87 و من خطبة له ع
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ لَمْ يَقْصِمْ جَبَّارِي دَهْرٍ قَطُّ إِلَّا بَعْدَ تَمْهِيلٍ وَ رَخَاءٍ- وَ لَمْ يَجْبُرْ عَظْمَ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا بَعْدَ أَزْلٍ وَ بَلَاءٍ- وَ فِي دُونِ مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ عَتْبٍ- وَ مَا اسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْبٍ مُعْتَبَرٌ- وَ مَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بِلَبِيبٍ وَ لَا كُلُّ ذِي سَمْعٍ بِسَمِيعٍ- وَ لَا كُلُّ ذِي نَاظِرٍ بِبَصِيرٍ- فَيَا عَجَباً وَ مَا لِيَ لَا أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ هَذِهِ الْفِرَقِ- عَلَى اخْتِلَافِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا- لَا يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍّ وَ لَا يَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِيٍّ- وَ لَا يُؤْمِنُونَ بِغَيْبٍ وَ لَا يَعِفُّونَ عَنْ عَيْبٍ- يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ وَ يَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ- الْمَعْرُوفُ فِيهِمْ مَا عَرَفُوا وَ الْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا- مَفْزَعُهُمْ فِي الْمُعْضِلَاتِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ- وَ تَعْوِيلُهُمْ فِي الْمُهِمَّاتِ عَلَى آرَائِهِمْ- كَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ- قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيمَا يَرَى بِعُرًى ثِقَاتٍ وَ أَسْبَابٍ مُحْكَمَاتٍ القصم بالقاف و الصاد المهملة الكسر- قصمته فانقصم و قصمته فتقصم- و رجل أقصم الثنية أي مكسورها بين القصم بفتح الصاد- . و التمهيل التأخير و يروى رجاء و هو التأخير أيضا- و الرواية المشهورة و رخاء- أي بعد إعطائهم من سعة العيش- و خصب الحال ما اقتضته المصلحة- .
و الأزل بفتح الهمزة الضيق و يقتصون يتبعون- قال سبحانه و تعالى وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ- . و يعفون بكسر العين عففت عن كذا- أعف عفا و عفة و عفافة أي كففت فأنا عف و عفيف- و امرأة عفة و عفيفة و قد أعفه الله- و استعف عن المسألة أي عف- . و تعفف الرجل أي تكلف العفة- و يروى و لا يعفون عن عيب أي لا يصفحون- . و مفزعهم ملجؤهم و فيما يرى أي فيما يظن- و يرى بفتح الياء أي فيما يراه هو و روي بعرا وثيقات- .
يقول إن عادة الله تعالى- ألا يقصم الجبابرة إلا بعد الإمهال و الاستدراج- بإضافة النعم عليهم- و ألا يجير أولياءه و ينصرهم- إلا بعد بؤس و بلاء يمتحنهم به- ثم قال لأصحابه إن في دون ما استقبلتم من عتب لمعتبر- أي من مشقة يعني بما استقبلوه- ما لاقوه في مستقبل زمانهم من الشيب- و ولاة السوء و تنكر الوقت- و سمى المشقة عتبا لأن العتب مصدر عتب عليه أي وجد عليه- فجعل الزمان كالواجد عليهم- القائم في إنزال مشاقه بهم- مقام الإنسان ذي الموجدة يعتب على صاحبه-
و روي من عتب بفتح التاء جمع عتبة- يقال لقد حمل فلان على عتبة أي أمر كريه من البلاء- و في المثل ما في هذا الأمر رتب و لا عتب أي شدة- و روي أيضا من عنت و هو الأمر الشاق- و ما استدبروه من خطب- يعني به ما تصرم عنهم من الحروب و الوقائع- التي قضوها و نضوها و استدبروها- و يروى و استدبرتم من خصب و هو رخاء العيش- و هذا يقتضي المعنى الأول- أي و ما خلفتم وراءكم من الشباب و الصحة و صفو العيشة- . ثم قال ما كل ذي قلب بلبيب الكلام إلى آخره- و هو مأخوذ من قول الله تعالى- لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها- وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها- .
ثم تعجب من اختلاف حجج الفرق في الدين- و خطئهم و كونهم لا يتبعون أقوال الأنبياء- و لا أقوال الأوصياء- ثم نعى عليهم أحوالهم القبيحة- فقال إنهم لا يؤمنون بالغيب أي لا يصدقون بما لم يشاهدوه- و لا يكفون عن الأمور القبيحة لكنهم يعملون في الشبهات- أي يعملون أعمالا داخلة في الشبهات متوسطة لها- و يسيرون في الشهوات- جعل الشهوات كالطريق التي يسير فيها الإنسان- .
ثم قال المعروف فيهم ما عرفوه- أي ليس المعروف عندهم- ما دل الدليل على كونه معروفا و صوابا و حقا- بل المعروف عندهم ما ذهبوا إلى أنه حق- سواء كان حقا في نفس الأمر أو لم يكن- و المنكر عندهم ما أنكروه كما شرحناه في المعروف- . ثم قال إنهم لا يستشيرون بعالم و لا يستفتون فقيها فاضلا- بل مفزعهم في الأمور المشكلة إلى أنفسهم و آرائهم- و لقد صدق ع- فإن هذه صفات من يدعي العلم و الفضل في زماننا- و قبله بدهر طويل- و ذلك أنهم يأنفون من التعلم و الاسترشاد- فالبادئ منهم يعتقد في نفسه- أنه أفضل من البارع المنتهي- و متى ظفر الواحد منهم بمبادئ علم و حمله- شرع في التدريس و التصنيف- فمنعه التزامه بذلك من التردد إلى أبواب العلماء- و أنف من سؤالهم عن الأمور المشكلة- فدام جهله إلى أن يموت- . ثم قال كان كل واحد منهم إمام نفسه- و يروى بحذف كان و إسقاطها و هو أحسن
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 6