31 و من كلام له ع لما أنفذ عبد الله بن عباس- إلى الزبير قبل وقوع الحرب يوم الجمل- ليستفيئه إلى طاعته
لَا تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ- فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ- يَرْكَبُ الصَّعْبَ وَ يَقُولُ هُوَ الذَّلُولُ- وَ لَكِنِ الْقَ الزُّبَيْرَ فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَرِيكَةً- فَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ ابْنُ خَالِكَ- عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وَ أَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ- فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا قال الرضي رحمه الله- و هو ع أول من سمعت منه هذه الكلمة- أعني فما عدا مما بدا ليستفيئه إلى طاعته أي يسترجعه فاء أي رجع- و منه سمي الفيء للظل بعد الزوال- و جاء في رواية فإنك إن تلقه تلفه أي تجده- ألفيته على كذا أي وجدته- . و عاقصا قرنه أي قد عطفه- تيس أعقص أي قد التوى قرناه على أذنيه- و الفعل فيه عقص الثور قرنه بالفتح- و قال القطب الراوندي عقص بالكسر- و ليس بصحيح- و إنما يقال عقص الرجل بالكسر- إذا شح و ساء خلقه فهو عقص- . و قوله يركب الصعب أي يستهين بالمستصعب من الأمور- يصفه بشراسة الخلق و البأو- و كذلك كان طلحة و قد وصفه عمر بذلك- و يقال إن طلحة أحدث يوم أحد عنده كبرا شديدا لم يكن- و ذاك لأنه أغنى في ذلك اليوم و أبلى بلاء حسنا- . و العريكة هاهنا الطبيعة- يقال فلان لين العريكة إذا كان سلسا- . و قال الراوندي العريكة بقية السنام- و لقد صدق و لكن ليس هذا موضع ذاك- . و قوله ع لابن عباس- قل له يقول لك ابن خالك لطيف جدا- و هو من باب الاستمالة و الإذكار بالنسب و الرحم- أ لا ترى أن له في القلب من الموقع- الداعي إلى الانقياد ما ليس لقوله- يقول لك أمير المؤمنين- و من هذا الباب قوله تعالى في ذكر موسى و هارون- وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ- قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي- فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ- لما رأى هارون غضب موسى و احتدامه- شرع معه في الاستمالة و الملاطفة- فقال له ابْنَ أُمَّ و أذكره حق الأخوة- و ذلك أدعى إلى عطفه عليه- من أن يقول له يا موسى أو يا أيها النبي- . فأما قوله فما عدا مما بدا فعدا بمعنى صرف- قال الشاعر
و إني عداني أن أزورك محكم
متى ما أحرك فيه ساقي يصخب
و من هاهنا بمعنى عن- و قد جاءت في كثير من كلامهم كذلك- قال ابن قتيبة في أدب الكاتب- قالوا حدثني فلان من فلان أي عن فلان- و لهيت من كذا أي عنه- و يصير ترتيب الكلام و تقديره- فما صرفك عما بدا منك أي ظهر- و المعنى ما الذي صدك عن طاعتي بعد إظهارك لها- و حذف الضمير المفعول المنصوب كثير جدا- كقوله تعالى وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا- أي أرسلناه- و لا بد من تقديره كي لا يبقى الموصول بلا عائد- . و قال القطب الراوندي- قوله فما عدا مما بدا له معنيان- أحدهما ما الذي منعك- مما كان قد بدا منك من البيعة قبل هذه الحالة- و الثاني ما الذي عاقك- و يكون المفعول الثاني لعدا محذوفا- يدل عليه الكلام أي ما عداك- يريد ما شغلك و ما منعك مما كان بدا لك من نصرتي- من البدا الذي يبدو للإنسان- و لقائل أن يقول ليس في الوجه الثاني زيادة على الوجه الأول- إلا زيادة فاسدة- أما إنه ليس فيه زيادة- فلأنه فسر في الوجه الأول عدا بمعنى منع- ثم فسره في الوجه الثاني بمعنى عاق- و فسر عاق بمنع و شغل- فصار عدا في الوجه الثاني مثل عدا في الوجه الأول- .
و قوله مما كان بدا منك- فسره في الأول و الثاني بتفسير واحد- فلم يبق بين الوجهين تفاوت- و أما الزيادة الفاسدة فظنه أن عدا يتعدى إلى مفعولين- و أنه قد حذف الثاني و هذا غير صحيح- لأن عدا ليس من الأفعال- التي تتعدى إلى مفعولين بإجماع النحاة- و من العجب تفسيره المفعول الثاني المحذوف على زعمه- بقوله أي ما عداك- و هذا المفعول المحذوف هاهنا هو مفعول عدا- الذي لا مفعول لها غيره- فلا يجوز أن يقال إنه أول و لا ثان- . ثم حكى القطب الراوندي حكاية معناها- أن صفية بنت عبد المطلب أعتقت عبيدا ثم ماتت- ثم مات العبيد و لم يخلفوا وارثا إلا مواليهم- و طلب علي ع ميراث العبيد بحق التعصيب- و طلبه الزبير بحق الإرث من أمه- و تحاكما إلى عمر فقضى عمر بالميراث للزبير- .
قال القطب الراوندي رحمه الله تعالى حكاية عن أمير المؤمنين ع إنه قال هذا خلاف الشرع- لأن ولاء معتق المرأة إذا كانت ميتة يكون لعصبتها- و هم العاقلة لا لأولادها
قلت هذه المسألة مختلف فيها بين الإمامية- فأبو عبد الله بن النعمان المعروف بالمفيد يقول- إن الولاء لولدها و لا يصحح هذا الخبر و يطعن في راويه- و غيره من فقهاء الإمامية كأبي جعفر الطوسي- و من قال بقوله يذهبون إلى أن الولاء لعصبتها لا لولدها- و يصححون الخبر- و يزعمون أن أمير المؤمنين ع سكت و لم ينازع- على قاعدته في التقية و استعمال المجاملة مع القوم- . فأما مذاهب الفقهاء غير الإمامية- فإنها متفقة على أن الولاء للولد لا للعصبة- كما هو قول المفيد رحمه الله تعالى- .
و روى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده ع قال سألت ابن عباس رضي الله عنه عن ذلك- فقال إني قد أتيت الزبير فقلت له- فقال قل له إني أريد ما تريد- كأنه يقول الملك لم يزدني على ذلك- فرجعت إلى علي ع فأخبرته – . و روى محمد بن إسحاق و الكلبي- عن ابن عباس رضي الله عنه قال- قلت الكلمة للزبير فلم يزدني على أن قال- قل له إنا مع الخوف الشديد لنطمع
قال و سئل ابن عباس عما يعني بقوله هذا- فقال يقول إنا على الخوف- لنطمع أن نلي من الأمر ما وليتم- . و قد فسره قوم تفسيرا آخر- و قالوا أراد إنا مع الخوف من الله- لنطمع أن يغفر لنا هذا الذنب- . قلت و على كلا التفسيرين لم يحصل جواب المسألة
من أخبار الزبير و ابنه عبد الله
كان عبد الله بن الزبير- هو الذي يصلي بالناس في أيام الجمل- لأن طلحة و الزبير تدافعا الصلاة- فأمرت عائشة عبد الله أن يصلي قطعا لمنازعتهما- فإن ظهروا كان الأمر إلى عائشة تستخلف من شاءت- . و كان عبد الله بن الزبير يدعي أنه أحق بالخلافة- من أبيه و من طلحة- و يزعم أن عثمان يوم الدار أوصى بها إليه- . و اختلفت الرواية- في كيفية السلام على الزبير و طلحة- فروي أنه كان يسلم على الزبير وحده بالإمرة- فيقال السلام عليك أيها الأمير- لأن عائشة ولته أمر الحرب- .
و روي أنه كان يسلم على كل واحد منهما بذلك- . لما نزل علي ع بالبصرة- و وقف جيشه بإزاء جيش عائشة- قال الزبير و الله ما كان أمر قط- إلا عرفت أين أضع قدمي فيه إلا هذا الأمر- فإني لا أدري أ مقبل أنا فيه أم مدبر- فقال له ابنه عبد الله كلا- و لكنك فرقت سيوف ابن أبي طالب- و عرفت أن الموت الناقع تحت راياته- فقال الزبير ما لك أخزاك الله من ولد ما أشأمك-كان أمير المؤمنين ع يقول ما زال الزبير منا أهل البيت- حتى شب ابنه عبد الله – . برز علي ع بين الصفين حاسرا- و قال ليبرز إلي الزبير- فبرز إليه مدججا- فقيل لعائشة قد برز الزبير إلى علي ع- فصاحت وا زبيراه فقيل لها لا بأس عليه منه- إنه حاسر و الزبير دارع- فقال له ما حملك يا أبا عبد الله على ما صنعت- قال أطلب بدم عثمان- قال أنت و طلحة وليتماه- و إنما نوبتك من ذلك أن تقيد به نفسك- و تسلمها إلى ورثته- ثم قال نشدتك الله أ تذكر يوم مررت بي- و رسول الله ص متكئ على يدك- و هو جاء من بني عمرو بن عوف- فسلم علي و ضحك في وجهي- فضحكت إليه لم أزده على ذلك- فقلت لا يترك ابن أبي طالب يا رسول الله زهوه-
فقال لك مه إنه ليس بذي زهو- أما إنك ستقاتله و أنت له ظالم- فاسترجع الزبير و قال لقد كان ذلك- و لكن الدهر أنسانيه و لأنصرفن عنك- فرجع فأعتق عبده سرجس- تحللا من يمين لزمته في القتال- ثم أتى عائشة فقال لها إني ما وقفت موقفا قط- و لا شهدت حربا- إلا و لي فيه رأي و بصيرة إلا هذه الحرب- و إني لعلى شك من أمري- و ما أكاد أبصر موضع قدمي- فقالت له يا أبا عبد الله- أظنك فرقت سيوف ابن أبي طالب- إنها و الله سيوف حداد- معدة للجلاد تحملها فئة أنجاد- و لئن فرقتها لقد فرقها الرجال قبلك- قال كلا و لكنه ما قلت لك ثم انصرف- . و روى فروة بن الحارث التميمي قال- كنت فيمن اعتزل عن الحرب بوادي السباع- مع الأحنف بن قيس- و خرج ابن عم لي يقال له الجون- مع عسكر البصرة فنهيته-
فقال لا أرغب بنفسي- عن نصرة أم المؤمنين و حواري رسول الله- فخرج معهم- و إني لجالس مع الأحنف يستنبئ الأخبار- إذا بالجون بن قتادة ابن عمي مقبلا- فقمت إليه و اعتنقته و سألته عن الخبر- فقال أخبرك العجب- خرجت و أنا لا أريد أن أبرح الحرب- حتى يحكم الله بين الفريقين- فبينا أنا واقف مع الزبير- إذ جاءه رجل فقال أبشر أيها الأمير- فإن عليا لما رأى ما أعد الله له من هذا الجمع- نكص على عقبيه و تفرق عنه أصحابه- و أتاه آخر فقال له مثل ذلك- فقال الزبير ويحكم أبو حسن يرجع- و الله لو لم يجد إلا العرفج لدب إلينا فيه- ثم أقبل رجل آخر فقال أيها الأمير- إن نفرا من أصحاب علي فارقوه ليدخلوا معنا- منهم عمار بن ياسر- فقال الزبير كلا و رب الكعبة- إن عمارا لا يفارقه أبدا- فقال الرجل بلى و الله مرارا- فلما رأى الزبير أن الرجل ليس براجع عن قوله- بعث معه رجلا آخر- و قال اذهبا فانظرا فعادا و قالا- إن عمارا قد أتاك رسولا من عند صاحبه-
قال جون فسمعت و الله الزبير يقول- وا انقطاع ظهراه وا جدع أنفاه- وا سواد وجهاه و يكرر ذلك مرارا- ثم أخذته رعدة شديدة- فقلت و الله إن الزبير ليس بجبان- و إنه لمن فرسان قريش المذكورين- و إن لهذا الكلام لشأنا- و لا أريد أن أشهد مشهدا- يقول أميره هذه المقالة- فرجعت إليكم فلم يكن إلا قليل- حتى مر الزبير بنا متاركا للقوم- فاتبعه عمير بن جرموز فقتله- . أكثر الروايات على أن ابن جرموز- قتل مع أصحاب النهر- و جاء في بعضها- أنه عاش إلى أيام ولاية مصعب بن الزبير العراق- و أنه لما قدم مصعب البصرة- خافه ابن جرموز فهرب- فقال مصعب ليظهر سالما- و ليأخذ عطاءه موفورا- أ يظن أني أقتله بأبي عبد الله و أجعله فداء له- فكان هذا من الكبر المستحسن- كان ابن جرموز يدعو لدنياه- فقيل له هلا دعوت لآخرتك- فقال أيست من الجنة- . الزبير أول من شهر سيفه في سبيل الله- قيل له في أول الدعوة- قد قتل رسول الله- فخرج و هو غلام يسعى بسيفه مشهورا- .
و روى الزبير بن بكار- في الموفقيات- قال لما سار علي ع إلى البصرة- بعث ابن عباس فقال ائت الزبير- فاقرأ عليه السلام و قل له يا أبا عبد الله- كيف عرفتنا بالمدينة و أنكرتنا بالبصرة- فقال ابن عباس أ فلا آتي طلحة- قال لا إذا تجده عاقصا قرنه في حزن- يقول هذا سهل- . قال فأتيت الزبير- فوجدته في بيت يتروح في يوم حار- و عبد الله ابنه عنده- فقال مرحبا بك يا ابن لبابة- أ جئت زائرا أم سفيرا- قلت كلا إن ابن خالك يقرأ عليك السلام- و يقول لك يا أبا عبد الله- كيف عرفتنا بالمدينة و أنكرتنا بالبصرة- فقال
علقتهم أني خلقت عصبه
قتادة تعلقت بنشبه
لن أدعهم حتى أؤلف بينهم- قال فأردت منه جوابا غير ذلك- فقال لي ابنه عبد الله- قل له بيننا و بينك دم خليفة و وصية خليفة- و اجتماع اثنين و انفراد واحد- و أم مبرورة و مشاورة العشيرة- قال فعلمت أنه ليس وراء هذا الكلام إلا الحرب- فرجعت إلى علي ع فأخبرته- .
قال الزبير بن بكار- هذا الحديث كان يرويه عمي مصعب- ثم تركه و قال إني رأيت جدي- أبا عبد الله الزبير بن العوام في المنام- و هو يعتذر من يوم الجمل- فقلت له كيف تعتذر منه و أنت القائل-
علقتهم أني خلقت عصبه
قتادة تعلقت بنشبه
لن أدعهم حتى أؤلف بينهم- فقال لم أقله استطراد بلاغي في الكلام على الاستدراج
و اعلم أن في علم البيان بابا- يسمى باب الخداع و الاستدراج- يناسب ما يذكره فيه علماء البيان- قول أمير المؤمنين ع- يقول لك ابن خالك- عرفتني بالحجاز و أنكرتني بالعراق- . قالوا و من ذلك قول الله تعالى- حكاية عن مؤمن آل فرعون- وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ- أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ- وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ- وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ- وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ- إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ- فإنه أخذ معهم في الاحتجاج بطريق التقسيم- فقال هذا الرجل إما أن يكون كاذبا- فكذبه يعود عليه و لا يتعداه- و إما أن يكون صادقا- فيصيبكم بعض ما يعدكم به- و لم يقل كل ما يعدكم به- مخادعة لهم و تلطفا و استمالة لقلوبهم- كي لا ينفروا منه لو أغلظ في القول- و أظهر لهم أنه يهضمه بعض حقه- . و كذلك تقديم قسم الكذب على قسم الصدق- كأنه رشاهم ذلك و جعله برطيلا لهم- ليطمئنوا إلى نصحه- .و من ذلك قول إبراهيم- على ما حكاه تعالى عنه في قوله إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ- لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ- وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً- يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ- فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا- يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ- إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا- يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ- فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا- فطلب منه في مبدأ الأمر- السبب في عبادته الصنم و العلة لذلك- و نبهه على أن عبادة ما لا يسمع و لا يبصر- و لا يغني عنه شيئا قبيحة- ثم لم يقل له إني قد تبحرت في العلوم- بل قال له- قد حصل عندي نوع من العلم لم يحصل عندك- و هذا من باب الأدب في الخطاب- ثم نبهه على أن الشيطان عاص لله فلا يجوز اتباعه- ثم خوفه من عذاب الله إن اتبع الشيطان- و خاطبه في جميع ذلك بقوله- يا أَبَتِ استعطافا و استدراجا- كقول علي ع يقول لك ابن خالك- فلم يجبه أبوه إلى ما أراد- و لا قال له يا بني بل قال- أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ- فخاطبه بالاسم- و أتاه بهمزة الاستفهام المتضمنة للإنكار- ثم توعده فقال- لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا- . قالوا و من هذا الباب- ما روي أن الحسين بن علي ع- كلم معاوية في أمر ابنه يزيد- و نهاه عن أن يعهد إليه- فأبى عليه معاوية- حتى أغضب كل واحد منهما صاحبه- فقال الحسين ع في غضون كلامه- أبي خير من أبيه و أمي خير من أمه- فقال معاوية يا ابن أخي- أما أمك فخير من أمه- و كيف تقاس امرأة من كلب بابنة رسول الله ص- و أما أبوه فحاكم أباك إلى الله تعالى- فحكم لأبيه على أبيك- .
قالوا و هذا من باب الاستدراج اللطيف- لأن معاوية علم أنه إن أجابه بجواب يتضمن الدعوى- لكونه خيرا من علي ع- لم يلتفت أحد إليه- و لم يكن له كلام يتعلق به- لأن آثار علي ع في الإسلام- و شرفه و فضيلته تجل أن يقاس بها أحد- فعدل عن ذكر ذلك إلى التعلق بما تعلق به- فكان الفلج له- . ذكر هذا الخبر نصر الله بن الأثير- في كتابه المسمى بالمثل السائر في باب الاستدراج- . و عندي أن هذا خارج عن باب الاستدراج- و أنه من باب الجوابات الإقناعية- التي تسميها الحكماء الجدليات و الخطابيات- و هي أجوبة إذا بحث عنها لم يكن وراءها تحقيق- و كانت ببادئ النظر مسكتة للخصم- صالحة لمصادمته في مقام المجادلة- . و مثل ذلك قول معاوية لأهل الشام- حيث التحق به عقيل بن أبي طالب- يا أهل الشام ما ظنكم برجل لم يصلح لأخيه- . و قوله لأهل الشام إن أبا لهب المذموم في القرآن باسمه- عم علي بن أبي طالب- فارتاع أهل الشام لذلك و شتموا عليا و لعنوه- . و من ذلك قول عمر يوم السقيفة- أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين- قدمهما رسول الله ص للصلاة- . و من ذلك قول علي ع مجيبا لمن سأله- كم بين السماء و الأرض فقال- دعوة مستجابة- و جوابه أيضا لمن قال له- كم بين المشرق و المغرب- فقال مسيرة يوم للشمس – . و من ذلك قول أبي بكر و قد قال له عمر- أقد خالدا بمالك بن نويرة- سيف الله فلا أغمده- . و كقوله و قد أشير عليه أيضا- بأن يقيد من بعض أمرائه- أنا أقيد من وزعة الله- ذكر ذلك صاحب الصحاح في باب وزع- . و الجوابات الإقناعية كثيرة- و لعلها جمهور ما يتداوله الناس- و يسكت به بعضهم بعضا
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد)، ج 2