و من كلام له عليه السّلام فى معنى الأنصار
قالوا: لما انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنباه السقيفه بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم. قال
عليه السّلام:: فَهَلَّا احْتَجَجْتُمْ عَلَيْهِمْ- بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص وَصَّى بِأَنْ يُحْسَنَ إِلَى مُحْسِنِهِمْ- وَ يُتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ- قَالُوا
وَ مَا فِي هَذَا مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ- فَقَالَ ع لَوْ كَانَ الْإِمَامَةُ فِيهِمْ لَمْ تَكُنِ الْوَصِيَّةُ بِهِمْ- ثُمَّ قَالَ ع فَمَا ذَا قَالَتْ قُرَيْشٌ- قَالُوا
احْتَجَّتْ بِأَنَّهَا شَجَرَةُ الرَّسُولِ ص- فَقَالَ ع احْتَجُّوا بِالشَّجَرَةِ وَ أَضَاعُوا الثَّمَرَةَ
المعنى
أقول: الأنباء الّتى بلغته عليه السّلام هى أخبار ما جرى بين الأنصار و المهاجرين من المشاجرة في أمر الإمامة و ايقاعهم البيعة لأبى بكر، و خلاصة القصّة أنّه لمّا قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم اجتمعت الأنصار في سقيفة بنى ساعدة: و هى صفّة كانوا يجتمعون بها فخطبهم سعد بن عبادة، و مدحهم في خطبته و أغراهم بطلب الإمامة. و قال: إنّ لكم سابقة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب. إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن فما آمن به من قومه إلّا قليل، و اللّه ما كانوا يقدرون أن يمنعوه و لا يدفعوا عنه ضيما حتّى أراد اللّه بكم خير الفضيلة، و ساق إليكم الكرامة، و رزقكم الايمان به و الإقرار بدينه. فكنتم أشدّ الناس على من تخلّف عنه منكم، و أثقله على عدوّه من غيركم حتّى استقاموا لأمره و دانت لأسيافكم العرب، و انجز اللّه لنبيّكم الوعد و توفّاه و هو عنكم راض. فشدّوا أيديكم لهذا الأمر. فأنتم أحقّ الناس به. فأجابوه جميعا إن وفّقت و أصبت لم نعد و أن نولّيك هذا الأمر.
و أتى الخبر أبا بكر و عمر فجاء امسرعين إلى السقيفة فتكلّم أبو بكر فقال للأنصار: ألم تعلموا أنّا معاشر المهاجرين أوّل الناس إسلاما و نحن عشيرة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و أنتم أنصار الدين و وزراء رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و إخواننا في كتاب اللّه، و أنتم المؤثرون على أنفسهم و أحقّ الناس بالرضاء بقضاء اللّه و التسليم لما ساق اللّه إلى إخوانكم، و أن لا يكون انتقاض هذا الدين على أيديكم، و أنا أدعوكم إلى بيعة أبى عبيدة أو عمر فكلاهما قد رضيت لهذا الأمر.
فقال عمرو أبو عبيدة: ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك أنت صاحب الغار، و ثانى اثنين، و أمرك رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم بالصلوة.
فأنت أحقّ بهذا الأمر. فقالت الأنصار: نحن أنصار الدار و الايمان لم يعبد اللّه علانية إلّا عندنا و في بلادنا، و لا عرف الايمان إلّا من أسيافنا، و لا جمعت الصلاة إلّا في مساجدنا. فنحن أولى بهذا الأمر. فإن أبيتم فمنّا أمير و منكم أمير. فقال عمر: هيهات لا يجمع سيفان في غمد إنّ العرب لا ترضى أن تؤمّركم و بينها من غيركم. فقال الحباب بن المنذر: نحن و اللّه أحقّ بهذا الأمر إنّه قددان لهذا الأمر بأسيافنا من لم يكن يدين له و إن لم ترضوا اجليناكم عن بلادنا إنّا جذيلها المحلّك و عذيقها المرجّب إن شئتم لنعيدنّها جذعة. و اللّه لا يردّ علىّ أحد ما أقول إلّا حطمت أنفه بسيفى هذا. فقام بشر بن سعد الخزرجىّ و كان يحسد سعد بن عباده أن يصل إليه هذا الأمر و كان سيّدا في الخزرج و قال: إنّا لم نرد بجهادنا و إسلامنا إّ وجه ربّنا لا غرضا من الدنيا، و إنّ محمّدا رجل من قريش و قومه أحقّ بميراث أمره و اتّقو اللّه و لا تنازعوهم معشر الأنصار. فقام أبو بكر فقال: هذا عمرو أبو عبيدة بايعوا أيّهما شئتم فقالا: لا يتولّى هذا الأمر غيرك و أنت أحقّ به ابسط يدك فبسط يده فبايعاه و بايعه بشر بن سعد و بايعته الأوس كلّهم، و حمل سعد بن عبادة و هو مريض فأدخل منزله، و قيل: إنّه بقى ممتنعا من البيعة حتّى مات بحوران في طريق الشام.
و لنرجع إلى المتن فنقول: أمّا الخبر الّذي رواه عليه السّلام عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم حجّة عليهم فهو صحيح أخرجه مسلم و البخارى في مسنديهما عن أنس قال أبو بكر و العبّاس بمجلس من مجالس الأنصار في مرض رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و هم يبكون فقالا: ما يبكيكم.
فقالوا: ذكرنا مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فدخلا على الرسول فأخبراه بذلك فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم معصّبا على رأسه حاشية برد فصعد المنبر و لم يصعده بعد ذلك اليوم فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: اوصيكم بالأنصار فإنّهم كرشى و عيبتى و قد قضوا الّذي عليهم و بقى الّذي لهم فاقيلوا من محسنهم و تجاوزوا عن مسيئهم. فأمّا وجه احتجاجه بهذا الخبر فهو في صورة شرطيّة متّصلة يستثنى فيها نقيض تاليها. و تقريرها: لو كانت الإمامة حقّا لهم لمّا كانت الوصيّة بهم لكنّها بهم فليست الإمامة لهم. بيان الملازمة أنّ العرف قاض بأنّ الوصيّة و الشفاعة و نحوها إنّما يكون إلى الرئيس في حقّ المرءوس من غير عكس، و أمّا بطلان التالى للخبر المذكور. و أمّا قوله: احتجّوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة. فأشار بالثمرة إمّا إلى نفسه و أهل بيته فإنّهم ثمرة الغصن المورق المثمر لتلك الشجرة، و لمّا استعير لفظ الشجرة لقريش استعار لفظ الثمرة لنفسه. و قد عرفت فرعيّته عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و كونه ثمرة. و إضاعتهم لها إهمالهم له من هذا الأمر، و يحتمل أن يريد بالثمرة الّتى أضاعوها سنّة اللّه الموجبة في اعتقاده استحقاقه لهذا لأمر و ظاهر كونها ثمرة الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم و إهمالهم لها تركهم العمل بها فى حقّه، و هو كلام في قوّة احتجاج له على قريش بمثل ما احتجّوا به على الأنصار. و تقديره: أنّهم إن كانوا أولى من الأنصار لكونهم شجرة رسول اللّه فنحن أولى لكوننا ثمرة، و للثمرة اختصاص بالمثمر من وجهين: أحدهما: القرب و مزيّته ظاهرة. و الثاني: أنّ الثمرة هى المطلوبة بالذات من الشجرة و غرسها فإن كانت الشجرة معتبرة فبالأولى اعتبار الثمرة، و إن لم يلتفت إلى الثمرة فبالأولى لا التفات إلى الشجرة.
و يلزم من هذا الاحتجاج أحد أمرين: إمّا بقاء الأنصار على حجّتهم لقيام هذه المعارضة، أو كونه عليه السّلام أحقّ بهذا الأمر و هو المطلوب. و اللّه أعلم بالصواب.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 184