القول فی إسلام أبی بکر و علی و خصائص کل منهما
و ینبغی أن نذکر فی هذا الموضع- ملخص ما ذکره الشیخ أبو عثمان الجاحظ فی کتابه- المعروف بکتاب العثمانیه- فی تفضیل إسلام أبی بکر على إسلام علی ع- لأن هذا الموضع یقتضیه- لقوله ع حکایه عن قریش لما صدق رسول الله ص- و هل یصدقک فی أمرک إلا مثل هذا- لأنهم استصغروا سنه- فاستحقروا أمر محمد رسول الله ص- حیث لم یصدقه فی دعواه إلا غلام صغیر السن- و شبهه العثمانیه التی قررها الجاحظ- من هذه الشبهه نشأت و من هذه الکلمه تفرعت- لأن خلاصتها أن أبا بکر أسلم و هو ابن أربعین سنه- و علی أسلم و لم یبلغ الحلم- فکان إسلام أبی بکر أفضل- .
ثم نذکر ما اعترض به- شیخنا أبو جعفر الإسکافی على الجاحظ- فی کتابه المعروف بنقض العثمانیه- و یتشعب الکلام بینهما- حتى یخرج عن البحث فی الإسلامین- إلى البحث فی أفضلیه الرجلین و خصائصهما- فإن ذلک لا یخلو عن فائده جلیله- و نکتهلطیفه لا یلیق أن یخلو کتابنا هذا عنها- و لأن کلامهما بالرسائل و الخطابه أشبه- و فی الکتابه أقصد و أدخل- و کتابنا هذا موضوع لذکر ذلک و أمثاله- .
قال أبو عثمان قالت العثمانیه- أفضل الأمه و أولاها بالإمامه أبو بکر بن أبی قحافه- لإسلامه على الوجه الذی لم یسلم علیه أحد فی عصره- و ذلک أن الناس اختلفوا فی أول الناس إسلاما- فقال قوم أبو بکر- و قال قوم زید بن حارثه- و قال قوم خباب بن الأرت- .
و إذا تفقدنا أخبارهم- و أحصینا أحادیثهم و عددنا رجالهم- و نظرنا فی صحه أسانیدهم- کان الخبر فی تقدم إسلام أبی بکر- أعم و رجاله أکثر و أسانیده أصح- و هو بذاک أشهر و اللفظ فیه أظهر- مع الأشعار الصحیحه- و الأخبار المستفیضه فی حیاه رسول الله ص و بعد وفاته- و لیس بین الأشعار و الأخبار فرق إذا امتنع فی مجیئها- و أصل مخرجها التباعد و الاتفاق و التواطؤ- و لکن ندع هذا المذهب جانبا- و نضرب عنه صفحا اقتدارا على الحجه- و وثوقا بالفلج و القوه- و نقتصر على أدنى نازل فی أبی بکر- و ننزل على حکم الخصم فنقول- إنا وجدنا من یزعم أنه أسلم قبل زید و خباب- و وجدنا من یزعم أنهما أسلما قبله- و أوسط الأمور أعدلها و أقربها من محبه الجمیع- و رضا المخالف أن نجعل إسلامهم کان معا- إذ الأخبار متکافئه و الآثار متساویه على ما تزعمون- و لیست إحدى القضیتین أولى- فی صحه العقل من الأخرى- ثم نستدل على إمامه أبی بکر بما ورد فیه من الحدیث- و بما أبانه به الرسول ص من غیره- . قالوا فمما روی من تقدم إسلامه- ما حدث به أبو داود و ابن مهدی عن شعبه- و ابن عیینه عن الجریری- عن أبی هریره قال أبو بکر- أنا أحقکم بهذا الأمر یعنی الخلافه- أ لست أول من صلى- .
روى عباد بن صهیب عن یحیى بن عمیر- عن محمد بن المنکدر أن رسول الله ص قال إن الله بعثنی بالهدى و دین الحق إلى الناس کافه- فقالوا کذبت و قال أبو بکر صدقت- . و روى یعلى بن عبید قال جاء رجل إلى ابن عباس- فسأله من کان أول الناس إسلاما- فقال أ ما سمعت قول حسان بن ثابت-
إذا تذکرت شجوا من أخی ثقه
فاذکر أخاک أبا بکر بما فعلا
الثانی التالی المحمود مشهده
و أول الناس منهم صدق الرسلا
و قال أبو محجن
سبقت إلى الإسلام و الله شاهد
و کنت حبیبا بالعریش المشهر
و قال کعب بن مالک
سبقت أخا تیم إلى دین أحمد
و کنت لدى الغیران فی الکهف صاحبا
و روى ابن أبی شیبه- عن عبد الله بن إدریس و وکیع- عن شعبه عن عمرو بن مره قال- قال النخعی أبو بکر أول من أسلم- . وروى هیثم عن یعلى بن عطاء عن عمرو بن عنبسه قال أتیت النبی ص و هو بعکاظ- فقلت من بایعک على هذا الأمر- فقال بایعنی حر و عبد- فلقد رأیتنی یومئذ و أنا رابع الإسلام- .
قال بعض أصحاب الحدیث- یعنی بالحر أبا بکر و بالعبد بلالا- . وروى اللیث بن سعد عن معاویه بن صالح عن سلیم بن عامر عن أبی أمامه قال حدثنی عمرو بن عنبسه أنه سأل النبی ص و هو بعکاظ- فقال له من تبعک قال تبعنی حر و عبد- أبو بکر و بلالوروى عمرو بن إبراهیم الهاشمی عن عبد الملک بن عمیر عن أسید بن صفوان صاحب النبی ص قال لما قبض أبو بکر جاء علی بن أبی طالب ع فقال- رحمک الله أبا بکر کنت أول الناس إسلاما- .
و روى عباد عن الحسن بن دینار- عن بشر بن أبی زینب عن عکرمه مولى ابن عباس- قال إذا لقیت الهاشمیین قالوا- علی بن أبی طالب أول من أسلم- و إذا لقیت الذین یعلمون قالوا- أبو بکر أول من أسلم- . قال أبو عثمان الجاحظ قالت العثمانیه- فإن قال قائل فما بالکم- لم تذکروا علی بن أبی طالب فی هذه الطبقه- و قد تعلمون کثره مقدمیه و الروایه فیه- قلنا قد علمنا الروایه الصحیحه- و الشهاده القائمه أنه أسلم- و هو حدث غریر و طفل صغیر- فلم نکذب الناقلین- و لم نستطع أن نلحق إسلامه بإسلام البالغین- لأن المقلل زعم أنه أسلم و هو ابن خمس سنین- و المکثر زعم أنه أسلم و هو ابن تسع سنین- فالقیاس أن یؤخذ بالأوسط بین الروایتین- و بالأمر بین الأمرین و إنما یعرف حق ذلک من باطله- بأن نحصی سنیه التی ولی فیها الخلافه- و سنی عمر و سنی عثمان و سنی أبی بکر- و مقام النبی ص بالمدینه- و مقامه بمکه عند إظهار الدعوه- فإذا فعلنا ذلک صح أنه أسلم و هو ابن سبع سنین- فالتاریخ المجمع علیه أنه قتل ع- فی شهر رمضان سنه أربعین- .
قال شیخنا أبو جعفر الإسکافی- لو لا ما غلب على الناس من الجهل و حب التقلید- لم نحتج إلى نقض ما احتجت به العثمانیه- فقد علم الناس کافه أن الدوله و السلطان لأرباب مقالتهم- و عرف کل أحد علو أقدار شیوخهم- و علمائهم و أمرائهم و ظهور کلمتهم- و قهر سلطانهم و ارتفاع التقیه عنهم و الکرامه- و الجائزه لمن روى الأخبار و الأحادیث- فی فضل أبی بکر- و ما کان من تأکید بنی أمیه لذلک- و ما ولده المحدثون من الأحادیث طلبا لما فی أیدیهم- فکانوا لا یألون جهدا فی طول ما ملکوا- أن یخملوا ذکر علی ع و ولده- و یطفئوا نورهم و یکتموا فضائلهم- و مناقبهم و سوابقهم- و یحملوا على شتمهم و سبهم و لعنهم على المنابر- فلم یزل السیف یقطر من دمائهم- مع قله عددهم و کثره عدوهم- فکانوا بین قتیل و أسیر- و شرید و هارب و مستخف ذلیل و خائف مترقب- حتى إن الفقیه و المحدث و القاضی و المتکلم- لیتقدم إلیه و یتوعد- بغایه الإیعاد و أشد العقوبه- ألا یذکروا شیئا من فضائلهم- و لا یرخصوا لأحد أن یطیف بهم- و حتى بلغ من تقیه المحدث- أنه إذا ذکر حدیثا عن علی ع کنى عن ذکره- فقال قال رجل من قریش- و فعل رجل من قریش- و لا یذکر علیا ع و لا یتفوه باسمه- .
ثم رأینا جمیع المختلفین قد حاولوا نقض فضائله- و وجهوا الحیل و التأویلات نحوها- من خارجی مارق و ناصب حنق- و ثابت مستبهم و ناشئ معاند- و منافق مکذب و عثمانی حسود- یعترض فیها و یطعن- و معتزلی قد نقض فی الکلام و أبصر علم الاختلاف-و عرف الشبه و مواضع الطعن و ضروب التأویل- قد التمس الحیل فی إبطال مناقبه و تأول مشهور فضائله- فمره یتأولها بما لا یحتمل- و مره یقصد أن یضع من قدرها بقیاس منتقض- و لا یزداد مع ذلک إلا قوه و رفعه و وضوحا و استناره- و قد علمت أن معاویه و یزید و من کان بعدهما- من بنی مروان أیام ملکهم و ذلک نحو ثمانین سنه- لم یدعوا جهدا فی حمل الناس على شتمه و لعنه- و إخفاء فضائله و ستر مناقبه و سوابقه روى خالد بن عبد الله الواسطی- عن حصین بن عبد الرحمن عن هلال بن یساف- عن عبد الله بن ظالم قال- لما بویع لمعاویه أقام المغیره بن شعبه- خطباء یلعنون علیا ع- فقال سعید بن زید بن عمرو بن نفیل- أ لا ترون إلى هذا الرجل الظالم- یأمر بلعن رجل من أهل الجنه- .
روى سلیمان بن داود عن شعبه- عن الحر بن الصباح قال سمعت عبد الرحمن بن الأخنس یقول- شهدت المغیره بن شعبه خطب- فذکر علیا ع فنال منه- . روى أبو کریب قال حدثنا أبو أسامه- قال حدثنا صدقه بن المثنى النخعی- عن ریاح بن الحارث قال- بینما المغیره بن شعبه بالمسجد الأکبر- و عنده ناس إذ جاءه رجل یقال له- قیس بن علقمه فاستقبل المغیره فسب علیا ع- .
روى محمد بن سعید الأصفهانی عن شریک- عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن علی بن الحسین- عن أبیه علی بن الحسین ع قال قال لی مروان- ما کان فی القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبکم- قلت فما بالکم تسبونه على المنابر- قال إنه لا یستقیم لنا الأمر إلا بذلک- . روى مالک بن إسماعیل أبو غسان النهدی- عن ابن أبی سیف قال خطب مروان و الحسن ع جالس- فنال من علی ع فقال الحسن- ویلک یا مروان أ هذا الذی تشتم شر الناس- قال لا و لکنه خیر الناس- .
و روى أبو غسان أیضا قال قال عمر بن عبد العزیز- کان أبی یخطب فلا یزال مستمرا فی خطبته- حتى إذا صار إلى ذکر علی و سبه تقطع لسانه- و اصفر وجهه و تغیرت حاله- فقلت له فی ذلک فقال أ و قد فطنت لذلک- إن هؤلاء لو یعلمون من علی ما یعلمه أبوک- ما تبعنا منهم رجل- . و روى أبو عثمان قال حدثنا أبو الیقظان- قال قام رجل من ولد عثمان- إلى هشام بن عبد الملک یوم عرفه- فقال إن هذا یوم کانت الخلفاء تستحب فیه لعن أبی تراب- . و روى عمرو بن الفناد عن محمد بن فضیل- عن أشعث بن سوار قال- سب عدی بن أرطاه علیا ع على المنبر- فبکى الحسن البصری و قال- لقد سب هذا الیوم رجل- إنه لأخو رسول الله ص فی الدنیا و الآخره- .
و روى عدی بن ثابت عن إسماعیل بن إبراهیم- قال کنت أنا و إبراهیم بن یزید جالسین فی الجمعه- مما یلی أبواب کنده فخرج المغیره فخطب- فحمد الله ثم ذکر ما شاء أن یذکر- ثم وقع فی علی ع- فضرب إبراهیم على فخذی أو رکبتی- ثم قال أقبل علی- فحدثنی فإنا لسنا فی جمعه أ لا تسمع ما یقول هذا- .
و روى عبد الله بن عثمان الثقفی- قال حدثنا ابن أبی سیف قال- قال ابن لعامر بن عبد الله بن الزبیر لولده- لا تذکر یا بنی علیا إلا بخیر- فإن بنی أمیه لعنوه على منابرهم ثمانین سنه- فلم یزده الله بذلک إلا رفعه- إن الدنیا لم تبن شیئا قط- إلا رجعت على ما بنت فهدمته- و إن الدین لم یبن شیئا قط و هدمه- . و روى عثمان بن سعید قال حدثنا مطلب بن زیاد- عن أبی بکر بن عبد الله الأصبهانی قال- کان دعی لبنی أمیه یقال له خالد بن عبد الله- لا یزال یشتم علیا ع-فلما کان یوم جمعه و هو یخطب الناس- قال و الله إن کان رسول الله لیستعمله- و إنه لیعلم ما هو و لکنه کان ختنه- و قد نعس سعید بن المسیب ففتح عینیه- ثم قال ویحکم ما قال هذا الخبیث- رأیت القبر انصدع و رسول الله ص یقول- کذبت یا عدو الله- .
و روى القناد قال حدثنا أسباط بن نصر الهمدانی- عن السدی قال بینما أنا بالمدینه عند أحجار الزیت- إذ أقبل راکب على بعیر فوقف فسب علیا ع- فخف به الناس ینظرون إلیه فبینما هو کذلک- إذ أقبل سعد بن أبی وقاص فقال- اللهم إن کان سب عبدا لک صالحا فأر المسلمین خزیه- فما لبث أن نفر به بعیره فسقط فاندقت عنقه- . و روى عثمان بن أبی شیبه- عن عبد الله بن موسى عن فطر بن خلیفه- عن أبی عبد الله الجدلی قال- دخلت على أم سلمه رحمها الله فقالت لی- أ یسب رسول الله ص فیکم و أنتم أحیاء- قلت و أنى یکون هذا- قالت أ لیس یسب علی ع و من یحبه- .
و روى العباس بن بکار الضبی- قال حدثنی أبو بکر الهذلی عن الزهری قال- قال ابن عباس لمعاویه أ لا تکف عن شتم هذا الرجل- قال ما کنت لأفعل حتى یربو علیه الصغیر و یهرم فیه الکبیر- فلما ولی عمر بن عبد العزیز کف عن شتمه- فقال الناس ترک السنه- . قال و قد روی عن ابن مسعود إما موقوفا علیه أو مرفوعا کیف أنتم إذا شملتکم فتنه- یربو علیها الصغیر و یهرم فیها الکبیر- یجری علیها الناس فیتخذونها سنه- فإذا غیر منها شیء قیل غیرت السنه- .
قال أبو جعفر و قد تعلمون- أن بعض الملوک ربما أحدثوا قولا- أو دینا لهوى فیحملون الناس على ذلک- حتى لا یعرفوا غیره- کنحو ما أخذ الناس الحجاج بن یوسف بقراءه عثمان- و ترک قراءه ابن مسعود و أبی بن کعب- و توعد على ذلک بدون ما صنع هو و جبابره بنی أمیه- و طغاه مروان بولد علی ع و شیعته- و إنما کان سلطانه نحو عشرین سنه- فما مات الحجاج- حتى اجتمع أهل العراق على قراءه عثمان- و نشأ أبناؤهم و لا یعرفون غیرها- لإمساک الآباء عنها و کف المعلمین عن تعلیمها- حتى لو قرأت علیهم قراءه عبد الله و أبی ما عرفوها- و لظنوا بتألیفها الاستکراه و الاستهجان- لإلف العاده و طول الجهاله- لأنه إذا استولت على الرعیه الغلبه- و طالت علیهم أیام التسلط- و شاعت فیهم المخافه و شملتهم التقیه- اتفقوا على التخاذل و التساکت- فلا تزال الأیام تأخذ من بصائرهم- و تنقص من ضمائرهم و تنقض من مرائرهم- حتى تصیر البدعه التی أحدثوها- غامره للسنه التی کانوا یعرفونها- و لقد کان الحجاج و من ولاه- کعبد الملک و الولید و من کان قبلهما و بعدهما- من فراعنه بنی أمیه على إخفاء محاسن علی ع و فضائله- و فضائل ولده و شیعته و إسقاط أقدارهم- أحرص منهم على إسقاط قراءه عبد الله و أبی- لأن تلک القراءات لا تکون سببا لزوال ملکهم- و فساد أمرهم و انکشاف حالهم- و فی اشتهار فضل علی ع و ولده- و إظهار محاسنهم بوارهم و تسلیط حکم الکتاب المنبوذ علیهم- فحرصوا و اجتهدوا فی إخفاء فضائله- و حملوا الناس على کتمانها و سترها- و أبى الله أن یزید أمره و أمر ولده- إلا استناره و إشراقا و حبهم إلا شغفا و شده- و ذکرهم إلا انتشارا و کثره- و حجتهم إلا وضوحا و قوه- و فضلهم إلا ظهورا و شأنهم إلا علوا- و أقدارهم إلا إعظاما- حتى أصبحوا بإهانتهم إیاهم أعزاء- و بإماتتهم ذکرهم أحیاء- و ما أرادوا به و بهم من الشر تحول خیرا- فانتهى إلینا من ذکر فضائله و خصائصه- و مزایاه و سوابقه ما لم یتقدمه السابقون- و لا ساواه فیه القاصدون و لا یلحقه الطالبون- و لو لا أنها کانتکالقبله المنصوبه فی الشهره- و کالسنن المحفوظه فی الکثره- لم یصل إلینا منها فی دهرنا حرف واحد- إذا کان الأمر کما وصفناه- .
قال فأما ما احتج به الجاحظ بإمامه أبی بکر- بکونه أول الناس إسلاما- فلو کان هذا احتجاجا صحیحا- لاحتج به أبو بکر یوم السقیفه- و ما رأیناه صنع ذلک لأنه أخذ بید عمر- و ید أبی عبیده بن الجراح و قال للناس- قد رضیت لکم أحد هذین الرجلین- فبایعوا منهما من شئتم- و لو کان هذا احتجاجا صحیحا لما قال عمر- کانت بیعه أبی بکر فلته وقى الله شرها- و لو کان احتجاجا صحیحا- لادعى واحد من الناس لأبی بکر الإمامه- فی عصره أو بعد عصره بکونه سبق إلى الإسلام- و ما عرفنا أحدا ادعى له ذلک- على أن جمهور المحدثین لم یذکروا- أن أبا بکر أسلم إلا بعد عده من الرجال- منهم علی بن أبی طالب و جعفر أخوه- و زید بن حارثه و أبو ذر الغفاری- و عمرو بن عنبسه السلمی و خالد بن سعید بن العاص- و خباب بن الأرت و إذا تأملنا الروایات الصحیحه- و الأسانید القویه و الوثیقه- وجدناها کلها ناطقه بأن علیا ع أول من أسلم- .
فأما الروایه عن ابن عباس أن أبا بکر أولهم إسلاما- فقد روی عن ابن عباس خلاف ذلک- بأکثر مما رووا و أشهر- فمن ذلک ما رواه یحیى بن حماد- عن أبی عوانه و سعید بن عیسى- عن أبی داود الطیالسی عن عمرو بن میمون- عن ابن عباس أنه قال- أول من صلى من الرجال علی ع- .
وروى الحسن البصری قال حدثنا عیسى بن راشد- عن أبی بصیر عن عکرمه عن ابن عباس قال فرض الله تعالى الاستغفار لعلی ع فی القرآن-على کل مسلم بقوله تعالى- رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِینَ سَبَقُونا بِالْإِیمانِ- فکل من أسلم بعد علی فهو یستغفر لعلی عوروى سفیان بن عیینه عن ابن أبی نجیح عن مجاهد عن ابن عباس قال السباق ثلاثه سبق یوشع بن نون إلى موسى- و سبق صاحب یس إلى عیسى- و سبق علی بن أبی طالب إلى محمد علیه و علیهم السلام- . فهذا قول ابن عباس فی سبق علی ع إلى الإسلام- و هو أثبت من حدیث الشعبی و أشهر- على أنه قد روی عن الشعبی خلاف ذلک- من حدیثأبی بکر الهذلی و داود بن أبی هند عن الشعبی قال قال رسول الله ص لعلی ع- هذا أول من آمن بی و صدقنی و صلى معی- .
قال فأما الأخبار الوارده بسبقه إلى الإسلام- المذکوره فی الکتب الصحاح و الأسانید الموثوق بها- فمنها ما روى شریک بن عبد الله- عن سلیمان بن المغیره عن زید بن وهب- عن عبد الله بن مسعود أنه قال- أول شیء علمته من أمر رسول الله ص- أنی قدمت مکه مع عمومه لی و ناس من قومی- و کان من أنفسنا شراء عطر- فأرشدنا إلى العباس بن عبد المطلب فانتهینا إلیه- و هو جالس إلى زمزم فبینا نحن عنده جلوسا- إذ أقبل رجل من باب الصفا و علیه ثوبان أبیضان- و له وفره إلى أنصاف أذنیه جعده- أشم أقنى أدعج العینین- کث اللحیه براق الثنایا- أبیض تعلوه حمره کأنه القمر لیله البدر- و على یمینه غلام مراهق أو محتلم حسن الوجه- تقفوهم امرأه قد سترت محاسنها- حتى قصدوا نحو الحجر فاستلمه و استلمه الغلام- ثم استلمته المرأه ثم طاف بالبیت سبعا- و الغلام و المرأه یطوفان معه ثم استقبل الحجر-فقام و رفع یدیه و کبر- و قام الغلام إلى جانبه و قامت المرأه خلفها- فرفعت یدیها و کبرت فأطال القنوت- ثم رکع و رکع الغلام و المرأه- ثم رفع رأسه فأطال- و رفع الغلام و المرأه معه یصنعان مثل ما یصنع- فلما رأینا شیئا ننکره لا نعرفه بمکه- أقبلنا على العباس فقلنا یا أبا الفضل- إن هذا الدین ما کنا نعرفه فیکم- قال أجل و الله قلنا فمن هذا-
قال هذا ابن أخی هذا محمد بن عبد الله- و هذا الغلام ابن أخی أیضا هذا علی بن أبی طالب- و هذه المرأه زوجه محمد هذه خدیجه بنت خویلد- و الله ما على وجه الأرض أحد یدین بهذا الدین- إلا هؤلاء الثلاثه و من حدیث موسى بن داود عن خالد بن نافع- عن عفیف بن قیس الکندی- و قد رواه عن عفیف أیضا مالک بن إسماعیل النهدی- و الحسن بن عنبسه الوراق و إبراهیم بن محمد بن میمونه- قالوا جمیعا حدثنا سعید بن جشم- عن أسد بن عبد الله البجلی عن یحیى بن عفیف بن قیس- عن أبیه قال کنت فی الجاهلیه عطارا- فقدمت مکه فنزلت على العباس بن عبد المطلب- فبینا أنا جالس عنده أنظر إلى الکعبه- و قد تحلقت الشمس فی السماء- أقبل شاب کان فی وجهه القمر- حتى رمى ببصره إلى السماء- فنظر إلى الشمس ساعه- ثم أقبل حتى دنا من الکعبه- فصف قدمیه یصلی فخرج على أثره فتى- کأن وجهه صفیحه یمانیه فقام عن یمینه- فجاءت امرأه متلففه فی ثیابها فقامت خلفهما- فأهوى الشاب راکعا فرکعا معه- ثم أهوى إلى الأرض ساجدا فسجدا معه- فقلت للعباس یا أبا الفضل أمر عظیم- فقال أمر و الله عظیم أ تدری من هذا الشاب-
قلت لا قال هذا ابن أخی- هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب- أ تدری من هذا الفتى قلت لا قال- هذا ابن أخی علی بن أبی طالب بن عبد المطلب- أ تدری من المرأه قلت لا- قال هذه ابنه خویلد بن أسد بن عبد العزى- هذه خدیجه زوج محمد هذا- و إن محمدا هذا یذکر أن إلهه إله السماء و الأرض- و أمره بهذا الدین فهو علیه کما ترىو یزعم أنه نبی- و قد صدقه على قوله علی ابن عمه هذا الفتى- و زوجته خدیجه هذه المرأه- و الله ما أعلم على وجه الأرض کلها- أحدا على هذا الدین غیر هؤلاء الثلاثه- قال عفیف فقلت له- فما تقولون أنتم- قال ننتظر الشیخ ما یصنع یعنی أبا طالب أخاه- .
وروى عبد الله بن موسى و الفضل بن دکین و الحسن بن عطیه قالوا حدثنا خالد بن طهمان عن نافع بن أبی نافع عن معقل بن یسار قال کنت أوصى النبی ص فقال لی- هل لک أن نعود فاطمه قلت نعم یا رسول الله- فقام یمشی متوکئا علی و قال- أما إنه سیحمل ثقلها غیرک و یکون أجرها لک- قال فو الله کأنه لم یکن علی من ثقل النبی ص شیء- فدخلنا على فاطمه ع- فقال لها ص کیف تجدینک- قالت لقد طال أسفی و اشتد حزنی- و قال لی النساء زوجک أبوک فقیرا لا مال له- فقال لها أ ما ترضین أنی زوجتک أقدم أمتی سلما- و أکثرهم علما و أفضلهم حلما- قالت بلى رضیت یا رسول الله: و قد روى هذا الخبر یحیى بن عبد الحمید و عبد السلام بن صالح عن قیس بن الربیع عن أبی أیوب الأنصاری بألفاظه أو نحوها- .
وروى عبد السلام بن صالح عن إسحاق الأزرق عن جعفر بن محمد عن آبائه أن رسول الله ص لما زوج فاطمه- دخل النساء علیها فقلن یا بنت رسول الله- خطبک فلان و فلان فردهم عنک- و زوجک فقیرا لا مال له- فلما دخل علیها أبوها ص رأى ذلک فی وجهها- فسألها فذکرت له ذلک فقال یا فاطمه- إن الله أمرنی فأنکحتک أقدمهم سلما- و أکثرهم علما و أعظمهم حلما- و ما زوجتک إلا بأمر من السماء- أ ما علمت أنه أخی فی الدنیا و الآخره وروى عثمان بن سعید عن الحکم بن ظهیر عن السدی أن أبا بکر و عمر خطبا فاطمه ع- فردهما رسول الله ص- و قال لم أومر بذلک- فخطبها علی ع فزوجه إیاها- و قال لها زوجتک أقدم الأمه إسلاماو ذکر تمام الحدیث- قال و قد روى هذا الخبر جماعه من الصحابه- منهم أسماء بنت عمیس و أم أیمن- و ابن عباس و جابر بن عبد الله- .
قال و قد روى محمد بن عبد الله بن أبی رافع عن أبیه عن جده أبی رافع قال أتیت أبا ذر بالربذه أودعه- فلما أردت الانصراف قال لی و لأناس معی- ستکون فتنه فاتقوا الله- و علیکم بالشیخ علی بن أبی طالب فاتبعوه- فإنی سمعت رسول الله ص یقول له- أنت أول من آمن بی- و أول من یصافحنی یوم القیامه- و أنت الصدیق الأکبر- و أنت الفاروق الذی یفرق بین الحق و الباطل- و أنت یعسوب المؤمنین و المال یعسوب الکافرین- و أنت أخی و وزیری و خیر من أترک بعدی- تقضی دینی و تنجز موعدیقال و قدروى ابن أبی شیبه عن عبد الله بن نمیر عن العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدی قال سمعت علی بن أبی طالب یقول أنا عبد الله و أخو رسوله- و أنا الصدیق الأکبر- لا یقولها غیری إلا کذاب- و لقد صلیت قبل الناس سبع سنین- .
وروت معاذه بنت عبد الله العدویه قالت سمعت علیا ع یخطب على منبر البصره و یقول- أنا الصدیق الأکبر آمنت قبل أن یؤمن أبو بکر- و أسلمت قبل أن یسلم- .
وروى حبه بن جوین العرنی أنه سمع علیا ع یقول أنا أول رجل أسلممع رسول الله صرواه أبو داود الطیالسی عن شعبه عن سفیان الثوری عن سلمه بن کهیل عن حبه بن جوین وروى عثمان بن سعید الخراز عن علی بن حرار عن علی بن عامر عن أبی الحجاف عن حکیم مولى زاذان قال سمعت علیا ع یقول صلیت قبل الناس سبع سنین- و کنا نسجد و لا نرکع- و أول صلاه رکعنا فیها صلاه العصر- فقلت یا رسول الله ما هذا قال أمرت به وروى إسماعیل بن عمرو عن قیس بن الربیع عن عبد الله بن محمد بن عقیل عن جابر بن عبد الله- قال صلى رسول الله ص یوم الإثنین- و صلى علی یوم الثلاثاء بعدهو فی الروایه الأخرىعن أنس بن مالک استنبئ النبی ص یوم الإثنین- و أسلم علی یوم الثلاثاء بعدهوروى أبو رافع أن رسول الله ص- صلى أول صلاه صلاها غداه الإثنین- و صلت خدیجه آخر نهار یومها ذلک- و صلى علی ع یوم الثلاثاء غدا ذلک الیوم- .
قال و قد روی بروایات مختلفه کثیره متعدده- عن زید بن أرقم و سلمان الفارسی و جابر بن عبد الله- و أنس بن مالک أن علیا ع- أول من أسلم و ذکر الروایات و الرجال بأسمائهم- وروى سلمه بن کهیل عن رجاله الذین ذکرهم أبو جعفر فی الکتاب أن رسول الله- ص قال أولکم ورودا علی الحوض- أولکم إسلاما علی بن أبی طالبوروى یاسین بن محمد بن أیمن عن أبی حازم مولى ابن عباس عن ابن عباسقال سمعت عمر بن الخطاب و هو یقول کفوا عن علی بن أبی طالب فإنی سمعت من رسول الله ص یقول فیه خصالا- لو أن خصله منها فی جمیع آل الخطاب- کان أحب لی مما طلعت علیه الشمس- کنت ذات یوم و أبو بکر و عثمان و عبد الرحمن بن عوف- و أبو عبیده مع نفر من أصحاب رسول الله ص نطلبه- فانتهینا إلى باب أم سلمه- فوجدنا علیا متکئا على نجاف الباب- فقلنا أردنا رسول الله ص- فقال هو فی البیت رویدکم- فخرج رسول الله ص فسرنا حوله- فاتکأ على علی ع و ضرب بیده على منکبه- فقال أبشر یا علی بن أبی طالب إنک مخاصم- و إنک تخصم الناس بسبع لا یجاریک أحد فی واحده منهن- أنت أول الناس إسلاما و أعلمهم بأیام الله و ذکر الحدیث- .
قال و قد روى أبو سعید الخدری- عن النبی ص مثل هذا الحدیث- . قالروى أبو أیوب الأنصاری عن رسول الله ص أنه قال لقد صلت الملائکه علی و على علی ع سبع سنین- و ذلک أنه لم یصل معی رجل فیها غیرهقال أبو جعفر فأما ما رواه الجاحظ- منقوله ص إنما تبعنی حر و عبد- فإنه لم یسم فی هذا الحدیث أبا بکر و بلالا- و کیف و أبو بکر لم یشتر بلالا إلا بعد ظهور الإسلام بمکه- فلما أظهر بلال إسلامه عذبه أمیه بن خلف- و لم یکن ذلک حال إخفاء رسول الله ص الدعوه- و لا فی ابتداء أمر الإسلام- .
و قد قیل إنه ع إنما عنى بالحر- علی بن أبی طالب و بالعبد زید بن حارثه- . و روى ذلک محمد بن إسحاق- قال و قد روى إسماعیل بن نصر الصفار- عن محمد بن ذکوان عن الشعبی قال- قال الحجاج للحسن و عنده جماعه من التابعین- و ذکر علی بن أبی طالب ما تقول أنت یا حسن- فقال ما أقول هو أول من صلى إلى القبله- و أجاب دعوه رسول الله ص- و إن لعلی منزله من ربه و قرابه من رسوله- و قد سبقت له سوابق لا یستطیع ردها أحد- فغضب الحجاج غضبا شدیدا و قام عن سریره- فدخل بعض البیوت و أمر بصرفنا- . قال الشعبی و کنا جماعه- ما منا إلا من نال من علی ع مقاربه للحجاج- غیر الحسن بن أبی الحسن رحمه الله- .
و روى محرز بن هشام عن إبراهیم بن سلمه- عن محمد بن عبید الله قال- قال رجل للحسن ما لنا لا نراک تثنی على علی و تقرظه- قال کیف و سیف الحجاج یقطر دما- إنه لأول من أسلم و حسبکم بذلک- . قال فهذه الأخبار- . و أما الأشعار المرویه فمعروفه کثیره منتشره- فمنها قول عبد الله بن أبی سفیان بن الحارث- بن عبد المطلب مجیبا للولید بن عقبه بن أبی معیط-
و إن ولی الأمر بعد محمد
علی و فی کل المواطن صاحبه
وصی رسول الله حقا و صنوه
و أول من صلى و من لان جانبه
و قال خزیمه بن ثابت فی هذا-
وصی رسول الله من دون أهله
و فارسه مذ کان فی سالف الزمن
و أول من صلى من الناس کلهم
سوى خیره النسوان و الله ذو منن
و قال أبو سفیان بن حرب بن أمیه بن عبد شمس- حین بویع أبو بکر-
ما کنت أحسب أن الأمر منصرف
عن هاشم ثم منها عن أبی حسن
أ لیس أول من صلى لقبلتهم
و أعلم الناس بالأحکام و السنن
و قال أبو الأسود الدؤلی یهدد طلحه و الزبیر-
و إن علیا لکم مصحر
یماثله الأسد الأسود
أما إنه أول العابدین
بمکه و الله لا یعبد
و قال سعید بن قیس الهمدانی یرتجز بصفین-
هذا علی و ابن عم المصطفى
أول من أجابه فیما روى
هو الإمام لا یبالی من غوى
و قال زفر بن یزید بن حذیفه الأسدی-
فحوطوا علیا و انصروه فإنه
وصی و فی الإسلام أول أول
و إن تخذلوه و الحوادث جمه
فلیس لکم عن أرضکم متحول
قال و الأشعار کالأخبار- إذا امتنع فی مجیء القبیلین التواطؤ و الاتفاق- کان ورودهما حجه فأما قول الجاحظ- فأوسط الأمور أن نجعل إسلامهما معا- فقد أبطل بهذا ما احتج به لإمامه أبی بکر- لأنه احتج بالسبق و قد عدل الآن عنه- . قال أبو جعفر و یقال لهم- لسنا نحتاج من ذکر سبق علی ع- إلا مجامعتکم إیانا على أنه أسلم قبل الناس- و دعواکم أنه أسلم و هو طفل دعوى غیر مقبوله لا بحجه- .
فإن قلتم و دعوتکم أنه أسلم- و هو بالغ دعوى غیر مقبوله إلا بحجه-قلنا قد ثبت إسلامه بحکم إقرارکم- و لو کان طفلا لکان فی الحقیقه غیر مسلم- لأن اسم الإیمان و الإسلام و الکفر- و الطاعه و المعصیه إنما یقع على البالغین- دون الأطفال و المجانین- و إذا أطلقتم و أطلقنا اسم الإسلام- فالأصل فی الإطلاق الحقیقه- کیف وقد قال النبی ص أنت أول من آمن بی- و أنت أول من صدقنیوقال لفاطمه زوجتک أقدمهم سلما أو قال إسلاما- فإن قالوا إنما دعاه النبی ص- إلى الإسلام على جهه العرض لا التکلیف- . قلنا قد وافقتمونا على الدعاء- و حکم الدعاء حکم الأمر و التکلیف- ثم ادعیتم أن ذلک کان على وجه العرض- و لیس لکم أن تقبلوا معنى الدعاء عن وجهه إلا لحجه- .
فإن قالوا لعله کان على وجه التأدیب و التعلیم- کما یعتمد مثل ذلک مع الأطفال- قلنا إن ذلک إنما یکون إذا تمکن الإسلام بأهله- أو عند النشوء علیه و الولاده فیه- فأما فی دار الشرک فلا یقع مثل ذلک- لا سیما إذا کان الإسلام غیر معروف و لا معتاد بینهم- على أنه لیس من سنه النبی ص- دعاء أطفال المشرکین إلى الإسلام- و التفریق بینهم و بین آبائهم قبل أن یبلغوا الحلم- .
و أیضا فمن شأن الطفل اتباع أهله و تقلید أبیه- و المضی على منشئه و مولده- و قد کانت منزله النبی ص حینئذ- منزله ضیق و شده و وحده- و هذه منازل لا ینتقل إلیها- إلا من ثبت الإسلام عنده بحجه- و دخل الیقین قلبه بعلم و معرفه- . فإن قالوا إن علیا ع- کان یألف النبی ص فوافقه على طریق المساعده له- قلنا إنه و إن کان یألفه- أکثر من أبویه و إخوته و عمومته و أهل بیته- و لم یکن الإلف لیخرجه عما نشأ علیه- و لم یکن الإسلام مما غذی به و کرر على سمعه-لأن الإسلام هو خلع الأنداد- و البراءه ممن أشرک بالله- و هذا لا یجتمع فی اعتقاد طفل- .
و من العجب قول العباس لعفیف بن قیس- ننتظر الشیخ و ما یصنع- فإذا کان العباس و حمزه ینتظران أبا طالب- و یصدران عن رأیه فکیف یخالفه ابنه- و یؤثر القله على الکثره- و یفارق المحبوب إلى المکروه و العز إلى الذل- و الأمن إلى الخوف- عن غیر معرفه و لا علم بما فیه- . فأما قوله إن المقلل یزعم- أنه أسلم و هو ابن خمس سنین- و المکثر یزعم أنه أسلم و هو ابن تسع سنین- فأول ما یقال فی ذلک- إن الأخبار جاءت فی سنه ع یوم أسلم- على خمسه أقسام فجعلناه فی قسمین- القسم الأول الذین قالوا- أسلم و هو ابن خمس عشره سنه- حدثنا بذلک أحمد بن سعید الأسدی- عن إسحاق بن بشر القرشی- عن الأوزاعی عن حمزه بن حبیب- عن شداد بن أوس قال- سألت خباب بن الأرت عن إسلام علی- فقال أسلم و هو ابن خمس عشره سنه- و لقد رأیته یصلی قبل الناس مع النبی ص- و هو یومئذ بالغ مستحکم البلوغ- و روى عبد الرزاق عن معمر عن قتاده عن الحسن- أن أول من أسلم علی بن أبی طالب- و هو ابن خمس عشره سنه- . القسم الثانی الذین قالوا- إنه أسلم و هو ابن أربع عشره سنه- رواه أبو قتاده الحرانی عن أبی حازم الأعرج- عن حذیفه بن الیمان قال- کنا نعبد الحجاره و نشرب الخمر- و علی من أبناء أربع عشره سنه- قائم یصلی مع النبی ص لیلا و نهارا- و قریش یومئذ تسافه رسول الله ص- ما یذب عنه إلا علیع- و روى ابن أبی شیبه عن جریر بن عبد الحمید قال- أسلم علی و هو ابن أربع عشره سنه- . القسم الثالث الذین قالوا- أسلم و هو ابن إحدى عشره سنه-رواه إسماعیل بن عبد الله الرقی عن محمد بن عمر عن عبد الله بن سمعان- عن جعفر بن محمد ع عن أبیه عن محمد بن علی ع أن علیا حین أسلم کان ابن إحدى عشره سنهوروى عبد الله بن زیاد المدنی عن محمد بن علی الباقر ع قال أول من آمن بالله علی بن أبی طالب- و هو ابن إحدى عشره سنه- و هاجر إلى المدینه و هو ابن أربعه و عشرین سنه- .
القسم الرابع الذین قالوا- إنه أسلم و هو ابن عشر سنین- رواه نوح بن دراج عن محمد بن إسحاق- قال أول ذکر آمن و صدق بالنبوه علی بن أبی طالب ع- و هو ابن عشر سنین- ثم أسلم زید بن حارثه- ثم أسلم أبو بکر و هو ابن ست و ثلاثین سنه فیما بلغنا- . القسم الخامس الذین قالوا- إنه أسلم و هو ابن تسع سنین- رواه الحسن بن عنبسه الوراق عن سلیم مولى الشعبی- عن الشعبی قال أول من أسلم من الرجال- علی بن أبی طالب و هو ابن تسع سنین- و کان له یوم قبض رسول الله ص تسع و عشرون سنه- .
قال شیخنا أبو جعفر فهذه الأخبار کما تراها- فإما أن یکون الجاحظ جهلها أو قصد العناد- . فأما قوله فالقیاس أن نأخذ- بأوسط الأمرین من الروایتین- فنقول إنه أسلم و هو ابن سبع سنین- فإن هذا تحکم منه- و یلزمه مثله فی رجل ادعى قبل رجل عشرهدراهم- فأنکر ذلک و قال- إنما یستحق قبلی أربعه دراهم- فینبغی أن نأخذ الأمر المتوسط و یلزمه سبعه دراهم- و یلزمه فی أبی بکر حیث قال قوم کان کافرا- و قال قوم کان إماما عادلا أن نقول- أعدل الأقاویل أوسطها و هو منزله بین المنزلتین- فنقول کان فاسقا ظالما- و کذلک فی جمیع الأمور المختلف فیها- . فأما قوله و إنما یعرف حق ذلک من باطله- بأن نحصی سنی ولایه عثمان و عمر- و أبی بکر و سنی الهجره- و مقام النبی ص بمکه بعد الرساله إلى أن هاجر- فیقال له لو کانت الروایات متفقه- على هذه التاریخات لکان لهذا القول مساغ- و لکن الناس قد اختلفوا فی ذلک- فقیل إن رسول الله ص أقام بمکه- بعد الرساله خمس عشره سنه- رواه ابن عباس و قیل ثلاث عشره سنه- و روی عن ابن عباس أیضا و أکثر الناس یرونه- و قیل عشر سنین رواه عره بن الزبیر- و هو قول الحسن البصری و سعید بن المسیب- و اختلفوا فی سن رسول الله ص فقال قوم- کان ابن خمس و ستین- و قیل کان ابن ثلاث و ستین- و قیل کان ابن ستین- و اختلفوا فی سن علی ع- فقیل کان ابن سبع و ستین- و قیل کان ابن خمس و ستین- و قیل ابن ثلاث و ستین و قیل ابن ستین- و قیل ابن تسع و خمسین- .
فکیف یمکن مع هذه الاختلافات تحقیق هذه الحال- و إنما الواجب أن یرجع إلى إطلاق قولهم أسلم علی- فإن هذا الاسم لا یکون مطلقا إلا على البالغ- کما لا یطلق اسم الکافر إلا على البالغ- على أن ابن إحدى عشره سنه یکون بالغا- و یولد له الأولاد- فقد روت الرواه أن عمرو بن العاص- لم یکن أسن من ابنه عبد اللهإلا باثنتی عشره سنه- و هذا یوجب أنه احتلم و بلغ- فی أقل من إحدى عشره سنه- .
و روی أیضا أن محمد بن عبد الله بن العباس- کان أصغر من أبیه علی بن عبد الله بن العباس- بإحدى عشره سنه- فیلزم الجاحظ أن یکون عبد الله بن العباس- حین مات رسول الله ص غیر مسلم على الحقیقه- و لا مثاب و لا مطیع بالإسلام- لأنه کان یومئذ ابن عشر سنین- رواه هشیم عن سعید بن جبیر عن ابن عباس- قال توفی رسول الله ص و أنا ابن عشر سنین- . قال الجاحظ فإن قالوا- فلعله و هو ابن سبع سنین أو ثمانی سنین- قد بلغ من فطنته و ذکائه- و صحه لبه و صدق حدسه- و انکشاف العواقب له- و إن لم یکن جرب الأمور و لا فاتح الرجال- و لا نازع الخصوم- ما یعرف به جمیع ما یحب على البالغ معرفته و الإقرار به- قیل لهم إنما نتکلم على ظواهر الأحوال- و ما شاهدنا علیه طبائع الأطفال- فإنا وجدنا حکم ابن سبع سنین أو ثمان- ما لم یعلم باطن أمره و خاصه طبعه حکم الأطفال- و لیس لنا أن نزیل ظاهر حکمه- و الذی نعرف من حال أفناء جنسه بلعل و عسى- لأنا و إن کنا لا ندری- لعله قد کان ذا فضیله فی الفطنه- فلعله قد کان ذا نقص فیها- .
هذا على تجویز أن یکون علی ع فی الغیب- قد أسلم و هو ابن سبع أو ثمان إسلام البالغ- غیر أن الحکم على مجرى أمثاله و أشکاله- الذین أسلموا و هم فی مثل سنه- إذ کان إسلام هؤلاء عن تربیه الحاضن- و تلقین القیم و ریاضه السائس- .
فأما عند التحقیق فإنه لا تجویز لمثل ذلک- لأنه لو کان أسلم و هو ابن سبعأو ثمان- و عرف فضل ما بین الأنبیاء و الکهنه- و فرق ما بین الرسل و السحره- و فرق ما بین خبر النبی و المنجم- و حتى عرف کید الأریب و موضع الحجه- و بعد غور المتنبئ کیف یلبس على العقلاء- و تستمال عقول الدهماء- و عرف الممکن فی الطبع من الممتنع- و ما یحدث بالاتفاق مما یحدث بالأسباب- و عرف قدر القوى و غایه الحیله- و منتهى التمویه و الخدیعه- و ما لا یحتمل أن یحدثه إلا الخالق سبحانه- و ما یجوز على الله فی حکمته مما لا یجوز- و کیف التحفظ من الهوى و الاحتراس من الخداع- لکان کونه على هذه الحال و هذه مع فرط الصبا و الحداثه- و قله التجارب و الممارسه خروجا من العاده- و من المعروف مما علیه ترکیب هذه الخلقه- و لیس یصل أحد إلى معرفه نبی و کذب متنبئ- حتى یجتمع فیه هذه المعارف التی ذکرناها- و الأسباب التی وصفناها و فصلناها- و لو کان علی ع على هذه الصفه- و معه هذه الخاصیه لکان حجه على العامه- و آیه تدل على النبوه- و لم یکن الله عز و جل لیخصه بمثل هذه الأعجوبه- إلا و هو یرید أن یحتج بها- و یجعلها قاطعه لعذر الشاهد و حجه على الغائب- و لو لا أن الله أخبر عن یحیى بن زکریا- أنه آتاه الحکم صبیا- و أنه أنطق عیسى فی المهد- ما کانا فی الحکم و لا فی المغیب- إلا کسائر الرسل و ما علیه جمیع البشر- فإذا لم ینطق لعلی ع بذلک قرآن- و لا جاء الخبر به مجیء الحجه القاطعه- و المشاهده القائمه- فالمعلوم عندنا فی الحکم أن طباعه- کطباع عمیه حمزه و العباس- و هما أمس بمعدن جماع الخیر منه- أو کطباع جعفر و عقیل من رجال قومه و ساده رهطه- و لو أن إنسانا ادعى مثل ذلک- لأخیه جعفر أو لعمیه حمزه و العباس- ما کان عندنا فی أمره إلا مثل ما عندنا فیه أجاب شیخنا أبو جعفر رحمه الله فقال- هذا کله مبنی على أنه أسلم و هو ابن سبع أو ثمان-
و نحن قد بینا أنه أسلم بالغا ابن خمس عشره سنه- أو ابن أربع عشره سنه- علىأنا لو نزلنا على حکم الخصوم- و قلنا ما هو الأشهر و الأکثر من الروایه- و هو أنه أسلم و هو ابن عشر لم یلزم ما قاله الجاحظ- لأن ابن عشر قد یستجمع عقله- و یعلم من مبادئ المعارف- ما یستخرج به کثیرا من الأمور المعقوله- و متى کان الصبی عاقلا ممیزا کان مکلفا بالعقلیات- و إن کان تکلیفه بالشرعیات- موقوفا على حد آخر و غایه أخرى- فلیس بمنکر أن یکون علی ع- و هو ابن عشر قد عقل المعجزه- فلزمه الإقرار بالنبوه و أسلم إسلام عالم عارف- لا إسلام مقلد تابع- و إن کان ما نسقه الجاحظ و عدده- من معرفه السحر و النجوم- و الفصل بینهما و بین النبوه- و معرفه ما یجوز فی الحکمه مما لا یجوز- و ما لا یحدثه إلا الخالق- و الفرق بینه و بین ما یقدر علیه القادرون بالقدره- و معرفه التمویه و الخدیعه و التلبیس و المماکره- شرطا فی صحه الإسلام- لما صح إسلام أبی بکر و لا عمر و لا غیرهما من العرب-
و إنما التکلیف لهؤلاء بالجمل- و مبادئ المعارف لا بدقائقها و الغامض منها- و لیس یفتقر الإسلام إلى أن یکون المسلم- قد فاتح الرجال و جرب الأمور و نازع الخصوم- و إنما یفتقر إلى صحه الغریزه- و کمال العقل و سلامه الفطره- أ لا ترى أن طفلا لو نشأ فی دار- لم یعاشر الناس بها و لا فاتح الرجال- و لا نازع الخصوم ثم کمل عقله- و حصلت العلوم البدیهیه عنده لکان مکلفا بالعقلیات- .
فأما توهمه أن علیا ع أسلم عن تربیه الحاضن- و تلقین القیم و ریاضه السائس- فلعمری إن محمدا ص کان حاضنه و قیمه و سائسه- و لکن لم یکن منقطعا عن أبیه أبی طالب- و لا عن إخوته طالب و عقیل و جعفر- و لا عن عمومته و أهل بیته- و ما زال مخالطا لهم ممتزجا بهم مع خدمته لمحمد ص- فما باله لم یمل إلى الشرک و عباده الأصنام- لمخالطته إخوته و أباه و عمومته و أهله- و هم کثیر و محمد ص واحد- و أنت تعلم أن الصبی إذا کان له أهل ذوو کثره- و فیهم واحد یذهب إلى رأی مفرد- لا یوافقه علیه غیره منهم- فإنه إلى ذوی الکثره أمیل- و عن ذی الرأی الشاذ المنفرد أبعد- و على أن علیا ع لم یولد فی دار الإسلام-
و إنما ولد فی دار الشرک و ربی بین المشرکین- و شاهد الأصنام و عاین بعینه أهله و رهطه یعبدونها- فلو کان فی دار الإسلام لکان فی القول مجال- و لقیل إنه ولد بین المسلمین- فإسلامه عن تلقین الظئر و عن سماع کلمه الإسلام- و مشاهده شعاره لأنه لم یسمع غیره- و لا خطر بباله سواه فلما لم یکن ولد کذلک- ثبت أن إسلامه إسلام الممیز العارف بما دخل علیه- و لو لا أنه کذلک لما مدحه رسول الله ص بذلک- و لا أرضى ابنته فاطمه لما وجدت من تزویجه- بقوله لها زوجتک أقدمهم سلما- و لا قرن إلى قوله- و أکثرهم علما و أعظمهم حلما- و الحلم العقل و هذان الأمران غایه الفضل- فلو لا أنه أسلم إسلام عارف عالم ممیز- لما ضم إسلامه إلى العلم و الحلم- اللذین وصفه بهما- و کیف یجوز أن یمدحه بأمر لم یکن مثابا علیه- و لا معاقبا به لو ترکه- و لو کان إسلامه عن تلقین و تربیه- لما افتخر هو ع به على رءوس الأشهاد- و لا خطب على المنبر و هو بین عدو و محارب- و خاذل منافق فقال- أنا عبد الله و أخو رسوله و أنا الصدیق الأکبر- و الفاروق الأعظم- صلیت قبل الناس سبع سنین- و أسلمت قبل إسلام أبی بکر و آمنت قبل إیمانه- فهل بلغکم أن أحدا من أهل ذلک العصر- أنکر ذلک أو عابه أو ادعاه لغیره- أو قال له إنما کنت طفلا أسلمت على تربیه محمد ص ذلک- و تلقینه إیاک- کما یعلم الطفل الفارسیه و الترکیه منذ یکون رضیعا- فلا فخر له فی تعلم ذلک- و خصوصا فی عصر قد حارب فیه- أهل البصره و الشام و النهروان- و قد اعتورته الأعداء و هجته الشعراء- فقال فیه النعمان بن بشیر-
لقد طلب الخلافه من بعید
و سارع فی الضلال أبو تراب
معاویه الإمام و أنت منها
على وتح بمنقطع السراب
و قال فیه أیضا بعض الخوارج-
دسسنا له تحت الظلام ابن ملجم
جزاء إذا ما جاء نفسا کتابها
أبا حسن خذها على الرأس ضربه
بکف کریم بعد موت ثوابها
و قال عمران بن حطان یمدح قاتله-
یا ضربه من تقی ما أراد بها
إلا لیبلغ من ذی العرش رضوانا
إنی لأذکره حینا فأحسبه
أوفى البریه عند الله میزانا
فلو وجد هؤلاء سبیلا إلى دحض حجه- فیما کان یفخر به من تقدم إسلامه- لبدءوا بذلک و ترکوا ما لا معنى له- . و قد أوردنا ما مدحه الشعراء به من سبقه إلى الإسلام- فکیف لم یرد على هؤلاء الذین مدحوه بالسبق- شاعر واحد من أهل حربه- و لقد قال فی أمهات الأولاد- قولا خالف فیه عمر فذکروه بذلک و عابوه- فکیف ترکوا أن یعیبوه- بما کان یفتخر به مما لا فخر فیه عندهم- و عابوه بقوله فی أمهات الأولاد- .
ثم یقال له خبرنا عن عبد الله بن عمر- و قد أجازه النبی ص یوم الخندق- و لم یجزه یوم أحد- هل کان یمیز ما ذکرته- و هل کان یعلم فرق ما بین النبی و المتنبئ- و یفصل بین السحر و المعجزه- إلى غیره مما عددت و فصلت- . فإن قال نعم و تجاسر على ذلک- قیل له فعلی ع بذلک أولى من ابن عمر- لأنه أذکى و أفطن بلا خلاف بین العقلاء- و أنى یشک فی ذلک- و قد رویتم أنه لم یمیز بین المیزان و العود- بعد طول السن و کثره التجارب- و لم یمیز أیضا بین إمام الرشد و إمام الغی- فإنه امتنع من بیعه علی ع- و طرق على الحجاج بابه لیلا لیبایع لعبد الملک- کیلا یبیت تلک اللیله بلا إمام زعم- لأنه روی عن النبی ص أنه قال- من مات و لا إمام له مات میته جاهلیه- و حتى بلغ من احتقار الحجاج له و استرذاله حاله- أن أخرج رجله من الفراش فقال- أصفق بیدک علیها- فذلک تمییزه بین المیزان و العود- و هذا اختیاره فی الأئمه- و حال علی ع فی ذکائه و فطنته- و توقد حسه و صدق حدسه- معلومه مشهوره- فإذا جاز أن یصح إسلام ابن عمر- و یقال عنه إنه عرف تلک الأمور- التی سردها الجاحظ و نسقها- و أظهر فصاحته و تشدقه فیها- فعلی بمعرفه ذلک أحق و بصحه إسلامه أولى- .
و إن قال لم یکن ابن عمر یعلم و یعرف ذلک- فقد أبطل إسلامه و طعن فی رسول الله ص- حیث حکم بصحه إسلامه و أجازه یوم الخندق- لأنه ع کان قال لا أجیز إلا البالغ العاقل- و لذلک لم یجزه یوم أحد- . ثم یقال له إن ما نقوله فی بلوغ علی ع- الحد الذی یحسن فیه التکلیف العقلی بل یجب- و هو ابن عشر سنین- لیس بأعجب من مجیء الولد لسته أشهر- و قد صحح ذلک أهل العلم و استنبطوه من الکتاب- و إن کان خارجا من التعارف و التجارب و العاده- و کذلک مجیء الولد لسنتین- خارج أیضا عن التعارف و العاده- و قد صححه الفقهاء و الناس- .
و یروى أن معاذا لما نهى عمر عن رجم الحامل- ترکها حتى ولدت غلاما قد نبتت ثنیتاه- فقال أبوه ابنی و رب الکعبه- فثبت ذلک سنه یعمل بها الفقهاء- و قد وجدنا العاده تقضی- بأن الجاریه تحیض لاثنتی عشره سنه- و أنه أقل سن تحیض فیه المرأه- و قدیکون فی الأقل نساء یحضن لعشر و لتسع- و قد ذکر ذلک الفقهاء و قد قال الشافعی فی اللعان- لو جاءت المرأه بحمل و زوجها صبی- له دون عشر سنین لم یکن ولدا له- لأن من لم یبلغ عشر سنین من الصبیان لا یولد له- و إن کان له عشر سنین جاز أن یکون الولد له- و کان بینهما لعان إذا لم یقر به- .
و قال الفقهاء أیضا إن نساء تهامه- یحضن لتسع سنین لشده الحر ببلادهن- . قال الجاحظ و لو لم یعرف باطل هذه الدعوى- من آثر التقوى و تحفظ من الهوى- إلا بترک علی ع ذکر ذلک لنفسه- و الاحتجاج به على خصمه- و قد نازع الرجال و ناوى الأکفاء- و جامع أهل الشورى لکان کافیا- و متى لم تصح لعلی ع هذه الدعوى فی أیامه- و لم یذکرها أهل عصره- فهی عن ولده أعجز و منهم أضعف- .
و لم ینقل أن علیا ع احتج بذلک فی موقف- و لا ذکره فی مجلس و لا قام به خطیبا- و لا أدلى به واثقا- لا سیما و قد رضیه الرسول ص عندکم مفزعا و معلما- و جعله للناس إماما- و لا ادعى له أحد ذلک فی عصره- کما لم یدعه لنفسه حتى یقول إنسان واحد- الدلیل على إمامته أن النبی ص دعاه إلى الإسلام- أو کلفه التصدیق قبل بلوغه- لیکون ذلک آیه للناس فی عصره- و حجه له و لولده من بعده- فهذا کان أشد على طلحه و الزبیر و عائشه- من کل ما ادعاه من فضائله و سوابقه و ذکر قرابته- .
قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- إن مثل الجاحظ مع فضله و علمه- لا یخفى علیه کذب هذه الدعوى و فسادها- و لکنه یقول ما یقوله تعصبا و عنادا- و قد روى الناس کافه افتخار علی ع بالسبق إلى الإسلام- و أن النبی ص استنبئ یوم الإثنین- و أسلم علی یوم الثلاثاء- و أنه کان یقول صلیت قبل الناس سبع سنین- و أنه ما زال یقول أنا أول من أسلم- و یفتخر بذلک و یفتخر له به أولیاؤه- و مادحوه و شیعته فی عصره و بعد وفاته- و الأمر فی ذلک أشهر من کل شهیر- و قد قدمنا منه طرفا- و ما علمنا أحدا من الناس فیما خلا- استخف بإسلام علی ع و لا تهاون به- و لا زعم أنه أسلم إسلام حدث غریر و طفل صغیر- و من العجب أن یکون مثل العباس و حمزه- ینتظران أبا طالب و فعله لیصدرا عن رأیه- ثم یخالفه علی ابنه لغیر رغبه و لا رهبه- یؤثر القله على الکثره و الذل على العزه- من غیر علم و لا معرفه بالعاقبه و کیف ینکر الجاحظ و العثمانیه- أن رسول الله ص دعاه إلى الإسلام و کلفه التصدیق- .
و قد روی فی الخبر الصحیح- أنه کلفه فی مبدإ الدعوه قبل ظهور کلمه الإسلام- و انتشارها بمکه أن یصنع له طعاما- و أن یدعو له بنی عبد المطلب- فصنع له الطعام- و دعاهم له فخرجوا ذلک الیوم- و لم ینذرهم ص لکلمه قالها عمه أبو لهب- فکلفه فی الیوم الثانی أن یصنع مثل ذلک الطعام- و أن یدعوهم ثانیه فصنعه و دعاهم فأکلوا- ثم کلمهم ص فدعاهم إلى الدین- و دعاه معهم لأنه من بنی عبد المطلب- ثم ضمن لمن یوازره منهم و ینصره على قوله- أن یجعله أخاه فی الدین- و وصیه بعد موته و خلیفته من بعده- فأمسکوا کلهم و أجابه هو وحده و قال- أنا أنصرک على ما جئت به و أوازرک و أبایعک- فقال لهم لما رأى منهم الخذلان و منه النصر- و شاهد منهم المعصیه و منه الطاعه- و عاین منهم الإباء و منه الإجابه- هذا أخی و وصیی و خلیفتی من بعدی- فقاموا یسخرون و یضحکون- و یقولون لأبی طالب أطع ابنک فقد أمره علیک- فهل یکلف عملالطعام و دعاء القوم- صغیر ممیز و غر غیر عاقل- و هل یؤتمن على سر النبوه طفل ابن خمس سنین أو ابن سبع- و هل یدعى فی جمله الشیوخ و الکهول إلا عاقل لبیب- و هل یضع رسول الله ص یده فی یده- و یعطیه صفقه یمینه بالأخوه و الوصیه و الخلافه- إلا و هو أهل لذلک بالغ حد التکلیف- محتمل لولایه الله و عداوه أعدائه- و ما بال هذا الطفل لم یأنس بأقرانه- و لم یلصق بأشکاله- و لم یر مع الصبیان فی ملاعبهم بعد إسلامه- و هو کأحدهم فی طبقته کبعضهم فی معرفته- .
و کیف لم ینزع إلیهم فی ساعه من ساعاته- فیقال دعاه داعی الصبا و خاطر من خواطر الدنیا- و حملته الغره و الحداثه- على حضور لهوهم و الدخول فی حالهم- بل ما رأیناه إلا ماضیا على إسلامه- مصمما فی أمره محققا لقوله بفعله- قد صدق إسلامه بعفافه و زهده- و لصق برسول الله ص من بین جمیع من بحضرته- فهو أمینه و ألیفه فی دنیاه و آخرته- و قد قهر شهوته و جاذب خواطره- صابرا على ذلک نفسه- لما یرجو من فوز العاقبه و ثواب الآخره- و قد ذکر هو ع فی کلامه و خطبه- بدء حاله و افتتاح أمره- حیث أسلم لما دعا رسول الله ص الشجره- فأقبلت تخد الأرض فقالت قریش- ساحر خفیف السحر فقال علی ع یا رسول الله- أنا أول من یؤمن بک آمنت بالله و رسوله- و صدقتک فیما جئت به- و أنا أشهد أن الشجره فعلت ما فعلت- بأمر الله تصدیقا لنبوتک- و برهانا على صحه دعوتک- فهل یکون إیمان قط أصح من هذا الإیمان- و أوثق عقده و أحکم مره- و لکن حنق العثمانیه و غیظهم- و عصبیه الجاحظ و انحرافه مما لا حیله فیه- ثم لینظر المنصف و لیدع الهوى جانبا- لیعلم نعمه الله على علی ع بالإسلام- حیث أسلم على الوضع الذی أسلم علیه-
فإنه لو لا الألطاف التی خص بها- و الهدایه التی منحها- لما کان إلا کبعض أقارب محمد ص و أهله- فقد کان ممازجا له کممازجته- و مخالطا له کمخالطه کثیر من أهله و رهطه- و لم یستجب منهمأحد له إلا بعد حین- و منهم من لم یستجب له أصلا- فإن جعفرا ع کان ملتصقا به- و لم یسلم حینئذ- و کان عتبه بن أبی لهب ابن عمه- و صهره زوج ابنته و لم یصدقه- بل کان شدیدا علیه- و کان لخدیجه بنون من غیره- و لم یسلموا حینئذ و هم ربائبه و معه فی دار واحده- و کان أبو طالب أباه فی الحقیقه- و کافله و ناصره و المحامی عنه- و من لولاه لم تقم له قائمه- و مع ذلک لم یسلم فی أغلب الروایات- و کان العباس عمه و صنو أبیه- و کالقرین له فی الولاده و المنشإ و التربیه- و لم یستجب له إلا بعد حین طویل- و کان أبو لهب عمه و کدمه و لحمه- و لم یسلم و کان شدیدا علیه- فکیف ینسب إسلام علی ع إلى الإلف و التربیه- و القرابه و اللحمه و التلقین و الحضانه- و الدار الجامعه و طول العشره و الأنس و الخلوه- و قد کان کل ذلک حاصلا لهؤلاء أو لکثیر منهم- و لم یهتد أحد منهم إذ ذاک- بل کانوا بین من جحد و کفر- و مات على کفره و من أبطأ و تأخر- و سبق بالإسلام و جاء سکیتا و قد فاز بالمنزله غیره- .
و هل یدل تأمل حال علی ع مع الإنصاف إلا على أنه أسلم- لأنه شاهد الأعلام و رأى المعجزات- و شم ریح النبوه و رأى نور الرساله- و ثبت الیقین فی قلبه بمعرفه- و علم و نظر صحیح لا بتقلید و لا حمیه- و لا رغبه و لا رهبه إلا فیما یتعلق بأمور الآخره- . قال الجاحظ فلو أن علیا ع کان بالغا حیث أسلم- لکان إسلام أبی بکر و زید بن حارثه- و خباب بن الأرت أفضل من إسلامه- لأن إسلام المقتضب الذی لم یعتد به و لم یعوده- و لم یمرن علیه أفضل من إسلام الناشئ الذی ربی فیه- و نشأ و حببإلیه- و ذلک لأن صاحب التربیه یبلغ حیث یبلغ- و قد أسقط إلفه عنه مؤنه الرویه و الخاطر- و کفاه علاج القلب و اضطراب النفس- و زید و خباب و أبو بکر یعانون من کلفه النظر- و مؤنه التأمل و مشقه الانتقال- من الدین الذی قد طال إلفهم له ما هو غیر خاف- و لو کان علی حیث أسلم بالغا مقتضبا کغیره ممن عددنا- کان إسلامهم أفضل من إسلامه- لأن من أسلم و هو یعلم أن له ظهرا کأبی طالب- و ردءا کبنی هاشم و موضعا فی بنی عبد المطلب- لیس کالحلیف و المولى و التابع و العسیف- و کالرجل من عرض قریش- أ و لست تعلم أن قریشا خاصه و أهل مکه عامه- لم یقدروا على أذى النبی ص- ما کان أبو طالب حیا- و أیضا فإن أولئک اجتمع علیهم مع فراق الإلف مشقه الخواطر- و علی ع کان بحضره رسول الله ص- یشاهد الأعلام فی کل وقت- و یحضر منزل الوحی- فالبراهین له أشد انکشافا- و الخواطر على قلبه أقل اعتلاجا- و على قدر الکلفه و المشقه یعظم الفضل و یکثر الأجر- .
قال أبو جعفر رحمه الله- ینبغی أن ینظر أهل الإنصاف هذا الفصل- و یقفوا على قول الجاحظ و الأصم فی نصره العثمانیه- و اجتهادهما فی القصد إلى فضائل هذا الرجل و تهجینها- فمره یبطلان معناها- و مره یتوصلان إلى حط قدرها- فلینظر فی کل باب اعترضا فیه- أین بلغت حیلتهما- و ما صنعا فی احتیالهما فی قصصهما و سجعهما- أ لیس إذا تأملتها علمت أنها ألفاظ ملفقه بلا معنى- و أنها علیها شجى و بلاء- و إلا فما عسى أن تبلغ حیله الحاسد و یغنی کید الکائد الشانئ- لمن قد جل قدره عن النقص و أضاءت فضائله إضاءه الشمس- و أین قول الجاحظ من دلائل السماء- و براهین الأنبیاء- و قد علمالصغیر و الکبیر و العالم و الجاهل- ممن بلغه ذکر علی ع- و علم مبعث النبی ص- أن علیا ع لم یولد فی دار الإسلام- و لا غذی فی حجر الإیمان-
و إنما استضافه رسول الله ص- إلى نفسه سنه القحط و المجاعه- و عمره یومئذ ثمانی سنین- فمکث معه سبع سنین حتى أتاه جبرئیل بالرساله- فدعاه و هو بالغ کامل العقل إلى الإسلام- فأسلم بعد مشاهده المعجزه و بعد إعمال النظر و الفکره- و إن کان قد ورد فی کلامه- أنه صلى سبع سنین قبل الناس کلهم- فإنما یعنی ما بین الثمان و الخمس عشره- و لم یکن حینئذ دعوه و لا رساله و لا ادعاء نبوه-
و إنما کان رسول الله ص- یتعبد على مله إبراهیم و دین الحنیفیه- و یتحنث و یجانب الناس- و یعتزل و یطلب الخلوه و ینقطع فی جبل حراء- و کان علی ع معه کالتابع و التلمیذ- فلما بلغ الحلم- و جاءت النبی ص الملائکه و بشرته بالرساله- دعاه فأجابه عن نظر و معرفه بالأعلام المعجزه- فکیف یقول الجاحظ إن إسلامه لم یکن مقتضبا- . و إن کان إسلامه ینقص عن إسلام غیره فی الفضیله- لما کان یمرن علیه من التعبد- مع رسول الله ص قبل الدعوه- لتکونن طاعه کثیر من المکلفین- أفضل من طاعه رسول الله ص و أمثاله من المعصومین- لأن العصمه عند أهل العدل- لطف یمنع من اختص به من ارتکاب القبیح- فمن اختص بذلک اللطف کانت الطاعه علیه أسهل- فوجب أن یکون ثوابه أنقص- من ثواب من أطاع مع تلک الألطاف- .
و کیف یقول الجاحظ إن إسلامه ناقص عن إسلام غیره- و قد جاء فی الخبر أنه أسلم یوم الثلاثاء- و استنبئ النبی ص یوم الإثنین- فمن هذه حاله لم تکثر حجج الرساله على سمعه- و لا تواترت أعلام النبوه على مشاهدته- و لا تطاول الوقت علیه لتخف محنته و یسقط ثقل تکلیفه- بل بان فضله و ظهر حسن اختیاره لنفسه- إذ أسلم فی حال بلوغه و عانى نوازع طبعه- و لم یؤخر ذلک بعد سماعه- .
و قد غمر الجاحظ فی کتابه هذا- أن أبا بکر کان قبل إسلامه مذکورا- و رئیسا معروفا- یجتمع إلیه کثیر من أهل مکه فینشدون الأشعار- و یتذاکرون الأخبار و یشربون الخمر- و قد کان سمع دلائل النبوه و حجج الرسل- و سافر إلى البلدان و وصلت إلیه الأخبار- و عرف دعوى الکهنه و حیل السحره- و من کان کذلک کان انکشاف الأمور له أظهر- و الإسلام علیه أسهل- و الخواطر على قلبه أقل اعتلاجا- و کل ذلک عون لأبی بکر على الإسلام و مسهل إلیه سبیله- و لذلک لما قال النبی ص أتیت بیت المقدس-
سأله أبو بکر عن المسجد و مواضعه فصدقه و بان له أمره- و خفت مئونته لما تقدم من معرفته بالبیت- فخرج إذا إسلام أبی بکر على قول الجاحظ- من معنى المقتضب- و فی ذلک رویتم عنه ص- أنه قال ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا و کان له تردد و نبوه- إلا ما کان من أبی بکر فإنه لم یتلعثم حتى هجم به الیقین إلى المعرفه و الإسلام- فأین هذا و إسلام من خلی و عقله و ألجئ إلى نظره- مع صغر سنه و اعتلاج الخواطر على قلبه و نشأته- فی ضد ما دخل فیه- و الغالب على أمثاله و أقرانه حب اللعب و اللهو- فلجأ إلى ما ظهر له من دلائل الدعوه- و لم یتأخر إسلامه فیلزمه التقصیر بالمعصیه- فقهر شهوته و غالب خواطره-
و خرج من عادته و ما کان غذی به- لصحه نظره و لطافه فکره و غامض فهمه- فعظم استنباطه و رجح فضله و شرف قدر إسلامه- و لم یأخذ من الدنیا بنصیب- و لا تنعم فیها بنعیم حدثا و لا کبیرا- و حمى نفسه عن الهوى و کسر شره حداثته بالتقوى- و اشتغل بهم الدین عن نعیم الدنیا- و أشغل هم الآخره قلبه و وجه إلیه رغبته- فإسلامه هو السبیل الذی لم یسلم علیه أحد غیره- و ما سبیله فی ذلک إلا کسبیل الأنبیاء- لیعلم أن منزلته من النبی ص کمنزله هارون من موسى- و أنه و إن لم یکن نبیا فقد کان فی سبیل الأنبیاء سالکا- و لمنهاجهم متبعا- و کانت حاله کحال إبراهیم ع- فإنأهل العلم ذکروا أنه لما کان صغیرا- جعلته أمه فی سرب لم یطلع علیه أحد- فلما نشأ و درج و عقل قال لأمه من ربی قالت أبوک- قال فمن رب أبی فزبرته و نهرته- إلى أن طلع من شق السرب- فرأى کوکبا فقال هذا ربی- فلما أفل قال لا أحب الآفلین- فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربی- فلما أفل قال لئن لم یهدنی ربی لأکونن من القوم الضالین- فلما رأى الشمس بازغه قال هذا ربی هذا أکبر- فلما أفلت قال یا قوم إنی بریء مما تشرکون- إنی وجهت وجهی للذی فطر السموات و الأرض حنیفا- و ما أنا من المشرکین- و فی ذلک یقول الله جل ثناؤه- وَ کَذلِکَ نُرِی إِبْراهِیمَ مَلَکُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ- وَ لِیَکُونَ مِنَ الْمُوقِنِینَ و على هذا کان إسلام الصدیق الأکبر ع- لسنا نقول إنه کان مساویا له فی الفضیله- و لکن کان مقتدیا بطریقه على ما قال الله تعالى- إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِیمَ لَلَّذِینَ اتَّبَعُوهُ- وَ هذَا النَّبِیُّ وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِیُّ الْمُؤْمِنِینَ-
و أما اعتلال الجاحظ- بأن له ظهرا کأبی طالب و ردءا کبنی هاشم- فإنه یوجب علیه أن تکون محنه أبی بکر و بلال- و ثوابهما و فضل إسلامهما أعظم مما لرسول الله ص- لأن أبا طالب ظهره و بنی هاشم ردؤه- و حسبک جهلا من معاند لم یستطع حط قدر علی ع- إلا بحطه من قدر رسول الله ص- و لم یکن أحد أشد على رسول الله ص من قراباته- الأدنى منهم فالأدنى- کأبی لهب عمه و امرأه أبی لهب- و هی أم جمیل بنت حرب بن أمیه و إحدى أولاد عبد مناف- ثم ما کان من عقبه بن أبی معیط و هو ابن عمه- و ما کان من النضر بن الحارث- و هو من بنی عبد الدار بن قصی و هو ابن عمه أیضا- و غیر هؤلاء ممن یطول تعداده- و کلهم کان یطرح الأذى فی طریقه و ینقل أخباره- و یرمیه بالحجاره و یرمی الکرشو الفرث علیه- و کانوا یؤذون علیا ع کأذاه-
و یجتهدون فی غمه و یستهزءون به- و ما کان لأبی بکر قرابه تؤذیه کقرابه علی- و لما کان بین علی و بین النبی ص- من الاتحاد و الإلف و الاتفاق- أحجم المنافقون بالمدینه عن أذى رسول الله ص- خوفا من سیفه- و لأنه صاحب الدار و الجیش و أمره مطاع و قوله نافذ- فخافوا على دمائهم منه- فاتقوه و أمسکوا عن إظهار بغضه- و أظهروا بغض علی ع و شنآنه- فقال رسول الله ص فی حقه- فیالخبر الذی روی فی جمیع الصحاح لا یحبک إلا مؤمن و لا یبغضک إلا منافق- و قال کثیر من أعلام الصحابه- کماروی فی الخبر المشهور بین المحدثین ما کنا نعرف المنافقین إلا ببغض علی بن أبی طالبو أین کان ظهر أبی طالب عن جعفر- و قد أزعجه الأذى عن وطنه- حتى هاجر إلى بلاد الحبشه و رکب البحر- أ یتوهم الجاحظ أن أبا طالب نصر علیا و خذل جعفرا- .
قال الجاحظ و لأبی بکر فضیله فی إسلامه- أنه کان قبل إسلامه کثیر الصدیق- عریض الجاه ذا یسار و غنى- یعظم لماله و یستفاد من رأیه- فخرج من عز الغنى و کثره الصدیق- إلى ذل الفاقه و عجز الوحده- و هذا غیر إسلام من لا حراک به و لا عز له- تابع غیر متبوع- لأن من أشد ما یبتلى الکریم به السب بعد التحیه- و الضرب بعد الهیبه و العسر بعد الیسر- ثم کان أبو بکر دعیه من دعاه الرسول- و کان یتلوه فی جمیع أحواله- فکان الخوف إلیه أشد و المکروه نحوه أسرع- و کان ممن تحسن مطالبته- و لا یستحیا من إدراک الثأر عنده لنباهته و بعد ذکره- و الحدث الصغیر یزدرى و یحتقر- لصغر سنه و خمول ذکره- .
قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- أما ما ذکر من کثره المال و الصدیق- و استفاضه الذکر و بعد الصیت و کبر السن- فکله علیه لا له- و ذلک لأنه قد علم أن من سیره العرب و أخلاقها- حفظ الصدیق و الوفاء بالذمام و التهیب لذی الثروه- و احترام ذی السن العالیه- و فی کل هذا ظهر شدید- و سند و ثقه یعتمد علیها عند المحن- و لذلک کان المرء منهم إذا تمکن من صدیقه- أبقى علیه و استحیا منه- و کان ذلک سببا لنجاته و العفو عنه- على أن علی بن أبی طالب ع إن لم یکن شهره سنه- فقد شهره نسبه و موضعه من بنی هاشم- و إن لم یستفض ذکره بلقاء الرجال و کثره الأسفار- استفاض بأبی طالب- فأنتم تعلمون أنه لیس تیم فی بعد الصیت کهاشم- و لا أبو قحافه کأبی طالب- و على حسب ذلک یعلو ذکر الفتى على ذی السن- و یبعد صیت الحدث على الشیخ- و معلوم أیضا أن علیا على أعناق المشرکین أثقل- إذ کان هاشمیا-
و إن کان أبوه حامى رسول الله ص و المانع لحوزته- و علی هو الذی فتح على العرب باب الخلاف و استهان بهم- بما أظهر من الإسلام و الصلاه و خالف رهطه و عشیرته- و أطاع ابن عمه فیما لم یعرف من قبل- و لا عهد له نظیر کما قال تعالى- لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ- ثم کان بعد صاحب رسول الله ص و مشتکى حزنه- و أنیسه فی خلوته و جلیسه و ألیفه فی أیامه کلها- و کل هذا یوجب التحریض علیه و معاداه العرب له- ثم أنتم معاشر العثمانیه- تثبتون لأبی بکر فضیله بصحبه الرسول ص- من مکه إلى یثرب و دخوله معه فی الغار- فقلتم مرتبه شریفه و حاله جلیله- إذ کان شریکه فی الهجره و أنیسه فی الوحشه- فأین هذه من صحبه علی ع له فی خلوته- و حیث لا یجد أنیسا غیره لیله و نهاره- أیام مقامه بمکه یعبد اللهمعه سرا- و یتکلف له الحاجه جهرا و یخدمه کالعبد یخدم مولاه- و یشفق علیه و یحوطه و کالولد یبر والده و یعطف علیه- ولما سئلت عائشه من کان أحب الناس إلى رسول الله ص- قالت أما من الرجال فعلی و أما من النساء ففاطمه- .
قال الجاحظ و کان أبو بکر من المفتونین- المعذبین بمکه قبل الهجره- فضربه نوفل بن خویلد المعروف بابن العدویه مرتین- حتى أدماه و شده مع طلحه بن عبید الله فی قرن- و جعلهما فی الهاجره- عمیر بن عثمان بن مره بن کعب بن سعد بن تیم بن مره- و لذلک کانا یدعیان القرینین- و لو لم یکن له غیر ذلک لکان لحاقه عسیرا- و بلوغ منزلته شدیدا- و لو کان یوما واحدا لکان عظیما- و علی بن أبی طالب رافه وادع لیس بمطلوب و لا طالب- و لیس أنه لم یکن فی طبعه الشهامه و النجده- و فی غریزته البساله فی الشجاعه- لکنه لم یکن قد تمت أداته و لا استکملت آلته- و رجال الطلب و أصحاب الثأر یغمصون ذا الحداثه- و یزدرون بذی الصبا و الغراره- إلى أن یلحق بالرجال و یخرج من طبع الأطفال- .
قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- أما القول فممکن و الدعوى سهله- سیما على مثل الجاحظ- فإنه لیس على لسانه من دینه و عقله رقیب- و هو من دعوى الباطل غیر بعید- فمعناه نزر و قوله لغو و مطلبه سجع- و کلامه لعب و لهو یقول الشیء و خلافه- و یحسن القول و ضده- لیس له من نفسه واعظ و لا لدعواه حد قائم- و إلا فکیف تجاسر على القول بأن علیا حینئذ- لم یکن مطلوبا و لا طالبا- و قد بینا بالأخبار الصحیحه و الحدیث المرفوع المسند- أنه کان یوم أسلم بالغا کاملا- منابذا بلسانه و قلبه لمشرکی قریشثقیلا على قلوبهم- و هو المخصوص دون أبی بکر بالحصار فی الشعب- و صاحب الخلوات برسول الله ص فی تلک الظلمات- المتجرع لغصص المرار من أبی لهب و أبی جهل و غیرهما- و المصطلی لکل مکروه و الشریک لنبیه فی کل أذى-
قد نهض بالحمل الثقیل و بان بالأمر الجلیل- و من الذی کان یخرج لیلا من الشعب على هیئه السارق- و یخفی نفسه و یضائل شخصه- حتى یأتی إلى من یبعثه إلیه أبو طالب من کبراء قریش- کمطعم بن عدی و غیره- فیحمل لبنی هاشم على ظهره أعدال الدقیق و القمح- و هو على أشد خوف من أعدائهم کأبی جهل و غیره- لو ظفروا به لأراقوا دمه- أ علی کان یفعل ذلک أیام الحصار فی الشعب أم أبو بکر-
و قد ذکر هو ع حاله یومئذ-فقال فی خطبه له مشهوره فتعاقدوا ألا یعاملونا و لا یناکحونا- و أوقدت الحرب علینا نیرانها و اضطرونا إلى جبل وعر- مؤمننا یرجو الثواب و کافرنا یحامی عن الأصل- و لقد کانت القبائل کلها اجتمعت علیهم- و قطعوا عنهم الماره و المیره- فکانوا یتوقعون الموت جوعا صباحا و مساء- لا یرون وجها و لا فرجا- قد اضمحل عزمهم و انقطع رجاؤهم- فمن الذی خلص إلیه مکروه تلک المحن- بعد محمد ص إلا علی ع وحده- و ما عسى أن یقول الواصف و المطنب فی هذه الفضیله- من تقصی معانیها و بلوغ غایه کنهها- و فضیله الصابر عندها- و دامت هذه المحنه علیهم ثلاث سنین- حتى انفرجت عنهم بقصه الصحیفه و القصه مشهوره- .
و کیف یستحسن الجاحظ لنفسه أن یقول فی علی ع- إنه قبل الهجره کان وادعا رافها- لم یکن مطلوبا و لا طالبا- و هو صاحب الفراش الذی فدى رسول الله ص بنفسه- و وقاه بمهجته- و احتمل السیوف و رضح الحجاره دونه- و هل ینتهی الواصف و إن أطنب- و المادح و إن أسهب- إلى الإبانه عن مقدار هذه الفضیله- و الإیضاح بمزیه هذه الخصیصه- .
فأما قوله إن أبا بکر عذب بمکه- فإنا لا نعلم أن العذاب کان واقعا إلا بعبد أو عسیف- أو لمن لا عشیره له تمنعه- فأنتم فی أبی بکر بین أمرین- تاره تجعلونه دخیلا ساقطا و هجینا رذیلا مستضعفا ذلیلا- و تاره تجعلونه رئیسا متبعا و کبیرا مطاعا- فاعتمدوا على أحد القولین- لنکلمکم بحسب ما تختارونه لأنفسکم- و لو کان الفضل فی الفتنه و العذاب- لکان عمار و خباب و بلال- و کل معذب بمکه أفضل من أبی بکر- لأنهم کانوا من العذاب فی أکثر مما کان فیه- و نزل فیهم من القرآن ما لم ینزل فیه- کقوله تعالى وَ الَّذِینَ هاجَرُوا فِی اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا- قالوا نزلت فی خباب و بلال- و نزل فی عمار قوله إِلَّا مَنْ أُکْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمانِ- و کان رسول الله ص-
یمر على عمار و أبیه و أمه و هم یعذبون- یعذبهم بنو مخزوم لأنهم کانوا حلفاءهم-فیقول صبرا آل یاسر فإن موعدکم الجنه- و کان بلال یقلب على الرمضاء- و هو یقول أحد أحد- و ما سمعنا لأبی بکر فی شیء من ذلک ذکرا- و لقد کان لعلی ع عنده ید غراء- إن صح ما رویتموه فی تعذیبه- لأنه قتل نوفل بن خویلد و عمیر بن عثمان یوم بدر- ضرب نوفلا فقطع ساقه- فقال أذکرک الله و الرحم- فقال قد قطع الله کل رحم و صهر- إلا من کان تابعا لمحمد- ثم ضربه أخرى ففاضت نفسه- و صمد لعمیر بن عثمان التمیمی فوجده یروم الهرب- و قد ارتج علیه المسلک- فضربه على شراسیف صدره- فصار نصفه الأعلى بین رجلیه- و لیس أن أبا بکر لم یطلب بثأره منهما و یجتهد- لکنه لم یقدر على أن یفعل فعل علی ع- فبان علی ع بفعله دونه قال الجاحظ و لأبی بکر مراتب لا یشرکه فیها علی و لا غیره-
و ذلک قبل الهجره-فقد علم الناس أن علیا ع إنما ظهر فضله و انتشر صیته- و امتحن و لقی المشاق منذ یوم بدر- و أنه إنما قاتل فی الزمان الذی- استوفى فیه أهل الإسلام و أهل الشرک- و طمعوا فی أن یکون الحرب بینهم سجالا- و أعلمهم الله تعالى أن العاقبه للمتقین- و أبو بکر کان قبل الهجره معذبا و مطرودا مشردا- فی الزمان الذی لیس بالإسلام و أهله نهوض و لا حرکه- و لذلک قال أبو بکر فی خلافته- طوبى لمن مات فی فأفأه الإسلام- یقول فی ضعفه- .
قال أبو جعفر رحمه الله- لا أشک أن الباطل خان أبا عثمان و الخطأ أقعده- و الخذلان أصاره إلى الحیره- فما علم و عرف حتى قال ما قال- فزعم أن علیا ع قبل الهجره لم یمتحن و لم یکابد المشاق- و أنه إنما قاسى مشاق التکلیف- و محن الابتلاء منذ یوم بدر- و نسی الحصار فی الشعب و ما منی به منه- و أبو بکر وادع رافه- یأکل ما یرید و یجلس مع من یحب- مخلى سربه طیبه نفسه ساکنا قلبه- و علی یقاسی الغمرات و یکابد الأهوال- و یجوع و یظمأ- و یتوقع القتل صباحا و مساء- لأنه کان هو المتوصل المحتال- فی إحضار قوت زهید من شیوخ قریش و عقلائها سرا- لیقیم به رمق رسول الله ص و بنی هاشم و هم فی الحصار-
و لا یأمن فی کل وقت- مفاجأه أعداء رسول الله ص له بالقتل- کأبی جهل بن هشام و عقبه بن أبی معیط- و الولید بن المغیره و عتبه بن ربیعه- و غیرهم من فراعنه قریش و جبابرتها- و لقد کان یجیع نفسه و یطعم رسول الله ص زاده- و یظمئ نفسه و یسقیه ماءه- و هو کان المعلل له إذا مرض- و المؤنس له إذا استوحش- و أبو بکر بنجوه عن ذلک لا یمسه مما یمسهم ألم- و لم یلحقه مما یلحقهم مشقه- و لا یعلم بشیء من أخبارهم و أحوالهم- إلا على سبیل الإجمال دون التفصیل- ثلاث سنین محرمه معاملتهم و مناکحتهم و مجالستهم- محبوسین محصورین ممنوعین من الخروج-و التصرف فی أنفسهم- فکیف أهمل الجاحظ هذه الفضیله- و نسی هذه الخصیصه و لا نظیر لها- و لکن لا یبالی الجاحظ بعد أن یسوغ له لفظه- و تنسق له خطابته ما ضیع من المعنى- و رجع علیه من الخطأ- .
فأما قوله و اعلموا أن العاقبه للمتقین- ففیه إشاره إلى معنى غامض قصده الجاحظ- یعنی أن لا فضیله لعلی ع فی الجهاد- لأن الرسول کان أعلمه أنه منصور و أن العاقبه له- و هذا من دسائس الجاحظ و همزاته و لمزاته- و لیس بحق ما قاله- لأن رسول الله ص أعلم أصحابه جمله أن العاقبه لهم- و لم یعلم واحدا منهم بعینه أنه لا یقتل لا علیا و لا غیره- و إن صح أنه کان أعلمه أنه لا یقتل- فلم یعلمه أنه لا یقطع عضو من أعضائه- و لم یعلمه أنه لا یمسه ألم جراح فی جسده- و لم یعلمه أنه لا یناله الضرب الشدید- .
و على أن رسول الله ص قد أعلم أصحابه قبل یوم بدر- و هو یومئذ بمکه أن العاقبه لهم- کما أعلم أصحابه بعد الهجره ذلک- فإن لم یکن لعلی و المجاهدین- فضیله فی الجهاد بعد الهجره لإعلامه إیاهم ذلک- فلا فضیله لأبی بکر و غیره فی احتمال المشاق قبل الهجره- لإعلامه إیاهم بذلک- فقد جاء فی الخبر أنه وعد أبا بکر قبل الهجره بالنصر- و أنه قال له أرسلت إلى هؤلاء بالذبح- و إن الله تعالى سیغنمنا أموالهم و یملکنا دیارهم- فالقول فی الموضعین متساو و متفق- .
قال الجاحظ- و إن بین المحنه فی الدهر الذی صار فیه أصحاب النبی ص- مقرنین لأهل مکه و مشرکی قریش- و معهم أهل یثرب أصحاب النخیل و الآطام- و الشجاعه و الصبر و المواساه- و الإیثار و المحاماه و العدد الدثر و الفعل الجزل- و بین الدهر الذی کانوا فیه بمکه یفتنون و یشتمون- و یضربون و یشردون و یجوعون و یعطشون-مقهورین لا حراک بهم- و أذلاء لا عز لهم و فقراء لا مال عندهم- و مستخفین لا یمکنهم إظهار دعوتهم لفرقا واضحا- و لقد کانوا فی حال أحوجت لوطا و هو نبی إلى أن قال- لَوْ أَنَّ لِی بِکُمْ قُوَّهً أَوْ آوِی إِلى رُکْنٍ شَدِیدٍ- وقال النبی ص عجبت من أخی لوط کیف قال- أَوْ آوِی إِلى رُکْنٍ شَدِیدٍ- و هو یأوی إلى الله تعالى- ثم لم یکن ذلک یوما و لا یومین و لا شهرا و لا شهرین- و لا عاما و لا عامین و لکن السنین بعد السنین- و کان أغلظ القوم و أشدهم محنه بعد رسول الله ص أبو بکر- لأنه أقام بمکه ما أقام رسول الله ص ثلاث عشره سنه- و هو أوسط ما قالوا فی مقام النبی ص- .
قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- ما نرى الجاحظ احتج لکون أبی بکر أغلظهم و أشدهم محنه- إلا بقوله لأنه أقام بمکه مده مقام الرسول ص بها- و هذه الحجه لا تخص أبا بکر وحده- لأن علیا ع أقام معه هذه المده- و کذلک طلحه و زید و عبد الرحمن و بلال و خباب و غیرهم- و قد کان الواجب علیه أن یخص أبا بکر وحده بحجه- تدل على أنه کان أغلظ الجماعه- و أشدهم محنه بعد رسول الله ص فالاحتجاج فی نفسه فاسد- .
ثم یقال له ما بالک- أهملت أمر مبیت علی ع على الفراش بمکه لیله الهجره- هل نسیته أم تناسیته- فإنها المحنه العظیمه- و الفضیله الشریفه التی متى امتحنها الناظر- و أجال فکره فیها- رأى تحتها فضائل متفرقه و مناقب متغایره- و ذلک أنه لما استقر الخبر عند المشرکین- أن رسول الله ص مجمع على الخروج من بینهم- للهجرهإلى غیرهم قصدوا إلى معاجلته- و تعاقدوا على أن یبیتوه فی فراشه- و أن یضربوه بأسیاف کثیره- بید کل صاحب قبیله من قریش سیف منها- لیضیع دمه بین الشعوب و یتفرق بین القبائل- و لا یطلب بنو هاشم بدمه- قبیله واحده بعینها من بطون قریش- و تحالفوا على تلک اللیله و اجتمعوا علیها- فلما علم رسول ص ذلک من أمرهم- دعا أوثق الناس عنده و أمثلهم فی نفسه- و أبذلهم فی ذات الإله لمهجته- و أسرعهم إجابه إلى طاعته-
فقال له إن قریشا قد تحالفت على أن تبیتنی هذه اللیله- فامض إلى فراشی و نم فی مضجعی- و التف فی بردی الحضرمی لیروا أنی لم أخرج- و إنی خارج إن شاء الله- فمنعه أولا من التحرز و إعمال الحیله- و صده عن الاستظهار لنفسه- بنوع من أنواع المکاید- و الجهات التی یحتاط بها الناس لنفوسهم- و ألجأه إلى أن یعرض نفسه- لظبات السیوف الشحیذه- من أیدی أرباب الحنق و الغیظه- فأجاب إلى ذلک سامعا مطیعا طیبه بها نفسه- و نام على فراشه صابرا محتسبا- واقیا له بمهجته ینتظر القتل- و لا نعلم فوق بذل النفس درجه یلتمسها صابر- و لا یبلغها طالب- و الجود بالنفس أقصى غایه الجود- و لو لا أن رسول الله ص علم أنه أهل لذلک لما أهله- و لو کان عنده نقص فی صبره- أو فی شجاعته أو فی مناصحته لابن عمه- و اختیر لذلک لکان من اختاره ص منقوضا فی رأیه- مضرا فی اختیاره- و لا یجوز أن یقول هذا أحد من أهل الإسلام- و کلهم مجمعون على أن الرسول ص عمل الصواب- و أحسن فی الاختیار- .
ثم فی ذلک إذا تأمله المتأمل وجوه من الفضل- منها أنه و إن کان عنده فی موضع الثقه- فإنه غیر مأمون علیه ألا یضبط السر- فیفسد التدبیر- بإفشائه تلک اللیله إلى من یلقیه إلى الأعداء- . و منها أنه و إن کان ضابطا للسر و ثقه عند من اختاره- فغیر مأمون علیه الجبن عندمفاجأه المکروه- و مباشره الأهوال فیفر من الفراش- فیفطن لموضع الحیله- و یطلب رسول الله ص فیظفر به- .
و منها أنه و إن کان ضابطا للسر شجاعا نجدا- فلعله غیر محتمل للمبیت على الفراش- لأن هذا أمر خارج عنالشجاعه- إن کان قد قامه مقام المکتوف الممنوع- بل هو أشد مشقه من المکتوف الممنوع- لأن المکتوف الممنوع یعلم من نفسه- أنه لا سبیل له إلى الهرب- و هذا یجد السبیل إلى الهرب و إلى الدفع عن نفسه- و لا یهرب و لا یدافع- .
و منها أنه و إن کان ثقه عنده ضابطا للسر- شجاعا محتملا للمبیت على الفراش- فإنه غیر مأمون أن یذهب صبره عند العقوبه الواقعه- و العذاب النازل بساحته حتى یبوح بما عنده- و یصیر إلى الإقرار بما یعلمه- و هو أنه أخذ طریق کذا فیطلب فیؤخذ- فلهذا قال علماء المسلمین- إن فضیله علی ع تلک اللیله- لا نعلم أحدا من البشر نال مثلها- إلا ما کان من إسحاق و إبراهیم عند استسلامه للذبح- و لو لا أن الأنبیاء لا یفضلهم غیرهم- لقلنا إن محنه علی أعظم- لأنه قد روی أن إسحاق تلکأ لما أمره أن یضطجع- و بکى على نفسه- و قد کان أبوه یعلم أن عنده فی ذلک وقفه- و لذلک قال له فَانْظُرْ ما ذا تَرى- و حال علی ع بخلاف ذلک- لأنه ما تلکأ و لا تتعتع- و لا تغیر لونه و لا اضطربت أعضاؤه- و لقد کان أصحاب النبی ص- یشیرون علیه بالرأی المخالف لما کان أمر به- و تقدم فیه فیترکه و یعمل بما أشاروا به- کما جرى یوم الخندق- فی مصانعه الأحزاب بثلث تمر المدینه- فإنهم أشاروا علیه بترک ذلک فترکه- و هذه کانت قاعدته معهم و عادته بینهم- و قد کان لعلی ع أن یعتل بعله و أن یقف-
و یقول یا رسول الله- أکون معک أحمیک من العدو- و أذب بسیفی عنک- فلستمستغنیا فی خروجک عن مثلی- و نجعل عبدا من عبیدنا فی فراشک قائما مقامک- یتوهم القوم برؤیته نائما فی بردک أنک لم تخرج- و لم تفارق مرکزک فلم یقل ذلک- و لا تحبس و لا توقف و لا تلعثم- و ذلک لعلم کل واحد منهما ص- أن أحدا لا یصبر على ثقل هذه المحنه- و لا یتورط هذه الهلکه- إلا من خصه الله تعالى بالصبر على مشقتها- و الفوز بفضیلتها- و له من جنس ذلک أفعال کثیره- کیوم دعا عمرو بن عبد ود المسلمین إلى المبارزه- فأحجم الناس کلهم عنه- لما علموا من بأسه و شدته ثم کرر النداء-
فقام علی ع-فقال أنا أبرز إلیه- فقال له رسول الله ص إنه عمرو قال نعم و أنا علی- فأمره بالخروج إلیه فلما خرجقال ص برز الإیمان کله إلى الشرک کلهو کیوم أحد حیث حمى رسول الله ص من أبطال قریش- و هم یقصدون قتله فقتلهم دونه- حتى قال جبرئیل ع یا محمد إن هذه هی المواساه-فقال إنه منی و أنا منهفقال جبریل و أنا منکما- و لو عددنا أیامه و مقاماته التی- شرى فیها نفسه لله تعالى لأطلنا و أسهبنا قال الجاحظ- فإن احتج محتج لعلی ع بالمبیت على الفراش- فبین الغار و الفراش فرق واضح- لأن الغار و صحبه أبی بکر للنبی ص- قد نطق به القرآن- فصار کالصلاه و الزکاه و غیرهما مما نطق به الکتاب- و أمر علی ع و نومه على الفراش و إن کان ثابتا صحیحا- إلا أنه لم یذکر فی القرآن- و إنما جاء مجیء الروایات و السیر- و هذا لا یوازن هذا و لا یکایله- .
قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله هذا فرق غیر مؤثر- لأنه قد ثبت بالتواتر حدیثالفراش- فلا فرق بینه و بین ما ذکر فی نص الکتاب- و لا یجحده إلا مجنون أو غیر مخالط لأهل المله- أ رأیت کون الصلوات خمسا- و کون زکاه الذهب ربع العشر- و کون خروج الریح ناقضا للطهاره- و أمثال ذلک مما هو معلوم بالتواتر حکمه- هل هو مخالف لما نص فی الکتاب علیه من الأحکام- هذا مما لا یقوله رشید و لا عاقل- على أن الله تعالى لم یذکر اسم أبی بکر فی الکتاب- و إنما قال إِذْ یَقُولُ لِصاحِبِهِ- و إنما علمنا أنه أبو بکر بالخبر و ما ورد فی السیره-
و قد قال أهل التفسیر إن قوله تعالى- وَ یَمْکُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَیْرُ الْماکِرِینَ- کنایه عن علی ع لأنه مکر بهم- و أول الآیه وَ إِذْ یَمْکُرُ بِکَ الَّذِینَ کَفَرُوا- لِیُثْبِتُوکَ أَوْ یَقْتُلُوکَ أَوْ یُخْرِجُوکَ وَ یَمْکُرُونَ- وَ یَمْکُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَیْرُ الْماکِرِینَ- أنزلت فی لیله الهجره- و مکرهم کان توزیع السیوف على بطون قریش- و مکر الله تعالى هو منام علی ع على الفراش- فلا فرق بین الموضعین فی أنهما مذکوران کنایه لا تصریحا-
و قد روى المفسرون کلهم أن قول الله تعالى- وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ یَشْرِی نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ- أنزلت فی علی ع لیله المبیت على الفراش- فهذه مثل قوله تعالى إِذْ یَقُولُ لِصاحِبِهِ لا فرق بینهما- . قال الجاحظ و فرق آخر- و هو أنه لو کان مبیت علی ع على الفراش- جاء مجیء کون أبی بکر فی الغار- لم یکن له فی ذلک کبیر طاعه- لأن الناقلیننقلوا أنه ص قال له نم فلن یخلص إلیک شیء تکرهه- و لم ینقل ناقل أنهقال لأبی بکر فی صحبته إیاه- و کونه معه فی الغار مثل ذلک- و لا قال له أنفق و أعتق- فإنک لن تفتقر و لن یصل إلیک مکروه- .
قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- هذا هو الکذب الصراح- و التحریف و الإدخال فی الروایه ما لیس منها- و المعروف المنقولأنه ص قال له اذهب فاضطجع فی مضجعی- و تغش ببردی الحضرمی- فإن القوم سیفقدوننی- و لا یشهدون مضجعی- فلعلهم إذا رأوک یسکنهم ذلک حتى یصبحوا- فإذا أصبحت فاغد فی أداء أمانتی- و لم ینقل ما ذکره الجاحظ- و إنما ولده أبو بکر الأصم- و أخذه الجاحظ و لا أصل له- و لو کان هذا صحیحا لم یصل إلیه منهم مکروه- و قد وقع الاتفاق على أنه ضرب و رمی بالحجاره- قبل أن یعلموا من هو حتى تضور- و أنهم قالوا له رأینا تضورک- فإنا کنا نرمی محمدا و لا یتضور- و لأن لفظه المکروه إن کان قالها إنما یراد بها القتل- فهب أنه أمن القتل- کیف یأمن من الضرب و الهوان- و من أن ینقطع بعض أعضائه- و بأن سلمت نفسه- أ لیس الله تعالى قال لنبیه- بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ- وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ- وَ اللَّهُ یَعْصِمُکَ مِنَ النَّاسِ- و مع ذلک فقد کسرت رباعیته و شج وجهه و أدمیت ساقه- و ذلک لأنها عصمه من القتل خاصه- و کذلک المکروه الذی أومن علی ع منه- و إن کان صح ذلک فی الحدیث إنما هو مکروه القتل- .
ثم یقال له و أبو بکر لا فضیله له أیضا فی کونه فی الغار- لأن النبی ص قال له لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا- و من یکن الله معه فهو آمن لا محاله من کل سوء- فکیف قلت- و لم ینقل ناقل أنه قال لأبی بکر فی الغار مثل ذلک- فکل ما یجیب به عن هذا فهو جوابنا عما أورده- فنقول له هذا ینقلب علیک فی النبی ص-لأن الله تعالى وعده بظهور دینه و عاقبه أمره- فیجب على قولک ألا یکون مثابا عند الله تعالى- على ما یحتمله من المکروه- و لا ما یصیبه من الأذى- إذ کان قد أیقن بالسلامه و الفتح فی عدته- .
قال الجاحظ- و من جحد کون أبی بکر صاحب رسول الله ص فقد کفر- لأنه جحد نص الکتاب- ثم انظر إلى قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَنا- من الفضیله لأبی بکر- لأنه شریک رسول الله ص فی کون الله تعالى معه- و إنزال السکینه- قال کثیر من الناس- إنه فی الآیه مخصوص بأبی بکر- لأنه کان محتاجا إلى السکینه- لما تداخله من رقه الطبع البشری- و النبی ص کان غیر محتاج إلیها- لأنه یعلم أنه محروس من الله تعالى- فلا معنى لنزول السکینه علیه- و هذه فضیله ثالثه لأبی بکر- .
قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- إن أبا عثمان یجر على نفسه- ما لا طاقه له به من مطاعن الشیعه- و لقد کان فی غنیه عن التعلق بما تعلق به- لأن الشیعه تزعم أن هذه الآیه- بأن تکون طعنا و عیبا على أبی بکر- أولى من أن تکون فضیله و منقبه له- لأنه لما قال له لا تَحْزَنْ- دل على أنه قد کان حزن و قنط و أشفق على نفسه- و لیس هذا من صفات المؤمنین الصابرین- و لا یجوز أن یکون حزنه طاعه- لأن الله تعالى لا ینهى عن الطاعه- فلو لم یکن ذنبا لم ینه عنه- و قوله إِنَّ اللَّهَ مَعَنا- أی إن الله عالم بحالنا- و ما نضمره من الیقین أو الشک- کما یقول الرجل لصاحبه- لا تضمرن سوءا و لا تنوین قبیحا- فإن الله تعالى یعلم ما نسره و ما نعلنه- و هذا مثل قوله تعالى- وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِکَ وَ لا أَکْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَیْنَ ما کانُوا- أی هو عالم بهم و أما السکینهفکیف یقول- إنها لیست راجعه إلى النبی ص و بعدها قوله- وَ أَیَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها- أ ترى المؤید بالجنود کان أبا بکر أم رسول الله ص- .
و قوله إنه مستغن عنها لیس بصحیح- و لا یستغنی أحد عن ألطاف الله و توفیقه- و تأییده و تثبیت قلبه- و قد قال الله تعالى فی قصه حنین- وَ ضاقَتْ عَلَیْکُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّیْتُمْ مُدْبِرِینَ- ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَکِینَتَهُ عَلى رَسُولِهِ ص- . و أما الصحبه فلا تدل إلا على المرافقه و الاصطحاب لا غیر- و قد یکون حیث لا إیمان- کما قال تعالى قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ یُحاوِرُهُ- أَ کَفَرْتَ بِالَّذِی خَلَقَکَ- و نحن و إن کنا نعتقد إخلاص أبی بکر- و إیمانه الصحیح السلیم و فضیلته التامه- إلا أنا لا نحتج له- بمثل ما احتج به الجاحظ من الحجج الواهیه- و لا نتعلق بما یجر علینا دواهی الشیعه و مطاعنها- .
قال الجاحظ و إن کان المبیت على الفراش فضیله- فأین هی من فضائل أبی بکر أیام مکه- من عتق المعذبین و إنفاق المال و کثره المستجیبین- مع فرق ما بین الطاعتین- لأن طاعه الشاب الغریر- و الحدث الصغیر الذی فی عز صاحبه عزه- لیست کطاعه الحلیم الکبیر- الذی لا یرجع تسوید صاحبه إلى رهطه و عشیرته- .
قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله أما کثره المستجیبین- فالفضل فیها راجع إلى المجیبلا إلى المجاب- على أنا قد علمنا أن من استجاب لموسى ع- أکثر ممن استجاب لنوح ع- و ثواب نوح أکثر لصبره على الأعداء- و مقاساه خلافهم و عنتهم- و أما إنفاق المال- فأین محنه الغنی من محنه الفقیر- و أین یعتدل إسلام من أسلم و هو غنی- إن جاع أکل و إن أعیا رکب و إن عری لبس- قد وثق بیساره و استغنى بماله- و استعان على نوائب الدنیا بثروته- ممن لا یجد قوت یومه- و إن وجد لم یستأثر به فکان الفقر شعاره- و فی ذلک قیل الفقر شعار المؤمن- وقال الله تعالى لموسى یا موسى إذا رأیت الفقر مقبلا- فقل مرحبا بشعار الصالحینوفی الحدیث أن الفقراء یدخلون الجنه قبل الأغنیاء بخمسمائه عام
وکان النبی ص یقول اللهم احشرنی فی زمره الفقراء- و لذلک أرسل الله محمدا ص فقیرا- و کان بالفقر سعیدا- فقاسى محنه الفقر و مکابده الجوع- حتى شد الحجر على بطنه- و حسبک بالفقر فضیله فی دین الله لمن صبر علیه- فإنک لا تجد صاحب الدنیا یتمناه- لأنه مناف لحال الدنیا و أهلها- و إنما هو شعار أهل الآخره- .
و أما طاعه علی ع- و کون الجاحظ زعم أنها کانت لأن فی عز محمد عزه و عز رهطه- بخلاف طاعه أبی بکر- فهذا یفتح علیه أن یکون جهاد حمزه کذلک- و جهاد عبیده بن الحارث- و هجره جعفر إلى الحبشه- بل لعل محاماه المهاجرین من قریش- على رسول الله ص کانت لأن فی دولته دولتهم- و فی نصرته استجداد ملک لهم- و هذا یجر إلى الإلحاد- و یفتح باب الزندقه- و یفضی إلى الطعن فی الإسلام و النبوه- . قال الجاحظ و على أنا لو نزلنا إلى ما یریدونه- جعلنا الفراش کالغار- و خلصت فضائل أبی بکر فی غیر ذلک عن معارض- .
قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- قد بینا فضیله المبیت على الفراش- على فضیله الصحبهفی الغار بما هو واضح لمن أنصف- و نزید هاهنا تأکیدا بما لم نذکره فیما تقدم- فنقول إن فضیله المبیت على الفراش- على الصحبه فی الغار لوجهین- أحدهما أن علیا ع قد کان أنس بالنبی ص- و حصل له بمصاحبته قدیما أنس عظیم و إلف شدید- فلما فارقه عدم ذلک الأنس و حصل به أبو بکر- فکان ما یجده علی ع من الوحشه- و ألم الفرقه موجبا زیاده ثوابه- لأن الثواب على قدر المشقه- .
و ثانیهما أن أبا بکر کان یؤثر الخروج من مکه- و قد کان خرج من قبل فردا فازداد کراهیه للمقام- فلما خرج مع رسول الله ص وافق ذلک هوى قلبه- و محبوب نفسه- فلم یکن له من الفضیله- ما یوازی فضیله من احتمل المشقه العظیمه- و عرض نفسه لوقع السیوف و رأسه لرضخ الحجاره- لأنه على قدر سهوله العباده یکون نقصان الثواب قال الجاحظ ثم الذی لقی أبو بکر فی مسجده- الذی بناه على بابه فی بنی جمح- فقد کان بنى مسجدا یصلی فیه- و یدعو الناس إلى الإسلام- و کان له صوت رقیق و وجه عتیق- و کان إذا قرأ بکى- فیقف علیه الماره- من الرجال و النساء و الصبیان و العبید- فلما أوذی فی الله و منع من ذلک المسجد- استأذن رسول الله ص فی الهجره فأذن له- فأقبل یرید المدینه فتلقاه الکنانی- فعقد له جوارا و قال و الله لا أدع مثلک یخرج من مکه- فرجع إلیها و عاد لصنیعه فی المسجد- فمشت قریش إلى جاره الکنانی و أجلبوا علیه- فقال له دع المسجد و ادخل بیتک- و اصنع فیه ما بدا لک- .
قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- کیف کانت بنو جمح تؤذی عثمان بن مظعون و تضربه- و هو فیهم ذو سطوه و قدر- و تترک أبا بکر یبنی مسجدا یفعل فیه ما ذکرتم- و أنتم الذین رویتم عن ابن مسعود أنه قال- ما صلینا ظاهرین حتى أسلم عمر بن الخطاب- و الذی تذکرونه من بناء المسجد- کان قبل إسلام عمر فکیف هذا- . و أما ما ذکرتم من رقه صوته و عتاق وجهه- فکیف یکون ذلک و قد روى الواقدی و غیره- أن عائشه رأت رجلا من العرب خفیف العارضین- معروق الخدین غائر العینین أجنأ لا یمسک إزاره- فقالت ما رأیت أشبه بأبی بکر من هذا- فلا نراها دلت على شیء من الجمال فی صفته- . قال الجاحظ و حیث رد أبو بکر جوار الکنانی- و قال لا أرید جارا سوى الله- لقی من الأذى و الذل و الاستخفاف و الضرب ما بلغکم- و هذا موجود فی جمیع السیر- و کان آخر ما لقی هو و أهله فی أمر الغار- و قد طلبته قریش و جعلت فیه مائه بعیر- کما جعلت فی النبی ص- فلقی أبو جهل أسماء بنت بکر فسألها فکتمته- فلطمها حتى رمت قرطا کان فی أذنها- .
قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- هذا الکلام و هجر السکران سواء- فی تقارب المخرج و اضطراب المعنى- و ذلک أن قریشا لم تقدر على أذى النبی ص- و أبو طالب حی یمنعه- فلما مات طلبته لتقتله- فخرج تاره إلى بنی عامر و تاره إلى ثقیف- و تاره إلى بنی شیبان- و لم یکن یتجاسر على المقام بمکه إلا مستترا- حتى أجاره مطعم بن عدی ثم خرج إلى المدینه- فبذلت فیه مائه بعیر لشده حنقها علیه حین فاتها- فلم تقدر علیه- فما بالها بذلت فی أبی بکر مائه بعیر أخرى- و قد کان رد الجوار و بقی بینهم فردا لا ناصر له-و لا دافع عنده یصنعون به ما یریدون- إما أن یکونوا أجهل البریه کلها- أو یکون العثمانیه أکذب جیل فی الأرض و أوقحه وجها- فهذا مما لم یذکر فی سیره و لا روی فی أثر- و لا سمع به بشر و لا سبق الجاحظ به أحد- .
قال الجاحظ- ثم الذی کان من دعائه إلى الإسلام و حسن احتجاجه- حتى أسلم على یدیه طلحه و الزبیر- و سعد و عثمان و عبد الرحمن- لأنه ساعه أسلم دعا إلى الله و إلى رسوله- . قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله ما أعجب هذا القول- إذ تدعی العثمانیه لأبی بکر الرفق فی الدعاء و حسن الاحتجاج- و قد أسلم و معه فی منزله ابنه عبد الرحمن- فما قدر أن یدخله فی الإسلام طوعا- برفقه و لطف احتجاجه- و لا کرها بقطع النفقه عنه و إدخال المکروه علیه- و لا کان لأبی بکر عند ابنه عبد الرحمن- من القدر ما یطیعه فیما یأمره به و یدعوه إلیه- کما روی أن أبا طالب فقد النبی ص یوما- و کان یخاف علیه من قریش أن یغتالوه- فخرج و معه ابنه جعفر یطلبان النبی ص- فوجده قائما فی بعض شعاب مکه یصلی- و علی ع معه عن یمینه- فلما رآهما أبو طالب قال لجعفر- تقدم و صل جناح ابن عمک- فقام جعفر عن یسار محمد ص- فلما صاروا ثلاثه تقدم رسول الله ص و تأخر الأخوان- فبکى أبو طالب و قال-
إن علیا و جعفرا ثقتی
عند ملم الخطوب و النوب
لا تخذلا و انصرا ابن عمکما
أخی لأمی من بینهم و أبی
و الله لا أخذل النبی و لا
یخذله من بنی ذو حسب
فتذکر الرواه أن جعفرا أسلم منذ ذلک الیوم- لأن أباه أمره بذلک و أطاع أمره- و أبو بکر لم یقدر على إدخال ابنه عبد الرحمن فی الإسلام- حتى أقام بمکه على کفره ثلاث عشره سنه- و خرج یوم أحد فی عسکر المشرکین ینادی- أنا عبد الرحمن بن عتیق هل من مبارز- ثم مکث بعد ذلک على کفره حتى أسلم عام الفتح- و هو الیوم الذی دخلت فیه قریش فی الإسلام طوعا و کرها- و لم یجد أحد منها إلى ترک ذلک سبیلا- و أین کان رفق أبی بکر و حسن احتجاجه- عند أبیه أبی قحافه و هما فی دار واحده- هلا رفق به و دعاه إلى الإسلام فأسلم-
و قد علمتم أنه بقی على الکفر إلى یوم الفتح- فأحضره ابنه عند النبی ص و هو شیخ کبیر رأسه کالثغامه- فنفر رسول الله ص منه و قال غیروا هذا- فخضبوه ثم جاءوا به مره أخرى فأسلم- و کان أبو قحافه فقیرا مدقعا سیئ الحال- و أبو بکر عندهم کان مثریا فائض المال- فلم یمکنه استمالته إلى الإسلام بالنفقه و الإحسان- و قد کانت امرأه أبی بکر أم عبد الله ابنه- و اسمها نمله بنت عبد العزى بن أسعد بن عبد بن ود العامریه لم تسلم- و أقامت على شرکها بمکه و هاجر أبو بکر و هی کافره- فلما نزل قوله تعالى وَ لا تُمْسِکُوا بِعِصَمِ الْکَوافِرِ- فطلقها أبو بکر- فمن عجز عن ابنه و أبیه و امرأته- فهو عن غیرهم من الغرماء أعجز- و من لم یقبل منه أبوه و ابنه و امرأته- لا برفق و احتجاج و لا خوفا من قطع النفقه عنهم- و إدخال المکروه علیهم فغیرهم أقل قبولا منه- و أکثر خلافا علیه- .
قال الجاحظ و قالت أسماء بنت أبی بکر- ما عرفت أبی إلا و هو یدین بالدین- و لقد رجع إلینا یوم أسلم فدعانا إلى الإسلام- فما رمنا حتى أسلمنا و أسلم أکثر جلسائه- و لذلک قالوا- من أسلم بدعاء أبی بکر أکثر ممن أسلم بالسیف- و لم یذهبوا فی ذلک إلى العدد بل عنوا الکثره فی القدر- لأنه أسلم على یدیه خمسه من أهل الشورى-کلهم یصلح للخلافه و هم أکفاء علی ع- و منازعوه الرئاسه و الإمامه- فهؤلاء أکثر من جمیع الناس- .
قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- أخبرونا من هذا الذی أسلم ذلک الیوم- من أهل بیت أبی بکر إذا کانت امرأته لم تسلم- و ابنه عبد الرحمن لم یسلم و أبو قحافه لم یسلم- و أخته أم فروه لم تسلم- و عائشه لم تکن قد ولدت فی ذلک الوقت- لأنها ولدت بعد مبعث النبی ص بخمس سنین- و محمد بن أبی بکر ولد بعد مبعث رسول الله ص- بثلاث و عشرین سنه- لأنه ولد فی حجه الوداع- و أسماء بنت أبی بکر التی قد روى الجاحظ هذا الخبر عنها- کانت یوم بعث رسول الله ص بنت أربع سنین-
و فی روایه من یقول بنت سنتین- فمن الذی أسلم من أهل بیته یوم أسلم- نعوذ بالله من الجهل و الکذب و المکابره- و کیف أسلم سعد و الزبیر و عبد الرحمن بدعاء أبی بکر- و لیسوا من رهطه و لا من أترابه و لا من جلسائه- و لا کانت بینهم قبل ذلک صداقه متقدمه و لا أنس وکید- و کیف ترک أبو بکر عتبه بن ربیعه و شیبه بن ربیعه- لم یدخلهما فی الإسلام برفقه و حسن دعائه- و قد زعمتم أنهما کانا یجلسان إلیه- لعلمه و طریف حدیثه- و ما باله لم یدخل جبیر بن مطعم فی الإسلام-
و قد ذکرتم أنه أدبه و خرجه- و منه أخذ جبیر العلم بأنساب قریش و مآثرها- فکیف عجز عن هؤلاء الذین عددناهم- و هم منه بالحال التی وصفنا- و دعا من لم یکن بینه و بینه أنس و لا معرفه- إلا معرفه عیان- و کیف لم یقبل منه عمر بن الخطاب و قد کان شکله- و أقرب الناس شبها به فی أغلب أخلاقه- و لئن رجعتم إلى الإنصاف- لتعلمن أن هؤلاء لم یکن إسلامهم- إلا بدعاء الرسول ص لهم و على یدیه أسلموا- و لو فکرتم فی حسن التأتی فی الدعاء- لیصحن لأبی طالب فی ذلکعلى شرکه- أضعاف ما ذکرتموه لأبی بکر- لأنکم رویتم أن أبا طالب قال لعلی ع- یا بنی الزمه فإنه لن یدعوک إلا إلى خیر-
و قال لجعفر صل جناح ابن عمک فأسلم بقوله- و لأجله أصفق بنو عبد مناف على نصره رسول الله ص بمکه- من بنی مخزوم و بنی سهم و بنی جمح- و لأجله صبر بنو هاشم على الحصار فی الشعب- و بدعائه و إقباله على محمد ص- أسلمت امرأته فاطمه بنت أسد- فهو أحسن رفقا و أیمن نقیبه من أبی بکر و غیره- و إنما منعه عن الإسلام أن ثبت أنه لم یسلم إلا تقیه- و أبو بکر لم یکن له إلا ابن واحد و هو عبد الرحمن- فلم یمکنه أن یدخله فی الإسلام- و لا أمکنه إذ لم یقبل منه الإسلام- أن یجعله کبعض مشرکی قریش فی قله الأذى لرسول الله ص- و فیه أنزل وَ الَّذِی قالَ لِوالِدَیْهِ أُفٍّ لَکُما- أَ تَعِدانِنِی أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِی- وَ هُما یَسْتَغِیثانِ اللَّهَ وَیْلَکَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ- فَیَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِیرُ الْأَوَّلِینَ-
و إنما یعرف حسن رفق الرجل و تأتیه- بأن یصلح أولا أمر بیته و أهله- ثم یدعو الأقرب فالأقرب- فإن رسول الله ص لما بعث کان أول من دعا زوجته خدیجه- ثم مکفوله و ابن عمه علیا ع- ثم مولاه زیدا ثم أم أیمن خادمته- فهل رأیتم أحدا ممن کان یأوی إلى رسول الله ص لم یسارع- و هل التاث علیه أحد من هؤلاء- فهکذا یکون حسن التأتی و الرفق فی الدعاء- هذا و رسول الله مقل- و هو من جمله عیال خدیجه حین بعثه الله تعالى- و أبو بکر عندکم کان موسرا و کان أبوه مقترا- و کذلک ابنه و امرأته أم عبد الله- و الموسر فی فطره العقول أولى أن یتبع من المقتر- و إنما حسن التأتی و الرفق فی الدعاء- ما صنعه مصعب بن عمیر لسعد بن معاذ لما دعاه- و ما صنع سعد بن معاذ ببنی عبد الأشهل لما دعاهم- و ما صنع بریده بن الحصیب بأسلم لما دعاهم- قالوا أسلم بدعائه ثمانون بیتا من قومه-
و أسلم بنو عبد الأشهل بدعاء سعد فی یوم واحد- و أما من لم یسلم ابنه و لا امرأته- و لا أبوه و لا أخته بدعائه- فهیهات أن یوصف و یذکر بالرفق فی الدعاء- و حسن التأتی و الأناه- قال الجاحظ ثم أعتق أبو بکر بعد ذلک- جماعه من المعذبین فی الله- و هم ست رقاب منهم بلال و عامر بن فهیره- و زنیره النهدیه و ابنتها- و مر بجاریه یعذبها عمر بن الخطاب فابتاعها منه و أعتقها- و أعتق أبا عیسى فأنزل الله فیه فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اتَّقى- وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُیَسِّرُهُ لِلْیُسْرى إلى آخر السوره- . قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- أما بلال و عامر بن فهیره فإنما أعتقهما رسول الله ص-
روى ذلک الواقدی و ابن إسحاق و غیرهما- و أما باقی موالیهم الأربعه- فإن سامحناکم فی دعواکم- لم یبلغ ثمنهم فی تلک الحال لشده بغض موالیهم لهم- إلا مائه درهم أو نحوها فأی فخر فی هذا- و أما الآیه فإن ابن عباس قال فی تفسیرها- فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اتَّقى وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى- فَسَنُیَسِّرُهُ لِلْیُسْرى أی لأن یعود- . و قال غیره نزلت فی مصعب بن عمیر قال الجاحظ و قد علمتم ما صنع أبو بکر فی ماله- و کان ماله أربعین ألف درهم- فأنفقه فی نوائب الإسلام و حقوقه- و لم یکن خفیف الظهر قلیل العیال و النسل- فیکون فاقد جمیع الیسارین- بل کان ذا بنین و بنات و زوجه و خدم و حشم- و یعول والدیه و ما ولدا- و لم یکن النبی ص قبل ذلک عنده مشهورا- فیخاف العار فی ترک مواساته- فکان إنفاقه على الوجه الذی لا نجد فی غایه الفضل مثله- و لقدقال النبی ص ما نفعنی مال کما نفعنی مال أبی بکر- .
قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- أخبرونا على أی نوائب الإسلام أنفق هذا المال- و فی أی وجه وضعه- فإنه لیس بجائز أن یخفى ذلک و یدرس- حتى یفوت حفظه و ینسى ذکره- و أنتم فلم تقفوا على شیء- أکثر من عتقه بزعمکم ست رقاب- لعلها لا یبلغ ثمنها فی ذلک العصر مائه درهم- و کیف یدعی له الإنفاق الجلیل- و قد باع من رسول الله ص بعیرین عند خروجه إلى یثرب- و أخذ منه الثمن فی مثل تلک الحال- و روى ذلک جمیع المحدثین- و قد رویتم أیضا أنه کان حیث کان بالمدینه غنیا موسرا- و رویتم عن عائشه أنها قالت- هاجر أبو بکر و عنده عشره آلاف درهم- و قلتم إن الله تعالى أنزل فیه- وَ لا یَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْکُمْ وَ السَّعَهِ أَنْ یُؤْتُوا أُولِی الْقُرْبى- قلتم هی فی أبی بکر و مسطح بن أثاثه- فأین الفقر الذی زعمتم أنه أنفق حتى تخلل بالعباءه-
و رویتم أن لله تعالى فی سمائه ملائکه قد تخللوا بالعباءه- و أن النبی ص رآهم لیله الإسراء- فسأل جبرائیل عنهم فقال- هؤلاء ملائکه تأسوا بأبی بکر بن أبی قحافه- صدیقک فی الأرض- فإنه سینفق علیک ماله حتى یخلل عباءه فی عنقه- و أنتم أیضا رویتم أن الله تعالى لما أنزل آیه النجوى- فقال یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا ناجَیْتُمُ الرَّسُولَ- فَقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیْ نَجْواکُمْ صَدَقَهً ذلِکَ خَیْرٌ لَکُمْ الآیه- لم یعمل بها إلا علی بن أبی طالب وحده- مع إقرارکم بفقره و قله ذات یده- و أبو بکر فی الحال التی ذکرنا من السعه أمسک عن مناجاته- فعاتب الله المؤمنین فی ذلک فقال- أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیْ نَجْواکُمْ صَدَقاتٍ- فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَیْکُمْ- فجعله سبحانه ذنبا یتوب علیهم منه- و هو إمساکهم عن تقدیم الصدقه- فکیف سخت نفسه بإنفاق أربعین ألفا- و أمسک عن مناجاه الرسول- و إنما کان یحتاج فیها إلى إخراج درهمین- .
و أما ما ذکر من کثره عیاله و نفقته علیهم- فلیس فی ذلک دلیل على تفضیله- لأننفقته على عیاله واجبه- مع أن أرباب السیره ذکروا- أنه لم یکن ینفق على أبیه شیئا- و أنه کان أجیرا لابن جدعان- على مائدته یطرد عنها الذبان- . قال الجاحظ و قد تعلمون ما کان یلقى أصحاب النبی ص- ببطن مکه من المشرکین- و حسن صنیع کثیر منهم- کصنیع حمزه حین ضرب أبا جهل بقوسه ففلق هامته- و أبو جهل یومئذ سید البطحاء و رئیس الکفر- و أمنع أهل مکه- و قد عرفتم أن الزبیر سل سیفه و استقبل به المشرکین- لما أرجف أن محمدا ص قد قتل- و أن عمر بن الخطاب قال حین أسلم- لا یعبد الله سرا بعد الیوم- و أن سعدا ضرب بعض المشرکین بلحی جمل فأراق دمه- فکل هذه الفضائل- لم یکن لعلی بن أبی طالب فیها ناقه و لا جمل- و قد قال الله تعالى- لا یَسْتَوِی مِنْکُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ- أُولئِکَ أَعْظَمُ دَرَجَهً- مِنَ الَّذِینَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا- فإذا کان الله تعالى قد فضل من أنفق قبل الفتح- لأنه لا هجره بعد الفتح على من أنفق بعد الفتح- فما ظنکم بمن أنفق من قبل الهجره- و من لدن مبعث النبی ص إلى الهجره و إلى بعد الهجره- .
قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- إننا لا ننکر فضل الصحابه و سوابقهم- و لسنا کالإمامیه- الذین یحملهم الهوى على جحد الأمور المعلومه- و لکننا ننکر تفضیل أحد من الصحابه- على علی بن أبی طالب- و لسنا ننکر غیر ذلک- و ننکر تعصب الجاحظ للعثمانیه- و قصده إلى فضائل هذا الرجل و مناقبه بالرد و الإبطال- و أما حمزه فهو عندنا ذو فضل عظیم و مقام جلیل- و هو سید الشهداء الذین استشهدوا على عهد رسول اللهص- و أما فضل عمر فغیر منکر- و کذلک الزبیر و سعد- و لیس فیما ذکر ما یقتضی کون علی ع مفضولا لهم أو لغیرهم- إلا قوله و کل هذه الفضائل- لم یکن لعلی ع فیها ناقه و لا جمل- فإن هذا من التعصب البارد و الحیف الفاحش- و قد قدمنا من آثار علی ع قبل الهجره- و ما له إذ ذاک من المناقب و الخصائص- ما هو أفضل و أعظم و أشرف من جمیع ما ذکر لهؤلاء- على أن أرباب السیره یقولون- إن الشجه التی شجها سعد- و إن السیف الذی سله الزبیر- هو الذی جلب الحصار فی الشعب على النبی ص و بنی هاشم- و هو الذی سیر جعفرا و أصحابه إلى الحبشه- و سل السیف- فی الوقت الذی لم یؤمر المسلمون فیه بسل السیف- غیر جائز- قال تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِینَ قِیلَ لَهُمْ- کُفُّوا أَیْدِیَکُمْ وَ أَقِیمُوا الصَّلاهَ وَ آتُوا الزَّکاهَ- فَلَمَّا کُتِبَ عَلَیْهِمُ الْقِتالُ- إِذا فَرِیقٌ مِنْهُمْ یَخْشَوْنَ النَّاسَ کَخَشْیَهِ اللَّهِ- فتبین أن التکلیف له أوقات- فمنها وقت لا یصلح فیه سل السیف- و منها وقت یصلح فیه و یجب- فأما قوله تعالى لا یَسْتَوِی مِنْکُمْ مَنْ أَنْفَقَ- فقد ذکرنا ما عندنا من دعواهم لأبی بکر إنفاق المال-
و أیضا فإن الله تعالى لم یذکر إنفاق المال مفردا- و إنما قرن به القتال- و لم یکن أبو بکر صاحب قتال و حرب فلا تشمله الآیه- و کان علی ع صاحب قتال و إنفاق قبل الفتح- أما قتاله فمعلوم بالضروره- و أما إنفاقه فقد کان على حسب حاله و فقره- و هو الذی أطعم الطعام على حبه مسکینا و یتیما و أسیرا- و أنزلت فیه و فی زوجته و ابنیه سوره کامله من القرآن- و هو الذی ملک أربعه دراهم- فأخرج منها درهما سرا و درهما علانیه لیلا- ثم أخرج منها فی النهار درهما سرا و درهما علانیه- فأنزل فیه قوله تعالى- الَّذِینَ یُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّیْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِیَهً- و هو الذی قدم بین یدی نجواه صدقه-دون المسلمین کافه- و هو الذی تصدق بخاتمه و هو راکع فأنزل الله فیه- إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا- الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاهَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاهَ وَ هُمْ راکِعُونَ- .
قال الجاحظ- و الحجه العظمى للقائلین بتفضیل علی ع- قتله الأقران و خوضه الحرب- و لیس له فی ذلک کبیر فضیله- لأن کثره القتل و المشی بالسیف إلى الأقران- لو کان من أشد المحن و أعظم الفضائل- و کان دلیلا على الرئاسه و التقدم- لوجب أن یکون للزبیر و أبی دجانه- و محمد بن مسلمه و ابن عفراء و البراء بن مالک- من الفضل ما لیس لرسول الله ص- لأنه لم یقتل بیده إلا رجلا واحدا- و لم یحضر الحرب یوم بدر و لا خالط الصفوف- و إنما کان معتزلا عنهم فی العریش و معه أبو بکر- و أنت ترى الرجل الشجاع قد یقتل الأقران- و یجندل الأبطال- و فوقه من العسکر من لا یقتل و لا یبارز- و هو الرئیس أو ذوی الرأی و المستشیر فی الحرب- لأن للرؤساء من الاکتراث و الاهتمام- و شغل البال و العنایه و التفقد ما لیس لغیرهم- و لأن الرئیس هو المخصوص بالمطالبه- و علیه مدار الأمور- و به یستبصر المقاتل و یستنصر- و باسمه ینهزم العدو- و لو لم یکن له إلا أن الجیش لو ثبت و فر هو- لم یغن ثبوت الجیش کله و کانت الدبره علیه- و لو ضیع القوم جمیعا و حفظ هو- لانتصر و کانت الدوله له- و لهذا لا یضاف النصر و الهزیمه إلا إلیه- ففضل أبی بکر بمقامه فی العریش مع رسول الله یوم بدر- أعظم من جهاد علی ع ذلک الیوم و قتله أبطال قریش- .
قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- لقد أعطی أبو عثمان مقولا و حرم معقولا- إن کانیقول هذا على اعتقاد و جد- و لم یذهب به مذهب اللعب و الهزل- أو على طریق التفاصح و التشادق و إظهار القوه- و السلاطه و ذلاقه اللسان- و حده الخاطر و القوه على جدال الخصوم- أ لم یعلم أبو عثمان أن رسول الله ص کان أشجع البشر- و أنه خاض الحروب- و ثبت فی المواقف التی طاشت فیها الألباب- و بلغت القلوب الحناجر- فمنها یوم أحد- و وقوفه بعد أن فر المسلمون بأجمعهم- و لم یبق معه إلا أربعه- علی و الزبیر و طلحه و أبو دجانه- فقاتل و رمى بالنبل حتى فنیت نبله- و انکسرت سیه قوسه و انقطع وتره- فأمر عکاشه بن محصن أن یوترها- فقال یا رسول الله لا یبلغ الوتر فقال أوتر ما بلغ- قال عکاشه فو الذی بعثه بالحق لقد أوترت حتى بلغ- و طویت منه شبرا على سیه القوس-
ثم أخذها فما زال یرمیهم- حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت- و بارز أبی بن خلف فقال له أصحابه إن شئت عطف علیه بعضنا فأبى- و تناول الحربه من الحارث بن الصمه ثم انتقض بأصحابه- کما ینتقض البعیر- قالوا فتطایرنا عنه تطایر الشعاریر فطعنه بالحربه- فجعل یخور کما یخور الثور- و لو لم یدل على ثباته حین انهزم أصحابه و ترکوه- إلا قوله تعالى إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ- وَ الرَّسُولُ یَدْعُوکُمْ فِی أُخْراکُمْ- فکونه ع فی أخراهم و هم یصعدون و لا یلوون هاربین- دلیل على أنه ثبت و لم یفر- و ثبت یوم حنین فی تسعه من أهله و رهطه الأدنین- و قد فر المسلمون کلهم و النفر التسعه محدقون به- العباس آخذ بحکمه بغلته- و علی بین یدیه مصلت سیفه- و الباقون حول بغله رسول الله ص یمنه و یسره- و قد انهزم المهاجرون و الأنصار- و کلما فروا أقدم هو ص یمنه و یسره- و قد انهزم المهاجرون و الأنصار- و کلما فرو أقدم هو ص و صمم مستقدما- یلقى السیوف و النبال بنحره و صدره- ثم أخذ کفا منالبطحاء و حصب المشرکین-
و قال شاهت الوجوه والخبر المشهور عن علی ع و هو أشجع البشر کنا إذا اشتد البأس- و حمی الوطیس اتقینا برسول الله ص و لذنا به- فکیف یقول الجاحظ إنه ما خاض الحرب و لا خالط الصفوف- و أی فریه أعظم من فریه من نسب رسول الله ص- إلى الإحجام و اعتزال الحرب- ثم أی مناسبه بین أبی بکر و رسول الله ص فی هذا المعنى- لیقیسه و ینسبه إلى رسول الله ص صاحب الجیش و الدعوه- و رئیس الإسلام و المله- و الملحوظ بین أصحابه و أعدائه بالسیاده- و إلیه الإیماء و الإشاره- و هو الذی أحنق قریشا و العرب- و ورى أکبادهم بالبراءه من آلهتهم- و عیب دینهم و تضلیل أسلافهم- ثم وترهم فیما بعد بقتل رؤسائهم و أکابرهم- و حق لمثله إذا تنحى عن الحرب و اعتزلها-
أن یتنحى و یعتزل- لأن ذلک شأن الملوک و الرؤساء- إذا کان الجیش منوطا بهم و ببقائهم- فمتى هلک الملک هلک الجیش- و متى سلم الملک أمکن أن یبقى علیه ملکه- و إن عطب جیشه فإنه یستجد جیشا آخر- و لذلک نهى الحکماء أن یباشر الملک الحرب بنفسه- و خطئوا الإسکندر لما بارز قوسرا ملک الهند- و نسبوه إلى مجانبه الحکمه و مفارقه الصواب و الحزم- فلیقل لنا الجاحظ أی مدخل لأبی بکر فی هذا المعنى- و من الذی کان یعرفه من أعداء الإسلام لیقصده بالقتل- و هل هو إلا واحد من عرض المهاجرین- حکمه حکم عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان و غیرهما- بل کان عثمان أکثر منه صیتا و أشرف منه مرکبا- و العیون إلیه أطمح- و العدو إلیه أحنق و أکلب- و لو قتل أبو بکر فی بعض تلک المعارک- هل کان یؤثر قتله فی الإسلام ضعفا- أو یحدث فیه وهنا- أو یخاف على المله- لو قتل أبو بکر فی بعض تلک الحروب- أن تندرس و تعفى آثارها و ینطمس منارها- لیقول الجاحظ إن أبا بکر کان حکمه حکم رسول الله ص- فی مجانبه الحروب و اعتزالها- نعوذ بالله من الخذلان- و قد علم العقلاء کلهم ممن لهبالسیر معرفه- و بالآثار و الأخبار ممارسه- حال حروب رسول الله ص کیف کانت- و حاله ع فیها کیف کان-
و وقوفه حیث وقف و حربه حیث حارب- و جلوسه فی العریش یوم جلس- و إن وقوفه ص وقوف رئاسه و تدبیر- و وقوف ظهر و سند یتعرف أمور أصحابه- و یحرس صغیرهم و کبیرهم بوقوفه من ورائهم- و تخلفه عن التقدم فی أوائلهم- لأنهم متى علموا أنه فی أخراهم اطمأنت قلوبهم- و لم تتعلق بأمره نفوسهم- فیشتغلوا بالاهتمام به عن عدوهم- و لا یکون لهم فئه یلجئون إلیها و ظهر یرجعون إلیه- و یعلمون أنه متى کان خلفهم- تفقد أمورهم و علم مواقفهم- و آوى کل إنسان مکانه فی الحمایه و النکایه- و عند المنازله فی الکر و الحمله- فکان وقوفه حیث وقف أصلح لأمرهم- و أحمى و أحرس لبیضتهم- و لأنه المطلوب من بینهم إذ هو مدبر أمورهم- و والی جماعتهم- أ لا ترون أن موقف صاحب اللواء موقف شریف- و أن صلاح الحرب فی وقوفه- و أن فضیلته فی ترک التقدم فی أکثر حالاته- فللرئیس حالات- الأولى حاله یتخلف و یقف آخرا لیکون سندا و قوه- و ردءا و عده- و لیتولى تدبیر الحرب و یعرف مواضع الخلل- .
و الحاله الثانیه یتقدم فیها فی وسط الصف- لیقوی الضعیف و یشجع الناکص- . و حاله ثالثه و هی إذا اصطدم الفیلقان- و تکافح السیفان- اعتمد ما تقتضیه الحال من الوقوف حیث یستصلح- أو من مباشره الحرب بنفسه فإنها آخر المنازل- و فیها تظهر شجاعه الشجاع النجد و فساله الجبان المموه- . فأین مقام الرئاسه العظمى لرسول الله ص- و أین منزله أبی بکر لیسوی بین المنزلتین و یناسب بین الحالتین- .
و لو کان أبو بکر شریکا لرسول الله ص فی الرساله- و ممنوحا من اللهبفضیله النبوه- و کانت قریش و العرب تطلبه کما تطلب محمدا ص- و کان یدبر من أمر الإسلام و تسریب العساکر- و تجهیز السرایا و قتل الأعداء- ما یدبره محمد ص- لکان للجاحظ أن یقول ذلک- فأما و حاله حاله و هو أضعف المسلمین جنانا- و أقلهم عند العرب تره لم یرم قط بسهم- و لا سل سیفا و لا أراق دما- و هو أحد الأتباع غیر مشهور و لا معروف- و لا طالب و لا مطلوب- فکیف یجوز أن یجعل مقامه و منزلته- مقام رسول الله ص و منزلته- و لقد خرج ابنه عبد الرحمن- مع المشرکین یوم أحد فرآه أبو بکر فقام مغیظا علیه- فسل من السیف مقدار إصبع یرید البروز إلیه- فقال له رسول الله ص- یا أبا بکر شم سیفک و أمتعنا بنفسک- و لم یقل له و أمتعنا بنفسک- إلا لعلمه بأنه لیس أهلا للحرب و ملاقاه الرجال- و أنه لو بارز لقتل- .
و کیف یقول الجاحظ لا فضیله لمباشره الحرب- و لقاء الأقران و قتل أبطال الشرک- و هل قامت عمد الإسلام إلا على ذلک- و هل ثبت الدین و استقر إلا بذلک- أ تراه لم یسمع قول الله تعالى- إِنَّ اللَّهَ یُحِبُّ الَّذِینَ یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِهِ- صَفًّا کَأَنَّهُمْ بُنْیانٌ مَرْصُوصٌ- و المحبه من الله تعالى هی إراده الثواب- فکل من کان أشد ثبوتا فی هذا الصف و أعظم قتالا- کان أحب إلى الله- و معنى الأفضل هو الأکثر ثوابا- فعلی ع إذا هو أحب المسلمین إلى الله- لأنه أثبتهم قدما فی الصف المرصوص- لم یفر قط بإجماع الأمه و لا بارزه قرن إلا قتله- .
أ تراه لم یسمع قول الله تعالى- وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِینَ عَلَى الْقاعِدِینَ أَجْراً عَظِیماً- و قوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ- بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّهَ یُقاتِلُونَفِی سَبِیلِ اللَّهِ- فَیَقْتُلُونَ وَ یُقْتَلُونَ- وَعْداً عَلَیْهِ حَقًّا فِی التَّوْراهِ وَ الْإِنْجِیلِ وَ الْقُرْآنِ- ثم قال سبحانه مؤکدا لهذا البیع و الشراء- وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ- فَاسْتَبْشِرُوا بِبَیْعِکُمُ الَّذِی بایَعْتُمْ بِهِ- وَ ذلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ- و قال الله تعالى- ذلِکَ بِأَنَّهُمْ لا یُصِیبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَهٌ فِی سَبِیلِ اللَّهِ- وَ لا یَطَؤُنَ مَوْطِئاً یَغِیظُ الْکُفَّارَ وَ لا یَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَیْلًا- إِلَّا کُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ- .
فمواقف الناس فی الجهاد على أحوال- و بعضهم فی ذلک أفضل من بعض- فمن دلف إلى الأقران و استقبل السیوف و الأسنه- کان أثقل على أکتاف الأعداء لشده نکایته فیهم- ممن وقف فی المعرکه و أعان و لم یقدم- و کذلک من وقف فی المعرکه و أعان و لم یقدم- إلا أنه بحیث تناله السهام و النبل أعظم غناء- و أفضل ممن وقف حیث لا یناله ذلک- و لو کان الضعیف و الجبان یستحقان الرئاسه- بقله بسط الکف و ترک الحرب- و أن ذلک یشاکل فعل النبی ص- لکان أوفر الناس حظا فی الرئاسه- و أشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت- و إن بطل فضل علی ع فی الجهاد- لأن النبی ص کان أقلهم قتالا کما زعم الجاحظ- لیبطلن على هذا القیاس فضل أبی بکر فی الإنفاق- لأن رسول الله ص کان أقلهم مالا- .
و أنت إذا تأملت أمر العرب و قریش- و نظرت السیر و قرأت الأخبار- عرفت أنها کانت تطلب محمدا ص- و تقصد قصده و تروم قتله- فإن أعجزها و فاتها طلبت علیا ع و أرادت قتله- لأنه کان أشبههم بالرسول حالا- و أقربهم منه قربا و أشدهم عنه دفعا- و أنهم متى قصدوا علیا فقتلوه- أضعفوا أمر محمد ص و کسروا شوکته- إذ کان أعلى من ینصره فی البأس و القوه- و الشجاعهو النجده و الإقدام و البساله- أ لا ترى إلى قول عتبه بن ربیعه یوم بدر- و قد خرج هو و أخوه شیبه و ابنه الولید بن عتبه- فأخرج إلیه الرسول نفرا من الأنصار- فاستنسبوهم فانتسبوا لهم- فقالوا ارجعوا إلى قومکم ثم نادوا- یا محمد أخرج إلینا أکفاءنا من قومنا- فقال النبی ص لأهله الأدنین- قوموا یا بنی هاشم فانصروا حقکم الذی آتاکم الله- على باطل هؤلاء- قم یا علی قم یا حمزه قم یا عبیده- أ لا ترى ما جعلت هند بنت عتبه لمن قتله یوم أحد- لأنه اشترک هو و حمزه فی قتل أبیها یوم بدر- أ لم تسمع قول هند ترثی أهلها-
ما کان عن عتبه لی من صبر
أبی و عمی و شقیق صدری
أخی الذی کان کضوء البدر
بهم کسرت یا علی ظهری
و ذلک لأنه قتل أخاها الولید بن عتبه- و شرک فی قتل أبیها عتبه- و أما عمها شیبه فإن حمزه تفرد بقتله- . و قال جبیر بن مطعم لوحشی مولاه یوم أحد- إن قتلت محمدا فأنت حر- و إن قتلت علیا فأنت حر- و إن قتلت حمزه فأنت حر- فقال أما محمد فسیمنعه أصحابه- و أما علی فرجل حذر کثیر الالتفات فی الحرب- و لکنی سأقتل حمزه فقعد له و زرقه بالحربه فقتله- .
و لما قلنا من مقاربه حال علی ع فی هذا الباب- لحال رسول الله ص و مناسبتها إیاها- ما وجدناه فی السیر و الأخبار- من إشفاق رسول الله ص و حذره علیه- و دعائه له بالحفظ و السلامه-قال ص یوم الخندق و قد برز علی إلى عمرو- و رفع یدیه إلى السماء بمحضر من أصحابه اللهم إنک أخذت منیحمزه یوم أحد- و عبیده یوم بدر فاحفظ الیوم علی علیا- رَبِّ لا تَذَرْنِی فَرْداً وَ أَنْتَ خَیْرُ الْوارِثِینَ- و لذلک ضن به عن مبارزه عمرو- حین دعا عمرو الناس إلى نفسه مرارا- فی کلها یحجمون و یقدم علی فیسأل الإذن له فی البراز- حتى قال له رسول الله ص- إنه عمرو فقال و أنا علی- فأدناه و قبله و عممه بعمامته- و خرج معه خطوات کالمودع له- القلق لحاله المنتظر لما یکون منه- ثم لم یزل ص رافعا یدیه إلى السماء مستقبلا لها بوجهه- و المسلمون صموت حوله کأنما على رءوسهم الطیر- حتى ثارت الغبره و سمعوا التکبیر من تحتها- فعلموا أن علیا قتل عمرا- فکبر رسول الله ص و کبر المسلمون- تکبیره سمعها من وراء الخندق من عساکر المشرکین- و لذلک قال حذیفه بن الیمان لو قسمت فضیله علی ع بقتل عمرو یوم الخندق- بین المسلمین بأجمعهم لوسعتهم- و قال ابن عباس فی قوله تعالى- وَ کَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِینَ الْقِتالَ قال بعلی بن أبی طالب- .
قال الجاحظ على أن مشی الشجاع بالسیف إلى الأقران- لیس على ما توهمه من لا یعلم باطن الأمر- لأن معه فی حال مشیه إلى الأقران بالسیف- أمورا أخرى لا یبصرها الناس- و إنما یقضون على ظاهر ما یرون من إقدامه و شجاعته- فربما کان سبب ذلک الهوج- و ربما کان الغراره و الحداثه- و ربما کان الإحراج و الحمیه- و ربما کان لمحبه النفخ و الأحدوثه- و ربما کان طباعا کطباع القاسی و الرحیم- و السخی و البخیل قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله فیقال للجاحظ- فعلى أیها کان مشی علی بن أبی طالب إلى الأقران بالسیف- فأیما قلت من ذلک بانت عداوتک لله تعالى و لرسوله- و إن کان مشیه لیس على وجه مما ذکرت-
و إنما کان على وجه النصره- و القصد إلى المسابقه إلى ثواب الآخره- و الجهاد فی سبیل الله و إعزاز الدین- کنت بجمیع ما قلت معاندا و عن سبیل الإنصاف خارجا- و فی إمام المسلمین طاعنا- و إن تطرق مثل هذا الوهم على علی ع- لیتطرقن مثله على أعیان المهاجرین و الأنصار- أرباب الجهاد و القتال- الذین نصروا رسول الله ص بأنفسهم و وقوه بمهجهم- و فدوه بأبنائهم و آبائهم- فلعل ذلک کان لعله من العلل المذکوره- و فی ذلک الطعن فی الدین و فی جماعه المسلمین- . و لو جاز أن یتوهم هذا فی علی ع و فی غیره- لماقال رسول الله ص حکایه عن الله تعالى لأهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لکم- و لاقال لعلی ع برز الإیمان کله إلى الشرک کله- و لا قال أوجب طلحه- .
و قد علمنا ضروره من دین الرسول ص- تعظیمه لعلی ع- تعظیما دینیا لأجل جهاده و نصرته- فالطاعن فیه طاعن فی رسول الله ص- إذ زعم أنه قد یمکن أن یکون جهاده لا لوجه الله تعالى- بل لأمر آخر من الأمور التی عددها- و بعثه على التفوه بها إغواء الشیطان و کیده- و الإفراط فی عداوه من أمر الله بمحبته- و نهى عن بغضه و عداوته- .
أ ترى رسول الله ص خفی علیه من أمر علی ع- ما لاح للجاحظ و العثمانیه فمدحه و هو غیر مستحق للمدح- . قال الجاحظ فصاحب النفس المختاره المعتدله- یکون قتاله طاعه و فراره معصیه- لأن نفسه معتدله کالمیزان فی استقامه لسانه و کفتیه- فإذا لم یکن کذلک کان إقدامه طباعا و فراره طباعا- . قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله فیقال له- فلعل إنفاق أبی بکر على ما تزعم أربعین ألف درهم لا ثواب له- لأن نفسه ربما تکون غیر معتدله- لأنه یکون مطبوعا على الجود و السخاء- و لعل خروجه مع النبی ص- یوم الهجره إلى الغار لا ثواب له فیه- لأن أسبابه کانت له مهیجه و دواعیه غالبه- محبه الخروج و بغض المقام- و لعل رسول الله ص فی دعائه إلى الإسلام- و إکبابه على الصلوات الخمس فی جوف اللیل- و تدبیره أمر الأمه لا ثواب له فیه- لأنه قد تکون نفسه غیر معتدله- بل یکون فی طباعه الرئاسه و حبها- و العباده و الالتذاذ بها- و لقد کنا نعجب من مذهب أبی عثمان- أن المعارف ضروره و أنها تقع طباعا-
و فی قوله بالتولد و حرکه الحجر بالطبع- حتى رأینا من قوله ما هو أعجب منه- فزعم أنه ربما یکون جهاد علی ع و قتله المشرکین- لا ثواب له فیه لأنه فعله طبعا- و هذا أطرف من قوله فی المعرفه و فی التولد- . قال الجاحظ و وجه آخر أن علیا لو کان کما یزعم شیعته- ما کان له بقتل الأقران کبیر فضیله و لا عظیم طاعه- لأنه قدروی عن النبی ص أنه قال لهستقاتل بعدی الناکثین و القاسطین و المارقین- فإذا کان قد وعده بالبقاء بعده- فقد وثق بالسلامه من الأقران- و علم أنه منصور علیهم و قاتلهم- فعلى هذا یکون جهاد طلحه و الزبیر أعظم طاعه منه- .
قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- هذا راجع على الجاحظ فی النبی ص لأن الله تعالى قال له- وَ اللَّهُ یَعْصِمُکَ مِنَ النَّاسِ- فلم یکن له فی جهاده کبیر طاعه و کثیر طاعه- وکثیر من الناس یروی عنه ص اقتدوا باللذین من بعدی أبی بکر و عمرفوجب أن یبطل جهادهما- وقد قال للزبیر ستقاتل علیا و أنت ظالم له- فأشعره بذلک أنه لا یموت فی حیاه رسول الله ص- و قال فی الکتاب العزیز لطلحه- وَ ما کانَ لَکُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ- وَ لا أَنْ تَنْکِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ- قالوا نزلت فی طلحه- فأعلمه بذلک أنه یبقى بعده- فوجب ألا یکون لهما کبیر ثواب فی الجهاد- و الذی صح عندنا من الخبر و هو قوله- ستقاتل بعدی الناکثین- أنه قال لما وضعت الحرب أوزارها- و دخل الناس فی دین الله أفواجا- و وضعت الجزیه و دانت العرب قاطبه- .
قال الجاحظ- ثم قصد الناصرون لعلی و القائلون بتفضیله- إلى الأقران الذین قتلهم فأطروهم و غلوا فیهم- و لیسوا هناک- فمنهم عمرو بن عبد ود- ترکتموه أشجع من عامر بن الطفیل- و عتبه بن الحارث و بسطام بن قیس- و قد سمعنا بأحادیث حروب الفجار- و ما کان بین قریش و دوس و حلف الفضول- فما سمعت لعمرو بن عبد ود ذکرا فی ذلک- .
قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- أمر عمرو بن عبد ود أشهر و أکثر من أن یحتج له- فلنتلمح کتب المغازی و السیر- و لینظر ما رثته به شعراء قریش لما قتل- فمن ذلک ما ذکره محمد بن إسحاق فی مغازیه- قال و قال مسافع بن عبد مناف بن زهره بن حذافه بن جمح- یبکی عمرو بن عبد الله بن عبد ود- حین قتله علی بن أبی طالب ع- مبارزه لما جزع المذاد أی قطع الخندق-
عمرو بن عبد کان أول فارس
جزع المذاد و کان فارس ملیل
سمح الخلائق ماجد ذو مره
یبغی القتال بشکه لم ینکل
و لقد علمتم حین ولوا عنکم
أن ابن عبد منهم لم یعجل
حتى تکفنه الکماه و کلهم
یبغی القتال له و لیس بمؤتل
و لقد تکنفت الفوارس فارسا
بجنوب سلع غیر نکس أمیل
سال النزال هناک فارس غالب
بجنوب سلع لیته لم ینزل
فاذهب علی ما ظفرت بمثلها
فخرا و لو لاقیت مثل المعضل
نفسی الفداء لفارس من غالب
لاقى حمام الموت لم یتحلحل
أعنی الذی جزع المذاد و لم یکن
فشلا و لیس لدى الحروب بزمل
و قال هبیره بن أبی وهب المخزومی- یعتذر من فراره عن علی بن أبی طالب- و ترکه عمرا یوم الخندق و یبکیه-
لعمرک ما ولیت ظهری محمدا
و أصحابه جبنا و لا خیفه القتل
و لکننی قلبت أمری فلم أجد
لسیفی غناء إن وقفت و لا نبلی
وقفت فلما لم أجد لی مقدما
صدرت کضرغام هزبر إلى شبل
ثنى عطفه عن قرنه حین لم یجد
مجالا و کان الحزم و الرأی من فعلی
فلا تبعدن یا عمرو حیا و هالکا
فقد مت محمود الثنا ماجد الفعل
و لا تبعدن یا عمرو حیا و هالکا
فقد کنت فی حرب العدا مرهف النصل
فمن لطراد الخیل تقدع بالقنا
و للبذل یوما عند قرقره البزل
هنالک لو کان ابن عمرو لزارها
و فرجها عنهم فتى غیر ما وغل
کفتک علی لن ترى مثل موقف
وقفت على شلو المقدم کالفحل
فما ظفرت کفاک یوما بمثلها
أمنت بها ما عشت من زله النعل
و قال هبیره بن أبی وهب أیضا یرثی عمرا و یبکیه-
لقد علمت علیا لؤی بن غالب
لفارسها عمرو إذا ناب نائب
و فارسها عمرو إذا ما یسوقه
علی و إن الموت لا شک طالب
عشیه یدعوه علی و إنه
لفارسها إذ خام عنه الکتائب
فیا لهف نفسی إن عمرا لکائن
بیثرب لا زالت هناک المصائب
لقد أحرز العلیا علی بقتله
و للخیر یوما لا محاله جالب
و قال حسان بن ثابت الأنصاری یذکر عمرا-
أمسى الفتى عمرو بن عبد ناظرا
کیف العبور و لیته لم ینظر
و لقد وجدت سیوفنا مشهوره
و لقد وجدت جیادنا لم تقصر
و لقد لقیت غداه بدر عصبه
ضربوک ضربا غیر ضرب الحسر
أصبحت لا تدعى لیوم عظیمه
یا عمرو أو لجسیم أمر منکر
و قال حسان أیضا-
لقد شقیت بنو جمح بن عمرو
و مخزوم و تیم ما نقیل
و عمرو کالحسام فتى قریش
کأن جبینه سیف صقیل
فتى من نسل عامر أریحی
تطاوله الأسنه و النصول
دعاه الفارس المقدام لما
تکشفت المقانب و الخیول
أبو حسن فقنعه حساما
جرازا لا أفل و لا نکول
فغادره مکبا مسلحبا
على عفراء لا بعد القتیل
فهذه الأشعار فیه بل بعض ما قیل فیه- . و أما الآثار و الأخبار- فموجوده فی کتب السیر و أیام الفرسان و وقائعهم- و لیسأحد من أرباب هذا العلم یذکر عمرا إلا قال- کان فارس قریش و شجاعها- و إنما قال له حسانو لقد لقیت غداه بدر عصبهلأنه شهد مع المشرکین بدرا و قتل قوما من المسلمین- ثم فر مع من فر و لحق بمکه- و هو الذی کان قال و عاهد الله عند الکعبه- ألا یدعوه أحد إلى واحده من ثلاث إلا أجابه- و آثاره فی أیام الفجار مشهوره- تنطق بها کتب الأیام و الوقائع- و لکنه لم یذکر مع الفرسان الثلاثه و هم- عتبه و بسطام و عامر- لأنهم کانوا أصحاب غارات و نهب و أهل بادیه- و قریش أهل مدینه و ساکنو مدر و حجر- لا یرون الغارات و لا ینهبون غیرهم من العرب- و هم مقتصرون على المقام ببلدتهم و حمایه حرمهم- فلذلک لم یشتهر اسمه کاشتهار هؤلاء- .
و یقال له إذا کان عمرو کما تذکر لیس هناک- فما باله لما جزع الخندق فی سته فرسان هو أحدهم- فصار مع أصحاب النبی ص على أرض واحده- و هم ثلاثه آلاف- و دعاهم إلى البراز مرارا- لم ینتدب أحد منهم للخروج إلیه- و لا سمح منهم أحد بنفسه- حتى وبخهم و قرعهم و ناداهم- أ لستم تزعمون أنه من قتل منا فإلى النار- و من قتل منکم فإلى الجنه- أ فلا یشتاق أحدکم إلى أن یذهب إلى الجنه- أو یقدم عدوه إلى النار- فجبنوا کلهم و نکلوا و ملکهم الرعب و الوهل- فإما أن یکون هذا أشجع الناس کما قیل عنه- أو یکون المسلمون کلهم أجبن العرب و أذلهم و أفشلهم- و قد روى الناس کلهم الشعر الذی أنشده- لما نکل القوم بجمعهم عنه- و أنه جال بفرسه و استدار- و ذهب یمنه ثم ذهب یسره- ثم وقف تجاه القوم فقال-
و لقد بححت من النداء
بجمعهم هل من مبارز
و وقفت إذ جبن المشیع
وقفه القرن المناجز
و کذاک أنی لم أزل
متسرعا نحو الهزاهز
إن الشجاعه فی الفتى
و الجود من خیر الغرائز
فلما برز إلیه علی أجابه فقال له-
لا تعجلن فقد أتاک
مجیب صوتک غیر عاجز
ذو نیه و بصیره
یرجو الغداه نجاه فائز
إنی لأرجو أن أقیم
علیک نائحه الجنائز
من ضربه تفنى و یبقى
ذکرها عند الهزاهز
و لعمری لقد سبق الجاحظ بما قاله بعض جهال الأنصار- لما رجع رسول الله من بدر- و قال فتى من الأنصار شهد معه بدرا- إن قتلنا إلا عجائز صلعا- فقال له النبی ص- لا تقل ذلک یا ابن أخ أولئک الملأ- . قال الجاحظ- و قد أکثروا فی الولید بن عتبه بن ربیعه- قتیله یوم بدر- و ما علمنا الولید حضر حربا قط قبلها و لا ذکر فیها- . قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- کل من دون أخبار قریش و آثار رجالها- وصف الولید بالشجاعه و البساله- و کان مع شجاعته أنه یصارع الفتیان فیصرعهم- و لیس لأنه لم یشهد حربا قبلها- ما یجب أن یکون بطلا شجاعا- فإن علیا ع لم یشهد قبل بدر حربا- و قد رأى الناس آثاره فیها- .
قال الجاحظ- و قد ثبت أبو بکر مع النبی ص یوم أحد کما ثبت علی- فلا فخر لأحدهما على صاحبه فی ذلک الیوم- . قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله أما ثباته یوم أحد- فأکثر المؤرخین و أرباب السیر ینکرونه- و جمهورهم یروی أنه لم یبق مع النبی ص- إلا علی و طلحه و الزبیر و أبو دجانه- و قد روی عن ابن عباس أنه قال- و لهم خامس و هو عبد الله بن مسعود- و منهم من أثبت سادسا و هو المقداد بن عمرو- و روى یحیى بن سلمه بن کهیل قال قلت لأبی- کم ثبت مع رسول الله ص یوم أحد- فقال اثنان قلت من هما قال علی و أبو دجانه- .
و هب أن أبا بکر ثبت یوم أحد کما یدعیه الجاحظ- أ یجوز له أن یقول ثبت کما ثبت علی- فلا فخر لأحدهما على الآخر- و هو یعلم آثار علی ع ذلک الیوم- و أنه قتل أصحاب الألویه من بنی عبد الدار- منهم طلحه بن أبی طلحه- الذی رأى رسول الله ص فی منامه أنه مردف کبشا- فأوله و قال کبش الکتیبه نقتله- فلما قتله علی ع مبارزه- و هو أول قتیل قتل من المشرکین ذلک الیوم- کبر رسول الله ص و قال- هذا کبش الکتیبه- . و ما کان منه من المحاماه عن رسول الله ص- و قد فر الناس و أسلموه- فتصمد له کتیبه من قریش فیقول- یا علی اکفنی هذه فیحمل علیها فیهزمها و یقتل عمیدها- حتى سمع المسلمون و المشرکون صوتا من قبل السماء-
لا سیف إلا ذو الفقار
و لا فتى إلا علی
– و حتى قال النبی ص عن جبرائیل ما قال- . أ تکون هذه آثاره و أفعاله- ثم یقول الجاحظ لا فخر لأحدهما على صاحبه- .رَبَّنَا افْتَحْ بَیْنَنا وَ بَیْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ- وَ أَنْتَ خَیْرُ الْفاتِحِینَ- . قال الجاحظ و لأبی بکر فی ذلک الیوم مقام مشهور- خرج ابنه عبد الرحمن فارسا مکفرا فی الحدید- یسأل المبارزه و یقول- أنا عبد الرحمن بن عتیق فنهض إلیه أبو بکر یسعى بسیفه- فقال له النبی ص- شم سیفک و ارجع إلى مکانک و متعنا بنفسک- . قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- ما کان أغناک یا أبا عثمان- عن ذکر هذا المقام المشهور لأبی بکر- فإنه لو تسمعه الإمامیه- لأضافته إلى ما عندها من المثالب- لأن قول النبی ص ارجع- دلیل على أنه لا یحتمل مبارزه أحد- لأنه إذا لم یحتمل مبارزه ابنه- و أنت تعلم حنو الابن علی الأب و تبجیله له- و إشفاقه علیه و کفه عنه- لم یحتمل مبارزه الغریب الأجنبی- .
و قوله له و متعنا بنفسک- إیذان له بأنه کان یقتل لو خرج- و رسول الله کان أعرف به من الجاحظ- فأین حال هذا الرجل من حال الرجل الذی صلى بالحرب- و مشى إلى السیف بالسیف- فقتل الساده و القاده و الفرسان و الرجاله- . قال الجاحظ على أن أبا بکر- و إن لم تکن آثاره فی الحرب کآثار غیره- فقد بذل الجهد و فعل ما یستطیعه و تبلغه قوته- و إذا بذل المجهود- فلا حال أشرف من حاله- .
قال شیخنا أبو جعفر رحمه الله- أما قوله إنه بذل الجهد فقد صدق- و أما قوله لا حال أشرف من حاله فخطأ- لأن حال من بلغت قوته فأعملها فی قتل المشرکین- أشرف من حال من نقصت قوته عن بلوغ الغایه- أ لا ترى أن حال الرجل أشرف فی الجهاد من حال المرأه- و حال البالغ الأید أشرف من حال الصبی الضعیف- . فهذه جمله ما ذکره الشیخ أبو جعفر- محمد بن عبد الله الإسکافی رحمه الله- فی نقض العثمانیه اقتصرنا علیها هاهنا- و سنعود فیما بعد إلى ذکر جمله أخرى من کلامه- إذا اقتضت الحال ذکره
شرح نهج البلاغه(ابن أبی الحدید) ج ۱۳
بازدیدها: ۱۸۲