فر المسلمون کلهم و النفر التسعه محدقون به- العباس آخذ بحکمه بغلته- و علی بین یدیه مصلت سیفه- و الباقون حول بغله رسول الله ص یمنه و یسره- و قد انهزم المهاجرون و الأنصار- و کلما فروا أقدم هو ص یمنه و یسره- و قد انهزم المهاجرون و الأنصار- و کلما فرو أقدم هو ص و صمم مستقدما- یلقى السیوف و النبال بنحره و صدره- ثم أخذ کفا منالبطحاء و حصب المشرکین-

و قال شاهت الوجوه والخبر المشهور عن علی ع و هو أشجع البشر کنا إذا اشتد البأس- و حمی الوطیس اتقینا برسول الله ص و لذنا به- فکیف یقول الجاحظ إنه ما خاض الحرب و لا خالط الصفوف- و أی فریه أعظم من فریه من نسب رسول الله ص- إلى الإحجام و اعتزال الحرب- ثم أی مناسبه بین أبی بکر و رسول الله ص فی هذا المعنى- لیقیسه و ینسبه إلى رسول الله ص صاحب الجیش و الدعوه- و رئیس الإسلام و المله- و الملحوظ بین أصحابه و أعدائه بالسیاده- و إلیه الإیماء و الإشاره- و هو الذی أحنق قریشا و العرب- و ورى أکبادهم بالبراءه من آلهتهم- و عیب دینهم و تضلیل أسلافهم- ثم وترهم فیما بعد بقتل رؤسائهم و أکابرهم- و حق لمثله إذا تنحى عن الحرب و اعتزلها-

أن یتنحى و یعتزل- لأن ذلک شأن الملوک و الرؤساء- إذا کان الجیش منوطا بهم و ببقائهم- فمتى هلک الملک هلک الجیش- و متى سلم الملک أمکن أن یبقى علیه ملکه- و إن عطب جیشه فإنه یستجد جیشا آخر- و لذلک نهى الحکماء أن یباشر الملک الحرب بنفسه- و خطئوا الإسکندر لما بارز قوسرا ملک الهند- و نسبوه إلى مجانبه الحکمه و مفارقه الصواب و الحزم- فلیقل لنا الجاحظ أی مدخل لأبی بکر فی هذا المعنى- و من الذی کان یعرفه من أعداء الإسلام لیقصده بالقتل- و هل هو إلا واحد من عرض المهاجرین- حکمه حکم عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان و غیرهما- بل کان عثمان أکثر منه صیتا و أشرف منه مرکبا- و العیون إلیه أطمح- و العدو إلیه أحنق و أکلب- و لو قتل أبو بکر فی بعض تلک المعارک- هل کان یؤثر قتله فی الإسلام ضعفا- أو یحدث فیه وهنا- أو یخاف على المله- لو قتل أبو بکر فی بعض تلک الحروب- أن تندرس و تعفى آثارها و ینطمس منارها- لیقول الجاحظ إن أبا بکر کان حکمه حکم رسول الله ص- فی مجانبه الحروب و اعتزالها- نعوذ بالله من الخذلان- و قد علم العقلاء کلهم ممن لهبالسیر معرفه- و بالآثار و الأخبار ممارسه- حال حروب رسول الله ص کیف کانت- و حاله ع فیها کیف کان-

و وقوفه حیث وقف و حربه حیث حارب- و جلوسه فی العریش یوم جلس- و إن وقوفه ص وقوف رئاسه و تدبیر- و وقوف ظهر و سند یتعرف أمور أصحابه- و یحرس صغیرهم و کبیرهم بوقوفه من ورائهم- و تخلفه عن التقدم فی أوائلهم- لأنهم متى علموا أنه فی أخراهم اطمأنت قلوبهم- و لم تتعلق بأمره نفوسهم- فیشتغلوا بالاهتمام به عن عدوهم- و لا یکون لهم فئه یلجئون إلیها و ظهر یرجعون إلیه- و یعلمون أنه متى کان خلفهم- تفقد أمورهم و علم مواقفهم- و آوى کل إنسان مکانه فی الحمایه و النکایه- و عند المنازله فی الکر و الحمله- فکان وقوفه حیث وقف أصلح لأمرهم- و أحمى و أحرس لبیضتهم- و لأنه المطلوب من بینهم إذ هو مدبر أمورهم- و والی جماعتهم- أ لا ترون أن موقف صاحب اللواء موقف شریف- و أن صلاح الحرب فی وقوفه- و أن فضیلته فی ترک التقدم فی أکثر حالاته- فللرئیس حالات- الأولى حاله یتخلف و یقف آخرا لیکون سندا و قوه- و ردءا و عده- و لیتولى تدبیر الحرب و یعرف مواضع الخلل- .

و الحاله الثانیه یتقدم فیها فی وسط الصف- لیقوی الضعیف و یشجع الناکص- . و حاله ثالثه و هی إذا اصطدم الفیلقان- و تکافح السیفان- اعتمد ما تقتضیه الحال من الوقوف حیث یستصلح- أو من مباشره الحرب بنفسه فإنها آخر المنازل- و فیها تظهر شجاعه الشجاع النجد و فساله الجبان المموه- . فأین مقام الرئاسه العظمى لرسول الله ص- و أین منزله أبی بکر لیسوی بین المنزلتین و یناسب بین الحالتین- .

و لو کان أبو بکر شریکا لرسول الله ص فی الرساله- و ممنوحا من الله‏بفضیله النبوه- و کانت قریش و العرب تطلبه کما تطلب محمدا ص- و کان یدبر من أمر الإسلام و تسریب العساکر- و تجهیز السرایا و قتل الأعداء- ما یدبره محمد ص- لکان للجاحظ أن یقول ذلک- فأما و حاله حاله و هو أضعف المسلمین جنانا- و أقلهم عند العرب تره لم یرم قط بسهم- و لا سل سیفا و لا أراق دما- و هو أحد الأتباع غیر مشهور و لا معروف- و لا طالب و لا مطلوب- فکیف یجوز أن یجعل مقامه و منزلته- مقام رسول الله ص و منزلته- و لقد خرج ابنه عبد الرحمن- مع المشرکین یوم أحد فرآه أبو بکر فقام مغیظا علیه- فسل من السیف مقدار إصبع یرید البروز إلیه- فقال له رسول الله ص- یا أبا بکر شم سیفک و أمتعنا بنفسک- و لم یقل له و أمتعنا بنفسک- إلا لعلمه بأنه لیس أهلا للحرب و ملاقاه الرجال- و أنه لو بارز لقتل- .

و کیف یقول الجاحظ لا فضیله لمباشره الحرب- و لقاء الأقران و قتل أبطال الشرک- و هل قامت عمد الإسلام إلا على ذلک- و هل ثبت الدین و استقر إلا بذلک- أ تراه لم یسمع قول الله تعالى- إِنَّ اللَّهَ یُحِبُّ الَّذِینَ یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِهِ- صَفًّا کَأَنَّهُمْ بُنْیانٌ مَرْصُوصٌ- و المحبه من الله تعالى هی إراده الثواب- فکل من کان أشد ثبوتا فی هذا الصف و أعظم قتالا- کان أحب إلى الله- و معنى الأفضل هو الأکثر ثوابا- فعلی ع إذا هو أحب المسلمین إلى الله- لأنه أثبتهم قدما فی الصف المرصوص- لم یفر قط بإجماع الأمه و لا بارزه قرن إلا قتله- .

أ تراه لم یسمع قول الله تعالى- وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِینَ عَلَى الْقاعِدِینَ أَجْراً عَظِیماً- و قوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ- بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّهَ یُقاتِلُونَ‏فِی سَبِیلِ اللَّهِ- فَیَقْتُلُونَ وَ یُقْتَلُونَ- وَعْداً عَلَیْهِ حَقًّا فِی التَّوْراهِ وَ الْإِنْجِیلِ وَ الْقُرْآنِ- ثم قال سبحانه مؤکدا لهذا البیع و الشراء- وَ مَنْ أَوْفى‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ- فَاسْتَبْشِرُوا بِبَیْعِکُمُ الَّذِی بایَعْتُمْ بِهِ- وَ ذلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ- و قال الله تعالى- ذلِکَ بِأَنَّهُمْ لا یُصِیبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَهٌ فِی سَبِیلِ اللَّهِ- وَ لا یَطَؤُنَ مَوْطِئاً یَغِیظُ الْکُفَّارَ وَ لا یَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَیْلًا- إِلَّا کُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ- .

فمواقف الناس فی الجهاد على أحوال- و بعضهم فی ذلک أفضل من بعض- فمن دلف إلى الأقران و استقبل السیوف و الأسنه- کان أثقل على أکتاف الأعداء لشده نکایته فیهم- ممن وقف فی المعرکه و أعان و لم یقدم- و کذلک من وقف فی المعرکه و أعان و لم یقدم- إلا أنه بحیث تناله السهام و النبل أعظم غناء- و أفضل ممن وقف حیث لا یناله ذلک- و لو کان الضعیف و الجبان یستحقان الرئاسه- بقله بسط الکف و ترک الحرب- و أن ذلک یشاکل فعل النبی ص- لکان أوفر الناس حظا فی الرئاسه- و أشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت- و إن بطل فضل علی ع فی الجهاد- لأن النبی ص کان أقلهم قتالا کما زعم الجاحظ- لیبطلن على هذا القیاس فضل أبی بکر فی الإنفاق- لأن رسول الله ص کان أقلهم مالا- .

و أنت إذا تأملت أمر العرب و قریش- و نظرت السیر و قرأت الأخبار- عرفت أنها کانت تطلب محمدا ص- و تقصد قصده و تروم قتله- فإن أعجزها و فاتها طلبت علیا ع و أرادت قتله- لأنه کان أشبههم بالرسول حالا- و أقربهم منه قربا و أشدهم عنه دفعا- و أنهم متى قصدوا علیا فقتلوه- أضعفوا أمر محمد ص و کسروا شوکته- إذ کان أعلى من ینصره فی البأس و القوه- و الشجاعهو النجده و الإقدام و البساله- أ لا ترى إلى قول عتبه بن ربیعه یوم بدر- و قد خرج هو و أخوه شیبه و ابنه الولید بن عتبه- فأخرج إلیه الرسول نفرا من الأنصار- فاستنسبوهم فانتسبوا لهم- فقالوا ارجعوا إلى قومکم ثم نادوا- یا محمد أخرج إلینا أکفاءنا من قومنا- فقال النبی ص لأهله الأدنین- قوموا یا بنی هاشم فانصروا حقکم الذی آتاکم الله- على باطل هؤلاء- قم یا علی قم یا حمزه قم یا عبیده- أ لا ترى ما جعلت هند بنت عتبه لمن قتله یوم أحد- لأنه اشترک هو و حمزه فی قتل أبیها یوم بدر- أ لم تسمع قول هند ترثی أهلها-

ما کان عن عتبه لی من صبر
أبی و عمی و شقیق صدری‏

أخی الذی کان کضوء البدر
بهم کسرت یا علی ظهری‏

و ذلک لأنه قتل أخاها الولید بن عتبه- و شرک فی قتل أبیها عتبه- و أما عمها شیبه فإن حمزه تفرد بقتله- . و قال جبیر بن مطعم لوحشی مولاه یوم أحد- إن قتلت محمدا فأنت حر- و إن قتلت علیا فأنت حر- و إن قتلت حمزه فأنت حر- فقال أما محمد فسیمنعه أصحابه- و أما علی فرجل حذر کثیر الالتفات فی الحرب- و لکنی سأقتل حمزه فقعد له و زرقه بالحربه فقتله- .

و لما قلنا من مقاربه حال علی ع فی هذا الباب- لحال رسول الله ص و مناسبتها إیاها- ما وجدناه فی السیر و الأخبار- من إشفاق رسول الله ص و حذره علیه- و دعائه له بالحفظ و السلامه-قال ص یوم الخندق و قد برز علی إلى عمرو- و رفع یدیه إلى السماء بمحضر من أصحابه اللهم إنک أخذت منی‏حمزه یوم أحد- و عبیده یوم بدر فاحفظ الیوم علی علیا- رَبِّ لا تَذَرْنِی فَرْداً وَ أَنْتَ خَیْرُ الْوارِثِینَ‏- و لذلک ضن به عن مبارزه عمرو- حین دعا عمرو الناس إلى نفسه مرارا- فی کلها یحجمون و یقدم علی فیسأل الإذن له فی البراز- حتى قال له رسول الله ص- إنه عمرو فقال و أنا علی- فأدناه و قبله و عممه بعمامته- و خرج معه خطوات کالمودع له- القلق لحاله المنتظر لما یکون منه- ثم لم یزل ص رافعا یدیه إلى السماء مستقبلا لها بوجهه- و المسلمون صموت حوله کأنما على رءوسهم الطیر- حتى ثارت الغبره و سمعوا التکبیر من تحتها- فعلموا أن علیا قتل عمرا- فکبر رسول الله ص و کبر المسلمون- تکبیره سمعها من وراء الخندق من عساکر المشرکین- و لذلک قال حذیفه بن الیمان لو قسمت فضیله علی ع بقتل عمرو یوم الخندق- بین المسلمین بأجمعهم لوسعتهم- و قال ابن عباس فی قوله تعالى- وَ کَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِینَ الْقِتالَ قال بعلی بن أبی طالب- .

قال الجاحظ على أن مشی الشجاع بالسیف إلى الأقران- لیس على ما توهمه من لا یعلم باطن الأمر- لأن معه فی حال مشیه إلى الأقران بالسیف- أمورا أخرى لا یبصرها الناس- و إنما یقضون على ظاهر ما یرون من إقدامه و شجاعته- فربما کان سبب ذلک الهوج- و ربما کان الغراره و الحداثه- و ربما کان الإحراج و الحمیه- و ربما کان لمحبه النفخ و الأحدوثه- و ربما کان طباعا کطباع القاسی و الرحیم- و السخی و البخیل‏ قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله فیقال للجاحظ- فعلى أیها کان مشی علی بن أبی طالب إلى الأقران بالسیف- فأیما قلت من ذلک بانت عداوتک لله تعالى و لرسوله- و إن کان مشیه لیس على وجه مما ذکرت-

و إنما کان على وجه النصره- و القصد إلى المسابقه إلى ثواب الآخره- و الجهاد فی سبیل الله و إعزاز الدین- کنت بجمیع ما قلت معاندا و عن سبیل الإنصاف خارجا- و فی إمام المسلمین طاعنا- و إن تطرق مثل هذا الوهم على علی ع- لیتطرقن مثله على أعیان المهاجرین و الأنصار- أرباب الجهاد و القتال- الذین نصروا رسول الله ص بأنفسهم و وقوه بمهجهم- و فدوه بأبنائهم و آبائهم- فلعل ذلک کان لعله من العلل المذکوره- و فی ذلک الطعن فی الدین و فی جماعه المسلمین- . و لو جاز أن یتوهم هذا فی علی ع و فی غیره- لماقال رسول الله ص حکایه عن الله تعالى لأهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لکم- و لاقال لعلی ع برز الإیمان کله إلى الشرک کله- و لا قال أوجب طلحه- .

و قد علمنا ضروره من دین الرسول ص- تعظیمه لعلی ع- تعظیما دینیا لأجل جهاده و نصرته- فالطاعن فیه طاعن فی رسول الله ص- إذ زعم أنه قد یمکن أن یکون جهاده لا لوجه الله تعالى- بل لأمر آخر من الأمور التی عددها- و بعثه على التفوه بها إغواء الشیطان و کیده- و الإفراط فی عداوه من أمر الله بمحبته- و نهى عن بغضه و عداوته- .

أ ترى رسول الله ص خفی علیه من أمر علی ع- ما لاح للجاحظ و العثمانیه فمدحه و هو غیر مستحق للمدح- . قال الجاحظ فصاحب النفس المختاره المعتدله- یکون قتاله طاعه و فراره معصیه- لأن نفسه معتدله کالمیزان فی استقامه لسانه و کفتیه- فإذا لم یکن کذلک کان إقدامه طباعا و فراره طباعا- . قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله فیقال له- فلعل إنفاق أبی بکر على ما تزعم أربعین ألف درهم لا ثواب له- لأن نفسه ربما تکون غیر معتدله- لأنه یکون مطبوعا على الجود و السخاء- و لعل خروجه مع النبی ص- یوم الهجره إلى الغار لا ثواب له فیه- لأن أسبابه کانت له مهیجه و دواعیه غالبه- محبه الخروج و بغض المقام- و لعل رسول الله ص فی دعائه إلى الإسلام- و إکبابه على الصلوات الخمس فی جوف اللیل- و تدبیره أمر الأمه لا ثواب له فیه- لأنه قد تکون نفسه غیر معتدله- بل یکون فی طباعه الرئاسه و حبها- و العباده و الالتذاذ بها- و لقد کنا نعجب من مذهب أبی عثمان- أن المعارف ضروره و أنها تقع طباعا-

و فی قوله بالتولد و حرکه الحجر بالطبع- حتى رأینا من قوله ما هو أعجب منه- فزعم أنه ربما یکون جهاد علی ع و قتله المشرکین- لا ثواب له فیه لأنه فعله طبعا- و هذا أطرف من قوله فی المعرفه و فی التولد- . قال الجاحظ و وجه آخر أن علیا لو کان کما یزعم شیعته- ما کان له بقتل الأقران کبیر فضیله و لا عظیم طاعه- لأنه قدروی عن النبی ص أنه قال له‏ستقاتل بعدی الناکثین و القاسطین و المارقین- فإذا کان قد وعده بالبقاء بعده- فقد وثق بالسلامه من الأقران- و علم أنه منصور علیهم و قاتلهم- فعلى هذا یکون جهاد طلحه و الزبیر أعظم طاعه منه- .

قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- هذا راجع على الجاحظ فی النبی ص لأن الله تعالى قال له- وَ اللَّهُ یَعْصِمُکَ مِنَ النَّاسِ- فلم یکن له فی جهاده کبیر طاعه و کثیر طاعه- وکثیر من الناس یروی عنه ص اقتدوا باللذین من بعدی أبی بکر و عمرفوجب أن یبطل جهادهما- وقد قال للزبیر ستقاتل علیا و أنت ظالم له- فأشعره بذلک أنه لا یموت فی حیاه رسول الله ص- و قال فی الکتاب العزیز لطلحه- وَ ما کانَ لَکُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ- وَ لا أَنْ تَنْکِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ- قالوا نزلت فی طلحه- فأعلمه بذلک أنه یبقى بعده- فوجب ألا یکون لهما کبیر ثواب فی الجهاد- و الذی صح عندنا من الخبر و هو قوله- ستقاتل بعدی الناکثین- أنه قال لما وضعت الحرب أوزارها- و دخل الناس فی دین الله أفواجا- و وضعت الجزیه و دانت العرب قاطبه- .

قال الجاحظ- ثم قصد الناصرون لعلی و القائلون بتفضیله- إلى الأقران الذین قتلهم فأطروهم و غلوا فیهم- و لیسوا هناک- فمنهم عمرو بن عبد ود- ترکتموه أشجع من عامر بن الطفیل- و عتبه بن الحارث و بسطام بن قیس- و قد سمعنا بأحادیث حروب الفجار- و ما کان بین قریش و دوس و حلف الفضول- فما سمعت لعمرو بن عبد ود ذکرا فی ذلک- .

قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- أمر عمرو بن عبد ود أشهر و أکثر من أن یحتج له- فلنتلمح کتب المغازی و السیر- و لینظر ما رثته به شعراء قریش لما قتل- فمن ذلک ما ذکره محمد بن إسحاق فی مغازیه- قال و قال مسافع بن عبد مناف بن زهره بن حذافه بن جمح- یبکی عمرو بن عبد الله بن عبد ود- حین قتله علی بن أبی طالب ع- مبارزه لما جزع المذاد أی قطع الخندق-

عمرو بن عبد کان أول فارس
جزع المذاد و کان فارس ملیل‏

سمح الخلائق ماجد ذو مره
یبغی القتال بشکه لم ینکل‏

و لقد علمتم حین ولوا عنکم
أن ابن عبد منهم لم یعجل‏

حتى تکفنه الکماه و کلهم‏
یبغی القتال له و لیس بمؤتل‏

و لقد تکنفت الفوارس فارسا
بجنوب سلع غیر نکس أمیل‏

سال النزال هناک فارس غالب‏
بجنوب سلع لیته لم ینزل‏

فاذهب علی ما ظفرت بمثلها
فخرا و لو لاقیت مثل المعضل‏

نفسی الفداء لفارس من غالب‏
لاقى حمام الموت لم یتحلحل‏

أعنی الذی جزع المذاد و لم یکن
فشلا و لیس لدى الحروب بزمل‏

و قال هبیره بن أبی وهب المخزومی- یعتذر من فراره عن علی بن أبی طالب- و ترکه عمرا یوم الخندق و یبکیه-

لعمرک ما ولیت ظهری محمدا
و أصحابه جبنا و لا خیفه القتل‏

و لکننی قلبت أمری فلم أجد
لسیفی غناء إن وقفت و لا نبلی‏

وقفت فلما لم أجد لی مقدما
صدرت کضرغام هزبر إلى شبل‏

ثنى عطفه عن قرنه حین لم یجد
مجالا و کان الحزم و الرأی من فعلی‏

فلا تبعدن یا عمرو حیا و هالکا
فقد مت محمود الثنا ماجد الفعل‏

و لا تبعدن یا عمرو حیا و هالکا
فقد کنت فی حرب العدا مرهف النصل‏

فمن لطراد الخیل تقدع بالقنا
و للبذل یوما عند قرقره البزل‏

هنالک لو کان ابن عمرو لزارها
و فرجها عنهم فتى غیر ما وغل‏

کفتک علی لن ترى مثل موقف
وقفت على شلو المقدم کالفحل‏

فما ظفرت کفاک یوما بمثلها
أمنت بها ما عشت من زله النعل‏

و قال هبیره بن أبی وهب أیضا یرثی عمرا و یبکیه-

لقد علمت علیا لؤی بن غالب
لفارسها عمرو إذا ناب نائب‏

و فارسها عمرو إذا ما یسوقه‏
علی و إن الموت لا شک طالب‏

عشیه یدعوه علی و إنه
لفارسها إذ خام عنه الکتائب‏

فیا لهف نفسی إن عمرا لکائن
بیثرب لا زالت هناک المصائب‏

لقد أحرز العلیا علی بقتله‏
و للخیر یوما لا محاله جالب‏

و قال حسان بن ثابت الأنصاری یذکر عمرا-

أمسى الفتى عمرو بن عبد ناظرا
کیف العبور و لیته لم ینظر

و لقد وجدت سیوفنا مشهوره
و لقد وجدت جیادنا لم تقصر

و لقد لقیت غداه بدر عصبه
ضربوک ضربا غیر ضرب الحسر

أصبحت لا تدعى لیوم عظیمه
یا عمرو أو لجسیم أمر منکر

و قال حسان أیضا-

لقد شقیت بنو جمح بن عمرو
و مخزوم و تیم ما نقیل‏

و عمرو کالحسام فتى قریش‏
کأن جبینه سیف صقیل‏

فتى من نسل عامر أریحی
تطاوله الأسنه و النصول‏

دعاه الفارس المقدام لما
تکشفت المقانب و الخیول‏

أبو حسن فقنعه حساما
جرازا لا أفل و لا نکول‏

فغادره مکبا مسلحبا
على عفراء لا بعد القتیل‏

فهذه الأشعار فیه بل بعض ما قیل فیه- . و أما الآثار و الأخبار- فموجوده فی کتب السیر و أیام الفرسان و وقائعهم- و لیس‏أحد من أرباب هذا العلم یذکر عمرا إلا قال- کان فارس قریش و شجاعها- و إنما قال له حسانو لقد لقیت غداه بدر عصبهلأنه شهد مع المشرکین بدرا و قتل قوما من المسلمین- ثم فر مع من فر و لحق بمکه- و هو الذی کان قال و عاهد الله عند الکعبه- ألا یدعوه أحد إلى واحده من ثلاث إلا أجابه- و آثاره فی أیام الفجار مشهوره- تنطق بها کتب الأیام و الوقائع- و لکنه لم یذکر مع الفرسان الثلاثه و هم- عتبه و بسطام و عامر- لأنهم کانوا أصحاب غارات و نهب و أهل بادیه- و قریش أهل مدینه و ساکنو مدر و حجر- لا یرون الغارات و لا ینهبون غیرهم من العرب- و هم مقتصرون على المقام ببلدتهم و حمایه حرمهم- فلذلک لم یشتهر اسمه کاشتهار هؤلاء- .

و یقال له إذا کان عمرو کما تذکر لیس هناک- فما باله لما جزع الخندق فی سته فرسان هو أحدهم- فصار مع أصحاب النبی ص على أرض واحده- و هم ثلاثه آلاف- و دعاهم إلى البراز مرارا- لم ینتدب أحد منهم للخروج إلیه- و لا سمح منهم أحد بنفسه- حتى وبخهم و قرعهم و ناداهم- أ لستم تزعمون أنه من قتل منا فإلى النار- و من قتل منکم فإلى الجنه- أ فلا یشتاق أحدکم إلى أن یذهب إلى الجنه- أو یقدم عدوه إلى النار- فجبنوا کلهم و نکلوا و ملکهم الرعب و الوهل- فإما أن یکون هذا أشجع الناس کما قیل عنه- أو یکون المسلمون کلهم أجبن العرب و أذلهم و أفشلهم- و قد روى الناس کلهم الشعر الذی أنشده- لما نکل القوم بجمعهم عنه- و أنه جال بفرسه و استدار- و ذهب یمنه ثم ذهب یسره- ثم وقف تجاه القوم فقال-

و لقد بححت من النداء
بجمعهم هل من مبارز

و وقفت إذ جبن المشیع
وقفه القرن المناجز

و کذاک أنی لم أزل‏
متسرعا نحو الهزاهز

إن الشجاعه فی الفتى
و الجود من خیر الغرائز

فلما برز إلیه علی أجابه فقال له-

لا تعجلن فقد أتاک
مجیب صوتک غیر عاجز

ذو نیه و بصیره
یرجو الغداه نجاه فائز

إنی لأرجو أن أقیم
علیک نائحه الجنائز

من ضربه تفنى و یبقى‏
ذکرها عند الهزاهز

و لعمری لقد سبق الجاحظ بما قاله بعض جهال الأنصار- لما رجع رسول الله من بدر- و قال فتى من الأنصار شهد معه بدرا- إن قتلنا إلا عجائز صلعا- فقال له النبی ص- لا تقل ذلک یا ابن أخ أولئک الملأ- . قال الجاحظ- و قد أکثروا فی الولید بن عتبه بن ربیعه- قتیله یوم بدر- و ما علمنا الولید حضر حربا قط قبلها و لا ذکر فیها- . قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- کل من دون أخبار قریش و آثار رجالها- وصف الولید بالشجاعه و البساله- و کان مع شجاعته أنه یصارع الفتیان فیصرعهم- و لیس لأنه لم یشهد حربا قبلها- ما یجب أن یکون بطلا شجاعا- فإن علیا ع لم یشهد قبل بدر حربا- و قد رأى الناس آثاره فیها- .

قال الجاحظ- و قد ثبت أبو بکر مع النبی ص یوم أحد کما ثبت علی- فلا فخر لأحدهما على صاحبه فی ذلک الیوم- . قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله أما ثباته یوم أحد- فأکثر المؤرخین و أرباب السیر ینکرونه- و جمهورهم یروی أنه لم یبق مع النبی ص- إلا علی و طلحه و الزبیر و أبو دجانه- و قد روی عن ابن عباس أنه قال- و لهم خامس و هو عبد الله بن مسعود- و منهم من أثبت سادسا و هو المقداد بن عمرو- و روى یحیى بن سلمه بن کهیل قال قلت لأبی- کم ثبت مع رسول الله ص یوم أحد- فقال اثنان قلت من هما قال علی و أبو دجانه- .

و هب أن أبا بکر ثبت یوم أحد کما یدعیه الجاحظ- أ یجوز له أن یقول ثبت کما ثبت علی- فلا فخر لأحدهما على الآخر- و هو یعلم آثار علی ع ذلک الیوم- و أنه قتل أصحاب الألویه من بنی عبد الدار- منهم طلحه بن أبی طلحه- الذی رأى رسول الله ص فی منامه أنه مردف کبشا- فأوله و قال کبش الکتیبه نقتله- فلما قتله علی ع مبارزه- و هو أول قتیل قتل من المشرکین ذلک الیوم- کبر رسول الله ص و قال- هذا کبش الکتیبه- . و ما کان منه من المحاماه عن رسول الله ص- و قد فر الناس و أسلموه- فتصمد له کتیبه من قریش فیقول- یا علی اکفنی هذه فیحمل علیها فیهزمها و یقتل عمیدها- حتى سمع المسلمون و المشرکون صوتا من قبل السماء-

لا سیف إلا ذو الفقار
و لا فتى إلا علی‏

– و حتى قال النبی ص عن جبرائیل ما قال- . أ تکون هذه آثاره و أفعاله- ثم یقول الجاحظ لا فخر لأحدهما على صاحبه- .رَبَّنَا افْتَحْ بَیْنَنا وَ بَیْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ- وَ أَنْتَ خَیْرُ الْفاتِحِینَ- . قال الجاحظ و لأبی بکر فی ذلک الیوم مقام مشهور- خرج ابنه عبد الرحمن فارسا مکفرا فی الحدید- یسأل المبارزه و یقول- أنا عبد الرحمن بن عتیق فنهض إلیه أبو بکر یسعى بسیفه- فقال له النبی ص- شم سیفک و ارجع إلى مکانک و متعنا بنفسک- . قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- ما کان أغناک یا أبا عثمان- عن ذکر هذا المقام المشهور لأبی بکر- فإنه لو تسمعه الإمامیه- لأضافته إلى ما عندها من المثالب- لأن قول النبی ص ارجع- دلیل على أنه لا یحتمل مبارزه أحد- لأنه إذا لم یحتمل مبارزه ابنه- و أنت تعلم حنو الابن علی الأب و تبجیله له- و إشفاقه علیه و کفه عنه- لم یحتمل مبارزه الغریب الأجنبی- .

و قوله له و متعنا بنفسک- إیذان له بأنه کان یقتل لو خرج- و رسول الله کان أعرف به من الجاحظ- فأین حال هذا الرجل من حال الرجل الذی صلى بالحرب- و مشى إلى السیف بالسیف- فقتل الساده و القاده و الفرسان و الرجاله- . قال الجاحظ على أن أبا بکر- و إن لم تکن آثاره فی الحرب کآثار غیره- فقد بذل الجهد و فعل ما یستطیعه و تبلغه قوته- و إذا بذل المجهود- فلا حال أشرف من حاله- .

قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- أما قوله إنه بذل الجهد فقد صدق- و أما قوله لا حال أشرف من حاله فخطأ- لأن حال من بلغت قوته فأعملها فی قتل المشرکین- أشرف من حال من نقصت قوته عن بلوغ الغایه- أ لا ترى أن حال الرجل أشرف فی الجهاد من حال المرأه- و حال البالغ الأید أشرف من حال الصبی الضعیف- . فهذه جمله ما ذکره الشیخ أبو جعفر- محمد بن عبد الله الإسکافی رحمه الله- فی نقض العثمانیه اقتصرنا علیها هاهنا- و سنعود فیما بعد إلى ذکر جمله أخرى من کلامه- إذا اقتضت الحال ذکره

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۱۸۲

خطبه ۲۳۸ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(الخطبه بالقاصعه)(الاوّل)

۲۳۸ و من خطبه له ع- و من الناس من یسمی هذه الخطبه بالقاصعه

و هی تتضمن ذم إبلیس لعنه الله- على استکباره و ترکه السجود لآدم ع- و أنه أول من أظهر العصبیه و تبع الحمیه- و تحذیر الناس من سلوک طریقته- : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی لَبِسَ الْعِزَّ وَ الْکِبْرِیَاءَ- وَ اخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ- وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَیْرِهِ- وَ اصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ- وَ جَعَلَ اللَّعْنَهَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِیهِمَا مِنْ عِبَادِهِ- ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِکَ مَلَائِکَتَهُ الْمُقَرَّبِینَ- لِیَمِیزَ الْمُتَوَاضِعِینَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَکْبِرِینَ- فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ- وَ مَحْجُوبَاتِ الْغُیُوبِ إِنِّی خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِینٍ- فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ- فَسَجَدَ الْمَلائِکَهُ کُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِیسَ- اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِیَّهُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ- وَ تَعَصَّبَ عَلَیْهِ لِأَصْلِهِ- فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِینَ وَ سَلَفُ الْمُسْتَکْبِرِینَ- الَّذِی وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِیَّهِ وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبَرِیَّهِ- وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ- أَلَا یَرَوْنَ کَیْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَکَبُّرِهِ- وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِی الدُّنْیَا مَدْحُوراً- وَ أَعَدَّ لَهُ فِی الآْخِرَهِ سَعِیراً

یجوز أن تسمى هذه الخطبه القاصعه- من قولهم قصعت الناقه بجرتها- و هو أن تردها إلى جوفها- أو تخرجها من جوفها فتملأ فاها- فلما کانت الزواجر و المواعظ فی هذه الخطبه- مردده من أولها إلى آخرها- شبهها بالناقه التی تقصع الجره- و یجوز أن تسمى القاصعه- لأنها کالقاتله لإبلیس و أتباعه من أهل العصبیه- من قولهم قصعت القمله إذا هشمتها و قتلتها- و یجوز أن تسمى القاصعه- لأن المستمع لها المعتبر بها یذهب کبره و نخوته- فیکون من قولهم قصع الماء عطشه- أی أذهبه و سکنه- قال ذو الرمه بیتا فی هذا المعنى-

فانصاعت الحقب لم تقصع صرائرها
و قد تشح فلا ری و لا هیم‏

 الصرائر جمع صریره و هی العطش- و یجوز أن تسمى القاصعه- لأنها تتضمن تحقیر إبلیس و أتباعه و تصغیرهم- من قولهم قصعت الرجل إذا امتهنته و حقرته- و غلام مقصوع أی قمی‏ء لا یشب و لا یزداد- . و العصبیه على قسمین عصبیه فی الله و هی محموده- و عصبیه فی الباطل و هی مذمومه- و هی التی نهى أمیر المؤمنین ع عنها و کذلک الحمیه- و جاء فی الخبر العصبیه فی الله تورث الجنه- و العصبیه فی الشیطان تورث النار – .

و جاء فی الخبر العظمه إزاری و الکبریاء ردائی- فمن نازعنی فیهما قصمته – و هذا معنى قوله ع اختارهما لنفسه دون خلقه- إلى آخر قوله من عباده- . قال ع ثم اختبر بذلک ملائکته المقربین- مع علمه بمضمراتهم و ذلک لأن اختباره سبحانه لیس لیعلم- بل لیعلم غیره من خلقه طاعه من یطیع و عصیان من یعصی- و کذلک قوله سبحانه- وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَهَ الَّتِی کُنْتَ عَلَیْها- إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ یَتَّبِعُ‏الرَّسُولَ مِمَّنْ یَنْقَلِبُ عَلى‏ عَقِبَیْهِ- النون فی لنعلم نون الجمع لا نون العظمه- أی لتصیر أنت و غیرک من المکلفین- عالمین لمن یطیع و من یعصی کما أنا عالم بذلک- فتکونوا کلکم مشارکین لی فی العلم بذلک- . فإن قلت و ما فائده وقوفهم على ذلک و علمهم به- قلت لیس بممتنع أن یکون ظهور حال العاصی و المطیع- و علم المکلفین أو أکثرهم أو بعضهم به- یتضمن لطفا فی التکلیف- .

فإن قلت إن الملائکه لم تکن تعلم ما البشر- و لا تتصور ماهیته فکیف قال لهم- إِنِّی خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِینٍ- قلت قد کان قال لهم- إنی خالق جسما من صفته کیت و کیت- فلما حکاه اقتصر على الاسم- و یجوز أن یکون عرفهم من قبل- أن لفظه بشر على ما ذا تقع ثم قال لهم- إنی خالق هذا الجسم المخصوص الذی أعلمتکم- أن لفظه بشر واقعه علیه من طین- . قوله تعالى فَإِذا سَوَّیْتُهُ أی إذا أکملت خلقه- . فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ أمرهم بالسجود له- و قد اختلف فی ذلک فقال قوم- کان قبله کما الکعبه الیوم قبله- و لا یجوز السجود إلا لله- و قال آخرون بل کان السجود له تکرمه و محنه- و السجود لغیر الله غیر قبیح فی العقل- إذا لم یکن عباده و لم یکن فیه مفسده- .

و قوله تعالى وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی- أی أحللت فیه الحیاه و أجریت الروح إلیه فی عروقه- و أضاف الروح إلیه تبجیلا لها- و سمى ذلک نفخا على وجه الاستعاره- لأن العرب تتصور من الروح معنى الریح- و النفخ یصدق على الریح- فاستعار لفظه النفخ توسعا- .

و قالت الحکماء هذا عباره عن النفس الناطقه- . فإن قلت هل کان إبلیس من الملائکه أم لا- قلت قد اختلف فی ذلک- فمن جعله منهم احتج بالاستثناء- و من جعله من غیرهم احتج بقوله تعالى کانَ مِنَ الْجِنِّ- و جعل الاستثناء منقطعا- و بأن له نسلا و ذریه قال تعالى- أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّیَّتَهُ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِی- و الملائکه لا نسل لهم و لا ذریه- و بأن أصله نار و الملائکه أصلها نور- و قد مر لنا کلام فی هذا فی أول الکتاب- .

قوله فافتخر على آدم بخلقه و تعصب علیه لأصله- کانت خلقته أهون من خلقه آدم ع- و کان أصله من نار و أصل آدم ع من طین- . فإن قلت کیف حکم على إبلیس بالکفر- و لم یکن منه إلا مخالفه الأمر- و معلوم أن تارک الأمر فاسق لا کافر- قلت إنه اعتقد أن الله أمره بالقبیح- و لم یر أمره بالسجود لآدم ع حکمه- و امتنع من السجود تکبرا- و رد على الله أمره و استخف بمن أوجب الله إجلاله- و ظهر أن هذه المخالفه عن فساد عقیده فکان کافرا- . فإن قلت هل کان کافرا فی الأصل أم کان مؤمنا ثم کفر- قلت أما المرجئه فأکثرهم یقول- کان فی الأصل کافرا- لأن المؤمن عندهم لا یجوز أن یکفر- و أما أصحابنا فلما کان هذا الأصل عندهم باطلا- توقفوا فی حال إبلیس و جوزوا کلا الأمرین- .

قوله ع رداء الجبریه الباء مفتوحه- یقال فیه جبریه و جبروه و جبروت- و جبوره کفروجه أی کبر و أنشدوا-

فإنک إن عادیتنی غضب الحصا
علیک و ذو الجبوره المتغطرف‏

– . و جعله مدحورا أی مطرودا مبعدا- دحره الله دحورا أی أقصاه و طرده: وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ یَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ- یَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِیَاؤُهُ وَ یَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ- وَ طِیبٍ یَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ- وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَهً- وَ لَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِیهِ عَلَى الْمَلَائِکَهِ- وَ لَکِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ یَبْتَلِی خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا یَجْهَلُونَ أَصْلَهُ- تَمْیِیزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْیاً لِلِاسْتِکْبَارِ عَنْهُمْ- وَ إِبْعَاداً لِلْخُیَلَاءِ مِنْهُمْ- فَاعْتَبِرُوا بِمَا کَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِیسَ- إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِیلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِیدَ- وَ کَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّهَ آلَافِ سَنَهٍ- لَا یُدْرَى أَ مِنْ سِنِی الدُّنْیَا أَمْ مِنْ سِنِی الآْخِرَهِ- عَنْ کِبْرِ سَاعَهٍ وَاحِدَهٍ- فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِیسَ یَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِیَتِهِ- کَلَّا مَا کَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِیُدْخِلَ الْجَنَّهَ بَشَراً- بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَکاً- إِنْ حُکْمَهُ فِی أَهْلِ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ- وَ مَا بَیْنَ اللَّهِ وَ بَیْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَهٌ- فِی إِبَاحَهِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِینَ خطفت الشی‏ء بکسر الطاء أخطفه- إذا أخذته بسرعه استلابا- و فیه لغه أخرى‏خطف بالفتح- و یخطف بالفتح و یخطف بالکسر- و هی لغه ردیئه قلیله لا تکاد تعرف و قد قرأ بها یونس فی قوله تعالى- یَکادُ الْبَرْقُ یَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ- . و الرواء بالهمزه و المد المنظر الحسن- و العرف الریح الطیبه- . و الخیلاء بضم الخاء و کسرها الکبر- و کذلک الخال و المخیله- تقول اختال الرجل و خال أیضا أی تکبر- .

و أحبط عمله أبطل ثوابه- و قد حبط العمل حبطا بالتسکین و حبوطا- و المتکلمون یسمون إبطال الثواب إحباطا- و إبطال العقاب تکفیرا- . و جهده بفتح الجیم اجتهاده و جده- و وصفه بقوله الجهید أی المستقصى- من قولهم مرعى جهید- أی قد جهده المال الراعی و استقصى رعیه- .

و کلامه ع یدل على أنه کان یذهب- إلى أن إبلیس من الملائکه لقوله- أخرج منها ملکا و الهواده الموادعه و المصالحه- یقول إن الله تعالى خلق آدم من طین- و لو شاء أن یخلقه من النور الذی یخطف- أو من الطیب الذی یعبق لفعل- و لو فعل لهال الملائکه أمره و خضعوا له- فصار الابتلاء و الامتحان و التکلیف بالسجود له- خفیفا علیهم لعظمته فی نفوسهم- فلم یستحقوا ثواب العمل الشاق- و هذا یدل على أن الملائکه تشم الرائحه کما نشمها نحن- و لکن الله تعالى یبتلی عباده- بأمور یجهلون أصلها اختبارا لهم- . فإن قلت ما معنى قوله ع تمییزا بالاختبار لهم- قلت لأنه میزهم عن غیرهم من مخلوقاته- کالحیوانات العجم و أبانهم عنهم- و فضلهم علیهم بالتکلیف و الامتحان- .

قال و نفیا للاستکبار عنهم- لأن العبادات خضوع و خشوع و ذله- ففیها نفی الخیلاء و التکبر عن فاعلیها- فأمرهم بالاعتبار بحال إبلیس الذی عبد الله سته آلاف سنه- لا یدرى أ من سنی الدنیا أم من سنی الآخره- و هذا یدل على أنه قد سمع فیه نصا من رسول الله ص- مجملا لم یفسره له أو فسره له خاصه- و لم یفسره أمیر المؤمنین ع للناس- لما یعلمه فی کتمانه عنهم من المصلحه- . فإن قلت قوله لا یدرى- على ما لم یسم فاعله یقتضی أنه هو لا یدری- قلت إنه لا یقتضی ذلک- و یکفی فی صدق الخبر إذا ورد بهذه الصیغه- أن یجهله الأکثرون- . فأما القول فی سنی الآخره کم هی- فاعلم أنه قد ورد فی الکتاب العزیز آیات مختلفات- إحداهن قوله تَعْرُجُ الْمَلائِکَهُ وَ الرُّوحُ إِلَیْهِ- فِی یَوْمٍ کانَ مِقْدارُهُ خَمْسِینَ أَلْفَ سَنَهٍ- .

و الأخرى قوله یُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ- ثُمَّ یَعْرُجُ إِلَیْهِ فِی یَوْمٍ- کانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَهٍ مِمَّا تَعُدُّونَ- . و الثالثه قوله- وَ إِنَّ یَوْماً عِنْدَ رَبِّکَ کَأَلْفِ سَنَهٍ مِمَّا تَعُدُّونَ- . و أولى ما قیل فیها- أن المراد بالآیه الأولى مده عمر الدنیا- و سمی ذلک یوما- و قال إن الملائکه لا تزال تعرج إلیه- بأعمال البشر طول هذه المده حتى ینقضی التکلیف- و ینتقل الأمر إلى دار أخرى- و أما الآیتان الأخیرتان- فمضمونهما بیان کمیه أیام الآخره- و هو أن کل یوم منها مثل ألف سنه من سنی الدنیا- .

فإن قلت فعلى هذا کم تکون مده عباده إبلیس- إذا کانت سته آلاف سنه من سنی الآخره- قلت یکون ما یرتفع من ضرب أحد المضروبین فی الآخره- و هو ألفا ألف ألف ثلاث لفظات- الأولى منهم مثناه و مائه ألف ألف لفظتان- و ستون ألف ألف سنه لفظتان أیضا من سنی الدنیا- و لما رأى أمیر المؤمنین ع هذا المبلغ عظیما جدا- علم أن أذهان السامعین لا تحتمله- فلذلک أبهم القول علیهم و قال- لا یدرى أ من سنی الدنیا أم من سنی الآخره- . فإن قلت فإذا کنتم قد رجحتم قول من یقول- إن عمر الدنیا خمسون ألف سنه- فکم یکون عمرها إن کان الله تعالى- أراد خمسین ألف سنه من سنی الآخره- لأنه لا یؤمن أن یکون أراد ذلک- إذا کانت السنه عنده عباره عن مده غیر هذه المده- التی قد اصطلح علیها الناس- قلت یکون ما یرتفع من ضرب خمسین ألفا- فی ثلاثمائه و ستین ألف من سنی الدنیا- و مبلغ ذلک ثمانیه عشر ألف ألف ألف سنه- من سنی الدنیا ثلاث لفظات- و هذا القول قریب من القول المحکی عن الهند- .

و روى أبو جعفر محمد بن جریر الطبری فی تاریخه- روایات کثیره بأسانید أوردها- عن جماعه من الصحابه- أن إبلیس کان إلیه ملک السماء و ملک الأرض- و کان من قبیله من الملائکه یقال لهم الجن- و إنما سموا الجن لأنهم کانوا خزان الجنان- و کان إبلیس رئیسهم و مقدمهم- و کان أصل خلقهم من نار السموم و کان اسمه الحارث- قال و قد روی أن الجن کانت فی الأرض- و أنهم أفسدوا فیها- فبعث الله إلیهم إبلیس فی جند من الملائکه- فقتلهم و طردهم إلى جزائر البحار- ثم تکبر فی نفسه- و رأى أنه قد صنع شیئا عظیما لم یصنعه غیره- قال و کان شدید الاجتهاد فی العباده- .

و قیل کان اسمه عزازیل- و أن الله تعالى جعله حکما و قاضیا بین سکان الأرض- قبل خلق آدم فدخله الکبر و العجب- لعبادته و اجتهاده- و حکمه فی سکان الأرض و قضائه بینهم- فانطوى على المعصیه- حتى کان من أمره مع آدم ع ما کان- قلت و لا ینبغی أن نصدق من هذه الأخبار و أمثالها- إلا ما ورد فی القرآن العزیز- الذی لا یأتیه الباطل من بین یدیه و لا من خلفه- أو فی السنه أو نقل عمن یجب الرجوع إلى قوله- و کل ما عدا ذلک فالکذب فیه أکثر من الصدق- و الباب مفتوح- فلیقل کل أحد فی أمثال هذه القصص ما شاء- و اعلم أن کلام أمیر المؤمنین فی هذا الفصل- یطابق مذهب أصحابنا فی أن الجنه لا یدخلها ذو معصیه- أ لا تسمع قوله- فمن بعد إبلیس یسلم على الله بمثل معصیته- کلا ما کان الله لیدخل الجنه بشرا- بأمر أخرج به منها ملکا- إن حکمه فی أهل السماء و الأرض لواحد- .

فإن قلت أ لیس من قولکم- إن صاحب الکبیره إذا تاب دخل الجنه- فهذا صاحب معصیه و قد حکمتم له بالجنه- قلت إن التوبه أحبطت معصیته فصار کأنه لم یعص- . فإن قلت إن أمیر المؤمنین ع إنما قال- فمن ذا بعد إبلیس یسلم على الله بمثل معصیته- و لم یقل بالمعصیه المطلقه- و المرجئه لا تخالف- فی أن من وافى القیامه بمثل معصیه إبلیس- لم یکن من أهل الجنه- قلت کل معصیه کبیره فهی مثل معصیته- و لم یکن إخراجه من الجنه لأنه کافر- بل لأنه عاص مخالف للأمر- أ لا ترى أنه قال سبحانه- قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما یَکُونُ لَکَ أَنْ تَتَکَبَّرَ فِیها- فعلل إخراجه من الجنه بتکبره لا بکفره- . فإن قلت هذا مناقض لما قدمت فی شرح الفصل الأول-قلت کلا لأنی فی الفصل الأول- عللت استحقاقه اسم الکفر- بأمر زائد على المعصیه المطلقه و هو فساد اعتقاده- و لم أجعل ذلک عله فی خروجه من الجنه- و هاهنا عللت خروجه من الجنه- بنفس المعصیه فلا تناقض- .

فإن قلت ما معنى قول أمیر المؤمنین ع- ما کان الله لیدخل الجنه بشرا- بأمر أخرج به منها ملکا- و هل یظن أحد أو یقول- إن الله تعالى یدخل الجنه أحدا من البشر- بالأمر الذی أخرج به هاهنا إبلیس- کلا هذا ما لا یقوله أحد- و إنما الذی یقوله المرجئه- إنه یدخل الجنه من قد عصى و خالف الأمر- کما خالف الأمر إبلیس- برحمته و عفوه و کما یشاء- لا أنه یدخله الجنه بالمعصیه- و کلام أمیر المؤمنین ع یقتضی- نفی دخول أحد الجنه بالمعصیه- لأن الباء للسببیه- قلت الباء هاهنا لیست للسببیه- کما یتوهمه هذا المعترض- بل هی کالباء فی قولهم خرج زید بثیابه- و دخل زید بسلاحه أی خرج لابسا- و دخل متسلحا أی یصحبه الثیاب و یصحبه السلاح- فکذلک قوله ع بأمر أخرج به منها ملکا- معناه أن الله تعالى لا یدخل الجنه بشرا- یصحبه أمر أخرج الله به ملکا منها: فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ یُعْدِیَکُمْ بِدَائِهِ- وَ أَنْ یَسْتَفِزَّکُمْ بِخَیْلِهِ وَ رَجْلِهِ- فَلَعَمْرِی لَقَدْ فَوَّقَ لَکُمْ سَهْمَ الْوَعِیدِ- وَ أَغْرَقَ إِلَیْکُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِیدِ- وَ رَمَاکُمْ مِنْ مَکَانٍ قَرِیبٍ- فَقَالَ رَبِّ بِما أَغْوَیْتَنِی لَأُزَیِّنَنَّ لَهُمْ فِی الْأَرْضِ- وَ لَأُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ- قَذْفاً بِغَیْبٍ بَعِیدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّغَیْرِ مُصِیبٍ- صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِیَّهِ وَ إِخْوَانُ الْعَصَبِیَّهِ- وَ فُرْسَانُ الْکِبْرِ وَ الْجَاهِلِیَّهِ- حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَهُ مِنْکُمْ- وَ اسْتَحْکَمَتِ الطَّمَاعِیَهُ مِنْهُ فِیکُمْ- فَنَجَمَتْ فِیهِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِیِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِیِّ- اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَیْکُمْ- وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَکُمْ- فَأَقْحَمُوکُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ- وَ أَحَلُّوکُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ- وَ أَوْطَئُوکُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَهِ طَعْناً فِی عُیُونِکُمْ- وَ حَزّاً فِی حُلُوقِکُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِکُمْ- وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِکُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ- إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّهِ لَکُمْ- فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِی دِینِکُمْ حَرْجاً- وَ أَوْرَى فِی دُنْیَاکُمْ قَدْحاً- مِنَ الَّذِینَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِینَ وَ عَلَیْهِمْ مُتَأَلِّبِینَ- فَاجْعَلُوا عَلَیْهِ حَدَّکُمْ وَ لَهُ جِدَّکُمْ- فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِکُمْ- وَ وَقَعَ فِی حَسَبِکُمْ وَ دَفَعَ فِی نَسَبِکُمْ- وَ أَجْلَبَ بِخَیْلِهِ عَلَیْکُمْ وَ قَصَدَ بِرَجْلِهِ سَبِیلَکُمْ- یَقْتَنِصُونَکُمْ بِکُلِّ مَکَانٍ وَ یَضْرِبُونَ مِنْکُمْ کُلَّ بَنَانٍ- لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِیلَهٍ وَ لَا تَدْفَعُونَ بِعَزِیمَهٍ- فِی حَوْمَهِ ذُلٍّ وَ حَلْقَهِ ضِیقٍ- وَ عَرْصَهِ مَوْتٍ وَ جَوْلَهِ بَلَاءٍ- فَأَطْفِئُوا مَا کَمَنَ فِی قُلُوبِکُمْ- مِنْ نِیرَانِ الْعَصَبِیَّهِ وَ أَحْقَادِ الْجَاهِلِیَّهِ- فَإِنَّمَا تِلْکَ الْحَمِیَّهُ تَکُونُ فِی الْمُسْلِمِ- مِنْ خَطَرَاتِ الشَّیْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ- وَ اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِکُمْ- وَ إِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِکُمْ- وَ خَلْعَ التَّکَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِکُمْ- وَ اتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ- مَسْلَحَهً بَیْنَکُمْ وَ بَیْنَ عَدُوِّکُمْ إِبْلِیسَ وَ جُنُودِهِ- فَإِنَّ لَهُ مِنْ کُلِّ أُمَّهٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً- وَ رَجْلًا وَ فُرْسَاناً- وَ لَا تَکُونُوا کَالْمُتَکَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ- مِنْ غَیْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِیهِ- سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَهِ الْحَسَبِ- وَ قَدَحَتِ الْحَمِیَّهُ فِی قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ- وَ نَفَخَ الشَّیْطَانُ فِی أَنْفِهِ مِنْ رِیحِ الْکِبْرِ- الَّذِی أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَهَ- وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِینَ إِلَى یَوْمِ الْقِیَامَهِ

موضع أن یعدیکم- نصب على البدل من عدو الله- و قال الراوندی یجوز أن یکون مفعولا ثانیا- و هذا لیس بصحیح لأن حذر لا یتعدى إلى المفعولین- و العدوى ما یعدی من جرب أو غیره- أعدى فلان فلانا من خلقه أو من علته- و هو مجاوزته من صاحبه إلى غیره- و فی الحدیث لا عدوى فی الإسلام – .

فإن قلت فإذا کان النبی ص قد أبطل أمر العدوى- فکیف قال أمیر المؤمنین فاحذروه أن یعدیکم- قلت إن النبی ص- أبطل ما کانت العرب تزعمه- من عدوى الجرب فی الإبل و غیرها- و أمیر المؤمنین ع حذر المکلفین- من أن یتعلموا من إبلیس الکبر و الحمیه- و شبه تعلمهم ذلک منه بالعدوى- لاشتراک الأمرین- فی الانتقال من أحد الشخصین إلى الآخر- . قوله ع یستفزکم أی یستخفکم- و هو من ألفاظ القرآن- وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِکَ- أی أزعجه و استخفه و أطر قلبه- و الخیل الخیاله و منه الحدیث یا خیل الله ارکبی – . و الرجل اسم جمع لراجل کرکب اسم جمع لراکب- و صحب اسم جمع لصاحب- و هذه أیضا من ألفاظ القرآن العزیز- وَ أَجْلِبْ عَلَیْهِمْ بِخَیْلِکَ وَ رَجِلِکَ- و قرئ و رجلک- بکسر الجیم على أن فعلا بالکسر- بمعنى فاعل نحو تعب و تاعب-و معناه و قد تضم الجیم أیضا- فیکون مثل قولک- رجل حدث و حدث و ندس و ندس- .

فإن قلت فهل لإبلیس خیل ترکبها جنده- قلت یجوز أن یکون ذلک- و قد فسره قوم بهذا- و الصحیح أنه کلام خرج مخرج المثل- شبهت حاله فی تسلطه على بنی آدم- بمن یغیر على قوم بخیله فیستأصلهم- و قیل بصوتک أی بدعائک إلى القبیح- و خیله و رجله کل ماش و راکب- من أهل الفساد من بنی آدم قوله و فوقت السهم جعلت له فوقا- و هو موضع الوتر و هذا کنایه عن الاستعداد- و لا یجوز أن یفسر قوله- فقد فوق لکم سهم الوعید- بأنه وضع الفوق فی الوتر لیرمی به- لأن ذلک لا یقال فیه قد فوق- بل یقال أفقت السهم و أوفقته أیضا- و لا یقال أفوقته و هو من النوادر- .

و قوله و أغرق إلیکم بالنزع- أی استوفى مد القوس و بالغ فی نزعها- لیکون مرماه أبعد و وقع سهامه أشد- . قوله و رماکم من مکان قریب- لأنه کما جاء فی الحدیث یجری من ابن آدم مجرى الدم و یخالط القلب – و لا شی‏ء أقرب من ذلک- . و الباء فی قوله فَبِما أَغْوَیْتَنِی- متعلق بفعل محذوف تقدیره- أجازیک بما أغویتنی تزیینی لهم القبیح- فما على هذا مصدریه- أی أجازیک بإغوائک لی تزیینی لهم القبیح- فحذف المفعول- و یجوز أن تکون الباء قسما- کأنه أقسم بإغوائه إیاه لیزینن لهم- . فإن قلت و أی معنى فی أن یقسم بإغوائه- و هل هذا مما یقسم به- قلت نعم لأنه لیس إغواء الله تعالى إیاه- خلق الغی و الضلال فی قلبه- بل تکلیفه‏إیاه السجود- الذی وقع الغی عنده من الشیطان لا من الله- فصار حیث وقع عنده کأنه موجب عنه فنسب إلى الباری- و التکلیف تعریض للثواب و لذه الأبد- فکان جدیرا أن یقسم به و قد أقسم فی موضع آخر- فقال فَبِعِزَّتِکَ لَأُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ- فأقسم بالعزه و هاهنا أقسم بالأمر و التکلیف- و یجوز فیه وجه ثالث- و هو ألا تکون الباء قسما و یقدر قسم محذوف- و یکون المعنى بسبب ما کلفتنی فأفضى إلى غوایتی- أقسم لأفعلن بهم نحو ما فعلت بی- و هو أن أزین لهم المعاصی التی تکون سبب هلاکهم- .

فإن قلت لیس هذا نحو ما فعله الباری به- لأن الباری أمره بالحسن فأباه- و عدل عنه إلى القبیح- و الشیطان لا یأمرنا بالحسن فنکرهه- و نعدل عنه إلى القبیح- فکیف یکون ذلک نحو واقعته مع الباری- قلت المشابهه بین الواقعتین- فی أن کل واحده منهما تقع عندها المعصیه- لا على وجه الإجبار و القسر بل على قصد الاختیار- لأن معصیه إبلیس کانت من نفسه- و وقعت عند الأمر بالسجود- اختیارا منه لا فعلا من الباری- و معصیتنا نحن عند التزیین و الوسوسه- تقع اختیارا منا لا اضطرارا یضطرنا إبلیس إلیه- فلما تشابهت الصورتان فی هذا المعنى حسن قوله- بما فعلت بی کذا لأفعلن بهم نحوه- .

فإن قلت ما معنى قوله فِی الْأَرْضِ- و من أین کان یعلم إبلیس أن آدم سیصیر له ذریه فی الأرض- قلت أما علمه بذلک فمن قول الله تعالى له و للملائکه- إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَهً- و أما لفظه الأرض فالمراد بها هاهنا الدنیا- التی هی دار التکلیف کقوله تعالى-وَ لکِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ- لیس یرید به الأرض بعینها بل الدنیا- و ما فیها من الملاذ و هوى الأنفس- . قوله ع قذفا بغیب بعید- أی قال إبلیس هذا القول قذفا بغیب بعید- و العرب تقول للشی‏ء المتوهم على بعد- هذا قذف بغیب بعید- و القذف فی الأصل رمی الحجر و أشباهه- و الغیب الأمر الغائب- و هذه اللفظه من الألفاظ القرآنیه قال الله تعالى فی کفار قریش- وَ یَقْذِفُونَ بِالْغَیْبِ مِنْ مَکانٍ بَعِیدٍ- أی یقولون هذا سحر أو هذا من تعلیم أهل الکتاب- أو هذه کهانه و غیر ذلک مما کانوا یرمونه ع به- و انتصب قذفا على المصدر الواقع موقع الحال- و کذلک رجما- و قال الراوندی انتصبا لأنهما مفعول له- و لیس بصحیح- لأن المفعول له ما یکون عذرا و عله لوقوع الفعل- و إبلیس ما قال ذلک الکلام لأجل القذف و الرجم- فلا یکون مفعولا له- .

فإن قلت کیف قال ع- قذفا من مکان بعید و رجما بظن غیر مصیب- و قد صح ما توهمه و أصاب فی ظنه- فإن إغواءه و تزیینه تم على الناس کلهم- إلا على المخلصین- قلت أما أولا فقد روی و رجما بظن مصیب- بحذف غیر و یؤکد هذه الروایه قوله تعالى- وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَیْهِمْ إِبْلِیسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِیقاً- و أما ثانیا على الروایه التی هی أشهر فنقول- أما قذفا من مکان بعید- فإنه قال ما قال على سبیل التوهم و الحسبان- لأمر مستبعد لا یعلم صحته و لا یظنها- و لیس وقوع ما وقع من المعاصی و صحه ما توهمه- بمخرج لکون قوله الأول قذفا بغیب بعید- و أما رجما بظن غیر مصیب-فیجب أن یحمل قوله لَأُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ- على الغوایه بمعنى الشرک أو الکفر- و یکون الاستثناء و هو قوله- إِلَّا عِبادَکَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِینَ- معناه إلا المعصومین من کل معصیه- و هذا ظن غیر مصیب- لأنه ما أغوى کل البشر الغوایه التی هی الکفر و الشرک- إلا المعصومین العصمه المطلقه- بل أغوى بعضهم کذلک- و بعضهم بأن زین له الفسق دون الکفر- فیکون ظنه أنه قادر على إغواء البشر کافه- بمعنى الضلال بالکفر ظنا غیر مصیب- . قوله صدقه به أبناء الحمیه موضع صدقه جر- لأنه صفه ظن و قد روی- صدقه أبناء الحمیه من غیر ذکر الجار و المجرور- و من رواه بالجار و المجرور کان معناه- صدقه فی ذلک الظن أبناء الحمیه فأقام الباء مقام فی- .

قوله حتى إذا انقادت له الجامحه منکم- أی الأنفس الجامحه أو الأخلاق الجامحه- . قوله فنجمت فیه الحال أی ظهرت- و قد روی فنجمت الحال من السر الخفی- من غیر ذکر الجار و المجرور- و من رواه بالجار و المجرور فالمعنى- فنجمت الحال فی هذا الشأن المذکور- بینه و بینکم من الخفاء إلى الجلاء- . و استفحل سلطانه قوی و اشتد و صار فحلا- و استفحل جواب قوله حتى إذا- . دلف بجنوده تقدم بهم- . و الولجات جمع ولجه بالتحریک- و هی موضع أو کهف یستتر فیه الماره من مطر أو غیره- . و أقحموکم أدخلوکم و الورطه الهلکه- . قوله و أوطئوکم إثخان الجراحه- أی جعلوکم واطئین لذلک- و الإثخان مصدر أثخن فی القتل- أی أکثر منه و بالغ حتى کثف شأنه- و صار کالشی‏ء الثخین- و معنى‏إیطاء الشیطان ببنی آدم ذلک- إلقاؤه إیاهم فیه و توریطهم و حمله لهم علیه- فالإثخان على هذا منصوب لأنه مفعول ثان- لا کما زعم الراوندی أنه انتصب بحذف حرف الخفض- .

قوله ع طعنا فی عیونکم- انتصب طعنا على المصدر و فعله محذوف- أی فعلوا بکم هذه الأفعال فطعنوکم فی عیونکم طعنا- فأما من روى و أوطئوکم لإثخان الجراحه- باللام فإنه یجعل طعنا منصوبا على أنه مفعول به- أی أوطئوکم طعنا و حزا- کقولک أوطأته نارا و أوطأته عشوه- و یکون لإثخان الجراحه مفعولا له- أی أوطئوکم الطعن لیثخنوا جراحکم- و ینبغی أن یکون قصدا و سوقا- خالصین للمصدریه لأنه یبعد أن یکون مفعولا به- . و اعلم أنه لما ذکر الطعن نسبه إلى العیون- و لما ذکر الحز و هو الذبح نسبه إلى الحلوق- و لما ذکر الدق و هو الصدم الشدید أضافه إلى المناخر- و هذا من صناعه الخطابه التی علمه الله إیاها بلا تعلیم- و تعلمها الناس کلهم بعده منه- . و الخزائم جمع خزامه- و هی حلقه من شعر تجعل فی وتره أنف البعیر- فیشد فیها الزمام- . و تقول قد ورى الزند أی خرجت ناره- و هذا الزند أورى من هذا- أی أکثر إخراجا للنار- یقول فأصبح الشیطان أضر علیکم- و أفسد لحالکم من أعدائکم الذین أصبحتم مناصبین لهم- أی معادین و علیهم متألبین أی مجتمعین- .

فإن قلت أما أعظم فی الدین حرجا فمعلوم- فأی معنى لقوله و أورى فی دنیاکم قدحا- و هل یفسد إبلیس أمر الدنیا کما یفسد أمر الدین- قلت نعم لأن أکثر القبائح الدینیه- مرتبطه بالمصالح و المفاسد الدنیویه- أ لا ترى أنه إذا أغرى السارق بالسرقه- أفسد حال السارق من جهه الدین- و حال المسروق منه من جهه الدنیا-و کذلک القول فی الغصب و القتل- و ما یحدث من مضار الشرور الدنیویه- من اختلاط الأنساب و اشتباه النسل- و ما یتولد من شرب الخمر و السکر الحاصل عنها- من أمور یحدثها السکران خبطا بیده و قذفا بلسانه- إلى غیر ذلک من أمثال هذه الأمور و أشباهها- .

قوله ع فاجعلوا علیه حدکم- أی شباتکم و بأسکم- . و له جدکم من جددت فی الأمر جدا- أی اجتهدت فیه و بالغت- . ثم ذکر أنه فخر على أصل بنی آدم- یعنی أباهم آدم ع- حیث امتنع من السجود له و قال أنا خیر منه- . و وقع فی حسبکم أی عاب حسبکم و هو الطین- فقال إن النار أفضل منه و دفع فی نسبکم مثله- و أجلب بخیله علیکم أی جمع خیالته و فرسانه و ألبها- . و یقتنصونکم یتصیدونکم- و البنان أطراف الأصابع و هو جمع واحدته بنانه- و یجمع فی القله على بنانات و یقال بنان مخضب- لأن کل جمع لیس بینه و بین واحده إلا الهاء- فإنه یذکر و یوحد- . و الحومه معظم الماء و الحرب و غیرهما- و موضع هذا الجار و المجرور نصب على الحال- أی یقتنصونکم فی حومه ذل- . و الجوله الموضع الذی تجول فیه- . و کمن فی قلوبکم استتر و منه الکمین فی الحرب- . و نزغات الشیطان وساوسه التی یفسد بها و نفثاته مثله- . قوله و اعتمدوا وضع التذلل على رءوسکم- و إلقاء التعزز تحت أقدامکم- کلام شریف جلیل المحل- و کذلک قوله ع و اتخذوا التواضع- مسلحه بینکم و بین عدوکم إبلیس و جنوده- و المسلحه خیل معده للحمایه و الدفاع- .

ثم نهاهم أن یکونوا کقابیل- الذی حسد أخاه هابیل فقتله- و هما أخوان لأب و أم- و إنما قال ابن أمه فذکر الأم دون الأب- لأن الأخوین من الأم أشد حنوا و محبه- و التصاقا من الأخوین من الأب- لأن الأم هی ذات الحضانه و التربیه- . و قوله من غیر ما فضل- ما هاهنا زائده و تعطی معنى التأکید- نهاهم ع أن یحسدوا النعم- و أن یبغوا و یفسدوا فی الأرض- فإن آدم لما أمر ولده بالقربان- قرب قابیل شر ماله و کان کافرا- و قرب هابیل خیر ماله و کان مؤمنا- فتقبل الله تعالى من هابیل و أهبط من السماء نارا فأکلته- قالوا لأنه لم یکن فی الأرض حینئذ فقیر- یصل القربان إلیه- فحسده قابیل و کان أکبر منه سنا- فقال لأقتلنک قال هابیل إنما یتقبل الله من المتقین- أی بذنبک و جرمک کان عدم قبول قربانک- لانسلاخک من التقوى- فقتله فأصبح نادما- لا ندم التوبه بل ندم الحیر و رقه الطبع البشری- و لأنه تعب فی حمله کما ورد فی التنزیل- أنه لم یفهم ما ذا یصنع به حتى بعث الله الغراب- .

قوله ع و ألزمه آثام القاتلین إلى یوم القیامه- لأنه کان ابتدأ بالقتل- و من سن سنه شر کان علیه وزرها- و وزر من عمل بها إلى یوم القیامه- کما أن من سن سنه خیر کان له أجرها- و أجر من عمل بها إلى یوم القیامه و روى أبو جعفر محمد بن جریر الطبری فی تاریخه- أن الروایات اختلفت فی هذه الواقعه- فروى قوم أن الرجلین کانا من بنی إسرائیل- و لیسا من ولد آدم لصلبه- و الأکثرون خالفوا فی ذلک- . ثم اختلف الأکثرون- فروى قوم أن القربان من قابیل و هابیل کان ابتداء- و الأکثرون قالوا بل أراد آدم ع- أن یزوج هابیل أخت قابیل توأمته- و یزوج‏قابیل أخت هابیل توأمته- فأبى قابیل لأن توأمته کانت أحسن- فأمرهما أبوهما بالقربان- فمن تقبل قربانه نکح الحسناء- فتقبل قربان هابیل- فقتله أخوه کما ورد فی الکتاب العزیز- .

و روى الطبری مرفوعا أنه ص قال ما من نفس تقتل ظلما- إلا کان على ابن آدم ع الأول کفل منها- و ذلک بأنه أول من سن القتل و هذا یشید قول أمیر المؤمنین ع: أَلَا وَ قَدْ أَمْعَنْتُمْ فِی الْبَغْیِ وَ أَفْسَدْتُمْ فِی الْأَرْضِ- مُصَارَحَهً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَهِ- وَ مُبَارَزَهً لِلْمُؤْمِنِینَ بِالْمُحَارَبَهِ- فَاللَّهَ اللَّهَ فِی کِبْرِ الْحَمِیَّهِ وَ فَخْرِ الْجَاهِلِیَّهِ- فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ وَ مَنَافِخُ الشَّیْطَانِ- الَّتِی خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِیَهَ وَ الْقُرُونَ الْخَالِیَهَ- حَتَّى أَعْنَقُوا فِی حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِی ضَلَالَتِهِ- ذُلُلًا عَنْ سِیَاقِهِ سُلُساً فِی قِیَادِهِ- أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِیهِ وَ تَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَیْهِ- وَ کِبْراً تَضَایَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ- أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَهِ سَادَاتِکُمْ وَ کُبَرَائِکُمْ- الَّذِینَ تَکَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ- وَ أَلْقَوُا الْهَجِینَهَ عَلَى رَبِّهِمْ- وَ جَاحَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ- مُکَابَرَهً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَهً لآِلَائِهِ- فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ آسَاسِ الْعَصَبِیَّهِ- وَ دَعَائِمُ أَرْکَانِ الْفِتْنَهِ وَ سُیُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِیَّهِ- فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لَا تَکُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَیْکُمْ أَضْدَاداً- وَ لَا لِفَضْلِهِ عِنْدَکُمْ حُسَّاداً-وَ لَا تُطِیعُوا الْأَدْعِیَاءَ الَّذِینَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِکُمْ کَدَرَهُمْ- وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِکُمْ مَرَضَهُمْ وَ أَدْخَلْتُمْ فِی حَقِّکُمْ بَاطِلَهُمْ- وَ هُمْ آسَاسُ الْفُسُوقِ وَ أَحْلَاسُ الْعُقُوقِ- اتَّخَذَهُمْ إِبْلِیسُ مَطَایَا ضَلَالٍ- وَ جُنْداً بِهِمْ یَصُولُ عَلَى النَّاسِ- وَ تَرَاجِمَهً یَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ- اسْتِرَاقاً لِعُقُولِکُمْ وَ دُخُولًا فِی عُیُونِکُمْ- وَ نَفْثاً فِی أَسْمَاعِکُمْ- فَجَعَلَکُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ وَ مَأْخَذَ یَدِهِ- فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُسْتَکْبِرِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ- مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ صَوْلَاتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلَاتِهِ- وَ اتَّعِظُوا بِمَثَاوِی خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعُ جُنُوبِهِمْ- وَ اسْتَعِیذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْکِبْرِ- کَمَا تَسْتَعِیذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ أمعنتم فی البغی بالغتم فیه- من أمعن فی الأرض أی ذهب فیها بعیدا- و مصارحه لله أی مکاشفه- .

و المناصبه المعاداه- . و ملاقح الشنئان قال الراوندی- الملاقح هی الفحول التی تلقح و لیس بصحیح- نص الجوهری على أن الوجه لواقح کما جاء فی القرآن- وَ أَرْسَلْنَا الرِّیاحَ لَواقِحَ- و قال هو من النوادر لأن الماضی رباعی- و الصحیح أن ملاقح هاهنا جمع ملقح و هو المصدر- من لقحت کضربت مضربا و شربت مشربا- و یجوز فتح النون من الشنئان و تسکینها و هو البغض- . و منافخ الشیطان جمع منفخ- و هو مصدر أیضا من نفخ- و نفخ الشیطان و نفثه‏واحد و هو وسوسته و تسویله- و یقال للمتطاول إلى ما لیس له- قد نفخ الشیطان فی أنفه- . و فی کلامه ع یقوله لطلحه و هو صریع- و قد وقف علیه و أخذ سیفه سیف طالما جلى به الکرب عن وجه رسول الله ص- و لکن الشیطان نفخ فی أنفه – .

قوله و أعنقوا أصرعوا- و فرس معناق و السیر العنق- قال الراجز- یا ناق سیری عنقا فسیحا إلى سلیمان فنستریحا- . و الحنادس الظلم- . و المهاوی جمع مهواه بالفتح- و هی الهوه یتردى الصید فیها- و قد تهاوى الصید فی المهواه- إذا سقط بعضه فی أثر بعض- . قوله ع ذللا عن سیاقه انتصب على الحال- جمع ذلول و هو السهل المقاده- و هو حال من الضمیر فی أعنقوا- أی أسرعوا منقادین لسوقه إیاهم- . و سلسا جمع سلس و هو السهل أیضا- و إنما قسم ذللا و سلسا بین سیاقه و قیاده- لأن المستعمل فی کلامهم- قدت الفرس فوجدته سلسا أو صعبا- و لا یستحسنون سقته فوجدته سلسا أو صعبا- و إنما المستحسن عندهم سقته فوجدته ذلولا أو شموسا- .

قوله ع أمرا منصوب بتقدیر فعل- أی اعتمدوا أمرا و کبرا معطوف علیه- أو ینصب کبرا على المصدر- بأن یکون اسما واقعا موقعه- کالعطاء موضع الإعطاء- . و قال الراوندی أمرا منصوب هاهنا لأنه مفعول به- و ناصبه المصدر الذی هو سیاقه و قیاده- تقول سقت و قدت قیادا- و هذا غیر صحیح لأن مفعول هذین المصدرین محذوف- تقدیره عن سیاقه إیاهم و قیاده إیاهم- و هذا هو معنى الکلام- و لو فرضنا مفعول‏أحد هذین المصدرین- أمرا لفسد معنى الکلام- و قال الراوندی أیضا و یجوز أن یکون أمرا حالا- و هذا أیضا لیس بشی‏ء- لأن الحال وصف هیئه الفاعل أو المفعول- و أمرا لیس کذلک- . قوله ع تشابهت القلوب فیه- أی أن الحمیه و الفخر و الکبر و العصبیه- ما زالت القلوب متشابهه متماثله فیها- . و تتابعت القرون علیه جمع قرن بالفتح- و هی الأمه من الناس- . و کبرا تضایقت الصدور به أی کبر فی الصدور- حتى امتلأت به و ضاقت عنه لکثرته- . ثم أمر بالحذر من طاعه الرؤساء أرباب الحمیه- و فیه إشاره إلى قوله تعالى- إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ کُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِیلَا- . و قد کان أمر فی الفصل الأول بالتواضع لله- و نهى هاهنا عن التواضع للرؤساء- و قد جاء فی الخبر المرفوع ما أحسن تواضع الأغنیاء للفقراء- و أحسن منه تکبر الفقراء على الأغنیاء – . الذین تکبروا عن حسبهم أی جهلوا أنفسهم- و لم یفکروا فی أصلهم من النطف المستقذره- من الطین المنتن- قال الشاعر

ما بال من أوله نطفه
و جیفه آخره یفخر

یصبح لا یملک تقدیم ما
یرجو و لا تأخیر ما یحذر

قوله ع و ألقوا الهجینه على ربهم- روی الهجینه على فعیله کالطبیعه و الخلیقه- و روی الهجنه على فعله کالمضغه و اللقمه- و المراد بهما الاستهجان من قولک هو یهجن کذا- أی یقبحه و یستهجنه أی یستقبحه- أی نسبوا ما فی الأنساب‏من القبح بزعمهم إلى ربهم- مثل أن یقولوا للرجل أنت عجمی و نحن عرب- فإن هذا لیس إلى الإنسان- بل هو إلى الله تعالى فأی ذنب له فیه- . قوله و جاحدوا الله- أی کابروه و أنکروا صنعه إلیهم- . و آساس بالمد جمع أساس- . و اعتزاء الجاهلیه قولهم یا لفلان- و سمع أبی بن کعب رجلا یقول یا لفلان فقال- عضضت بهن أبیک فقیل له- یا أبا المنذر ما کنت فحاشا- قال سمعت رسول الله ص یقول من تعزى بعزاء الجاهلیه- فأعضوه بهن أبیه و لا تکنوا – . قوله فلا تکونوا لنعمه الله أضدادا- لأن البغی و الکبر- یقتضیان زوال النعمه و تبدلها بالنقمه- .

قوله و لا تطیعوا الأدعیاء- مراده هاهنا بالأدعیاء- الذین ینتحلون الإسلام و یبطنون النفاق- . ثم وصفهم فقال الذین شربتم بصفوکم کدرهم- أی شربتم کدرهم مستبدلین ذلک بصفوکم- و یروى الذین ضربتم أی مزجتم- و یروى شریتم أی بعتم و استبدلتم- . و الأحلاس جمع حلس و هو کساء رقیق- یکون على ظهر البعیر ملازما له- فقیل لکل ملازم أمر هو حلس ذلک الأمر- . و الترجمان بفتح التاء- هو الذی یفسر لسانا بلسان غیره- و قد تضم التاء- و یروى و نثا فی أسماعکم- من نث الحدیث أی أفشاه‏:

فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِی الْکِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ- لَرَخَّصَ فِیهِ لِخَاصَّهِ أَنْبِیَائِهِ- وَ لَکِنَّهُ سُبْحَانَهُ کَرَّهَ إِلَیْهِمُ التَّکَابُرَ- وَ رَضِیَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ- فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ- وَ عَفَّرُوا فِی التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ- وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِینَ- وَ کَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِینَ- قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَخْمَصَهِ وَ ابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَهِ- وَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَحَّصَهُمْ بِالْمَکَارِهِ- فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَا وَ السُّخْطَ بِالْمَالِ وَ الْوَلَدِ- جَهْلًا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَهِ- وَ الِاخْتِبَارِ فِی مَوْضِعِ الْغِنَى وَ الْإِقْتَارِ- فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- أَ یَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِینَ- نُسارِعُ لَهُمْ فِی الْخَیْراتِ بَلْ لا یَشْعُرُونَ التکابر التعاظم- و الغرض مقابله لفظه التواضع- لتکون الألفاظ مزدوجه- . و عفر وجهه ألصقه بالعفر- . و خفضوا أجنحتهم ألانوا جانبهم- . و المخمصه الجوع و المجهده المشقه- و أمیر المؤمنین ع کثیر الاستعمال لمفعل و مفعله- بمعنى المصدر- إذا تصفحت کلامه عرفت ذلک- . و محصهم أی طهرهم- و روی مخضهم بالخاء و الضاد المعجمه- أی حرکهم و زلزلهم- .

ثم نهى أن یعتبر رضا الله و سخطه- بما نراه من إعطائه الإنسان مالا و ولدا- فإن ذلک جهل بمواقع الفتنه و الاختبار- . و قوله تعالى أَ یَحْسَبُونَ الآیه- دلیل على ما قاله ع- و الأدله العقلیه أیضا دلت- على أن کثیرا من الآلام و الغموم و البلوى- إنما یفعله الله تعالى للألطاف و المصالح- و ما الموصوله فی الآیه- یعود إلیها محذوف و مقدر لا بد منه- و إلا کان الکلام غیر منتظم- و غیر مرتبط بعضه ببعض- و تقدیره نسارع لهم فی الخیرات: فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ یَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَکْبِرِینَ فِی أَنْفُسِهِمْ- بِأَوْلِیَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِینَ فِی أَعْیُنِهِمْ- وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ ع- عَلَى فِرْعَوْنَ وَ عَلَیْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ- وَ بِأَیْدِیهِمَا الْعِصِیُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ- بَقَاءَ مُلْکِهِ وَ دَوَامِ عِزِّهِ- فَقَالَ أَ لَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَیْنِ یَشْرِطَانِ لِی دَوَامَ الْعِزِّ- وَ بَقَاءَ الْمُلْکِ- وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَ الذُّلِّ- فَهَلَّا أُلْقِیَ عَلَیْهِمَا أَسَاوِرَهٌ مِنْ ذَهَبٍ- إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ- وَ احْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ- وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِیَائِهِ- حَیْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ یَفْتَحَ لَهُمْ کُنُوزَ الذِّهْبَانِ- وَ مَعَادِنَ الْعِقْیَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ- وَ أَنْ یَحْشُرَ مَعَهُمْ طُیُورَ السَّمَاءِ وَ وُحُوشَ الْأَرَضِینَ- لَفَعَلَ- وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُ- وَ اضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِینَ أُجُورُ الْمُبْتَلَیْنَ- وَ لَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِینَ- وَ لَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِیَهَا- وَ لَکِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِی قُوَّهٍ فِی عَزَائِمِهِمْ- وَ ضَعَفَهً فِیمَاتَرَى الْأَعْیُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ- مَعَ قَنَاعَهٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَ الْعُیُونَ غِنًى- وَ خَصَاصَهٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَ الْأَسْمَاعَ أَذًى مدارع الصوف جمع مدرعه بکسر المیم- و هی کالکساء- و تدرع الرجل و تمدرع إذا لبسها- و العصی جمع عصا- .

و تقول هذا سوار المرأه و الجمع أسوره- و جمع الجمع أساوره- و قرئ فَلَوْ لا أُلْقِیَ عَلَیْهِ أَسْوِرَهٌ مِنْ ذَهَبٍ- و قد یکون جمع أساور- قال سبحانه یُحَلَّوْنَ فِیها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ- قال أبو عمرو بن العلاء أساور هاهنا- جمع إسوار و هو السوار- . و الذهبان بکسر الذال جمع ذهب- کخرب لذکر الحبارى و خربان- و العقیان الذهب أیضا قوله ع و اضمحلت الأنباء أی تلاشت و فنیت- و الأنباء جمع نبأ و هو الخبر- أی لسقط الوعد و الوعید و بطلا- . قوله ع و لا لزمت الأسماء معانیها- أی من یسمى مؤمنا أو مسلما حینئذ- فإن تسمیته مجاز لا حقیقه- لأنه لیس بمؤمن إیمانا من فعله و کسبه- بل یکون ملجأ إلى الإیمان بما یشاهده من الآیات العظیمه- . و المبتلین بفتح اللام جمع مبتلى- کالمعطین و المرتضین جمع معطى و مرتضى- . و الخصاصه الفقر- .

و هذا الکلام هو ما یقوله أصحابنا بعینه- فی تعلیل أفعال الباری سبحانه بالحکمه و المصلحه- و أن الغرض بالتکلیف هو التعریض للثواب- و أنه یجب أن یکون خالصا من الإلجاء- و من أن یفعل الواجب بوجه غیر وجه وجوبه- یرتدع عن القبیح لوجه غیر وجه قبحه- . و روى أبو جعفر محمد بن جریر الطبری فی التاریخ- أن موسى قدم هو و أخوه هارون مصر على فرعون- لما بعثهما الله تعالى إلیه- حتى وقفا على بابه یلتمسان الإذن علیه- فمکثا سنین یغدوان على بابه و یروحان لا یعلم بهما- و لا یجترئ أحد على أن یخبره بشأنهما- و قد کانا قالا لمن بالباب- إنا رسولا رب العالمین إلى فرعون- حتى دخل علیه بطال له یلاعبه و یضحکه- فقال له أیها الملک إن على الباب رجلا- یقول قولا عجیبا عظیما و یزعم أن له إلها غیرک- قال ببابی قال نعم قال أدخلوه- فدخل و بیده عصاه و معه هارون أخوه- فقال أنا رسول رب العالمین إلیک- و ذکر تمام الخبر- . فإن قلت أی خاصیه فی الصوف و لبسه- و لم اختاره الصالحون على غیره- قلت ورد فی الخبر أن أول لباس- لبسه آدم لما هبط إلى الأرض- صوف کبش قیضه الله له- و أمره أن یذبحه فیأکل لحمه و یلبس صوفه- لأنه أهبط عریان من الجنه- فذبحه و غزلت حواء صوفه فلبس آدم منه ثوبا- و ألبس حواء ثوبا آخر- فلذلک صار شعار الأولیاء و انتسبت إلیه الصوفیه:
وَ لَوْ کَانَتِ الْأَنْبِیَاءُ أَهْلَ قُوَّهٍ لَا تُرَامُ وَ عِزَّهٍ لَا تُضَامُ- وَ مُلْکٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَیْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ- لَکَانَ ذَلِکَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِی الِاعْتِبَارِ- وَ أَبْعَدَ لَهُمْ مِنَ الِاسْتِکْبَارِ- وَ لآَمَنُوا عَنْ رَهْبَهٍ قَاهِرَهٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَهٍ مَائِلَهٍ بِهِمْ- فَکَانَتِ النِّیَّاتُ مُشْتَرَکَهً وَ الْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَهً- وَ لَکِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ یَکُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ- وَ التَّصْدِیقُ بِکُتُبِهِ وَ الْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ- وَ الِاسْتِکَانَهُ لِأَمْرِهِ وَ الِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ- أُمُوراً لَهُ خَاصَّهً لَا یَشُوبُهَا مِنْ غَیْرِهَا شَائِبَهٌ تمد نحوه أعناق الرجال أی لعظمته- أی یؤمله المؤملون و یرجوه الراجون- و کل من أمل شیئا فقد طمح ببصره إلیه معنى لا صوره- فکنى عن ذلک بمد العنق- . و تشد إلیه عقد الرحال یسافر أرباب الرغبات إلیه- یقول لو کان الأنبیاء ملوکا ذوی بأس و قهر- لم یمکن إیمان الخلق و انقیادهم إلیهم- لأن الإیمان فی نفسه واجب عقلا- بل کان لرهبه لهم أو رغبه فیهم- فکانت النیات مشترکه- هذا فرض سؤال و جواب عنه کأنه قال لنفسه- لم لا یجوز أن یکون إیمانهم على هذا التقدیر لوجوبه- و لخوف ذلک النبی أو لرجاء نفع ذلک النبی ص- فقال لأن النیات تکون حینئذ مشترکه- أی یکون المکلف قد فعل الإیمان لکلا الأمرین- و کذلک تفسیر قوله و الحسنات مقتسمه- قال و لا یجوز أن تکون طاعه الله تعالى تعلو- إلا لکونها طاعه له لا غیر- و لا یجوز أن یشوبها و یخالطها من غیرها شائبه- .

فإن قلت ما معنى قوله- لکان ذلک أهون على الخلق فی الاعتبار- و أبعد لهم من الاستکبار- قلت أی لو کان الأنبیاء کالملوک فی السطوه و البطش- لکان المکلف لا یشق علیه الاعتبار- و الانزجار عن القبائح مشقته علیه- إذا ترکه لقبحه لا لخوف السیف- و کان بعد المکلفین عن الاستکبار و البغی- لخوف السیف و التأدیب- أعظم من بعدهم عنهما إذا ترکوهما لوجه قبحهما- فکان یکون ثواب المکلف إما ساقطا و إما ناقصا: وَ کُلَّمَا کَانَتِ الْبَلْوَى وَ الِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ- کَانَتِ الْمَثُوبَهُ وَ الْجَزَاءُ أَجْزَلَ- أَ لَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ- الْأَوَّلِینَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ص إِلَى الآْخِرِینَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ- بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَ لَا تَنْفَعُ وَ لَا تُبْصِرُ وَ لَا تَسْمَعُ- فَجَعَلَهَا بَیْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِی جَعَلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ قِیَاماً- ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً- وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْیَا مَدَراً- وَ أَضْیَقِ بُطُونِ الْأَوْدِیَهِ قُطْراً- بَیْنَ جِبَالٍ خَشِنَهٍ وَ رِمَالٍ دَمِثَهٍ- وَ عُیُونٍ وَشِلَهٍ وَ قُرًى مُنْقَطِعَهٍ- لَا یَزْکُو بِهَا خُفٌّ وَ لَا حَافِرٌ وَ لَا ظِلْفٌ- ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ع وَ وَلَدَهُ أَنْ یَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ- فَصَارَ مَثَابَهً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَ غَایَهً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ- تَهْوِی إِلَیْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَهِ مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِیقَهٍ- وَ مَهَاوِی فِجَاجٍ عَمِیقَهٍ وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَهٍ- حَتَّى یَهُزُّوا مَنَاکِبَهُمْ ذُلُلًا- یُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَ یَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ- شُعْثاً غُبْراً لَهُ قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِیلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ- وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ- ابْتِلَاءً عَظِیماً وَ امْتِحَاناً شَدِیداً- وَ اخْتِبَاراً مُبِیناً وَ تَمْحِیصاً بَلِیغاً- جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَ وُصْلَهً إِلَى جَنَّتِهِ-وَ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ- أَنْ یَضَعَ بَیْتَهُ الْحَرَامَ وَ مَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ- بَیْنَ جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ- جَمَّ الْأَشْجَارِ دَانِیَ الثِّمَارِ- مُلْتَفَّ الْبُنَى مُتَّصِلَ الْقُرَى- بَیْنَ بُرَّهٍ سَمْرَاءَ وَ رَوْضَهٍ خَضْرَاءَ- وَ أَرْیَافٍ مُحْدِقَهٍ وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَهٍ- وَ زُرُوعٍ نَاضِرَهٍ وَ طُرُقٍ عَامِرَهٍ- لَکَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ- وَ لَوْ کَانَ الْأَسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَیْهَا- وَ الْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا- مِنْ زُمُرُّدَهٍ خَضْرَاءَ وَ یَاقُوتَهٍ حَمْرَاءَ وَ نُورٍ وَ ضِیَاءٍ- لَخَفَّفَ ذَلِکَ مُصَارَعَهَ الشَّکِّ فِی الصُّدُورِ- وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَهَ إِبْلِیسَ عَنِ الْقُلُوبِ- وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّیْبِ مِنَ النَّاسِ- وَ لَکِنَّ اللَّهَ یَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ- وَ یَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ- وَ یَبْتَلِیهِمْ بِضُرُوبِ الْمَکَارِهِ- إِخْرَاجاً لِلتَّکَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ- وَ إِسْکَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِی نُفُوسِهِمْ- وَ لِیَجْعَلَ ذَلِکَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ- وَ أَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ کانت المثوبه أی الثواب- . و أجزل أکثر و الجزیل العظیم- و عطاء جزل و جزیل و الجمع جزال- و قد أجزلت له من العطاء أی أکثرت- . و جعله للناس قیاما أی عمادا- و فلان قیام أهله أی یقیم شئونهم- و منه قوله تعالى- وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَکُمُ الَّتِی جَعَلَ اللَّهُ لَکُمْ قِیاماً- .
و أوعر بقاع الأرض حجرا أی أصعبها- و مکان وعر بالتسکین صعب المسلک أو المقام- .

و أقل نتائق الدنیا مدرا- أصل هذه اللفظه من قولهم- امرأه منتاق أی کثیره الحبل و الولاده- و یقال ضیعه منتاق أی کثیره الریع- فجعل ع الضیاع ذوات المدر التی تثار للحرث نتائق- و قال إن مکه أقلها صلاحا للزرع لأن أرضها حجریه- . و القطر الجانب و رمال دمثه سهله- و کلما کان الرمل أسهل کان أبعد عن أن ینبت- . و عیون وشله أی قلیله الماء- و الوشل بفتح الشین الماء القلیل- و یقال وشل الماء وشلانا أی قطر- .

قوله لا یزکو بها خف- أی لا تزید الإبل فیها أی لا تسمن- و الخف هاهنا هو الإبل- و الحافر الخیل و الحمیر و الظلف الشاه- أی لیس حولها مرعى یرعاه الغنم فتسمن- . و أن یثنوا أعطافهم نحوه أی یقصدوه و یحجوه- و عطفا الرجل جانباه- . و صار مثابه أی یثاب إلیه- و یرجع نحوه مره بعد أخرى- و هذه من ألفاظ الکتاب العزیز- . قوله ع لمنتجع أسفارهم أی لنجعتها- و النجعه طلب الکلأ فی الأصل- ثم سمی کل من قصد أمرا یروم النفع منه منتجعا- . قوله و غایه لملقى رحالهم- أی صار البیت هو الغایه التی هی الغرض و المقصد- و عنده تلقى الرحال أی تحط رحال الإبل عن ظهورها- و یبطل السفر لأنهم قد انتهوا إلى الغایه المقصوده- .

قوله تهوی إلیه ثمار الأفئده- ثمره الفؤاد هو سویداء القلب- و منه قولهم للولد هو ثمره الفؤاد- و معنى تهوی إلیه أی تتشوقه و تحن نحوه- . و المفاوز هی جمع مفازه الفلاه سمیت مفازه- إما لأنها مهلکه من قولهم فوز الرجل أی هلک- و أما تفاؤلا بالسلامه و الفوز- و الروایه المشهوره من مفاوز قفار بالإضافه- و قد روى قوم من مفاوز بفتح الزاء- لأنه لا ینصرف و لم یضیفوا- جعلوا قفار صفه- . و السحیقه البعیده- . و المهاوی المساقط- . و الفجاج جمع فج و هو الطریق بین الجبلین- . قوله ع حتى یهزوا مناکبهم- أی یحرکهم الشوق نحوه إلى أن یسافروا إلیه- فکنى عن السفر بهز المناکب- . و ذللا حال إما منهم و إما من المناکب- و واحد المناکب منکب بکسر الکاف- و هو مجمع عظم العضد و الکتف- .

قوله و یهللون یقولون لا إله إلا الله- و روی یهلون لله أی یرفعون أصواتهم بالتلبیه و نحوها- . و یرملون الرمل السعی فوق المشی قلیلا- . شعثا غبرا لا یتعهدون شعورهم و لا ثیابهم و لا أبدانهم- قد نبذوا السرابیل و رموا ثیابهم و قمصانهم المخیطه- . و شوهوا بإعفاء الشعور- أی غیروا و قبحوا محاسن صورهم- بأن أعفوا شعورهم فلم یحلقوا ما فضل منها- و سقط على الوجه و نبت فی غیره من الأعضاء- التی جرت العاده بإزالتها عنها- .و التمحیص التطهیر- من محصت الذهب بالنار إذا صفیته مما یشوبه- و التمحیص أیضا الامتحان و الاختبار- و المشاعر معالم النسک- . قوله و سهل و قرار أی فی مکان سهل- یستقر فیه الناس و لا ینالهم من المقام به مشقه- . و جم الأشجار کثیرها و دانی الثمار قریبها- . و ملتف البنى مشتبک العماره- . و البره الواحده من البر و هو الحنطه- . و الأریاف جمع ریف و هو الخصب و المرعى فی الأصل- و هو هاهنا السواد و المزارع- و محدقه محیطه و مغدقه غزیره- و الغدق الماء الکثیر- . و ناضره ذات نضاره و رونق و حسن- .

قوله و لو کانت الإساس- یقول لو کانت إساس البیت التی حمل البیت علیها- و أحجاره التی رفع بها من زمرده و یاقوته- فالمحمول و المرفوع کلاهما مرفوعان- لأنهما صفه اسم کان و الخبر من زمرده- و روی بین زمرده- و یجوز أن تحمل لفظتا المفعول- و هما المحمول و المرفوع ضمیر البیت- فیکون قائما مقام اسم الفاعل- و یکون موضع الجار و المجرور نصبا- و یجوز ألا تحملهما ذلک الضمیر- و یجعل الجار و المجرور هو الساد مسد الفاعل- فیکون موضعه رفعا- . و روی مضارعه الشک بالضاد المعجمه- و معناه مقارنه الشک و دنوه من النفس- و أصله من مضارعه القدر إذا حان إدراکها- و من مضارعه الشمس إذا دنت للمغیب- . و قال الراوندی فی تفسیر هذه الکلمه- من مضارعه الشک أی مماثلته و مشابهته- و هذا بعید لأنه لا معنى للمماثله و المشابهه هاهنا- و الروایه الصحیحه بالصاد المهمله- . قوله ع و لنفى متعلج الریب أی اعتلاجه- أی و لنفى اضطراب الشک فی القلوب- و روی یستعبدهم و یتعبدهم و الثانیه أحسن- .و المجاهد جمع مجهده و هی المشقه- . و أبوابا فتحا أی مفتوحه و أسبابا ذللا أی سهله- . و اعلم أن محصول هذا الفصل- أنه کلما کانت العباده أشق کان الثواب علیها أعظم- و لو أن الله تعالى جعل العبادات سهله على المکلفین- لما استحقوا علیها من الثواب إلا قدرا یسیرا- بحسب ما یکون فیها من المشقه الیسیره- .

فإن قلت- فهل کان البیت الحرام موجودا أیام آدم ع- ثم أمر آدم و ولده أن یثنوا أعطافهم نحوه- قلت نعم هکذا روى أرباب السیر و أصحاب التواریخ- روى أبو جعفر محمد بن جریر الطبری فی تاریخه عن ابن عباس أن الله تعالى أوحى إلى آدم لما أهبطه إلى الأرض- أن لی حرما حیال عرشی فانطلق فابن لی بیتا فیه- ثم طف به کما رأیت ملائکتی تحف بعرشی- فهنالک أستجیب دعاءک و دعاء من یحف به من ذریتک- فقال آدم إنی لست أقوى على بنائه و لا أهتدی إلیه- فقیض الله تعالى له ملکا فانطلق به نحو مکه- و کان آدم فی طریقه کلما رأى روضه أو مکانا یعجبه- سأل الملک أن ینزل به هناک لیبنی فیه- فیقول الملک إنه لیس هاهنا حتى أقدمه مکه- فبنى البیت من خمسه جبال- طور سیناء و طور زیتون و لبنان و الجودی- و بنى قواعده من حراء- فلما فرغ خرج به الملک إلى عرفات- فأراه المناسک کلها التی یفعلها الناس الیوم- ثم قدم به مکه و طاف بالبیت أسبوعا- ثم رجع إلى أرض الهند فمات – .

و روى الطبری فی التاریخ- أن آدم حج من أرض الهند إلى الکعبه- أربعین حجه على رجلیه- .و قد روی أن الکعبه أنزلت من السماء- و هی یاقوته أو لؤلؤه على اختلاف الروایات- و أنها بقیت على تلک الصوره- إلى أن فسدت الأرض بالمعاصی أیام نوح- و جاء الطوفان فرفع البیت- و بنى إبراهیم هذه البنیه على قواعده القدیمه و روى أبو جعفر عن وهب بن منبه أن آدم دعا ربه فقال یا رب أ ما لأرضک هذه عامر- یسبحک و یقدسک فیها غیری- فقال الله إنی سأجعل فیها- من ولدک من یسبح بحمدی و یقدسنی- و سأجعل فیها بیوتا ترفع لذکری- یسبحنی فیها خلقی و یذکر فیها اسمی- و سأجعل من تلک البیوت بیتا أختصه بکرامتی- و أوثره باسمی فأسمیه بیتی- و علیه وضعت جلالتی و خصصته بعظمتی- و أنا مع ذلک فی کل شی‏ء- أجعل ذلک البیت حرما آمنا یحرم بحرمته من حوله- و من تحته و من فوقه- فمن حرمه بحرمتی استوجب کرامتی- و من أخاف أهله فقد أباح حرمتی و استحق سخطی- و أجعله بیتا مبارکا یأتیه بنوک شعثا غبرا- على کل ضامر من کل فج عمیق- یرجون بالتلبیه رجیجا و یعجون بالتکبیر عجیجا- من اعتمده لا یرید غیره- و وفد إلی و زارنی و استضاف بی أسعفته بحاجته- و حق على الکریم أن یکرم وفده و أضیافه- تعمره یا آدم ما دمت حیا ثم تعمره الأمم و القرون- و الأنبیاء من ولدک أمه بعد أمه و قرنا بعد قرن – .

قال ثم أمر آدم أن یأتی إلى البیت الحرام- الذی أهبط له إلى الأرض فیطوف به- کما کان یرى الملائکه تطوف حول العرش- و کان البیت حینئذ من دره أو من یاقوته- فلما أغرق الله تعالى قوم نوح رفعه- و بقی أساسه فبوأه الله لإبراهیم فبناه‏:

فَاللَّهَ اللَّهَ فِی عَاجِلِ الْبَغْیِ- وَ آجِلِ وَخَامَهِ الظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَهِ الْکِبْرِ- فَإِنَّهَا مَصْیَدَهُ إِبْلِیسَ الْعُظْمَى وَ مَکِیدَتُهُ الْکُبْرَى- الَّتِی تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَهَ السُّمُومِ الْقَاتِلَهِ- فَمَا تُکْدِی أَبَداً وَ لَا تُشْوِی أَحَداً- لَا عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لَا مُقِلًّا فِی طِمْرِهِ- وَ عَنْ ذَلِکَ مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِینَ- بِالصَّلَوَاتِ وَ الزَّکَوَاتِ- وَ مُجَاهَدَهِ الصِّیَامِ فِی الْأَیَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ- تَسْکِیناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِیعاً لِأَبْصَارِهِمْ- وَ تَذْلِیلًا لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِیضاً لِقُلُوبِهِمْ- وَ إِذْهَاباً لِلْخُیَلَاءِ عَنْهُمْ- وَ لِمَا فِی ذَلِکَ مِنْ تَعْفِیرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً- وَ الْتِصَاقِ کَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً- وَ لُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّیَامِ تَذَلُّلًا- مَعَ مَا فِی الزَّکَاهِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ- وَ غَیْرِ ذَلِکَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْکَنَهِ وَ الْفَقْرِ- انْظُرُوا إِلَى مَا فِی هَذِهِ الْأَفْعَالِ- مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ الْکِبْرِ بلده وخمه و وخیمه بینه الوخامه أی وبیئه- . مصیده إبلیس بسکون الصاد و فتح الیاء- آلته التی یصطاد بها- . و تساور قلوب الرجال تواثبها- و سار إلیه یسور أی وثب و المصدر السور- و مصدر تساور المساوره- و یقال إن لغضبه سوره و هو سوار أی وثاب معربد- .

و سوره الشراب وثوبه فی الرأس- و کذلک مساوره السموم التی ذکرها أمیر المؤمنین ع- . و ما تکدی ما ترد عن تأثیرها- من قولک أکدى حافر الفرس إذا بلغ الکدیه- و هی الأرض الصلبه فلا یمکنه أن یحفر- . و لا تشوی أحدا- لا تخطئ المقتل و تصیب غیره- و هو الشوى و الشوى الأطراف کالید و الرجل- . قال لا ترد مکیدته عن أحد لا عن عالم لأجل علمه- و لا عن فقیر لطمره و الطمر الثوب الخلق- . و ما فی قوله و عن ذلک ما حرس الله زائده مؤکده- أی عن هذه المکاید التی هی البغی و الظلم و الکبر- حرس الله عباده فعن متعلقه بحرس- و قال الراوندی یجوز أن تکون مصدریه- فیکون موضعها رفعا بالابتداء- و خبر المبتدأ قوله لما فی ذلک- و قال أیضا یجوز أن تکون نافیه- أی لم یحرس الله عباده عن ذلک إلجاء و قهرا- بل فعلوه اختیارا من أنفسهم- و الوجه الأول باطل لأن عن على هذا التقدیر- تکون من صله المصدر فلا یجوز تقدیمها علیه-

و أیضا فإن لما فی ذلک لو کان هو الخبر- لتعلق لام الجر بمحذوف- فیکون التقدیر حراسه الله لعباده عن ذلک- کائنه لما فی ذلک من تعفیر الوجوه بالتراب- و هذا کلام غیر مفید و لا منتظم- إلا على تأویل بعید لا حاجه إلى تعسفه- و الوجه الثانی باطل- لأن سیاقه الکلام تدل على فساده- أ لا ترى قوله تسکینا و تخشیعا- و قوله لما فی ذلک من کذا- و هذا کله تعلیل الحاصل الثابت لا تعلیل المنفی المعدوم- .

ثم بین ع الحکمه فی العبادات- فقال إنه تعالى حرس عباده بالصلوات-التی افترضها علیهم من تلک المکاید- و کذلک بالزکاه و الصوم لیسکن أطرافهم- و یخشع أبصارهم- فجعل التسکین و التخشیع عذرا و عله للحراسه- و نصب اللفظات على أنها مفعول له- . ثم علل السکون و الخشوع الذی هو عله الحراسه- لما فی الصلاه من تعفیر الوجه على التراب- فصار ذلک عله العله- قال و ذلک لأن تعفیر عتاق الوجوه بالتراب تواضعا- یوجب هضم النفس و کسرها و تذلیلها- . و عتاق الوجوه کرائمها- . و إلصاق کرائم الجوارح بالأرض- کالیدین و الساقین تصاغرا یوجب الخشوع و الاستسلام- و الجوع فی الصوم الذی یلحق البطن فی المتن- یقتضی زوال الأشر و البطر- و یوجب مذله النفس و قمعها عن الانهماک فی الشهوات- و ما فی الزکاه من صرف فواضل المکاسب- إلى أهل الفقر و المسکنه- یوجب تطهیر النفوس و الأموال- و مواساه أرباب الحاجات بما تسمح به النفوس من الأموال- و عاصم لهم من السرقات و ارتکاب المنکرات- ففی ذلک کله دفع مکاید الشیطان- . و تخفیض القلوب حطها عن الاعتلاء و التیه- . و الخیلاء التکبر- و المسکنه أشد الفقر فی أظهر الرأیین- . و القمع القهر- . و النواجم جمع ناجمه- و هی ما یظهر و یطلع من الکبر و غیره- . و القدع بالدال المهمله الکف- قدعت الفرس و کبحته باللجام أی کففته- . و الطوالع کالنواجم‏:

وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِینَ- یَتَعَصَّبُ لِشَیْ‏ءٍ مِنَ الْأَشْیَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّهٍ- تَحْتَمِلُ تَمْوِیهَ الْجُهَلَاءِ- أَوْ حُجَّهٍ تَلِیطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَیْرَکُمْ- فَإِنَّکُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا یُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لَا عِلَّهٌ- أَمَّا إِبْلِیسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ- وَ طَعَنَ عَلَیْهِ فِی خِلْقَتِهِ- فَقَالَ أَنَا نَارِیٌّ وَ أَنْتَ طِینِیٌّ- وَ أَمَّا الْأَغْنِیَاءُ مِنْ مُتْرَفَهِ الْأُمَمِ- فَتَعَصَّبُوا لآِثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ- فَقَالُوا نَحْنُ أَکْثَرُ أَمْوَالًا وَ أَوْلَاداً- وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِینَ- فَإِنْ کَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِیَّهِ- فَلْیَکُنْ تَعَصُّبُکُمْ لِمَکَارِمِ الْخِصَالِ- وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ- الَّتِی تَفَاضَلَتْ فِیهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ- مِنْ بُیُوتَاتِ الْعَرَبِ وَ یَعَاسِیبِ القَبَائِلِ- بِالْأَخْلَاقِ الرَّغِیبَهِ وَ الْأَحْلَامِ الْعَظِیمَهِ- وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِیلَهِ وَ الآْثَارِ الْمَحْمُودَهِ- فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ- وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ الطَّاعَهِ لِلْبِرِّ- وَ الْمَعْصِیَهِ لِلْکِبْرِ وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ- وَ الْکَفِّ عَنِ الْبَغْیِ وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ- وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ الْکَظْمِ لِلْغَیْظِ- وَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِی الْأَرْضِ قد روی تحتمل بالتاء- و روی تحمل و المعنى واحد- . و التمویه التلبیس- من موهت النحاس إذا طلیته بالذهب لیخفى- . و لاط الشی‏ء بقلبی یلوط و یلیط أی التصق- . و المترف الذی أطغته النعمه- .

و تفاضلت فیها أی تزایدت- . و المجداء جمع ماجد و المجد الشرف فی الآباء- و الحسب و الکرم یکونان فی الرجل- و إن لم یکونا فی آبائه- هکذا قال ابن السکیت- و قد اعترض علیه بأن المجید من صفات الله تعالى- قال سبحانه ذُو الْعَرْشِ الْمَجِیدُ- على قراءه من رفع- و الله سبحانه یتعالى عن الآباء- و قد جاء فی وصف القرآن المجید قال سبحانه- بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِیدٌ- . و النجداء الشجعان واحدهم نجید- و أما نجد و نجد بالکسر و الضم- فجمعه أنجاد مثل یقظ و أیقاظ- . و بیوتات العرب قبائلها- و یعاسیب القبائل رؤساؤها- و الیعسوب فی الأصل ذکر النحل و أمیرها- . و الرغیبه الخصله یرغب فیها- . و الأحلام العقول و الأخطار الأقدار- .

ثم أمرهم بأن یتعصبوا لخلال الحمد و عددها- و ینبغی أن یحمل قوله ع- فإنکم تتعصبون لأمر ما یعرف له سبب و لا عله- على أنه لا یعرف له سبب مناسب- فکیف یمکن أن یتعصبوا لغیر سبب أصلا- . و قیل إن أصل هذه العصبیه و هذه الخطبه- أن أهل الکوفه کانوا- قد فسدوا فی آخر خلافه أمیر المؤمنین- و کانوا قبائل فی الکوفه- فکان الرجل یخرج من منازل قبیلته- فیمر بمنازل قبیله أخرى فینادی باسم قبیلته- یا للنخع مثلا أو یا لکنده نداء عالیا- یقصد به الفتنه و إثاره الشر- فیتألب علیه فتیان القبیله- التی مر بها فینادون- یا لتمیم‏و یا لربیعه- و یقبلون إلى ذلک الصائح فیضربونه- فیمضی إلى قبیلته فیستصرخها- فتسل السیوف و تثور الفتن- و لا یکون لها أصل فی الحقیقه- إلا تعرض الفتیان بعضهم ببعض: وَ احْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَکُمْ- مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ وَ ذَمِیمِ الْأَعْمَالِ- فَتَذَکَّرُوا فِی الْخَیْرِ وَ الشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ- وَ احْذَرُوا أَنْ تَکُونُوا أَمْثَالَهُمْ- فَإِذَا تَفَکَّرْتُمْ فِی تَفَاوُتِ حَالَیْهِمْ- فَالْزَمُوا کُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّهُ بِهِ حَالَهُمْ- وَ زَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ- وَ مُدَّتِ الْعَافِیَهُ بِهِ عَلَیْهِمْ- وَ انْقَادَتِ النِّعْمَهُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ الْکَرَامَهُ عَلَیْهِ حَبْلَهُمْ- مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَهِ وَ اللُّزُومِ لِلْأُلْفَهِ- وَ التَّحَاضِّ عَلَیْهَا وَ التَّوَاصِی بِهَا- وَ اجْتَنِبُوا کُلَّ أَمْرٍ کَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ- مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ الصُّدُورِ- وَ تَدَابُرِ النُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ الْأَیْدِی المثلات العقوبات- . و ذمیم الأفعال ما یذم منها- . و تفاوت حالیهم اختلافهما- و زاحت الأعداء بعدت و له أی لأجله- . و التحاض علیها تفاعل یستدعی وقوع الحض- و هو الحث من الجهتین أی یحث بعضهم بعضا- . و الفقره واحده فقر الظهر- و یقال لمن قد أصابته مصیبه شدیده- قد کسرت فقرته- .

و المنه القوه- . و تضاغن القلوب و تشاحنها واحد- و تخاذل الأیدی ألا ینصر الناس بعضهم بعضا: وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِینَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ قَبْلَکُمْ- کَیْفَ کَانُوا فِی حَالِ التَّمْحِیصِ وَ الْبَلَاءِ- أَ لَمْ یَکُونُوا أَثْقَلَ الْخَلَائِقِ أَعْبَاءً- وَ أَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً وَ أَضْیَقَ أَهْلِ الدُّنْیَا حَالًا- اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَهُ عَبِیداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ- وَ جَرَّعُوهُمْ جُرَعَ الْمُرَارِ- فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِی ذُلِّ الْهَلَکَهِ وَ قَهْرِ الْغَلَبَهِ- لَا یَجِدُونَ حِیلَهً فِی امْتِنَاعٍ وَ لَا سَبِیلًا إِلَى دِفَاعٍ- حَتَّى إِذَا رَأَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ- جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِی مَحَبَّتِهِ- وَ الِاحْتِمَالَ لِلْمَکْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ- جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَایِقِ الْبَلَاءِ فَرَجاً- فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَکَانَ الذُّلِّ وَ الْأَمْنَ مَکَانَ الْخَوْفِ- فَصَارُوا مُلُوکاً حُکَّاماً وَ أَئِمَّهً أَعْلَاماً- وَ قَدْ بَلَغَتِ الْکَرَامَهُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ- مَا لَمْ تَذْهَبِ الآْمَالُ إِلَیْهِ بِهِمْ تدبروا أی تأملوا- و التمحیص التطهیر و التصفیه- . و الأعباء الأثقال واحدها عب‏ء- . و أجهد العباد أتعبهم- . و الفراعنه العتاه و کل عات فرعون- .

و ساموهم سوء العذاب ألزموهم إیاه- و هذا إشاره إلى قوله تعالى- یَسُومُونَکُمْ سُوءَالْعَذابِ- یُذَبِّحُونَ أَبْناءَکُمْ وَ یَسْتَحْیُونَ نِساءَکُمْ- وَ فِی ذلِکُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّکُمْ عَظِیمٌ- . و المرار بضم المیم شجر مر فی الأصل- و استعیر شرب المرار لکل من یلقى شدید المشقه- . و رأى الله منهم جد الصبر أی أشده- . و أئمه أعلاما أی یهتدى بهم کالعلم فی الفلاه: فَانْظُرُوا کَیْفَ کَانُوا حَیْثُ کَانَتِ الْأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَهً- وَ الْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَهً وَ الْقُلُوبُ مُعْتَدِلَهً- وَ الْأَیْدِی مُتَرَادِفَهً وَ السُّیُوفُ مُتَنَاصِرَهً- وَ الْبَصَائِرُ نَافِذَهً وَ الْعَزَائِمُ وَاحِدَهً- أَ لَمْ یَکُونُوا أَرْبَاباً فِی أَقْطَارِ الْأَرَضِینَ- وَ مُلُوکاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِینَ- فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَیْهِ فِی آخِرِ أُمُورِهِمْ- حِینَ وَقَعَتِ الْفُرْقَهُ وَ تَشَتَّتَتِ الْأُلْفَهُ- وَ اخْتَلَفَتِ الْکَلِمَهُ وَ الْأَفْئِدَهُ- تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِینَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِینَ- وَ قَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ کَرَامَتِهِ- وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَهَ نِعْمَتِهِ- وَ بَقِیَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِیکُمْ- عِبْرَهً لِلْمُعْتَبِرِینَ مِنْکُمْ الأملاء الجماعات الواحد ملأ- .

و مترادفه متعاونه- البصائر نافذه یقال نفذت بصیرتی فی هذا الخبر- أی اجتمع همی علیه- و لم یبق عندی تردد فیه لعلمی به و تحقیقی إیاه- . و أقطار الأرضین نواحیها- و تشتتت تفرقت- . و تشعبوا صاروا شعوبا و قبائل مختلفین- . و تفرقوا متحزبین اختلفوا أحزابا- و روی متحازبین- . و غضاره النعمه الطیب اللین منها- .

و القصص الحدیث- . یقول انظروا فی أخبار من قبلکم من الأمم- کیف کانت حالهم فی العز و الملک- لما کانت کلمتهم واحده- و إلى ما ذا آلت حالهم حین اختلفت کلمتهم- فاحذروا أن تکونوا مثلهم- و أن یحل بکم إن اختلفتم مثل ما حل بهم: فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِیلَ- وَ بَنِی إِسْحَاقَ وَ بَنِی إِسْرَائِیلَ ع- فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ- تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِی حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ- لَیَالِیَ کَانَتِ الْأَکَاسِرَهُ وَ الْقَیَاصِرَهُ أَرْبَاباً لَهُمْ- یَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِیفِ الآْفَاقِ وَ بَحْرِ الْعِرَاقِ- وَ خُضْرَهِ الدُّنْیَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّیحِ- وَ مَهَافِی الرِّیحِ وَ نَکَدِ الْمَعَاشِ- فَتَرَکُوهُمْ عَالَهً مَسَاکِینَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ- أَذَلَّ الْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً- لَا یَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَهٍ یَعْتَصِمُونَ بِهَا- وَ لَا إِلَى ظِلِّ أُلْفَهٍ یَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا- فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَهٌ وَ الْأَیْدِی مُخْتَلِفَهٌ- وَ الْکَثْرَهُ مُتَفَرِّقَهٌ- فِی بَلَاءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ- مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَهٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَهٍ- وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَهٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَهٍ

لقائل أن یقول- ما نعرف أحدا من بنی إسحاق و بنی إسرائیل- احتازتهم الأکاسره و القیاصره- عن ریف الآفاق إلى البادیه و منابت الشیح- إلا أن یقال یهود خیبر و النضیر- و بنی قریظه و بنی قینقاع- و هؤلاء نفر قلیل لا یعتد بهم- و یعلم من فحوى الخطبه أنهم غیر مرادین بالکلام- و لأنه ع قال ترکوهم إخوان دبر و وبر- و هؤلاء لم یکونوا من أهل الوبر و الدبر- بل من أهل المدر لأنهم کانوا ذوی حصون و آطام- و الحاصل أن الذین احتازتهم- الأکاسره و القیاصره من الریف إلى البادیه- و صاروا أهل وبر ولد إسماعیل- لا بنو إسحاق و بنو إسرائیل- و الجواب أنه ع ذکر فی هذه الکلمات- و هی قوله فاعتبروا بحال ولد إسماعیل- و بنی إسحاق و بنی إسرائیل- المقهورین و القاهرین جمیعا- أما المقهورون فبنو إسماعیل- و أما القاهرون فبنو إسحاق و بنو إسرائیل- لأن الأکاسره من بنی إسحاق- ذکر کثیر من أهل العلم أن فارس من ولد إسحاق- و القیاصره من ولد إسحاق أیضا- لأن الروم بنو العیص بن إسحاق- و على هذا یکون الضمیر فی أمرهم- و تشتتهم و تفرقهم یرجع إلى بنی إسماعیل خاصه- .

فإن قلت فبنو إسرائیل أی مدخل لهم هاهنا- قلت لأن بنی إسرائیل لما کانوا ملوکا بالشام- فی أیام أجاب الملک و غیره- حاربوا العرب من بنی إسماعیل غیر مره- و طردوهم عن الشام- و ألجئوهم على المقام ببادیه الحجاز- و یصیر تقدیر الکلام- فاعتبروا بحال ولد إسماعیل- مع بنی إسحاق و بنی إسرائیل- فجاء بهم فی صدر الکلام على العموم- ثم خصص فقال الأکاسره و القیاصره- و هم داخلون فی عموم ولد إسحاق- و إنما لم یخصص عموم بنی إسرائیل- لأن العرب لم تکن تعرف ملوک‏ ولد یعقوب- فیذکر لهم أسماءهم فی الخطبه- بخلاف ولد إسحاق فإنهم کانوا یعرفون ملوکهم- من بنی ساسان و من بنی الأصفر- .

قوله ع فما أشد اعتدال الأحوال- أی ما أشبه الأشیاء بعضها ببعض- و إن حالکم لشبیهه بحال أولئک فاعتبروا بهم- . قوله یحتازونهم عن الریف یبعدونهم عنه- و الریف الأرض ذات الخصب و الزرع- و الجمع أریاف و رافت الماشیه أی رعت الریف- و قد أرفنا أی صرنا إلى الریف- و أرافت الأرض أی أخصبت- و هی أرض ریفه بتشدید الیاء- . و بحر العراق دجله و الفرات- أما الأکاسره فطردوهم عن بحر العراق- و أما القیاصره فطردوهم عن ریف الآفاق- أی عن الشام و ما فیه من المرعى و المنتجع- . قوله ع أربابا لهم أی ملوکا- و کانت العرب تسمى الأکاسره أربابا- و لما عظم أمر حذیفه بن بدر عندهم سموه رب معد- . و منابت الشیح أرض العرب- و الشیح نبت معروف- . و مهافی الریح المواضع التی تهفو فیها- أی تهب و هی الفیافی و الصحاری- . و نکد المعاش ضیقه و قلته- . و ترکوهم عاله أی فقراء جمع عائل- و العائل ذو العیله و العیله الفقر- قال تعالى- وَ إِنْ خِفْتُمْ عَیْلَهً فَسَوْفَ یُغْنِیکُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ- قال الشاعر

تعیرنا أننا عاله
صعالیک نحن و أنتم ملوک‏

نظیره قائد و قاده و سائس و ساسه- . و قوله إخوان دبر و وبر- الدبر مصدر دبر البعیر أی عقره القتب- و الوبر للبعیر بمنزله الصوف للضأن و الشعر للمعز- . قوله أذل الأمم دارا- لعدم المعاقل و الحصون المنیعه فیها- . و أجدبهم قرارا لعدم الزرع و الشجر و النخل بها- و الجدب المحل- . و لا یأوون لا یلتجئون و لا ینضمون- . و الأزل الضیق- و أطباق جهل جمع طبق- أی جهل متراکم بعضه فوق بعض- . و غارات مشنونه متفرقه و هی أصعب الغارات

فصل فی ذکر الأسباب التی دعت العرب إلى وأد البنات

من بنات موءوده- کان قوم من العرب یئدون البنات- قیل إنهم بنو تمیم خاصه- و إنه استفاض منهم فی جیرانهم- و قیل بل کان ذلک فی تمیم و قیس و أسد- و هذیل و بکر بن وائل- قالوا و ذلک أن رسول الله ص دعا علیهم-
فقال اللهم اشدد وطأتک على مضر- و اجعل علیهم سنین کسنی یوسف – فأجدبوا سبع سنین حتى أکلوا الوبر بالدم- و کانوا یسمونه العلهز- فوأدوا البنات لإملاقهم و فقرهم- و قد دل على ذلک بقوله- وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَکُمْ خَشْیَهَ إِمْلاقٍ- قال وَ لا یَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ- . و قال قوم بل وأدوا البنات أنفه- و زعموا أن تمیما منعت النعمان الإتاوه- سنه من‏السنین- فوجه إلیهم أخاه الریان بن المنذر- و جل من معه من بکر بن وائل- فاستاق النعم و سبى الذراری- و فی ذلک یقول بعض بنی یشکر-

لما رأوا رایه النعمان مقبله
قالوا ألا لیت أدنى دارنا عدن‏

یا لیت أم تمیم لم تکن عرفت‏
مرا و کانت کمن أودى به الزمن‏

إن تقتلونا فأعیار مخدعه
أو تنعموا فقدیما منکم المنن‏

منکم زهیر و عتاب و محتضن‏
و ابنا لقیط و أودى فی الوغى قطن‏

فوفدت بنو تمیم إلى النعمان و استعطفوه- فرق علیهم و أعاد علیهم السبی- و قال کل امرأه اختارت أباها ردت إلیه- و إن اختارت صاحبها ترکت علیه- فکلهن اخترن آباءهن إلا ابنه قیس بن عاصم- فإنها اختارت من سباها- و هو عمرو بن المشمرخ الیشکری- فنذر قیس بن عاصم المنقری التمیمی- ألا یولد له بنت إلا وأدها- و الوأد أن یخنقها فی التراب- و یثقل وجهها به حتى تموت- ثم اقتدى به کثیر من بنی تمیم قال سبحانه- وَ إِذَا الْمَوْؤُدَهُ سُئِلَتْ بِأَیِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ- أی على طریق التبکیت و التوبیخ لمن فعل ذلک أو أجازه- کما قال سبحانه یا عِیسَى ابْنَ مَرْیَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ- اتَّخِذُونِی وَ أُمِّی إِلهَیْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ- . و من جید شعر الفرزدق قوله فی هجاء جریر-

أ لم تر أنا بنی دارم
زراره منا أبو معبد

و منا الذی منع الوائدات‏
و أحیا الولید فلم یوأد

أ لسنا بأصحاب یوم النسار
و أصحاب ألویه المربد

أ لسنا الذین تمیم بهم
تسامى و تفخر فی المشهد

و ناجیه الخیر و الأقرعان‏
و قبر بکاظمه المورد

إذا ما أتى قبره عائذ
أناخ على القبر بالأسعد

أ یطلب مجد بنی دارم‏
عطیه کالجعل الأسود

قرنبى یحک قفا مقرف
لئیم مآثره قعدد

و مجد بنی دارم فوقه‏
مکان السماکین و الفرقد

و فی الحدیث أن صعصعه بن ناجیه بن عقال- لما وفد على رسول الله ص قال- یا رسول الله إنی کنت أعمل فی الجاهلیه عملا صالحا- فهل ینفعنی ذلک الیوم- قال ع و ما عملت- قال ضللت ناقتین عشراوین- فرکبت جملا و مضیت فی بغائهما- فرفع لی بیت حرید فقصدته- فإذا شیخ جالس بفنائه فسألته عن الناقتین- فقال ما نارهما قلت میسم بنی دارم- قال هما عندی و قد أحیا الله بهما- قوما من أهلک من مضر- فجلست معه لیخرجهما إلى- فإذا عجوز قد خرجت من کسر البیت- فقال لها ما وضعت- إن کان سقبا شارکنا فی أموالنا- و إن کان حائلا وأدناها- فقالت العجوز وضعت أنثى- فقلت له أ تبیعها قال و هل تبیع العرب أولادها- قلت إنما أشتری حیاتها و لا أشتری رقها- قال فبکم قلت احتکم قال بالناقتین و الجمل- قلت أ ذاک لک على أن یبلغنی الجمل و إیاها- قال بعتک فاستنقذتهامنه بالجمل و الناقتین- و آمنت بک یا رسول الله- و قد صارت لی سنه فی العرب- أن أشتری کل موءوده بناقتین عشراوین و جمل- فعندی إلى هذه الغایه- ثمانون و مائتا موءوده قد انقذتهن- قال ع لا ینفعک ذاک لأنک لم تبتغ به وجه الله- و أن تعمل فی إسلامک عملا صالحا تثب علیه – .

و روى الزبیر فی الموفقیات- أن أبا بکر قال فی الجاهلیه لقیس بن عاصم المنقری- ما حملک على أن وأدت- قال مخافه أن یخلف علیهن مثلک فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَیْهِمْ- حِینَ بَعَثَ إِلَیْهِمْ رَسُولًا- فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ- کَیْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَهُ عَلَیْهِمْ جَنَاحَ کَرَامَتِهَا- وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِیمِهَا- وَ الْتَفَّتِ الْمِلَّهُ بِهِمْ فِی عَوَائِدِ بَرَکَتِهَا- فَأَصْبَحُوا فِی نِعْمَتِهَا غَرِقِینَ- وَ فِی خُضْرَهِ عَیْشِهَا فَاکِهِینَ- قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِی ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ- وَ آوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى کَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ- وَ تَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَیْهِمْ فِی ذُرَى مُلْکٍ ثَابِتٍ- فَهُمْ حُکَّامٌ عَلَى الْعَالَمِینَ- وَ مُلُوکٌ فِی أَطْرَافِ الْأَرَضِینَ- یَمْلِکُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ کَانَ یَمْلِکُهَا عَلَیْهِمْ- وَ یُمْضُونَ الْأَحْکَامَ فِیمَنْ کَانَ یُمْضِیهَا فِیهِمْ- لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاهٌ وَ لَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاهٌ لما ذکر ما کانت العرب علیه من الذل و الضیم و الجهل- عاد فذکر ما أبدل الله‏به حالهم- حین بعث إلیهم محمدا ص- فعقد علیهم طاعتهم کالشی‏ء المنتشر المحلول- فعقدها بمله محمد ص- .

و الجداول الأنهر- . و التفت المله بهم أی کانوا متفرقین- فالتفت مله محمد بهم أی جمعتهم- و یقال التف الحبل بالحطب أی جمعه- و التف الحطب بالحبل أی اجتمع به- . و فی فی قوله فی عوائد برکتها متعلقه بمحذوف- و موضع الجار و المجرور نصب على الحال- أی جمعتهم المله کائنه فی عوائد برکتها- و العوائد جمع عائده و هی المنفعه- تقول هذا أعود علیک أی أنفع لک- و روی و التقت المله بالقاف أی اجتمعت بهم- من اللقاء و الروایه الأولى أصح- . و أصبحوا فی نعمتها غرقین- مبالغه فی وصف ما هم فیه من النعمه- .

و فاکهین ناعمین- و روی فکهین أی أشرین- و قد قرئ بهما فی قوله تعالى وَ نَعْمَهٍ کانُوا فِیها فاکِهِینَ- و قال الأصمعی فاکهین مازحین- و المفاکهه الممازحه و من أمثالهم- لا تفاکه أمه و لا تبل على أکمه- فأما قوله تعالى فَظَلْتُمْ تَفَکَّهُونَ- فقیل تندمون و قیل تعجبون- .

و عن فی قوله و عن خضره عیشها- متعلقه بمحذوف تقدیره فأصبحوا فاکهین- فکاهه صادره عن خضره عیشها- أی خضره عیش النعمه سبب لصدور الفکاهه و المزاح عنه- . و تربعت الأمور بهم أی أقامت- من قولک ربع بالمکان أی أقام به- .و آوتهم الحال بالمد أی ضمتهم و أنزلتهم- قال تعالى آوى‏ إِلَیْهِ أَخاهُ أی ضمه إلیه و أنزله- و یجوز أوتهم بغیر مد- أفعلت فی هذا المعنى و فعلت واحد عن أبی زید- . و الکنف الجانب- و تعطفت الأمور علیهم کنایه عن السیاده و الإقبال- یقال قد تعطف الدهر على فلان- أی أقبل حظه و سعادته بعد أن لم یکن کذلک- . و فی ذرا ملک بضم الذال أی فی أعالیه- جمع ذروه و یکنى عن العزیز الذی لا یضام- فیقال لا یغمز له قناه أی هو صلب- و القناه إذا لم تلن فی ید الغامز- کانت أبعد عن الحطم و الکسر- . و لا تقرع لهم صفاه- مثل یضرب لمن لا یطمع فی جانبه لعزته و قوته: أَلَا وَ إِنَّکُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَیْدِیَکُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَهِ- وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَیْکُمْ بِأَحْکَامِ الْجَاهِلِیَّهِ- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَّ عَلَى جَمَاعَهِ هَذِهِ الْأُمَّهِ- فِیمَا عَقَدَ بَیْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَهِ- الَّتِی یَتَقَلَّبُونَ فِی ظِلِّهَا وَ یَأْوُونَ إِلَى کَنَفِهَا- بِنِعْمَهٍ لَا یَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِینَ لَهَا قِیمَهً- لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ کُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ کُلِّ خَطَرٍ- وَ اعْلَمُوا أَنَّکُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَهِ أَعْرَاباً- وَ بَعْدَ الْمُوَالَاهِ أَحْزَاباً- مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ- وَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِیمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ- تَقُولُونَ النَّارَ وَ لَا الْعَارَ- کَأَنَّکُمْ تُرِیدُونَ أَنْ تُکْفِئُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ- انْتِهَاکاً لِحَرِیمِهِ وَ نَقْضاً لِمِیثَاقِهِ الَّذِی وَضَعَهُ اللَّهُ لَکُمْ- حَرَماً فِی أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَیْنَ خَلْقِهِ- وَ إِنَّکُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَیْرِهِ حَارَبَکُمْ أَهْلُ الْکُفْرِ- ثُمَّ لَا جَبْرَائِیلَ‏وَ لَا مِیکَائِیلَ- وَ لَا مُهَاجِرِینَ وَ لَا أَنْصَارَ یَنْصُرُونَکُمْ- إِلَّا الْمُقَارَعَهَ بِالسَّیْفِ حَتَّى یَحْکُمَ اللَّهُ بَیْنَکُمْ- وَ إِنَّ عِنْدَکُمُ الْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ- وَ أَیَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ- فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِیدَهُ جَهْلًا بِأَخْذِهِ- وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ یَأْساً مِنْ بَأْسِهِ- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ یَلْعَنِ الْقُرُونَ الْمَاضِیَهَ بَیْنَ أَیْدِیکُمْ- إِلَّا لِتَرْکِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْیَ عَنِ الْمُنْکَرِ- فَلَعَنَ اللَّهُ السُّفَهَاءَ لِرُکُوبِ الْمَعَاصِی وَ الْحُلَمَاءَ لِتَرْکِ التَّنَاهِی نفضتم أیدیکم کلمه تقال فی اطراح الشی‏ء و ترکه- و هی أبلغ من أن تقول ترکتم حبل الطاعه- لأن من یخلی الشی‏ء من یده ثم ینفض یده منه- یکون أشد تخلیه له ممن لا ینفضها- بل یقتصر على تخلیته فقط- لأن نفضها إشعار و إیذان بشده الاطراح و الإعراض- .

و الباء فی قوله بأحکام الجاهلیه متعلقه بثلمتم- أی ثلمتم حصن الله بأحکام الجاهلیه- التی حکمتم بها فی مله الإسلام- . و الباء فی قوله بنعمه لا یعرف متعلقه بامتن- و فی من قوله فیما عقد متعلقه بمحذوف- و موضعها نصب على الحال و هذا إشاره إلى قوله تعالى- لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً ما أَلَّفْتَ بَیْنَ قُلُوبِهِمْ- وَ لکِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَیْنَهُمْ- و قوله فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً- .

و روی تتقلبون فی ظلها- .قوله صرتم بعد الهجره أعرابا- الأعراب على عهد رسول الله ص- من آمن به من أهل البادیه و لم یهاجر إلیه- و هم ناقصو المرتبه عن المهاجرین لجفائهم و قسوتهم- و توحشهم و نشئهم فی بعد من مخالطه العلماء- و سماع کلام الرسول ص و فیهم أنزل- الْأَعْرابُ أَشَدُّ کُفْراً وَ نِفاقاً- وَ أَجْدَرُ أَلَّا یَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ- و لیست هذه الآیه عامه فی کل الأعراب بل خاصه ببعضهم- و هم الذین کانوا حول المدینه- و هم جهینه و أسلم و أشجع و غفار- و إلیهم أشار سبحانه بقوله- وَ مِمَّنْ حَوْلَکُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ- و کیف یکون کل الأعراب مذموما- و قد قال تعالى وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ یُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ- وَ یَتَّخِذُ ما یُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ- و صارت هذه الکلمه جاریه مجرى المثل- . و أنشد الحجاج على منبر الکوفه-

قد لفها اللیل بعصلبی
أروع خراج من الدوی‏
مهاجر لیس بأعرابی‏

و قال عثمان لأبی ذر أخشى أن تصیر بعد الهجره أعرابیا- . و روی و لا یعقلون من الإیمان- . و قولهم النار و لا العار منصوبتان بإضمار فعل- أی ادخلوا النار و لا تلتزموا العار- و هی کلمه جاریه مجرى المثل أیضا- یقولها أرباب الحمیه و الإباء- فإذا قیلت فی حق کانت صوابا- و إذا قیلت فی باطل کانت خطأ- . و أکفأت الإناء و کفأته لغتان أی کببته- .

قوله ثم لا جبرائیل و لا میکائیل و لا مهاجرین- الروایه المشهوره هکذا بالنصب و هو جائز على التشبیه بالنکره- کقولهم معضله و لا أبا حسن لها قال الراجز-

لا هیثم اللیله للمطی‏

و قد روی بالرفع فی الجمیع- . و المقارعه منصوبه على المصدر- و قال الراوندی هی استثناء منقطع و الصواب ما ذکرناه- و قد روی إلا المقارعه بالرفع- تقدیره و لا نصیر لکم بوجه من الوجوه إلا المقارعه- . و الأمثال التی أشار إلیها أمیر المؤمنین ع- هی ما تضمنه القرآن من أیام الله و نقماته على أعدائه- و قال تعالى وَ ضَرَبْنا لَکُمُ الْأَمْثالَ- . و التناهی مصدر تناهى القوم عن کذا- أی نهى بعضهم بعضا- یقول لعن الله الماضین من قبلکم- لأن سفهاءهم ارتکبوا المعصیه- و حلماءهم لم ینهوهم عنها- و هذا من قوله تعالى کانُوا لا یَتَناهَوْنَ عَنْ مُنکَرٍ فَعَلُوهُ- لَبِئْسَ ما کانُوا یَفْعَلُونَ: أَلَا وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَیْدَ الْإِسْلَامِ- وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْکَامَهُ- أَلَا وَ قَدْ أَمَرَنِیَ اللَّهُ- بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْیِ وَ النَّکْثِ وَ الْفَسَادِ فِی الْأَرْضِ- فَأَمَّا النَّاکِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ- وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ- وَ أَمَّا الْمَارِقَهُ فَقَدْ دَوَّخْتُ- وَ أَمَّا شَیْطَانُ الرَّدْهَهِ فَقَدْ کُفِیتُهُ- بِصَعْقَهٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَهُ قَلْبِهِ وَ رَجَّهُ صَدْرِهِ-وَ بَقِیَتْ بَقِیَّهٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْیِ- وَ لَئِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِی الْکَرَّهِ عَلَیْهِمْ- لَأُدِیلَنَّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا یَتَشَذَّرُ فِی أَطْرَافِ الْبِلَادِ تَشَذُّراً قد ثبت عن النبی ص أنه قال له ع- ستقاتل بعدی الناکثین و القاسطین و المارقین – فکان الناکثون أصحاب الجمل لأنهم نکثوا بیعته ع- و کان القاسطون أهل الشام بصفین- و کان المارقون الخوارج فی النهروان- و فی الفرق الثلاث قال الله تعالى- فَمَنْ نَکَثَ فَإِنَّما یَنْکُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ- و قال وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَکانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً- و قال النبی ص یخرج من ضئضئ هذا قوم- یمرقون من الدین کما یمرق السهم من الرمیه- ینظر أحدکم فی النصل فلا یجد شیئا- فینظر فی الفوق فلا یجد شیئا- سبق الفرث و الدم – و هذا الخبر من أعلام نبوته ص- و من أخباره المفصله بالغیوب- .

و أما شیطان الردهه فقد قال قوم- إنه ذو الثدیه صاحب النهروان- و رووا فی ذلک خبرا عن النبی ص- و ممن ذکر ذلک و اختاره الجوهری صاحب الصحاح- و هؤلاء یقولون إن ذا الثدیه لم یقتل بسیف- و لکن الله رماه یوم النهروان بصاعقه- و إلیها أشار ع بقوله فقد کفیته بصعقه- سمعت لها وجبهقلبه- و قال قوم شیطان الردهه أحد الأبالسه المرده- من أعوان عدو الله إبلیس- و رووا فی ذلک خبرا عن النبی ص و أنه کان یتعوذ منه- و الردهه شبه نقره فی الجبل یجتمع فیها الماء- و هذا مثل قوله ع هذا أزب العقبه أی شیطانها- و لعل أزب العقبه هو شیطان الردهه بعینه- فتاره یرد بهذا اللفظ و تاره یرد بذلک اللفظ- و قال قوم شیطان الردهه مارد یتصور فی صوره حیه- و یکون على الردهه- و إنما أخذوا هذا من لفظه الشیطان لأن الشیطان الحیه- و منه قولهم شیطان الحماطه و الحماطه شجره مخصوصه- و یقال إنها کثیره الحیات- .

قوله و یتشذر فی أطراف الأرض یتمزق و یتبدد- و منه قولهم ذهبوا شذر مذر- . و البقیه التی بقیت من أهل البغی معاویه و أصحابه- لأنه ع لم یکن أتى علیهم بأجمعهم- و إنما وقفت الحرب بینه و بینهم بمکیده التحکیم- . قوله ع و لئن أذن الله فی الکره علیهم- أی إن مد لی فی العمر لأدیلن منهم- أی لتکونن الدوله لی علیهم- أدلت من فلان أی غلبته و قهرته و صرت ذا دوله علیه

استدلال قاضی القضاه على إمامه أبی بکر و رد المرتضى علیه

و اعلم أن أصحابنا قد استدلوا على صحه إمامه أبی بکر- بقوله تعالى یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا مَنْ یَرْتَدَّ مِنْکُمْ عَنْ دِینِهِ- فَسَوْفَ یَأْتِی اللَّهُ بِقَوْمٍ یُحِبُّهُمْ وَ یُحِبُّونَهُ- أَذِلَّهٍعَلَى الْمُؤْمِنِینَ أَعِزَّهٍ عَلَى الْکافِرِینَ- یُجاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَ لا یَخافُونَ لَوْمَهَ لائِمٍ- ثم قال قاضی القضاه فی المعنى و هذا خبر من الله تعالى- و لا بد أن یکون کائنا على ما أخبر به- و الذین قاتلوا المرتدین هم أبو بکر و أصحابه- فوجب أن یکونوا هم الذین عناهم الله سبحانه بقوله- یُحِبُّهُمْ وَ یُحِبُّونَهُ و ذلک یوجب أن یکونوا على صواب- .

و اعترض المرتضى رحمه الله على هذا الاحتجاج- فی الشافی فقال من أین قلت- إن الآیه نزلت فی أبی بکر و أصحابه- فإن قال لأنهم الذین قاتلوا المرتدین بعد رسول الله ص- و لا أحد قاتلهم سواهم قیل له- و من الذی سلم لک ذلک- أ و لیس أمیر المؤمنین ع قد قاتل الناکثین- و القاسطین و المارقین بعد الرسول ص- و هؤلاء عندنا مرتدون عن الدین- و یشهد بصحه التأویل زائدا على احتمال القول له- ما روی عن أمیر المؤمنین ع من قوله یوم البصره- و الله ما قوتل أهل الآیه حتى الیوم و تلاها- و قد روی عن عمار و حذیفه و غیرهما مثل ذلک- . فإن قال دلیلی على أنها فی أبی بکر و أصحابه- قول أهل التفسیر قیل له- أ و کل أهل التفسیر قال ذلک- فإن قال نعم کابر لأنه قد روی عن جماعه- التأویل الذی ذکرناه- و لو لم یکن إلا ما روی عن أمیر المؤمنین ع- و وجوه أصحابه الذین ذکرناهم لکفى- و إن قال حجتی قول بعض المفسرین- قلنا و أی حجه فی قول البعض- و لم صار البعض الذی قال ما ذکرت أولى بالحق- من البعض الذی قال ما ذکرنا- . ثم یقال له قد وجدنا الله تعالى- قد نعت المذکورین فی الآیه بنعوت- یجب أن‏تراعیها لنعلم أ فی صاحبنا هی أم فی صاحبک- و قد جعله الرسول ص فی خیبر- حین فر من فر من القوم عن العدو صاحب هذه الأوصاف- فقال لأعطین الرایه غدا رجلا یحب الله و رسوله- و یحبه الله و رسوله کرارا غیر فرار- فدفعها إلى أمیر المؤمنین ع – .

ثم قوله تعالى أَذِلَّهٍ عَلَى الْمُؤْمِنِینَ- أَعِزَّهٍ عَلَى الْکافِرِینَ یقتضی ما ذکرنا- لأنه من المعلوم بلا خلاف- حال أمیر المؤمنین ع فی التخاشع و التواضع- و ذم نفسه و قمع غضبه- و أنه ما رئی قط طائشا- و لا متطیرا فی حال من الأحوال- و معلوم حال صاحبیکم فی هذا الباب- أما أحدهما فإنه اعترف طوعا- بأن له شیطانا یعتریه عند غضبه- و أما الآخر فکان معروفا بالجد و العجله- مشهورا بالفظاظه و الغلظه و أما العزه على الکافرین- فإنما تکون بقتالهم و جهادهم و الانتقام منهم- و هذه حال لم یسبق أمیر المؤمنین ع إلیها سابق- و لا لحقه فیها لاحق- .

ثم قال تعالى- یُجاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَ لا یَخافُونَ لَوْمَهَ لائِمٍ- و هذا وصف أمیر المؤمنین المستحق له بالإجماع- و هو منتف عن أبی بکر و صاحبه إجماعا- لأنه لا قتیل لهما فی الإسلام- و لا جهاد بین یدی الرسول ص- و إذا کانت الأوصاف المراعاه فی الآیه- حاصله لأمیر المؤمنین ع و غیر حاصله لمن ادعیتم- لأنها فیهم على ضربین ضرب معلوم انتفاؤه کالجهاد- و ضرب مختلف فیه کالأوصاف التی هی غیر الجهاد- و على من أثبتها لهم الدلاله على حصولها- و لا بد أن یرجع فی ذلک إلى غیر ظاهر الآیه- لم یبق فی یده من الآیه دلیل- .

هذه جمله ما ذکره المرتضى رحمه الله- و لقد کان یمکنه التخلص من الاحتجاج بالآیه-على وجه ألطف و أحسن و أصح مما ذکره- فیقول المراد بها من ارتد على عهد رسول الله ص- فی واقعه الأسود العنسی بالیمن- فإن کثیرا من المسلمین ضلوا به و ارتدوا عن الإسلام- و ادعوا له النبوه و اعتقدوا صدقه- و القوم الذین یحبهم الله و یحبونه- القوم الذین کاتبهم رسول الله ص- و أغراهم بقتله و الفتک به- و هم فیروز الدیلمی و أصحابه و القصه مشهوره و قد کان له أیضا أن یقول لم قلت- إن الذین قاتلهم أبو بکر و أصحابه کانوا مرتدین- فإن المرتد من ینکر دین الإسلام- بعد أن کان قد تدین به- و الذین منعوا الزکاه لم ینکروا أصل دین الإسلام- و إنما تأولوا فأخطئوا لأنهم تأولوا قول الله تعالى- خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَهً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَکِّیهِمْ بِها- وَ صَلِّ عَلَیْهِمْ إِنَّ صَلاتَکَ سَکَنٌ لَهُمْ- فقالوا إنما ندفع زکاه أموالنا إلى من صلاته سکن لنا- و لم یبق بعد وفاه النبی ص من هو بهذه الصفه- فسقط عنا وجوب الزکاه- لیس هذا من الرده فی شی‏ء- و إنما سماهم الصحابه أهل الرده على سبیل المجاز- إعظاما لما قالوه و تأولوه- .

فإن قیل إنما الاعتماد على قتال أبی بکر و أصحابه- لمسیلمه و طلیحه اللذین ادعیا النبوه- و ارتد بطریقهما کثیر من العرب- لا على قتال مانعی الزکاه- قیل إن مسیلمه و طلیحه جاهدهما رسول الله ص قبل موته- بالکتب و الرسل- و أنفذ لقتلهما جماعه من المسلمین- و أمرهم أن یفتکوا بهما غیله إن أمکنهم ذلک- و استنفر علیهما قبائل من العرب- و کل ذلک مفصل مذکور فی کتب السیره و التواریخ- فلم لا یجوز أن یکون أولئک النفر- الذین بعثهم رسول الله ص للفتک بهما- هم المعنیون بقوله یُحِبُّهُمْ وَ یُحِبُّونَهُ إلى آخر الآیه- و لم یقل فی الآیه یجاهدون‏فیقتلون- و إنما ذکر الجهاد فقط- و قد کان الجهاد من أولئک النفر حاصلا و إن لم یبلغوا الغرض- کما کان الجهاد حاصلا عند حصار الطائف- و إن لم یبلغ فیه الغرض- .

و قد کان له أیضا أن یقول- سیاق الآیه لا یدل على ما ظنه المستدل بها- من أنه من یرتدد عن الدین- فإن الله یأتی بقوم یحبهم و یحبونه- یحاربونه لأجل ردته- و إنما الذی یدل علیه سیاق الآیه- أنه من یرتد منکم عن دینه- بترک الجهاد مع رسول الله ص- و سماه ارتدادا على سبیل المجاز- فسوف یأتی الله بقوم یحبهم و یحبونه- یجاهدون فی سبیل الله معه عوضا عنکم- و کذلک کان کل من خذل النبی ص- و قعد عن النهوض معه فی حروبه- أغناه الله تعالى عنه بطائفه أخرى من المسلمین- جاهدوا بین یدیه- . و أما قول المرتضى رحمه الله- إنها أنزلت فی الناکثین و القاسطین و المارقین- الذین حاربهم أمیر المؤمنین ع فبعید- لأنهم لا یطلق علیهم لفظ الرده عندنا- و لا عند المرتضى و أصحابه- أما اللفظ فبالاتفاق و إن سموهم کفارا- و أما المعنى فلأن فی مذهبهم أن من ارتد- و کان قد ولد على فطره الإسلام بانت امرأته منه- و قسم ماله بین ورثته- و کان على زوجته عده المتوفى عنها زوجها- و معلوم أن أکثر محاربی أمیر المؤمنین ع- کانوا قد ولدوا فی الإسلام- و لم یحکم فیهم بهذه الأحکام- .

و قوله إن الصفات غیر متحققه فی صاحبکم- فلعمری إن حظ أمیر المؤمنین ع منها هو الحظ الأوفى- و لکن الآیه ما خصت الرئیس بالصفات المذکوره- و إنما أطلقها على المجاهدین- و هم الذین یباشرون الحرب- فهب أن أبا بکر و عمر ما کانا بهذه الصفات- لم لا یجوز أن یکون مدحا- لمن جاهد بین أیدیهما من المسلمین و باشر الحرب- و هم شجعان المهاجرین و الأنصار- الذین فتحوا الفتوح و نشروا الدعوه و ملکوا الأقالیم- .

و قد استدل قاضی القضاه أیضا عن صحه إمامه أبی بکر- و أسند هذا الاستدلال إلى شیخنا أبی علی بقوله تعالى- سَیَقُولُ لَکَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ- شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا- یَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَیْسَ فِی قُلُوبِهِمْ- و قال تعالى فَإِنْ رَجَعَکَ اللَّهُ إِلى‏ طائِفَهٍ مِنْهُمْ- فَاسْتَأْذَنُوکَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِیَ أَبَداً- وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِیَ عَدُوًّا- إِنَّکُمْ رَضِیتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّهٍ- فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِینَ- و قال تعالى- سَیَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى‏ مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها- ذَرُونا نَتَّبِعْکُمْ یُرِیدُونَ أَنْ یُبَدِّلُوا کَلامَ اللَّهِ- قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا کَذلِکُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ یعنی قوله تعالى- لَنْ تَخْرُجُوا مَعِیَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِیَ عَدُوًّا- ثم قال سبحانه قُلْ لِلْمُخَلَّفِینَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ- أُولِی بَأْسٍ شَدِیدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ یُسْلِمُونَ- فَإِنْ تُطِیعُوا یُؤْتِکُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً- وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا کَما تَوَلَّیْتُمْ مِنْ قَبْلُ یُعَذِّبْکُمْ عَذاباً أَلِیماً- فبین أن الذی یدعو هؤلاء المخلفین من الأعراب- إلى قتال قوم أولی بأس شدید غیر النبی ص- لأنه تعالى قد بین أنهم لا یخرجون معه- و لا یقاتلون معه عدوا بآیه متقدمه- و لم یدعهم بعد النبی ص إلى قتال الکفار- إلا أبو بکر و عمر و عثمان- لأن أهل التأویل لم یقولوا فی هذه الآیه- غیر وجهین من التأویل فقال بعضهم- عنى بقوله سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِی بَأْسٍ شَدِیدٍ- بنی حنیفه و قال بعضهم عنى فارس و الروم- و أبو بکر هو الذی دعا إلى قتال بنی حنیفه- و قتال آل فارس و الروم- و دعاهم بعده إلى قتال فارس و الروم عمر- فإذا کان الله تعالى قد بین- أنهم بطاعتهم لهما یؤتهم أجرا حسنا- و إن تولوا عن طاعتهما یعذبهم عذابا ألیما- صح أنهما على حق- و أن طاعتهما طاعه لله تعالى- و هذا یوجب صحه إمامتهما- .

فإن قیل إنما أراد الله بذلک أهل الجمل و صفین- قیل هذا فاسد من وجهین- أحدهما قوله تعالى تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ یُسْلِمُونَ- و الذین حاربوا أمیر المؤمنین کانوا على الإسلام- و لم یقاتلوا على الکفر- و الوجه الثانی- أنا لا نعرف من الذین عناهم الله تعالى بهذا- من بقی إلى أیام أمیر المؤمنین ع- کما علمنا أنهم کانوا باقین فی أیام أبی بکر- . اعترض المرتضى رحمه الله على هذا الکلام من وجهین- أحدهما أنه نازع فی اقتضاء الآیه- داعیا یدعو هؤلاء المخلفین غیر النبی ص- و ذلک لأن قوله تعالى- سَیَقُولُ لَکَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ- شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا- یَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَیْسَ فِی قُلُوبِهِمْ- قُلْ فَمَنْ یَمْلِکُ لَکُمْ مِنَ اللَّهِ شَیْئاً- إِنْ أَرادَ بِکُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِکُمْ نَفْعاً- بَلْ کانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِیراً- بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ یَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ- إِلى‏ أَهْلِیهِمْ أَبَداً وَ زُیِّنَ ذلِکَ فِی قُلُوبِکُمْ- وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ کُنْتُمْ قَوْماً بُوراً- .

إنما أراد به سبحانه الذین تخلفوا عن الحدیبیه- بشهاده جمیع أهل النقل و إطباق المفسرین- . ثم قال تعالى سَیَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ- إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى‏ مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْکُمْ- یُرِیدُونَ أَنْ یُبَدِّلُوا کَلامَ اللَّهِ- قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا کَذلِکُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ- فَسَیَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا- بَلْ کانُوا لا یَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِیلًا- و إنما التمس هؤلاء المخلفون- أن یخرجوا إلى غنیمه خیبر فمنعهم الله تعالى من ذلک- و أمر نبیه أن یقول لهم لن تتبعونا إلى هذه الغزاه- لأن الله تعالى کان حکم من قبل- بأن غنیمه خیبر لمن شهد الحدیبیه- و أنه لا حظ لمن لم یشهدها- و هذا هو معنى قوله تعالى- یُرِیدُونَ أَنْ یُبَدِّلُوا کَلامَ اللَّهِ- و قوله کَذلِکُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ- ثم قال تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِینَ‏ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ- أُولِی بَأْسٍ شَدِیدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ یُسْلِمُونَ – و إنما أراد أن الرسول سیدعوکم فیما بعد- إلى قتال قوم أولی بأس شدید- و قد دعاهم النبی ص بعد ذلک إلى غزوات کثیره- إلى قوم أولی بأس شدید- کمؤته و حنین و تبوک و غیرهما- فمن أین یجب أن یکون الداعی لهؤلاء غیر النبی ص- مع ما ذکرناه من الحروب التی کانت بعد خیبر- . و قوله إن معنى قوله تعالى کَذلِکُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ- إنما أراد به ما بینه فی قوله- فَإِنْ رَجَعَکَ اللَّهُ إِلى‏ طائِفَهٍ مِنْهُمْ- فَاسْتَأْذَنُوکَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِیَ أَبَداً- وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِیَ عَدُوًّا بتبوک سنه تسع- و آیه الفتح نزلت فی سنه ست فکیف یکون قبلها- . و لیس یجب أن یقال فی القرآن بالإراده- و بما یحتمل من الوجوه فی کل موضع- دون الرجوع إلى تاریخ نزول الآی- و الأسباب التی وردت علیها و تعلقت بها- .

و مما یبین لک أن هؤلاء المخلفین غیر أولئک- لو لم نرجع فی ذلک إلى نقل و تاریخ- قوله تعالى فی هؤلاء- فَإِنْ تُطِیعُوا یُؤْتِکُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً- وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا کَما تَوَلَّیْتُمْ مِنْ قَبْلُ- یُعَذِّبْکُمْ عَذاباً أَلِیماً- فلم یقطع منهم على طاعه و لا معصیه- بل ذکر الوعد و الوعید على ما یفعلونه- من طاعه أو معصیه- و حکم المذکورین فی آیه سوره التوبه- بخلاف هذه لأنه تعالى بعد قوله- إِنَّکُمْ رَضِیتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّهٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِینَ- وَ لا تُصَلِّ عَلى‏ أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً- وَ لا تَقُمْ عَلى‏ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ کَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ- وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ- وَ لا تُعْجِبْکَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ- إِنَّما یُرِیدُ اللَّهُ أَنْ یُعَذِّبَهُمْ بِها فِی الدُّنْیا- وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ کافِرُونَ- و اختلاف أحکامهم و صفاتهم یدلعلى اختلافهم- و أن المذکورین فی آیه سوره الفتح- غیر المذکورین فی آیه سوره التوبه- .

و أما قوله لأن أهل التأویل لم یقولوا فی هذه الآیه- غیر وجهین من التأویل فذکرهما باطل- لأن أهل التأویل قد ذکروا شیئا آخر لم یذکره- لأن المسیب روى عن أبی روق عن الضحاک فی قوله تعالى- سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِی بَأْسٍ شَدِیدٍ الآیه- قال هم ثقیف- و روى هشیم عن أبی یسر سعید بن جبیر- قال هم هوازن یوم حنین- .

و روى الواقدی عن معمر عن قتاده- قال هم هوازن و ثقیف- فکیف ذکر من أقوال المفسرین ما یوافقه- مع اختلاف الروایه عنهم- على أنا لا نرجع فی کل ما یحتمله تأویل القرآن- إلى أقوال المفسرین- فإنهم ربما ترکوا مما یحتمله القول وجها صحیحا- و کم استخرج جماعه من أهل العدل- فی متشابه القرآن من الوجوه الصحیحه- التی ظاهر التنزیل بها أشبه- و لها أشد احتمالا مما لم یسبق إلیه المفسرون- و لا دخل فی جمله تفسیرهم و تأویلهم- . و الوجه الثانی- سلم فیه أن الداعی هؤلاء المخلفین غیر النبی ص- و قال لا یمتنع أن یعنى بهذا الداعی أمیر المؤمنین ع لأنه قاتل بعده- الناکثین و القاسطین و المارقین- و بشره النبی ص بأنه یقاتلهم- و قد کانوا أولی بأس شدید بلا شبهه- . قال فأما تعلق صاحب الکتاب بقوله أَوْ یُسْلِمُونَ- و أن الذین حاربهم أمیر المؤمنین ع کانوا مسلمین-

فأول ما فیه أنهم غیر مسلمین عنده و عند أصحابه- لأن الکبائر تخرج من الإسلام عندهم- کما تخرج عن الإیمان- إذ کان الإیمان هو الإسلام‏على مذهبهم- ثم إن مذهبنا فی محاربی أمیر المؤمنین ع معروف- لأنهم عندنا کانوا کفارا بمحاربته لوجوه الأول منها أن من حاربه کان مستحلا لقتاله- مظهرا أنه فی ارتکابه على حق- و نحن نعلم أن من أظهر استحلال شرب جرعه خمر- هو کافر بالإجماع- و استحلال دماء المؤمنین فضلا عن أفاضلهم و أکابرهم- أعظم من شرب الخمر و استحلاله- فیجب أن یکونوا من هذا الوجه کفارا- .

الثانی أنه ع قال له بلا خلاف بین أهل النقل حربک یا علی حربی و سلمک سلمی – و نحن نعلم أنه لم یرد إلا التشبیه بینهما فی الأحکام- و من أحکام محاربی النبی ص الکفر بلا خلاف- .

الثالث أن النبی ص قال له بلا خلاف أیضا اللهم وال من والاه و عاد من عاداه- و انصر من نصره و اخذل من خذله – و قد ثبت عندنا أن العداوه من الله- لا تکون إلا للکفار الذین یعادونه- دون فساق أهل المله- .

الرابع قوله إنا لا نعلم ببقاء هؤلاء المخلفین- إلى أیام أمیر المؤمنین ع فلیس بشی‏ء- لأنه إذا لم یکن ذلک معلوما و مقطوعا علیه- فهو مجوز و غیر معلوم خلافه- و الجواز کاف لنا فی هذا الموضع- . و لو قیل له- من أین علمت بقاء المخلفین المذکورین فی الآیه- على سبیل القطع إلى أیام أبی بکر- لکان یفزع إلى أن یقول- حکم الآیه یقتضی بقاءهم- حتى یتم کونهم مدعوین إلى قتال أولی البأس الشدید- على وجه یلزمهم فیه الطاعه- و هذا بعینه یمکن أن یقال له- و یعتمد فی بقائهم إلى أیام أمیر المؤمنین ع- على ما یوجبه حکم الآیه- .

فإن قیل کیف یکون أهل الجمل و صفین کفارا- و لم یسر أمیر المؤمنین ع‏فیهم بسیره الکفار- لأنه ما سباهم و لا غنم أموالهم و لا تبع مولیهم- قلنا أحکام الکفر تختلف- و إن شملهم اسم الکفر- لأن فی الکفار من یقتل و لا یستبقى- و فیهم من یؤخذ منه الجزیه- و لا یحل قتله إلا بسبب طارئ غیر الکفر- و منهم من لا یجوز نکاحه على مذهب أکثر المسلمین- فعلى هذا یجوز أن یکون أکثر هؤلاء القوم کفارا- و إن لم یسر فیهم بجمیع سیره أهل الکفر- لأنا قد بینا اختلاف أحکام الکفار- و یرجع فی أن حکمهم مخالف لأحکام الکفار- إلى فعله ع و سیرته فیهم- على أنا لا نجد فی الفساق- من حکمه أن یقتل مقبلا و لا یقتل مولیا- و لا یجهز على جریحه- إلى غیر ذلک من الأحکام- التی سیرها فی أهل البصره و صفین- .

فإذا قیل فی جواب ذلک أحکام الفسق مختلفه- و فعل أمیر المؤمنین هو الحجه- فی أن حکم أهل البصره و صفین ما فعله- قلنا مثل ذلک حرفا بحرف- و یمکن مع تسلیم أن الداعی لهؤلاء المخلفین أبو بکر- أن یقال لیس فی الآیه دلاله- على مدح الداعی و لا على إمامته- لأنه قد یجوز أن یدعو إلى الحق و الصواب من لیس علیهما- فیلزم ذلک الفعل من حیث کان واجبا فی نفسه- لا لدعاء الداعی إلیه- و أبو بکر إنما دعا إلى دفع أهل الرده عن الإسلام- و هذا یجب على المسلمین بلا دعاء داع- و الطاعه فیه طاعه لله تعالى- فمن أین له أن الداعی کان على حق و صواب- و لیس فی کون ما دعا إلیه طاعه ما یدل على ذلک- . و یمکن أیضا أن یکون قوله تعالى- سَتُدْعَوْنَ إنما أراد به دعاء الله تعالى لهم- بإیجاب القتال علیهم- لأنه إذا دلهم على وجوب قتال المرتدین- و رفعهم عن بیضه الإسلام فقد دعاهم إلى القتال- و وجبت علیهم الطاعه- و وجب لهم الثواب إن أطاعوا و هذا أیضا تحتمله الآیه- .

فهذه جمله ما ذکره المرتضى رحمه الله فی هذا الموضع- و أکثره جید لا اعتراض علیه- و قد کان یمکنه أن یقول- لو سلمنا بکل هذا لکان لیس فی قوله- لَنْ تَخْرُجُوا مَعِیَ أَبَداً الآیه- ما یدل على أن النبی ص- لا یکون هو الداعی لهم- إلى القوم أولی البأس الشدید- لأنه لیس فیها إلا محض الإخبار عنهم- بأنهم لا یخرجون معه- و لا یقاتلون العدو معه- و لیس فی هذا ما ینفی کونه داعیا لهم- کما أنه ع قال أبو لهب لا یؤمن بی – لم یکن هذا القول نافیا لکونه یدعوه إلى الإسلام- . و قوله فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِینَ- لیس بأمر على الحقیقه و إنما هو تهدید کقوله- اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ- و لا بد للمرتضى و لقاضی القضاه جمیعا- من أن یحملا صیغه افعل على هذا المحمل- لأنه لیس لأحدهما بمسوغ- أن یحمل الأمر على حقیقته- لأن الشارع لا یأمر بالقعود و ترک الجهاد- مع القدره علیه و کونه قد تعین وجوبه- .

فإن قلت لو قدرنا أن هذه الآیه- و هی قوله تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِینَ مِنَ الْأَعْرابِ- سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِی بَأْسٍ شَدِیدٍ- أنزلت بعد غزوه تبوک و بعد نزول سوره براءه- التی تتضمن قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِیَ أَبَداً- و قدرنا أن قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِیَ أَبَداً- لیس إخبارا محضا- کما تأولته أنت و حملت الآیه علیه- بل معناه لا أخرجکم معی- و لا أشهدکم حرب العدو هل کان یتم الاستدلال- قلت لا لأن للإمامیه أن تقول- یجوز أن یکون الداعی إلى حرب القوم- أولی البأس الشدید مع تسلیم هذه المقدمات کلها- هو رسول الله ص لأنه دعاهم إلى حرب الروم- فی سریه أسامه بن زید فی صفر من سنه إحدى عشره- لما سیره إلى البلقاء و قال له- سر إلى الروم مقتل أبیک فأوطئهم الخیول- و حشد معه أکثر المسلمین- فهذا الجیش قد دعی فیه المخلفون من الأعراب- الذین قعدوا عن الجهادفی غزاه تبوک- إلى قوم أولی بأس شدید- و لم یخرجوا مع رسول الله ص و لا حاربوا معه عدوا- .

فإن قلت إذا خرجوا مع أسامه- فکأنما خرجوا مع رسول الله- و إذا حاربوا مع أسامه العدو- فکأنما حاربوا مع رسول الله ص- و قد کان سبق أنهم لا یخرجون مع رسول الله ص- و لا یحاربون معه عدوا- قلت و إذا خرجوا مع خالد بن الولید و غیره- فی أیام أبی بکر- و مع أبی عبیده و سعد فی أیام عمر- فکأنما خرجوا مع رسول الله ص- و حاربوا العدو معه أیضا- .

فإن اعتذرت بأنه و إن شابه الخروج معه- و الحرب معه إلا أنه على الحقیقه لیس معه- و إنما هو مع امرئ من قبل خلفائه- قیل لک و کذلک خروجهم مع أسامه- و محاربه العدو معه- و إن شابه الخروج مع النبی و محاربه العدو معه- إلا أنه على الحقیقه لیس معه- و إنما هو مع بعض أمرائه- . و یمکن أن یعترض الاستدلال بالآیه- فیقال لا یجوز حملها على بنی حنیفه- لأنهم کانوا مسلمین- و إنما منعوا الزکاه مع قولهم- لا إله إلا الله محمد رسول الله ص- و منع الزکاه لا یخرج به الإنسان- عن الإسلام عند المرجئه- و الإمامیه مرجئه- و لا یجوز حملها على فارس و الروم- لأنه تعالى أخبر أنه لا واسطه بین قتالهم و إسلامهم- کما تقول إما کذا و إما کذا- فیقتضی ذلک نفی الواسطه- و قتال فارس و الروم بینه و بین إسلامهم واسطه- و هو دفع الجزیه- و إنما تنتفی هذه الواسطه فی قتال العرب- لأن مشرکی العرب لا تؤخذ منهم الجزیه- فالآیه إذن داله على أن المخلفین- سیدعون إلى قوم أولی بأس شدید الحکم فیهم- إما قتالهم و إما إسلامهم- و هؤلاء هم مشرکو العرب- و لم یحارب مشرکی العرب إلا رسول الله ص- فالداعی لهم إذا هو رسول الله و بطل الاستدلال بالآیه:

أَنَا وَضَعْتُ بِکَلَاکِلِ الْعَرَبِ- وَ کَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِیعَهَ وَ مُضَرَ- وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِی مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص- بِالْقَرَابَهِ الْقَرِیبَهِ وَ الْمَنْزِلَهِ الْخَصِیصَهِ- وَضَعَنِی فِی حَجْرِهِ وَ أَنَا وَلِیدٌ یَضُمُّنِی إِلَى صَدْرِهِ- وَ یَکْنُفُنِی فِی فِرَاشِهِ وَ یُمِسُّنِی جَسَدَهُ- وَ یُشِمُّنِی عَرْفَهُ- وَ کَانَ یَمْضَغُ الشَّیْ‏ءَ ثُمَّ یُلْقِمُنِیهِ- وَ مَا وَجَدَ لِی کَذْبَهً فِی قَوْلٍ وَ لَا خَطْلَهً فِی فِعْلٍ- وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ ص- مِنْ لَدُنْ أَنْ کَانَ فَطِیماً أَعْظَمَ مَلَکٍ مِنْ مَلَائِکَتِهِ- یَسْلُکُ بِهِ طَرِیقَ الْمَکَارِمِ- وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَیْلَهُ وَ نَهَارَهُ- وَ لَقَدْ کُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِیلِ أَثَرَ أُمِّهِ- یَرْفَعُ لِی فِی کُلِّ یَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً- وَ یَأْمُرُنِی بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ- وَ لَقَدْ کَانَ یُجَاوِرُ فِی کُلِّ سَنَهٍ بِحِرَاءَ- فَأَرَاهُ وَ لَا یَرَاهُ غَیْرِی- وَ لَمْ یَجْمَعْ بَیْتٌ وَاحِدٌ یَوْمَئِذٍ فِی الْإِسْلَامِ- غَیْرَ رَسُولِ اللَّهِ ص وَ خَدِیجَهَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا- أَرَى نُورَ الْوَحْیِ وَ الرِّسَالَهِ وَ أَشُمُّ رِیحَ النُّبُوَّهِ- وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّهَ الشَّیْطَانِ حِینَ نَزَلَ الْوَحْیُ عَلَیْهِ ص- فَقُلْتُ یَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّهُ- فَقَالَ هَذَا الشَّیْطَانُ قَدْ أَیِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ- إِنَّکَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى- إِلَّا أَنَّکَ لَسْتَ بِنَبِیٍّ وَ لَکِنَّکَ لَوَزِیرٌ- وَ إِنَّکَ لَعَلَى خَیْرٍ الباء فی قوله بکلاکل العرب زائده- و الکلاکل الصدور الواحد کلکل- و المعنى أنی أذللتهم و صرعتهم إلى الأرض- .

و نواجم قرون ربیعه و مضر- من نجم منهم و ظهر و علا قدره و طار صیته- . فإن قلت أما قهره لمضر فمعلوم فما حال ربیعه- و لم نعرف أنه قتل منهم أحدا- قلت بلى قد قتل بیده و بجیشه- کثیرا من رؤسائهم فی صفین و الجمل- فقد تقدم ذکر أسمائهم من قبل- و هذه الخطبه خطب بها بعد انقضاء أمر النهروان- . و العرف بالفتح الریح الطیبه- و مضغ الشی‏ء یمضغه بفتح الضاد- . و الخطله فی الفعل الخطأ فیه و إیقاعه على غیر وجهه- . و حراء اسم جبل بمکه معروف- . و الرنه الصوت

ذکر ما کان من صله علی برسول الله فی صغره

و القرابه القریبه بینه و بین رسول الله ص- دون غیره من الأعمام کونه رباه فی حجره- ثم حامى عنه و نصره- عند إظهار الدعوه دون غیره من بنی هاشم- ثم ما کان بینهما من المصاهره- التی أفضت إلى النسل الأطهر دون غیره من الأصهار- و نحن نذکر ما ذکره أرباب السیر من معانی هذا الفصل- .

روى الطبری فی تاریخه قال حدثنا ابن حمید- قال حدثنا سلمه قال حدثنی محمد بن إسحاق- قال حدثنی عبد الله بن نجیح عن مجاهد- قال کان من نعمه الله عز و جل على علی بن أبی طالب ع- و ما صنع الله له و أراده به من الخیر- أن قریشا أصابتهم أزمه شدیده- و کان أبو طالب ذا عیال کثیر- فقال رسول الله ص للعباس و کان من أیسر بنی هاشم- یا عباس إن أخاک أبا طالب کثیر العیال- و قد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمه- فانطلق بنا فلنخفف عنه من عیاله- آخذ من بیته واحدا و تأخذ واحدا-فنکفیهما عنه فقال العباس نعم- فانطلقا حتى أتیا أبا طالب فقالا له- إنا نرید أن نخفف عنک من عیالک- حتى ینکشف عن الناس ما هم فیه- فقال لهما إن ترکتما لی عقیلا فاصنعا ما شئتما- فأخذ رسول الله ص علیا فضمه إلیه- و أخذ العباس جعفرا رضی الله عنه فضمه إلیه- فلم یزل علی بن أبی طالب ع مع رسول الله ص- حتى بعثه الله نبیا- فاتبعه علی ع فأقر به و صدقه- و لم یزل جعفر عند العباس حتى أسلم و استغنى عنه- .

قال الطبری و حدثنا ابن حمید- قال حدثنا سلمه قال حدثنا محمد بن إسحاق- قال کان رسول الله ص إذا حضرت الصلاه- خرج إلى شعاب مکه- و خرج معه علی بن أبی طالب ع- مستخفیا من عمه أبی طالب- و من جمیع أعمامه و سائر قومه- فیصلیان الصلوات فیها فإذا أمسیا رجعا- فمکثا کذلک ما شاء الله أن یمکثا- . ثم إن أبا طالب عثر علیهما و هما یصلیان- فقال لرسول الله ص یا ابن أخی- ما هذا الذی أراک تدین به- قال یا عم هذا دین الله و دین ملائکته- و دین رسله و دین أبینا إبراهیم- أو کما قال بعثنی الله به رسولا إلى العباد- و أنت یا عم أحق من بذلت له النصیحه- و دعوته إلى الهدى- و أحق من أجابنی إلیه- و أعاننی علیه أو کما قال فقال أبو طالب یا ابن أخی- إنی لا أستطیع أن أفارق دینی و دین آبائی- و ما کانوا علیه- و لکن و الله لا یخلص إلیک شی‏ء تکرهه ما بقیت- . قال الطبری و قد روى هؤلاء المذکورون- أن أبا طالب قال لعلی ع- یا بنی ما هذا الذی أنت علیه- فقال یا أبت إنی آمنت بالله و برسوله- و صدقته بماجاء به و صلیت لله معه- قال فزعموا أنه قال له- أما إنه لا یدعو إلا إلى خیر فالزمه- .

و روى الطبری فی تاریخه أیضا قال حدثنا أحمد بن الحسین الترمذی قال حدثنا عبد الله بن موسى قال أخبرنا العلاء عن المنهال بن عمر و عن عبد الله بن عبد الله قال سمعت علیا ع یقول أنا عبد الله و أخو رسوله و أنا الصدیق الأکبر- لا یقولها بعدی إلا کاذب مفتر- صلیت قبل الناس بسبع سنین – . و فی غیر روایه الطبری أنا الصدیق الأکبر و أنا الفاروق الأول- أسلمت قبل إسلام أبی بکر- و صلیت قبل صلاته بسبع سنین – کأنه ع لم یرتض أن یذکر عمر- و لا رآه أهلا للمقایسه بینه و بینه- و ذلک لأن إسلام عمر کان متأخرا- .

و روى الفضل بن عباس رحمه الله- قال سألت أبی عن ولد رسول الله ص الذکور- أیهم کان رسول الله ص له أشد حبا- فقال علی بن أبی طالب ع- فقلت له سألتک عن بنیه- فقال إنه کان أحب إلیه من بنیه جمیعا و أرأف- ما رأیناه زایله یوما من الدهر منذ کان طفلا- إلا أن یکون فی سفر لخدیجه- و ما رأینا أبا أبر بابن منه لعلی- و لا ابنا أطوع لأب من علی له- .

و روى الحسین بن زید بن علی بن الحسین ع- قال سمعت زیدا أبی ع یقول- کان رسول الله یمضغ اللحمه و التمره حتى تلین- و یجعلهما فی فم علی ع و هو صغیر فی حجره- و کذلک کان أبی علی بن الحسین ع یفعل بی- و لقد کان یأخذ الشی‏ء من الورک و هو شدید الحراره- فیبرده فی الهواء أو ینفخ علیه حتى یبرد- ثم یلقمنیه أ فیشفق علی من حراره لقمه- و لا یشفق علی من النار- لو کان أخی إماما بالوصیه کما یزعم هؤلاء- لکان أبی أفضى بذلک إلی و وقانی من حر جهنم- .

و روى جبیر بن مطعم قال- قال أبی مطعم بن عدی لنا و نحن صبیان بمکه- أ لا ترون حب هذا الغلام یعنی علیا لمحمد- و اتباعه له دون أبیه- و اللات و العزى- لوددت أن ابنی بفتیان بنی نوفل جمیعا- . و روى سعید بن جبیر قال سألت أنس بن مالک- فقلت أ رأیت قول عمر عن السته- إن رسول الله ص مات و هو عنهم راض- أ لم یکن راضیا عن غیرهم من أصحابه- فقال بلى مات رسول الله ص- و هو راض عن کثیر من المسلمین- و لکن کان عن هؤلاء أکثر رضا- فقلت له فأی الصحابه کان رسول الله ص له أحمد- أو کما قال قال ما فیهم أحد- إلا و قد سخط منه فعلا- و أنکر علیه أمرا إلا اثنان- علی بن أبی طالب و أبو بکر بن أبی قحافه- فإنهما لم یقترفا منذ أتى الله بالإسلام أمرا- أسخطا فیه رسول الله ص

ذکر حال رسول الله فی نشوئه

و ینبغی أن نذکر الآن ما ورد فی شأن رسول الله ص- و عصمته بالملائکه- لیکون ذلک تقریرا و إیضاحا لقوله ع- و لقد قرن الله به من لدن کان فطیما أعظم ملک من ملائکته- و أن نذکر حدیث مجاورته ع بحراء- و کون علی ع معه هناک- و أن نذکر ما ورد فی أنه- لم یجمع بیت واحد یومئذ فی الإسلام- غیر رسول الله ص و علیا و خدیجه- و أن نذکر ما ورد فی سماعه رنه الشیطان- و أن نذکر ما ورد فی کونه ع وزیرا للمصطفى ص- أما المقام الأول- فروى محمد بن إسحاق بن یسار فی کتاب السیره النبویه- و رواه أیضا محمد بن جریر الطبری فی تاریخه- قال کانت حلیمه بنت أبی ذؤیب السعدیه-أم رسول الله ص التی أرضعته- تحدث أنها خرجت من بلدها و معها زوجها و ابن لها- ترضعه فی نسوه من بنی سعد بن بکر یلتمسن الرضاع بمکه- فی سنه شهباء لم تبق شیئا- قالت فخرجت على أتان لنا قمراء عجفاء- و معنا شارف لنا ما تبض بقطره- و لا ننام لیلنا أجمع من بکاء صبینا الذی معنا من الجوع- ما فی ثدیی ما یغنیه- و لا فی شارفنا ما یغدیه- و لکنا نرجو الغیث و الفرج- فخرجت على أتانی تلک- و لقد أراثت بالرکب ضعفا و عجفا- حتى شق ذلک علیهم- حتى قدمنا مکه نلتمس الرضاع- فما منا امرأه إلا و قد عرض علیها محمد ص فتأباه- إذا قیل لها إنه یتیم- و ذلک أنا إنما کنا نرجو المعروف من أبی الصبی- فکنا نقول یتیم ما عسى أن تصنع أمه و جده- فکنا نکرهه لذلک- فما بقیت امرأه ذهبت معی إلا أخذت رضیعا غیری- فلما اجتمعنا للانطلاق قلت لصاحبی-

و الله إنی لأکره أن أرجع من بین صواحبی لم آخذ رضیعا- و الله لأذهبن إلى ذلک الیتیم فلآخذنه- قال لا علیک أن تفعلی- و عسى الله أن یجعل لنا فیه برکه فذهبت إلیه فأخذته- و ما یحملنی على أخذه إلا أنی لم أجد غیره- قالت فلما أخذته رجعت إلى رحلی- فلما وضعته فی حجری أقبل علیه ثدیای بما شاء من لبن- فرضع حتى روی و شرب معه أخوه حتى روی- و ما کنا ننام قبل ذلک من بکاء صبینا جوعا فنام- و قام زوجی إلى شارفنا تلک فنظر إلیها فإذا أنها حافل- فحلب منها ما شرب و شربت حتى انتهینا ریا و شبعا- فبتنا بخیر لیله- قالت یقول صاحبی حین أصبحنا- أ تعلمین و الله یا حلیمه لقد أخذت نسمه مبارکه- فقلت و الله إنی لأرجو ذلک- ثم خرجنا و رکبت أتانی تلک و حملته معی علیها- فو الله لقطعت بالرکب ما یقدر علیها شی‏ء من حمیرهم- حتى إن صواحبی لیقلن لی ویحک یا بنت أبی ذؤیب- اربعی علینا- أ لیس هذه أتانک التی کنت خرجت علیها- فأقول لهن بلى و الله- إنها لهی فیقلن و الله إن لها لشأنا- .

قالت ثم قدمنا منازلنا من بلاد بنی سعد- و ما أعلم أرضا من أرض العرب أجدب منها- فکانت غنمی تروح علی حین قدمنا به معنا شباعا ملأى لبنا- فکنا نحتلب و نشرب- و ما یحلب إنسان قطره لبن- و لا یجدها فی ضرع- حتى إن الحاضر من قومنا لیقولون لرعاتهم ویلکم- اسرحوا حیث یسرح راعی ابنه أبی ذؤیب فیفعلون- فتروح أغنامهم جیاعا ما تبض بقطره- و تروح غنمی شباعا لبنا- فلم نزل نعرف من الله الزیاده و الخیر به- حتى مضت سنتاه و فصلته- فکان یشب شبابا لا یشبه الغلمان فلم یبلغ سنتیه- حتى کان غلاما جفرا- فقدمنا به على أمه آمنه بنت وهب- و نحن أحرص شی‏ء على مکثه فینا- لما کنا نرى من برکته فکلمنا أمه- و قلنا لها لو ترکته عندنا حتى یغلظ- فإنا نخشى علیه وباء مکه- فلم نزل بها حتى ردته معنا- .

فرجعنا به إلى بلاد بنی سعد- فو الله إنه لبعد ما قدمنا- بأشهر مع أخیه فی بهم لنا خلف بیوتنا- إذ أتانا أخوه یشتد- فقال لی و لأبیه ها هو ذاک أخی القرشی- قد جاءه‏ رجلان علیهما ثیاب بیاض- فأضجعاه و شقا بطنه فهما یسوطانه- قالت فخرجت أنا و أبوه نشتد نحوه- فوجدناه قائما ممتقعا وجهه- فالتزمته و التزمه أبوه و قلنا ما لک یا بنی- قال جاءنی رجلان علیهما ثیاب بیض- فأضجعانی ثم شقا بطنی- فالتمسا فیه شیئا لا أدری ما هو- قالت فرجعنا به إلى خبائنا- و قال لی أبوه یا حلیمه- لقد خشیت أن یکون هذا الغلام قد أصیب فألحقیه بأهله- قالت فاحتملته حتى قدمت به على أمه- فقالت ما أقدمک به یا ظئر- و قد کنت حریصه علیه و على مکثه عندک- فقلت لها قد بلغ الله بابنی و قضیت الذی علی- و تخوفت علیه الأحداث و أدیته إلیک کما تحبین- قالت أ تخوفت علیه الشیطان قلت نعم- قالت کلا و الله ما للشیطان علیه من سبیل- و إن لابنی شأنا أ فلا أخبرک خبره قلت بلى- قالت رأیت حین حملت به أنه خرج منی نور- أضاءت له قصور بصرى من الشام ثم حملت به- فو الله ما رأیت حملا قط کان أخف و لا أیسر منه- ثم وقع حین ولدته و إنه لواضع یدیه بالأرض- و رافع رأسه إلى السماء- دعیه عنک و انطلقی راشده- .

قال و روى الطبری فی تاریخه عن شداد بن أوس قال سمعت رسول الله ص یحدث عن نفسه- و یذکر ما جرى له و هو طفل فی أرض بنی سعد بن بکر- قال لما ولدت استرضعت فی بنی سعد- فبینا أنا ذات یوم منتبذ من‏أهلی فی بطن واد- مع أتراب لی من الصبیان نتقاذف بالجله- إذا أتانی رهط ثلاثه- معهم طشت من ذهب مملوءه ثلجا- فأخذونی من بین أصحابی- فخرج أصحابی هرابا حتى انتهوا إلى شفیر الوادی- ثم عادوا إلى الرهط- فقالوا ما أربکم إلى هذا الغلام- فإنه لیس منا هذا ابن سید قریش- و هو مسترضع فینا غلام یتیم لیس له أب- فما ذا یرد علیکم قتله- و ما ذا تصیبون من ذلک- و لکن إن کنتم لا بد قاتلیه- فاختاروا منا أینا شئتم فاقتلوه مکانه- و دعوا هذا الغلام فإنه یتیم- .

فلما رأى الصبیان أن القوم لا یحیرون لهم جوابا- انطلقوا هرابا مسرعین إلى الحی- یؤذنونهم و یستصرخونهم على القوم- فعمد أحدهم فأضجعنی إضجاعا لطیفا- ثم شق ما بین مفرق صدری إلى منتهى عانتی- و أنا أنظر إلیه فلم أجد لذلک حسا- ثم أخرج بطنی فغسلها بذلک الثلج- فأنعم غسلها ثم أعادها مکانها- ثم قام الثانی منهم- فقال لصاحبه تنح فنحاه عنی- ثم أدخل یده فی جوفی و أخرج قلبی و أنا أنظر إلیه- فصدعه ثم أخرج منه مضغه سوداء فرماها- ثم قال بیده یمنه منه و کأنه یتناول شیئا- فإذا فی یده خاتم من نور- تحار أبصار الناظرین دونه فختم به قلبی- ثم أعاده مکانه فوجدت برد ذلک الخاتم فی قلبی دهرا-

ثم قال الثالث لصاحبه تنح عنه- فأمر یده ما بین مفرق صدری إلى منتهى عانتی- فالتأم ذلک الشق- ثم أخذ بیدی فأنهضنی من مکانی إنهاضا لطیفا- و قال للأول الذی شق بطنی- زنه بعشره من أمته فوزننی بهم فرجحتهم- فقال دعوه فلو وزنتموه بأمته کلها لرجحهم- ثم ضمونی إلى صدرهم- و قبلوا رأسی و ما بین عینی- و قالوا یا حبیب الله لا ترع- إنک لو تدری ما یراد بک من الخیر لقرت عیناک- فبینا أنا کذلک إذا أنا بالحی قد جاءوا بحذافیرهم- و إذا أمی و هی‏ظئری أمام الحی تهتف بأعلى صوتها- و تقول یا ضعیفاه فانکب علی أولئک الرهط- فقبلوا رأسی و ما بین عینی- و قالوا حبذا أنت من ضعیف- ثم قالت ظئری یا وحیداه- فانکبوا علی و ضمونی إلى صدورهم- و قبلوا رأسی و ما بین عینی- ثم قالوا حبذا أنت من وحید و ما أنت بوحید-

إن الله و ملائکته معک و المؤمنین من أهل الأرض- ثم قالت ظئری یا یتیماه- استضعفت من بین أصحابک فقتلت لضعفک- فانکبوا علی و ضمونی إلى صدورهم- و قبلوا رأسی و ما بین عینی- و قالوا حبذا أنت من یتیم- ما أکرمک على الله لو تعلم ما یراد بک من الخیر- قال فوصل الحی إلى شفیر الوادی- فلما بصرت بی أمی و هی ظئری- نادت یا بنی أ لا أراک حیا بعد- فجاءت حتى انکبت علی- و ضمتنی إلى صدرها- فو الذی نفسی بیده- إنی لفی حجرها قد ضمتنی إلیها- و إن یدی لفی ید بعضهم- فجعلت ألتفت إلیهم- و ظننت أن القوم یبصرونهم فإذا هم لا یبصرونهم- فیقول بعض القوم إن هذا الغلام قد أصابه لمم- أو طائف من الجن- فانطلقوا به إلى کاهن بنی فلان- حتى ینظر إلیه و یداویه- فقلت ما بی شی‏ء مما یذکرون نفسی سلیمه- و إن فؤادی صحیح لیست بی قلبه- فقال أبی و هو زوج ظئری- أ لا ترون کلامه صحیحا- إنی لأرجو ألا یکون على ابنی بأس- .

فاتفق القوم على أن یذهبوا إلى الکاهن بی- فاحتملونی حتى ذهبوا بی إلیه فقصوا علیه قصتی- فقال اسکتوا حتى أسمع من الغلام- فهو أعلم بأمره منکم- فسألنی فقصصت علیه أمری- و أنا یومئذ ابن خمس سنین- فلما سمع قولی وثب و قال یا للعرب- اقتلوا هذا الغلام فهو و اللات و العزى- لئن عاش لیبدلن دینکم و لیخالفن أمرکم- و لیأتینکم بما لم تسمعوا به قط- فانتزعتنی ظئری من حجره- و قالت لو علمت أن هذا یکون من قولک ما أتیتک به-ثم احتملونی فأصبحت و قد صار فی جسدی أثر الشق- ما بین صدری إلى منتهى عانتی کأنه الشراک

و روی أن بعض أصحاب أبی جعفر محمد بن علی الباقر ع- سأله عن قول الله عز و جل- إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ- فَإِنَّهُ یَسْلُکُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً- فقال ع یوکل الله تعالى بأنبیائه ملائکه یحصون أعمالهم- و یؤدون إلیه تبلیغهم الرساله- و وکل بمحمد ص ملکا عظیما- منذ فصل عن الرضاع یرشده إلى الخیرات و مکارم الأخلاق- و یصده عن الشر و مساوئ الأخلاق- و هو الذی کان ینادیه- السلام علیک یا محمد یا رسول الله و هو شاب- لم یبلغ درجه الرساله بعد- فیظن أن ذلک من الحجر و الأرض- فیتأمل فلا یرى شیئا

و روى الطبری فی التاریخ عن محمد بن الحنفیه عن أبیه علی ع قال سمعت رسول الله ص یقول ما هممت بشی‏ء مما کان أهل الجاهلیه- یعملون به غیر مرتین- کل ذلک یحول الله تعالى بینی و بین ما أرید من ذلک- ثم ما هممت بسوء حتى أکرمنی الله برسالته- قلت لیله لغلام من قریش کان یرعى معی بأعلى مکه- لو أبصرت لی غنمی حتى أدخل مکه- فأسمر بها کما یسمر الشباب فخرجت أرید ذلک- حتى إذا جئت أول دار من دور مکه- سمعت عزفا بالدف و المزامیر- فقلت ما هذا- قالوا هذا فلان تزوج ابنه فلان- فجلست أنظر إلیهم- فضرب الله على أذنی فنمت- فما أیقظنی إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبی- فقال ما فعلت فقلت ما صنعت شیئا ثم أخبرته الخبر- ثم قلت له لیله أخرى مثل ذلک- فقال أفعل فخرجت فسمعت حین دخلت مکه- مثل ما سمعت حین دخلتها تلک اللیله- فجلست‏أنظر فضرب الله على أذنی- فما أیقظنی إلا مس الشمس- فرجعت إلى صاحبی فأخبرته الخبر- ثم ما هممت بعدها بسوء حتى أکرمنی الله برسالته

و روى محمد بن حبیب فی أمالیه- قال قال رسول الله ص أذکر و أنا غلام ابن سبع سنین- و قد بنى ابن جدعان دارا له بمکه- فجئت مع الغلمان- نأخذ التراب و المدر فی حجورنا فننقله- فملأت حجری ترابا فانکشفت عورتی- فسمعت نداء من فوق رأسی- یا محمد أرخ إزارک- فجعلت أرفع رأسی فلا أرى شیئا- إلا أنی أسمع الصوت فتماسکت و لم أرخه- فکأن إنسانا ضربنی على ظهری- فخررت لوجهی و انحل إزاری فسترنی- و سقط التراب إلى الأرض- فقمت إلى دار أبی طالب عمی و لم أعد – .

و أما حدیث مجاورته ع بحراء فمشهور- و قد ورد فی الکتب الصحاح- أنه کان یجاور فی حراء من کل سنه شهرا- و کان یطعم فی ذلک الشهر من جاءه من المساکین- فإذا قضى جواره من حراء- کان أول ما یبدأ به إذا انصرف- أن یأتی باب الکعبه قبل أن یدخل بیته- فیطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلک ثم یرجع إلى بیته- حتى جاءت السنه التی أکرمه الله فیها بالرساله- فجاور فی حراء شهر رمضان و معه أهله خدیجه و علی بن أبی طالب و خادم لهم- فجاءه جبریل بالرساله- و قال ع جاءنی و أنا نائم بنمط فیه کتاب- فقال اقرأ قلت ما أقرأ- فغتنی حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلنی- فقال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّکَ الَّذِی خَلَقَ- إلى قوله عَلَّمَ الْإِنْسانَ‏ما لَمْ یَعْلَمْ فقرأته- ثم انصرف عنی فانتبهت من نومی- و کأنما کتب فی قلبی کتاب – و ذکر تمام الحدیث- .

و أما حدیث أن الإسلام لم یجتمع علیه بیت واحد یومئذ- إلا النبی و هو ع و خدیجه- فخبر عفیف الکندی مشهور و قد ذکرناه من قبل- و أن أبا طالب قال له أ تدری من هذا قال لا- قال هذا ابن أخی محمد بن عبد الله بن عبد المطلب- و هذا ابنی علی بن أبی طالب- و هذه المرأه خلفهما خدیجه بنت خویلد- زوجه محمد ابن أخی- و ایم الله- ما أعلم على الأرض کلها أحدا على هذا الدین- غیر هؤلاء الثلاثه- .

و أما رنه الشیطان- فروى أبو عبد الله أحمد بن حنبل فی مسنده عن علی بن أبی طالب ع قال کنت مع رسول الله ص صبیحه اللیله التی أسری به فیها- و هو بالحجر یصلی فلما قضى صلاته- و قضیت صلاتی سمعت رنه شدیده- فقلت یا رسول الله ما هذه الرنه- قال أ لا تعلم هذه رنه الشیطان- علم أنی أسری بی اللیله إلى السماء- فأیس من أن یعبد فی هذه الأرض – .

و قد روی عن النبی ص ما یشابه هذا لما بایعه الأنصار السبعون لیله العقبه- سمع من العقبه صوت عال فی جوف اللیل- یا أهل مکه هذا مذمم و الصباه معه قد أجمعوا على حربکم- فقال رسول الله ص للأنصار- أ لا تسمعون ما یقول- هذا أزب العقبه- یعنی شیطانها و قد روی أزبب العقبه ثم التفت إلیه- فقال استمع یا عدو الله أما و الله لأفرغن لک

و روی عن جعفر بن محمد الصادق ع قال کان علی ع یرى مع رسول الله ص قبل الرساله الضوء- و یسمع الصوت- و قال له ص- لو لا أنی خاتم الأنبیاء لکنت شریکا فی النبوه- فإن لا تکن نبیا فإنک وصی نبی و وارثه- بل أنت سید الأوصیاء و إمام الأتقیاء و أما خبر الوزاره فقد ذکره الطبری فی تاریخه- عن عبد الله بن عباس عن علی بن أبی طالب ع قال لما أنزلت هذه الآیه- وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ على رسول الله ص دعانی- فقال یا علی إن الله أمرنی أن أنذر عشیرتک الأقربین- فضقت بذلک ذرعا- و علمت أنی متى أنادهم بهذا الأمر أر منهم ما أکره- فصمت حتى جاءنی جبریل ع- فقال یا محمد إنک إن لم تفعل ما أمرت به یعذبک ربک- فاصنع لنا صاعا من طعام- و اجعل علیه رجل شاه- و املأ لنا عسا من لبن- ثم اجمع بنی عبد المطلب حتى أکلمهم- و أبلغهم ما أمرت به- ففعلت ما أمرنی به- ثم دعوتهم و هم یومئذ أربعون رجلا- یزیدون رجلا أو ینقصونه و فیهم أعمامه- أبو طالب و حمزه و العباس و أبو لهب- فلما اجتمعوا إلیه دعا بالطعام الذی صنعت لهم- فجئت به فلما وضعته- تناول رسول الله ص بضعه من اللحم فشقها بأسنانه- ثم ألقاها فی نواحی الصحفه- ثم قال کلوا باسم الله- فأکلوا حتى ما لهم إلى شی‏ء من حاجه- و ایم الله الذی نفس علی بیده- إن کان الرجل الواحد منهم لیأکل ما قدمته لجمیعهم- ثم قال اسق القوم یا علی- فجئتهم بذلک العس فشربوا منه حتى رووا جمیعا- و ایم الله إن کان الرجل منهم لیشرب مثله- فلما أراد رسول الله ص أن یکلمهم- بدره أبو لهب إلى الکلام- فقال لشد ما سحرکم صاحبکم فتفرق القوم- و لم یکلمهم رسول الله ص- فقال من الغد یا علی- إن هذا الرجل قد سبقنی‏إلى ما سمعت من القول- فتفرق القوم قبل أن أکلمهم- فعد لنا الیوم إلى مثل ما صنعت بالأمس- ثم اجمعهم لی ففعلت ثم جمعتهم- ثم دعانی بالطعام فقربته لهم- ففعل کما فعل بالأمس- فأکلوا حتى ما لهم بشی‏ء حاجه- ثم قال اسقهم فجئتهم بذلک العس- فشربوا منه جمیعا حتى رووا- ثم تکلم رسول الله ص- فقال یا بنی عبد المطلب- إنی و الله ما أعلم أن شابا فی العرب- جاء قومه بأفضل مما جئتکم به- إنی قد جئتکم بخیر الدنیا و الآخره- و قد أمرنی الله أن أدعوکم إلیه- فأیکم یوازرنی على هذا الأمر- على أن یکون أخی و وصیی و خلیفتی فیکم- فأحجم القوم عنها جمیعا- و قلت أنا و إنی لأحدثهم سنا و أرمصهم عینا- و أعظمهم بطنا و أحمشهم ساقا- أنا یا رسول الله أکون وزیرک علیه- فأعاد القول فأمسکوا و أعدت ما قلت- فأخذ برقبتی- ثم قال لهم هذا أخی و وصیی و خلیفتی فیکم- فاسمعوا له و أطیعوا- فقام القوم یضحکون- و یقولون لأبی طالب قد أمرک أن تسمع لابنک و تطیع – .

و یدل على أنه وزیر رسول الله ص- من نص الکتاب و السنه قول الله تعالى- وَ اجْعَلْ لِی وَزِیراً مِنْ أَهْلِی- هارُونَ أَخِی اشْدُدْ بِهِ أَزْرِی- وَ أَشْرِکْهُ فِی أَمْرِی و قال النبی ص فی الخبر المجمع على روایته بین سائر فرق الإسلام أنت منی بمنزله هارون من موسى إلا أنه لا نبی بعدی – فأثبت له جمیع مراتب هارون عن موسى- فإذن هو وزیر رسول الله ص و شاد أزره- و لو لا أنه خاتم النبیین لکان شریکا فی أمره- .

و روى أبو جعفر الطبری أیضا فی التاریخ أن رجلا قال لعلی ع یا أمیر المؤمنین- بم ورثت ابن عمک دون عمک- فقال علی ع هاؤم ثلاث مرات- حتى اشرأب الناس و نشروا آذانهم- ثم قال جمع رسول الله ص بنی عبد المطلب بمکه- و هم رهطه کلهم- یأکل الجذعه و یشرب الفرق- فصنع مدا من طعام- حتى أکلوا و شبعوا و بقی الطعام کما هو کأنه لم یمس- ثم دعا بغمر فشربوا و رووا- و بقی الشراب کأنه لم یشرب- ثم قال یا بنی عبد المطلب- إنی بعثت إلیکم خاصه و إلى الناس عامه- فأیکم یبایعنی على أن یکون أخی و صاحبی و وارثی- فلم یقم إلیه أحد فقمت إلیه- و کنت من أصغر القوم- فقال اجلس ثم قال ذلک ثلاث مرات- کل ذلک أقوم إلیه- فیقول اجلس حتى کان فی الثالثه- فضرب بیده على یدی- فعند ذلک ورثت ابن عمی دون عمی وَ لَقَدْ کُنْتُ مَعَهُ ص لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَیْشٍ- فَقَالُوا لَهُ یَا مُحَمَّدُ إِنَّکَ قَدِ ادَّعَیْتَ عَظِیماً- لَمْ یَدَّعِهِ آبَاؤُکَ وَ لَا أَحَدٌ مِنْ بَیْتِکَ- وَ نَحْنُ نَسْأَلُکَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَیْهِ وَ أَرَیْتَنَاهُ- عَلِمْنَا أَنَّکَ نَبِیٌّ وَ رَسُولٌ- وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّکَ سَاحِرٌ کَذَّابٌ- فَقَالَ ص وَ مَا تَسْأَلُونَ قَالُوا- تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَهَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا- وَ تَقِفَ بَیْنَ یَدَیْکَ فَقَالَ ص- إِنَّ اللَّهَ عَلَى کُلِ‏شَیْ‏ءٍ قَدِیرٌ- فَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ لَکُمْ ذَلِکَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ- قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَإِنِّی سَأُرِیکُمْ مَا تَطْلُبُونَ- وَ إِنِّی لَأَعْلَمُ أَنَّکُمْ لَا تَفِیئُونَ إِلَى خَیْرٍ- وَ أَنَّ فِیکُمْ مَنْ یُطْرَحُ فِی الْقَلِیبِ وَ مَنْ یُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ- ثُمَّ قَالَ ص یَا أَیَّتُهَا الشَّجَرَهُ- إِنْ کُنْتِ تُؤْمِنِینَ بِاللَّهِ وَ الْیَوْمِ الآْخِرِ- وَ تَعْلَمِینَ أَنِّی رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِی بِعُرُوقِکِ- حَتَّى تَقِفِی بَیْنَ یَدَیَّ بِإِذْنِ اللَّهِ- وَ الَّذِی بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا- وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِیٌّ شَدِیدٌ- وَ قَصْفٌ کَقَصْفِ أَجْنِحَهِ الطَّیْرِ- حَتَّى وَقَفَتْ بَیْنَ یَدَیْ رَسُولِ اللَّهِ ص مُرَفْرِفَهً- وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص- وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْکِبِی وَ کُنْتُ عَنْ یَمِینِهِ ص- فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِکَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اسْتِکْبَاراً- فَمُرْهَا فَلْیَأْتِکَ نِصْفُهَا وَ یَبْقَى نِصْفُهَا- فَأَمَرَهَا فَأَقْبَلَ إِلَیْهِ نِصْفُهَا- کَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِیّاً- فَکَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ ص- فَقَالُوا کُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ- فَلْیَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ کَمَا کَانَ- فَأَمَرَهُ ص فَرَجَعَ- فَقُلْتُ أَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّی أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِکَ یَا رَسُولَ اللَّهِ- وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَهَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى- تَصْدِیقاً بِنُبُوَّتِکَ وَ إِجْلَالًا لِکَلِمَتِکَ- فَقَالَ الْقَوْمُ کُلُّهُمْ بَلْ سَاحِرٌ کَذَّابٌ- عَجِیبُ السِّحْرِ خَفِیفٌ فِیهِ- وَ هَلْ یُصَدِّقُکَ فِی أَمْرِکَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا یَعْنُونَنِی- وَ إِنِّی لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِی اللَّهِ لَوْمَهُ لَائِمٍ- سِیمَاهُمْ سِیمَا الصِّدِّیقِینَ وَ کَلَامُهُمْ کَلَامُ الْأَبْرَارِ- عُمَّارُ اللَّیْلِ وَ مَنَارُ النَّهَارِ- مُتَمَسِّکُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ یُحْیُونَ سُنَنَ اللَّهِ وَ سُنَنَ رَسُولِهِ- لَا یَسْتَکْبِرُونَ وَ لَا یَعْلُونَ- وَ لَا یَغُلُّونَ وَ لَا یُفْسِدُونَ- قُلُوبُهُمْ فِی الْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِی الْعَمَلِ‏

الملأ الجماعه و لا تفیئون لا ترجعون- و من یطرح فی القلیب کعتبه و شیبه- ابنی ربیعه بن عبد شمس- و عمرو بن هشام بن المغیره المکنى أبا جهل و غیرهم- طرحوا فی قلیب بدر بعد انقضاء الحرب- و من یحزب الأحزاب أبو سفیان صخر بن حرب بن أمیه- . و القصف و القصیف الصوت- و سیماهم علامتهم و مثله سیمیاء- . و معنى قوله ع- قلوبهم فی الجنان و أجسادهم فی العمل- أن قلوبهم ملتذه بمعرفه الله تعالى- و أجسادهم نصبه بالعباده- . و أما أمر الشجره التی دعاها رسول الله ص- فالحدیث الوارد فیها کثیر مستفیض- قد ذکره المحدثون فی کتبهم- و ذکره المتکلمون فی معجزات الرسول ص- و الأکثرون رووا الخبر فیها- على الوضع الذی جاء فی خطبه أمیر المؤمنین- و منهم من یروی ذلک مختصرا- أنه دعا شجره فأقبلت تخد إلیه الأرض خدا- .

و قد ذکر البیهقی فی کتاب دلائل النبوه حدیث الشجره- و رواه أیضا محمد بن إسحاق بن یسار- فی کتاب السیره و المغازی على وجه آخر- قال محمد بن إسحاق کان رکانه- بن عبد یزید بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف- أشد قریش کلها- فخلا یوما برسول الله ص فی بعض شعاب مکه- فقال له رسول الله ص یا رکانه أ لا تتقی الله- و تقبل ما أدعوک إلیه- قال لو أعلم أن الذی تقول حق لاتبعتک- قال أ فرأیت إن صرعتک- أ تعلم أن ما أقول لک حق قال نعم- قال فقم حتى أصارعک فقام رکانه- فلما بطش به رسول الله ص- أضجعه لا یملک من نفسه شیئا- فقال عد یا محمد فعاد فصرعه- فقال یا محمد إن هذا لعجب حین تصرعنی- فقال رسول الله ص و أعجب من ذلک إن شئت أریتکه- إن اتقیت الله و اتبعت أمری-قال ما هو قال أدعو لک هذه الشجره التی تراها- فتأتی قال فادعها فدعاها- فأقبلت حتى وقفت بین یدی رسول الله ص- ثم قال ارجعی إلى مکانک فرجعت إلى مکانها- فرجع رکانه إلى قومه و قال- یا بنی عبد مناف ساحروا بصاحبکم أهل الأرض- فما رأیت أسحر منه قط- ثم أخبرهم بالذی رأى و الذی صنع

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۳۷۴

خطبه ۲۳۷شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۳۷ و من خطبه له ع

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْفَاشِی فِی الْخَلْقِ حَمْدُهُ- وَ الْغَالِبِ جُنْدُهُ وَ الْمُتَعَالِی جَدُّهُ- أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ التُّؤَامِ وَ آلَائِهِ الْعِظَامِ- الَّذِی عَظُمَ حِلْمُهُ فَعَفَا وَ عَدَلَ فِی کُلِّ مَا قَضَى- وَ عَلِمَ بِمَا یَمْضِی وَ مَا مَضَى- مُبْتَدِعِ الْخَلَائِقِ بِعِلْمِهِ وَ مُنْشِئِهِمْ بِحُکْمِهِ- بِلَا اقْتِدَاءٍ وَ لَا تَعْلِیمٍ- وَ لَا احْتِذَاءٍ لِمِثَالِ صَانِعٍ حَکِیمٍ- وَ لَا إِصَابَهِ خَطَإٍ وَ لَا حَضْرَهِ مَلٍا وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- ابْتَعَثَهُ وَ النَّاسُ یَضْرِبُونَ فِی غَمْرَهٍ- وَ یَمُوجُونَ فِی حَیْرَهٍ قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّهُ الْحَیْنِ- وَ اسْتَغْلَقَتْ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّیْنِ- عِبَادَ اللَّهِ أُوصِیکُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ- فَإِنَّهَا حَقُّ اللَّهِ عَلَیْکُمْ- وَ الْمُوجِبَهُ عَلَى اللَّهِ حَقَّکُمْ وَ أَنْ تَسْتَعِینُوا عَلَیْهَا بِاللَّهِ- وَ تَسْتَعِینُوا بِهَا عَلَى اللَّهِ- فَإِنَّ التَّقْوَى فِی الْیَوْمِ الْحِرْزُ وَ الْجُنَّهُ- وَ فِی غَدٍ الطَّرِیقُ إِلَى الْجَنَّهِ- مَسْلَکُهَا وَاضِحٌ وَ سَالِکُهَا رَابِحٌ وَ مُسْتَوْدَعُهَا حَافِظٌ- لَمْ تَبْرَحْ عَارِضَهً نَفْسَهَا عَلَى الْأُمَمِ الْمَاضِینَ مِنْکُمْ- وَ الْغَابِرِینَ لِحَاجَتِهِمْ إِلَیْهَا غَداً- إِذَا أَعَادَ اللَّهُ مَا أَبْدَى- وَ أَخَذَ مَا أَعْطَى وَ سَأَلَ عَمَّا أَسْدَى- فَمَا أَقَلَّ مَنْ قَبِلَهَا وَ حَمَلَهَا حَقَّ حَمْلِهَا- أُولَئِکَ الْأَقَلُّونَ عَدَداً- وَ هُمْ أَهْلُ صِفَهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِذْ یَقُولُ- وَ قَلِیلٌ مِنْ عِبادِیَ الشَّکُورُ- فَأَهْطِعُوا بِأَسْمَاعِکُمْ إِلَیْهَا وَ أَلِظُّوا بِجِدِّکُمْ عَلَیْهَا- وَ اعْتَاضُوهَا مِنْ کُلِّ سَلَفٍ خَلَفاً- وَ مِنْ کُلِّ مُخَالِفٍ مُوَافِقاً-أَیْقِظُوا بِهَا نَوْمَکُمْ وَ اقْطَعُوا بِهَا یَوْمَکُمْ- وَ أَشْعِرُوهَا قُلُوبَکُمْ وَ ارْحَضُوا بِهَا ذُنُوبَکُمْ- وَ دَاوُوا بِهَا الْأَسْقَامَ وَ بَادِرُوا بِهَا الْحِمَامَ- وَ اعْتَبِرُوا بِمَنْ أَضَاعَهَا وَ لَا یَعْتَبِرَنَّ بِکُمْ مَنْ أَطَاعَهَا- أَلَا فَصُونُوهَا وَ تَصَوَّنُوا بِهَا- وَ کُونُوا عَنِ الدُّنْیَا نُزَّاهاً- وَ إِلَى الآْخِرَهِ وُلَّاهاً- وَ لَا تَضَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ التَّقْوَى- وَ لَا تَرْفَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ الدُّنْیَا- وَ لَا تَشِیمُوا بَارِقَهَا وَ لَا تَسْمَعُوا نَاطِقَهَا- وَ لَا تُجِیبُوا نَاعِقَهَا وَ لَا تَسْتَضِیئُوا بِإِشْرَاقِهَا- وَ لَا تُفْتَنُوا بِأَعْلَاقِهَا- فَإِنَّ بَرْقَهَا خَالِبٌ وَ نُطْقَهَا کَاذِبٌ- وَ أَمْوَالَهَا مَحْرُوبَهٌ وَ أَعْلَاقَهَا مَسْلُوبَهٌ- أَلَا وَ هِیَ الْمُتَصَدِّیَهُ الْعَنُونُ وَ الْجَامِحَهُ الْحَرُونُ- وَ الْمَائِنَهُ الْخَئُونُ وَ الْجَحُودُ الْکَنُودُ- وَ الْعَنُودُ الصَّدُودُ وَ الْحَیُودُ الْمَیُودُ- حَالُهَا انْتِقَالٌ وَ وَطْأَتُهَا زِلْزَالٌ- وَ عِزُّهَا ذُلٌّ وَ جِدُّهَا هَزْلٌ وَ عُلْوُهَا سُفْلٌ- دَارُ حَرْبٍ وَ سَلَبٍ وَ نَهْبٍ وَ عَطَبٍ- أَهْلُهَا عَلَى سَاقٍ وَ سِیَاقٍ وَ لَحَاقٍ وَ فِرَاقٍ- قَدْ تَحَیَّرَتْ مَذَاهِبُهَا وَ أَعْجَزَتْ مَهَارِبُهَا- وَ خَابَتْ مَطَالِبُهَا فَأَسْلَمَتْهُمُ الْمَعَاقِلُ- وَ لَفَظَتْهُمُ الْمَنَازِلُ وَ أَعْیَتْهُمُ الْمَحَاوِلُ- فَمِنْ نَاجٍ مَعْقُورٍ وَ لَحْمٍ مَجْزُورٍ- وَ شِلْوٍ مَذْبُوحٍ وَ دَمٍ مَسْفُوحٍ- وَ عَاضٍّ عَلَى یَدَیْهِ وَ صَافِقٍ بِکَفَّیْهِ- وَ مُرْتَفِقٍ بِخَدَّیْهِ وَ زَارٍ عَلَى رَأْیِهِ- وَ رَاجِعٍ عَنْ عَزْمِهِ- وَ قَدْ أَدْبَرَتِ الْحِیلَهُ وَ أَقْبَلَتِ الْغِیلَهُ- وَ لَاتَ حِینَ مَنَاصٍ هَیْهَاتَ هَیْهَاتَ- قَدْ فَاتَ مَا فَاتَ وَ ذَهَبَ مَا ذَهَبَ- وَ مَضَتِ الدُّنْیَا لِحَالِ بَالِهَا- فَمَا بَکَتْ عَلَیْهِمُ السَّمَاءُ وَ الْأَرْضُ وَ مَا کَانُوا مُنْظَرِینَ‏

الفاشی الذائع فشا الخبر یفشو فشوا أی ذاع- و أفشاه غیره و تفشى الشی‏ء أی اتسع- و الفواشی کل منتشر من المال- مثل الغنم السائمه و الإبل و غیرهما- و منه الحدیث ضموا فواشیکم حتى تذهب فحمه العشاء – فیجوز أن یکون عنى بفشو حمده- إطباق الأمم قاطبه على الاعتراف بنعمته- و یجوز أن یرید بالفاشی سبب حمده- و هو النعم التی لا یقدر قدرها فحذف المضاف- .

قوله و الغالب جنده فیه معنى قوله تعالى- فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ- . قوله و المتعالی جده فیه معنى قوله تعالى- وَ أَنَّهُ تَعالى‏ جَدُّ رَبِّنا- و الجد فی هذا الموضع و فی الآیه العظمه- . و التؤام جمع توأم على فوعل- و هو الولد المقارن أخاه فی بطن واحد- و قد أتأمت المرأه إذا وضعت اثنین کذلک فهی متئم- فإن کان ذلک عادتها فهی متآم- و کل واحد من الولدین توأم و هما توأمان- و هذا توأم هذا و هذه توأمته- و الجمع توائم مثل قشعم و قشاعم- و جاء فی جمعه تؤام على فعال- و هی اللفظه التی وردت فی هذه الخطبه- و هو جمع غریب لم یأت نظیره إلا فی مواضع معدوده- و هی عرق العظم یؤخذ عنه اللحم و عراق- و شاه ربى للحدیثه العهد بالولاده و غنم رباب- و ظئر للمرضعه غیر ولدها و ظؤار- و رخل للأنثى من أولاد الضأن و رخال- و فریر لولد البقره الوحشیه و فرار- . و الآلاء النعم- .

قوله ع مبدع الخلائق بعلمه- لیس یرید أن العلم عله فی الإبداع- کما تقول هوى الحجر بثقله- بل المراد أبدع الخلق و هو عالم- کما تقول خرج زید بسلاحه أی خرج متسلحا- فموضع الجار و المجرور على هذا نصب بالحالیه- و کذلک القول فی و منشئهم بحکمه- و الحکم هاهنا الحکمه- . و منه قوله ع إن من الشعر لحکمه – .

قوله بلا اقتداء و لا تعلیم و لا احتذاء- قد تکرر منه ع أمثاله مرارا- . قوله و لا إصابه خطأ تحته معنى لطیف- و ذلک لأن المتکلمین یوردون على أنفسهم سؤالا- فی باب کونه عالما بکل معلوم- إذا استدلوا على ذلک فإنه علم بعض الأشیاء- لا من طریق أصلا لا من إحساس- و لا من نظر و استدلال- فوجب أن یعلم سائرها لأنه لا مخصص- فقالوا لأنفسهم لم زعمتم ذلک- و لم لا یجوز أن یکون فعل أفعاله مضطربه- فلما أدرکها علم کیفیه صنعها- بطریق کونه مدرکا لها فأحکمها بعد اختلالها و اضطرابها- و أجابوا عن ذلک بأنه لا بد أن یکون- قبل أن فعلها عالما بمفرداتها من غیر إحساس- و یکفی ذلک فی کونه عالما بما لم یتطرق إلیه- ثم یعود الاستدلال المذکور أولا- .

قوله ع و لا حضره ملأ- الملأ الجماعه من الناس و فیه معنى قوله تعالى- ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ- . قوله یضربون فی غمره- أی یسیرون فی جهل و ضلاله- و الضرب السیر السریع- . و الحین الهلاک- و الرین الذنب على الذنب حتى یسود القلب- و قیل الرین‏الطبع و الدنس- یقال ران على قلبه ذنبه یرین رینا- أی دنسه و وسخه- و استغلقت أقفال الرین على قلوبهم تعسر فتحها- . قوله فإنها حق الله علیکم و الموجبه على الله حقکم- یرید أنها واجبه علیکم- فإن فعلتموها وجب على الله أن یجازیکم عنها بالثواب- و هذا تصریح بمذهب المعتزله فی العدل- و أن من الأشیاء ما یجب على الله تعالى من باب الحکمه- .

قوله و أن تستعینوا علیها بالله- و تستعینوا بها على الله- یرید أوصیکم بأن تستعینوا بالله على التقوى- بأن تدعوه و تبتهلوا إلیه أن یعینکم علیها- و یوفقکم لها و ییسرها و یقوی دواعیکم إلى القیام بها- و أوصیکم أن تستعینوا بالتقوى على لقاء الله- و محاکمته و حسابه- فإنه تعالى یوم البعث و الحساب کالحاکم بین المتخاصمین- وَ تَرى‏ کُلَّ أُمَّهٍ جاثِیَهً کُلُّ أُمَّهٍ تُدْعى‏ إِلى‏ کِتابِهَا- فالسعید من استعان على ذلک الحساب- و تلک الحکومه و الخصومه بالتقوى فی دار التکلیف- فإنها نعم المعونه وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏- . و الجنه ما یستتر به- . قوله و مستودعها حافظ یعنی الله سبحانه- لأنه مستودع الأعمال و یدل علیه قوله تعالى- إِنَّا لا نُضِیعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا- و لیس ما قاله الراوندی- من أنه أراد بالمستودع قلب الإنسان بشی‏ء- .

قوله لم تبرح عارضه نفسها کلام فصیح لطیف- یقول إن التقوى لم تزل عارضه نفسها- على من سلف من القرون- فقبلها القلیل منهم- شبهها بالمرأه العارضه نفسها نکاحا على قوم- فرغب فیها من رغب و زهد من زهد- و على الحقیقه لیست‏هی العارضه نفسها- و لکن المکلفین ممکنون من فعلها و مرغبون فیها- فصارت کالعارضه- . و الغابر هاهنا الباقی و هو من الأضداد- یستعمل بمعنى الباقی و بمعنى الماضی- .

قوله ع إذا أعاد الله ما أبدى- یعنی أنشر الموتى و أخذ ما أعطى- و ورث الأرض مالک الملوک- فلم یبق فی الوجود من له تصرف فی شی‏ء غیره- کما قال لِمَنِ الْمُلْکُ الْیَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ- و قیل فی الأخبار و الحدیث إن الله تعالى یجمع الذهب و الفضه- کل ما کان منه فی الدنیا- فیجعله أمثال الجبال ثم یقول- هذا فتنه بنی آدم ثم یسوقه إلى جهنم- فیجعله مکاوی لجباه المجرمین
– .

و سأل عما أسدى أی سأل أرباب الثروه- عما أسدى إلیهم من النعم- فیم صرفوها و فیم أنفقوها- . قوله ع فما أقل من قبلها- یعنی ما أقل من قبل التقوى العارضه نفسها على الناس- . و إذا فی قوله إذا أعاد الله ظرف لحاجتهم إلیها- لأن المعنى یقتضیه أی لأنهم یحتاجون إلیها- وقت إعاده الله الخلق- و لیس کما ظنه الراوندی- أنه ظرف لقوله فما أقل من قبلها- لأن المعنى على ما قلناه- و لأن ما بعد الفاء لا یجوز أن یکون عاملا فیما قبلها- . قوله فأهطعوا بأسماعکم أی أسرعوا- أهطع فی عدوه أی أسرع- و یروى فانقطعوا بأسماعکم إلیها- أی فانقطعوا إلیها مصغین بأسماعکم- . قوله و ألظوا بجدکم أی ألحوا- و الإلظاظ الإلحاح فی الأمر- و منه قول‏ابن مسعود ألظوا فی الدعاء بیا ذا الجلال و الإکرام
– و منه الملاظه فی الحرب- و یقال رجل ملظ و ملظاظ أی ملحاح- و ألظ المطر أی دام- .

و قوله بجدکم أی باجتهادکم- جددت فی الأمر جدا بالغت و اجتهدت- و یروى و واکظوا بحدکم- و المواکظه المداومه على الأمر- و قال مجاهد فی قوله تعالى- إِلَّا ما دُمْتَ عَلَیْهِ قائِماً- قال أی مواکظا- . قوله و أشعروا بها قلوبکم- یجوز أن یرید اجعلوها شعارا لقلوبکم- و هو ما دون الدثار و ألصق بالجسد منه- و یجوز أن یرید اجعلوها علامه- یعرف بها القلب التقی من القلب المذنب- کالشعار فی الحرب یعرف به قوم من قوم- و یجوز أن یرید أخرجوا قلوبکم بها من أشعار البدن- أی طهروا القلوب بها و صفوها من دنس الذنوب- کما یصفى البدن بالفصاد من غلبه الدم الفاسد- و یجوز أن یرید الإشعار بمعنى الإعلام- من أشعرت زیدا بکذا أی عرفته إیاه- أی اجعلوها عالمه بجلاله موقعها و شرف محلها- . قوله و ارحضوا بها أی اغسلوا- و ثوب رحیض و مرحوض أی مغسول- .

قال و داووا بها الأسقام یعنی أسقام الذنوب- . و بادروا بها الحمام- عجلوا و اسبقوا الموت أن یدرککم و أنتم غیر متقین- . و اعتبروا بمن أضاع التقوى فهلک شقیا- و لا یعتبرن بکم أهل التقوى- أی لا تکونوا أنتم لهم معتبرا بشقاوتکم و سعادتهم- . ثم قال و صونوا التقوى عن أن تمازجها المعاصی- و تصونوا أنتم بها عن الدناءه و ما ینافی العداله- . و النزه جمع نزیه و هو المتباعد عما یوجب الذم- و الولاه جمع واله- و هو المشتاق ذو الوجد حتى یکاد یذهب عقله- .

ثم شرع فی ذکر الدنیا فقال لا تشیموا بارقها- الشیم النظر إلى البرق انتظارا للمطر- . و لا تسمعوا ناطقها- لا تصغوا إلیها سامعین و لا تجیبوا منادیها- . و الأعلاق جمع علق و هو الشی‏ء النفیس- و برق خالب و خلب لا مطر فیه- . و أموالها محروبه أی مسلوبه- . قوله ع ألا و هی المتصدیه العنون- شبهها بالمرأه المومس تتصدى للرجال ترید الفجور- و تتصدى لهم تتعرض و العنون المتعرضه أیضا- عن لی کذا أی عرض- .

ثم قال و الجامحه الحرون شبهها بالدابه ذات الجماح- و هی التی لا یستطاع رکوبها لأنها تعثر بفارسها و تغلبه- و جعلها مع ذلک حرونا و هی التی لا تنقاد- . ثم قال و المائنه الخئون- مان أی کذب شبهها بامرأه کاذبه خائنه- . و الجحود الکنود جحد الشی‏ء أنکره- و کند النعمه کفرها- جعلها کامرأه تجحد الصنیعه- و لا تعترف بها و تکفر النعمه- و یجوز أن یکون الجحود من قولک- رجل جحد و جحد أی قلیل الخیر- و عام جحد أی قلیل المطر- و قد جحد النبت إذا لم یطل- . قال و العنود الصدود- العنود الناقه تعدل عن مرعى الإبل و ترعى ناحیه- . و الصدود المعرضه صد عنه أی أعرض- شبهها فی انحرافها و میلها عن القصد بتلک- .

قال و الحیود المیود- حادث الناقه عن کذا تحید فهی حیود- إذا مالت عنه- . و مادت تمید فهی میود أی مالت- فإن کانت عادتها ذلک- سمیت الحیود المیود فی کل حال- .

قال حالها انتقال- یجوز أن یعنی به أن شیمتها و سجیتها- الانتقال و التغیر- و یجوز أن یرید به معنى أدق- و هو أن الزمان على ثلاثه أقسام- ماض و حاضر و مستقبل- فالماضی و المستقبل لا وجود لهما الآن- و إنما الموجود أبدا هو الحاضر- فلما أراد المبالغه فی وصف الدنیا- بالتغیر و الزوال قال حالها انتقال- أی أن الآن الذی یحکم العقلاء علیه بالحضور منها- لیس بحاضر على الحقیقه بل هو سیال متغیر- فلا ثبوت إذا لشی‏ء منها مطلقا- و یروى و حالها افتعال- أی کذب و زور و هی روایه شاذه- .

قال و وطئتها زلزال الوطأه کالضغطه- و منه قوله ص اللهم اشدد وطأتک على مضر – و أصلها موضع القدم- و الزلزال الشده العظیمه و الجمع زلازل- . و قال الراوندی فی شرحه یرید أن سکونها حرکه- من قولک وطؤ الشی‏ء أی صار وطیئا ذا حال لینه- و موضع وطی‏ء أی وثیر- و هذا خطأ لأن المصدر من ذلک وطاءه بالمد- و هاهنا وطأه ساکن الطاء فأین أحدهما من الآخر- .

قال و علوها سفل یجوز ضم أولهما و کسره- . قال دار حرب- الأحسن فی صناعه البدیع- أن تکون الراء هاهنا ساکنه لیوازی السکون هاء نهب- و من فتح الراء أراد السلب- حربته أی سلبت ماله- . قال أهلها على ساق و سیاق- یقال قامت الحرب على ساق أی على شده- و منه قوله سبحانه یَوْمَ یُکْشَفُ عَنْ ساقٍ- و السیاق نزع الروح- یقال رأیت فلانا یسوق أی ینزع عند الموت- أو یکون مصدر ساق الماشیه سوقا و سیاقا- .

و قال الراوندی فی شرحه- یرید أن بعض أهلها فی أثر بعض- کقولهم ولدت فلانهثلاثه بنین على ساق- و لیس ما قاله بشی‏ء- لأنهم یقولون ذلک للمرأه إذا لم یکن بین البنین أنثى- و لا یقال ذلک فی مطلع التتابع أین کان- . قال ع و لحاق و فراق- اللام مفتوحه مصدر لحق به- و هذا کقولهم الدنیا مولود یولد و مفقود یفقد- . قال ع قد تحیرت مذاهبها- أی تحیر أهلها فی مذاهبهم- و لیس یعنی بالمذاهب هاهنا الاعتقادات بل المسالک- .

و أعجزت مهاربها- أی أعجزتهم جعلتهم عاجزین فحذف المفعول- . و أسلمتهم المعاقل لم تحصنهم- . و لفظتهم بفتح الفاء رمت بهم و قذفتهم- . و أعیتهم المحاول أی المطالب- . ثم وصف أحوال الدنیا فقال هم فمن ناج معقور- أی مجروح کالهارب من الحرب بحشاشه نفسه- و قد جرح بدنه- . و لحم مجزور أی قتیل قد صار جزرا للسباع- . و شلو مذبوح- الشلو العضو من أعضاء الحیوان المذبوح أو المیت- و فی الحدیث ائتونی بشلوها الأیمن – . و دم مفسوح أی مسفوک- و عاض على یدیه أی ندما- . و صافق بکفیه أی تعسفا أو تعجبا- . و مرتفق بخدیه- جاعل لهما على مرفقیه فکرا و هما- . و زار على رأیه أی عائب- أی یرى الواحد منهم رأیا و یرجع عنه و یعیبه- و هو البداء الذی یذکره المتکلمون- ثم فسره بقوله و راجع عن عزمه- .

فإن قلت فهل یمکن أن یفرق بینهما- لیکون الکلام أکثر فائده- قلت نعم- بأن یرید بالأول من رأى رأیا و کشفه لغیره- و جامعه علیه ثم بدا له و عابه- و یرید بالثانی من عزم نفسه عزما- و لم یظهر لغیره ثم رجع عنه- و یمکن أیضا بأن یفرق بینهما- بأن یعنی بالرأی الاعتقاد- کما یقال هذا رأی أبی حنیفه- و العزم أمر مفرد خارج عن ذلک- و هو ما یعزم علیه الإنسان من أمور نفسه- و لا یقال عزم فی الاعتقادات ثم قال ع و قد أدبرت الحیله أی ولت- و أقبلت الغیله أی الشر و منه قولهم فلان قلیل الغائله- أو یکون بمعنى الاغتیال یقال قتله غیله أی خدیعه- یذهب به إلى مکان یوهمه أنه لحاجه ثم یقتله- .

قال ع و لات حین مناص- هذه من ألفاظ الکتاب العزیز- قال الأخفش شبهوا لات بلیس- و أضمروا فیها اسم الفاعل- قال و لا تکون لات إلا مع حین- و قد جاء حذف حین فی الشعر- و منه المثل حنت و لات هنت- أی و لات حین حنت و الهاء بدل من الحاء- فحذف الحین و هو یریده- قال و قرأ بعضهم وَ لاتَ حِینَ مَناصٍ بالرفع و أضمر الخبر- و قال أبو عبید هی لا و التاء إنما زیدت فی حین- لا فی لا و إن کتبت مفرده- و الأصل تحین کما قال فی ألان تلان- فزادوا التاء و أنشد لأبی وجزه-

العاطفون تحین ما من عاطف
و المطعمون زمان أین المطعم‏

و قال المؤرج زیدت التاء فی لات- کما زیدت فی ربت و ثمت- . و المناص المهرب ناص عن قرنه ینوص نوصا و مناصا- أی لیس هذا وقت الهرب و الفرار- .و یکون المناص أیضا بمعنى الملجأ و المفزع- أی لیس هذا حین تجد مفزعا و معقلا تعتصم به- . هیهات اسم للفعل و معناه بعد- یقال هیهات زید فهو مبتدأ و خبر- و المعنى یعطی الفعلیه- و التاء فی هیهات مفتوحه مثل کیف- و أصلها هاء و ناس یکسرونها على کل حال- بمنزله نون التثنیه و قال الراجز-

هیهات من مصبحها هیهات
هیهات حجر من صنیعات‏

و قد تبدل الهاء همزه فیقال- أیهات مثل هراق و أراق قال-

أیهات منک الحیاه أیهاتا

 قال الکسائی فمن کسر التاء وقف علیها بالهاء- فقال هیهاه- و من فتحها وقف إن شاء بالتاء و إن شاء بالهاء- . قوله ع و مضت الدنیا لحال بالها- کلمه تقال فیما انقضى و فرط أمره- و معناها مضى بما فیه إن کان خیرا و إن کان شرا- . قوله ع فما بکت علیهم السماء- هو من کلام الله تعالى- و المراد أهل السماء و هم الملائکه و أهل الأرض و هم البشر- و المعنى أنهم لا یستحقون أن یتأسف علیهم- و قیل أراد المبالغه فی تحقیر شأنهم- لأن العرب کانت تقول فی العظیم القدر یموت- بکته السماء و بکته النجوم قال الشاعر-

فالشمس طالعه لیست بکاسفه
تبکی علیک نجوم اللیل و القمرا

 فنفى عنهم ذلک- و قال لیسوا من یقال فیه مثل هذا القول- و تأولها ابن عباس رضی الله عنه لما قیل له- أ تبکی السماء و الأرض على أحد- فقال نعم یبکیه مصلاه فی الأرض و مصعد عمله فی السماء- فیکون نفی البکاء عنهما- کنایه عن أنه لم یکن لهم فی الأرض- عمل صالح یرفع منهما إلى السماء

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۹۵

خطبه ۲۳۶ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۳۶ و من خطبه له ع

أَحْمَدُهُ شُکْراً لِإِنْعَامِهِ- وَ أَسْتَعِینُهُ عَلَى وَظَائِفِ حُقُوقِهِ- عَزِیزَ الْجُنْدِ عَظِیمَ الْمَجْدِ- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- دَعَا إِلَى طَاعَتِهِ وَ قَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَنْ دِینِهِ- لَا یَثْنِیهِ عَنْ ذَلِکَ اجْتِمَاعٌ عَلَى تَکْذِیبِهِ- وَ الْتِمَاسٌ لِإِطْفَاءِ نُورِهِ- فَاعْتَصِمُوا بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّ لَهَا حَبْلًا وَثِیقاً عُرْوَتُهُ- وَ مَعْقِلًا مَنِیعاً ذِرْوَتُهُ- وَ بَادِرُوا الْمَوْتَ وَ غَمَرَاتِهِ وَ امْهَدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ- وَ أَعِدُّوا لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ فَإِنَّ الْغَایَهَ الْقِیَامَهُ- وَ کَفَى بِذَلِکَ وَاعِظاً لِمَنْ عَقَلَ وَ مُعْتَبَراً لِمَنْ جَهِلَ- وَ قَبْلَ بُلُوغِ الْغَایَهِ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ ضِیقِ الْأَرْمَاسِ- وَ شِدَّهِ الْإِبْلَاسِ وَ هَوْلِ الْمُطَّلَعِ- وَ رَوْعَاتِ الْفَزَعِ وَ اخْتِلَافِ الْأَضْلَاعِ- وَ اسْتِکَاکِ الْأَسْمَاعِ وَ ظُلْمَهِ اللَّحْدِ- وَ خِیفَهِ الْوَعْدِ وَ غَمِّ الضَّرِیحِ وَ رَدْمِ الصَّفِیحِ- فَاللَّهَ اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ- فَإِنَّ الدُّنْیَا مَاضِیَهٌ بِکُمْ عَلَى سَنَنٍ- وَ أَنْتُمْ وَ السَّاعَهَ فِی قَرَنٍ- وَ کَأَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ بِأَشْرَاطِهَا وَ أَزِفَتْ بِأَفْرَاطِهَا- وَ وَقَفَتْ بِکُمْ عَلَى صِرَاطِهَا وَ کَأَنَّهَا قَدْ أَشْرَفَتْ بِزَلَازِلِهَا- وَ أَنَاخَتْ بِکَلَاکِلِهَا وَ انْصَرَفَتِ الدُّنْیَا بِأَهْلِهَا- وَ أَخْرَجَتْهُمْ مِنْ حِضْنِهَا- فَکَانَتْ کَیَوْمَ مَضَى وَ شَهْرٍ انْقَضَى- وَ صَارَ جَدِیدُهَا رَثّاً وَ سَمِینُهَا غَثّاً- فِی مَوْقِفٍ ضَنْکِ الْمَقَامِ وَ أُمُورٍ مُشْتَبِهَهٍ عِظَامٍ- وَ نَارٍ شَدِیدٍ کَلَبُهَا عَالٍ لَجَبُهَا- سَاطِعٍ لَهَبُهَا مُتَغَیِّظٍ زَفِیرُهَا- مُتَأَجِّجٍ سَعِیرُهَا بَعِیدٍ خُمُودُهَا- ذَاکٍ وُقُودُهَا مَخُوفٍ‏ وَعِیدُهَا- عَمٍ قَرَارُهَا مُظْلِمَهٍ أَقْطَارُهَا- حَامِیَهٍ قُدُورُهَا فَظِیعَهٍ أُمُورُهَا- وَ سِیقَ الَّذِینَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّهِ زُمَراً- قَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ وَ انْقَطَعَ الْعِتَابُ- وَ زُحْزِحُوا عَنِ النَّارِ وَ اطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدَّارُ- وَ رَضُوا الْمَثْوَى وَ الْقَرَارَ- الَّذِینَ کَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِی الدُّنْیَا زَاکِیَهً- وَ أَعْیُنُهُمْ بَاکِیَهً- وَ کَانَ لَیْلُهُمْ فِی دُنْیَاهُمْ نَهَاراً تَخَشُّعاً وَ اسْتِغْفَارًا- وَ کَانَ نَهَارُهُمْ لَیْلًا تَوَحُّشاً وَ انْقِطَاعاً- فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ الْجَنَّهَ مَآباً وَ الْجَزَاءَ ثَوَاباً- وَ کَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَ أَهْلَهَا- فِی مُلْکٍ دَائِمٍ وَ نَعِیمٍ قَائِمٍ- فَارْعَوْا عِبَادَ اللَّهِ مَا بِرِعَایَتِهِ یَفُوزُ فَائِزُکُمْ- وَ بِإِضَاعَتِهِ یَخْسَرُ مُبْطِلُکُمْ- وَ بَادِرُوا آجَالَکُمْ بِأَعْمَالِکُمْ- فَإِنَّکُمْ مُرْتَهَنُونَ بِمَا أَسْلَفْتُمْ- وَ مَدِینُونَ بِمَا قَدَّمْتُمْ- وَ کَأَنْ قَدْ نَزَلَ بِکُمُ الْمَخُوفُ- فَلَا رَجْعَهً تُنَالُونَ وَ لَا عَثْرَهً تُقَالُونَ- اسْتَعْمَلَنَا اللَّهُ وَ إِیَّاکُمْ بِطَاعَتِهِ وَ طَاعَهِ رَسُولِهِ- وَ عَفَا عَنَّا وَ عَنْکُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ- الْزَمُوا الْأَرْضَ وَ اصْبِرُوا عَلَى الْبَلَاءِ- وَ لَا تُحَرِّکُوا بِأَیْدِیکُمْ وَ سُیُوفِکُمْ فِی هَوَى أَلْسِنَتِکُمْ- وَ لَا تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ یُعَجِّلْهُ اللَّهُ لَکُمْ- فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْکُمْ عَلَى فِرَاشِهِ- وَ هُوَ عَلَى مَعْرِفَهِ حَقِّ رَبِّهِ- وَ حَقِّ رَسُولِهِ وَ أَهْلِ بَیْتِهِ مَاتَ شَهِیداً- وَ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ- وَ اسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ- وَ قَامَتِ النِّیَّهُ مَقَامَ إِصْلَاتِهِ لِسَیْفِهِ- فَإِنَّ لِکُلِّ شَیْ‏ءٍ مُدَّهً وَ أَجَلًا وظائف حقوقه الواجبات المؤقته- کالصلوات الخمس و صوم شهر رمضان- و الوظیفه ما یجعل للإنسان فی کل یوم- أو فی کل شهر أو فی کل سنه- من طعام أو رزق-و عزیز منصوب لأنه حال من الضمیر فی أستعینه- و یجوز أن یکون حالا من الضمیر المجرور فی حقوقه- و إضافه عزیز إلى الجند- إضافه فی تقدیر الانفصال- لا توجب تعریفه لیمتنع من کونه حالا- .

و قاهر أعداءه حاربهم و روی و قهر أعداءه- . و المعقل ما یعتصم به و ذروته أعلاه- . و امهدوا له اتخذوا مهادا- و هو الفراش و هذه استعاره- . قوله ع فإن الغایه القیامه- أی فإن منتهى کل البشر إلیها و لا بد منها- . و الأرماس جمع رمس و هو القبر- و الإبلاس مصدر أبلس أی خاب و یئس- و الإبلاس أیضا الانکسار و الحزن- . و استکاک الأسماع صممها- . و غم الضریح ضیق القبر و کربه- و الصفیح الحجر و ردمه سده- .

و السنن الطریق و القرن الحبل- . و أشراط الساعه علاماتها- و أزفت قربت و أفراطها جمع فرط- و هم المتقدمون السابقون من الموتى- و من روى بإفراطها- فهو مصدر أفرط فی الشی‏ء- أی قربت الساعه بشده غلوائها- و بلوغها غایه الهول و الفظاعه- و یجوز أن تفسر الروایه الأولى- بمقدماتها و ما یظهر قبلها من خوارق العادات المزعجه- کالدجال و دابه الأرض و نحوهما- و یرجع ذلک إلى اللفظه الأولى- و هی أشراطها و إنما یختلف اللفظ- . و الکلاکل جمع کلکل و هو الصدر- و یقال للأمر الثقیل قد أناخ علیهم بکلکله- أی هدهم و رضهم کما یهد البعیر البارک من تحته- إذا أنحى علیه بصدره- . قوله ع و انصرفت الدنیا بأهلها أی ولت- و یروى و انصرمت أی انقضت- .

و الحضن بکسر الحاء ما دون الإبط إلى الکشح- . و الرث الخلق و الغث الهزیل- . و مقام ضنک أی ضیق- . و شدید کلبها أی شرها و أذاها- و اللجب الصوت و وقودها هاهنا بضم الواو- و هو الحدث و لا یجوز الفتح- لأنه ما یوقد به کالحطب و نحوه- و ذاک لا یوصف بأنه ذاک- . قوله ع عم قرارها- أی لا یهتدى فیه لظلمته و لأنه عمیق جدا- و یروى و کأن لیلهم نهار- و کذلک أختها على التشبیه- . و المآب المرجع و مدینون مجزیون- .

قوله ع فلا رجعه تنالون- الروایه بضم التاء أی تعطون- یقال أنلت فلانا مالا أی منحته- و قد روی تنالون بفتح التاء- . ثم أمر أصحابه أن یثبتوا- و لا یعجلوا فی محاربه من کان مخالطا لهم- من ذوی العقائد الفاسده کالخوارج- و من کان یبطن هوى معاویه- و لیس خطابه هذا تثبیطا لهم عن حرب أهل الشام- کیف و هو لا یزال یقرعهم و یوبخهم- عن التقاعد و الإبطاء فی ذلک- و لکن قوما من خاصته- کانوا یطلعون على ما عند قوم من أهل الکوفه- و یعرفون نفاقهم و فسادهم- و یرومون قتلهم و قتالهم فنهاهم عن ذلک- و کان یخاف فرقه جنده و انتثار حبل عسکره- فأمرهم بلزوم الأرض و الصبر على البلاء- .

و روی بإسقاط الباء من قوله بأیدیکم- و من روى الکلمه بالباء جعلها زائده- و یجوز ألا تکون زائده- و یکون المعنى و لا تحرکوا الفتنه بأیدیکم و سیوفکم- فی هوى ألسنتکم فحذف المفعول- . و الإصلات بالسیف مصدر أصلت أی سل- .

و اعلم أن هذه الخطبه من أعیان خطبه ع- و من ناصع کلامه و نادره- و فیها من صناعه البدیع الرائقه المستحسنه- البریئه من التکلف ما لا یخفى- و قد أخذ ابن نباته الخطیب- کثیرا من ألفاظها فأودعها خطبه- مثل قوله شدید کلبها عال لجبها- ساطع لهبها متغیظ زفیرها- متأجج سعیرها بعید خمودها- ذاک وقودها مخوف وعیدها- عم قرارها- مظلمه أقطارها حامیه قدورها فظیعه أمورها- فإن هذه الألفاظ کلها اختطفها- و أغار علیها و اغتصبها- و سمط بها خطبه و شذر بها کلامه- .

و مثل قوله هول المطلع و روعات الفزع- و اختلاف الأضلاع و استکاک الأسماع- و ظلمه اللحد و خیفه الوعد- و غم الضریح و ردم الصفیح- فإن هذه الألفاظ أیضا- تمضی فی أثناء خطبه و فی غضون مواعظه

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۲۰

خطبه ۲۳۵ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۳۵ و من خطبه له ع

فَمِنَ الْإِیمَانِ مَا یَکُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِی الْقُلُوبِ- وَ مِنْهُ مَا یَکُونُ عَوَارِیَّ بَیْنَ الْقُلُوبِ وَ الصُّدُورِ- إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ- فَإِذَا کَانَتْ لَکُمْ بَرَاءَهٌ مِنْ أَحَدٍ فَقِفُوهُ- حَتَّى یَحْضُرَهُ الْمَوْتُ- فَعِنْدَ ذَلِکَ یَقَعُ حَدُّ الْبَرَاءَهِ- وَ الْهِجْرَهُ قَائِمَهٌ عَلَى حَدِّهَا الْأَوَّلِ- مَا کَانَ لِلَّهِ فِی أَهْلِ الْأَرْضِ حَاجَهٌ- مِنْ مُسْتَسِرِّ الْأُمَّهِ وَ مُعْلِنِهَا- لَا یَقَعُ اسْمُ الْهِجْرَهِ عَلَى أَحَدٍ- إِلَّا بِمَعْرِفَهِ الْحُجَّهِ فِی الْأَرْضِ- فَمَنْ عَرَفَهَا وَ أَقَرَّ بِهَا فَهُوَ مُهَاجِرٌ- وَ لَا یَقَعُ اسْمُ الِاسْتِضْعَافِ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّهُ- فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ وَ وَعَاهَا قَلْبُهُ- إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا یَحْمِلُهُ إِلَّا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ- امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِیمَانِ- وَ لَا یَعِی حَدِیثَنَا إِلَّا صُدُورٌ أَمِینَهٌ وَ أَحْلَامٌ رَزِینَهٌ- أَیُّهَا النَّاسُ سَلُونِی قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِی- فَلَأَنَا بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّی بِطُرُقِ الْأَرْضِ- قَبْلَ أَنْ تَشْغَرَ بِرِجْلِهَا فِتْنَهٌ تَطَأُ فِی خِطَامِهَا- وَ تَذْهَبُ بِأَحْلَامِ قَوْمِهَا

هذا الفصل یحمل على عده مباحث-

أولها قولها ع فمن الإیمان ما یکون کذا- فنقول إنه قسم الإیمان إلى ثلاثه أقسام-أحدها الإیمان الحقیقی- و هو الثابت المستقر فی القلوب بالبرهان الیقینی- .

الثانی ما لیس ثابتا بالبرهان الیقینی- بل بالدلیل الجدلی- کإیمان کثیر ممن لم یحقق العلوم العقلیه- و یعتقد ما یعتقده عن أقیسه جدلیه- لا تبلغ إلى درجه البرهان- و قد سمى ع هذا القسم باسم مفرد- فقال إنه عواری فی القلوب- و العواری جمع عاریه- أی هو و إن کان فی القلب و فی محل الإیمان الحقیقی- إلا أن حکمه حکم العاریه فی البیت- فإنها بعرضه الخروج منه- لأنها لیست أصلیه کائنه فی بیت صاحبها- .

و الثالث ما لیس مستندا إلى برهان و لا إلى قیاس جدلی- بل على سبیل التقلید و حسن الظن بالأسلاف- و بمن یحسن ظن الإنسان فیه من عابد أو زاهد أو ذی ورع- و قد جعله ع عواری بین القلوب و الصدور- لأنه دون الثانی- فلم یجعله حالا فی القلب- و جعله مع کونه عاریه حالا بین القلب و الصدر- فیکون أضعف مما قبله- .

فإن قلت فما معنى قوله إلى أجل معلوم- قلت إنه یرجع إلى القسمین الأخیرین- لأن من لا یکون إیمانه ثابتا بالبرهان القطعی- قد ینتقل إیمانه إلى أن یصیر قطعیا- بأن یمعن النظر و یرتب البرهان ترتیبا مخصوصا- فینتج له النتیجه الیقینیه- و قد یصیر إیمان المقلد إیمانا جدلیا- فیرتقی إلى ما فوقه مرتبته- و قد یصیر إیمان الجدلی إیمانا تقلیدیا- بأن یضعف فی نظره ذلک القیاس الجدلی- و لا یکون عالما بالبرهان- فیئول حال إیمانه إلى أن یصیر تقلیدیا- فهذا هو فائده قوله إلى أجل معلوم فی هذین القسمین- .

فأما صاحب القسم الأول- فلا یمکن أن یکون إیمانه إلى أجل معلوم- لأن من ظفر بالبرهان استحال أن ینتقل عن اعتقاده- لا صاعدا و لا هابطا- أما لا صاعدا فلأنه لیس فوق البرهان مقام آخر- و أما لا هابطا- فلأن ماده البرهان هی المقدمات البدیهیه-و المقدمات البدیهیه یستحیل أن تضعف عند الإنسان- حتى یصیر إیمانه جدلیا أو تقلیدیا- .

و ثانیها قوله ع فإذا کانت لکم براءه- فنقول إنه ع نهى عن البراءه من أحد ما دام حیا- لأنه و إن کان مخطئا فی اعتقاده- لکن یجوز أن یعتقد الحق فیما بعد- و إن کان مخطئا فی أفعاله لکن یجوز أن یتوب- فلا تحل البراءه من أحد حتى یموت على أمر- فإذا مات على اعتقاد قبیح أو فعل قبیح- جازت البراءه منه- لأنه لم یبق له بعد الموت حاله تنتظر- و ینبغی أن تحمل هذه البراءه- التی أشار إلیها ع على البراءه المطلقه لا على کل براءه- لأنا یجوز لنا أن نبرأ من الفاسق و هو حی- و من الکافر و هو حی- لکن بشرط کونه فاسقا و بشرط کونه کافرا- فأما من مات و نعلم ما مات علیه- فإنا نبرأ منه براءه مطلقه غیر مشروطه- .

و ثالثها قوله و الهجره قائمه على حدها الأول- فنقول هذا کلام یختص به أمیر المؤمنین ع- و هو من أسرار الوصیه- لأن الناس یروون عن النبی ص أنه قال- لا هجره بعد الفتح- فشفع عمه العباس فی نعیم بن مسعود الأشجعی- أن یستثنیه فاستثناه- و هذه الهجره التی یشیر إلیها أمیر المؤمنین ع- لیست تلک الهجره بل هی الهجره إلى الإمام- قال إنها قائمه على حدها الأول ما دام التکلیف باقیا- و هو معنى قوله ما کان لله تعالى فی أهل الأرض حاجه- . و قال الراوندی ما هاهنا نافیه- أی لم یکن لله فی أهل الأرض من حاجه- و هذا لیس بصحیح- لأنه إدخال کلام منقطع- بین کلامین متصل أحدهما بالآخر- .

ثم ذکر أنه لا یصح أن یعد الإنسان من المهاجرین- إلا بمعرفه إمام زمانه- و هومعنى قوله- إلا بمعرفه الحجه فی الأرض- قال فمن عرف الإمام و أقر به فهو مهاجر- . قال و لا یجوز أن یسمى من عرف الإمام مستضعفا- یمکن أن یشیر به إلى آیتین فی القرآن- أحدهما قوله تعالى- إِنَّ الَّذِینَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِکَهُ ظالِمِی أَنْفُسِهِمْ- قالُوا فِیمَ کُنْتُمْ قالُوا کُنَّا مُسْتَضْعَفِینَ فِی الْأَرْضِ- قالُوا أَ لَمْ تَکُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَهً فَتُهاجِرُوا فِیها- فَأُولئِکَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ- فالمراد على هذا- أنه لیس من عرف الإمام و بلغه خبره بمستضعف- کما کان هؤلاء مستضعفین- و إن کان فی بلده و أهله- لم یخرج و لم یتجشم مشقه السفر- .

ثانیهما قوله تعالى فی الآیه التی تلی الآیه المذکوره- إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ- لا یَسْتَطِیعُونَ حِیلَهً وَ لا یَهْتَدُونَ سَبِیلًا- فَأُولئِکَ عَسَى اللَّهُ أَنْ یَعْفُوَ عَنْهُمْ- فالمراد على هذا- أنه لیس من عرف الإمام و بلغه خبره بمستضعف- کهؤلاء الذین استثناهم الله تعالى من الظالمین- لأن أولئک کانت الهجره بالبدن مفروضه علیهم- و عفی عن ذوی العجز عن الحرکه منهم- و شیعه الإمام ع لیست الهجره بالبدن مفروضه علیهم- بل تکفی معرفتهم به و إقرارهم بإمامته- فلا یقع اسم الاستضعاف علیهم- .

فإن قلت فما معنى قوله- من مستسر الأمه و معلنها- و بما ذا یتعلق حرف الجر- قلت معناه ما دام لله فی أهل الأرض- المستسر منهم باعتقاده و المعلن حاجه- فمن على هذا زائده- فلو حذفت لجر المستسر بدلا من أهل الأرض- و من إذا کانت زائده لا تتعلق- نحو قولک ما جاءنی من أحد- .

و رابعها قوله ع- إن أمرنا هذا صعب مستصعب- و یروى مستصعب بکسر العین- لا یحتمله إلا عبد امتحن الله تعالى قلبه للإیمان- هذه من ألفاظ القرآن العزیز قال الله تعالى- أُولئِکَ الَّذِینَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى‏- و هو من قولک امتحن فلان لأمر کذا- و جرب و درب للنهوض به- فهو مضطلع به غیر وان عنه- و المعنى أنهم صبر على التقوى- أقویاء على احتمال مشاقها- و یجوز أن یکون وضع الامتحان موضع المعرفه- لأن تحققک الشی‏ء إنما یکون باختباره- کما یوضع الخبر موضع المعرفه- فکأنه قیل عرف الله قلوبهم للتقوى- فتتعلق اللام بمحذوف أی کائنه له- و هی اللام التی فی قولک- أنت لهذا الأمر أی مختص به کقوله-

أعداء من للیعملات على الوجا

و تکون مع معمولها منصوبه على الحال- و یجوز أن یکون المعنى ضرب الله قلوبهم- بأنواع المحن و التکالیف الصعبه لأجل التقوى- أی لتثبت فیظهر تقواها و یعلم أنهم متقون- لأن حقیقه التقوى لا تعلم- إلا عند المحن و الشدائد و الاصطبار علیها- . و یجوز أن یکون المعنى أنه أخلص قلوبهم للتقوى- من قولهم امتحن الذهب إذا أذابه- فخلص إبریزه من خبثه و نقاه- . و هذه الکلمه قد قالها ع مرارا- و وقفت فی بعض الکتب على خطبه من جملتها-
إن قریشا طلبت السعاده فشقیت- و طلبت النجاه فهلکت و طلبت الهدى فضلت- أ لم یسمعوا ویحهم قوله تعالى- وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّیَّتُهُمْ بِإِیمانٍ- أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ- فأین المعدل و المنزع عن ذریه الرسول- الذین شید الله بنیانهم فوق بنیانهم- و أعلى رءوسهم فوق رءوسهم و اختارهم علیهم- ألا إن الذریه أفنان أنا شجرتها و دوحه أنا ساقها- و إنی من أحمد بمنزله الضوء من الضوء- کناظلالا تحت العرش قبل خلق البشر- و قبل خلق الطینه التی کان منها البشر- أشباحا عالیه لا أجساما نامیه- إن أمرنا صعب مستصعب لا یعرف کنهه إلا ثلاثه- ملک مقرب أو نبی مرسل- أو عبد امتحن الله قلبه للإیمان- فإذا انکشف لکم سر أو وضح لکم أمر فاقبلوه- و إلا فاسکتوا تسلموا- و ردوا علمنا إلى الله- فإنکم فی أوسع مما بین السماء و الأرض – .

و خامسها قوله سلونی قبل أن تفقدونی – أجمع الناس کلهم على أنه لم یقل أحد من الصحابه- و لا أحد من العلماء سلونی- غیر علی بن أبی طالب ع- ذکر ذلک ابن عبد البر المحدث فی کتاب الاستیعاب- . و المراد بقوله- فلأنا أعلم بطرق السماء منی بطرق الأرض- ما اختص به من العلم بمستقبل الأمور- و لا سیما فی الملاحم و الدول- و قد صدق هذا القول عنه ما تواتر عنه- من الأخبار بالغیوب المتکرره- لا مره و لا مائه مره- حتى زال الشک و الریب فی أنه إخبار عن علم- و أنه لیس على طریق الاتفاق- و قد ذکرنا کثیرا من ذلک فیما تقدم من هذا الکتاب- . و قد تأوله قوم على وجه آخر قالوا- أراد أنا بالأحکام الشرعیه و الفتاوی الفقهیه- أعلم منی بالأمور الدنیویه- فعبر عن تلک بطرق السماء لأنها أحکام إلهیه- و عبر عن هذه بطرق الأرض لأنها من الأمور الأرضیه- و الأول أظهر- لأن فحوى الکلام و أوله یدل على أنه المراد

قصه وقعت لأحد الوعاظ ببغداد

و على ذکر قوله ع سلونی- حدثنی من أثق به من أهل العلم حدیثا- و إن کان فیه بعض الکلمات العامیه- إلا أنه یتضمن ظرفا و لطفا و یتضمن أیضا أدبا- . قال کان ببغداد فی صدر أیام الناصر لدین الله- أبی العباس أحمد بن المستضی‏ء بالله- واعظ مشهور بالحذق و معرفه الحدیث و الرجال- و کان یجتمع إلیه تحت منبره خلق عظیم- من عوام بغداد و من فضلائها أیضا- و کان مشتهرا بذم أهل الکلام- و خصوصا المعتزله و أهل النظر على قاعده الحشویه- و مبغضی أرباب العلوم العقلیه- و کان أیضا منحرفا عن الشیعه- برضا العامه بالمیل علیهم- فاتفق قوم من رؤساء الشیعه- على أن یضعوا علیه من یبکته و یسأله تحت منبره- و یخجله و یفضحه بین الناس فی المجلس- و هذه عاده الوعاظ- یقوم إلیهم قوم فیسألونهم مسائل- یتکلفون الجواب عنها- و سألوا عمن ینتدب لهذا- فأشیر علیهم بشخص کان ببغداد- یعرف بأحمد بن عبد العزیز الکزی کان له لسن- و یشتغل بشی‏ء یسیر من کلام المعتزله و یتشیع- و عنده قحه و قد شدا أطرافا من الأدب- و قد رأیت أنا هذا الشخص فی آخر عمره- و هو یومئذ شیخ و الناس یختلفون إلیه فی تعبیر الرؤیا- فأحضروه و طلبوا إلیه أن یعتمد ذلک فأجابهم-

و جلس ذلک الواعظ فی یومه الذی جرت عادته بالجلوس فیه- و اجتمع الناس عنده على طبقاتهم- حتى امتلأت الدنیا بهم- و تکلم على عادته فأطال- فلما مر فی ذکر صفات الباری سبحانه فی أثناء الوعظ- قام إلیه الکزی فسأله أسئله عقلیه- على منهاج کلام المتکلمین من المعتزله- فلم یکن للواعظ عنها جواب نظری- و إنما دفعه بالخطابه و الجدل و سجع الألفاظ- و تردد الکلام بینهما طویلا- و قال الواعظ فی آخر الکلام أعین المعتزله حول- و صوتی‏فی مسامعهم طبول- و کلامی فی أفئدتهم نصول- یا من بالاعتزال یصول ویحک کم تحوم و تجول- حول من لا تدرکه العقول- کم أقول کم أقول خلوا هذا الفضول- . فارتج المجلس و صرخ الناس و علت الأصوات- و طاب الواعظ و طرب- و خرج من هذا الفصل إلى غیره فشطح شطح الصوفیه-

و قال سلونی قبل أن تفقدونی و کررها- فقام إلیه الکزی فقال- یا سیدی ما سمعنا أنه قال هذه الکلمه- إلا علی بن أبی طالب ع و تمام الخبر معلوم- و أراد الکزی بتمام الخبر قوله ع- لا یقولها بعدی إلا مدع- . فقال الواعظ و هو فی نشوه طربه- و أراد إظهار فضله و معرفته برجال الحدیث و الرواه- من علی بن أبی طالب- أ هو علی بن أبی طالب بن المبارک النیسابوری- أم علی بن أبی طالب بن إسحاق المروزی- أم علی بن أبی طالب بن عثمان القیروانی- أم علی بن أبی طالب بن سلیمان الرازی- و عد سبعه أو ثمانیه من أصحاب الحدیث- کلهم علی بن أبی طالب- فقام الکزی و قام من یمین المجلس آخر- و من یسار المجلس ثالث انتدبوا له- و بذلوا أنفسهم للحمیه و وطنوها على القتل- .

فقال الکزی أشا یا سیدی فلان الدین أشا- صاحب هذا القول هو علی بن أبی طالب- زوج فاطمه سیده نساء العالمین ع- و إن کنت ما عرفته بعد بعینه فهو الشخص الذی- لما آخى رسول الله ص بین الأتباع و الأذناب- آخى بینه و بین نفسه و أسجل على أنه نظیره و مماثله- فهل نقل فی جهازکم أنتم من هذا شی‏ء- أو نبت تحت خبکم من هذا شی‏ء- . فأراد الواعظ أن یکلمه- فصاح علیه القائم من الجانب الأیمن و قال- یا سیدی فلان الدین محمد بن عبد الله- کثیر فی الأسماء- و لکن لیس فیهم من قال له رب العزه-ما ضَلَّ صاحِبُکُمْ وَ ما غَوى‏- وَ ما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏- إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحى‏- و کذلک علی بن أبی طالب کثیر فی الأسماء- و لکن لیس فیهم من قال له صاحب الشریعه أنت منی بمنزله هرون من موسى- إلا أنه لا نبی بعدیو قد تلتقی الأسماء فی الناس و الکنى کثیرا و لکن میزوا فی الخلائق‏- .

فالتفت إلیه الواعظ لیکلمه- فصاح علیه القائم من الجانب الأیسر- و قال یا سیدی فلان الدین حقک تجهله- أنت معذور فی کونک لا تعرفه-

و إذا خفیت على الغبی فعاذر
ألا ترانی مقله عمیاء

فاضطرب المجلس و ماج کما یموج البحر- و افتتن الناس و تواثبت العامه بعضها إلى بعض- و تکشفت الرءوس و مزقت الثیاب- و نزل الواعظ- و احتمل حتى أدخل دارا أغلق علیه بابها- و حضر أعوان السلطان فسکنوا الفتنه- و صرفوا الناس إلى منازلهم و أشغالهم- و أنفذ الناصر لدین الله فی آخر نهار ذلک الیوم- فأخذ أحمد بن عبد العزیز الکزی- و الرجلین اللذین قاما معه- فحبسهم أیاما لتطفأ نائره الفتنه ثم أطلقهم

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۴۰

خطبه ۲۳۴ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۳۴ و من خطبه له ع-

أُوصِیکُمْ أَیُّهَا النَّاسُ بِتَقْوَى اللَّهِ- وَ کَثْرَهِ حَمْدِهِ عَلَى آلَائِهِ إِلَیْکُمْ- وَ نَعْمَائِهِ عَلَیْکُمْ وَ بَلَائِهِ لَدَیْکُمْ- فَکَمْ خَصَّکُمْ بِنِعْمَهٍ وَ تَدَارَکَکُمْ بِرَحْمَهٍ- أَعْوَرْتُمْ لَهُ فَسَتَرَکُمْ وَ تَعَرَّضْتُمْ لِأَخْذِهِ فَأَمْهَلَکُمْ- وَ أُوصِیکُمْ بِذِکْرِ الْمَوْتِ وَ إِقْلَالِ الْغَفْلَهِ عَنْهُ- وَ کَیْفَ غَفْلَتُکُمْ عَمَّا لَیْسَ یُغْفِلُکُمْ- وَ طَمَعُکُمْ فِیمَنْ لَیْسَ یُمْهِلُکُمْ- فَکَفَى وَاعِظاً بِمَوْتَى عَایَنْتُمُوهُمْ- حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ غَیْرَ رَاکِبینَ- وَ أُنْزِلُوا فِیهَا غَیْرَ نَازِلِینَ- کَأَنَّهُمْ لَمْ یَکُونُوا لِلدُّنْیَا عُمَّاراً- وَ کَأَنَّ الآْخِرَهَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً- أَوْحَشُوا مَا کَانُوا یُوطِنُونَ- وَ أَوْطَنُوا مَا کَانُوا یُوحِشُونَ- وَ اشْتَغَلُوا بِمَا فَارَقُوا- وَ أَضَاعُوا مَا إِلَیْهِ انْتَقَلُوا- لَا عَنْ قَبِیحٍ یَسْتَطِیعُونَ انْتِقَالًا- وَ لَا فِی حَسَنٍ یَسْتَطِیعُونَ ازْدِیَاداً- أَنِسُوا بِالدُّنْیَا فَغَرَّتْهُمْ- وَ وَثِقُوا بِهَا فَصَرَعَتْهُمْ- فَسَابِقُوا رَحِمَکُمُ اللَّهُ إِلَى مَنَازِلِکُمُ- الَّتِی أُمِرْتُمْ أَنْ تَعْمُرُوهَا- وَ الَّتِی رَغِبْتُمْ فِیهَا وَ دُعِیتُمْ إِلَیْهَا- وَ اسْتَتِمُّوا نِعَمَ اللَّهِ عَلَیْکُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ- وَ الْمُجَانَبَهِ لِمَعْصِیَتِهِ- فَإِنَّ غَداً مِنَ الْیَوْمِ قَرِیبٌ- مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِی الْیَوْمِ- وَ أَسْرَعَ الْأَیَّامَ فِی الشَّهْرِ- وَ أَسْرَعَ الشُّهُورَ فِی السَّنَهِ- وَ أَسْرَعَ السِّنِینَ فِی الْعُمُرِ

أعورتم أی انکشفتم و بدت عوراتکم- و هی المقاتل تقول أعور الفارس إذا بدت مقاتله- و أعورک الصید إذا أمکنک منه- . قوله ع أوحشوا ما کانوا یوطنون- أی أوطنوا قبورهم التی کانوا یوحشونها- . قوله ع و اشتغلوا بما فارقوا- أی اشتغلوا و هم فی القبور- بما فارقوه من الأموال و القینات- لأنها أذى و عقاب علیهم فی قبورهم- و لولاها لکانوا فی راحه- و یجوز أن یکون حکایه حالهم و هم بعد فی الدنیا- أی اشتغلوا أیام حیاتهم من الأموال و المنازل بما فارقوه- و أضاعوا من أمر آخرتهم ما انتقلوا إلیه- .

ثم ذکر أنهم لا یستطیعون فعل حسنه و لا توبه من قبیح- لأن التکلیف سقط- و المنازل التی أمروا بعمارتها و المقابر- و عمارتها الأعمال الصالحه- و قوله ع إن غدا من الیوم قریب- کلام یجری مجرى المثل- قال غد ما غد ما أقرب الیوم من غد- و الأصل فیه قول الله تعالى- إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَیْسَ الصُّبْحُ بِقَرِیبٍ- . و قوله ع ما أسرع الساعات فی الیوم إلى آخر الفصل- کلام شریف وجیز بالغ فی معناه- و الفصل کله نادر لا نظیر له

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۲۵

خطبه ۲۳۳ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۳۳ و من خطبه له ع تختص بذکر الملاحم-

أَلَا بِأَبِی وَ أُمِّی هُمْ مِنْ عِدَّهٍ- أَسْمَاؤُهُمْ فِی السَّمَاءِ مَعْرُوفَهٌ وَ فِی الْأَرْضِ مَجْهُولَهٌ- أَلَا فَتَوَقَّعُوا مَا یَکُونُ مِنْ إِدْبَارِ أُمُورِکُمْ- وَ انْقِطَاعِ وُصَلِکُمْ وَ اسْتِعْمَالِ صِغَارِکُمْ- ذَاکَ حَیْثُ تَکُونُ ضَرْبَهُ السَّیْفِ عَلَى الْمُؤْمِنِ- أَهْوَنَ مِنَ الدِّرْهَمِ مِنْ حِلَّهِ- ذَاکَ حَیْثُ یَکُونُ الْمُعْطَى أَعْظَمَ أَجْراً مِنَ الْمُعْطِی- ذَاکَ حَیْثُ تَسْکَرُونَ مِنْ غَیْرِ شَرَابٍ- بَلْ مِنَ النِّعْمَهِ وَ النَّعِیمِ- وَ تَحْلِفُونَ مِنْ غَیْرِ اضْطِرَارٍ- وَ تَکْذِبُونَ مِنْ غَیْرِ إِحْرَاجٍ- ذَاکَ إِذَا عَضَّکُمُ الْبَلَاءُ کَمَا یَعَضُّ الْقَتَبُ غَارِبَ الْبَعِیرِ- مَا أَطْوَلَ هَذَا الْعَنَاءَ وَ أَبْعَدَ هَذَا الرَّجَاءَ- أَیُّهَا النَّاسُ أَلْقُوا هَذِهِ الْأَزِمَّهَ- الَّتِی تَحْمِلُ ظُهُورُهَا الْأَثْقَالَ مِنْ أَیْدِیکُمْ- وَ لَا تَصَدَّعُوا عَلَى سُلْطَانِکُمْ فَتَذُمُّوا غِبَّ فِعَالِکُمْ- وَ لَا تَقْتَحِمُوا مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ فَوْرِ نَارِ الْفِتْنَهِ- وَ أَمِیطُوا عَنْ سَنَنِهَا وَ خَلُّوا قَصْدَ السَّبِیلِ لَهَا- فَقَدْ لَعَمْرِی یَهْلِکُ فِی لَهَبِهَا الْمُؤْمِنُ- وَ یَسْلَمُ فِیهَا غَیْرُ الْمُسْلِمِ- إِنَّمَا مَثَلِی بَیْنَکُمْ کَمَثَلِ السِّرَاجِ فِی الظُّلْمَهِ- یَسْتَضِی‏ءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا- فَاسْمَعُوا أَیُّهَا النَّاسُ- وَ عُوا وَ أَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِکُمْ تَفْهَمُوا

الإمامیه تقول- هذه العده هم الأئمه الأحد عشر من ولده ع- و غیرهم یقول إنه عنى الأبدال- الذین هم أولیاء الله فی الأرض- و قد تقدم منا ذکر القطب و الأبدال- و أوضحنا ذلک إیضاحا جلیا- . قوله ع أسماؤهم فی السماء معروفه- أی تعرفها الملائکه المعصومون- أعلمهم الله تعالى بأسمائهم- . و فی الأرض مجهوله أی عند الأکثرین- لاستیلاء الضلال على أکثر البشر- . ثم خرج إلى مخاطبه أصحابه- على عادته فی ذکر الملاحم و الفتن- الکائنه فی آخر زمان الدنیا- فقال لهم توقعوا ما یکون من إدبار أمورکم- و انقطاع وصلکم جمع وصله- . و استعمال صغارکم أی یتقدم الصغار على الکبار- و هو من علامات الساعه- .

قال ذاک حیث یکون احتمال ضربه السیف على المؤمن- أقل مشقه من احتمال المشقه فی اکتساب درهم حلال- و ذلک لأن المکاسب تکون قد فسدت و اختلطت- و غلب الحرام الحلال فیها- . قوله ذاک حیث یکون المعطى أعظم أجرا من المعطی- معناه أن أکثر من یعطی و یتصدق فی ذلک الزمان- یکون ماله حراما فلا أجر له فی التصدق به- ثم أکثرهم یقصد الریاء و السمعه بالصدقه- أو لهوى نفسه أو لخطره من خطراته- و لا یفعل الحسن لأنه حسن و لا الواجب لوجوبه- فتکون الید السفلى خیرا من الید العلیا- عکس ما ورد فی الأثر- و أما المعطى فإنه یکون فقیرا ذا عیال- لا یلزمه أن یبحث عن المال أ حرام هو أم حلال- فإذا أخذه لیسد به خلته و یصرفه فی قوت عیاله- کان أعظم أجرا ممن أعطاه- .

و قد خطر لی فیه معنى آخر- و هو أن صاحب المال الحرام- إنما یصرفه فی أکثر الأحوال و أغلبها- فی الفساد و ارتکاب المحظور- کما قال من اکتسب مالا من نهاوش أذهبه الله فی نهابر – فإذا أخذه الفقیر منه على وجه الصدقه- فقد فوت علیه صرفه فی تلک القبائح و المحضورات- التی کان بعرضته صرف ذلک القدر فیها- لو لم یأخذه الفقیر- فإذا قد أحسن الفقیر إلیه بکفه عن ارتکاب القبیح- و من العصمه ألا یقدر فکان المعطى أعظم أجرا من المعطی- . قوله ع ذاک حیث تسکرون من غیر شراب بل من النعمه- بفتح النون و هی غضاره العیش- و قد قیل فی المثل سکر الهوى أشد من سکر الخمر- .

قال تحلفون من غیر اضطرار- أی تتهاونون بالیمین و بذکر الله عز و جل- . قال و تکذبون من غیر إحراج- أی یصیر الکذب لکم عاده و دربه- لا تفعلونه لأن آخر منکم قد أحرجکم- و اضطرکم بالغیظ إلى الحلف- و روی من غیر إحواج بالواو- أی من غیر أن یحوجکم إلیه أحد- – قال ذلک إذا عضکم البلاء- کما یعض القتب غارب البعیر- هذا الکلام غیر متصل بما قبله- و هذه عاده الرضی رحمه الله یلتقط الکلام التقاطا- و لا یتلو بعضه بعضا- و قد ذکرنا هذه الخطبه أو أکثرها- فیما تقدم من الأجزاء الأول- و قبل هذا الکلام ذکر ما یناله شیعته- من البؤس و القنوط و مشقه انتظار الفرج- . قوله ع ما أطول هذا العناء و أبعد هذا الرجاء- هذا حکایه کلام شیعته و أصحابه- .

ثم قال مخاطبا أصحابه الموجودین حوله- أیها الناس ألقوا هذه الأزمه- التی تحمل ظهورها الأثقال عن أیدیکم- هذه کنایه عن النهی عن ارتکاب القبیح- و ما یوجب الإثم و العقاب- و الظهور هاهنا هی الإبل أنفسها و الأثقال المآثم- و إلقاء الأزمه ترک اعتماد القبیح فهذا عمومه- و أما خصوصه فتعریض بما کان علیه أصحابه- من الغدر و مخامره العدو علیه- و إضمار الغل و الغش له- و عصیانه و التلوی علیه- و قد فسره بما بعده فقال- و لا تصدعوا عن سلطانکم أی لا تفرقوا- فتذموا غب فعالکم أی عاقبته- .

ثم نهاهم عن اقتحام ما استقبلوه من فور نار الفتنه- و فور النار غلیانها و احتدامها- و یروى ما استقبلکم- . ثم قال و أمیطوا عن سننها- أی تنحوا عن طریقها- و خلوا قصد السبیل لها- أی دعوها تسلک طریقها- و لا تقفوا لها فیه فتکونوا حطبا لنارها- . ثم ذکر أنه قد یهلک المؤمن فی لهبها- و یسلم فیه الکافر- کما قیل المؤمن ملقى و الکافر موقى- . ثم ذکر أن مثله فیهم کالسرج- یستضی‏ء بها من ولجها أی دخل فی ضوئها- . و آذان قلوبکم کلمه مستعاره- جعل للقلب آذانا کما جعل الشاعر للقلوب أبصارا- فقال

یدق على النواظر ما أتاه
فتبصره بأبصار القلوب‏

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۴۶

خطبه ۲۳۲ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)( التوحید)

۲۳۲ و من خطبه له ع فی التوحید

و تجمع هذه الخطبه من أصول العلم- ما لا تجمعه خطبه غیرها- : مَا وَحَّدَهُ مَنْ کَیَّفَهُ وَ لَا حَقِیقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ- وَ لَا إِیَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ- وَ لَا صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَیْهِ وَ تَوَهَّمَهُ- کُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ وَ کُلُّ قَائِمٍ فِی سِوَاهُ مَعْلُولٌ- فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَابِ آلَهٍ مُقَدِّرٌ لَا بِجَوْلِ فِکْرَهٍ- غَنِیٌّ لَا بِاسْتِفَادَهٍ- لَا تَصْحَبُهُ الْأَوْقَاتُ وَ لَا تَرْفِدُهُ الْأَدَوَاتُ- سَبَقَ الْأَوْقَاتَ کَوْنُهُ- وَ الْعَدَمَ وُجُودُهُ وَ الِابْتِدَاءَ أَوَّلُهُ هذا الفصل یشتمل على مباحث متعدده-

أولها قوله ما وحده من کیفه- و هذا حق لأنه إذا جعله مکیفا- جعله ذا هیئه و شکل- أو ذا لون و ضوء إلى غیرهما من أقسام الکیف- و متى کان کذلک کان جسما و لم یکن واحدا- لأن کل جسم قابل للانقسام- و الواحد حقا لا یقبل الانقسام- فقد ثبت أنه ما وحده من کیفه- .

و ثانیها قوله و لا حقیقته أصاب من مثله- و هذا حق لأنه تعالى لا مثل له- و قد دلت الأدله الکلامیه و الحکمیه على ذلک- فمن أثبت له مثلا فإنه لم یصب‏ حقیقته تعالى- و السجعه الأخرى تعطی هذا المعنى أیضا- من غیر زیاده علیه- و هی قوله ع و لا إیاه عنى من شبهه- و لهذا قال شیوخنا إن المشبه لا یعرف الله- و لا تتوجه عباداته و صلواته إلى الله تعالى- لأنه یعبد شیئا یعتقده جسما- أو یعتقده مشابها لبعض هذه الذوات المحدثه- و العباده تنصرف إلى المعبود بالقصد- فإذا قصد بها غیر الله تعالى لم یکن قد عبد الله سبحانه و لا عرفه- و إنما یتخیل و یتوهم أنه قد عرفه و عبده- و لیس الأمر کما تخیل و توهم- .

و ثالثها قوله ع و لا صمده من أشار إلیه- أی أثبته فی جهه کما تقول الکرامیه- الصمد فی اللغه العربیه السید- و الصمد أیضا الذی لا جوف له- و صار التصمید فی الاصطلاح العرفی عباره عن التنزیه- و الذی قال ع حق لأن من أشار إلیه- أی أثبته فی جهه کما تقوله الکرامیه فإنه ما صمده- لأنه ما نزهه عن الجهات- بل حکم علیه بما هو من خواص الأجسام- و کذلک من توهمه سبحانه- أی من تخیل له فی نفسه صوره أو هیئه أو شکلا- فإنه لم ینزهه عما یجب تنزیهه عنه- .

و رابعها قوله کل معروف بنفسه مصنوع- هذا الکلام یجب أن یتأول- و یحمل على أن کل معروف بالمشاهده و الحس فهو مصنوع- و ذلک لأن الباری سبحانه معروف من طریقین- إحداهما من أفعاله و الأخرى بنفسه- و هی طریقه الحکماء الذین بحثوا فی الوجود من حیث هو وجود- فعلموا أنه لا بد من موجود واجب الوجود- فلم یستدلوا علیه بأفعاله بل أخرج لهم البحث فی الوجود- أنه لا بد من ذات یستحیل عدمها من حیث هی هی- . فإن قلت کیف یحمل کلامه- على أن کل معروف بالمشاهده و الحس فهو مصنوع- و هذا یدخل فیه کثیر من الأعراض کالألوان- و إذا دخل ذلک فسدت علیه الفقره الثانیه-و هی قوله ع و کل قائم فیما سواه معلول- لأنها للأعراض خاصه- فیدخل أحد مدلول الفقرتین فی الأخرى فیختل النظم- قلت یرید ع بالفقره الأولى- کل معروف بنفسه من طریق المشاهده مستقلا بذاته- غیر مفتقر فی تقومه إلى غیره فهو مصنوع- و هذا یختص بالأجسام خاصه- و لا یدخل الألوان و غیرها من الأعراض فیه- لأنها متقومه بمحالها- .

و خامسها قوله و کل قائم فی سواه معلول- أی و کل شی‏ء یتقوم بغیره فهو معلول- و هذا حق لا محاله کالأعراض- لأنها لو کانت واجبه لاستغنت فی تقومها عن سواها- لکنها مفتقره إلى المحل الذی یتقوم به ذواتها- فإذا هی معلوله لأن کل مفتقر إلى الغیر- فهو ممکن فلا بد له من مؤثر- .

و سادسها قوله فاعل لا باضطراب آله- هذا لبیان الفرق بینه و بیننا- فإننا نفعل بالآلات- و هو سبحانه قادر لذاته فاستغنى عن الآله- .

و سابعها قوله مقدر لا بجول فکره- هذا أیضا للفرق بیننا و بینه- لأنا إذا قدرنا أجلنا أفکارنا و ترددت بنا الدواعی- و هو سبحانه یقدر الأشیاء على خلاف ذلک- .

و ثامنها قوله غنی لا باستفاده- هذا أیضا للفرق بیننا و بینه- لأن الغنی منا من یستفید الغنى بسبب خارجی- و هو سبحانه غنی بذاته من غیر استفاده أمر یصیر به غنیا- و المراد بکونه غنیا أن کل شی‏ء من الأشیاء یحتاج إلیه- و أنه سبحانه لا یحتاج إلى شی‏ء من الأشیاء أصلا- .

و تاسعها قوله لا تصحبه الأوقات- هذا بحث شریف جدا- و ذلک لأنه سبحانه لیس بزمان و لا قابل للحرکه- فذاته فوق الزمان و الدهر- أما المتکلمون فإنهم یقولون-إنه تعالى کان و لا زمان و لا وقت- و أما الحکماء فیقولون- إن الزمان عرض قائم بعرض آخر- و ذلک العرض الآخر قائم بجسم- معلول لبعض المعلولات الصادره عنه سبحانه- فالزمان عندهم و إن کان لم یزل- إلا أن العله الأولى لیست واقعه تحته- و ذلک هو المراد بقوله- لا تصحبه الأوقات إن فسرناه على قولهم- و تفسیره على قول المتکلمین أولى- .

و عاشرها قوله و لا ترفده الأدوات- رفدت فلانا إذا أعنته و المراد الفرق بیننا و بینه لأننا مرفودون بالأدوات و لولاها لم یصح منا الفعل- و هو سبحانه بخلاف ذلک- . و حادی عشرها قوله سبق الأوقات کونه- إلى آخر الفصل هذا تصریح بحدوث العالم- . فإن قلت ما معنى قوله و العدم وجوده- و هل یسبق وجوده العدم- مع کون عدم العالم فی الأزل لا أول له- قلت لیس یعنی بالعدم هاهنا- عدم العالم بل عدم ذاته سبحانه- أی غلب وجود ذاته عدمها و سبقها- فوجب له وجود یستحیل تطرق العدم إلیه- أزلا و أبدا بخلاف الممکنات- فإن عدمها سابق بالذات على وجودها و هذا دقیق: بِتَشْعِیرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ- وَ بِمُضَادَّتِهِ بَیْنَ الْأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَهُ- وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَیْنَ الْأَشْیَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِینَ لَهُ- ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَهِ وَ الْوُضُوحَ بِالْبُهْمَهِ- وَ الْجُمُودَ بِالْبَلَلِ وَ الْحَرُورَ بِالصَّرْدِ-مُؤَلِّفٌ بَیْنَ مُتَعَادِیَاتِهَا مُقَارِنٌ بَیْنَ مُتَبَایِنَاتِهَا- مُقَرِّبٌ بَیْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا مُفَرِّقٌ بَیْنَ مُتَدَانِیَاتِهَا- لَا یُشْمَلُ بِحَدٍّ وَ لَا یُحْسَبُ بِعَدٍّ- وَ إِنَّمَا تَحُدُّ الْأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا- وَ تُشِیرُ الآْلَاتُ إِلَى نَظَائِرِهَا المشاعر الحواس قال بلعاء بن قیس-

و الرأس مرتفع فیه مشاعره
یهدی السبیل له سمع و عینان‏

 قال بجعله تعالى المشاعر عرف أن لا مشعر له- و ذلک لأن الجسم لا یصح منه فعل الأجسام- و هذا هو الدلیل الذی یعول علیه المتکلمون- فی أنه تعالى لیس بجسم- . ثم قال و بمضادته بین الأمور عرف أن لا ضد له- و ذلک لأنه تعالى لما دلنا بالعقل على أن الأمور المتضاده- إنما تتضاد على موضوع تقوم به و تحله- کان قد دلنا على أنه تعالى لا ضد له- لأنه یستحیل أن یکون قائما بموضوع یحله- کما تقوم المتضادات بموضوعاتها- .

ثم قال و بمقارنته بین الأشیاء عرف أن لا قرین له- و ذلک لأنه تعالى قرن بین العرض و الجوهر- بمعنى استحاله انفکاک أحدهما عن الآخر- و قرن بین کثیر من الأعراض- نحو ما یقوله أصحابنا فی حیاتی القلب و الکبد- و نحو الإضافات التی یذکرها الحکماء- کالبنوه و الأبوه و الفوقیه و التحتیه- و نحو کثیر من العلل و المعلولات و الأسباب و المسببات- فیما رکبه فی العقول من وجوب هذه المقارنه- و استحاله انفکاک أحد الأمرین‏عن الآخر- علمنا أنه لا قرین له سبحانه- لأنه لو قارن شیئا على حسب هذه المقارنه- لاستحال انفکاکه عنه- فکان محتاجا فی تحقق ذاته تعالى إلیه- و کل محتاج ممکن فواجب الوجود ممکن- هذا محال- .

ثم شرع فی تفصیل المتضادات فقال- ضاد النور بالظلمه و هما عرضان عند کثیر من الناس- و فیهم من یجعل الظلمه عدمیه- . قال و الوضوح بالبهمه یعنی البیاض و السواد- . قال و الجمود بالبلل یعنی الیبوسه و الرطوبه- . قال و الحرور بالصرد یعنی الحراره و البروده- و الحرور هاهنا مفتوح الحاء- یقال إنی لأجد لهذا الطعام- حرورا و حروره فی فمی أی حراره- و یجوز أن یکون فی الکلام مضاف محذوف- أی و حراره الحرور بالصرد- و الحرور هاهنا یکون الریح الحاره- و هی باللیل کالسموم بالنهار- و الصرد البرد- .

ثم قال و إنه تعالى مؤلف بین هذه المتباعدات- المتعادیات المتباینات و لیس المراد من تألیفه بینها- جمعه إیاها فی مکان واحد- کیف و ذلک مستحیل فی نفسه- بل هو سبحانه مؤلف لها فی الأجسام المرکبه- حتى خلع منها صوره مفرده هی المزاج- ألا ترى أنه جمع الحار و البارد و الرطب و الیابس- فمزجه مزجا مخصوصا حتى انتزع منه طبیعه مفرده- لیست حاره مطلقه و لا بارده مطلقه- و لا رطبه مطلقه و لا یابسه مطلقه و هی المزاج- و هو محدود عند الحکماء- بأنه کیفیه حاصله من کیفیات متضاده- و هذا هو محصول کلامه ع بعینه- . و العجب من فصاحته فی ضمن حکمته- کیف أعطى کل لفظه من هذه اللفظات- ما یناسبها و یلیق بها- فأعطى المتباعدات لفظه مقرب- لأن البعد بإزاء القرب-و أعطى المتباینات لفظه مقارن- لأن البینونه بإزاء المقارنه- و أعطى المتعادیات لفظه مؤلف- لأن الائتلاف بإزاء التعادی- .

ثم عاد ع فعکس المعنى- فقال مفرق بین متدانیاتها- فجعل الفساد بإزاء الکون و هذا من دقیق حکمته ع- و ذلک لأن کل کائن فاسد- فلما أوضح ما أوضح فی الکون و الترکیب و الإیجاد- أعقبه بذکر الفساد و العدم فقال- مفرق بین متدانیاتها- و ذلک لأن کل جسم مرکب من العناصر المختلفه الکیفیات- المتضاده الطبائع فإنه سیئول إلى الانحلال و التفرق- . ثم قال لا یشمل بحد- و ذلک لأن الحد الشامل ما کان مرکبا من جنس و فصل- و الباری تعالى منزه عن ذلک- لأنه لو شمله الحد على هذا الوجه یکون مرکبا- فلم یکن واجب الوجود و قد ثبت أنه واجب الوجود- و یجوز أن یعنى به أنه لیس بذی نهایه فتحویه الأقطار و تحده- .

ثم قال و لا یحسب بعد یحتمل أن یرید- لا تحسب أزلیته بعد أی لا یقال له- منذ وجد کذا و کذا- کما یقال للأشیاء المتقاربه العهد- و یحتمل أن یرید به أنه لیس مماثلا للأشیاء- فیدخل تحت العدد- کما تعد الجواهر و کما تعد الأمور المحسوسه- . ثم قال و إنما تحد الأدوات أنفسها- و تشیر الآلات إلى نظائرها- هذا یؤکد معنى التفسیر الثانی- و ذلک لأن الأدوات کالجوارح- إنما تحد و تقدر ما کان مثلها من ذوات المقادیر- و کذلک إنما تشیر الآلات و هی الحواس- إلى ما کان نظیرا لها فی الجسمیه و لوازمها- و الباری تعالى لیس بذی مقدار و لا جسم- و لا حال فی جسم- فاستحال أن تحده الأدوات و تشیر إلیه الآلات‏:

 مَنَعَتْهَا مُنْذُ الْقِدْمَهَ وَ حَمَتْهَا قَدْ الْأَزَلِیَّهَ- وَ جَنَّبَتْهَا لَوْلَا التَّکْمِلَهَ بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ- وَ بِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُیُونِ- وَ لَا تَجْرِی عَلَیْهِ الْحَرَکَهُ وَ السُّکُونُ- وَ کَیْفَ یَجْرِی عَلَیْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ- وَ یَعُودُ فِیهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ وَ یَحْدُثُ فِیهِ مَا هُوَ أَحْدَثَهُ- إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ وَ لَتَجَزَّأَ کُنْهُهُ- وَ لَامْتَنَعَ مِنَ الْأَزَلِ مَعْنَاهُ- وَ لَکَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ- وَ لَالْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ- وَ إِذاً لَقَامَتْ آیَهُ الْمَصْنُوعِ فِیهِ- وَ لَتَحَوَّلَ دَلِیلًا بَعْدَ أَنْ کَانَ مَدْلُولًا عَلَیْهِ- وَ خَرَجَ بِسُلْطَانِ الِامْتِنَاعِ- مِنْ أَنْ یُؤَثِّرَ فِیهِ مَا یُؤَثِّرُ فِی غَیْرِهِ قد

اختلف الرواه فی هذا الموضع من وجهین- أحدهما قول من نصب القدمه و الأزلیه و التکمله- فیکون نصبها عنده على أنها مفعول ثان- و المفعول الأول الضمائر المتصله بالأفعال- و تکون منذ و قد و لو لا- فی موضع رفع بأنها فاعله- و تقدیر الکلام أن إطلاق لفظه منذ- على الآلات و الأدوات یمنعها عن کونها قدیمه- لأن لفظه منذ وضعت لابتداء الزمان- کلفظه من لابتداء المکان- و القدیم لا ابتداء له و کذلک إطلاق لفظه قد- على الآلات و الأدوات تحمیها و تمنعها من کونها أزلیه- لأن قد لتقریب الماضی من الحال- تقول قد قام زید- فقد دل على أن قیامه قریب من الحال- التی أخبرت فیهابقیامه- و الأزلی لا یصح ذلک فیه- و کذلک إطلاق لفظه لو لا على الأدوات و الآلات- یجنبها التکمله و یمنعها من التمام المطلق- لأن لفظه لو لا وضعت لامتناع الشی‏ء لوجود غیره- کقولک لو لا زید لقام عمرو- فامتناع قیام عمرو إنما هو لوجود زید- و أنت تقول فی الأدوات و الآلات و کل جسم- ما أحسنه لو لا أنه فان و ما أتمه لو لا کذا- فیکون المقصد و المنحى بهذا الکلام على هذه الروایه- بیان أن الأدوات و الآلات محدثه ناقصه- و المراد بالآلات و الأدوات أربابها- .

الوجه الثانی قول من رفع القدمه- و الأزلیه و التکمله- فیکون کل واحد منها عنده فاعلا- و تکون الضمائر المتصله بالأفعال مفعولا أولا- و منذ و قد و لو لا مفعولا ثانیا- و یکون المعنى أن قدم الباری و أزلیته و کماله- منعت الأدوات و الآلات من إطلاق لفظه- منذ و قد و لو لا علیه سبحانه- لأنه تعالى قدیم کامل- و لفظتا منذ و قد لا یطلقان إلا على محدث- لأن إحداهما لابتداء الزمان و الأخرى لتقریب الماضی من الحال- و لفظه لو لا لا تطلق إلا على ناقص- فیکون المقصد و المنحى بهذا الکلام على هذه الروایه- بیان قدم الباری تعالى و کماله- و أنه لا یصح أن یطلق علیه- ألفاظ تدل على الحدوث و النقص- .

قوله ع بها تجلى صانعها للعقول- و بها امتنع عن نظر العیون- أی بهذه الآلات و الأدوات التی هی حواسنا و مشاعرنا- و بخلقه إیاها و تصویره لها تجلى للعقول و عرف- لأنه لو لم یخلقها لم یعرف- و بها امتنع عن نظر العیون- أی بها استنبطنا استحاله کونه مرئیا بالعیون- لأنا بالمشاعر و الحواس کملت عقولنا- و بعقولنا استخرجنا الدلاله على أنه لا تصح رؤیته- فإذن بخلقه الآلات و الأدوات لنا عرفناه عقلا- و بذلک‏أیضا عرفنا أنه یستحیل- أن یعرف بغیر العقل- و أن قول من قال- إنا سنعرفه رؤیه و مشافهه بالحاسه باطل- .

قوله ع لا تجری علیه الحرکه و السکون- هذا دلیل أخذه المتکلمون عنه ع- فنظموه فی کتبهم و قرروه- و هو أن الحرکه و السکون معان محدثه- فلو حلت فیه لم یخل منها- و ما لم یخل من المحدث فهو محدث- . فإن قلت إنه ع لم یخرج کلامه هذا المخرج- و إنما قال کیف یجری علیه ما هو أجراه- و هذا نمط آخر غیر ما یقرره المتکلمون- قلت بل هو هو بعینه- لأنه إذا ثبت أنه هو الذی أجرى الحرکه و السکون- أی أحدثهما لم یجز أن یجریا علیه- لأنهما لو جریا علیه لم یخل- إما أن یجریا علیه على التعاقب- و لیسا و لا واحد منهما بقدیم- أو یجریا علیه على أن أحدهما قدیم ثم تلاه الآخر- و الأول باطل بما یبطل به حوادث لا أول لها- و الثانی باطل بکلامه ع- و ذلک لأنه لو کان أحدهما قدیما معه سبحانه- لما کان أجراه لکن قد قلنا أنه أجراه- أی أحدثه و هذا خلف محال- و أیضا فإذا کان أحدهما قدیما معه- لم یجز أن یتلوه الآخر لأن القدیم لا یزول بالمحدث- .

ثم قال ع إذا لتفاوتت ذاته و لتجزأ کنهه- و لامتنع من الأزل معناه- هذا تأکید لبیان استحاله جریان الحرکه و السکون علیه- تقول لو صح علیه ذلک لکان محدثا- و هو معنى قوله لامتنع من الأزل معناه- و أیضا کان ینبغی أن تکون ذاته منقسمه- لأن المتحرک الساکن لا بد أن یکون متحیزا- و کل متحیز جسم و کل جسم منقسم أبدا- و فی هذا إشاره إلى نفی الجوهر الفرد- .

ثم قال ع و لکان له وراء إذا وجد له أمام- هذا یؤکد ما قلناه إنه إشاره إلى نفی الجوهر الفرد- یقول لو حلته الحرکه لکان جرما و حجما- و لکان أحد وجهیه غیر الوجه الآخر لا محاله- فکان منقسما- و هذا الکلام لا یستقیم إلا مع نفی الجوهر الفرد- لأن من أثبته یقول یصح أن تحله الحرکه- و لا یکون أحد وجهیه غیر الآخر- فلا یلزم أن یکون له وراء و أمام- . ثم قال ع و لا التمس التمام إذ لزمه النقصان- هذا إشاره إلى ما یقوله الحکماء- من أن الکون عدم و نقص- و الحرکه وجود و کمال فلو کان سبحانه یتحرک و یسکن- لکان حال السکون ناقصا قد عدم عنه کماله- فکان ملتمسا کماله بالحرکه الطارئه على السکون- و واجب الوجود یستحیل أن یکون له حاله نقصان- و أن یکون له حاله بالقوه و أخرى بالفعل- .

قوله ع إذا لقامت آیه المصنوع فیه- و ذلک لأن آیه المصنوع- کونه متغیرا منتقلا من حال إلى حال- لأنا بذلک استدللنا على حدوث الأجسام- فلو کان تعالى متغیرا متحرکا منتقلا من حال إلى حال- لتحقق فیه دلیل الحدوث فکان مصنوعا- و قد ثبت أنه الصانع المطلق سبحانه- . قوله ع و لتحول دلیلا بعد أن کان مدلولا علیه- یقول إنا وجدنا دلیلنا على الباری سبحانه- أنما هو الأجسام المتحرکه- فلو کان الباری متحرکا لکان دلیلا على غیره- و کان فوقه صانع آخر صنعه و أحدثه- لکنه سبحانه لا صانع له و لا ذات فوق ذاته- فهو المدلول علیه و المنتهى إلیه- . قوله ع و خرج بسلطان الامتناع- من أن یؤثر فیه ما أثر فی غیره- فی هذا الکلام یتوهم سامعه أنه عطف على قوله- لتفاوتت و لتجزأ و لامتنع-و لکان له و لالتمس و لقامت- و لتحول و لیس کذلک- لأنه لو کان معطوفا علیها لاختل الکلام و فسد- لأنها کلها مستحیلات علیه تعالى- و المراد لو تحرک لزم هذه المحالات کلها- .

و قوله و خرج بسلطان الامتناع- لیس من المستحیلات علیه بل هو واجب له- و من الأمور الصادقه علیه- فإذا فسد أن یکون معطوفا علیها- وجب أن یکون معطوفا على ما کان مدلولا علیه- و تقدیر الکلام کان یلزم- أن یتحول الباری دلیلا على غیره- بعد أن کان مدلولا علیه- و بعد أن خرج بسلطان الامتناع من أن یؤثر فیه- ما أثر فی غیره- و خروجه بسلطان الامتناع المراد به- وجوب الوجود و التجرید- و کونه لیس بمتحیز و لا حال فی المتحیز- فهذا هو سلطان الامتناع الذی به خرج عن أن یؤثر فیه- ما أثر فی غیره من الأجسام و الممکنات:

الَّذِی لَا یَحُولُ وَ لَا یَزُولُ وَ لَا یَجُوزُ عَلَیْهِ الْأُفُولُ- لَمْ یَلِدْ فَیَکُونَ مَوْلُوداً وَ لَمْ یُولَدْ فَیَصِیرَ مَحْدُوداً- جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَبْنَاءِ وَ طَهُرَ عَنْ مُلَامَسَهِ النِّسَاءِ- لَا تَنَالُهُ الْأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ وَ لَا تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ- وَ لَا تُدْرِکُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ وَ لَا تَلْمِسُهُ الْأَیْدِی فَتَمَسَّهُ- وَ لَا یَتَغَیَّرُ بِحَالٍ وَ لَا یَتَبَدَّلُ فِی الْأَحْوَالِ- وَ لَا تُبْلِیهِ اللَّیَالِی وَ الْأَیَّامُ وَ لَا یُغَیِّرُهُ الضِّیَاءُ وَ الظَّلَامُ هذا الفصل کله واضح مستغن عن الشرح- إلا قوله ع لم یلدفیکون مولودا- لأن لقائل أن یقول- کیف یلزم من فرض کونه والدا أن یکون مولودا- فی جوابه أنه لیس معنى الکلام- أنه یلزم من فرض وقوع أحدهما وقوع الآخر- و کیف و آدم والد و لیس بمولود- و إنما المراد أنه یلزم من فرض صحه کونه والدا- صحه کونه مولودا و التالی محال و المقدم محال- و إنما قلنا إنه یلزم من فرض صحه کونه والدا- صحه کونه مولودا لأنه لو صح أن یکون والدا- على التفسیر المفهوم من الوالدیه- و هو أن یتصور من بعض أجزائه- حی آخر من نوعه على سبیل الاستحاله لذلک الجزء- کما نعقله فی النطفه المنفصله من الإنسان- المستحیله إلى صوره أخرى- حتى یکون منها بشر آخر من نوع الأول- لصح علیه أن یکون هو مولودا من والد آخر قبله- و ذلک لأن الأجسام متماثله فی الجسمیه- و قد ثبت ذلک بدلیل عقلی- واضح فی مواضعه التی هی أملک به- و کل مثلین فإن أحدهما یصح علیه ما یصح على الآخر- فلو صح کونه والدا یصح کونه مولودا- .

و أما بیان أنه لا یصح کونه مولودا- فلأن کل مولود متأخر عن والده بالزمان- و کل متأخر عن غیره بالزمان محدث- فالمولود محدث و الباری تعالى قد ثبت أنه قدیم- و أن الحدوث علیه محال- فاستحال أن یکون مولودا و تم الدلیل: وَ لَا یُوصَفُ بِشَیْ‏ءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ- وَ لَا بِالْجَوَارِحِ وَ الْأَعْضَاءِ وَ لَا بِعَرَضٍ مِنَ الْأَعْرَاضِ- وَ لَا بِالْغَیْرِیَّهِ وَ الْأَبْعَاضِ- وَ لَا یُقَالُ لَهُ حَدٌّ وَ لَا نِهَایَهٌ وَ لَا انْقِطَاعٌ وَ لَا غَایَهٌ- وَ لَا أَنَّ الْأَشْیَاءَ تَحْوِیهِ فَتُقِلَّهُ أَوْ تُهْوِیَهُ- أَوْ أَنَّ شَیْئاً یَحْمِلُهُ فَیُمِیلَهُ‏أَوْ یَعْدِلَهُ- لَیْسَ فِی الْأَشْیَاءِ بِوَالِجٍ وَ لَا عَنْهَا بِخَارِجٍ- یُخْبِرُ لَا بِلِسَانٍ وَ لَهَوَاتٍ- وَ یَسْمَعُ لَا بِخُرُوقٍ وَ أَدَوَاتٍ یَقُولُ وَ لَا یَلْفِظُ- وَ یَحْفَظُ وَ لَا یَتَحَفَّظُ وَ یُرِیدُ وَ لَا یُضْمِرُ- یُحِبُّ وَ یَرْضَى مِنْ غَیْرِ رِقَّهٍ- وَ یُبْغِضُ وَ یَغْضَبُ مِنْ غَیْرِ مَشَقَّهٍ- یَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ کَوْنَهُ کُنْ فَیَکُونُ- لَا بِصَوْتٍ یَقْرَعُ وَ لَا بِنِدَاءٍ یُسْمَعُ- وَ إِنَّمَا کَلَامُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَ مَثَّلَهُ- لَمْ یَکُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِکَ کَائِناً- وَ لَوْ کَانَ قَدِیماً لَکَانَ إِلَهاً ثَانِیاً

فی هذا الفصل مباحث

أولها– أن الباری سبحانه لا یوصف بشی‏ء من الأجزاء- أی لیس بمرکب لأنه لو کان مرکبا لافتقر إلى أجزائه- و أجزاؤه لیست نفس هویته- و کل ذات تفتقر هویتها إلى أمر من الأمور فهی ممکنه- لکنه واجب الوجود فاستحال أن یوصف بشی‏ء من الأجزاء- .

و ثانیها أنه لا یوصف بالجوارح و الأعضاء- کما یقول مثبتو الصوره- و ذلک لأنه لو کان کذلک لکان جسما- و کل جسم ممکن و واجب الوجود غیر ممکن- .

و ثالثها أنه لا یوصف بعرض من الأعراض- کما یقوله الکرامیه- لأنه لو حله العرض لکان ذلک العرض- لیس بأن یحل فیه أولى- من أن یحل هو فی العرض- لأن معنى‏الحلول حصول العرض فی حیز المحل- تبعا لحصول المحل فیه- فما لیس بمتحیز لا یتحقق فیه معنى الحلول- و لیس بأن یجعل محلا أولى من أن یجعل حالا- .

و رابعها أنه لا یوصف بالغیریه و الأبعاض- أی لیس له بعض و لا هو ذو أقسام- بعضها غیرا للبعض الآخر- و هذا یرجع إلى البحث الأول- .

و خامسها أنه لا حد له و لا نهایه- أی لیس ذا مقدار و لذلک المقدار طرف و نهایه- لأنه لو کان ذا مقدار لکان جسما- لأن المقدار من لوازم الجسمیه- و قد ثبت أنه تعالى لیس بجسم- .

و سادسها أنه لا انقطاع لوجوده و لا غایه- لأنه لو جاز علیه العدم فی المستقبل لکان وجوده الآن- متوقفا على عدم سبب عدمه- و کل متوقف على الغیر فهو ممکن فی ذاته- و الباری تعالى واجب الوجوب فاستحال علیه العدم- و أن یکون لوجوده انقطاع أو ینتهی إلى غایه یعدم عندها- .

و سابعها أن الأشیاء لا تحویه فتقله- أی ترفعه أو تهویه أی تجعله هاویا إلى جهه تحت- لأنه لو کان کذلک- لکان ذا مقدار أصغر من مقدار الشی‏ء الحاوی له- لکن قد بینا أنه یستحیل علیه المقادیر- فاستحال کونه محویا- .

و ثامنها أنه لیس یحمله شی‏ء فیمیله إلى جانب- أو یعدله بالنسبه إلى جمیع الجوانب- لأن کل محمول مقدر و کل مقدر جسم- و قد ثبت أنه لیس بجسم- .

و تاسعها أنه لیس فی الأشیاء بوالج أی داخل- و لا عنها بخارج هذا مذهب الموحدین- و الخلاف فیه مع الکرامیه و المجسمه- و ینبغی أن یفهم قوله ع و لا عنها بخارج- أنه لا یرید سلب الولوج- فیکون قد خلا من النقیضین لأن ذلک محال- بل المراد بکونه لیس خارجا عنها- أنه لیس کما یعتقده کثیر من الناس- أن الفلک الأعلى المحیط لا یحتوی علیه- و لکنه ذات موجوده متمیزه بنفسها- قائمه بذاتها- خارجه عن الفلک فی الجهه العلیا- بینها و بین الفلک بعد إما غیر متناه- على ما یحکى عن ابن الهیصم- أو متناه على ما یذهب إلیه أصحابه- و ذلک أن هذه القضیه و هی قولنا- الباری خارج عن الموجودات کلها- على هذا التفسیر لیست مناقضه للقضیه الأولى- و هی قولنا الباری داخل العالم- لیکون القول بخلوه عنهما قولا بخلوه عن النقیضین- أ لا ترى أنه یجوز أن تکون القضیتان کاذبتین معا- بألا یکون الفلک المحیط محتویا علیه- و لا یکون حاصلا فی جهه خارج الفلک- و لو کانت القضیتان متناقضتین لما استقام ذلک- و هذا کما تقول زید فی الدار زید فی المسجد- فإن هاتین القضیتین لیستا متناقضتین- لجواز ألا یکون زید فی الدار و لا فی المسجد- فإن هاتین لو تناقضتا لاستحال الخروج عن النقیضین- لکن المتناقض زید فی الدار زید لیس فی الدار- و الذی یستشنعه العوام من قولنا- الباری لا داخل العالم و لا خارج العالم- غلط مبنی على اعتقادهم و تصورهم أن القضیتین تتناقضان- و إذا فهم ما ذکرناه بان أنه لیس هذا القول بشنیع- بل هو سهل و حق أیضا- فإنه تعالى لا متحیز و لا حال فی المتحیز- و ما کان کذلک استحال أن یحصل فی جهه- لا داخل العالم و لا خارج العالم- و قد ثبت کونه غیر متحیز و لا حال فی المتحیز- من حیث کان واجب الوجود- فإذن القول بأنه لیس فی الأشیاء بوالج و لا عنها بخارج- صواب و حق- .

و عاشرها أنه تعالى یخبر بلا لسان و لهوات- و ذلک لأن کونه تعالى مخبرا هو کونه فاعلا للخبر- کما أن کونه ضاربا هو کونه فاعلا للضرب- فکما لا یحتاج فی کونه ضاربا- إلى أداه و جارحه یضرب بها- کذلک لا یحتاج فی کونه مخبرا- إلى لسان و لهوات یخبر بها- .

و حادی عشرها أنه تعالى یسمع بلا حروف و أدوات- و ذلک لأن الباری سبحانه حی لا آفه به- و کل حی لا آفه به- فواجب أن یسمع المسموعات و یبصر المبصرات-و لا حاجه به سبحانه إلى حروف و أدوات- کما نحتاج نحن إلى ذلک لأنا أحیاء بحیاه تحلنا- و الباری تعالى حی لذاته- فلما افترقنا فیما به کان سامعا و مبصرا- افترقنا فی الحاجه إلى الأدوات و الجوارح- .

و ثانی عشرها أنه یقول و لا یتلفظ- هذا بحث لفظی و ذلک لأنه قد ورد السمع بتسمیته قائلا- و قد تکرر فی الکتاب العزیز ذکر هذه اللفظه- نحو قوله إِذْ قالَ اللَّهُ یا عِیسى‏ وَ قالَ اللَّهُ إِنِّی مَعَکُمْ- و لم یرد فی السمع إطلاق کونه متلفظا علیه- و فی إطلاقه إیهام کونه ذا جارحه- فوجب الاقتصار على ما ورد و ترک ما لم یرد- .

و ثالث عشرها أنه تعالى یحفظ و لا یتحفظ- أما کونه یحفظ فیطلق على وجهین- أحدهما أنه یحفظ بمعنى أنه یحصی أعمال عباده و یعلمها- و الثانی کونه یحفظهم و یحرسهم من الآفات و الدواهی- و أما کونه لا یتحفظ فیحتمل معنیین- أحدهما أنه لا یجوز أن یطلق علیه أنه یتحفظ الکلام- أی یتکلف کونه حافظا له و محیطا و عالما به- کالواحد منا یتحفظ الدرس لیحفظه- فهو سبحانه حافظ غیر متحفظ- و الثانی أنه لیس بمتحرز و لا مشفق على نفسه- خوفا أن تبدر إلیه بادره من غیره- .

و رابع عشرها أنه یرید و لا یضمر- أما کونه مریدا فقد ثبت بالسمع- نحو قوله تعالى یُرِیدُ اللَّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ- و بالعقل لاختصاص أفعاله بأوقات مخصوصه- و کیفیات مخصوصه جاز أن تقع على خلافها- فلا بد من مخصص لها بما اختصت به- و ذلک کونه مریدا- و أما کونه لا یضمر فهو إطلاق لفظی- لم یأذن فیه الشرع- و فیه إیهام کونه ذا قلب- لأن الضمیر فی العرف اللغوی ما استکن فی القلب- و الباری لیس بجسم- .

و خامس عشرها أنه یحب و یرضى من غیر رقه- و یبغض و یغضب من غیر مشقه- و ذلک لأن محبته للعبد إرادته أن یثیبه- و رضاه عنه أن یحمد فعله- و هذا یصح و یطلق على الباری لا کإطلاقه علینا- لأن هذه الأوصاف یقتضی إطلاقها علینا رقه القلب- و الباری لیس بجسم- و أما بغضه للعبد فإراده عقابه و غضبه- کراهیه فعله و وعیده بإنزال العقاب به- و فی الأغلب إنما یطلق ذلک علینا- و یصح منا مع مشقه تنالنا من إزعاج القلب و غلیان دمه- و الباری لیس بجسم- .

و سادس عشرها أنه یقول لما أراد کونه- کن فیکون من غیر صوت یقرع و نداء یسمع- هذا مذهب شیخنا أبی الهذیل- و إلیه یذهب الکرامیه و أتباعها من الحنابله و غیرهم- و الظاهر أن أمیر المؤمنین ع أطلقه- حملا على ظاهر لفظ القرآن- فی مخاطبه الناس بما قد سمعوه و أنسوا به- و تکرر على أسماعهم و أذهانهم- فأما باطن الآیه و تأویلها الحقیقی- فغیر ما یسبق إلى أذهان العوام فلیطلب من موضعه- .

و سابع عشرها أن کلامه سبحانه فعل منه أنشأه- و مثله لم یکن من قبل ذلک کائنا- و لو کان قدیما لکان إلها ثانیا- هذا هو دلیل المعتزله- على نفی المعانی القدیمه التی منها القرآن- و ذلک لأن القدم عندهم أخص صفات الباری تعالى- أو موجب عن الأخص- فلو أن فی الوجود معنى قدیما قائما بذات الباری- لکان ذلک المعنى مشارکا للباری فی أخص صفاته- و کان یجب لذلک المعنى جمیع ما وجب للباری من الصفات- نحو العالمیه و القادریه و غیرهما فکان إلها ثانیا- . فإن قلت ما معنى قوله ع و مثله- قلت یقال مثلت له کذا تمثیلا- إذا صورت له مثاله بالکتابه أو بغیرها- فالباری مثل القرآن لجبریل ع بالکتابه- فی اللوح المحفوظ فأنزله على محمد ص- .

و أیضا یقال مثل زید بحضرتی إذا حضر قائما- و مثلته بین یدی زید أی أحضرته منتصبا- فلما کان الله تعالى فعل القرآن واضحا بینا- کان قد مثله للمکلفین: لَا یُقَالُ کَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ یَکُنْ- فَتَجْرِیَ عَلَیْهِ الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ- وَ لَا یَکُونُ بَیْنَهَا وَ بَیْنَهُ فَصْلٌ- وَ لَا لَهُ عَلَیْهَا فَضْلٌ فَیَسْتَوِیَ الصَّانِعُ وَ الْمَصْنُوعُ- وَ یَتَکَافَأَ الْمُبْتَدَعُ وَ الْبَدِیعُ- خَلَقَ الْخَلَائِقَ عَلَى غَیْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَیْرِهِ- وَ لَمْ یَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ- وَ أَنْشَأَ الْأَرْضَ فَأَمْسَکَهَا مِنْ غَیْرِ اشْتِغَالٍ- وَ أَرْسَاهَا عَلَى غَیْرِ قَرَارٍ وَ أَقَامَهَا بِغَیْرِ قَوَائِمَ- وَ رَفَعَهَا بِغَیْرِ دَعَائِمَ- وَ حَصَّنَهَا مِنَ الْأَوَدِ وَ الِاعْوِجَاجِ- وَ مَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ وَ الِانْفِرَاجِ- أَرْسَى أَوْتَادَهَا وَ ضَرَبَ أَسْدَادَهَا- وَ اسْتَفَاضَ عُیُونَهَا وَ خَدَّ أَوْدِیَتَهَا- فَلَمْ یَهِنْ مَا بَنَاهُ وَ لَا ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ عاد
ع إلى تنزیه الباری تعالى عن الحدوث- فقال لا یجوز أن یوصف به- فتجری علیه الصفات المحدثات کما تجری على کل محدث- و روی: فتجری علیه صفات المحدثات و هو ألیق- لیعود إلى المحدثات ذوات الصفات ما بعده- و هو قوله ع و لا یکون بینه و بینها فصل- لأنه لا یحسن أن یعود الضمیر فی قوله و بینها- إلى الصفات بل إلى ذوات الصفات- .

قال لو کان محدثا لجرت علیه صفات الأجسام المحدثه- فلم یکن بینه و بین الأجسام المحدثه فرق- فکان یستوی الصانع و المصنوع و هذا محال- . ثم ذکر أنه خلق الخلق غیر محتذ لمثال- و لا مستفید من غیره کیفیه الصنعه بخلاف الواحد منا- فإن الواحد منا لا بد أن یحتذی فی الصنعه- کالبناء و النجار و الصانع و غیرها- . قال ع و لم یستعن على خلقها بأحد من خلقه- لأنه تعالى قادر لذاته لا یعجزه شی‏ء- .

ثم ذکر إنشاءه تعالى الأرض- و أنه أمسکها من غیر اشتغال منه بإمساکها- و غیر ذلک من أفعاله و مخلوقاته- لیس کالواحد منا یمسک الثقیل- فیشتغل بإمساکه عن کثیر من أموره- . قال و أرساها- جعلها راسیه على غیر قرار تتمکن علیه- بل واقفه بإرادته التی اقتضت وقوفها- و لأن الفلک یجذبها من جمیع جهاتها کما قیل- أو لأنه یدفعها من جمیع جهاتها- أو لأن أحد نصفیها صاعد بالطبع و الآخر هابط بالطبع- فاقتضى التعادل وقوفها أو لأنها طالبه للمرکز فوقفت- . و الأود الاعوجاج و کرر لاختلاف اللفظ- . و التهافت التساقط و الأسداد جمع سد- و هو الجبل و یجوز ضم السین- . و استفاض عیونها بمعنى أفاض أی جعلها فائضه- .و خد أودیتها أی شقها- فلم یهن ما بناه أی لم یضعف‏:

 هُوَ الظَّاهِرُ عَلَیْهَا بِسُلْطَانِهِ وَ عَظَمَتِهِ- وَ هُوَ الْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَ مَعْرِفَتِهِ- وَ الْعَالِی عَلَى کُلِّ شَیْ‏ءٍ مِنْهَا بِجَلَالِهِ وَ عِزَّتِهِ- لَا یُعْجِزُهُ شَیْ‏ءٌ مِنْهَا طَلَبَهُ- وَ لَا یَمْتَنِعُ عَلَیْهِ فَیَغْلِبَهُ- وَ لَا یَفُوتُهُ السَّرِیعُ مِنْهَا فَیَسْبِقَهُ- وَ لَا یَحْتَاجُ إِلَى ذِی مَالٍ فَیَرْزُقَهُ- خَضَعَتِ الْأَشْیَاءُ لَهُ وَ ذَلَّتْ مُسْتَکِینَهً لِعَظَمَتِهِ- لَا تَسْتَطِیعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى غَیْرِهِ- فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَ ضَرِّهِ- وَ لَا کُفْ‏ءَ لَهُ فَیُکَافِئَهُ- وَ لَا نَظِیرَ لَهُ فَیُسَاوِیَهُ- هُوَ الْمُفْنِی لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا- حَتَّى یَصِیرَ مَوْجُودُهَا کَمَفْقُودِهَا- وَ لَیْسَ فَنَاءُ الدُّنْیَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا- بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا وَ اخْتِرَاعِهَا- وَ کَیْفَ وَ لَوِ اجْتَمَعَ جَمِیعُ حَیَوَانِهَا مِنْ طَیْرِهَا وَ بَهَائِمِهَا- وَ مَا کَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وَ سَائِمِهَا- وَ أَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وَ أَجْنَاسِهَا- وَ مُتَبَلِّدَهِ أُمَمِهَا وَ أَکْیَاسِهَا- عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَهٍ مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا- وَ لَا عَرَفَتْ کَیْفَ السَّبِیلُ إِلَى إِیجَادِهَا- وَ لَتَحَیَّرَتْ عُقُولُهَا فِی عِلْمِ ذَلِکَ وَ تَاهَتْ- وَ عَجَزَتْ قُوَاهَا وَ تَنَاهَتْ- وَ رَجَعَتْ خَاسِئَهً حَسِیرَهً- عَارِفَهً بِأَنَّهَا مَقْهُورَهٌ مُقِرَّهً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا- مُذْعِنَهً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا الظاهر الغالب القاهر و الباطن العالم الخبیر- .

و المراح بضم المیم النعم ترد إلى المراح بالضم أیضا- و هو الموضع الذی تأوی إلیه النعم- و لیس المراح ضد السائم على ما یظنه بعضهم- و یقول إن عطف أحدهما على الآخر- عطف‏على المختلف و المتضاد- بل أحدهما هو الآخر و ضدهما المعلوفه- و إنما عطف أحدهما على الآخر- على طریقه العرب فی الخطابه- و مثله فی القرآن کثیر نحو قوله سبحانه- لا یَمَسُّنا فِیها نَصَبٌ وَ لا یَمَسُّنا فِیها لُغُوبٌ- .

و أسناخها جمع سنخ بالکسر و هو الأصل -و قوله لو اجتمع جمیع الحیوان على إحداث بعوضه- هو معنى قوله سبحانه إِنَّ الَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ- لَنْ یَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ- . فإن قلت ما معنى قوله- لا تستطیع الهرب من سلطانه إلى غیره- فتمتنع من نفعه و ضره- و هلا قال من ضره- و لم یذکر النفع فإنه لا معنى لذکره هاهنا- قلت هذا کما یقول المعتصم بمعقل حصین عن غیره- ما یقدر الیوم فلان لی على نفع و لا ضر- و لیس غرضه إلا ذکر الضرر- و إنما یأتی بذکر النفع على سبیل سلب القدره عن فلان- على کل ما یتعلق بذلک المعتصم- و أیضا فإن العفو عن المجرم نفع له- فهو ع یقول إنه لیس شی‏ء من الأشیاء- یستطیع أن یخرج إذا أجرم من سلطان الله تعالى إلى غیره- فیمتنع من بأس الله تعالى- و یستغنی عن أن یعفو عنه لعدم اقتداره علیه:

وَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ یَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْیَا وَحْدَهُ لَا شَیْ‏ءَ مَعَهُ- کَمَا کَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا کَذَلِکَ یَکُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا- بِلَا وَقْتٍ وَ لَا مَکَانٍ وَ لَا حِینٍ وَ لَا زَمَانٍ- عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِکَ الآْجَالُ وَ الْأَوْقَاتُ- وَ زَالَتِ السِّنُونَ وَ السَّاعَاتُ- فَلَا شَیْ‏ءَإِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ- الَّذِی إِلَیْهِ مَصِیرُ جَمِیعِ الْأُمُورِ- بِلَا قُدْرَهٍ مِنْهَا کَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا- وَ بِغَیْرِ امْتِنَاعٍ مِنْهَا کَانَ فَنَاؤُهَا- وَ لَوْ قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا- لَمْ یَتَکَاءَدْهُ صُنْعُ شَیْ‏ءٍ مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ- وَ لَمْ یَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا بَرَأَهُ وَ خَلَقَهُ- وَ لَمْ یُکَوِّنْهَا لِتَشْدِیدِ سُلْطَانٍ- وَ لَا لِخَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ وَ نُقْصَانٍ- وَ لَا لِلِاسْتِعَانَهِ بِهَا عَلَى نِدٍّ مُکَاثِرٍ- وَ لَا لِلِاحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِرٍ- وَ لَا لِلِازْدِیَادِ بِهَا فِی مُلْکِهِ- وَ لَا لِمُکَاثَرَهِ شَرِیکٍ فِی شِرْکِهِ- وَ لَا لِوَحْشَهٍ کَانَتْ مِنْهُ- فَأَرَادَ أَنْ یَسْتَأْنِسَ إِلَیْهَا- ثُمَّ هُوَ یُفْنِیهَا بَعْدَ تَکْوِینِهَا- لَا لِسَأَمٍ دَخَلَ عَلَیْهِ فِی تَصْرِیفِهَا وَ تَدْبِیرِهَا- وَ لَا لِرَاحَهٍ وَاصِلَهٍ إِلَیْهِ- وَ لَا لِثِقَلِ شَیْ‏ءٍ مِنْهَا عَلَیْهِ- لَا یُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَیَدْعُوَهُ إِلَى سُرْعَهِ إِفْنَائِهَا- وَ لَکِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ- وَ أَمْسَکَهَا بِأَمْرِهِ وَ أَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ- ثُمَّ یُعِیدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَیْرِ حَاجَهٍ مِنْهُ إِلَیْهَا- وَ لَا اسْتِعَانَهٍ بِشَیْ‏ءٍ مِنْهَا عَلَیْهَا- وَ لَا لِانْصِرَافٍ مِنْ حَالِ وَحْشَهٍ إِلَى حَالِ اسْتِئْنَاسٍ- وَ لَا مِنْ حَالِ جَهْلٍ وَ عَمًى إِلَى عِلْمٍ وَ الْتِمَاسٍ- وَ لَا مِنْ فَقْرٍ وَ حَاجَهٍ إِلَى غِنًى وَ کَثْرَهٍ- وَ لَا مِنْ ذُلٍّ وَ ضَعَهٍ إِلَى عِزٍّ وَ قُدْرَهٍ شرع أولا فی ذکر إعدام الله سبحانه الجواهر- و ما یتبعها و یقوم بها من الأعراض قبل القیامه- و ذلک لأن الکتاب العزیز قد ورد به- نحو قوله تعالى کَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِیدُهُ- و معلوم أنه بدأه عن عدم- فوجب أن تکون الإعاده عن عدم أیضا- و قال تعالى هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ- و إنما کان أولا لأنه کان موجودا- و لاشی‏ء من‏الأشیاء بموجود- فوجب أن یکون آخرا کذلک- هذا هو مذهب جمهور أصحابنا و جمهور المسلمین- .

ثم ذکر أنه یکون وحده سبحانه بلا وقت و لا مکان- و لا حین و لا زمان- و ذلک لأن المکان أما الجسم- الذی یتمکن علیه جسم آخر أو الجهه- و کلاهما لا وجود له بتقدیر عدم الأفلاک- و ما فی حشوها من الأجسام أما الأول فظاهر- و أما الثانی فلأن الجهه- لا تتحقق إلا بتقدیر وجود الفلک- لأنها أمر إضافی بالنسبه إلیه- فبتقدیر عدمه لا یبقى للجهه تحقق أصلا- و هذا هو القول فی عدم المکان حینئذ- و أما الزمان و الوقت و الحین- فکل هذه الألفاظ تعطی معنى واحدا- و لا وجود لذلک المعنى بتقدیر عدم الفلک- لأن الزمان هو مقدار حرکه الفلک- فإذا قدرنا عدم الفلک فلا حرکه و لا زمان- .

ثم أوضح ع ذلک و أکده فقال- عدمت عند ذلک الآجال و الأوقات- و زالت السنون و الساعات- لأن الأجل هو الوقت الذی- یحل فیه الدین أو تبطل فیه الحیاه- و إذا ثبت أنه لا وقت ثبت أنه لا أجل- و کذلک لا سنه و لا ساعه لأنها أوقات مخصوصه- . ثم عاد ع إلى ذکر الدنیا فقال- بلا قدره منها کان ابتداء خلقها- و بغیر امتناع منها کان فناؤها- یعنی أنها مسخره تحت الأمر الإلهی- .

قال و لو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها- لأنها کانت تکون ممانعه للقدیم سبحانه فی مراده- و إنما تمانعه فی مراده لو کانت قادره لذاتها- و لو کانت قادره لذاتها و أرادت البقاء لبقیت- . قوله ع لم یتکاءده بالمد أی لم یشق علیه- و یجوز لم یتکأده بالتشدید و الهمزه- و أصله من العقبه الکئود و هی الشاقه- .

قال و لم یؤده أی لم یثقله- . ثم ذکر أنه تعالى لم یخلق الدنیا لیشد بها سلطانه- و لا لخوفه من زوال أو نقص یلحقه- و لا لیستعین بها على ند مماثل له- أو یحترز بها عن ضد محارب له- أو لیزداد بها ملکه ملکا- أو لیکاثر بها شریکا فی شرکته له- أو لأنه کان قبل خلقها مستوحشا- فأراد أن یستأنس بمن خلق- . ثم ذکر أنه تعالى سیفنیها بعد إیجادها- لا لضجر لحقه فی تدبیرها و لا لراحه تصله فی إعدامها- و لا لثقل شی‏ء منها علیه حال وجودها- و لا لملل أصابه فبعثه على إعدامها- .

ثم عاد ع فقال- إنه سبحانه سیعیدها إلى الوجود بعد الفناء- لا لحاجه إلیها و لا لیستعین ببعضها على بعض- و لا لأنه استوحش حال عدمها فأحب أن یستأنس بإعادتها- و لا لأنه فقد علما عند إعدامها- فأراد بإعادتها استجداد ذلک العلم- و لا لأنه صار فقیرا عند إعدامها- فأحب أن یتکثر و یثری بإعادتها- و لا لذل أصابه بإفنائها فأراد العز بإعادتها- . فإن قلت إذا کان یفنیها لا لکذا و لا لکذا- و کان من قبل أوجدها لا لکذا و لا لکذا- ثم قلتم إنه یعیدها لا لکذا و لا لکذا- فلأی حال أوجدها أولا و لأی حال أفناها ثانیا- و لأی حال أعادها ثالثا خبرونا عن ذلک- فإنکم قد حکیتم عنه علیه السلام الحکم و لم تحکوا عنه العله- قلت إنما أوجدها أولا للإحسان إلى البشر لیعرفوه- فإنه لو لم یوجدهم لبقی مجهولا لا یعرف- ثم کلف البشر لیعرضهم للمنزله الجلیله- التی لا یمکن وصولهم إلیها إلا بالتکلیف و هی الثواب- ثم یفنیهم لأنه لا بد من انقطاع التکلیف- لیخلص الثواب من مشاق التکالیف- و إذا کان لا بد من انقطاعه- فلا فرق بین انقطاعه بالعدم المطلق-أو بتفریق الأجزاء- و انقطاعه بالعدم المطلق قد ورد به الشرع- و فیه لطف زائد للمکلفین- لأنه أردع و أهیب فی صدورهم من بقاء أجزائهم- و استمرار وجودها غیر معدومه- .

ثم إنه سبحانه یبعثهم و یعیدهم- لیوصل إلى کل إنسان ما یستحقه من ثواب أو عقاب- و لا یمکن إیصال هذا المستحق إلا بالإعاده- و إنما لم یذکر أمیر المؤمنین ع هذه التعلیلات- لأنه قد أشار إلیها فیما تقدم من کلامه- و هی موجوده فی فرش خطبه- و لأن مقام الموعظه غیر مقام التعلیل- و أمیر المؤمنین ع فی هذه الخطبه یسلک مسلک الموعظه- فی ضمن تمجید الباری سبحانه و تعظیمه- و لیس ذلک بمظنه التعلیل و الحجاج

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۶۴

خطبه ۲۳۱ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۳۱ و من خطبه له ع

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی لَا تُدْرِکُهُ الشَّوَاهِدُ- وَ لَا تَحْوِیهِ الْمَشَاهِدُ- وَ لَا تَرَاهُ النَّوَاظِرُ- وَ لَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ- الدَّالِّ عَلَى قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ- وَ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى وُجُودِهِ- وَ بِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لَا شَبَهَ لَهُ- الَّذِی صَدَقَ فِی مِیعَادِهِ- وَ ارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ- وَ قَامَ بِالْقِسْطِ فِی خَلْقِهِ- وَ عَدَلَ عَلَیْهِمْ فِی حُکْمِهِ- مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الْأَشْیَاءِ عَلَى أَزَلِیَّتِهِ- وَ بِمَا وَسَمَهَا بِهِ مِنَ الْعَجْزِ عَلَى قُدْرَتِهِ- وَ بِمَا اضْطَرَّهَا إِلَیْهِ مِنَ الْفَنَاءِ عَلَى دَوَامِهِ- وَاحِدٌ لَا بِعَدَدٍ وَ دَائِمٌ لَا بِأَمَدٍ وَ قَائِمٌ لَا بِعَمَدٍ- تَتَلَقَّاهُ الْأَذْهَانُ لَا بِمُشَاعَرَهٍ- وَ تَشْهَدُ لَهُ الْمَرَائِی لَا بِمُحَاضَرَهٍ- لَمْ تُحِطْ بِهِ الْأَوْهَامُ بَلْ تَجَلَّى لَهَا بِهَا- وَ بِهَا امْتَنَعَ مِنْهَا وَ إِلَیْهَا حَاکَمَهَا- لَیْسَ بِذِی کِبَرٍ امْتَدَّتْ بِهِ النِّهَایَاتُ فَکَبَّرَتْهُ تَجْسِیماً- وَ لَا بِذِی عِظَمٍ تَنَاهَتْ بِهِ الْغَایَاتُ فَعَظَّمَتْهُ تَجْسِیداً- بَلْ کَبُرَ شَأْناً وَ عَظُمَ سُلْطَاناً- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ الصَّفِیُّ- وَ أَمِینُهُ الرَّضِیُّ ص- أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ وَ ظُهُورِ الْفَلَجِ وَ إِیضَاحِ الْمَنْهَجِ- فَبَلَّغَ الرِّسَالَهَ صَادِعاً بِهَا- وَ حَمَلَ عَلَى الْمَحَجَّهِ دَالًّا عَلَیْهَا- وَ أَقَامَ أَعْلَامَ الِاهْتِدَاءِ وَ مَنَارَ الضِّیَاءِ- وَ جَعَلَ أَمْرَاسَ الْإِسْلَامِ مَتِینَهً- وَ عُرَا الْإِیمَانِ وَثِیقَهً

الشواهد هاهنا یرید بها الحواس- و سماها شواهد إما لحضورها- شهد فلان کذا أی حضره- أو لأنها تشهد على ما تدرکه و تثبته عند العقل- کما یشهد الشاهد بالشی‏ء و یثبته عند الحاکم- . و المشاهد هاهنا المجالس و النوادی- یقال حضرت مشهد بنی فلان أی نادیهم و مجتمعهم- . ثم فسر اللفظه الأولى و أبان عن مراده بها بقوله- و لا تراه النواظر- و فسر اللفظه الثانیه و أبان عن مرادها- فقال و لا تحجبه السواتر- .

ثم قال الدال على قدمه بحدوث خلقه- و بحدوث خلقه على وجوده- هذا مشکل لأن لقائل أن یقول- إذا دل على قدمه بحدوث خلقه- فقد دخل فی جمله المدلول کونه موجودا- لأن القدیم هو الموجود و لم یزل- فأی حاجه إلى أن یعود فیقول- و بحدوث خلقه على وجوده- . و لمجیب أن یجیب على طریقه شیوخنا أصحاب أبی هاشم- فیقول لا یلزم من الاستدلال بحدوث الأجسام- على أنه لا بد من محدث قدیم کونه موجودا- لأن عندهم أن الذات المعدومه قد تتصف بصفات ذاتیه- و هی معدومه- فلا یلزم من کون صانع العالم عندهم عالما قادرا حیا- أن یکون موجودا بل لا بد من دلاله زائده- على أن له صفه الوجود و هی و الدلاله التی یذکرونها- من أن کونه قادرا عالما- تقتضی تعلقه بالمقدور و المعلوم و کل ذات متعلقه- فإن عدمها یخرجها عن التعلق کالإراده- فلو کان تعالى معدوما لم یجز أن یکون متعلقا- فحدوث الأجسام إذا قد دل على أمرین من وجهین مختلفین- أحدهما أنه لا بد من صانع له و هذا هو المعنی بقدمه- .

و الثانی أن هذا الصانع له صفه- لأجلها یصح على ذاته أن تکون قادره عالمه- و هذا هو المعنی بوجوده- . فإن قلت أ یقول أصحاب شیخکم أبی هاشم- إن الذات المعدومه التی لا أول لها تسمى قدیمه- قلت لا و البحث فی هذا بحث فی اللفظ لا فی المعنى- . و المراد بقوله ع الدال بحدوث الأشیاء على قدمه- أی على کونه ذاتا لم یجعلها جاعل- و لیس المراد بالقدم هاهنا الوجود لم یزل- بل مجرد الذاتیه لم یزل- . ثم یستدل بعد ذلک بحدوث الأشیاء- على أن له صفه أخرى لم تزل زائده على مجرد الذاتیه- و تلک الصفه هی وجوده- فقد اتضح المراد الآن- .

فإن قلت فهل لهذا الکلام مساغ على مذهب البغدادیین- قلت نعم إذا حمل على منهج التأویل- بأن یرید بقوله و بحدوث خلقه على وجوده- أی على صحه إیجاده له فیما بعد- أی إعادته بعد العدم یوم القیامه- لأنه إذا صح منه تعالى إحداثه ابتداء- صح منه إیجاده ثانیا على وجه الإعاده- لأن الماهیه قابله للوجود و العدم- و القادر قادر لذاته- فأما من روى بحدوث خلقه على وجوده- فإنه قد سقطت عنه هذه الکلف کلها- و المعنى على هذا ظاهر- لأنه تعالى دل المکلفین بحدوث خلقه على أنه جواد منعم- و مذهب أکثر المتکلمین- أنه خلق العالم جودا و إنعاما و إحسانا إلیهم- . قوله ع و باشتباههم على أن لا شبه له- هذا دلیل صحیح- و ذلک لأنه إذا ثبت أن جسما ما محدث- ثبت أن سائر الأجسام محدثه لأن الأجسام متماثله- و کل ما صح على الشی‏ء صح على مثله- و کذلک إذا ثبت أن سوادا ما أو بیاضا ما محدث- ثبت أن سائر السوادات و البیاضات محدثه- لأن حکم الشی‏ء حکم مثله- و السواد فی معنى‏کونه سوادا غیر مختلف- و کذلک البیاض- فصارت الدلاله هکذا- الذوات التی عندنا یشبه بعضها بعضا و هی محدثه- فلو کان الباری سبحانه یشبه شیئا منها لکان مثلها- و لکان محدثا لأن حکم الشی‏ء حکم مثله- لکنه تعالى لیس بمحدث- فلیس بمشابه لشی‏ء منها- فقد صح إذا قوله ع و باشتباههم على أن لا شبه له- .

قوله ع الذی صدق فی میعاده- لا یجوز ألا یصدق لأن الکذب قبیح عقلا- و الباری تعالى یستحیل منه- من جهه الداعی و الصارف أن یفعل القبیح- . قوله ع و ارتفع عن ظلم عباده- هذا هو مذهب أصحابنا المعتزله و عن أمیر المؤمنین ع أخذوه- و هو أستاذهم و شیخهم فی العدل و التوحید- فأما الأشعریه- فإنها و إن کانت تمتنع عن إطلاق القول- بأن الله تعالى یظلم العباد- إلا أنها تعطی المعنى فی الحقیقه- لأن الله عندهم یکلف العباد ما لا یطیقونه- بل هو سبحانه عندهم لا یکلفهم إلا ما لا یطیقونه- بل هو سبحانه عندهم لا یقدر على أن یکلفهم ما یطیقونه- و ذلک لأن القدره عندهم مع الفعل- فالقاعد غیر قادر على القیام- و إنما یکون قادرا على القیام عند حصول القیام- و یستحیل عندهم أن یوصف الباری تعالى- بإقدار العبد القاعد على القیام- و هو مع ذلک مکلف له أن یقوم- و هذا غایه ما یکون من الظلم- سواء أطلقوا هذه اللفظه علیه أو لم یطلقوها- .

ثم أعاد الکلام الأول فی التوحید تأکیدا- فقال حدوث الأشیاء دلیل على قدمه- و کونها عاجزه عن کثیر من الأفعال دلیل على قدرته- و کونها فانیه دلیل على بقائه- . فإن قلت- أما الاستدلال بحدوث الأشیاء على قدمه فمعلوم- فکیف یکون الاستدلال على الأمرین الأخیرین-قلت إذا شارکه سبحانه- بعض الموجودات فی کونه موجودا- و افترقا فی أن أحدهما لا یصح منه فعل الجسم- و لا الکون و لا الحیاه و لا الوجود المحدث- و یصح ذلک من الموجودات القدیمه- دل على افتراقهما فی أمر لأجله صح من القدیم ذلک- و تعذر ذلک على المحدث- و ذلک الأمر هو الذی یسمى من کان علیه قادرا- و ینبغی أن تحمل لفظه العجز هاهنا على المفهوم اللغوی- و هو تعذر الإیجاد- لا على المفهوم الکلامی- .

و أما الاستدلال الثانی- فینبغی أن یحمل الفناء هاهنا على المفهوم اللغوی- و هو تغیر الصفات و زوالها- لا على المفهوم الکلامی فیصیر تقدیر الکلام- لما کانت الأشیاء التی بیننا تتغیر و تتحول- و تنتقل من حال إلى حال- و علمنا أن العله المصححه لذلک کونها محدثه- علمنا أنه سبحانه لا یصح علیه التنقل و التغیر- لأنه لیس بمحدث- ثم قال واحد لا بعدد- لأن وحدته ذاتیه و لیست صفه زائده علیه- و هذا من الأبحاث الدقیقه فی علم الحکمه- و لیس هذا الکتاب موضوعا لبسط القول فی أمثاله- .

ثم قال دائم لا بأمد لأنه تعالى لیس بزمانی- و داخل تحت الحرکه و الزمان- و هذا أیضا من دقائق العلم الإلهی- و العرب دون أن تفهم هذا أو تنطق به- و لکن هذا الرجل کان ممنوحا من الله تعالى- بالفیض المقدس و الأنوار الربانیه- . ثم قال قائم لا بعمد- لأنه لما کان فی الشاهد کل قائم فله عماد یعتمد علیه- أبان ع تنزیهه تعالى عن المکان- و عما یتوهمه الجهلاء من أنه مستقر على عرشه بهذه اللفظه- و معنى القائم هاهنا لیس ما یسبق إلى الذهن- من أنه المنتصب بل ما تفهمه من قولک- فلان قائم بتدبیر البلد و قائم بالقسط- . ثم قال تتلقاه الأذهان لا بمشاعره- أی تتلقاه تلقیا عقلیا- لیس کما یتلقى الجسم الجسم- بمشاعره و حواسه و جوارحه- و ذلک لأن تعقل الأشیاء- و هو حصول صورهافی العقل بریئه من الماده- و المراد بتلقیه سبحانه هاهنا تلقی صفاته- لا تلقی ذاته تعالى لأن ذاته تعالى لا تتصورها العقول- و سیأتی إیضاح أن هذا مذهبه ع- .

ثم قال و تشهد له المرائی لا بمحاضره- المرائی جمع مرئی و هو الشی‏ء المدرک بالبصر- یقول المرئیات تشهد بوجود الباری- لأنه لو لا وجوده لما وجدت- و لو لم توجد لم تکن مرئیات- و هی شاهده بوجوده لا کشهادتها بوجود الأبصار- لأنها شهدت بوجود الأبصار لحضورها فیها- و أما شهادتها بوجود الباری- فلیست بهذه الطریق بل بما ذکرناه- و الأولى أن یکون المرائی هاهنا جمع مرآه بفتح المیم- من قولهم هو حسن فی مرآه عینی- یقول إن جنس الرؤیه یشهد بوجود الباری- من غیر محاضره منه للحواس- . قوله ع لم تحط به الأوهام- إلى قوله ع و إلیها حاکمها- هذا الکلام دقیق و لطیف- و الأوهام هاهنا هی العقول- یقول إنه سبحانه لم تحط به العقول- أی لم تتصور کنه ذاته- و لکنه تجلى للعقول بالعقول- و تجلیه هاهنا هو کشف ما یمکن أن تصل إلیه العقول- من صفاته الإضافیه و السلبیه لا غیر- و کشف ما یمکن أن تصل إلیه العقول- من أسرار مخلوقاته- فأما غیر ذلک فلا- و ذلک لأن البحث النظری قد دل- على أنا لم نعلم منه سبحانه إلا الإضافه و السلب- أما الإضافه فکقولنا عالم قادر- و أما السلب فکقولنا لیس بجسم- و لا عرض و لا یرى- فأما حقیقه الذات المقدسه المخصوصه من حیث هی هی- فإن العقل لا یتصورها- و هذا مذهب الحکماء و بعض المتکلمین- من أصحابنا و من غیرهم- .

ثم قال و بالعقول امتنع من العقول- أی و بالعقول و بالنظر- علمنا أنه تعالى یمتنع أن تدرکه العقول- . ثم قال و إلى العقول حکم العقول- أی جعل العقول المدعیه أنها أحاطت‏به- و أدرکته کالخصم له سبحانه- ثم حاکمها إلى العقول السلیمه الصحیحه النظر- فحکمت له سبحانه- على العقول المدعیه لما لیست أهلا له- . و اعلم أن القول بالحیره فی جلال ذات الباری- و الوقوف عند حد محدود لا یتجاوزه العقل- قول ما زال فضلاء العقلاء قائلین به

من أشعار الشارح فی المناجاه

و من شعری الذی أسلک فیه مسلک المناجاه عند خلواتی- و انقطاعی بالقلب إلیه سبحانه قولی-

و الله لا موسى و لا عیسى
المسیح و لا محمد

علموا و لا جبریل و هو
إلى محل القدس یصعد

کلا و لا النفس البسیطه
لا و لا العقل المجرد

من کنه ذاتک غیر أنک‏
واحدی الذات سرمد

وجدوا إضافات و سلبا
و الحقیقه لیس توجد

و رأوا وجودا واجبا
یفنى الزمان و لیس ینفد

فلتخسأ الحکماء عن
جرم له الأفلاک تسجد

من أنت یا رسطو و من‏
أفلاط قبلک یا مبلد

و من ابن سینا حین قرر
ما بنیت له و شید

هل أنتم إلا الفراش‏
رأى الشهاب و قد توقد

فدنا فأحرق نفسه
و لو اهتدى رشدا لأبعد

و مما قلته أیضا فی قصور العقل- عن معرفته سبحانه و تعالى-

فیک یا أعجوبه الکون
غدا الفکر کلیلا

أنت حیرت ذوی اللب‏
و بلبلت العقولا

کلما أقدم فکری
فیک شبرا فر میلا

ناکصا یخبط فی عمیاء
لا یهدى السبیلا

و لی فی هذا المعنى-

فیک یا أغلوطه الفکر
تاه عقلی و انقضى عمری‏

سافرت فیک العقول فما
ربحت إلا أذى السفر

رجعت حسرى و ما وقفت
لا على عین و لا أثر

فلحى الله الألى زعموا
أنک المعلوم بالنظر

کذبوا إن الذی طلبوا
خارج عن قوه البشر

 و قلت أیضا فی المعنى-

أفنیت خمسین عاما معملا نظری
فیه فلم أدر ما آتی و ما أذر

من کان فوق عقول القائسین فما
ذا یدرک الفکر أو ما یبلغ النظر

 و لی أیضا-

حبیبی أنت لا زید و عمرو
و إن حیرتنی و فتنت دینی‏

طلبتک جاهدا خمسین عاما
فلم أحصل على برد الیقین‏

فهل بعد الممات بک اتصال
فأعلم غامض السر المصون‏

نوى قذف و کم قد مات قبلی‏
بحسرته علیک من القرون‏

 و من شعری أیضا فی المعنى- و کنت أنادی به لیلا- فی مواضع مقفره خالیه من الناس بصوت رفیع- و أجدح قلبی أیام کنت مالکا أمری- مطلقا من قیود الأهل و الولد و علائق الدنیا-

یا مدهش الألباب و الفطن
و محیر التقواله اللسن‏

أفنیت فیک العمر أنفقه‏
و المال مجانا بلا ثمن‏

أتتبع العلماء أسألهم
و أجول فی الآفاق و المدن‏

و أخالط الملل التی اختلفت‏
فی الدین حتى عابد الوثن‏

و ظننت أنی بالغ غرضی
لما اجتهدت و مبرئ شجنی‏

و مطهر من کل رجس هوى‏
قلبی بذاک و غاسل درنی‏

فإذا الذی استکثرت منه هو
الجانی علی عظائم المحن‏

فضللت فی تیه بلا علم‏
و غرقت فی یم بلا سفن‏

و رجعت صفر الکف مکتئبا
حیران ذا هم و ذا حزن‏

أبکی و أنکت فی الثرى بیدی‏
طورا و أدعم تاره ذقنی‏

و أصیح یا من لیس یعرفه
أحد مدى الأحقاب و الزمن‏

یا من له عنت الوجوه و من‏
قرنت له الأعناق فی قرن‏

آمنت یا جذر الأصم من الأعداد
بل یا فتنه الفتن‏

أن لیس تدرکک العیون و أن‏
الرأی ذو أفن و ذو غبن‏

و الکل أنت فکیف یدرکه
بعض و أنت السر فی العلن‏

و مما قلته فی المعنى-

ناجیته و دعوته اکشف عن عشا
قلبی و عن بصری و أنت النور

و ارفع حجابا قد سدلت ستوره‏
دونی و هل دون المحب ستور

فأجابنی صه یا ضعیف فبعض ذا
قد رامه موسى فدک الطور

أعجبنی هذا المعنى فنقلته إلى لفظ آخر فقلت-

حبیبی أنت من دون البرایا
و إن لم أحظ منک بما أرید

قنعت من الوصال بکشف حال‏
فقیل ارجع فمطلبها بعید

أ لم تسمع جواب سؤال موسى
و لیس على مکانته مزید

تعرض للذی حاولت یوما
فدک الصخر و اضطرم الصعید

و لی فی هذا المعنى أیضا-

قد حار فی النفس جمیع الورى
و الفکر فیها قد غدا ضائعا

و برهن الکل على ما ادعوا
و لیس برهانهم قاطعا

من جهل الصنعه عجزا فما
أجدره أن یجهل الصانعا

 و لی أیضا فی الرد على الفلاسفه- الذین عللوا حرکه الفلک- بأنه أراد استخراج الوضع أولا- لیتشبه بالعقل المجرد فی کماله- و أن کل ما له بالقوه فهو خارج إلى الفعل-

تحیر أرباب النهى و تعجبوا
من الفلک الأقصى لما ذا تحرکا

فقیل بطبع کالثقیل إذا هوى‏
و قیل اختیارا و المحقق شککا

فرد حدیث الطبع إذ کان دائرا
و لیس على سمت قویم فیسلکا

و قیل لمن قال اختیارا فما الذی
دعاه إلى أن دار رکضا فأوشکا

فقالوا لوضع حادث یستجده‏
یعاقب منه مطلبا ثم مترکا

فقیل لهم هذا الجنون بعینه
و لو رامه منا امرؤ کان أعفکا

و لو أن إنسانا غدا لیس قصده‏
سوى الوضع و استخراجه عد مضحکا

و لی أیضا فی الرد على من زعم أن النبی ص- رأى الله سبحانه بالعین و هو الذی أنکرته عائشه- و العجب لقوم من أرباب النظر- جهلوا ما أدرکته امرأه من نساء العرب-

عجبت لقوم یزعمون نبیهم
رأى ربه بالعین تبا لهم تبا

و هل تدرک الأبصار غیر مکیف‏
و کیف تبیح العین ما یمنع القلبا

إذا کان طرف القلب عن کنهه نبا
حسیرا فطرف العین عن کنهه أنبى‏

و المقطعات التی نظمتها فی إجلال الباری سبحانه- عن أن تحیط به العقول کثیره- موجوده فی کتبی و مصنفاتی فلتلمح من مظانها- و غرضنا بإیراد بعضها أن لها هنا تشییدا- لما قاله أمیر المؤمنین ع علی فی هذا الباب- .

قوله ع لیس بذی کبر- إلى قوله و عظم سلطانا- معناه أنه تعالى یطلق علیه من أسمائه الکبیر و العظیم- و قد ورد بهما القرآن العزیز- و لیس المراد بهما ما یستعمله الجمهور من قولهم- هذا الجسم أعظم و أکبر مقدارا من هذا الجسم- بل المراد عظم شأنه و جلاله سلطانه- . و الفلج النصره و أصله سکون العین- و إنما حرکه لیوازن بین الألفاظ- و ذلک‏لأن الماضی منه فلج الرجل على خصمه بالفتح- و مصدره الفلج بالسکون- فأما من روى و ظهور الفلج- بضمتین فقد سقط عنه التأویل- لأن الاسم من هذا اللفظ- الفلج بضم أول الکلمه- فإذا استعملها الکاتب أو الخطیب- جاز له ضم الحرف الثانی- .

و صادعا بهما مظهرا مجاهدا و أصله الشق- . و الأمراس الحبال و الواحد مرس بفتح المیم و الراء مِنْهَا فِی صِفَهِ عَجِیبِ خَلْقِ أَصْنَافٍ مِنَ الْحَیَوَانِ: وَ لَوْ فَکَّرُوا فِی عَظِیمِ الْقُدْرَهِ وَ جَسِیمِ النِّعْمَهِ- لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِیقِ وَ خَافُوا عَذَابَ الْحَرِیقِ- وَ لَکِنِ الْقُلُوبُ عَلِیلَهٌ وَ الْبَصَائِرُ مَدْخُولَهٌ- أَ لَا یَنْظُرُونَ إِلَى صَغِیرِ مَا خَلَقَ کَیْفَ أَحْکَمَ خَلْقَهُ- وَ أَتْقَنَ تَرْکِیبَهُ وَ فَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ- وَ سَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَ الْبَشَرَ- انْظُرُوا إِلَى النَّمْلَهِ فِی صِغَرِ جُثَّتِهَا وَ لَطَافَهِ هَیْئَتِهَا- لَا تَکَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ وَ لَا بِمُسْتَدْرَکِ الْفِکَرِ- کَیْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا وَ صُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا- تَنْقُلُ الْحَبَّهَ إِلَى جُحْرِهَا وَ تُعِدُّهَا فِی مُسْتَقَرِّهَا- تَجْمَعُ فِی حَرِّهَا لِبَرْدِهَا وَ فِی وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا- مَکْفُولٌ بِرِزْقِهَا مَرْزُوقَهٌ بِوِفْقِهَا- لَا یُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ وَ لَا یَحْرِمُهَا الدَّیَّانُ- وَ لَوْ فِی الصَّفَا الْیَابِسِ وَ الْحَجَرِ الْجَامِسِ- وَ لَوْ فَکَّرْتَ فِی مَجَارِی أَکْلِهَا- وَ فِی عُلْوِهَا وَ سُفْلِهَا- وَ مَا فِی الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِیفِ بَطْنِهَا- وَ مَا فِی الرَّأْسِ مِنْ عَیْنِهَا وَ أُذُنِهَا- لَقَضَیْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً وَ لَقِیتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً-فَتَعَالَى الَّذِی أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا- وَ بَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا- لَمْ یَشْرَکْهُ فِی فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ- وَ لَمْ یُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ- وَ لَوْ ضَرَبْتَ فِی مَذَاهِبِ فِکْرِکَ لِتَبْلُغَ غَایَاتِهِ- مَا دَلَّتْکَ الدَّلَالَهُ إِلَّا عَلَى أَنَّ فَاطِرَ النَّمْلَهِ- هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَهِ- لِدَقِیقِ تَفْصِیلِ کُلِّ شَیْ‏ءٍ- وَ غَامِضِ اخْتِلَافِ کُلِّ حَیٍّ- وَ مَا الْجَلِیلُ وَ اللَّطِیفُ وَ الثَّقِیلُ وَ الْخَفِیفُ- وَ الْقَوِیُّ وَ الضَّعِیفُ فِی خَلْقِهِ إِلَّا سَوَاءٌ- وَ کَذَلِکَ السَّمَاءُ وَ الْهَوَاءُ وَ الرِّیَاحُ وَ الْمَاءُ- فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ وَ الْقَمَرِ وَ النَّبَاتِ وَ الشَّجَرِ- وَ الْمَاءِ وَ الْحَجَرِ وَ اخْتِلَافِ هَذَا اللَّیْلِ وَ النَّهَارِ- وَ تَفَجُّرِ هَذِهِ الْبِحَارِ وَ کَثْرَهِ هَذِهِ الْجِبَالِ- وَ طُولِ هَذِهِ الْقِلَالِ وَ تَفَرُّقِ هَذِهِ اللُّغَاتِ- وَ الْأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ- فَالْوَیْلُ لِمَنْ أَنْکَرَ الْمُقَدِّرَ وَ جَحَدَ الْمُدَبِّرَ- زَعَمُوا أَنَّهُمْ کَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ- وَ لَا لِاخْتِلَافِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ- وَ لَمْ یَلْجَئُوا إِلَى حُجَّهٍ فِیمَا ادَّعَوْا- وَ لَا تَحْقِیقٍ لِمَا دَعَوْا- وَ هَلْ یَکُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَیْرِ بَانٍ أَوْ جِنَایَهٌ مِنْ غَیْرِ جَانٍ مدخوله معیبه و فلق شق و خلق- و البشر ظاهر الجلد- . قوله ع و صبت على رزقها- قیل هو على العکس أی و صب رزقها علیها- و الکلام صحیح و لا حاجه فیه إلى هذا- و المراد کیف همت حتى انصبت على رزقها انصبابا- أی انحطت علیه و یروى و ضنت على رزقها- بالضاد المعجمه و النون أی بخلت- و جحرها بیتها- .

قوله ع و فی وردها لصدرها- أی تجمع فی أیام التمکن من الحرکه لأیام العجز عنها- و ذلک لأن النمل یظهر صیفا- و یخفى فی شده الشتاء لعجزه عن ملاقاه البرد- . قوله ع رزقها وفقها أی بقدر کفایتها- و یروى مکفول برزقها مرزوقه بوفقها- . و المنان من أسماء الله تعالى العائد إلى صفاته الفعلیه- أی هو کثیر المن و الإنعام على عباده- . و الدیان المجازی للعباد على أفعالهم قال تعالى- إِنَّا لَمَدِینُونَ أی مجزیون- و الحجر الجامس الجامد- و الشراسیف أطراف الأضلاع المشرفه على البطن

فصل فی ذکر أحوال الذره و عجائب النمله

و اعلم أن شیخنا أبا عثمان- قد أورد فی کتاب الحیوان فی باب النمله و الذره- و هی الصغیره جدا من النمل- کلاما یصلح أن یکون کلام أمیر المؤمنین ع أصله- و لکن أبا عثمان قد فرع علیه- قال الذره تدخر فی الصیف للشتاء- و تتقدم فی حال المهله و لا تضیع أوقات إمکان الحزم- ثم یبلغ من تفقدها و صحه تمییزها- و النظر فی عواقب أمورها- أنها تخاف على الحبوب التی ادخرتها للشتاء فی الصیف- أن تعفن و تسوس فی‏بطن الأرض- فتخرجها إلى ظهرها لتنثرها و تعید إلیها جفوفها- و یمر بها النسیم فینفی عنها اللخن و الفساد- .

ثم ربما بل فی الأکثر تختار ذلک العمل لیلا- لأن ذلک أخفى و فی القمر لأنها فیه أبصر- فإن کان مکانها ندیا و خافت أن تنبت الحبه- نقرت موضع القطمیر من وسطها- لعلمها أنها من ذلک الموضع تنبت- و ربما فلقت الحبه نصفین- فأما إن کان الحب من حب الکزبره فإنها تفلقه أرباعا- لأن أنصاف حب الکزبره تنبت من بین جمیع الحبوب- فهی من هذا الوجه مجاوزه لفطنه جمیع الحیوانات- حتى ربما کانت فی ذلک أحزم من کثیر من الناس- و لها مع لطافه شخصها و خفه وزنها- فی الشم و الاسترواح ما لیس لشی‏ء- فربما أکل الإنسان الجراد أو بعض ما یشبه الجراد- فیسقط من یده الواحده أو صدر واحده- و لیس بقربه ذره و لا له عهد بالذر فی ذلک المنزل- فلا یلبث أن تقبل ذره قاصده إلى تلک الجراده- فترومها و تحاول نقلها و جرها إلى جحرها- فإذا أعجزتها بعد أن تبلی عذرا مضت إلى جحرها راجعه- فلا یلبث ذلک الإنسان أن یجدها قد أقبلت- و خلفها کالخیط الأسود الممدود- حتى یتعاون علیها فیحملنها- فاعجب من صدق الشم لما لا یشمه الإنسان الجائع- ثم انظر إلى بعد الهمه و الجرأه- على محاوله نقل شی‏ء فی وزن جسمها مائه مره- و أکثر من مائه مره بل أضعاف أضعاف المائه- و لیس شی‏ء من الحیوان- یحمل ما یکون أضعاف وزنه مرارا کثیره غیرها- .

فإن قال قائل- فمن أین علمتم أن التی حاولت نقل الجراده- فعجزت هی التی أخبرت صواحباتها من الذر- و أنها التی کانت على مقدمتهن- قیل له لطول التجربه- و لأنا لم نر قط ذره حاولت جر جراده فعجزت عنها- ثم‏رأیناها راجعه إلا رأینا معها مثل ذلک- و إن کنا لا نفصل فی مرأى العین بینها و بین أخواتها- فإنه لیس یقع فی القلب غیر الذی قلنا- فدلنا ذلک على أنها فی رجوعها عن الجراده- أنها إنما کانت لأشباهها کالرائد الذی لا یکذب أهله قال أبو عثمان و لا ینکر قولنا- إن الذره توحی إلى أخواتها بما أشرنا إلیه- إلا من یکذب القرآن فإنه تعالى قال فی قصه سلیمان- قالَتْ نَمْلَهٌ یا أَیُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساکِنَکُمْ- لا یَحْطِمَنَّکُمْ سُلَیْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا یَشْعُرُونَ- فَتَبَسَّمَ ضاحِکاً مِنْ قَوْلِها- فهل بعد هذا ریب أو شک فی أن لها قولا و بیانا و تمییزا- .

فإن قلت فلعلها مکلفه- و مأموره و منهیه و مطیعه و عاصیه- قیل هذا سؤال جاهل- و ذلک أنه لا یلزم أن یکون کل ذی حس و تمییز- مکلفا مأمورا منهیا مطیعا عاصیا- لأن الإنسان غیر البالغ الحلم قد یحفظ القرآن- و کثیرا من الآثار و ضروبا من الأخبار- و یشتری و یبیع و یخدع الرجال و یسخر بالمعلمین- و هو غیر مکلف و لا مأمور- و لا منهی و لا عاص و لا مطیع- فلا یلزم مما قلناه فی الذره أن تکون مکلفه- . قال أبو عثمان و من عجیب ما سمعته من أمر النمله- ما حدثنی به بعض المهندسین- عن رجل معروف بصنعه الأسطرلابات- أنه أخرج طوقا من صفر أو قال من حدید من الکیر- و قد أحماه فرمى به على الأرض لیبرد- فاشتمل الطوق على نمله- فأرادت أن تنفر یمنه فلقیها وهج النار- فأخذت یسره فلقیها وهج النار- فمضت قدما فکذاک فرجعت إلى خلفها فکذلک- فرجعت إلى وسط الدائره فوجدها قد ماتت- فی موضع رجل البرکار من الدائره- و هذا من العجائب- .

قال أبو عثمان و حدثنی أبو عبید الله الأفوه- و ما کنت أقدم علیه- فی زمانه من مشایخ‏المعتزله إلا القلیل- قال قد کنت ألقى من الذر و النمل- فی الرطب یکون عندی و فی الطعام عنتا کثیرا- و ذلک لأنی کنت لا أستقذر النمله و لا الذره- ثم وجدت الواحده منهما- إذا وقعت فی قاروره بان أو زئبق أو خیری- فسد ذلک الدهن و زنخ فقذرتها و نفرت منها- و قلت أخلق بطبیعتها أن تکون فاسده خبیثه- و کنت أرى لها عضا منکرا- فأقول إنها من ذوات السموم- و لو أن بدن النمله زید فی أجزائه- حتى یلحق ببدن العقرب- ثم عضت إنسانا لکانت عضتها- أضر علیه من لسعه العقرب- .

قال فاتخذت عند ذلک لطعامی منمله و قیرتها- و صببت فی خندقها الماء- و وضعت سله الطعام على رأسها- فغبرت أیاما أکشف رأس السله بعد ذلک- و فیها ذر کثیر و وجدت الماء فی الخندق على حاله- فقلت عسى أن یکون بعض الصبیان أنزلها- و أکل مما فیها و طال مکثها فی الأرض- و قد دخلها الذر ثم أعیدت على تلک الحال- و تکلمت فی ذلک و تعرفت الحال فیه- فعرفت البراءه فی عذرهم و الصدق فی خبرهم- فاشتد تعجبی و ذهبت بی الظنون- و الخواطر کل مذهب- فعزمت على أن أرصدها و أحرسها- و أتثبت فی أمری و أتعرف شأنی- فإذا هی بعد أن رامت الخندق فامتنع علیها ترکته جانبا- و صعدت فی الحائط ثم مرت على جذع السقف- فلما صارت محاذیه للسله أرسلت نفسها- فقلت فی نفسی انظر کیف اهتدت إلى هذه الحیله- و لم تعلم أنها تبقى محصوره- .

ثم قلت و ما علیها أن تبقى محصوره- بل أی حصار على ذره و قد وجدت ما تشتهی- . قال أبو عثمان و من أعاجیب الذره- أنها لا تعرض لجعل و لا لجراده- و لا لخنفساء و لا لبنت وردان- ما لم یکن بها حبل أو عقر أو قطع رجل أو ید- فإن وجدت بها من ذلک أدنى عله وثبت علیها- حتى لو أن حیه بها ضربه أو خرق أو خدش- ثم کانت من‏ ثعابین مصر- لوثب علیها الذر حتى یأکلها- و لا تکاد الحیه تسلم من الذر إذا کان بها أدنى عقر- . قال أبو عثمان و قد عذب الله بالذر و النمل أمما و أمما- و أخرج أهل قرى من قراهم و أهل دروب من دروبهم- .

و حدثنی بعض من أصدق خبره- قال سألت رجلا کان ینزل ببغداد- فی بعض الدروب التی فی ناحیه باب الکوفه- التی جلا أهلها عنها لغلبه النمل و الذر علیها- فسألته عن ذلک فقال و ما تصنع بالحدیث- امض معی إلى داری التی أخرجنی منها النمل- قال فدخلتها معه فبعث غلامه- فاشترى رءوسا من الرأسین لیتغذى بها- فانتقلنا هربا من النمل فی أکثر من عشرین مکانا- ثم دعا بطست ضخمه و صب فیها ماء صالحا- ثم فرق عظام الرءوس فی الدار و معه غلمانه- فکان کلما اسود منها عظم لکثره النمل و اجتماعه علیه- و ذلک فی أسرع الأوقات أخذه الغلام ففرغه فی الطست- بعود ینثر به ما علیه فی جوف الطست- فما لبثنا مقدار ساعه من النهار- حتى فاضت الطست نملا- فقال کم تظن أنی فعلت مثل هذا قبل الجلاء- طمعا فی أن أقطع أصلها- فلما رأیت عددها إما زائدا و إما ثابتا- و جاءنا ما لا یصبر علیه أحد- و لا یمکن معه مقام خرجت عنها- . قال أبو عثمان و عذب عمر بن هبیره- سعید بن عمرو الحرشی بأنواع العذاب- فقیل له إن أردت ألا یفلح أبدا- فمرهم فلینفخوا فی دبره النمل- ففعلوا فلم یفلح بعدها- .

قال أبو عثمان و من الحیوان أجناس یشبه الإنسان- فی العقل و الرویه و النظر فی العواقب و الفکر فی الأمور- مثل النمل و الذر و الفأر و الجرذان- و العنکبوت و النحل- إلا أن النحل لا یدخر من الطعم إلا جنسا واحدا و هو العسل- . قال و زعم البقطری أنک لو أدخلت نمله فی جحر ذر- لأکلتها حتى تأتی على عامتها- و ذکر أنه قد جرب ذلک- . قال و زعم صاحب المنطق- أن الضبع تأکل النمل أکلا ذریعا- لأنها تأتی قریه النمل وقت اجتماع النمل على باب القریه- فتلحس ذلک النمل کله بلسانها- بشهوه شدیده و إراده قویه- .

قال و ربما أفسدت الأرضه على أهل القرى منازلهم- و أکلت کل شی‏ء لهم- فلا تزال کذلک حتى ینشأ فی تلک القرى النمل- فیسلط الله عز و جل ذلک النمل على تلک الأرضه- حتى تأتی على آخرها على أن النمل بعد ذلک سیکون له أذى- إلا أنه دون أذى الأرضه بعیدا- و ما أکثر ما یذهب النمل أیضا من تلک القرى- حتى یتم لأهلها السلامه من النوعین جمیعا- . قال و قد زعم بعضهم أن تلک الأرضه- بأعیانها تستحیل نملا- و لیس فناؤها لأکل النمل لها- و لکن الأرضه نفسها تستحیل نملا- فعلى قدر ما یستحیل منها یرى الناس- النقصان فی عددها و مضرتها على الأیام- . قال أبو عثمان و کان ثمامه یرى أن الذر صغار النمل- و نحن نراه نوعا آخر کالبقر و الجوامیس- . قال و من أسباب هلاک النمل نبات أجنحته- و قال الشاعر

و إذا استوت للنمل أجنحه
حتى یطیر فقد دنا عطبه‏

و کان فی کتاب عبد الحمید إلى أبی مسلم- لو أراد الله بالنمله صلاحا لما أنبت لها جناحا- فیقال إن أبا مسلم لما قرأ هذا الکلام- فی أول الکتاب لم یتم قراءته و ألقاه فی النار- و قال أخاف إن قرأته أن ینخب قلبی- . قال أبو عثمان- و یقتل النمل بأن یصب فی أفواه بیوتها- القطران و الکبریت الأصفر- و أن یدس فی أفواهها الشعر- على أنا قد جربنا ذلک فوجدناه باطلا- . فأما الحکماء فإنهم لا یثبتون للنمل- شراسیف و لا أضلاعا- و یجب إن صح قولهم أن یحمل کلام أمیر المؤمنین ع- على اعتقاد الجمهور و مخاطبه العرب بما تتخیله و تتوهمه حقا- و کذلک لا یثبت الحکماء للنمل آذانا- بارزه عن سطوح رءوسها- و یجب إن صح ذلک أن نحمل کلام أمیر المؤمنین ع- على قوه الإحساس بالأصوات- فإنه لا یمکن الحکماء إنکار وجود هذه القوه للنمل- و لهذا إذا صیح علیهن هربن- .

و یذکر الحکماء من عجائب النمل أشیاء- منها أنه لا جلد له و کذلک کل الحیوان المخرز- . و منها أنه لا یوجد فی صقلیه نمل کبار أصلا- . و منها أن النمل بعضه ماش و بعضه طائر- . و منها أن حراقه النمل إذا أضیف إلیها شی‏ء- من قشور البیض و ریش هدهد- و علقت على العضد منعت من النوم قوله ع- و لو ضربت فی مذاهب فکرک لتبلغ غایاته- أی غایات فکرک- و ضربت بمعنى سرت- و المذاهب الطرق قال تعالى- وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِی‏الْأَرْضِ- و هذا الکلام استعاره- . قال لو أمعنت النظر لعلمت أن خالق النمله الحقیره- هو خالق النخله الطویله- لأن کل شی‏ء من الأشیاء تفصیل جسمه و هیئته تفصیل دقیق- و اختلاف تلک الأجسام فی أشکالها و ألوانها و مقادیرها- اختلاف غامض السبب- فلا بد للکل من مدبر یحکم بذلک الاختلاف و یفعله- على حسب ما یعلمه من المصلحه- . ثم قال و ما الجلیل و الدقیق فی خلقه إلا سواء- لأنه تعالى قادر لذاته لا یعجزه شی‏ء من الممکنات- .

ثم قال فانظر إلى الشمس و القمر- إلى قوله و الألسن المختلفات- هذا هو الاستدلال بإمکان الأعراض على ثبوت الصانع- و الطرق إلیه أربعه- أحدها الاستدلال بحدوث الأجسام- . و الثانی الاستدلال بإمکان الأعراض و الأجسام- . و الثالث الاستدلال بحدوث الأعراض- .

و الرابع الاستدلال بإمکان الأعراض- . و صوره الاستدلال هو أن کل جسم- یقبل للجسمیه المشترکه بینه و بین سائر الأجسام- ما یقبله غیره من الأجسام- فإذا اختلفت الأجسام فی الأعراض فلا بد من مخصص- خصص هذا الجسم بهذا العرض- دون أن یکون هذا العرض لجسم آخر- و یکون لهذا الجسم عرض غیر هذا العرض- لأن الممکنات لا بد لها من مرجح- یرجح أحد طرفیها على الآخر- فهذا هو معنى قوله- فانظر إلى الشمس و القمر و النبات و الشجر- و الماء و الحجر و اختلاف هذا اللیل و النهار- و تفجر هذه البحار و کثره هذه الجبال- و طول هذه القلال و تفرق هذه اللغات- و الألسن المختلفات- أی أنه یمکن أن تکون هیئهالشمس و ضوءها- و مقدارها حاصلا لجرم القمر- و یمکن أن یکون النبات الذی لا ساق له شجرا- و الشجر ذو الساق نباتا- و یمکن أن یکون الماء صلبا و الحجر مائعا- و یمکن أن یکون زمان اللیل مضیئا و زمان النهار مظلما- و یمکن ألا تکون هذه البحار متفجره بل تکون جبالا- و یمکن ألا تکون هذه الجبال الکبیره کبیره- و یمکن ألا تکون هذه القلال طویله- و کذلک القول فی اللغات و اختلافها- و إذا کان کل هذا ممکنا فاختصاص الجسم المخصوص- بالصفات و الأعراض و الصور المخصوصه- لا یمکن أن یکون لمجرد الجسمیه لتماثل الأجسام فیها- فلا بد من أمر زائد- و ذلک الأمر الزائد هو المعنی بقولنا صانع العالم- .

ثم سفه آراء المعطله و قال- إنهم لم یعتصموا بحجه و لم یحققوا ما وعوه- أی لم یرتبوا العلوم الضروریه ترتیبا صحیحا- یفضی بهم إلى النتیجه التی هی حق- . ثم أخذ فی الرد علیهم من طریق أخرى- و هی دعوى الضروره و قد اعتمد علیها کثیر من المتکلمین- فقال نعلم ضروره أن البناء لا بد له من بان- .

ثم قال و الجنایه لا بد لها من جان- و هذه کلمه ساقته إلیها القرینه- و المراد عموم الفعلیه لا خصوص الجنایه- أی مستحیل أن یکون الفعل من غیر فاعل- و الذین ادعوا الضروره فی هذه المسأله من المتکلمین- استغنوا عن الطرق الأربع التی ذکرناها- و أمیر المؤمنین ع اعتمد أولا على طریق واحده- ثم جنح ثانیا إلى دعوى الضروره و کلا الطریقین صحیح: وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِی الْجَرَادَهِ- إِذْ خَلَقَ لَهَا عَیْنَیْنِ حَمْرَاوَیْنِ- وَ أَسْرَجَ لَهَاحَدَقَتَیْنِ قَمْرَاوَیْنِ- وَ جَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِیَّ وَ فَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِیَّ- وَ جَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِیَّ وَ نَابَیْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ- وَ مِنْجَلَیْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ- یَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِی زَرْعِهِمْ- وَ لَا یَسْتَطِیعُونَ ذَبَّهَا وَ لَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ- حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِی نَزَوَاتِهَا وَ تَقْضِی مِنْهُ شَهَوَاتِهَا- وَ خَلْقُهَا کُلُّهُ لَا یُکَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّهً- فَتَبَارَکَ الَّذِی یَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِی السَّمَوَاتِ وَ الْأَرْضِ- طَوْعاً وَ کَرْهاً وَ یُعَفِّرُ لَهُ خَدّاً وَ وَجْهاً- وَ یُلْقِی بِالطَّاعَهِ إِلَیْهِ سِلْماً وَ ضَعْفاً- وَ یُعْطِی الْقِیَادَ رَهْبَهً وَ خَوْفاً- فَالطَّیْرُ مُسَخَّرَهٌ لِأَمْرِهِ- أَحْصَى عَدَدَ الرِّیشِ مِنْهَا وَ النَّفَسِ- وَ أَرْسَى قَوَائِمَهَا عَلَى النَّدَى وَ الْیَبَسِ- وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهَا وَ أَحْصَى أَجْنَاسَهَا- فَهَذَا غُرَابٌ وَ هَذَا عُقَابٌ- وَ هَذَا حَمَامٌ وَ هَذَا نَعَامٌ- دَعَا کُلَّ طَائِرٍ بِاسْمِهِ وَ کَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ- وَ أَنْشَأَ السَّحَابَ الثِّقَالَ فَأَهْطَلَ دِیَمَهَا- وَ عَدَّدَ قِسَمَهَا فَبَلَّ الْأَرْضُ بَعْدَ جُفُوفِهَا- وَ أَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا قوله و أسرج لها حدقتین- أی جعلهما مضیئتین کما یضی‏ء السراج- و یقال حدقه قمراء أی منیره- کما یقال لیله قمراء أی نیره بضوء القمر- . و بهما تقرض أی تقطع و الراء مکسوره- . و المنجلان رجلاها- شبههما بالمناجل لعوجهما و خشونتهما- . و یرهبها یخافها و نزواتها وثباتها و الجدب المحل‏

ذکر غرائب الجراد و ما احتوت علیه من صنوف الصنعه

قال شیخنا أبو عثمان فی کتاب الحیوان- من عجائب الجراده التماسها لبیضها- الموضع الصلد و الصخور الملس- ثقه منها أنها إذا ضربت بأذنابها فیها انفرجت لها- و معلوم أن ذنب الجراده لیس فی خلقه المنشار- و لا طرف ذنبه کحد السنان و لا لها من قوه الأسر- و لا لذنبها من الصلابه ما إذا اعتمدت به- على الکدیه خرج فیها- کیف و هی تتعدى إلى ما هو أصلب من ذلک- و لیس فی طرفها کإبره العقرب- و على أن العقرب لیس تخرق القمقم- من جهد الأید و قوه البدن- بل إنما ینفرج لها بطبع مجعول هناک- و کذاک انفراج الصخور لأذناب الجراد- . و لو أن عقابا أرادت أن تخرق جلد الجاموس- لما انخرق لها إلا بالتکلف الشدید- و العقاب هی التی تنکدر على الذئب الأطلس- فتقد بدابرتها ما بین صلاه إلى موضع الکاهل- .

فإذا غرزت الجراده و ألقت بیضها- و انضمت علیها تلک الأخادید التی هی أحدثها- و صارت کالأفاحیص لها صارت حاضنه لها و مربیه- و حافظه و صائنه و واقیه- حتى إذا جاء وقت دبیب الروح فیها حدث عجب آخر- و ذلک لأنه یخرج من بیضه‏أصهب إلى البیاض- ثم یصفر و تتلون فیه خطوط إلى السواد- ثم یصیر فیه خطوط سود و بیض ثم یبدو حجم جناحه- ثم یستقل فیموج بعضه فی بعض- . قال أبو عثمان و یزعم قوم- أن الجراد قد یرید الخضره و دونه النهر الجاری- فیصیر بعضه جسرا لبعض- حتى یعبر إلى الخضره و أن ذلک حیله منها- . و لیس کما زعموا و لکن الزحف الأول من الدباء- یرید الخضره فلا یستطیعها إلا بالعبور إلیها- فإذا صارت تلک القطعه فوق الماء طافیه- صارت لعمری أرضا للزحف الثانی الذی یرید الخضره- فإن سموا ذلک جسرا استقام- فأما أن یکون الزحف الأول مهد للثانی- و مکن له و آثره بالکفایه فهذا ما لا یعرف- و لو أن الزحفین جمیعا أشرفا على النهر- و أمسک أحدهما عن تکلف العبور- حتى یمهد له الآخر لکان لما قالوه وجه- .

قال أبو عثمان و لعاب الجراد سم على الأشجار- لا یقع على شی‏ء إلا أحرقه- . فأما الحکماء فیذکرون فی کتبهم- أن أرجل الجراد تقلع الثآلیل- و أنه إذا أخذت منه اثنتا عشره جراده- و نزعت رءوسها و أطرافها- و جعل معها قلیل آس یابس- و شربت للاستسقاء کما هی نفعت نفعا بینا- و أن التبخر بالجراد ینفع من عسر البول- و خاصه فی النساء و أن أکله ینفع من تقطیره- و قد یبخر به للبواسیر و ینفع أکله من لسعه العقرب- . و یقال إن الجراد الطوال- إذا علق على من به حمى الربع نفعه

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۵۶

خطبه ۲۳۰ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۳۰ و من کلام له ع

قَالَهُ وَ هُوَ یَلِی غُسْلَ رَسُولِ اللَّهِ ص وَ تَجْهِیزَهُ- بِأَبِی أَنْتَ وَ أُمِّی یَا رَسُولَ اللَّهِ- لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِکَ مَا لَمْ یَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَیْرِکَ- مِنَ النُّبُوَّهِ وَ الْإِنْبَاءِ وَ أَخْبَارِ السَّمَاءِ- خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّیاً عَمَّنْ سِوَاکَ- وَ عَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِیکَ سَوَاءً- وَ لَوْ لَا أَنَّکَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ وَ نَهَیْتَ عَنِ الْجَزَعِ- لَأَنْفَدْنَا عَلَیْکَ مَاءَ الشُّئُونِ- وَ لَکَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلًا وَ الْکَمَدُ مُحَالِفاً- وَ قَلَّا لَکَ وَ لَکِنَّهُ مَا لَا یُمْلَکُ رَدُّهُ- وَ لَا یُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ- بِأَبِی أَنْتَ وَ أُمِّی اذْکُرْنَا عِنْدَ رَبِّکَ وَ اجْعَلْنَا مِنْ بَالِکَ بأبی أنت و أمی أی بأبی أنت مفدی و أمی- . و الإنباء الإخبار مصدر أنبأ ینبئ- و روی و الأنباء بفتح الهمزه جمع نبأ و هو الخبر- و أخبار السماء الوحی- . قوله ع خصصت و عممت- أی خصت مصیبتک أهل بیتک- حتى أنهم لا یکترثون بما یصیبهم بعدک من المصائب- و لا بما أصابهم من قبل- و عمت هذه‏المصیبه أیضا الناس- حتى استوى الخلائق کلهم فیها- فهی مصیبه خاصه بالنسبه و عامه بالنسبه- . و مثل قوله حتى صرت مسلیا عمن سواک- قول الشاعر

رزئنا أبا عمر و لا حی مثله
فلله در الحادثات بمن تقع‏

فإن تک قد فارقتنا و ترکتنا
ذوی خله ما فی انسداد لها طمع‏

لقد جر نفعا فقدنا لک أننا
أمنا على کل الرزایا من الجزع‏

 و قال آخر

أقول للموت حین نازله
و الموت مقدامه على البهم‏

أظفر بمن شئت إذ ظفرت به‏
ما بعد یحیى للموت من ألم‏

و لی فی هذا المعنى کتبته إلى صدیق غاب عنی- من جمله أبیات-

و قد کنت أخشى من خطوب غوائل
فلما نأى عنی أمنت من الحذر

فأعجب لجسم عاش بعد حیاته‏
و أعجب لنفع حاصل جره ضرر

 و قال إسحاق بن خلف یرثی بنتا له-

أمست أمیمه معمورا بها الرجم
لقا صعید علیها الترب مرتکم‏

یا شقه النفس إن النفس والهه
حرى علیک و إن الدمع منسجم‏

قد کنت أخشى علیها أن تقدمنی
إلى الحمام فیبدی وجهها العدم‏

فالآن نمت فلا هم یؤرقنی‏
تهدا العیون إذا ما أودت الحرم‏

للموت عندی أیاد لست أکفرها
أحیا سرورا و بی مما أتى ألم‏

 و قال آخر

فلو أنها إحدى یدی رزیتها
و لکن یدی بانت على إثرها یدی‏

فآلیت لا آسى على إثر هالک‏
قدی الآن من حزن على هالک قدی‏

و قال آخر

أ جاری ما أزداد إلا صبابه
علیک و ما تزداد إلا تنائیا

أ جاری لو نفس فدت نفس میت‏
فدیتک مسرورا بنفسی و مالیا

و قد کنت أرجو أن أملاک حقبه
فحال قضاء الله دون رجائیا

ألا فلیمت من شاء بعدک إنما
علیک من الأقدار کان حذاریا

و قال آخر

لتغد المنایا حیث شاءت فإنها
محلله بعد الفتى ابن عقیل‏

فتى کان مولاه یحل بنجوه
فحل الموالی بعده بمسیل‏

قوله ع و لکان الداء مماطلا- أی مماطلا بالبرء أی لا یجیب إلى الإقلاع- . و الإبلال الإفاقه

ذکر طرف من سیره النبی ع عند موته

فأما وفاه رسول الله ص و ما ذکره أرباب السیره فیها- فقد ذکرنا طرفا منه فیما تقدم- و نذکر هاهنا طرفا آخر- مما أورده أبو جعفر محمد بن جریر الطبری فی تاریخه- .

قال أبو جعفر روى أبو مویهبه مولى رسول الله ص قال أرسل إلی رسول الله ص فی جوف اللیل فقال- یا أبا مویهبه- إنی قد أمرت أن أستغفر لأهل البقیع- فانطلق معی فانطلقت معه- فلما وقف بین أظهرهم قال- السلام علیکم یا أهل المقابر- لیهن لکم ما أصبحتم فیه مما أصبح الناس فیه- أقبلت الفتن کقطع اللیل المظلم- یتبع آخرها أولها الآخره شر من الأولى- ثم أقبل علی فقال- یا أبا مویهبه- إنی قد أوهبت مفاتیح خزائن الدنیا- و الخلد فیها و الجنه- فخیرت بینها و بین الجنه فاخترت الجنه- فقلت بأبی أنت و أمی- فخذ مفاتیح خزائن الدنیا و الخلد فیها و الجنه جمیعا- فقال لا یا أبا مویهبه اخترت لقاء ربی- ثم استغفر لأهل البقیع و انصرف- فبدأ بوجعه الذی قبضه الله فیه و روى محمد بن مسلم بن شهاب الزهری عن عبید الله بن عبد الله بن عتبه عن عائشه قالت رجع رسول الله ص تلک اللیله من البقیع- فوجدنی و أنا أجد صداعا فی رأسی- و أقول وا رأساه فقال بل أنا وا رأساه- ثم قال ما ضرک لو مت قبلی فقمت علیک فکفنتک- و صلیت علیک و دفنتک- فقلت و الله لکأنی‏ بک لو کان ذلک- رجعت إلى منزلی فأعرست ببعض نسائک- فتبسم ع و تتام به وجعه- و هو مع ذلک یدور على نسائه- حتى استعز به و هو فی بیت میمونه- فدعا نساءه فاستأذنهن أن یمرض فی بیتی- فأذن له فخرج بین رجلین من أهله- أحدهما الفضل بن العباس و رجل آخر- تخط قدماه فی الأرض- عاصبا رأسه حتى دخل بیته- قال عبید الله بن عبد الله بن عتبه- فحدثت عبد الله بن العباس بهذا الحدیث فقال- أ تدری من الرجل الآخر- قلت لا قال علی بن أبی طالب- لکنها کانت لا تقدر أن تذکره بخیر و هی تستطیع- قالت ثم غمر رسول الله ص و اشتد به الوجع- فقال أهریقوا علی سبع قرب من آبار شتى- حتى أخرج إلى الناس فأعهد إلیهم- قالت فأقعدته فی مخضب لحفصه بنت عمر- و صببنا علیه الماء حتى طفق یقول بیده- حسبکم حسبکم – .قلت المخضب المرکن- .

و روى عطاء عن الفضل بن عباس رحمه الله قال جاءنی رسول الله ص حین بدأ به مرضه فقال اخرج- فخرجت إلیه فوجدته موعوکا قد عصب رأسه- فقال خذ بیدی فأخذت بیده حتى جلس على المنبر- ثم قال ناد فی الناس فصحت فیهم فاجتمعوا إلیه- فقال أیها الناس إنی أحمد إلیکم الله- إنه قد دنا منی حقوق من بین أظهرکم- فمن کنت جلدت له ظهرا فهذا ظهری فلیستقد منه- و من کنت شتمت له عرضا فهذا عرضی فلیستقد منه- و من کنت أخذت له مالا فهذا مالی فلیأخذ منه- و لا یقل رجل إنی أخاف الشحناء من قبل رسول الله- ألا و إن الشحناء لیست من طبیعتی و لا من شأنی- ألا و إن أحبکم إلی من أخذ منی حقاإن کان له- أو حللنی فلقیت الله و أنا طیب النفس- و قد أرانی أن هذا غیر مغن عنی حتى أقوم فیکم به مرارا- ثم نزل فصلى الظهر- ثم رجع فجلس على المنبر- فعاد لمقالته الأولى فی الشحناء و غیرها- فقام رجل فقال یا رسول الله- إن لی عندک ثلاثه دراهم- فقال إنا لا نکذب قائلا و لا نستحلفه على یمین- فیم کانت لک عندی قال- أ تذکر یا رسول الله یوم مر بک المسکین- فأمرتنی فأعطیته ثلاثه دراهم- قال أعطه یا فضل فأمرته فجلس- ثم قال أیها الناس من کان عنده شی‏ء فلیؤده- و لا یقل فضوح الدنیا- فإن فضوح الدنیا أهون من فضوح الآخره- فقام رجل فقال یا رسول الله- عندی ثلاثه دراهم غللتها فی سبیل الله- قال و لم غللتها قال کنت محتاجا إلیها- قال خذها منه یا فضل- ثم قال أیها الناس من خشی من نفسه شیئا فلیقم أدعو له- فقام رجل فقال یا رسول الله إنی لکذاب- و إنی لفاحش و إنی لنئوم- فقال اللهم ارزقه صدقا و صلاحا- و أذهب عنه النوم إذا أراد- ثم قام رجل فقال یا رسول الله إنی لکذاب- و إنی لمنافق و ما شی‏ء أو قال- و إن من شی‏ء إلا و قد جئته- فقام عمر بن الخطاب فقال فضحت نفسک أیها الرجل- فقال النبی ص یا ابن الخطاب- فضوح الدنیا أهون من فضوح الآخره- اللهم ارزقه صدقا و إیمانا و صیر أمره إلى خیر

و روى عبد الله بن مسعود قال نعى إلینا نبینا و حبیبنا نفسه قبل موته بشهر- جمعنا فی بیت أمنا عائشه- فنظر إلینا و شدد و دمعت عینه- و قال مرحبا بکم حیاکم الله- رحمکم الله آواکم الله- حفظکم الله رفعکم الله- نفعکم الله‏ وفقکم الله- رزقکم الله هداکم الله- نصرکم الله سلمکم الله تقبلکم الله- أوصیکم بتقوى الله و أوصى الله بکم- و استخلفه علیکم إنی لکم منه نذیر و بشیر- ألا تعلوا على الله فی عباده و بلاده- فإنه قال لی و لکم تِلْکَ الدَّارُ الْآخِرَهُ- نَجْعَلُها لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوًّا فِی الْأَرْضِ وَ لا فَساداً- وَ الْعاقِبَهُ لِلْمُتَّقِینَ- فقلنا یا رسول الله فمتى أجلک- قال قد دنا الفراق- و المنقلب إلى الله و إلى سدره المنتهى- و الرفیق الأعلى و جنه المأوى و العیش المهنا- قلنا فمن یغسلک یا رسول الله- قال أهلی الأدنى فالأدنى- قلنا ففیم نکفنک قال- فی ثیابی هذه إن شئتم- أو فی بیاض مصر أو حله یمنیه- قلنا فمن یصلی علیک- فقال إذا غسلتمونی و کفنتمونی- فضعونی على سریری فی بیتی هذا- على شفیر قبری ثم اخرجوا عنی ساعه- فإن أول من یصلی علی- جلیسی و حبیبی و خلیلی جبرائیل- ثم میکائیل ثم إسرافیل- ثم ملک الموت مع جنوده من الملائکه- ثم ادخلوا علی فوجا فوجا- فصلوا علی و سلموا و لا تؤذونی بتزکیه- و لا ضجه و لا رنه- و لیبدأ بالصلاه علی رجال أهل بیتی ثم نساؤهم- ثم أنتم بعد و أقرءوا أنفسکم منی السلام- و من غاب من أهلی فأقرءوه منی السلام- و من تابعکم بعدی على دینی فأقرءوه منی السلام- فإنی أشهدکم أنی قد سلمت- على من بایعنی على دینی من الیوم إلى یوم القیامه- قلنا فمن یدخلک قبرک یا رسول الله قال- أهلی مع ملائکه کثیره یرونکم و لا ترونهم
– .

قلت العجب لهم کیف لم یقولوا له فی تلک الساعه- فمن یلی أمورنا بعدک- لأن ولایه الأمر أهم من السؤال عن الدفن- و عن کیفیه الصلاه علیه- و ما أعلم ما أقول فی هذا المقام قال أبو جعفر الطبری و روى سعید بن جبیر قال کان ابن عباس رحمه الله یقول‏ یوم الخمیس و ما یوم الخمیس- ثم یبکی حتى تبل دموعه الحصباء- فقلنا له و ما یوم الخمیس- قال یوم اشتد برسول الله ص وجعه- فقال ائتونی باللوح و الدواه- أو قال بالکتف و الدواه- أکتب لکم ما لا تضلون بعدی- فتنازعوا فقال اخرجوا- و لا ینبغی عند نبی أن یتنازع- قالوا ما شأنه أ هجر استفهموه- فذهبوا یعیدون علیه فقال- دعونی فما أنا فیه خیر مما تدعوننی إلیه- ثم أوصى بثلاث قال- أخرجوا المشرکین من جزیره العرب- و أجیزوا الوفد بنحو مما کنت أجیزهم- و سکت عن الثالثه عمدا أو قالها و نسیتها

و روى أبو جعفر عن ابن عباس قال خرج علی بن أبی طالب ع من عند رسول الله ص- فی وجعه الذی توفی فیه فقال له الناس- یا أبا الحسن کیف أصبح رسول الله ص قال- أصبح بحمد الله بارئا- فأخذ العباس بیده و قال- أ لا ترى أنک بعد ثلاث عبد العصا- إنی لأعرف الموت فی وجوه بنی عبد المطلب- فاذهب إلى رسول الله ص- فسله فیمن یکن هذا الأمر- فإن کان فینا علمنا ذلک- و إن کان فی غیرنا وصى بنا- فقال علی أخشى أن أسأله فیمنعناها- فلا یعطیناها الناس أبدا

و روت عائشه قالت أغمی على رسول الله ص و الدار مملوءه من النساء- أم سلمه و میمونه و أسماء بنت عمیس- و عندنا عمه العباس بن عبد المطلب- فأجمعوا على أن یلدوه- فقال العباس لا ألده فلدوه- فلما أفاق قال من صنع بی هذا- قالوا عمک قال لنا- هذا دواء جاءنا من نحو هذه الأرض- و أشار إلى أرض الحبشه قال- فلم فعلتم ذلک فقال العباس- خشینا یا رسول الله أن یکون بک ذات الجنب- فقال إن ذلک‏لداء ما کان الله لیقذفنی به- لا یبقى أحد فی البیت إلا لد إلا عمی- قال فلقد لدت میمونه و إنها لصائمه- لقسم رسول الله ص عقوبه لهم بما صنعوا قال أبو جعفر و قد وردت روایه أخرى عن عائشه قالت لددنا رسول الله ص فی مرضه- فقال لا تلدونی فقلنا کراهیه المریض للدواء- فلما أفاق قال لا یبقى أحد إلا لد غیر العباس عمی فإنه لم یشهدکم – .

قال أبو جعفر و الذی تولى اللدود بیده أسماء بنت عمیس- . قلت العجب من تناقض هذه الروایات- فی إحداها أن العباس لم یشهد اللدود- فلذلک أعفاه رسول الله ص- من أن یلد و لد من کان حاضرا- و فی إحداها أن العباس حضر لده ع- و فی هذه الروایه التی تتضمن حضور العباس فی لده کلام مختلف- فیها أن العباس قال لا ألده ثم قال- فلد فأفاق فقال من صنع بی هذا- قالوا عمک إنه قال- هذا دواء جاءنا من أرض الحبشه لذات الجنب- فکیف یقول لا ألده- ثم یکون هو الذی أشار بأن یلد- و قال هذا دواء جاءنا من أرض الحبشه لکذا- .

و سألت النقیب أبا جعفر یحیى بن أبی زید البصری- عن حدیث اللدود فقلت- أ لد علی بن أبی طالب ذلک الیوم- فقال معاذ الله لو کان لد- لذکرت عائشه ذلک فیما تذکره و تنعاه علیه- قال و قد کانت فاطمه حاضره فی الدار- و ابناها معها أ فتراها لدت أیضا- و لد الحسن و الحسین کلا و هذا أمر لم یکن- و إنما هو حدیث ولده من ولده- تقربا إلى بعض الناس- و الذی کان أن أسماء بنت عمیس أشارت بأن یلد- و قالت هذا دواء جاءنا من أرض الحبشه- جاء به جعفر بن أبی طالب و کان بعلها-و ساعدتها على تصویب ذلک و الإشاره به- میمونه بنت الحارث- فلد رسول الله ص فلما أفاق أنکره- و سأل عنه فذکر له کلام أسماء و موافقه میمونه لها- فأمر أن تلد الامرأتان لا غیر- فلدتا و لم یجر غیر ذلک- و الباطل لا یکاد یخفى على مستبصر- .

و روت عائشه قالت کثیرا ما کنت أسمع رسول الله یقول- إن الله لم یقبض نبیا حتى یخیره- فلما احتضر رسول الله ص- کان آخر کلمه سمعتها منه- بل الرفیق الأعلى- فقلت إذا و الله لا یختارنا- و علمت أن ذلک ما کان یقوله من قبل
و روى الأرقم بن شرحبیل قال سألت ابن عباس رحمه الله هل أوصى رسول الله ص- فقال لا قلت فکیف کان فقال- إن رسول الله ص قال فی مرضه- ابعثوا إلى علی فادعوه- فقالت عائشه لو بعثت إلى أبی بکر- و قالت حفصه لو بعثت إلى عمر- فاجتمعوا عنده جمیعا- هکذا لفظ الخبر على ما أورده الطبری فی التاریخ- و لم یقل فبعث رسول الله ص إلیهما- قال ابن عباس فقال رسول الله ص- انصرفوا فإن تکن لی حاجه أبعث إلیکم فانصرفوا- و قیل لرسول الله الصلاه- فقال مروا أبا بکر أن یصلی بالناس- فقالت عائشه إن أبا بکر رجل رقیق فمر عمر- فقال مروا عمر فقال عمر- ما کنت لأتقدم و أبو بکر شاهد- فتقدم أبو بکر فوجد رسول الله ص خفه- فخرج فلما سمع أبو بکر حرکته تأخر- فجذب رسول الله ص ثوبه فأقامه مکانه- و قعد رسول الله ص- فقرأ من حیث انتهى أبو بکر – .

قلت عندی فی هذه الواقعه کلام- و یعترضنی فیها شکوک و اشتباه- إذا کان قدأراد أن یبعث إلى علی لیوصی إلیه- فنفست عائشه علیه- فسألت أن یحضر أبوها- و نفست حفصه علیه فسألت أن یحضر أبوها- ثم حضرا و لم یطلبا فلا شبهه أن ابنتیهما طلبتاهما- هذا هو الظاهر- و قول رسول الله ص و قد اجتمعوا کلهم عنده- انصرفوا فإن تکن لی حاجه بعثت إلیکم- قول من عنده ضجر و غضب باطن لحضورهما- و تهمه للنساء فی استدعائهما- فکیف یطابق هذا الفعل و هذا القول- ما روی من أن عائشه قالت لما عین على أبیها فی الصلاه- أن أبی رجل رقیق فمر عمر- و أین ذلک الحرص من هذا الاستعفاء و الاستقاله- و هذا یوهم صحه ما تقوله الشیعه- من أن صلاه أبی بکر کانت عن أمر عائشه- و إن کنت لا أقول بذلک و لا أذهب إلیه- إلا أن تأمل هذا الخبر و لمح مضمونه یوهم ذلک- فلعل هذا الخبر غیر صحیح- و أیضا ففی الخبر ما لا یجیزه أهل العدل- و هو أن یقول مروا أبا بکر- ثم یقول عقیبه مروا عمر- لأن هذا نسخ الشی‏ء قبل تقضی وقت فعله- .

فإن قلت قد مضى من الزمان- مقدار ما یمکن الحاضرین فیه أن یأمروا أبا بکر- و لیس فی الخبر إلا أنه أمرهم أن یأمروه- و یکفی فی صحه ذلک مضی زمان یسیر جدا- یمکن فیه أن یقال یا أبا بکر صل بالناس- قلت الإشکال ما نشأ من هذا الأمر- بل من کون أبی بکر مأمورا بالصلاه- و إن کان بواسطه- ثم نسخ عنه الأمر بالصلاه- قبل مضی وقت یمکن فیه أن یفعل الصلاه- فإن قلت لم قلت فی صدر کلامک هذا- إنه أراد أن یبعث إلى علی لیوصی إلیه- و لم لا یجوز أن یکون بعث إلیه لحاجه له- قلت لأن مخرج کلام ابن عباس هذا المخرج- أ لا ترى أن الأرقم بن شرحبیل الراوی لهذا الخبر قال- سألت ابن عباس هل أوصى رسول الله ص- فقال لا فقلت فکیف کان- فقال إن رسول الله ص قال فی مرضه-ابعثوا إلى علی فادعوه- فسألته المرأه أن یبعث إلى أبیها- و سألته الأخرى أن یبعث إلى أبیها- فلو لا أن ابن عباس فهم من قوله ص- ابعثوا إلى علی فادعوه أنه یرید الوصیه إلیه- لما کان لإخبار الأرقم بذلک- متصلا بسؤاله عن الوصیه معنى

و روى القاسم بن محمد بن أبی بکر عن عائشه قالت رأیت رسول الله ص یموت- و عنده قدح فیه ماء یدخل یده فی القدح- ثم یمسح وجهه بالماء و یقول- اللهم أعنی على سکره الموت و روى عروه عن عائشه قالت اضطجع رسول الله ص یوم موته فی حجری- فدخل على رجل من آل أبی بکر- فی یده مسواک أخضر- فنظر رسول الله ص إلیه نظرا عرفت أنه یریده- فقلت له أ تحب أن أعطیک هذا المسواک- قال نعم فأخذته فمضغته حتى ألنته- ثم أعطیته إیاه- فاستن به کأشد ما رأیته یستن بسواک قبله ثم وضعه- و وجدت رسول الله ص یثقل فی حجری- فذهبت أنظر فی وجهه- فإذا بصره قد شخص و هو یقول- بل الرفیق الأعلى من الجنه- فقلت لقد خیرت فاخترت و الذی بعثک بالحق- و قبض رسول الله ص – .

قال الطبری و قد وقع الاتفاق- على أنه کان یوم الإثنین من شهر ربیع الأول- و اختلف فی أی الأثانین کان- فقیل للیلتین خلتا من الشهر- و قیل لاثنتی عشره خلت من الشهر- و اختلف فی تجهیزه أی یوم کان- فقیل یوم الثلاثاء الغد من وفاته- و قیل إنما دفن بعد وفاته بثلاثه أیام- اشتغل القوم عنه بأمر البیعه- . و قد روى الطبری ما یدل على ذلک- عن زیاد بن کلیب عن إبراهیم النخعی- أن‏أبا بکر جاء بعد ثلاث- إلى رسول الله ص و قد أربد بطنه- فکشف عن وجهه و قبل عینیه- و قال بأبی أنت و أمی- طبت حیا و طبت میتا- قلت و أنا أعجب من هذا- هب أن أبا بکر و من معه اشتغلوا بأمر البیعه- فعلی بن أبی طالب و العباس و أهل البیت- بما ذا اشتغلوا حتى یبقى النبی ص مسجى بینهم- ثلاثه أیام بلیالیهن لا یغسلونه و لا یمسونه- .

فإن قلت الروایه التی رواها الطبری- فی حدیث الأیام الثلاثه- إنما کانت قبل البیعه- لأن لفظ الخبر عن إبراهیم- و أنه لما قبض النبی ص کان أبو بکر غائبا فجاء بعد ثلاث- و لم یتجرأ أحد أن یکشف عن وجهه ع- حتى أربد بطنه فکشف عن وجهه و قبل عینیه- و قال بأبی أنت و أمی طبت حیا و طبت میتا- ثم خرج إلى الناس فقال- من کان یعبد محمدا فإن محمدا قد مات- الحدیث بطوله- قلت لعمری إن الروایه هکذا أوردها- و لکنها مستحیله- لأن أبا بکر فارق رسول الله ص و هو حی- و مضى إلى منزله بالسنح فی یوم الإثنین- و هو الیوم الذی مات فیه رسول الله ص- لأنه رآه بارئا صالح الحال- هکذا روى الطبری فی کتابه- و بین السنح و بین المدینه نصف فرسخ- بل هو طائفه من المدینه- فکیف یبقى رسول الله ص میتا- یوم الإثنین و یوم الثلاثاء و یوم الأربعاء- لا یعلم به أبو بکر- و بینهما غلوه ثلاثه أسهم- و کیف یبقى طریحا بین أهله ثلاثه أیام- لا یجترئ أحد منهم أن یکشف عن وجهه- و فیهم علی بن أبی طالب و هو روحه بین جنبیه- و العباس عمه القائم مقام أبیه- و ابنا فاطمه و هما کولدیه و فیهم فاطمه بضعه منه- أ فما کان فی هؤلاء من یکشف عن وجهه- و لا من یفکر فی جهازه و لا من یأنف له- من‏انتفاخ بطنه و اخضرارها- و ینتظر بذلک حضور أبی بکر لیکشف عن وجهه- أنا لا أصدق ذلک و لا یسکن قلبی إلیه- و الصحیح أن دخول أبی بکر إلیه و کشفه عن وجهه- و قوله ما قال إنما کان بعد الفراغ من البیعه- و أنهم کانوا مشتغلین بها کما ذکر فی الروایه الأخرى- .

و بقی الإشکال فی قعود علی ع عن تجهیزه- إذا کان أولئک مشتغلین بالبیعه فما الذی شغله هو- فأقول یغلب على ظنی إن صح ذلک- أن یکون قد فعله شناعه على أبی بکر و أصحابه- حیث فاته الأمر و استؤثر علیه به- فأراد أن یترکه ص بحاله لا یحدث فی جهازه أمرا- لیثبت عند الناس أن الدنیا شغلتهم عن نبیهم ثلاثه أیام- حتى آل أمره إلى ما ترون- و قد کان ع یتطلب الحیله فی تهجین أمر أبی بکر- حیث وقع فی السقیفه ما وقع بکل طریق- و یتعلق بأدنى سبب من أمور کان یعتمدها- و أقوال کان یقولها فلعل هذا من جمله ذلک- أو لعله إن صح ذلک- فإنما ترکه ص بوصیه منه إلیه- و سر کانا یعلمانه فی ذلک- .

فإن قلت فلم لا یجوز أن یقال إن صح ذلک- إنه أخر جهازه لیجتمع رأیه و رأی المهاجرین- على کیفیه غسله و تکفینه و نحو ذلک من أموره- قلت لأن الروایه الأولى تبطل هذا الاحتمال- و هی قوله ص لهم قبل موته یغسلنی أهلی الأدنى منهم فالأدنى- و أکفن فی ثیابی أو فی بیاض مصر- أو فی حله یمنیه – . قال أبو جعفر فأما الذین تولوا غسله- فعلی بن أبی طالب و العباس بن عبد المطلب- و الفضل بن العباس و قثم بن العباس- و أسامه بن زید و شقران مولى رسول الله ص-و حضر أوس بن خولی أحد الخزرج- فقال لعلی بن أبی طالب- أنشدک الله یا علی و حظنا من رسول الله- و کان أوس من أصحاب بدر- فقال له ادخل فدخل فحضر غسله ع- و صب الماء علیه أسامه و شقران- و کان علی ع یغسله و قد أسنده إلى صدره- و علیه قمیصه یدلکه من ورائه- لا یفضی بیده إلى بدن رسول الله ص- و کان العباس و ابناه الفضل و قثم یساعدونه- على قلبه من جانب إلى جانب- .

قال أبو جعفر و روت عائشه أنهم اختلفوا فی غسله- هل یجرد أم لا فألقى الله علیهم السنه- حتى ما منهم رجل إلا و ذقنه على صدره- ثم کلمهم متکلم من ناحیه البیت لا یدرى من هو- غسلوا النبی و علیه ثیابه- فقاموا إلیه فغسلوه- و علیه قمیصه- فکانت عائشه تقول- لو استقبلت من أمری- ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه- . قلت حضرت عند محمد بن معد العلوی فی داره ببغداد- و عنده حسن بن معالی الحلی المعروف بابن الباقلاوی- و هما یقرءان هذا الخبر- و هذه الأحادیث من تاریخ الطبری- فقال محمد بن معد لحسن بن معالی- ما تراها قصدت بهذا القول- قال حسدت أباک على ما کان یفتخر به من غسل رسول الله ص- فضحک محمد فقال- هبها استطاعت أن تزاحمه فی الغسل- هل تستطیع أن تزاحمه فی غیره من خصائصه- . قال أبو جعفر الطبری- ثم کفن ص فی ثلاثه أثواب- ثوبین صحاریین و برد حبره أدرج فیها إدراجا- و لحد له على عاده أهل المدینه- فلما فرغوا منه وضعوه على سریره- .

و اختلفوا فی دفنه- فقال قائل ندفنه فی مسجده- و قال قائل ندفنه فی البقیع مع أصحابه- و قال أبو بکر سمعت رسول الله ص یقول ما قبض نبی إلا و دفن حیث قبض – فرفع فراش رسول الله الذی توفی فیه فحفر له تحته- . قلت کیف اختلفوا فی موضع دفنه- و قد قال لهم فضعونی على سریری فی بیتی هذا على شفیر قبری – و هذا تصریح بأنه یدفن فی البیت الذی جمعهم فیه- و هو بیت عائشه- فإما أن یکون ذلک الخبر غیر صحیح- أو یکون الحدیث الذی تضمن أنهم اختلفوا فی موضع دفنه- و أن أبا بکر روى لهم أنه قال- الأنبیاء یدفنون حیث یموتون غیر صحیح- لأن الجمع بین هذین الخبرین لا یمکن- .

و أیضا فهذا الخبر ینافی ما ورد فی موت جماعه من الأنبیاء- نقلوا من موضع موتهم إلى مواضع أخر- و قد ذکر الطبری بعضهم فی أخبار أنبیاء بنی إسرائیل- . و أیضا فلو صح هذا الخبر- لم یکن مقتضیا إیجاب دفن النبی ص حیث قبض- لأنه لیس بأمر بل هو إخبار محض- اللهم إلا أن یکونوا فهموا من مخرج لفظه ع و من مقصده- أنه أراد الوصیه لهم بذلک- و الأمر بدفنه حیث یقبض- . قال أبو جعفر ثم دخل الناس فصلوا علیه أرسالا- حتى إذا فرغ الرجال أدخل النساء- حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبیان- ثم أدخل العبید و لم یؤمهم إمام- ثم دفن ع وسط اللیل من لیله الأربعاء- .

قال أبو جعفر- و قد روت عمره بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زراره عن عائشه قالت ما علمنا بدفن رسول الله ص- حتى سمعنا صوت المساحی فی جوف اللیل لیله الأربعاء – .قلت و هذا أیضا من العجائب- لأنه إذا مات یوم الإثنین وقت ارتفاع الضحى- کما ذکر فی الروایه و دفن لیله الأربعاء وسط اللیل- فلم یمض علیه ثلاثه أیام کما ورد فی تلک الروایه- . و أیضا فمن العجب کون عائشه- و هو فی بیتها لا تعلم بدفنه حتى سمعت صوت المساحی- أ تراها أین کانت- و قد سألت عن هذا جماعه- فقالوا لعلها کانت فی بیت یجاور بیتها- عندها نساء کما جرت عاده أهل المیت- و تکون قد اعتزلت بیتها و سکنت ذلک البیت- لأن بیتها مملوء بالرجال من أهل رسول الله ص- و غیرهم من الصحابه و هذا قریب- و یحتمل أن یکون- .

قال الطبری- و نزل فی قبر رسول الله ص علی بن أبی طالب ع- و الفضل بن عباس و قثم أخوه و شقران مولاهم- و قال أوس بن خولی لعلی ع- أنشدک الله یا علی و حظنا من رسول الله ص- فقال له انزل فنزل مع القوم- و أخذ شقران قطیفه کان رسول الله ص یلبسها- فقذفها معه فی القبر- و قال لا یلبسها أحد بعده- . قلت من تأمل هذه الأخبار- علم أن علیا ع کان الأصل و الجمله- و التفصیل فی أمر رسول الله ص و جهازه- أ لا ترى أن أوس بن خولی لا یخاطب أحدا من الجماعه غیره- و لا یسأل غیره فی حضور الغسل و النزول فی القبر- ثم انظر إلى کرم علی ع و سجاحه أخلاقه و طهاره شیمته- کیف لم یضن بمثل هذه المقامات الشریفه عن أوس- و هو رجل غریب من الأنصار- فعرف له حقه و أطلبه بما طلبه- فکم بین هذه السجیه الشریفه- و بین قول من قال- لو استقبلت من أمری ما استدبرت-ما غسل رسول الله ص إلا نساؤه- و لو کان فی ذلک المقام غیره من أولی الطباع الخشنه- و أرباب الفظاظه و الغلظه- و قد سأل أوس ذلک لزجر و انتهر و رجع خائبا- .

قال الطبری و کان المغیره بن شعبه یدعی- أنه أحدث الناس عهدا برسول الله ص- و یقول للناس إننی أخذت خاتمی فألقیته فی القبر- و قلت إن خاتمی قد سقط منی و إنما طرحته عمدا- لأمس رسول الله ص فأکون آخر الناس به عهدا- . قال الطبری فروى عبد الله بن الحارث بن نوفل- قال اعتمرت مع علی بن أبی طالب ع فی زمان عمر أو عثمان- فنزل على أخته أم هانئ بنت أبی طالب- فلما فرغ من عمرته رجع و قد سکب له غسل- فلما فرغ من غسله دخل علیه نفر من أهل العراق- فقالوا یا أبا الحسن- جئناک نسألک عن أمر نحب أن تخبرنا به- فقال أظن المغیره یحدثکم- أنه أحدث الناس عهدا برسول الله ص- قالوا أجل عن ذا جئنا نسألک قال کذب- أحدث الناس عهدا برسول الله ص قثم بن العباس- کان آخرنا خروجا من قبره- .

قلت بحق ما عاب أصحابنا رحمهم الله المغیره- و ذموه و انتقصوه- فإنه کان على طریقه غیر محموده- و أبى الله إلا أن یکون کاذبا على کل حال- لأنه إن لم یکن أحدثهم بالنبی عهدا- فقد کذب فی دعواه أنه أحدثهم به عهدا- و إن کان أحدثهم به عهدا کما یزعم- فقد اعترف بأنه کذب فی قوله لهم سقط خاتمی منی- و إنما ألقاه عمدا- و أین المغیره و رسول الله ص لیدعی القرب منه- و أنه أحدث الناس عهدا به-و قد علم الله تعالى و المسلمون- أنه لو لا الحدث الذی أحدث- و القوم الذین صحبهم فقتلهم غدرا و اتخذ أموالهم- ثم التجأ إلى رسول الله ص لیعصمه لم یسلم- و لا وطئ حصا المدینه- . قال الطبری و قد اختلف فی سن رسول الله ص- فالأکثرون أنه کان ابن ثلاث و ستین سنه- و قال قوم ابن خمس و ستین سنه- و قال قوم ابن ستین- . فهذا ما ذکره الطبری فی تاریخه- .

و روى محمد بن حبیب فی أمالیه- قال تولى غسل النبی ص علی ع و العباس رضی الله عنه- . و کان علی ع یقول بعد ذلک ما شممت أطیب من ریحه- و لا رأیت أضوأ من وجهه حینئذ- و لم أره یعتاد فاه ما یعتاد أفواه الموتى
قال محمد بن حبیب فلما کشف الإزار عن وجهه بعد غسله انحنى علیه- فقبله مرارا و بکى طویلا- و قال بأبی أنت و أمی- طبت حیا و طبت میتا- انقطع بموتک ما لم ینقطع بموت أحد سواک- من النبوه و الأنباء و أخبار السماء- خصصت حتى صرت مسلیا عمن سواک- و عممت حتى صارت المصیبه فیک سواء- و لو لا أنک أمرت بالصبر- و نهیت عن الجزع لأنفدنا علیک ماء الشئون- و لکن أتى ما لا یدفع- أشکو إلیک کمدا و إدبارا مخالفین و داء الفتنه- فإنها قد استعرت نارها و داؤها الداء الأعظم- بأبی أنت و أمی اذکرنا عند ربک- و اجعلنا من بالک و همک- ثم نظر إلى قذاه فی عینه فلفظها بلسانه- ثم رد الإزار على وجهه – .

و قد روى کثیر من الناس ندبه فاطمه ع أباها یوم موته- و بعد ذلک الیوم و هی ألفاظ معدوده مشهوره- منها یا أبتاه جنه الخلد مثواه- یا أبتاه عند ذی العرش مأواه- یا أبتاه کان جبرئیل یغشاه- یا أبتاه لست بعد الیوم أراه – . و من الناس من یذکر- أنها کانت تشوب هذه الندبه- بنوع من التظلم و التألم لأمر یغلبها- و الله أعلم بصحه ذلک- و الشیعه تروی أن قوما من الصحابه- أنکروا بکاءها الطویل و نهوها عنه- و أمروها بالتنحی عن مجاوره المسجد- إلى طرف من أطراف المدینه- . و أنا أستبعد ذلک- و الحدیث یدخله الزیاده و النقصان- و یتطرق إلیه التحریف و الافتعال- و لا أقول أنا فی أعلام المهاجرین إلا خیرا

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۸۱

خطبه ۲۲۹ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۲۹ و من کلام له ع

رَوَى ذِعْلَبٌ الْیَمَامِیُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ قُتَیْبَهَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ یَزِیدَ عَنْ مَالِکِ بْنِ دِحْیَهَ قَالَ: کُنَّا عِنْدَ أَمِیرِ الْمُؤْمنِیِنَ ع- فَقَالَ وَ قَدْ ذُکِرَ عِنْدَهُ اخْتِلَافُ النَّاسِ- إِنَّمَا فَرَّقَ بَیْنَهُمْ مَبَادِئُ طِینِهِمْ- وَ ذَلِکَ أَنَّهُمْ کَانُوا فِلْقَهً مِنْ سَبَخِ أَرْضٍ وَ عَذْبِهَا- وَ حَزْنِ تُرْبَهٍ وَ سَهْلِهَا- فَهُمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِ أَرْضِهِمْ یَتَقَارَبُونَ- وَ عَلَى قَدْرِ اخْتِلَافِهَا یَتَفَاوَتُونَ- فَتَامُّ الرُّوَاءِ نَاقِصُ الْعَقْلِ- وَ مَادُّ الْقَامَهِ قَصِیرُ الْهِمَّهِ- وَ زَاکِی الْعَمَلِ قَبِیحُ الْمَنْظَرِ- وَ قَرِیبُ الْقَعْرِ بَعِیدُ السَّبْرِ- وَ مَعْرُوفُ الضَّرِیبَهِ مُنْکَرُ الْجَلِیبَهِ- وَ تَائِهُ الْقَلْبِ مُتَفَرِّقُ اللُّبِّ- وَ طَلِیقُ اللِّسَانِ حَدِیدُ الْجَنَانِ ذعلب و أحمد و عبد الله و مالک- رجال من رجال الشیعه و محدثیهم- و هذا الفصل عندی لا یجوز أن یحمل على ظاهره- و ما یتسارع إلى أفهام العامه منه- و ذلک لأن قوله- إنهم کانوا فلقه من سبخ أرض و عذبها- إما أن یرید به أن کل واحد من الناس رکب من طین- و جعل صوره بشریه طینیه- برأس و بطن و یدین و رجلین-

ثم نفخت فیه الروح کما فعل بآدم- أو یرید به أن الطین الذی رکبت منه صوره آدم فقط- کان مختلطا من سبخ و عذب- فإن أرید الأول فالواقع خلافه- لأن البشر الذین نشاهدهم- و الذین بلغتنا أخبارهم لم یخلقوا من الطین کما خلق آدم- و إنما خلقوا من نطف آبائهم- و لیس لقائل أن یقول لعل تلک النطف‏ افترقت- لأنها تولدت من أغذیه- مختلفه المنبت من العذوبه و الملوحه- و ذلک لأن النطفه لا تتولد من غذاء بعینه- بل من مجموع الأغذیه- و تلک الأغذیه لا یمکن أن تکون کلها- من أرض سبخه محضه فی السبخیه- لأن هذا من الاتفاقات التی یعلم عدم وقوعها- کما یعلم أنه لا یجوز أن یتفق- أن یکون أهل بغداد فی وقت بعینه- على کثرتهم لا یأکلون ذلک الیوم إلا السکباج خاصه-

و أیضا فإن الأرض السبخه- أو التی الغالب علیها السبخیه- لا تنبت الأقوات أصلا- و إن أرید الثانی و هو أن یکون طین آدم ع- مختلطا فی جوهره مختلفا فی طبائعه- فلم کان زید الأحمق یتولد من الجزء السبخی- و عمرو العاقل یتولد من الجزء العذبی- و کیف یؤثر اختلاف طین آدم- من سته آلاف سنه فی أقوام یتوالدون الآن- . و الذی أراه أن لکلامه ع تأویلا باطنا- و هو أن یرید به اختلاف النفوس المدبره للأبدان- و کنى عنها بقوله مبادئ طینهم- و ذلک أنها لما کانت الماسکه للبدن من الانحلال- العاصمه له من تفرق العناصر- صارت کالمبدإ و کالعله له من حیث إنها- کانت عله فی بقاء امتزاجه- و اختلاط عناصره بعضها ببعض- و لذلک إذا فارقت عند الموت افترقت العناصر- و انحلت الأجزاء فرجع اللطیف منها إلى الهواء- و الکثیف إلى الأرض- .

و قوله کانوا فلقه من سبخ أرض و عذبها- و حزن تربه و سهلها- تفسیره أن البارئ جل جلاله لما خلق النفوس- خلقها مختلفه فی ماهیتها- فمنها الزکیه و منها الخبیثه- و منها العفیفه و منها الفاجره- و منها القویه و منها الضعیفه- و منها الجریئه المقدمه و منها الفشله الذلیله- إلى غیر ذلک من أخلاق النفوس المختلفه المتضاده- . ثم فسر ع و علل تساوی قوم فی الأخلاق- و تفاوت آخرین فیها فقال-إن نفس زید قد تکون مشابهه- أو قریبه من المشابهه لنفس عمرو- فإذا هما فی الأخلاق متساویتان أو متقاربتان- و نفس خالد قد تکون مضاده لنفس بکر- أو قریبه من المضاده- فإذا هما فی الأخلاق متباینتان أو قریبتان من المباینه- .

و القول باختلاف النفوس فی ماهیاتها- هو مذهب أفلاطون- و قد اتبعه علیه جماعه من أعیان الحکماء- و قال به کثیر من مثبتی النفوس من متکلمی الإسلام- . و أما أرسطو و أتباعه- فإنهم لا یذهبون إلى اختلاف النفوس فی ماهیتها- و القول الأول عندی أمثل- . ثم بین ع اختلاف آحاد الناس- فقال منهم من هو تام الرواء لکنه ناقص العقل- و الرواء بالهمز و المد المنظر الجمیل- و من أمثال العرب ترى الفتیان کالنخل- و ما یدریک ما الدخل- . و قال الشاعر

عقله عقل طائر
و هو فی خلقه الجمل‏

و قال أبو الطیب

و ما الحسن فی وجه الفتى شرف له
إذا لم یکن فی فعله و الخلائق‏

 و قال الآخر

و ما ینفع الفتیان حسن وجوههم
إذا کانت الأخلاق غیر حسان‏

فلا یغررنک المرء راق رواؤه‏
فما کل مصقول الغرار یمانی‏

و من شعر الحماسه

لقومی أرعى للعلا من عصابه
من الناس یا حار بن عمرو تسودها

و أنتم سماء یعجب الناس رزها
بآبده تنحی شدید وئیدها

تقطع أطناب البیوت بحاصب
و أکذب شی‏ء برقها و رعودها

فویل أمها خیلا بهاء و شاره
إذا لاقت الأعداء لو لا صدودها

 و منه أیضا

و کاثر بسعد إن سعدا کثیره
و لا ترج من سعد وفاء و لا نصرا

یروعک من سعد بن زید جسومها
و تزهد فیها حین تقتلها خبرا

قوله ع و ماد القامه قصیر الهمه- قریب من المعنى الأول- إلا أنه خالف بین الألفاظ- فجعل الناقص بإزاء التام و القصیر بإزاء الماد- و یمکن أن یجعل المعنیان مختلفین- و ذلک لأنه قد یکون الإنسان تام العقل- إلا أن همته قصیره- و قد رأینا کثیرا من الناس کذلک- فإذن هذا قسم آخر من الاختلاف غیر الأول- . قوله ع و زاکی العمل قبیح المنظر- یرید بزکاء أعماله حسنها و طهارتها- فیکون قد أوقع الحسن بإزاء القبیح- و هذا القسم موجود فاش بین الناس- .

قوله و قریب القعر بعید السبر- أی قد یکون الإنسان قصیر القامه- و هو مع ذلک داهیه باقعه- و المراد بقرب قعره تقارب ما بین طرفیه- فلیست بطنه بمدیدهو لا مستطیله- و إذا سبرته و اختبرت ما عنده وجدته لبیبا فطنا- لا یوقف على أسراره و لا یدرک باطنه- و من هذا المعنى قول الشاعر-

ترى الرجل النحیف فتزدریه
و فی أثوابه أسد مزیر

و یعجبک الطریر فتبتلیه‏
فیخلف ظنک الرجل الطریر

و قیل لبعض الحکماء- ما بال القصار من الناس أدهى و أحذق- قال لقرب قلوبهم من أدمغتهم- . و من شعر الحماسه

إلا یکن عظمی طویلا فإننی
له بالخصال الصالحات وصول‏

و لا خیر فی حسن الجسوم و طولها
إذا لم تزن حسن الجسوم عقول‏

 و من شعر الحماسه أیضا- و هو تمام البیتین المقدم ذکرهما-

فما عظم الرجال لهم بفخر
و لکن فخرهم کرم و خیر

ضعاف الطیر أطولها جسوما
و لم تطل البزاه و لا الصقور

بغاث الطیر أکثرها فراخا
و أم الصقر مقلات نزور

لقد عظم البعیر بغیر لب‏
فلم یستغن بالعظم البعیر

قوله ع و معروف الضریبه منکر الجلیبه- الجلیبه هی الخلق الذی‏یتکلفه الإنسان و یستجلبه- مثل أن یکون جبانا بالطبع فیتکلف الشجاعه- أو شحیحا بالطبع فیتکلف الجود- و هذا القسم أیضا عام فی الناس- . ثم لما فرغ من الأخلاق المتضاده- ذکر بعدها ذوی الأخلاق و الطباع المتناسبه المتلائمه- فقال و تائه القلب متفرق اللب- و هذان الوصفان متناسبان لا متضادان- . ثم قال و طلیق اللسان حدید الجنان- و هذان الوصفان أیضا متناسبان- و هما متضادان للوصفین قبلهما- فالأولان ذم و الآخران مدح

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۳۰

خطبه ۲۲۸ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۲۸ و من کلام له ع

أَلَا وَ إِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَهٌ مِنَ الْإِنْسَانِ- فَلَا یُسْعِدُهُ الْقَوْلُ إِذَا امْتَنَعَ- وَ لَا یُمْهِلُهُ النُّطْقُ إِذَا اتَّسَعَ- وَ إِنَّا لَأُمَرَاءُ الْکَلَامِ وَ فِینَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ- وَ عَلَیْنَا تَهَدَّلَتْ غُصُونُهُ- وَ اعْلَمُوا رَحِمَکُمُ اللَّهُ أَنَّکُمْ فِی زَمَانٍ- الْقَائِلُ فِیهِ بِالْحَقِّ قَلِیلٌ- وَ اللِّسَانُ عَنِ الصِّدْقِ کَلِیلٌ- وَ اللَّازِمُ لِلْحَقِّ ذَلِیلٌ- أَهْلُهُ مُعْتَکِفُونَ عَلَى الْعِصْیَانِ- مُصْطَلِحُونَ عَلَى الْإِدْهَانِ فَتَاهُمْ عَارِمٌ- وَ شَائِبُهُمْ آثِمٌ وَ عَالِمُهُمْ مُنَافِقٌ- وَ فَارِئُهُمْ مُمَاذِقٌ لَا یُعَظِّمُ صَغِیرُهُمْ کَبِیرَهُمْ- وَ لَا یَعُولُ غَنِیُّهُمْ فَقِیرَهُمْ بضعه من الإنسان قطعه منه- و الهاء فی یسعده ترجع إلى اللسان- .

و الضمیر فی امتنع یرجع إلى الإنسان- و کذلک الهاء فی لا یمهله یرجع إلى اللسان- . و الضمیر فی اتسع یرجع إلى الإنسان- و تقدیره فلا یسعد اللسان القول- إذا امتنع الإنسان عن أن یقول- و لا یمهل اللسان النطق إذا اتسع للإنسان القول- و المعنى أن اللسان آله للإنسان- فإذا صرفه صارف عن الکلام لم یکن اللسان‏ناطقا- و إذا دعاه داع إلى الکلام- نطق اللسان بما فی ضمیر صاحبه- . و تنشبت عروقه أی علقت و روی انتشبت- و الروایه الأولى أدخل فی صناعه الکلام- لأنها بإزاء تهدلت و التهدل التدلی- و قد أخذ هذه الألفاظ بعینها أبو مسلم الخراسانی- فخطب بها فی خطبه مشهوره من خطبه

ذکر من أرتج علیهم أو حصروا عند الکلام

و اعلم أن هذا الکلام قاله أمیر المؤمنین ع- فی واقعه اقتضت أن یقوله- و ذلک أنه أمر ابن أخته جعده بن هبیره المخزومی- أن یخطب الناس یوما فصعد المنبر- فحصر و لم یستطع الکلام- فقام أمیر المؤمنین ع فتسنم ذروه المنبر- و خطب خطبه طویله- ذکر الرضی رحمه الله منها هذه الکلمات- و روى شیخنا أبو عثمان فی کتاب البیان و التبیین- أن عثمان صعد المنبر فأرتج علیه فقال- إن أبا بکر و عمر کانا یعدان لهذا المقام مقالا- و أنتم إلى إمام عادل- أحوج منکم إلى إمام خطیب- و ستأتیکم الخطبه على وجهها ثم نزل- .

قال أبو عثمان و روى أبو الحسن المدائنی قال- صعد ابن لعدی بن أرطاه المنبر- فلما رأى الناس حصر فقال- الحمد لله الذی یطعم هؤلاء و یسقیهم- و صعد روح بن حاتم المنبر- فلما رأى الناس قد رشقوه بأبصارهم- و صرفوا أسماعهم‏نحوه قال- نکسوا رءوسکم و غضوا أبصارکم- فإن أول مرکب صعب- فإذا یسر الله عز و جل فتح قفل تیسر- ثم نزل- .

و خطب مصعب بن حیان- أخو مقاتل بن حیان خطبه نکاح فحصر فقال- لقنوا موتاکم لا إله إلا الله- فقالت أم الجاریه عجل الله موتک أ لهذا دعوناک- . و خطب مروان بن الحکم فحصر فقال- اللهم إنا نحمدک و نستعینک و لا نشرک بک- . و لما حصر عبد الله بن عامر بن کریز- على المنبر بالبصره و کان خطیبا- شق علیه ذلک فقال له زیاد بن أبیه و کان خلیفته- أیها الأمیر لا تجزع- فلو أقمت على المنبر عامه من ترى- أصابهم أکثر مما أصابک- فلما کانت الجمعه تأخر عبد الله بن عامر- و قال زیاد للناس- إن الأمیر الیوم موعوک- فقیل لرجل من وجوه أمراء القبائل- قم فاصعد المنبر فلما صعد حصر- فقال الحمد لله الذی یرزق هؤلاء- و بقی ساکتا فأنزلوه و أصعدوا آخر من الوجوه- فلما استوى قائما قابل بوجهه الناس- فوقعت عینه على صلعه رجل- فقال أیها الناس إن هذا الأصلع قد منعنی الکلام- اللهم فالعن هذه الصلعه- فأنزلوه- و قالوا لوازع الیشکری قم إلى المنبر فتکلم- فلما صعد و رأى الناس قال أیها الناس- إنی کنت الیوم کارها لحضور الجمعه- و لکن امرأتی حملتنی على إتیانها- و أنا أشهدکم أنها طالق ثلاثا- فأنزلوه- فقال زیاد لعبد الله بن عامر- کیف رأیت قم الآن فاخطب الناس- .

و قال سهل بن هارون- دخل قطرب النحوی على المخلوع فقال- یا أمیر المؤمنین کانت عدتک أرفع من جائزتک- و هو یتبسم- فاغتاظ الفضل بن الربیع- فقلت له إن هذا من الحصر و الضعف- و لیس من الجلد و القوه- أما تراه یفتل أصابعه و یرشح جبینه- . و دخل معبد بن طوق العنبری على بعض الأمراء- فتکلم و هو قائم فأحسن- فلما جلس تلهیع فی کلامه- فقال له ما أظرفک قائما و أموقک قاعدا- قال إنی إذا قمت جددت و إذا قعدت هزلت- فقال ما أحسن ما خرجت منها- . و کان عمرو بن الأهتم المنقری- و الزبرقان بن بدر عند رسول الله ص- فسأل ع عمرا عن الزبرقان فقال- یا رسول الله إنه لمانع لحوزته مطاع فی أدانیه- فقال الزبرقان حسدنی یا رسول الله- فقال عمرو یا رسول الله إنه لزمر المروءه- ضیق العطن لئیم الخال- فنظر رسول الله ص إلى وجه عمرو- فقال یا رسول الله رضیت فقلت أحسن ما علمت- و غضبت فقلت أقبح ما علمت- و ما کذبت فی الأولى و لقد صدقت فی الأخرى- فقال ع إن من البیان لسحرا – .

و قال خالد بن صفوان- ما الإنسان لو لا اللسان- إلا صوره ممثله أو بهیمه مهمله-و قال ابن أبی الزناد- کنت کاتبا لعمر بن عبد العزیز- فکان یکتب إلى عبد الحمید بن عبد الرحمن بن زید بن الخطاب- فی المظالم فیراجعه- فکتب إلیه إنه یخیل إلی أنی لو کتبت إلیک- أن تعطی رجلا شاه لکتبت إلی- أ ضأنا أم معزا- فإذا کتبت إلیک بأحدهما- کتبت إلی أ ذکرا أم أنثى- و إذا کتبت إلیک بأحدهما- کتبت إلی صغیرا أم کبیرا- فإذا کتبت إلیک فی مظلمه- فلا تراجعنی و السلام- . و أخذ المنصور هذا- فکتب إلى سلم بن قتیبه عامله بالبصره- یأمره بهدم دور من خرج- مع إبراهیم بن عبد الله بن الحسن و عقر نخلهم- فکتب إلیه بأیهما أبدأ بالدور أم بالنخل- یا أمیر المؤمنین فکتب إلیه- لو قلت لک بالنخل لکتبت إلی بما ذا أبدأ- بالشهریز أم بالبرنی- و عزله و ولى محمد بن سلیمان- .

و خطب عبد الله بن عامر مره فأرتج علیه- و کان ذلک الیوم یوم الأضحى فقال- لا أجمع علیکم عیا و لؤما- من أخذ شاه من السوق فهی له و ثمنها علی- . و خطب السفاح أول یوم صعد فیه المنبر فأرتج علیه- فقام عمه داود بن علی فقال- أیها الناس إن أمیر المؤمنین یکره أن یتقدم قوله فیکم فعله- و لأثر الأفعال أجدى علیکم من تشقیق المقال- و حسبکم کتاب الله علما فیکم- و ابن عم رسول الله ص خلیفه علیکم- . قال الشاعر-

و ما خیر من لا ینفع الدهر عیشه
و إن مات لم یحزن علیه أقاربه‏

کهام على الأقصى کلیل لسانه‏
و فی بشر الأدنى حدید مخالبه‏

 و قال أحیحه بن الجلاح-

و الصمت أجمل بالفتى
ما لم یکن عی یشینه‏

و القول ذو خطل إذا
ما لم یکن لب یزینه‏

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۲۷

خطبه ۲۲۷ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۲۷ و من کلام له ع کلم به عبد الله بن زمعه

و هو من شیعته- و ذلک أنه قدم علیه فی خلافته یطلب منه مالا- فَقَالَ ع: إِنَّ هَذَا الْمَالَ لَیْسَ لِی وَ لَا لَکَ- وَ إِنَّمَا هُوَ فَیْ‏ءٌ لِلْمُسْلِمِینَ وَ جَلْبُ أَسْیَافِهِمْ- فَإِنْ شَرِکْتَهُمْ فِی حَرْبِهِمْ کَانَ لَکَ مِثْلُ حَظِّهِمْ- وَ إِلَّا فَجَنَاهُ أَیْدِیهِمْ لَا تَکُونُ لِغَیْرِ أَفْوَاهِهِمْ

عبد الله بن زمعه و نسبه

هو عبد الله بن زمعه بفتح المیم لا کما ذکره الراوندی- و هو عبد الله بن زمعه بن الأسود- بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصی- . کان الأسود من المستهزءین- الذین کفى الله رسوله أمرهم بالموت و القتل- و ابنه زمعه بن الأسود قتل یوم بدر کافرا- و کان یدعى زاد الرکب و قتل أخوه عقیل بن الأسود- أیضا کافرا یوم بدر- و قتل الحارث بن زمعه أیضا یوم بدر کافرا- و الأسود هو الذی سمع امرأه- تبکی على بعیر تضله بمکه بعد یوم بدر فقال-

أ تبکی أن یضل لها بعیر
و یمنعها من النوم الهجود

و لا تبکی على بدر و لکن
على بدر تقاصرت الجدود

ألا قد ساد بعدهم أناس‏
و لو لا یوم بدر لم یسودوا

و کان عبد الله بن زمعه شیعه لعلی ع و من أصحابه- و من ولد عبد الله هذا أبو البختری القاضی- و هو وهب بن وهب بن کبیر بن عبد الله بن زمعه- قاضی الرشید هارون بن محمد المهدی- و کان منحرفا عن علی ع- و هو الذی أفتى الرشید ببطلان الأمان الذی کتبه- لیحیى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن- بن علی بن أبی طالب ع و أخذه بیده فمزقه- . و قال أمیه بن أبی الصلت یرثی قتلى بدر- و یذکر زمعه بن الأسود-

عین بکی لنوفل و لعمرو
ثم لا تبخلی على زمعه‏

نوفل بن خویلد من بنی أسد بن عبد العزى- و یعرف بابن العدویه- قتله علی ع- و عمرو أبو جهل بن هشام قتله عوف بن عفراء- و أجهز علیه عبد الله بن مسعود قوله ع و جلب أسیافهم- أی ما جلبته أسیافهم و ساقته إلیهم- و الجلب المال المجلوب- و جناه الثمر ما یجنى منه و هذه استعاره فصیحه

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۱۰

خطبه ۲۲۶ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۲۶ و من خطبه له ع خطبها بذی قار- و هو متوجه إلى البصره

– ذکرها الواقدی فی کتاب الجمل- : فَصَدَعَ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَ بَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ- فَلَمَّ اللَّهُ بِهِ الصَّدْعَ وَ رَتَقَ بِهِ الْفَتْقَ- وَ أَلَّفَ بِهِ الشَّمْلَ بَیْنَ ذَوِی الْأَرْحَامِ- بَعْدَ الْعَدَاوَهِ الْوَاغِرَهِ فِی الصُّدُورِ- وَ الضَّغَائِنِ الْقَادِحَهِ فِی الْقُلُوبِ ذو قار اسم موضع قریب من البصره- و فیه کانت وقعه للعرب مع الفرس قبل الإسلام- . و صدع بما أمر به أی جهر و أصل الصدع الشق- . و لم به جمع و رتق خاط و ألحم- . و العداوه الواغره ذات الوغره و هی شده الحر- . و الضغائن الأحقاد- . و القادحه فی القلوب- کأنها تقدح النار فیها کما تقدح النار بالمقدحه

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۱۴

خطبه ۲۲۵ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۲۵ و من خطبه له ع

– : فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ مِفْتَاحُ سَدَادٍ- وَ ذَخِیرَهُ مَعَادٍ وَ عِتْقٌ مِنْ کُلِّ مَلَکَهٍ- وَ نَجَاهٌ مِنْ کُلِّ هَلَکَهٍ بِهَا یَنْجَحُ الطَّالِبُ- وَ یَنْجُو الْهَارِبُ وَ تُنَالُ الرَّغَائِبُ- فَاعْمَلُوا وَ الْعَمَلُ یُرْفَعُ- وَ التَّوْبَهُ تَنْفَعُ وَ الدُّعَاءُ یُسْمَعُ- وَ الْحَالُ هَادِئَهٌ وَ الْأَقْلَامُ جَارِیَهٌ- وَ بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ عُمُراً نَاکِساً- أَوْ مَرَضاً حَابِساً أَوْ مَوْتاً خَالِساً- فَإِنَّ الْمَوْتَ هَادِمُ لَذَّاتِکُمْ- وَ مُکَدِّرُ شَهَوَاتِکُمْ وَ مُبَاعِدُ طِیَّاتِکُمْ- زَائِرٌ غَیْرُ مَحْبُوبٍ وَ قِرْنٌ غَیْرُ مَغْلُوبٍ- وَ وَاتِرٌ غَیْرُ مَطْلُوبٍ- قَدْ أَعْلَقَتْکُمْ حَبَائِلُهُ- وَ تَکَنَّفَتْکُمْ غَوَائِلُهُ وَ أَقْصَدَتْکُمْ مَعَابِلُهُ- وَ عَظُمَتْ فِیکُمْ سَطْوَتُهُ وَ تَتَابَعَتْ عَلَیْکُمْ عَدْوَتُهُ- وَ قَلَّتْ عَنْکُمْ نَبْوَتُهُ- فَیُوشِکُ أَنْ تَغْشَاکُمْ دَوَاجِی ظُلَلِهِ- وَ احْتِدَامُ عِلَلِهِ وَ حَنَادِسُ غَمَرَاتِهِ- وَ غَوَاشِی سَکَرَاتِهِ وَ أَلِیمُ إِرْهَاقِهِ- وَ دُجُوُّ أَطْبَاقِهِ وَ خُشُونَهُ مَذَاقِهِ- فَکَأَنْ قَدْ أَتَاکُمْ بَغْتَهً فَأَسْکَتَ نَجِیَّکُمْ- وَ فَرَّقَ نَدِیَّکُمْ وَ عَفَّى آثَارَکُمْ- وَ عَطَّلَ دِیَارَکُمْ وَ بَعَثَ وُرَّاثَکُمْ- یَقْتَسِمُونَ تُرَاثَکُمْ بَیْنَ حَمِیمٍ خَاصٍّ لَمْ یَنْفَعْ- وَ قَرِیبٍ مَحْزُونٍ لَمْ یَمْنَعْ- وَ آخَرَ شَامِتٍ لَمْ یَجْزَعْ- فَعَلَیْکُمْ بِالْجَدِّ وَ الِاجْتِهَادِ وَ التَّأَهُّبِ وَ الِاسْتِعْدَادِ- وَ التَّزَوُّدِ فِی مَنْزِلِ الزَّادِ- وَ لَا تَغُرَّنَّکُمُ الْحَیَاهُ الدُّنْیَا- کَمَا غَرَّتْ مَنْ کَانَ قَبْلَکُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِیَهِ- وَ الْقُرُونِ الْخَالِیَهِ الَّذِینَ احْتَلَبُوا دِرَّتَهَا- وَ أَصَابُوا غِرَّتَهَا وَ أَفْنَوْا عِدَّتَهَا- وَ أَخْلَقُوا جِدَّتَهَاوَ أَصْبَحَتْ مَسَاکِنُهُمْ أَجْدَاثاً- وَ أَمْوَالُهُمْ مِیرَاثاً لَا یَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ- وَ لَا یَحْفِلُونَ مَنْ بَکَاهُمْ وَ لَا یُجِیبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ- فَاحْذَرُوا الدُّنْیَا فَإِنَّهَا غَدَّارَهٌ غَرَّارَهٌ خَدُوعٌ- مُعْطِیَهٌ مَنُوعٌ مُلْبِسَهٌ نَزُوعٌ- لَا یَدُومُ رَخَاؤُهَا- وَ لَا یَنْقَضِی عَنَاؤُهَا وَ لَا یَرْکُدُ بَلَاؤُهَا عتق من کل ملکه- هو مثل

قوله ع التوبه تجب ما قبلها

– أی کل ذنب موبق یملک الشیطان فاعله و یستحوذ علیه- فإن تقوى الله تعتق منه و تکفر عقابه- و مثله قوله و نجاه من کل هلکه- . قوله ع و العمل ینفع- أی اعملوا فی دار التکلیف- فإن العمل یوم القیامه غیر نافع- . قوله ع و الحال هادئه- أی ساکنه لیس فیها ما فی أحوال الموقف- من تلک الحرکات الفظیعه- نحو تطایر الصحف و نطق الجوارح- و عنف السیاق إلى النار- . قوله ع و الأقلام جاریه- یعنی أن التکلیف باق- و أن الملائکه الحفظه تکتب أعمال العباد- بخلاف یوم القیامه فإنه یبطل ذلک- و یستغنى عن الحفظه لسقوط التکلیف- .

قوله عمرا ناکسا یعنی الهرم- من قوله تعالى وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَکِّسْهُ فِی الْخَلْقِ- لرجوع الشیخ الهرم- إلى مثل حال الصبی الصغیر فی ضعف العقل و البنیه-و الموت الخالس المختطف- و الطیات جمع طیه بالکسر و هی منزل السفر- و الواتر القاتل و الوتر بالکسر الذحل- . و أعلقتکم حبائله جعلتکم معتلقین فیها- و یروى قد علقتکم بغیر همز- . و تکنفتکم غوائله أحاطت بکم دواهیه و مصائبه- و أقصدتکم أصابتکم- .

و المعابل نصال عراض الواحده معبله بالکسر- . و عدوته بالفتح ظلمه- و نبوته مصدر نبا السیف- إذا لم یؤثر فی الضریبه- . و یوشک بالکسر یقرب و تغشاکم تحیط بکم- . و الدواجی الظلم الواحده داجیه- و الظلل جمع ظله و هی السحاب- و الاحتدام الاضطرام و الحنادس الظلمات- . و إرهاقه مصدر أرهقته أی أعجلته- و یروى إزهاقه بالزای- . و الأطباق جمع طبق و هذا من باب الاستعاره- أی تکاثف ظلماتها طبق فوق طبق- . و یروى و جشوبه مذاقه بالجیم و الباء و هی غلظ الطعام- . و النجی القوم یتناجون- و الندی القوم یجتمعون فی النادی- . و احتلبوا درتها فازوا بمنافعها کما یحتلب الإنسان اللبن- . و هذه الخطبه من محاسن خطبه ع- و فیها من صناعه البدیع ما هو ظاهر للمتأمل:

مِنْهَا فِی صِفَهِ الزُّهَّادِ- کَانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُّنْیَا وَ لَیْسُوا مِنْ أَهْلِهَا- فَکَانُوا فِیهَا کَمَنْ لَیْسَ مِنْهَا-عَمِلُوا فِیهَا بِمَا یُبْصِرُونَ- وَ بَادَرُوا فِیهَا مَا یَحْذَرُونَ- تَقَلُّبُ أَبْدَانِهِمْ بَیْنَ ظَهْرَانَیْ أَهْلِ الآْخِرَهِ- وَ یَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْیَا یُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ- وَ هُمْ أَشَدُّ إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ أَحْیَائِهِمْ بین ظهرانی أهل الآخره بفتح النون- و لا یجوز کسرها و یجوز بین ظهری أهل الآخره لو روی- و المعنى فی وسطهم- . قوله ع- کانوا قوما من أهل الدنیا و لیسوا من أهلها- أی هم من أهلها فی ظاهر الأمر و فی مرأى العین- و لیسوا من أهلها- لأنه لا رغبه عندهم فی ملاذها و نعیمها- فکأنهم خارجون عنها- . قوله عملوا فیها بما یبصرون- أی بما یرونه أصلح لهم- و یجوز أن یرید أنهم لشده اجتهادهم قد أبصروا المآل- فعملوا فیها على حسب ما یشاهدونه من دار الجزاء- و هذا کقوله ع لو کشف الغطاء ما ازددت یقینا – .

قوله ع و بادروا فیها ما یحذرون- أی سابقوه یعنی الموت- . قوله ع تقلب أبدانهم- هذا محمول تاره على الحقیقه و تاره على المجاز- أما الأول فلأنهم لا یخالطون إلا أهل الدین- و لا یجالسون أهل الدنیا- و أما الثانی فلأنهم لما استحقوا الثواب- کان الاستحقاق بمنزله وصولهم إلیه- فأبدانهم تتقلب بین ظهرانی أهل الآخره- أی بین ظهرانی قوم هم بمنزله أهل الآخره- لأن المستحق للشی‏ء نظیر لمن فعل به ذلک الشی‏ء- . ثم قال هؤلاء الزهاد یرون أهل الدنیا- إنما یستعظمون موت الأبدان- و هم أشد استعظاما لموت القلوب- و قد تقدم من کلامنا- فی صفات الزهاد و العارفین ما فیه کفایه

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج۱۳

بازدیدها: ۲۵

خطبه ۲۲۴ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

الجزء الثالث عشر

تتمه باب الخطب و الأوامر

بسم الله الرحمن الرحیم الحمد لله الواحد العدل

۲۲۴ و من کلام له ع فی وصف بیعته بالخلافه

– و قد تقدم مثله بألفاظ مختلفه- : وَ بَسَطْتُمْ یَدِی فَکَفَفْتُهَا وَ مَدَدْتُمُوهَا فَقَبَضْتُهَا- ثُمَّ تَدَاکَکْتُمْ عَلَیَّ تَدَاکَّ الْإِبِلِ الْهِیمِ- عَلَى حِیَاضِهَا یَوْمَ وِرْدِهَا- حَتَّى انْقَطَعَتِ النَّعْلُ- وَ سَقَطَ الرِّدَاءُ وَ وُطِئَ الضَّعِیفُ- وَ بَلَغَ مِنْ سُرُورِ النَّاسِ بِبَیْعَتِهِمْ إِیَّایَ- أَنِ ابْتَهَجَ بِهَا الصَّغِیرُ وَ هَدَجَ إِلَیْهَا الْکَبِیرُ- وَ تَحَامَلَ نَحْوَهَا الْعَلِیلُ وَ حَسَرَتْ إِلَیْهَا الْکِعَابُ التداک الازدحام الشدید و الإبل الهیم العطاش- . و هدج إلیها الکبیر مشى مشیا ضعیفا مرتعشا- و المضارع یهدج بالکسر- . و تحامل نحوها العلیل تکلف المشی على مشقه- .

و حسرت إلیها الکعاب- کشفت عن وجهها حرصا على حضور البیعه- و الکعاب الجاریه التی قد نهد ثدیها- کعبت تکعب بالضم- . قوله حتى انقطع النعل و سقط الرداء- شبیه بقوله فی الخطبه الشقشقیه حتى لقد وطئ الحسنان و شق عطفای – . و قد تقدم ذکر بیعته ع- بعد قتل عثمان و إطباق الناس علیها- و کیفیه الحال فیها و شرح شرحا یستغنى عن إعادته

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۳

بازدیدها: ۴۳

خطبه ۲۲۳ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)( اول)

الجزء الثانی عشر

تتمه باب الخطب و الأوامر

بسم الله الرحمن الرحیم الحمد لله الواحد العدل

۲۲۳ و من کلام له ع

لِلَّهِ بِلَادُ فُلَانٍ فَلَقَدْ قَوَّمَ الْأَوَدَ وَ دَاوَى الْعَمَدَ- وَ أَقَامَ السُّنَّهَ وَ خَلَّفَ الْفِتْنَهَ- ذَهَبَ نَقِیُّ الثَّوْبِ قَلِیلَ الْعَیْبِ- أَصَابَ خَیْرَهَا وَ سَبَقَ شَرَّهَا- . أَدَّى إِلَى اللَّهِ طَاعَتَهُ وَ اتَّقَاهُ بِحَقِّهِ- رَحَلَ وَ تَرَکَهُمْ فِی طُرُقِ مُتَشَعِّبَهٍ- لَا یَهْتَدِی بِهَا الضَّالُّ وَ لَا یَسْتَیْقِنُ الْمُهْتَدِی العرب تقول لله بلاد فلان- و لله در فلان و لله نادی فلان- و لله نائح فلان- و المراد بالأول لله البلاد التی أنشأته و أنبتته- و بالثانی لله الثدی الذی أرضعه- و بالثالث لله المجلس الذی ربی فیه- و بالرابع لله النائحه التی تنوح علیه و تندبه- ما ذا تعهد من محاسنه- .

و یروى لله بلاء فلان أی لله ما صنع- و فلان المکنى عنه عمر بن الخطاب- و قد وجدت النسخه التی بخط الرضی أبی الحسن- جامع نهج البلاغه- و تحت فلان عمر-حدثنی بذلک فخار بن معد الموسوی الأودی الشاعر- و سألت عنه النقیب أبا جعفر یحیى بن أبی زید العلوی- فقال لی هو عمر- فقلت له أ یثنی علیه أمیر المؤمنین ع هذا الثناء- فقال نعم- أما الإمامیه فیقولون إن ذلک من التقیه- و استصلاح أصحابه- و أما الصالحیون من الزیدیه فیقولون- إنه أثنى علیه حق الثناء- و لم یضع المدح إلا فی موضعه و نصابه- و أما الجارودیه من الزیدیه فیقولون- إنه کلام قاله فی أمر عثمان أخرجه مخرج الذم له- و التنقص لأعماله- کما یمدح الآن الأمیر المیت فی أیام الأمیر الحی بعده- فیکون ذلک تعریضا به- .

فقلت له إلا أنه لا یجوز التعریض- و الاستزاده للحاضر بمدح الماضی- إلا إذا کان ذلک المدح صدقا- لا یخالطه ریب و لا شبهه- فإذا اعترف أمیر المؤمنین بأنه أقام السنه- و ذهب نقی الثوب قلیل العیب- و أنه أدى إلى الله طاعته و اتقاه بحقه- فهذا غایه ما یکون من المدح- و فیه إبطال قول من طعن على عثمان بن عفان- . فلم یجبنی بشی‏ء و قال هو ما قلت لک- .

فأما الراوندی فإنه قال فی الشرح- إنه ع مدح بعض أصحابه بحسن السیره- و إن الفتنه هی التی وقعت بعد رسول الله ص- من الاختیار و الأثره- . و هذا بعید لأن لفظ أمیر المؤمنین یشعر إشعارا ظاهرا- بأنه یمدح والیا ذا رعیه و سیره- أ لا تراه کیف یقول- فلقد قوم الأود و داوى العمد- و أقام السنه و خلف الفتنه- و کیف یقول أصاب خیرها و سبق شرها- و کیف یقول أدى إلى الله طاعته- و کیف یقول رحل و ترکهم فی طرق متشعبه- .

و هذا الضمیر و هو الهاء و المیم فی قوله ع و ترکهم- هل یصح أن یعود إلا إلى الرعایا- و هل یسوغ أن یقال هذا الکلام لسوقه من عرض الناس- و کل من مات قبل وفاه النبی ص کان سوقه لا سلطان له- فلا یصح أن یحمل هذا الکلام- على إراده أحد من الذین قتلوا- أو ماتوا قبل وفاه النبی ص- کعثمان بن مظعون أو مصعب بن عمیر- أو حمزه بن عبد المطلب أو عبیده بن الحارث- و غیرهم من الناس- و التأویلات البارده الغثه لا تعجبنی- على أن أبا جعفر محمد بن جریر الطبری قد صرح أو کاد یصرح- بأن المعنی بهذا الکلام عمر- قال الطبری لما مات عمر بکته النساء- فقالت إحدى نوادبه وا حزناه على عمر- حزنا انتشر حتى ملأ البشر- و قالت ابنه أبی حثمه وا عمراه أقام الأود و أبرأ العمد- و أمات الفتن و أحیا السنن- خرج نقی الثوب بریئا من العیب- .

قال الطبری فروى صالح بن کیسان عن المغیره بن شعبه قال لما دفن عمر أتیت علیا ع- و أنا أحب أن أسمع منه فی عمر شیئا- فخرج ینفض رأسه و لحیته و قد اغتسل- و هو ملتحف بثوب لا یشک أن الأمر یصیر إلیه- فقال رحم الله ابن الخطاب لقد صدقت ابنه أبی حثمه- ذهب بخیرها و نجا من شرها- أما و الله ما قالت و لکن قولت – . و هذا کما ترى یقوی الظن- أن المراد و المعنی بالکلام إنما هو عمر بن الخطاب- .

قوله فلقد قوم الأود أی العوج- أود الشی‏ء بالکسر یأود أودا أی أعوج- و تأود العود یتأود- . و العمد انفضاخ سنام البعیر- و منه یقال للعاشق عمید القلب و معموده- . قوله أصاب خیرها أی خیر الولایه- و جاء بضمیرها و لم یجر ذکرها- لعاده العرب فی أمثال ذلک- کقوله تعالى حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ- . و سبق شرها أی مات أو قتل قبل الأحداث- و الاختلاط الذی جرى بین المسلمین- . قوله و اتقاه بحقه أی بأداء حقه و القیام به- . فإن قلت و أی معنى فی قوله و اتقاه بأداء حقه- و هل یتقى الإنسان الله بأداء الحق- إنما قد تکون التقوى عله فی أداء الحق- فأما أن یتقی بأدائه فهو غیر معقول- . قلت أراد ع أنه اتقى الله- و دلنا على أنه اتقى الله بأدائه حقه- فأداء الحق عله فی علمنا بأنه قد اتقى الله سبحانه- .

ثم ذکر أنه رحل و ترک الناس فی طرق متشعبه متفرقه- فالضال لا یهتدی فیها- و المهتدی لا یعلم أنه على المنهج القویم- و هذه الصفات إذا تأملها المنصف- و أماط عن نفسه الهوى- علم أن أمیر المؤمنین ع لم یعن بها إلا عمر- لو لم یکن قد روی لنا توقیفا و نقلا أن المعنی بها عمر- فکیف و قد رویناه عمن لا یتهم فی هذا الباب نکت من کلام عمر و سیرته و أخلاقه و نحن نذکر فی هذا الموضع- نکتا من کلام عمر و سیرته و أخلاقه- .

أتی عمر بمال فقال له عبد الرحمن بن عوف- یا أمیر المؤمنین لو حبست من هذا المال فی بیت المال- لنائبه تکون أو أمر یحدث- فقال کلمه ما عرض بها إلا شیطان- کفانی حجتها و وقانی فتنتها- أعصی الله العام مخافه قابل أعد لهم تقوى الله- قال الله سبحانه- وَ مَنْ یَتَّقِ اللَّهَ یَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً- وَ یَرْزُقْهُ مِنْ حَیْثُ لا یَحْتَسِبُ- . استکتب أبو موسى الأشعری نصرانیا- فکتب إلیه عمر اعزله و استعمل بدله حنیفیا- فکتب له أبو موسى- إن من غنائه و خیره و خبرته کیت و کیت- فکتب له عمر لیس لنا أن نأتمنهم و قد خونهم الله- و لا أن نرفعهم و قد وضعهم الله- و لا أن نستنصحهم فی الدین و قد وترهم الإسلام- و لا أن نعزهم- و قد أمرنا بأن یعطوا الجزیه عن ید و هم صاغرون- . فکتب أبو موسى أن البلد لا یصلح إلا به- فکتب إلیه عمر مات النصرانی و السلام- .

و کتب إلى معاویه إیاک و الاحتجاب دون الناس- و ائذن للضعیف و أدنه حتى ینبسط لسانه و یجترئ قلبه- و تعهد الغریب فإنه إذا طال حبسه و دام إذنه- ضعف قلبه و ترک حقه عزل عمر زیادا عن کتابه أبی موسى الأشعری- فی بعض قدماته علیه- فقال له عن عجز أم عن خیانه- فقال لا عن واحده منهما- و لکنی أکره أن أحمل على العامه فضل عقلک- .

و قال إنی و الله لا أدع حقا لله لشکایه تظهر- و لا لضب یحتمل و لا محاباه لبشر- و إنک و الله ما عاقبت من عصى الله فیک- بمثل أن تطیع الله فیه- . و کتب إلى سعد بن أبی وقاص- یا سعد سعد بنی أهیب- إن الله إذا أحب عبدا حببه إلى خلقه- فاعتبر منزلتک من الله بمنزلتک من الناس- و اعلم أن ما لک عند الله مثل ما لله عندک- . و سأل رجلا عن شی‏ء فقال الله أعلم- فقال قد شقینا إن کنا لا نعلم أن الله أعلم- إذا سئل أحدکم عما لا یعلم فلیقل لا أدری- .

و قال عبد الملک على المنبر- أنصفونا یا معشر الرعیه- تریدون منا سیره أبی بکر و عمر- و لم تسیروا فی أنفسکم و لا فینا سیره أبی بکر و عمر- نسأل الله أن یعین کلا على کل- . و دخل عمر على ابنه عبد الله- فوجد عنده لحما عبیطا معلقا- فقال ما هذا اللحم قال اشتهیت فاشتریت- فقال أ و کلما اشتهیت شیئا أکلته- کفى بالمرء سرفا أن أکل کل ما اشتهاه- . مر عمر على مزبله فتأذى بریحها أصحابه- فقال هذه دنیاکم التی تحرصون علیها- .

و من کلامه للأحنف- یا أحنف من کثر ضحکه قلت هیبته- و من مزح استخف به- و من أکثر من شی‏ء عرف به- و من کثر کلامه کثر سقطه- و من کثر سقطه قل حیاؤه- و من قل حیاؤه قل ورعه و من قل ورعه مات قلبه- . و قال لابنه عبد الله یا بنی اتق الله یقک- و أقرض الله یجزک و اشکره یزدک- و اعلم أنه لا مال لمن لا رفق له- و لا جدید لمن لا خلق له و لا عمل لمن لا نیه له- . و خطب یوم استخلف- فقال أیها الناس- إنه لیس فیکم أحد أقوى عندی من الضعیف- حتى آخذ الحق له- و لا أضعف من القوی حتى آخذ الحق منه- .

و قال لابن عباس یا عبد الله- أنتم أهل رسول الله و آله و بنو عمه- فما تقول منع قومکم منکم- قال لا أدری علتها و الله ما أضمرنا لهم إلا خیرا- قال اللهم غفرا- إن قومکم کرهوا أن یجتمع لکم النبوه و الخلافه- فتذهبوا فی السماء شمخا و بذخا- و لعلکم تقولون إن أبا بکر أول من أخرکم- أما إنه لم یقصد ذلک- و لکن حضر أمر لم یکن بحضرته أحزم مما فعل- و لو لا رأی أبی بکر فی لجعل لکم من الأمر نصیبا- و لو فعل ما هنأکم مع قومکم- إنهم ینظرون إلیکم نظر الثور إلى جازره- . و کان یقول لیت شعری متى أشفى من غیظی- أ حین أقدر فیقال لی لو عفوت- أم حین أعجل فیقال لو صبرت- . و رأى أعرابیا یصلی صلاه خفیفه- فلما قضاها قال اللهم زوجنی الحور العین- فقال له لقد أسأت النقد و أعظمت الخطبه- .

و قیل له کان الناس فی الجاهلیه- یدعون على من ظلمهم فیستجاب لهم- و لسنا نرى‏ ذلک الآن- قال لأن ذلک کان الحاجز بینهم و بین الظلم- و أما الآن فالساعه موعدهم و الساعه أدهى و أمر- . و من کلامه- من عرض نفسه للتهمه فلا یلومن من أساء به الظن- و من کتم سره کانت الخیره بیده- . ضع أمر أخیک على أحسنه حتى یأتیک منه ما یغلبک- و لا تظن بکلمه خرجت من أخیک المسلم شرا- و أنت تجد لها فی الخیر محملا- أو علیک بإخوان الصدق و کیس أکیاسهم- فإنهم زینه فی الرخاء و عده عند البلاء- و لا تتهاونن بالخلق فیهینک الله- و لا تعترض بما لا یعنیک- و اعتزل عدوک و تحفظ من خلیلک إلا الأمین- فإن الأمین من الناس لا یعادله شی‏ء- و لا تصحب الفاجر فیعلمک من فجوره و لا تفش إلیه سرک- و استشر فی أمرک أهل التقوى- و کفى بک عیبا أن یبدو لک من أخیک- ما یخفى علیک من نفسک- و أن تؤذی جلیسک بما تأتی مثله- .

و قال ثلاث یصفین لک الود فی قلب أخیک- أن تبدأه بالسلام إذا لقیته- و أن تدعوه بأحب أسمائه إلیه- و أن توسع له فی المجلس- . و قال أحب أن یکون الرجل فی أهله کالصبی- و إذا أصیخ إلیه کان رجلا- . بینا عمر ذات یوم إذا رأى شابا یخطر بیدیه- فیقول أنا ابن بطحاء مکه کدیها و کداها- فناداه عمر فجاء فقال إن یکن لک دین فلک کرم- و إن یکن لک عقل فلک مروءه- و إن یکن لک مال فلک شرف- و إلا فأنت و الحمار سواء- .

و قال یا معشر المهاجرین- لا تکثروا الدخول على أهل الدنیا- و أرباب الإمره و الولایه- فإنه مسخطه للرب- و إیاکم و البطنه فإنها مکسله عن الصلاه- و مفسده للجسد مورثه للسقم- و إن الله یبغض الحبر السمین- و لکن علیکم بالقصد فی قوتکم- فإنه أدنى من الإصلاح و أبعد من السرف- و أقوى على عباده الله- و لن یهلک عبد حتى یؤثر شهوته على دینه- . و قال تعلموا أن الطمع فقر و أن الیأس غنى- و من یئس من شی‏ء استغنى عنه- و التؤده فی کل شی‏ء خیر إلا ما کان من أمر الآخره- . و قال من اتقى الله لم یشف الله غیظه- و من خاف الله لم یفعل ما یرید- و لو لا یوم القیامه لکان غیر ما ترون- . و قال إنی لأعلم أجود الناس و أحلم الناس- أجودهم من أعطى من حرمه- و أحلمهم من عفا عمن ظلمه- . و کتب إلى ساکنی الأمصار- أما بعد فعلموا أولادکم العوم و الفروسیه- رووهم ما سار من المثل و حسن من الشعر- .

و قال لا تزال العرب أعزه ما نزعت فی القوس- و نزت فی ظهور الخیل- و قال و هو یذکر النساء- أکثروا لهن من قول لا- فإن نعم مفسده تغریهن على المسأله- . و قال ما بال أحدکم یثنی الوساده عند امرأه معزبه- إن المرأه لحم على وضم إلا ما ذب عنه- .

و کتب إلى أبی موسى أما بعد- فإن للناس نفره عن سلطانهم- فأعوذ بالله أن یدرکنی و إیاک عمیاء مجهوله- و ضغائن محموله و أهواء متبعه و دنیا مؤثره- أقم الحدود و اجلس للمظالم و لو ساعه من نهار- و إذا عرض لک أمران أحدهما لله و الآخر للدنیا- فابدأ بعمل الآخره فإن الدنیا تفنى و الآخره تبقى- و کن من مال الله عز و جل على حذر- و اجف الفساق و اجعلهم یدا و یدا و رجلا و رجلا- و إذا کانت بین القبائل نائره یا لفلان یا لفلان- فإنما تلک نجوى الشیطان- فاضربهم بالسیف حتى یفیئوا إلى أمر الله- و تکون دعواهم إلى الله و إلى الإسلام- و قد بلغنی أن ضبه تدعو یا لضبه- و إنی و الله أعلم أن ضبه ما ساق الله بها خیرا قط- و لا منع بها من سوء قط- فإذا جاءک کتابی هذا فأنهکهم ضربا و عقوبه- حتى یفرقوا إن لم یفقهوا- و الصق بغیلان بن خرشه من بینهم- و عد مرضى المسلمین و اشهد جنائزهم- و افتح لهم بابک و باشر أمورهم بنفسک- فإنما أنت رجل منهم غیر إن الله قد جعلک أثقلهم حملا- و قد بلغنی أنه فشا لک و لأهل بیتک هیئه فی لباسک و مطعمک- و مرکبک لیس للمسلمین مثلها- فإیاک یا عبد الله بن قیس أن تکون بمنزله البهیمه- التی مرت بواد خصیب- فلم یکن لها همه إلا السمن- و إنما حظها من السمن لغیرها-

و اعلم أن للعامل مردا إلى الله- فإذا زاغ العامل زاغت رعیته- و إن أشقى الناس من شقیت به نفسه و رعیته و السلام و خطب عمر فقال أما بعد- فإنی أوصیکم بتقوى الله الذی یبقى و یفنى ما سواه- و الذی بطاعته ینفع أولیاءه و بمعصیته یضر أعداءه- إنه لیس لهالک هلک عذر فی تعمد ضلاله حسبها هدى- و لا ترک حق حسبه ضلاله- قد ثبتت الحجه و وضحت الطرق- و انقطع العذر و لا حجه لأحد على الله عز و جل- ألا إن أحق ما تعاهد به الراعیرعیته- أن یتعاهدهم بالذی لله تعالى علیهم فی وظائف دینهم- الذی هداهم به- و إنما علینا أن نأمرکم بالذی أمرکم الله به من طاعته- و ننهاکم عما نهاکم الله عنه من معصیته- و أن نقیم أمر الله فی قریب الناس و بعیدهم- و لا نبالى على من قال الحق- لیتعلم الجاهل و یتعظ المفرط و یقتدی المقتدی- و قد علمت أن أقواما یتمنون فی أنفسهم- و یقولون نحن نصلی مع المصلین- و نجاهد مع المجاهدین- إلا أن الإیمان لیس بالتمنی و لکنه بالحقائق- إلا من قام على الفرائض و سدد نیته و اتقى الله- فذلکم الناجی- و من زاد اجتهادا وجد عند الله مزیدا- .

و إنما المجاهدون الذین جاهدوا أهواءهم- و الجهاد اجتناب المحارم- ألا إن الأمر جد- و قد یقاتل أقوام لا یریدون إلا الذکر- و قد یقاتل أقوام لا یریدون إلا الأجر- و إن الله یرضى منکم بالیسیر- و أثابکم على الیسیر الکثیر- . الوظائف الوظائف أدوها تؤدکم إلى الجنه- و السنه السنه الزموها تنجکم من البدعه- . تعلموا و لا تعجزوا فإن من عجز تکلف- و إن شرار الأمور محدثاتها- و إن الاقتصاد فی السنه خیر من الاجتهاد فی الضلاله- فافهموا ما توعظون به- فإن الحریب من حرب دینه- و إن السعید من وعظ بغیره- .

و قال و علیکم بالسمع و الطاعه فإن الله قضى لهما بالعزه- و إیاکم و التفرق و المعصیه فإن الله قضى لهما بالذله- . أقول قولی هذا و أستغفر الله العظیم لی و لکم- . بعث سعد بن أبی وقاص أیام القادسیه إلى عمر- قباء کسرى و سیفه و منطقته-و سراویله و تاجه و قمیصه و خفیه- فنظر عمر فی وجوه القوم عنده- فکان أجسمهم و أمدهم قامه- سراقه بن مالک بن جعشم المدلجی- فقال یا سراق قم فالبس- قال سراقه طمعت فیه فقمت فلبست- فقال أدبر فأدبرت و قال أقبل فأقبلت- فقال بخ بخ أعرابی من بنی مدلج علیه قباء کسرى- و سراویله و سیفه و منطقته و تاجه و خفاه- رب یوم یا سراق لو کان فیه دون هذا- من متاع کسرى و آل کسرى- لکان شرفا لک و لقومک- انزع فنزعت- فقال اللهم إنک منعت هذا نبیک و رسولک- و کان أحب إلیک منی و أکرم- و منعته أبا بکر و کان أحب إلیک منی و أکرم- ثم أعطیتنیه- فأعوذ بک أن تکون أعطیتنیه لتمکر بی- ثم بکى حتى رحمه من کان عنده- .

و قال لعبد الرحمن بن عوف- أقسمت علیک لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسی- فما أدرکه المساء إلا و قد بیع و قسم ثمنه على المسلمین- . جی‏ء بتاج کسرى إلى عمر فاستعظم الناس قیمته- للجواهر التی کانت علیه- فقال إن قوما أدوا هذا لأمناء- فقال علی ع إنک عففت فعفوا و لو رتعت لرتعوا- . کان عمر یعس لیلا فنزلت رفقه من التجار بالمصلى- فقال لعبد الرحمن بن عوف- هل لک أن تحرسهم اللیله من السرق- فباتا یحرسانهم و یصلیان ما کتب الله لهما- فسمع عمر بکاء صبی فأصغى نحوه- فطال بکاؤه فتوجه إلیه- فقال لأمه اتقی الله و أحسنی إلى صبیک- ثم عاد إلى مکانه فسمع بکاءه فعاد إلى أمه- فقال لها مثل ذلک ثم عاد إلى مکانه- فسمع بکاءه فأتى أمه فقال ویحک إنی لأراک أم سوء- لا أرى ابنک یقر منذ اللیله- فقالت یا عبد الله لقد آذیتنی منذ اللیله- إنی أریغه‏ على الفطام فیأبى-

قال و لم قالت لأن عمر لا یفرض لرضیع- و إنما یفرض للفطیم- قال و کم له قالت اثنا عشر شهرا- قال ویحک لا تعجلیه- فصلى الفجر و ما یستبین الناس قراءته- من غلبه البکاء علیه- فلما سلم قال یا بؤسا لعمرکم- کم قتل من أولاد المسلمین- فطلب منادیا فنادى ألا لا تعجلوا صبیانکم عن الرضاع- و لا تفطموا قبل أوان الفطام- فإنا نفرض لکل مولود فی الإسلام- . و کتب بذلک إلى سائر الآفاق- . مر عمر بشاب من الأنصار و هو ظمآن- فاستسقاه فخاض له عسلا- فرده و لم یشرب و قال إنی سمعت الله سبحانه یقول- أَذْهَبْتُمْ طَیِّباتِکُمْ فِی حَیاتِکُمُ الدُّنْیا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها- فقال الفتى إنها و الله لیست لک- فاقرأ یا أمیر المؤمنین ما قبلها- وَ یَوْمَ یُعْرَضُ الَّذِینَ کَفَرُوا عَلَى النَّارِ- أَذْهَبْتُمْ طَیِّباتِکُمْ فِی حَیاتِکُمُ الدُّنْیا- أ فنحن منهم فشرب و قال کل الناس أفقه من عمر- .

و أوصى عمر حین طعنه أبو لؤلؤه- من یستخلفه المسلمون بعده من أهل الشورى- فقال أوصیک بتقوى الله لا شریک له- و أوصیک بالمهاجرین الأولین خیرا- أن تعرف لهم سابقتهم و أوصیک بالأنصار خیرا- أقبل من محسنهم و تجاوز عن مسیئهم- و أوصیک بأهل الأمصار خیرا- فإنهم ردء العدو و جباه الفی‏ء- لا تحمل فیئهم إلى غیرهم إلا عن فضل منهم- و أوصیک بأهل البادیه خیرا- فإنهم أصل العرب و ماده الإسلام- أن یؤخذ من حواشی أموالهم فیرد على فقرائهم- و أوصیک بأهل الذمه خیرا- أن تقاتل‏ من ورائهم و لا تکلفهم فوق طاقتهم- إذا أدوا ما علیهم للمسلمین طوعا أو عن ید و هم صاغرون- .

و أوصیک بتقوى الله- و شده الحذر منه و مخافه مقته- أن یطلع منک على ریبه- و أوصیک أن تخشى الله فی الناس- و لا تخشى الناس فی الله- و أوصیک بالعدل فی الرعیه- و التفرغ لحوائجهم و ثغورهم- و ألا تعین غنیهم على فقیرهم- فإن فی ذلک بإذن الله سلامه لقلبک- و حطا لذنوبک و خیرا فی عاقبه أمرک- و أوصیک أن تشتد فی أمر الله و فی حدوده- و الزجر عن معاصیه على قریب الناس و بعیدهم- و لا تأخذک الرأفه و الرحمه فی أحد منهم- حتى تنتهک منه مثل جرمه- و اجعل الناس عندک سواء- لا تبال على من وجب الحق- لا تأخذک فی الله لومه لائم- و إیاک و الأثره و المحاباه فیما ولاک الله- مما أفاء الله على المسلمین- فتجور و تظلم- و تحرم نفسک من ذلک ما قد وسعه الله علیک- فإنک فی منزله من منازل الدنیا- و أنت إلى الآخره جد قریب- فإن صدقت فی دنیاک عفه و عدلا فیما بسط لک- اقترفت رضوانا و إیمانا- و إن غلبک الهوى اقترفت فیه سخط الله و مقته- .

و أوصیک ألا ترخص لنفسک و لا لغیرک فی ظلم أهل الذمه- . و اعلم أنی قد أوصیتک و خصصتک و نصحت لک- أبتغی بذلک وجه الله و الدار الآخره- و دللتک على ما کنت دالا علیه نفسی- فإن عملت بالذی وعظتک و انتهیت إلى الذی أمرتک- أخذت منه نصیبا وافرا و حظا وافیا- و إن لم تقبل ذلک و لم تعمل- و لم تترک معاظم الأمور عند الذی یرضی الله به سبحانه عنک- یکن ذاک بک انتقاصا و یکن رأیک فیه مدخولا- فالأهواء مشترکه- و رأس الخطیئه إبلیس الداعی إلى کل هلکه- قد أضل القرون السالفه قبلک و أوردهم النار- و لبئس الثمن أن یکون حظ امرئ من دنیاه- موالاه عدو الله الداعی إلى معاصیه ارکب الحق و خض إلیه الغمرات- و کن واعظا لنفسک- .

و أنشدک لما ترحمت إلى جماعه المسلمین- و أجللت کبیرهم و رحمت صغیرهم- و قربت عالمهم- لا تضربهم فیذلوا و لا تستأثر علیهم بالفی‏ء فتغضبهم- و لا تحرمهم عطایاهم عند محلها فتفقرهم- و لا تجمرهم فی البعوث فتقطع نسلهم- و لا تجعل الأموال دوله بین الأغنیاء منهم- و لا تغلق بابک دونهم فیأکل قویهم ضعیفهم- . هذه وصیتی إیاک و أشهد الله علیک- و أقرأ علیک السلام و الله على کل شی‏ء شهید- . و خطب عمر فقال- لا یبلغنی أن امرأه تجاوز صداقها- صداق زوجات رسول الله ص- إلا ارتجعت ذلک منها- فقامت إلیه امرأه- فقالت و الله ما جعل الله ذلک لک إنه تعالى یقول- وَ آتَیْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَیْئاً- فقال عمر أ لا تعجبون من إمام أخطأ- و امرأه أصابت ناضلت إمامکم فنضلته- .

و کان یعس لیله فمر بدار سمع فیها صوتا- فارتاب و تسور فرأى رجلا عند امرأه و زق خمر- فقال یا عدو الله- أ ظننت أن الله یسترک و أنت على معصیته- فقال لا تعجل یا أمیر المؤمنین- إن کنت أخطأت فی واحده فقد أخطأت فی ثلاث- قال الله تعالى- وَ لا تَجَسَّسُوا و قد تجسست- و قال وَ أْتُوا الْبُیُوتَ مِنْ أَبْوابِهاو قد تسورت- و قال فَإِذا دَخَلْتُمْ بُیُوتاً فَسَلِّمُوا و ما سلمت- فقال هل عندک من خیر إن عفوت عنک- قال نعم و الله لا أعود- فقال اذهب فقد عفوت عنک- . و خطب یوما- فقال أیها الناس ما الجزع مما لا بد منه- و ما الطمع فیما لا یرجى و ما الحیله فیما سیزول- و إنما الشی‏ء من أصله- و قد مضت قبلکم الأصول و نحن فروعها- فما بقاء الفرع بعد ذهاب أصله- .

إنما الناس فی هذه الدنیا أغراض- تنتبل فیهم المنایا نصب المصائب- فی کل جرعه شرق و فی کل أکله غصص- لا تنالون نعمه إلا بفراق أخرى- و لا یستقبل معمر من عمره یوما- إلا بهدم آخر من أجله- و هم أعوان الحتوف على أنفسهم- فأین المهرب مما هو کائن- ما أصغر المصیبه الیوم مع عظم الفائده غدا- و ما أعظم خیبه الخائب و خسران الخاسر- یَوْمَ لا یَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِیمٍ- . و أکثر الناس روى هذا الکلام لعلی ع- و قد ذکره صاحب نهج البلاغه و شرحناه فیما سبق- . حمل من العراق إلى عمر مال فخرج هو و مولى له- فنظر إلى الإبل فاستکثرها- فجعل یقول الحمد لله یکررها و یرددها- و جعل مولاه یقول هذا من فضل الله و رحمته- و یکررها و یرددها- .

فقال عمر کذبت لا أم لک- أظنک ذهبت إلى أن هذا هو ما عناه سبحانه-بقوله قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِکَ فَلْیَفْرَحُوا- و إنما ذلک الهدى- أ ما تسمعه یقول هُوَ خَیْرٌ مِمَّا یَجْمَعُونَ- و هذا مما یجمعون- . و روى الأحنف بن قیس- قال قدمنا على عمر بفتح عظیم نبشره به- فقال أین نزلتم قلنا فی مکان کذا- فقام معنا حتى انتهینا إلى مناخ رکابنا- و قد أضعفها الکلال و جهدها السیر- فقال هلا اتقیتم الله فی رکابکم هذه- أ ما علمتم أن لها علیکم حقا هلا احترموها- هلا حللتم بها فأکلت من نبات الأرض- فقلنا یا أمیر المؤمنین إنا قدمنا بفتح عظیم- فأحببنا التسرع إلیک و إلى المسلمین بما یسرهم- .

فانصرف راجعا و نحن معه- فأتى رجل فقال یا أمیر المؤمنین إن فلانا ظلمنی- فأعدنی علیه فرفع فی السماء درته- و ضرب بها رأسه- و قال تدعون عمر و هو معرض لکم- حتى إذا شغل فی أمر المسلمین أتیتموه أعدنی أعدنی- فانصرف الرجل یتذمر- فقال عمر علی بالرجل فجی‏ء به فألقى إلیه المخفقه- فقال اقتص قال بل أدعه لله و لک- قال لیس کذلک بل تدعه إما لله و إراده ما عنده- و إما تدعه لی- قال أدعه لله قال انصرف- ثم جاء حتى دخل منزله و نحن معه- فصلى رکعتین خفیفتین- ثم جلس فقال یا ابن الخطاب- کنت وضیعا فرفعک الله- و کنت ضالا فهداک الله- و کنت ذلیلا فأعزک الله- ثم حملک على رقاب الناس- فجاء رجل یستعدیک على من ظلمه فضربته- ما ذا تقول لربک غدا- فجعل یعاتب نفسه معاتبه ظننت أنه من خیر أهل الأرض- .

و ذکر أبو عبید القاسم بن سلام فی غریب الحدیث- أن رجلا أتى عمر یسأله و یشکو إلیه الفقر- فقال هلکت یا أمیر المؤمنین- فقال أ هلکت و أنت تنث نثیث الحمیت أعطوه- فأعطوه ربعه من مال الصدقه تبعها ظئراها- ثم أنشأ یحدث عن نفسه- فقال لقد رأیتنی و أختا لی نرعى على أبوینا ناضحا لنا- قد ألبستنا أمنا نقبتها- و زودتنا یمنتیها هبیدا فنخرج بناضحنا- فإذا طلعت الشمس ألقیت النقبه إلى أختی- و خرجت أسعى عریان فنرجع إلى أمنا- و قد جعلت لنا لفیته من ذلک الهبید فیا خصباه- .

و روى ابن عباس رضی الله عنه- قال دخلت على عمر فی أول خلافته- و قد ألقی له صاع من تمر على خصفه- فدعانی إلى الأکل فأکلت تمره واحده- و أقبل یأکل حتى أتى علیه- ثم شرب من جر کان عنده- و استلقى على مرفقه له و طفق یحمد الله یکرر ذلک- ثم قال من أین جئت یا عبد الله قلت من المسجد- قال کیف خلفت ابن عمک- فظننته یعنى عبد الله بن جعفر- قلت خلفته یلعب مع أترابه- قال لم أعن ذلک إنما عنیت عظیمکم أهل البیت- قلت خلفته یمتح بالغرب على نخیلات من فلان- و هو یقرأ القرآن- قال یا عبد الله علیک دماء البدن إن کتمتنیها- هل بقی فی نفسه‏ شی‏ء من أمر الخلافه قلت نعم- قال أ یزعم أن رسول الله ص نص علیه قلت نعم- و أزیدک سألت أبی عما یدعیه فقال صدق- فقال عمر لقد کان من رسول الله ص فی أمره ذرو من قول- لا یثبت حجه و لا یقطع عذرا- و لقد کان یربع فی أمره وقتا ما- و لقد أراد فی مرضه أن یصرح باسمه- فمنعت من ذلک إشفاقا و حیطه على الإسلام- لا و رب هذه البنیه لا تجتمع علیه قریش أبدا- و لو ولیها لانتقضت علیه العرب من أقطارها- فعلم رسول الله ص أنی علمت ما فی نفسه- فأمسک و أبى الله إلا إمضاء ما حتم- .

ذکر هذا الخبر أحمد بن أبی طاهر- صاحب کتاب تاریخ بغداد فی کتابه مسندا- . ابتنى أبو سفیان دارا بمکه فأتى أهلها عمر- فقالوا إنه قد ضیق علینا الوادی و أسال علینا الماء- فأتاه عمر فقال خذ هذا الحجر فضعه هناک- و ارفع هذا و اخفض هذا ففعل- فقال الحمد لله الذی أذل أبا سفیان بأبطح مکه- . و قال عمر- و الله لقد لان قلبی فی الله حتى لهو ألین من الزبد- و لقد اشتد قلبی فی الله حتى لهو أشد من الحجر- . کان عمر إذا أتاه الخصمان برک على رکبتیه- و قال اللهم أعنی علیهما- فإن کلا منهما یریدنی عن دینی- .

و خطب عمر فقال أیها الناس- إنما کنا نعرفکم و النبی ص بین أظهرنا- إذ ینزل الوحی و إذ ینبئنا الله من أخبارکم- ألا و إن النبی ص قد انطلق و الوحی قد انقطع- و إنما نعرفکم بما یبدو منکم- من أظهر خیرا ظننا به خیرا و أحببناه علیه- و من أظهر شرا ظننا به شرا و أبغضناه علیه- سرائرکم بینکم و بین ربکم- ألا إنه قد أتى علی حین- و أنا أحسب أنه لا یقرأ القرآن أحد- إلا یرید به وجه الله و ما عند الله- و قد خیل إلی بأخره- أن رجالا قد قرءوه یریدون به ما عند الناس- فأریدوا الله بقراءتکم و أریدوا الله بأعمالکم- . ألا و إنی لا أرسل عمالی إلیکم أیها الناس- لیضربوا أبشارکم- و لا لیأخذوا أموالکم- و لکن أرسلهم إلیکم لیعلموکم دینکم و سنتکم- فمن فعل به سوى ذلک فلیرفعه إلی لأقتص له- فقد رأیت رسول الله ص یقتص من نفسه- . ألا لا تضربوا المسلمین فتذلوهم- و لا تمنعوهم حقوقهم فتفقروهم- و لا تنزلوهم الغیاض فتضیعوهم- .

و قال مره قد أعیانی أهل الکوفه- إن استعملت علیهم لینا استضعفوه- و إن استعملت علیهم شدیدا شکوه- و لوددت أنی وجدت رجلا قویا أمینا استعمله علیهم- فقال له رجل- أنا أدلک یا أمیر المؤمنین على الرجل القوی الأمین- قال من هو قال عبد الله بن عمر- قال قاتلک الله و الله ما أردت الله بها- لاها الله لا أستعمله علیها و لا على غیرها- و أنت فقم فاخرج فمذ الآن لا أسمیک إلا المنافق- فقام الرجل و خرج- . و کتب إلى سعد بن أبی وقاص- أن شاور طلیحه بن خویلد و عمرو بن معدیکرب- فإن کل صانع أعلم بصنعته- و لا تولهما من أمر المسلمین شیئاو غضب عمر على بعض عماله- فکلم امرأه من نساء عمر فی أن تسترضیه له- فکلمته فیه فغضب- و قال و فیم أنت من هذا یا عدوه الله- إنما أنت لعبه نلعب بک و تفرکین- . و من کلامه أشکو إلى الله جلد الخائن و عجز الثقه- .

قال عمرو بن میمون- لقد رأیت عمر بن الخطاب قبل أن یصاب بأیام- واقفا على حذیفه بن الیمان و عثمان بن حنیف- و هو یقول لهما- أ تخافان أن تکونا حملتما الأرض ما لا تطیقه- فقالا لا إنما حملناها أمرا هی له مطیقه- فأعاد علیهما القول- انظرا أن تکونا حملتما الأرض ما لا تطیقه- فقالا لا فقال عمر- إن عشت لأدعن أرامل العراق لا یحتجن بعدی إلى رجل أبدا- فما أتت علیه رابعه حتى أصیب- . کان عمر إذا استعمل عاملا کتب علیه کتابا- و أشهد علیه رهطا من المسلمین- ألا یرکب برذونا و لا یأکل نقیا- و لا یلبس رقیقا و لا یغلق بابه دون حاجات المسلمین- ثم یقول اللهم اشهد- . و استعمل عمر النعمان بن عدی بن نضله على میسان- فبلغه عنه الشعر الذی قاله و هو-

و من مبلغ الحسناء أن حلیلها
بمیسان یسقى من زجاج و حنتم‏

إذا شئت غنتنی دهاقین قریه
و صناجه تحدو على کل منسم‏

فإن کنت ندمانی فبالأکبر اسقنی
و لا تسقنی بالأصغر المتثلم‏

لعل أمیر المؤمنین یسوءه‏
تنادمنا بالجوسق المتهدم‏

فکتب إلیه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ- حم تَنْزِیلُ الْکِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِیزِ الْعَلِیمِ- غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِیدِ الْعِقابِ- ذِی الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَیْهِ الْمَصِیرُ- أما بعد فقد بلغنی قولک- لعل أمیر المؤمنین یسوءه‏- البیت و ایم الله إنه لیسوءنی فاقدم فقد عزلتک- . فلما قدم علیه- قال یا أمیر المؤمنین و الله ما شربتها قط- و إنما هو شعر طفح على لسانی و إنی لشاعر- . فقال عمر أظن ذاک و لکن لا تعمل لی على عمل أبدا- . استعمل عمر رجلا من قریش على عمل- فبلغه عنه أنه قال-

اسقنی شربه تروی عظامی
و اسق بالله مثلها ابن هشام‏

فأشخصه إلیه و فطن القرشی فضم إلیه بیتا آخر- فلما مثل بین یدیه قال له أنت القائل-

اسقنی شربه تروی عظامی‏

قال نعم یا أمیر المؤمنین فهلا أبلغک الواشی ما بعده- قال ما الذی بعده قال-

عسلا باردا بماء غمام
إننی لا أحب شرب المدام‏

قال آلله آلله ثم قال ارجع إلى عملک- .قال عمر أیما عامل من عمالی ظلم أحدا- ثم بلغتنی مظلمته فلم أغیرها فأنا الذی ظلمته- . و قال للأحنف بن قیس- و قد قدم علیه فاحتبسه عنده حولا-