خطبه 91 صبحی صالح
91- و من خطبة له ( عليه السلام ) تعرف بخطبة الأشباح
و هي من جلائل خطبه ( عليه السلام )
روى مسعدة بن صدقة عن الصادق جعفر بن محمد ( عليهماالسلام ) أنه قال:
خطب أمير المؤمنين بهذه الخطبة على منبر الكوفة
و ذلك أن رجلا أتاه فقال له يا أمير المؤمنين صف لنا ربنا مثل ما نراه عيانا لنزداد له حبا و به معرفة
فغضب و نادى الصلاة جامعة
فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله
فصعد المنبر و هو مغضب متغير اللون
فحمد الله و أثنى عليه
و صلى على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم قال
وصف اللّه تعالى
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَفِرُهُ الْمَنْعُ وَ الْجُمُودُ
وَ لَا يُكْدِيهِ الْإِعْطَاءُ وَ الْجُودُ
إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ
وَ كُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلَاهُ
وَ هُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ
وَ عَوَائِدِ الْمَزِيدِ وَ الْقِسَمِ
عِيَالُهُ الْخَلَائِقُ
ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ
وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ
وَ نَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ
وَ الطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ
وَ لَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلْ
الْأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ قَبْلَهُ
وَ الْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ لهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ بَعْدَهُ
وَ الرَّادِعُ أَنَاسِيَّ الْأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ
مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ الْحَالُ
وَ لَا كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ
وَ لَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ
وَ ضَحِكَتْ عَنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ
مِنْ فِلِزِّ اللُّجَيْنِ وَ الْعِقْيَانِ
وَ نُثَارَةِ الدُّرِّ
وَ حَصِيدِ الْمَرْجَانِ
مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جُودِهِ
وَ لَا أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ
وَ لَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الْأَنْعَامِ
مَا لَا تُنْفِدُهُ
مَطَالِبُ الْأَنَامِ
لِأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لَا يَغِيضُهُ سُؤَالُ السَّائِلِينَ
وَ لَا يُبْخِلُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ
صفاته تعالى في القرآن
فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ
فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ
وَ اسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ
وَ مَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ
وَ لَا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ( صلى الله عليه وآله )وَ أَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ
فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ
فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللَّهِ عَلَيْكَ
وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ
هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ
الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ
الْإِقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ
فَمَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً
وَ سَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً
فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ
وَ لَا تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ
فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ
هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي
إِذَا ارْتَمَتِ الْأَوْهَامُ لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ
وَ حَاوَلَ الْفِكْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ
أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ
وَ تَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ
لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ
وَ غَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ فِي حَيْثُ لَا تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِهِ رَدَعَهَا
وَ هِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ
مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ
فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ
مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهُ لَا يُنَالُ بِجَوْرِ الِاعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ
وَ لَا تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلَالِ عِزَّتِه
الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ
وَ لَا مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْهِ مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ
وَ أَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ
وَ عَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ
وَ اعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ
مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ
فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ الَّتِي أَحْدَثَتْهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ
وَ أَعْلَامُ حِكْمَتِهِ
فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَ دَلِيلًا عَلَيْهِ
وَ إِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً
فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ
وَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ
فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ
وَ تَلَاحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ
لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ
وَ لَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لَا نِدَّ لَكَ
وَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِينَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ
إِذْ يَقُولُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ
كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ
إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ
وَ نَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ
وَ جَزَّءُوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ
وَ قَدَّرُوكَ عَلَى الْخِلْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ
وَ أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ
وَ الْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ
وَ نَطَقَتْ عَنْهُ
شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ
وَ إِنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ
فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً
وَ لَا فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً
و منهاقَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ
وَ دَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِيرَهُ
وَ وَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ
فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ
وَ لَمْ يَقْصُرْ دُونَ الِانْتِهَاءِ إِلَى غَايَتِهِ
وَ لَمْ يَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ
فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا صَدَرَتِ الْأُمُورُ عَنْ مَشِيئَتِهِ
الْمُنْشِئُ أَصْنَافَ الْأَشْيَاءِ بِلَا رَوِيَّةِ فِكْرٍ آلَ إِلَيْهَا
وَ لَا قَرِيحَةِ غَرِيزَةٍ أَضْمَرَ عَلَيْهَا
وَ لَا تَجْرِبَةٍ أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ
وَ لَا شَرِيكٍ أَعَانَهُ عَلَى ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الْأُمُورِ
فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ
وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ
وَ أَجَابَ إِلَى دَعْوَتِهِ
لَمْ يَعْتَرِضْ دُونَهُ رَيْثُ الْمُبْطِئِ
وَ لَا أَنَاةُ الْمُتَلَكِّئِ
فَأَقَامَ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوَدَهَا
وَ نَهَجَ حُدُودَهَا
وَ لَاءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضَادِّهَا
وَ وَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا
وَ فَرَّقَهَا أَجْنَاساً مُخْتَلِفَاتٍ فِي الْحُدُودِ وَ الْأَقْدَارِ
وَ الْغَرَائِزِ وَ الْهَيْئَاتِ
بَدَايَا خَلَائِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا
وَ فَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وَ ابْتَدَعَهَا
و منها في صفة السماء
وَ نَظَمَ بِلَا تَعْلِيقٍ رَهَوَاتِ فُرَجِهَا
وَ لَاحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا
وَ وَشَّجَ بَيْنَهَا وَ بَيْنَ أَزْوَاجِهَا
وَ ذَلَّلَ لِلْهَابِطِينَ بِأَمْرِهِ
وَ الصَّاعِدِينَ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ حُزُونَةَ مِعْرَاجِهَا
وَ نَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ
فَالْتَحَمَتْ عُرَى أَشْرَاجِهَا
وَ فَتَقَ بَعْدَ الِارْتِتَاقِ صَوَامِتَ أَبْوَابِهَا
وَ أَقَامَ رَصَداً مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ عَلَى نِقَابِهَا
وَ أَمْسَكَهَا مِنْ أَنْ تُمُورَ فِي خَرْقِ الْهَوَاءِ بِأَيْدِهِ
وَ أَمَرَهَا أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلِمَةً لِأَمْرِهِ
وَ جَعَلَ شَمْسَهَا آيَةً مُبْصِرَةً لِنَهَارِهَا
وَ قَمَرَهَا آيَةً مَمْحُوَّةً مِنْ لَيْلِهَا
وَ أَجْرَاهُمَا فِي مَنَاقِلِ مَجْرَاهُمَا
وَ قَدَّرَ سَيْرَهُمَا فِي مَدَارِجِ دَرَجِهِمَا
لِيُمَيِّزَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ بِهِمَا
وَ لِيُعْلَمَ عَدَدُ السِّنِينَ وَ الْحِسَابُ بِمَقَادِيرِهِمَا
ثُمَّ عَلَّقَ فِي جَوِّهَا فَلَكَهَا
وَ نَاطَ بِهَا زِينَتَهَا مِنْ خَفِيَّاتِ دَرَارِيِّهَا
وَ مَصَابِيحِ كَوَاكِبِهَا
وَ رَمَى مُسْتَرِقِي السَّمْعِ بِثَوَاقِبِ شُهُبِهَا
وَ أَجْرَاهَا عَلَى أَذْلَالِ تَسْخِيرِهَا
مِنْ ثَبَاتِ ثَابِتِهَا
وَ مَسِيرِ سَائِرِهَا
وَ هُبُوطِهَا وَ صُعُودِهَا
وَ نُحُوسِهَا وَ سُعُودِهَا
و منها في صفة الملائكة
ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لِإِسْكَانِ سَمَاوَاتِهِ
وَ عِمَارَةِ الصَّفِيحِ الْأَعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ
خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلَائِكَتِهِ
وَ مَلَأَ بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا
وَ حَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا
وَ بَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ
وَ سُتُرَاتِ الْحُجُبِ
وَ سُرَادِقَاتِ الْمَجْدِ وَ وَرَاءَ ذَلِكَ الرَّجِيجِ
الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْهُ الْأَسْمَاعُ
سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الْأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا
فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَى حُدُودِهَا.
وَ أَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ
وَ أَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ
أُولِي أَجْنِحَةٍ
تُسَبِّحُ جَلَالَ عِزَّتِهِ
لَا يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ
وَ لَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ
بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ
جَعَلَهُمُ اللَّهُ فِيمَا هُنَالِكَ أَهْلَ الْأَمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ
وَ حَمَّلَهُمْ إِلَى الْمُرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَ نَهْيِهِ
وَ عَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ
فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ
وَ أَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ الْمَعُونَةِ
وَ أَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ السَّكِينَةِ
وَ فَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُلًا إِلَى تَمَاجِيدِهِ
وَ نَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَةً عَلَى أَعْلَامِ تَوْحِيدِهِ
لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُؤْصِرَاتُ الْآثَامِ
وَ لَمْ تَرْتَحِلْهُمْ عُقَبُ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامِ
وَ لَمْ تَرْمِ الشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا عَزِيمَةَ إِيمَانِهِمْ
وَ لَمْ تَعْتَرِكِ الظُّنُونُ عَلَى مَعَاقِدِ يَقِينِهِمْ
وَ لَا قَدَحَتْ قَادِحَةُ الْإِحَنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ
وَ لَا سَلَبَتْهُمُ الْحَيْرَةُ مَا لَاقَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمَائِرِهِمْ
وَ مَا سَكَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَ هَيْبَةِ جَلَالَتِهِ فِي أَثْنَاءِ صُدُورِهِمْ
وَ لَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَيْنِهَا عَلَى فِكْرِهِمْ
وَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي خَلْقِ الْغَمَامِ الدُّلَّحِ
وَ فِي عِظَمِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ
وَ فِي قَتْرَةِ الظَّلَامِ الْأَيْهَمِ
وَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الْأَرْضِ السُّفْلَى
فَهِيَ كَرَايَاتٍ بِيضٍ
قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ الْهَوَاءِ
وَ تَحْتَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ تَحْبِسُهَا عَلَى حَيْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِيَةِ
قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ
وَ وَصَلَتْ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ
وَ قَطَعَهُمُ الْإِيقَانُ بِهِ إِلَى الْوَلَهِ إِلَيْهِ
وَ لَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ
قَدْ ذَاقُوا حَلَاوَةَ مَعْرِفَتِهِ
وَ شَرِبُوا بِالْكَأْسِ الرَّوِيَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِ
وَ تَمَكَّنَتْ مِنْ سُوَيْدَاءِ
قُلُوبِهِمْ وَشِيجَةُ خِيفَتِهِ
فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَةِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهِمْ
وَ لَمْ يُنْفِدْ طُولُ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ
وَ لَا أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِيمُ الزُّلْفَةِ رِبَقَ خُشُوعِهِمْ
وَ لَمْ يَتَوَلَّهُمُ الْإِعْجَابُ فَيَسْتَكْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ
وَ لَا تَرَكَتْ لَهُمُ اسْتِكَانَةُ الْإِجْلَالِ نَصِيباً فِي تَعْظِيمِ حَسَنَاتِهِمْ
وَ لَمْ تَجْرِ الْفَتَرَاتُ فِيهِمْ عَلَى طُولِ دُءُوبِهِمْ
وَ لَمْ تَغِضْ رَغَبَاتُهُمْ فَيُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ
وَ لَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُنَاجَاةِ أَسَلَاتُ أَلْسِنَتِهِمْ
وَ لَا مَلَكَتْهُمُ الْأَشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ الْجُؤَارِ إِلَيْهِ أَصْوَاتُهُمْ
وَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي مَقَاوِمِ الطَّاعَةِ مَنَاكِبُهُمْ
وَ لَمْ يَثْنُوا إِلَى رَاحَةِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ رِقَابَهُمْ.
وَ لَا تَعْدُو عَلَى عَزِيمَةِ جِدِّهِمْ بَلَادَةُ الْغَفَلَاتِ
وَ لَا تَنْتَضِلُ فِي هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ
قَدِاتَّخَذُوا ذَا الْعَرْشِ ذَخِيرَةً لِيَوْمِ فَاقَتِهِمْ
وَ يَمَّمُوهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ بِرَغْبَتِهِمْ
لَا يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ
وَ لَا يَرْجِعُ بِهِمُ الِاسْتِهْتَارُ بِلُزُومِ طَاعَتِهِ
إِلَّا إِلَى مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهِمْ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ مِنْ رَجَائِهِ وَ مَخَافَتِهِ
لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَةِ مِنْهُمْ
فَيَنُوا فِي جِدِّهِمْ
وَ لَمْ تَأْسِرْهُمُ الْأَطْمَاعُ فَيُؤْثِرُوا وَشِيكَ السَّعْيِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ
لَمْ يَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ
وَ لَوِ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ
وَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهِمْ بِاسْتِحْوَاذِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ
وَ لَمْ يُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ
وَ لَا تَوَلَّاهُمْ غِلُّ التَّحَاسُدِ
وَ لَا تَشَعَّبَتْهُمْ مَصَارِفُ الرِّيَبِ
وَ لَا اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْيَافُ الْهِمَمِ
فَهُمْ أُسَرَاءُ إِيمَانٍ
لَمْ يَفُكَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَيْغٌ وَ لَا عُدُولٌ وَ لَا وَنًى وَ لَا فُتُورٌ
وَ لَيْسَ فِي أَطْبَاقِ السَّمَاءِ مَوْضِعُ إِهَابٍ إِلَّا وَ عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ
أَوْ سَاعٍ حَافِدٌ
يَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ الطَّاعَةِ بِرَبِّهِمْ عِلْماً
وَ تَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِظَماً
و منها في صفة الأرض و دحوها على الماء
كَبَسَ الْأَرْضَ عَلَى مَوْرِ أَمْوَاجٍ مُسْتَفْحِلَةٍ
وَ لُجَجِ بِحَارٍ زَاخِرَةٍ
تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ أَمْوَاجِهَا
وَ تَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِهَا
وَ تَرْغُو زَبَداً كَالْفُحُولِ عِنْدَ هِيَاجِهَا
فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلَاطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا
وَ سَكَنَ هَيْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ بِكَلْكَلِهَا
وَ ذَلَّ مُسْتَخْذِياً
إِذْ تَمَعَّكَتْ عَلَيْهِ بِكَوَاهِلِهَا
فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ
سَاجِياً مَقْهُوراً
وَ فِي حَكَمَةِ الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِيراً
وَ سَكَنَتِ الْأَرْضُ مَدْحُوَّةً فِي لُجَّةِ تَيَّارِهِ
وَ رَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأْوِهِ وَ اعْتِلَائِهِ
وَ شُمُوخِ أَنْفِهِ وَ سُمُوِّ غُلَوَائِهِ
وَ كَعَمَتْهُ عَلَى كِظَّةِ جَرْيَتِهِ
فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ
وَ لَبَدَ بَعْدَ زَيَفَانِ وَثَبَاتِهِ
فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا
وَ حَمْلِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ الْبُذَّخِ عَلَى أَكْتَافِهَا
فَجَّرَ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ مِنْ عَرَانِينِ أُنُوفِهَا
وَ فَرَّقَهَا فِي سُهُوبِ بِيدِهَا وَ أَخَادِيدِهَا
وَ عَدَّلَ حَرَكَاتِهَا بِالرَّاسِيَاتِ مِنْ جَلَامِيدِهَا
وَ ذَوَاتِ الشَّنَاخِيبِ الشُّمِّ مِنْ صَيَاخِيدِهَا
فَسَكَنَتْ مِنَ الْمَيَدَانِ لِرُسُوبِ الْجِبَالِ فِي قِطَعِ أَدِيمِهَا وَ تَغَلْغُلِهَا
مُتَسَرِّبَةً فِي جَوْبَاتِ خَيَاشِيمِهَا
وَ رُكُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الْأَرَضِينَ وَ جَرَاثِيمِهَا
وَ فَسَحَ بَيْنَ الْجَوِّ وَ بَيْنَهَا
وَ أَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاكِنِهَا
وَ أَخْرَجَ إِلَيْهَا أَهْلَهَا عَلَى تَمَامِ مَرَافِقِهَا
ثُمَّ لَمْ يَدَعْ جُرُزَ الْأَرْضِ الَّتِي تَقْصُرُ مِيَاهُ الْعُيُونِ عَنْ رَوَابِيهَا
وَ لَا تَجِدُ جَدَاوِلُ الْأَنْهَارِ ذَرِيعَةً إِلَى بُلُوغِهَا
حَتَّى أَنْشَأَ لَهَا نَاشِئَةَ سَحَابٍ تُحْيِي مَوَاتَهَا
وَ تَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا
أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِ لُمَعِهِ
وَ تَبَايُنِ قَزَعِهِ
حَتَّى إِذَا تَمَخَّضَتْ لُجَّةُالْمُزْنِ فِيهِ
وَ الْتَمَعَ بَرْقُهُ فِي كُفَفِهِ
وَ لَمْ يَنَمْ وَمِيضُهُ فِي كَنَهْوَرِ رَبَابِهِ
وَ مُتَرَاكِمِ سَحَابِهِ
أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِكاً
قَدْ أَسَفَّ هَيْدَبُهُ
تَمْرِيهِ الْجَنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِيبِهِ
وَ دُفَعَ شَآبِيبِهِ.
فَلَمَّا أَلْقَتِ السَّحَابُ بَرْكَ بِوَانَيْهَا
وَ بَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْءِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهَا
أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الْأَرْضِ النَّبَاتَ
وَ مِنْ زُعْرِ الْجِبَالِ الْأَعْشَابَ
فَهِيَ تَبْهَجُ بِزِينَةِ رِيَاضِهَا
وَ تَزْدَهِي بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْطِ أَزَاهِيرِهَا
وَ حِلْيَةِ مَا سُمِطَتْ بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا
وَ جَعَلَ ذَلِكَ بَلَاغاً لِلْأَنَامِ
وَ رِزْقاً لِلْأَنْعَامِ
وَ خَرَقَ الْفِجَاجَ فِي آفَاقِهَا
وَ أَقَامَ الْمَنَارَ لِلسَّالِكِينَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا
فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ
وَ أَنْفَذَ أَمْرَهُ
اخْتَارَ آدَمَ ( عليه السلام )خِيرَةً مِنْ خَلْقِهِ
وَ جَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ
وَ أَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ
وَ أَرْغَدَ فِيهَا أُكُلَهُ
وَ أَوْعَزَ إِلَيْهِ فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ
وَ أَعْلَمَهُ أَنَّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ التَّعَرُّضَ لِمَعْصِيَتِهِ
وَ الْمُخَاطَرَةَ بِمَنْزِلَتِهِ
فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ
مُوَافَاةً لِسَابِقِ عِلْمِهِ
فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ
وَ لِيُقِيمَ الْحُجَّةَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ
وَ لَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ
مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ
وَ يَصِلُ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ
بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسُنِ الْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ
وَ مُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالَاتِهِ
قَرْناً فَقَرْناً
حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ( صلى الله عليه وسلم )حُجَّتُهُ
وَ بَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذْرُهُ وَ نُذُرُهُ
وَ قَدَّرَ الْأَرْزَاقَ فَكَثَّرَهَا وَ قَلَّلَهَا
وَ قَسَّمَهَا عَلَى الضِّيقِ وَ السَّعَةِ فَعَدَلَ فِيهَا
لِيَبْتَلِيَ مَنْ أَرَادَ بِمَيْسُورِهَا وَ مَعْسُورِهَا
وَ لِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ الشُّكْرَ وَ الصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَ فَقِيرِهَا
ثُمَّ قَرَنَ بِسَعَتِهَا عَقَابِيلَ فَاقَتِهَا
وَ بِسَلَامَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا
وَ بِفُرَجِ أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاحِهَا
وَ خَلَقَ الْآجَالَ فَأَطَالَهَا وَ قَصَّرَهَا
وَ قَدَّمَهَا وَ أَخَّرَهَا
وَ وَصَلَ بِالْمَوْتِ أَسْبَابَهَا
وَ جَعَلَهُ خَالِجاً لِأَشْطَانِهَا
وَ قَاطِعاً لِمَرَائِرِ أَقْرَانِهَا
عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِينَ
وَ نَجْوَى الْمُتَخَافِتِينَ
وَ خَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ
وَ عُقَدِ عَزِيمَاتِ الْيَقِينِ
وَ مَسَارِقِ إِيمَاضِ الْجُفُونِ
وَ مَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَانُ الْقُلُوبِ
وَ غَيَابَاتُ الْغُيُوبِ
وَ مَا أَصْغَتْ لِاسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ الْأَسْمَاعِ
وَ مَصَايِفُ الذَّرِّ
وَ مَشَاتِي الْهَوَامِّ
وَ رَجْعِ الْحَنِينِ مِنَ الْمُولَهَاتِ
وَ هَمْسِ الْأَقْدَامِ
وَ مُنْفَسَحِ الثَّمَرَةِ مِنْ وَلَائِجِ غُلُفِ الْأَكْمَامِ
وَ مُنْقَمَعِ الْوُحُوشِ مِنْ غِيرَانِ الْجِبَالِ وَ أَوْدِيَتِهَا
وَ مُخْتَبَإِ الْبَعُوضِ بَيْنَ سُوقِ الْأَشْجَارِ وَ أَلْحِيَتِهَا
وَ مَغْرِزِ الْأَوْرَاقِ مِنَ الْأَفْنَانِ
وَ مَحَطِّ الْأَمْشَاجِ مِنْ مَسَارِبِ الْأَصْلَابِ
وَ نَاشِئَةِ الْغُيُومِ وَ مُتَلَاحِمِهَا
وَ دُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ فِي مُتَرَاكِمِهَا
وَ مَا تَسْفِي الْأَعَاصِيرُ بِذُيُولِهَا
وَ تَعْفُو الْأَمْطَارُ بِسُيُولِهَا
وَ عَوْمِ بَنَاتِ الْأَرْضِ فِي كُثْبَانِ الرِّمَالِ
وَ مُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ بِذُرَا شَنَاخِيبِ الْجِبَالِ
وَ تَغْرِيدِ ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ فِي دَيَاجِيرِ الْأَوْكَارِ
وَ مَا أَوْعَبَتْهُ الْأَصْدَافُ
وَ حَضَنَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ
وَ مَا غَشِيَتْهُ سُدْفَةُ لَيْلٍ
أَوْ ذَرَّ عَلَيْهِ شَارِقُ نَهَارٍ
وَ مَا اعْتَقَبَتْ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الدَّيَاجِيرِ
وَ سُبُحَاتُ النُّورِ
وَ أَثَرِ كُلِّ خَطْوَةٍ
وَ حِسِّ كُلِّ حَرَكَةٍ
وَ رَجْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ
وَ تَحْرِيكِ كُلِّ شَفَةٍ
وَ مُسْتَقَرِّ كُلِّ نَسَمَةٍ
وَ مِثْقَالِ كُلِّ ذَرَّةٍ وَ هَمَاهِمِ كُلِّ نَفْسٍ هَامَّةٍ
وَ مَا عَلَيْهَا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةٍ
أَوْ سَاقِطِ وَرَقَةٍ
أَوْ قَرَارَةِ نُطْفَةٍ
أَوْ نُقَاعَةِ دَمٍ وَ مُضْغَةٍ
أَوْ نَاشِئَةِ خَلْقٍ وَ سُلَالَةٍ
لَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ كُلْفَةٌ
وَ لَا اعْتَرَضَتْهُ فِي حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَةٌ
وَ لَا اعْتَوَرَتْهُ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ وَ تَدَابِيرِ الْمَخْلُوقِينَ مَلَالَةٌ وَ لَا فَتْرَةٌ
بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ
وَ أَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ
وَ وَسِعَهُمْ عَدْلُهُ
وَ غَمَرَهُمْ فَضْلُهُ
مَعَ تَقْصِيرِهِمْ عَنْ كُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ
دعاء
اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ
وَ التَّعْدَادِ الْكَثِيرِ
إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ
وَ إِنْ تُرْجَ فَخَيْرُ مَرْجُوٍّ
اللَّهُمَّ وَ قَدْ بَسَطْتَ لِي فِيمَا لَا أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ
وَ لَا أُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاكَ
وَ لَا أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ الْخَيْبَةِ وَ مَوَاضِعِ الرِّيبَةِ
وَ عَدَلْتَ بِلِسَانِي عَنْ مَدَائِحِ الْآدَمِيِّينَ وَ الثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ الْمَخْلُوقِينَ
اللَّهُمَّ وَ لِكُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ
أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ
وَ قَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلًا عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وَ كُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ
اللَّهُمَّ وَ هَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ
وَ لَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لِهَذِهِ الْمَحَامِدِ وَ الْمَمَادِحِ غَيْرَكَ
وَ بِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لَا يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلَّا فَضْلُكَ
وَ لَا يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلَّا مَنُّكَ وَ جُودُكَ
فَهَبْ لَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ رِضَاكَ
وَ أَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَيْدِي إِلَى سِوَاكَ
إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج6
و من خطبة له عليه السّلام تعرف بخطبة الاشباح و هى التسعون من المختار فى باب الخطب
و هي من خطبه المشهورة روى بعض فقراتها المحدّث العلّامة المجلسي (ره) في البحار من كتاب مطالب السّؤول لمحمّد بن طلحة الشّافعي، و رواها الصّدوق في التّوحيد مسندا باختصار و اختلاف كثير لما أورده السّيد (ره) في الكتاب.
قال: حدّثني عليّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدّقاق ره، قال: حدّثنا محمّد بن أبي عبد اللَّه الكوفي، قال: حدّثنا محمّد بن إسماعيل البرمكيّ، قال: حدّثني عليّ بن العبّاس، قال: حدّثنى إسماعيل بن مهران الكوفيّ عن إسماعيل بن إسحاق الجهني عن فرج بن فروة عن مسعدة بن صدقة قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول: بينا أمير المؤمنين عليه السّلام يخطب على المنبر بالكوفة إذ قام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين صف لنا ربّك تبارك و تعالى لنزداد له حبّا و به معرفة، فغضب أمير المؤمنين و نادى:
الصّلاة«» جامعة فاجتمع النّاس حتّى غصّ المسجد بأهله ثمّ قام متغيّر اللّون فقال: الحمد للّه إلى آخر ما رواه هذا، و شرح ما أورده السيّد ره هنا في ضمن فصول:
الفصل الاول
قال السيّد ره: و هي من جلايل خطبه عليه السّلام و كان سأله سائل أن يصف اللَّه له حتّى كأنّه يره عيانا، فغضب عليه السّلام لذلك: الحمد للّه الّذي لا يفره المنع و الجمود، و لا يكديه الإعطاء و الجود. إذ كلّ معط منتقص سواه، و كلّ مانع مذموم ما خلاه، هو المنّان بفوائد النّعم، و عوائد المزيد و القسم، عياله الخلق، ضمن أرزاقهم، و قدّر أقواتهم و نهج سبيل الرّاغبين إليه، و الطّالبين ما لديه، و ليس بما سئل بأجود منه بما لم يسئل، الأوّل الّذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله، و الآخر الّذي ليس له بعد فيكون شيء بعده، و الرّادع أناسيّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه، ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال، و لا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال، و لو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال، و ضحكت عنه أصداف البحار من فلزّ اللّجين و العقيان، و نثارة الدّرّ و حصيد المرجان، ما أثّر ذلك في جوده، و لا أنفد سعة ما عنده، و لكان عنده من ذخاير الأنعام، ما لا تنفده مطالب الأنام،لأنّه الجواد الّذي لا يغيضه سؤال السّائلين، و لا يبخله إلحاح الملحّين.
اللغة
(الأشباح) جمع الشّبح و هو الشّخص كالأسباب و السبب و (وفر) الشيء يفر من باب وعد وفورا تمّ و كمل، و وفرته وفرا من باب وعد أيضا أتممته و أكملته يتعدّى و لا يتعدّى و المصدر فارق و (أكدى) الرّجل إذا بخل أو قلّ خيره أو قلل عطائه قال سبحانه: وَ أَعْطى قَلِيلًا وَ أَكْدى.
و أصله كدى كرمى و منه أرض كادئة بطيئة الانبات و (الأناسي) جمع الانسان و هو المثال الذى يرى في سواد العين و (الأصداف) جمع الصدف بالتّحريك و هو غشاء الدّر و (الفلز) بكسر الفاء و اللام و تشديد الزاء و كعتلّ قال في القاموس: نحاس أبيض تجعل منه القدور المفرغة أو خبث الحديد أو الحجارة أو جواهر الأرض كلّها أو ما ينفيه الكير من كلّ ما يذاب منها و (العقيان) الذّهب الخالص و يقال هو ما ينبت نباتا و ليس ممّا يحصل من الحجارة و (نثارة) الدّر ما تناثر منه.
قال الشّارح المعتزلي: و تأتي فعالة تارة للجيّد المختار و تارة للسّاقط المتروك فالأوّل نحو الخلاصة و الثاني نحو القلامة و (الدّر) جمع الدّرة و هى اللّؤلؤة العظيمة و (غاض) الماء نقص و غاضه اللَّه كأغاضه أنقصه يتعدّى بنفسه و بالهمز و (أبخلته) وجدته بخيلا.
الاعراب
قوله عليه السّلام: و كلّ مانع مذموم ما خلاه الأصل في خلا أنه لازم يتعدّى إلى المفعول بمن نحو خلت الدار من الانيس، و قد تضمن معنى جاوز فيتعدّى بنفسه كقولهم افعل هذا و خلاك ذمّ أى جاوزك.
قال الرّضى: و الزموها هذا التضمن في باب الاستثناء فيكون ما بعدها في صورة المستثنى بالّا التي هي أمّ الباب و لهذا الغرض التزموا إضمار فاعله إلى أن قال: و فاعل خلا عند النحاة بعضهم، و فيه نظر لأنّ المقصود في جائنى القوم خلا زيدا أنّ زيدا لم يكن معهم أصلا و لا يلزم من مجاوزة بعض القوم إياه و خلوّ بعضهم منه مجاوزة الكلّ و خلوّ الكلّ، و الأولى أن يضمر فيه ضمير راجعا إلي مصدر الفعل المتقدّم أى جائنى القوم خلا مجيئهم زيدا، كقوله تعالى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى.
فيكون مفسر الضمير سياق القول هذا.
و ما فيه مصدرية و لذلك التزم انتصاب ما بعده لأنّ ماء المصدرية تدخل على الفعلية غالبا، و الاسمية قليلا و ليس بعدها اسمية فتعين الفعلية فتعين أن يكون فعلا فوجب النصب و المضاف محذوف أى وقت ما خلا مجيئهم زيدا، و ذلك انّ الحين كثيرا ما يحذف مع ماء المصدرية نحو: ما ذرّ شارق و نحوه ذكر ذلك كلّه نجم الأئمة الرضيّ (ره).
قال: و جوّز الجرمى الجرّ بعد ما خلا و ما عدا على أنّ ما زايدة، و لم يثبت انتهى.
أقول: حمل ما على الزيادة في كلام الامام عليه السّلام على تقدير ثبوته أقرب إلى المعنى كما لا يخفى، و حملها على المصدرية محتاج إلى التكلّف كما هو غير خفيّ على الفطن العارف، و اضافة الفوائد إلى النعم بيانية، و في قوله و عوائد المزيد من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة، و القسم عطف على العوائد، و جملة ضمن في محل النصب على الحالية من ضمير عياله
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة كما ذكره السيد (ره) من جلائل خطبه عليه السّلام و مشاهرها و تسمى بخطبة الأشباح لاشتمالها على ذكر الأشباح و الأشخاص من الملائكة و كيفية خلقهم و بيان أقسامهم، و لعلّ غضبه عليه السّلام على السائل من أجل أنّ غرض السائل كان وصفه تعالى بصفات الأجسام و زعمه جواز معرفته سبحانه بالاكتناه كما يشهد به قوله: كأنه يراه عيانا، فغضب عليه السّلام لذلك و تغيّر لونه لأجل ذلك و وصفه بأوصاف العزّ و الكمال و صفات الجبروت و الجلال فقال: (الحمد للّه الذى لا يفره المنع و الجمود) أى لا يوجب وفور ماله المنع و الامساك (و لا يكديه الاعطاء و الجود) أى لا يقلل اعطائه البذل و الاحسان يقول عليه السّلام إنه سبحانه ليس كملوك الدنيا يتزيد بالامساك و ينتقص بالانفاق إذ مقدوراته سبحانه غير متناهية و ما عنده لا يدخله نقص و لا فناء، بل يدخلان الفاني المحدود و يشهد به ما مرّ في شرح الخطبة السابقة من الحديث القدسي: يا عبادي لو أنّ أولكم و آخركم و انسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلّ انسان مسألته ما نقص ذلك مما عندى شيئا إلّا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر أى لا ينقص شيئا.
و إلى ما ذكرنا أشار عليه السّلام بقوله: (إذ كلّ معط منتقص سواه) و بحار فضله لا ينقص بالافضال، و خزائن كرمه لا تقلّ بالانعام و النوال.
و لما نبّه عليه السّلام على عدم إمكان دخول النقصان في بحر فضله وجوده أردف ذلك بنفى لحوق الذّم بمنعه على وجوده بقوله: (و كلّ مانع مذموم ما خلاه) و ذلك لأنّ كلّ مانع غيره إنما يمنع لخوف الضيق و المسكنة و خشية الفقر و الفاقة أو بخل نفسه الامارة، فحرىّ أن يلحقه المذمّة و الملامة و أمّا اللَّه القدّوس السبحان فلما كان منزها عن صفات النقصان و محالا أن يلحقه طوارى الامكان، فليس منعه لضيق أو بخل، و إنما يمنع بمقتضا حكمة بالغة و داعى مصلحة خفية أو ظاهرة، فمنعه في الحقيقة عين الفضل و الاحسان و العطاء و الامتنان.
كما ورد في الحديث القدسي: إنّ من عبادى من لا يصلحه إلّا الفقر و لو أغنيته لأفسده ذلك و في حديث آخر: و إنّ من عبادى المؤمنين لعبادا لا يصلح لهم أمر دينهم إلّا بالفاقة و المسكنة و القسم في أبدانهم فأبلوهم بالفاقة و المسكنة و القسم فصلح إليهم أمر دينهم و أنا أعلم بما يصلح عليه أمر دين عبادي المؤمنين (هو المنان بفوائد النعم) أى كثير الانعام على العباد و المعطى لهم ابتداء من غير سبق سؤال، و به فسّره الفيروز آبادي.
و يدلّ عليه ما رواه الطريحي قال: و في حديث عليّ عليه السّلام و قد سئل عن الحنّان و المنّان فقال: الحنّان هو الذي يقبل على من أعرض عنه، و المنّان هو الذي يبدء بالنّوال قبل السؤال.
و بذلك ظهر أنّ جعل المنّان مبالغة في المنّة و إظهار الاصطناع كما في شرح البحراني ممّا لا وجه له بل هو تفسير بالرأى في مقابلة النصّ، و لا بأس بذكر كلامه لتوضيح مرامه.
قال في شرح هذه الفقرة: المنة تذكير المنعم للمنعم عليه بنعمته و التطاول عليه بها كقوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ في غير موضع من كتابه و هي صفة مدح للحقّ سبحانه و إن كان صفة ذمّ لخلقه.
و السّبب الفارق أنّ كلّ منعم سواه يحتمل أن يتوقّع لنعمته جزاء و يستفيد كمالا يعود إليه ممّا أفاده، و أيسره توقّع الذكر و يقبح ممّن يعامل بنعمته و يتوقّع جزاء أن يمنّ بها لما يستلزمه المن من التّطاول و الكبر و توقّع الجزاء و الحاجة إليه مع التّطاول و الكبر مما لا يجتمعان في العرف، إذ التّطاول و الكبر إنما يليقان بالغنى عن ثمرة ما تطاول به إلى آخر ما ذكره.
أقول: أمّا قبح الامتنان من المخلوق فممّا لا ريب فيه، لكونه ناشئا من خسّة النّفس و دنائة الهمّة و لذلك مدح اللَّه سبحانه عباده المتّقين بما حكى عنهم بقوله: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً كما أنه لا ريب في جوازه على اللَّه سبحانه، و يدلّ عليه صريح الكتاب و السنّة، و أما جعل المنّان من أسمائه سبحانه بذلك المعنى فلا دليل عليه، بل الدليل قائم علىخلافه حسبما عرفت، مع أنّ إرادة هذا المعنى في هذا المقام أعنى كلام الامام عليه السّلام على فرض ثبوت أصله ممّا يأبى عنه الذوق السّليم و الطبع المستقيم إذ المعنى الذي ذكرنا أولى بالتمدّح منه كما لا يخفى، هذا.
و ما أبعد ما بين ما ذكره الشّارح و ما ذهب إليه السيّد عليخان شارح الصحيفة السّجادية من نفي جواز المنة على اللَّه رأسا كعدم جوازه على الخلق حيث قال في شرح دعاء طلب الحوائج عند شرح قوله عليه السّلام: يا من لا يبيع نعمه بالأثمان، و يا من لا يكدّر عطاياه بالامتنان: الامتنان افتعال من المنّ و هو إظهار الاصطناع و اعتداد الصنائع كان تقول: ألم أعطك كذا، ألم أحسن إليك، ألم أعنك و هو تعبير يكدّر المعروف و ينغصه فلهذا نهى الشّارع عنه بقوله: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى.
و من هنا قيل: سيّان من منح النائل و منّ، و من منع السّائل و ضنّ، و المراد بنفي تكديره تعالى عطاياه بالامتنان نفي الامتنان عنه رأسا فهو من باب نفي الشيء بلازمه أى لا امتنان فلا تكدير.
ثمّ لما كان الامتنان بالمعنى المذكور ذيلة ناشئة عن دنائة النّفس و صغر الهمة و استعظام النعمة و الاحسان كان تعالى منزّه عن الامتنان، لأنّ كلّ نعمة من نعمه تعالى و إن عظمت و كلّ عطيّة من عطاياه و إن جلّت بالنّسبة إلى العبد المعطى و المنعم عليه فهى حقيرة بالنّسبة إلى عظمته جلّت قدرته، و شأنه تعالى أجلّ من أن يكون لها عنده موقع فيمنّ بها و يعتدّ بها على من أعطاه و أنعم عليه، و قول بعض العلماء إنّ المنّة بالمعنى المذكور صفة مدح للحقّ سبحانه و إن كان صفة ذمّ للمخلوق ليس بشيء و عبارة الدّعاء تشهد ببطلانه، انتهى.
أقول: و الانصاف أنّ نفي الامتنان عنه سبحانه رأسا لا وجه له مع نصّ الآية الشّريفة أعنى قوله:
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ بخلافه«» و دلالة الآيات الواردة في مقام الامتنان عليه بل المنفيّ عنه هو الامتنان المتصوّر في الخلايق.
بيان ذلك أنّ الامتنان من المنعم على المنعم عليه تارة يكون لارادة مكافاة الأنعام و طلب العوض من الثّواب الآجل و الثناء العاجل، و بعبارة أخرى لتوقّع منفعة عايدة على المنعم بانعامه، و أخرى إرادة تذكّر المنعم عليه للنّعمة و استعداده بذلك لقبول نعمة اخرى و تحصيل منفعة ثانية من دون أن يكون للمنعم فيه تحصيل فايدة و اكتساب منفعة لنفسه أصلا.
فالامتنان على الوجه الأوّل هو القبيح و إليه يعود منّة الخلايق، و أمّا الثاني فلا قبح فيه أصلا بل هو حسن يشهد به الوجدان فلا غبار على جوازه على اللَّه سبحانه و على ما حقّقته فمعنى قوله عليه السّلام: يا من لا يكدّر عطاياه بالامتنان: أنّ امتنانه لا يوجب التكدّر كما يوجبه امتنان غيره إذ غرضه تعالى منه ليس إلّا محض التّفضل و التّطول و إيصال نعمة أخرى إلى الممتنّ عليه، و غرض غيره منه تحصيل منفعة لنفسه فمنّته يكشف عن عدم خلوص إحسانه و كونه مشوبا بالاغراض النّفسانية، و على ذلك فالمنفىّ في كلام الامام عليه السّلام هو التكدير لا أصل الامتنان و إلّا امتنع الجمع بينه و بين الادلّة الدالّة على الامتنان و يكون مناقضا صريحا لها، فافهم و اغتنم، و اللَّه العالم.
و قوله (و عوائد المزيد و القسم) قال البحرانيّ: أى معتادهما، و هو سهو إذ العوائد جمع العايدة لا العادة حتّى يكون بمعنى المعتاد، و العائدة كما في القاموس المعروف و الصّلة و العطف و المنفعة، و المزيد مصدر إما بمعنى الفاعل أو المفعول و إضافة العايدة إليه من باب إضافة الموصوف إلى صفته لا بالعكس كما هو لازم ما فسّره البحراني، و المراد أنّه سبحانه منّان على العباد بصلاته و عطوفاته الزائدة أو المزيد و قسمه المقدرة.
(عياله الخلق ضمن أرزاقهم و قدّر أقواتهم) لما كان عيال الرّجل عبارة عمن يمونه و ينفق عليه و يصلح حاله استعار لفظه للخلايق بالنّسبة إلى ربّهم لخلقه لهم و تربيته في حقّهم و إصلاحه حالهم في المعاش و المعاد.
قال البحراني: و استعار لفظ الضّمان لما وجب في الحكمة الالهيّة من وجود ما لا بدّ منه في تدبير إصلاح حالهم من الأقوات و الأرزاق و تقدير أقواتهم إعطاء كلّ ما كتب له في اللّوح المحفوظ من زائد و ناقص، انتهى، و هذا هو المشار إليه بقوله سبحانه: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.
و اعلم أنّ الرزق في اللّغة هو العطاء و يطلق على النصيب المعطى، و أمّا في العرف فقالت الأشاعرة هو مطلق ما ينتفع به حيّ مباحا كان أو حراما بالتغذّي أو بغيره، و ذهب أصحابنا كالمعتزلة إلى أنه ما صحّ انتفاع الحيوان به و ليس لأحد منعه منه فلا يكون الحرام رزقا، لأنّ اللَّه سبحانه منع من الانتفاع به و أمر بالزّجر عنه و لا بأس بذكر أدلّة الظرفين ليتّضح الحقّ من البين.
فأقول: استدلّ الأشاعرة بما رووه عن صفوان بن اميّة قال: كنّا عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم إذ جاء عمر بن قرّة فقال: يا رسول اللَّه إنّ اللَّه كتب علىّ الشّقوة فلا أراني أرزق إلّا من دفّي«» بكفّي فأذن لي في الغناء، فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لا آذن لك و لا كرامة و لا نعمة كذبت أى عدوّ اللَّه و اللَّه لقد رزقك اللَّه حلالا طيبا، فاخترت ما حرّم اللَّه عليك مكان ما أحلّ اللَّه لك من حلاله، و بقوله تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها.
تقريب الاستدلال ما ذكره الفخر الرّازي في التفسير الكبير حيث قال: تعلّق أصحابنا بهذه الآية في إثبات أنّ الرّزق قد يكون حراما قالوا: لأنّه ثبت أنّ إيصال الرّزق إلى كلّ حيوان واجب على اللَّه تعالى بحسب الوعد و بحسب الاستحقاق، و اللَّه تعالى لا يخلّ بالواجب، ثمّ قد نرى انسانا لا يأكل من الحلال طول عمره فلو لم يكن الحرام رزقا لكان اللَّه تعالى ما أوصل رزقه إليه فيكون تعالى قد أخلّ بالواجب و ذلك محال، فعلمنا أنّ الحرام قد يكون رزقا.
و اجيب عن الأوّل تارة بالطّعن في السّند، و أخرى بأنّه على تقدير صحّته لا بدّ من تأويله بأنّ إطلاق الرّزق على الحرام فيه لمشاكلة قوله فلا أراني ارزق، على حدّ قوله: و مكروا و مكر اللَّه، و باب المشاكلة و إن كان نوعا من المجاز لكنه واسع كثير الورود في الكتاب و السنة معروف الاستعمال في نظم البلغاء و نثرهم فلا بدّ من المصير إليه جمعا بين الأدلّة.
و عن الثّاني بمنع وجود مادّة النقض إذ لا نسلّم وجود حيوان لا يرزق إلّا بالحرام مدّة عمره، أمّا غير الانسان فواضح إذ لا يتصوّر بالنّسبة إليه حلّ و لا حرمة.
أمّا الانسان فلأنّه في أيّام الصّبا و عدم التّكليف لا يتّصف ما يأكله بالحرمة كعدم اتصافه بالاباحة، بل هو كالحيوان في عدم اتصاف أفعاله بشيء من الأحكام الخمسة.
و أمّا بعد البلوغ فلأنّه بعد ما كان الرّزق أعمّ من الغذاء باتفاق المعتزلة و الأشاعرة يشمل التنفّس في الهوا و معلوم أنه مباح في حقّه قطعا فلم يوجد حيوان لا يرزق إلّا بالحرام طول عمره، و يوضحه أنّه لو مات انسان قبل أن يأكل شيئا حلالا أو حراما لزم أن يكون غير مرزوق فما هو جواب الأشاعرة فهو جوابنا.
و استدلّ المعتزلة على المذهب المختار بقوله سبحانه: وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ حيث مدحهم بانفاقهم من رزقة فلا بدّ أن يكون الرّزق حلالا إذ الانفاق من الحرام بمعزل عن إيجاب المدح.
أقول: و لا يخفى ما فيه: إذ يجوز جعل من تبعيضيّة فيكون معنى الآية أنّهم ينفقون بعض ما رزقهم اللَّه، و مدحهم بذلك يستلزم أن يكون ما أنفقوه حلالا و لا يستلزم أن يكون جميع ما رزقهم اللَّه حلالا، و هو واضح.
و استدلّ بعض أصحابنا بما رواها العامة و الخاصّة من خطبته صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في حجّة الوداع و هي صريحة غير قابلة للتّأويل. و رواها الكلينيّ باسناده إلى الامام أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في حجّة الوداع: ألّا إنّ الرّوح الأمين نفث في روعى أنه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها، فاتّقوا اللَّه و أجملوا في الطلب و لا يحملنكم استبطاء شيء من الرّزق أن تطلبوه بشيء من معصية اللَّه، فانّ اللَّه تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا و لم يقسّمها حراما، فمن اتّقى اللَّه و صبر أتاه رزقه من حلّه، و من هتك حجاب ستر اللَّه و عجّل و أخذه من غير حلّه قصّ به من رزقه الحلال و حوسب عليه يوم القيامة، هذا.
و بقى الكلام في أنّ الرزق هل يقبل الزيادة و النّقصان بالسّعى و عدمه ظاهر بعض الأخبار العدم، و هو ما رواه في الكافى باسناده إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: ايّها النّاس اعلموا أنّ كمال الدّين طلب العلم و العمل به ألا و إنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال إنّ المال مقسوم مضمون لكم قد قسّمه عادل بينكم و ضمنه و سيفى لكم، و العلم مخزون عند أهله و قد امرتم بطلبه من أهله فاطلبوه.
و في دعاء الصّحيفة السجادية على صاحبها آلاف الصّلاة و السّلام و التّحية جعل لكلّ روح منهم قوتا معلوما مقسوما من رزقة لا ينقص من زاده ناقص و لا يزيد من نقص منهم زائد، يعنى أنّ من زاد اللَّه رزقه منهم لا ينقصه ناقص، و من نقصه سبحانه لا يزيده زايد، و تقديم المفعول في الفقرتين لمزيد الاعتناء ببيان فعله من الزيادة و النقصان و هو نصّ في أنّ غيره تعالى لا يستطيع أن يتصرّف في الرزق المقسوم بالزيادة و النّقص.
و في رواية اخرى: إنّ أرزاقكم تطلبكم كما تطلبكم آجالكم فلن تفوتوا الأرزاق كما لم تفوتوا الآجال.
و المستفاد من الأدلّة الاخر مدخلية الطلب و السّعى فيها، مثل ما رواه في الوسائل من كنز الفوائد للكراجكى قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: الدّنيا دول فاطلب حظك منها بأجمل الطلب.
و فيه عن شيخنا الطوسي قدّس اللَّه روحه باسناده عن عليّ بن عبد العزيز قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: ما فعل عمر بن مسلم قلت: جعلت فداك أقبل على العبادة و ترك التجارة، فقال: ويحه أما علم أنّ تارك الطلب لا يستجاب له دعوة، إنّ قوما من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لما نزلت: وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.
اغلقوا الأبواب و أقبلوا على العبادة و قالوا: قد كفينا، فبلغ ذلك النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فأرسل اليهم فقال: ما حملكم على ما صنعتم فقالوا: يا رسول اللَّه تكفّل اللَّه لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة، فقال: إنّه من فعل ذلك لم يستجب له عليكم بالطلب.
و عن الكلينيّ باسناده عن عمر بن يزيد قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: أرأيت لو أنّ رجلا دخل بيته و أغلق بابه أ كان يسقط عليه شيء من السّماء و عن أحمد بن فهد في عدّة الدّاعي عن عمر بن يزيد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: إنى لأركب في الحاجة التي كفانيها اللَّه، ما أركب فيها إلّا لالتماس أن يراني اللَّه اضحى في طلب الحلال أما تسمع قول اللَّه عزّ و جلّ: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أرأيت لو أنّ رجلا دخل بيتا و طين عليه بابه و قال: رزقى ينزل علىّ كاين يكون هذا أما أنّه يكون أحد الثّلاثة الذين لا يستجاب لهم دعوة، قلت: من هؤلاء قال عليه السّلام: رجل عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له، لأنّ عصمتها في يده و لو شاء أن يخلّى سبيلها، و الرّجل يكون له الحقّ على الرجل فلا يشهد عليه فيجحد حقّه فيدعو عليه فلا يستجاب له لأنّه ترك ما امر به، و الرجل يكون عنده الشّيء فيجلس في بيته فلا ينتشر و لا يطلب و لا يلتمس الرّزق حتّى يأكله فيدعو فلا يستجاب له، و بمعناها روايات اخر.
و يمكن الجمع بينها و بين الأخبار السّابقة بجعل الرزق على قسمين: أحدهما ما ليس للطلب و السعى مدخلية فيه، و الثاني ما لا ينال إلّا بالطلب فيحمل الأخبار السّابقة على القسم الأوّل، و الأدلّة الأخيرة على القسم الثّاني.
و يشهد على هذا الجمع ما رواه في الوسائل من مقنعة المفيد قال: قال الصادق عليه السّلام: الرزق مقسوم على ضربين: أحدهما و اصل إلى صاحبه و إن لم يطلبه، و الآخر معلّق بطلبه فالذى قسّم للعبد على كلّ حال آتيه و إن لم يسع له و الذي قسّم له بالسّعى فينبغي أن يلتمسه من وجوهه و هو ما أحلّه اللَّه دون غيره، فان طلبه من جهة الحرام فوجده حسب عليه برزقه و حوسب به.
(و نهج سبيل الراغبين إليه و الطالبين ما لديه) كما قال سبحانه: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً.
أراد أنّه تعالى أوضح السّبيل للراغبين إلى النظر إلى وجهه الكريم، و الطالبين لما عنده من الفوز العظيم بما وضعه لهم من الشرع القويم و الدين المستقيم (و ليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل) تنزيه له سبحانه عن صفات الخلق فانّهم يتحركون بالسؤال و تهزهم الطلبات فيكونون بما سألهم السائل أجود منهم بما لم يسألوا، لكونه أسهل عندهم و أقرب إلى الانجاح، إذ السائل لا يسأل ما ليس في وسع المسئول عنه و ما هو أعزّ عنده و لذلك كانوا بما سئلوا أجود، و أما اللَّه تبارك و تعالى فليس في عموم جوده و خزانة كرمه تفاوت بين المسئول و غير المسئول.
بيان ذلك على ما حقّقه الشّارح البحراني (ره) أنّ فيضان ما صدر عنه سبحانه له اعتبار ان: أحدهما بالنظر إلى جوده، و هو من تلك الجهة غير مختلف في جميع الموجودات بل نسبتها إليه على سواء بذلك الاعتبار فلا يقال: هو بكذا أجود منه بكذا و إلّا لاستلزم ذلك أن يكون ببعض الأشياء أبخل أو اليها أحوج فيلزمه النقصان تعالى اللَّه عن ذلك علوّا كبيرا.
الثّانى بالنظر إلى الممكن نفسه، و الاختلاف الواقع في القرب و البعد إلى جوده إنّما هو من تلك الجهة فكلّ ممكن كان أتمّ استعدادا و أقبل للوجود و أقلّ شرطا و معاندا كان أقرب إلى جوده.
إذا عرفت ذلك ظهر لك أنّ السّائل إن حصل له ما سأله من اللَّه دون ما لم يسأل فليس حرمانه مما لم يسأل لعزّته عند اللَّه، و ليس بينه و بين المسئول بالنسبة إلى جوده تفاوت، بل إنّما خصّ بالمسئول لوجوب وجوده له عند تمام قبوله له بسؤاله دون ما لم يسأله و لو سأل ما لم يسأله و استحقّ وجوده لما كان في الجود الالهى بخل به و لا منع في حقه، و ان عظم خطره و جلّ قدره و لم يكن له أثر نقصان في خزائن ملكه و عموم جوده.
(الأوّل الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله، و الآخر الذى ليس له بعد فيكون شيء بعده) قد سبق في شرح الخطبة الرابعة و الستين معنى أوليّته و آخريته تعالى و ظهر لك هناك أن أوليّته لا ينافي آخريّته، و آخريّته لا ينافي أوليّته و نزيد هنا بيانا و نقول: إنّ الأشياء في سلسلة الوجود بداية و نهاية منتهية إليه سبحانه، فهو أوّل الأشياء و آخرها ليس شيء قبله و لا شيء بعده.
قال النيسابوري في تفسيره: معنى الأول و الآخر أنه أوّل في ترتيب الوجود و آخر إذا عكس الترتيب، فانه ينطبق على السلسلة المترتبة من العلل إلى المعلولات و من الأشرف إلى الأخسّ و على الاخذ من الوحدة إلى الكثرة مما يلي الأزل إلى ما يلي الأبد و مما يلي المحيط إلى ما يقرب من المركز، فهو تعالى أوّل بالترتيب الطبيعى و آخر بالترتيب المنعكس، انتهى.
و مراده بالترتيب المنعكس أنّ الأشياء إذا نسبت إلى أسبابها وقفت عنده، و ذلك انّك إذا نظرت إلى وجود شيء و فتّشت عن سببه ثمّ عن سبب سببه و هكذا فتنتهى بالأخرة إليه تعالى، لأنّه آخر ما ينحلّ إليه اجتماع أسباب الشّيء، فظهر بذلك أن كونه أوّلا و آخرا إنّما هو بالنّظر إلى ذاته المقدّس لا باعتبار تقدّمه زمانا و تأخّره زمانا، لكون الزمان متأخّرا عنه تعالى إذ هو من لواحق الحركة المتأخّرة عن الجسم المتأخّر عن علّته، فلا يلحقه القبليّة و البعديّة الزمانية فضلا أن تسبق عليه أو تلحق به، فلم يكن شيء قبله و لا بعده لا من الزمانيات و لا من غيرها.
و ذكر الشّارح المعتزلي في المقام وجها آخر و هو أن يكون المراد أنه الذى لم يكن محدثا أى موجودا قد سبقه عدم فيقال إنه مسبوق بشيء من الأشياء اما المؤثر فيه او الزمان المقدّم عليه و أنه ليس بذات يمكن فناؤها و عدمها فيما لا يزال فيقال إنه ينقضي و ينصرف فيكون بعده شيء من الأشياء الزمان أو غيره.
(و الرادع اناسىّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه) أراد به امتناع رؤيته سبحانه لكونه تعالى منزها عن الجهة و المكان، و الباصرة لا تتعلّق إلّا بما كان فيهما و قد تقدّم تفصيل ذلك و تحقيقه بما لا مزيد عليه في شرح الخطبة التاسعة و الأربعين و هذا اللّفظ و إن كان بظاهره يعطي مذهب الأشاعرة من أنّ اللَّه يجوز إداركه و رؤيته و لكنه خلق في الأبصار مانعا عن إدراكه، إلّا أنّه لا بدّ من تأويله و حمله على ما ذكرنا بعد قيام الأدلّة القاطعة من العقل و النقل على استحالة إدراكه من حيث ذاته.
(ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال) أراد بذلك كونه منزّها عن لحوق الزمان و عن التغيّرات الجارية على الزّمانيات فانّ مبدء التّغيرات و الاختلاف في الأحوال هو الزمان، فلما كان متعاليا عن الزمان كان منزّها عن اختلاف الحالات الذي هو من لواحق الامكان.
و يوضح ذلك ما رواه في الكافي باسناده عن ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن قول اللَّه عزّ و جلّ: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ.
و قلت: أمّا الأوّل فقد عرفناه، و أمّا الآخر فبيّن لنا تفسيره، فقال: إنه ليس شيء إلّا يبيد أو يتغيّر أو يدخله التغيّر و الزوال أو ينتقل من لون إلى لون و من هيئة إلى هيئة و من صفة إلى صفة و من زيادة إلى نقصان و من نقصان إلى زيادة إلّا ربّ العالمين فانّه لم يزل و لا يزال بحالة واحدة، هو الأوّل قبل كلّ شيء و هو الآخر على ما لم يزل، و لا يختلف عليه الصفات و الأسماء كما تختلف على غيره مثل الانسان الذي يكون ترابا مرّة، و مرّة لحما و دما و مرّة رفاتا و رميما، و كالبسر الذي يكون مرّة بلحا«»، و مرّة بسرا، و مرّة تمرا، فتتبدّل عليه الأسماء و الصّفات و اللَّه عزّ و جلّ بخلاف ذلك.
(و لا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال) أراد بذلك تنزيهه عن الكون في المكان لاستلزامه الافتقار الذي هو من صفات الامكان و إذا لم يكن في مكان فلا يجوز عليه الانتقال منه إلى غيره، إذ جواز الانتقال انما هو من شأن ذي المكان بل: هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ.
و نسبة جميع الأمكنة إليه تعالى على سواء: وَ هُوَ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ.
و قد مرّ تحقيق ذلك في شرح الفصل الخامس و السّادس من فصول الخطبة الأولى فتذكر.
(و لو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال و ضحكت عنه أصداف البحار من فلزّ اللّجين و العقيان و نثارة الدّر و حصيد المرجان ما أثّر ذلك في جوده) أشار عليه السّلام بذلك إلى سعة جوده سبحانه و عموم كرمه و كمال قدرته و عدم تناهي مقدوراته، و لا يخفى ما فيه من فخامة اللفظ مع عظم المعنى، حيث إنه عليه السّلام شبّه المعادن بحيوان يتنفّس فيخرج من جوفه الهواء، و كذلك المعادن يخرج من بطونها الفلزات، ثمّ شبّه الأصداف بانسان يضحك و أثبت لها الضّحك بملاحظة أنّ الصّدف أوّل ما ينشقّ و ينفتح و يبد و منه اللؤلؤ يشبه بفم الانسان الضاحك و اللؤلؤ فيه يشبه بالاسنان و اللّحمة فيه تشبه اللّسان في رقّة طرفه و لطافته.
و لما ذكر ما يخرج من المعادن و الأصداف مجملا، فصّل بقوله: من فلزّ اللّجين و العقيان، و هو تفسير لما يخرج من معادن الجبال و إنما خصّهما بالذكر مع عدم الاختصاص لأنّهما أعظم ما يتنافس فيه المتنافسون و يغتنمه أبناء الزمان، و لا عبرة بالنحاس و الرّصاص و نحوهما في جنبهما.
و بقوله: و نثارة الدّر و حصيد المرجان، و هو بيان لما يخرج من الأصداف و الدّر كبار اللؤلؤ و المرجان صغاره و لصغره شبهه عليه السّلام بالحبّ الحصيد و ربما يطلق المرجان على الخرز الأحمر المعروف قال الشاعر:
أدمى لها المرجان صفحة خدّه و بكى عليها اللّؤلؤ المكنون
هو خرز يخرج من البحر أيضا، و ربما فسّر به قوله: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ… يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ.
و لكنه ليس مرادا في كلام الامام عليه السّلام و لا يمكن حمله عليه كما هو ظاهر.
و كيف كان فالمقصود أنه سبحانه لو بذل جميع ما في الأرض من الكنوز و المعادن البرّية و البحرية لأحد لم يؤثر ذلك في جوده (و لا أنفد سعة ما عنده) من خزائن كرمه (و لكان عنده من ذخائر الأنعام ما لا تنفده مطالب الأنام) و ذلك لعدم إمكان إحصاء ما عنده بعدّ، و عدم وقوفه و انتهائه إلى حدّ (لأنه الجواد الذي لا يغيضه سؤال السّائلين و لا يبخله الحاح الملحّين) يعنى لا يوجب سؤال السّائلين على كثرته نقصانا في جوده و لا إصرار المصرّين بخلا في كرمه، لأنّ البخل و النقصان من توابع المزاج و لو احق الامكان، و هو منزّه عن ذلك بالضرورة و العيان، بل عنده نيل السؤلات و إنجاح الحاجات، و ما يسأله السائلون على كثرته يسير في جوده، و ما يستوهبه الطالبون على خطره حقير في وسعه و كرمه لا يضيق عن سؤال أحد، و يده بالعطاء أعلى من كلّ يد.
الترجمة
از جمله خطب آن حضرتست كه معروف است بخطبه اشباح، و اين از خطبه هاى جليله او است و بود سؤال نمود سائلى از او اين كه وصف كند پروردگار عالم را از براى او باندازه كه گويا آنرا آشكارا مى بيند پس غضب كرد آن حضرت از اين جهة و فرمود: حمد و ثنا خدائى را سزاست كه بسيار نمى گرداند مال او را منع و امساك نمودن، و كم نمى گرداند عطاء او را بذل و بخشش كردن از جهت اين كه هر عطا كننده كم كننده است مال خود را سوى او، و هر منع نماينده مذموم است غير از حضرت او سبحانه.
او است بسيار احسان كننده بفوايد نعمتها و بمنفعتهاى زايده و قسمتهاى مقدره، عيال او است مخلوقات، ضامن شده است بروزيهاى ايشان و مقدر فرموده است قوتهاى ايشان را، واضح نموده است راه راغبان را بسوى خود و راه طالبان را به آن چه نزد او است، و نيست او به آن چه كه سؤال كرده شده با جودتر از او به آن چه كه درخواسته نشده.
أوّلى است كه نيست او را پيش تا اين كه باشد چيزى قبل از او، و آخرى است كه نيست او را بعد تا اين كه شود چيزى پس از آن، منع كننده است مردمك هاى ديدهها را از اين كه برسد بذات او يا درك نمايد او را، مختلف نشده است بر او روزگار پس مختلف شود از او حال، و نبوده است در مكان تا جايز باشد براو انتقال.
و اگر ببخشد آنچه كه نفس كشيده است از او معدنهاى كوهها و خنديده است از او صدفهاى درياها كه عبارت باشد از گداخته نقره و طلا و از پاشيده درّ در ديده مرجان، اثر نمىكند اين همه در جود واجب الوجود، و تمام نمىسازد وسعت آنچه را كه نزد او است، و هر آينه هست نزد او از ذخيرهاى نعمتها آن قدرى كه بپايان نمىرساند آنرا مطلوبهاى خلايق از جهت آنكه او است جواد و بخشنده كه ناقص نمىنمايد جود او را سؤال سؤال كنندهها، و بخيل نمىسازد او را اصرار و مبالغه نمودن مبالغه كنندهها.
الفصل الثاني
فانظر أيّها السّائل فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمَّ به، و استضيء بنور هدايته، و ما كلّفك الشّيطان علمه ممّا ليس في الكتاب عليك فرضه، و لا في سنّة النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و أئمّة الهدى أثره، فكل علمه إلى اللَّه سبحانه، فإنّ ذلك منتهى حقّ اللَّه عليك، و اعلم أنّ الرّاسخين في العلم هم الّذين أغناهم عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح اللَّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، و سمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كهنه رسوخا، فاقتصر على ذلك، و لا تقدّر عظمة اللَّه سبحانه على قدر عقلك، فتكون من الهالكين.
هو القادر الّذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته، و حاول الفكر المبرّء من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته، و تولّهت القلوب إليه لتجري في كيفيّة صفاته، و غمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصّفات لتنال علم ذاته، ردعها و هي تجوب مهاوي سدف الغيوب، متخلّصة إليه سبحانه فرجعت إذ جبهت معترفة بأنّه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته، و لا تخطر ببال أولي الرّويّات خاطرة من تقدير جلال عزّته، الّذي ابتدع الخلق على غير مثال امتثله، و لا مقدار احتذى عليه، من خالق معبود كان قبله، و أرانا من ملكوت قدرته و عجايب ما نطقت به آثار حكمته و اعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قوّته، ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته، و ظهرت في البدائع الّتي أحدثها آثار صنعته، و أعلام حكمته، فصار كلّ ما خلق حجّة له، و دليلا عليه، و إن كان خلقا صامتا فحجّته بالتّدبير ناطقة، و دلالته على المبدع قائمة. و أشهد أنّ من شبّهك بتباين أعضاء خلقك، و تلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك، لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، و لم يباشر قلبه اليمين «اليقين خ» بأنّه لا ندَّ لك، و كأنّه لم يسمع تبرّء التّابعين من المتبوعين، إذ يقولون: «تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ» كذب العادلون بك إذ شبّهوك بأصنامهم، و نحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم، و جزّأوك تجزئة المجسّمات بخواطرهم، و قدّروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم، و أشهد أنّ من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك، و العادل بك كافر بما تنزّلت به محكمات آياتك، و نطقت عنه شواهد حجج بيّناتك، و أنّك أنت اللَّه الّذي لم تتناه في العقول فتكون في مهبّ فكرها مكيفا، و لا في رويّات خواطرها فتكون محدودا مصرّفا.
اللغة
(رسخ) في العلم يرسخ من باب منع رسوخا إذا ثبت فيه و (الاقتحام) الدّخول في الشّيء مغالبة و بشدّة من غير رويّة و (السّدد) جمع السدّة كغرف و غرفة و هي كالسّقيفة فوق باب الدار ليقيها من المطر، و قيل: هي الباب نفسه و منه حديث أمّ سلمه أنّها قالت لعايشة لما أرادت الخروج إلى البصرة إنّك سدّة بين رسول اللَّه و بين امّته فمتى اصيب ذلك الباب شيء فقد دخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في حريمه.
و (التعمّق) في الأمر المبالغة لطلب أقصى غايته و (ارتمى) القوم بالنّبل اى تراموا و (خطرات الوساوس) ما تقع في البال و في بعض النسخ خطر الوساوس و هو بسكون الطاء الهاجس«» كالخاطر و (تولّهت) القلوب إليه أصابها الوله و هو بالتحريك التحيّر أو ذهاب العقل و (غمض) الحق غموضا من باب قعد خفى مأخذه و غمض بالضم لغة و (علم ذاته) قال الشّارح المعتزلي: أنكر قوم جواز إطلاق الذّات على اللَّه سبحانه لأنّها لفظة تأنيث و الباري سبحانه منزّه عن الأسماء و الصّفات المؤنثة، و أجاز آخرون إطلاقها عليه و استعمالها فيه لوجهين: أحدهما أنها جاءت في الشعر القديم قال جنيب الصخار عند صلبه:
و ذلك في ذات الاله و ان يشاء
يبارك على أوصال شلو«» موزّع«»
و يروى ممرّغ أى مفرّق و قال النابغة:
محلّتهم ذات الاله و دينهم
قديم فما يخشون غير العواقب
و الثّاني أنها لفظة اصطلاحية لأنها على مؤنّث لكنها تستعمل ارتجالا في مسمّاها الذي عبّر عنه بها أرباب النّظر الالهى كما استعملوا لفظ الجوهر و العرض في غير ما كان أهل اللّغة يستعملونها فيه.
و (جاب) الأرض يجوبها جوبا قطعها و (المهاوى) جمع المهواة و هي ما بين الجبلين و (السّدف) جمع السدفة و هي الظلمة و (جبهه) كمنعه ضرب جبهته و ردّها و (عسف) عن الطّريق مال و عدل كاعتسف و تعسّف أو خبط على غير هداية و (المثال) المقدار يقال: هذا على مثاله أى على اره و صفة الشيء يقال هذا على مثال ذاك أى على صفته و (امتثله) و تمثّل به أى اقتداه و اتّبعه يقال: امتثل طريقته إذا تبعها فلم يعدها و (حذا) النعل بالنعل أى قطعها و قدرها عليها و حذا حذو زيد إذا فعل فعله.
و (المساك) ما يمسك به و (التلاحم) كالالتحام التلائم و الالتئام لفظا و معنى يقال: تلاحم الجرح و التحم للبرء إذا التأم و (الحقاق) جمع حقه يقال: إنه لنزع الحقاق أى منازع في صغار الأشياء مأخوذ من حقاق العرفط«» و هي صغاره و (المحتجبة) بصيغة المفعول المستترة أى المستورة و في أكثر النسخ بصيغة الفاعل أى المتخذة لأنفسها حجابا ففائدة الافتعال الاتحاد و (اليمين) إما بمعنى القوّة أو بمعنى القسم و في بعض النسخ اليقين بدله و هو أظهر إلّا أنّ الأوّل أبلغ كما تطلع عليه و (النّد) المثل و (العادلون بك) من العدل و هو المثل و النظير و منه: عدلوا باللّه، أى أشركوا و جعلوا له مثلا و (النحلة) النسبة بالباطل و منه انتحال المبطلين و (الخلقة) بالكسر الفطرة كالخلق.
الاعراب
الاقرار بالضمّ فاعل أغناهم، و علما منصوب على التميز، و رسوخا مفعول ثان لسمّى، و ردعها جواب اذا ارتمت، و جملة و هي تجوب في محل النصب على الحال و العامل ردع، و متخلّصة حال أيضا إما من مفعول ردع أو فاعل تجوب، و معترفة حال من فاعل رجعت، و من خالق متعلّق بمقدّر صفة بمقدار أى صادر من خالق أو مأخوذ من خالق.
و جملة و أرانا عطف على ابتدع، و اعتراف بالجرّ عطف على عجائب، و إلى أن متعلّق بالحاجة، و ما دلّنا مفعول ثان لأرانا، و جملة و ظهرت عطف على ابتدع أيضا، و لم يعقد بالبناء على الفاعل خبران، و غيب ضميره بالنصب مفعوله، و في بعض النسخ بالبناء على المفعول فيكون غيب ضميره بالرفع سادا مسدّ الفاعل و الباء في قوله بما تنزّلت سببية.
المعنى
اعلم أنه عليه السّلام لما حمد اللَّه سبحانه و أثنى عليه في الفصل السّابق بما يليق ذاته تعالى من صفات الجمال و نعوت الجلال، عقّبه بهذا الفصل المتضمّن لتنبيه السّائل على خطائه في سؤاله الناشي عن توهّمه جواز معرفة اللَّه سبحانه على وجه تكون بمنزلة الرّؤية بالعيان، و لما كان ذلك محالا في حقّ اللَّه القدّوس السّبوح السّبحان أوجب ذلك السؤال غضبه و تغيّر لونه عليه السّلام كما تقدّم ذكره سابقا.
و هذا الفصل مشتمل على مقاصد ثلاثة.
المقصد الاول
متضمّن لتأديب السّائل و لساير النّاس من الحاضرين و الغائبين في وصفهم للّه سبحانه و لتعليمهم كيفية السلوك في مدح اللَّه و الثناء عليه بما هو أهله، و للنّهي عن التعمّق و الخوض في ذات اللَّه و صفاته، و التّكلف فيها بما فوق الاستطاعة، و الخطاب فيه و إن كان مخصوصا بالسّائل إلّا أنّه عام لجميع النّاس، إذا لعبرة بعموم الغرض لا بخصوص الخطاب و المخاطب و لذلك نادى: الصّلاة جامعة و قصد اجتماع النّاس.
و كيف كان و إلى ما ذكرنا نبّه بقوله: (فانظر أيّها السّائل فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمّ به و استضيء بنور هدايته) أمر عليه السّلام بالرّجوع إلى القرآن الكريم و الكتاب الحكيم و الاقتداء به و الاستضائة بأنوار هدايته و الأخذ بأوصاف القدس و الجلال و نعوت العظمة و الكمال المدرجة فيه، فانه أدلّ دليل و أوضح سبيل و هو كلام الحقّ سبحانه و هو أعلم بصفاته من غيره فما وصف به فيه نفسه فهو الحقّ أحقّ أن يتّبع، و ما نزّه ذاته عنه فهو الباطل ينبغي تنزيهه منه.
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ.
و قد دلّت الآيات الكريمة على أنّه تعالى ربّ، رحمان، رحيم، شهيد، عليم، حكيم، قادر، قاهر، قديم، خالق، رازق، كريم، سميع، بصير، خبير، غفور، شكور، مجير، عزيز، متكبّر، جبار، قوى، منتقم، قهار، إلى غير هذه ممّا فيها من الأسماء الحسنى و الأمثال العليا، و قد تضمّنت مضافا إلى ذلك أنه «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» «وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» «وَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ».
فانّ هذه الآيات الثلاث نصّ في عدم إمكان معرفته حقّ المعرفة و عدم جواز إدراكه بالأبصار و بمشاهدة العيان أما الاية الاولى فظاهرة و أما الثانية فلأنّ كلّ من أبصر شيئا فقد أحاط به علما لا خلاف لأحد فيه و أما الثالثة فلأنّ الابصار عبارة عن حصول صورة الشيء في حسّ البصر فما لا مثل له لا يمكن حصول صورته في الحسّ و حيث إنه ليس كمثله شيء امتنع تعلّق الأبصار به فظهر من كلّ ذلك بطلان ما توهّمه السّائل.
و نظير إرشاده عليه السّلام للسّائل إلى الرجوع إلى القرآن و الائتمام به إرشاد أبي الحسن الرّضا عليه السّلام لأبي هاشم الجعفري إلى الرجوع إليه و الأخذ به على ما رواه في الكافي عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن أبي هاشم الجعفري عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام قال: سألته عن اللَّه هل يوصف فقال عليه السّلام: أما تقرء القرآن قلت: بلى، قال: أما تقرء قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ.
قال: فتعرفون الأبصار قلت: بلى، قال: ما هي قلت: أبصار العيون قال عليه السّلام: إنّ أوهام القلوب أكبر من أبصار العيون، فهو لا يدركه الأوهام و هو يدرك الأوهام.
فانّ السّائل لما استفهم عن جواز وصفه تعالى بالرّؤية أراد عليه السّلام التنبيه و الارشاد له على نفي الرّؤية مطلقا عنه تعالى بآية القرآن، و لما ظهر من حال السّائل أنه قرء القرآن و قرء قوله تعالى: لا تدركه الأبصار، و لم يعرف من الأبصار إلّا أبصار العيون عرّفه عليه السّلام أنّ أوهام القلوب أكبر و أقوى في باب الادراك من أبصار العيون، لسعة دائرة الاولى و قصور دائرة الثانية من حيث إنّ الوهم رئيس الحواس الظّاهرة و الباطنة و مستخدمها و مستعملها، كما أنّ القلب أعنى العقل رئيس الوهم و مخدومه، فالأولى أن يكون معنى الآية لا تدركه الأوهام ليدلّ على نفي الادراك مطلقا إذ كلّ ما يدركه الوهم لا يدركه البصر بخلاف العكس.
و في الكافي باسناده عن عبد الرحيم بن عتيك القصير قال: كتبت على يدي عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد اللَّه عليه السّلام: إنّ قوما بالعراق يصفون اللَّه تعالى بالصورة و التخطيط، فان رأيت جعلنى اللَّه فداك أن تكتب إلىّ بالمذهب الصحيح من التّوحيد فكتب إلىّ: سألت رحمك اللَّه عن التّوحيد و ما ذهب إليه من قبلك فتعالى اللَّه الذي ليس كمثله شيء و هو السّميع البصير، تعالى عما يصفه الواصفون المشبّهون للّه بخلقه المفترين على اللَّه، فاعلم رحمك اللَّه أنّ المذهب الصحيح في التّوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللَّه تعالى، فانف عن اللَّه تعالى البطلان و التشبيه فلا نفى و لا تشبيه هو اللَّه الثابت الموجود تعالى اللَّه عمّا يصفه الواصفون و لا تعدّوا القرآن فتضلّوا بعد البيان.
قال صدر المتألهين: في شرح الحديث: قوله عليه السّلام: فانف عن اللَّه البطلان و التشبيه أمر بنفى التعطيل و التشبيه فان جماعة ارادوا تنزيه اللَّه عن مشابهة المخلوقات فوقعوا في التعطيل و نفي الصفات رأسا و جماعة اخرى أرادوا أن يصفوه بصفاته العليا و أسمائه الحسنى فأثبتوا له صفات زايدة على ذاته فشبّهوه بخلقه فأكثر النّاس إلّا القليل النادر منهم بين المعطل و المشبّه.
قوله عليه السّلام: فلا نفي و لا تشبيه، أى يجب على المسلم أن لا يقول بنفى الصفات و لا باثباتها على وجه التشبيه، و قوله: هو اللَّه الثابت الموجود، إشارة إلى نفي التعطيل و البطلان، و قوله تعالى عمّا يصفه الواصفون إشارة إلى نفي التشبيه، فانّ الواصفين هم الذين يصفون اللَّه بصفات زايدة و يقال لهم: الصّفاتية و كلُ من أثبت للّه صفة زايدة فهو مشبّه لا محالة.
و قوله عليه السّلام: فلا تعدّوا القرآن فتضلّوا بعد البيان، أى فلا تجاوزوا ما في القرآن بأن تنفوا عن اللَّه ما ورد في القرآن حتّى تقعوا في ضلالة التعطيل و اللَّه يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أو تثبتو اللَّه من الصّفات ما يجب التنزيه عنها حتّى تقعوا في زيغ التشبيه و اللَّه يقول: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ هذ.
و لما أمر عليه السّلام بالرجوع إلى القرآن و الاقتداء به و الاستضائة بأنواره و الأخذ بما ورد فيه من صفات الحقّ تعالى شأنه و تقدّس ذاته أردفه بقوله: (و ما كلّفك الشّيطان علمه ممّا ليس في الكتاب عليك فرضه و لا في سنّة النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و أئمة الهدى أثره فكل علمه إلى اللَّه سبحانه فانّ ذلك منتهى حقّ اللَّه عليك) و مراده عليه السّلام بذلك المنع من تكلّف ما لم يفرض علمه على المكلّفين، و الرّدع عن الخوض فيما لم يثبت وجوب معرفته على العباد في الكتاب المبين، و لا في سنّة النّبيّ الأمين و أئمة الدّين سلام اللَّه عليهم أجمعين معلّلا بأنّ منتهى حقّ اللَّه على العباد أن يقولوا بما دلّ عليه القرآن، و يصفوه بالأوصاف الثّابتة في الفرقان، و ينتهوا عما رفع علمه عنهم و يكلوا علمه و يفوّضوه إلى اللَّه السّبحان مشيرا إلى أن تكلّف ما يزيد على ذلك من تكليفات الشّيطان اللّعين و تدليساته و وساوسه ليضلّ به عن النهج القويم و الصّراط المستقيم.
و ان شئت توضيح ذلك فأقول: إنّ الكتاب الكريم قد دلّ على أنّه سبحانه عالم و أنه بكلّ شيء محيط، فيجب لنا الاذعان بذلك و عقد القلب عليه، و أمّا البحث عن كيفيّة علمه و أنه على أىّ نحو هو فلا يجب علينا، و ربما يؤدّى التعمق فيه إلى الضّلال كما ضلّ فيه كثير من الحكماء.
فمنهم من تحيّر في معرفته فنفاه رأسا، و منهم من ضاق به الخناق إلى الاطلاق فنفى علمه بالجزئيات، و منهم من قرّره على وجه أوجب القول بكون الذّات فاعلا و قابلا و بكونه متّصفا بصفات غير سبلبية و لا اضافية إلى غير ذلك من المفاسد التي نشأت من كثرة البحث فيه على ما مرّ تفصيلا في تنبيه الفصل السّابع من فصول الخطبة الاولى.
و كذلك قد ورد في القرآن أنّه تعالى خالق الأشياء و مبدعها، فيجب لنا الاعتقاد به و ليس بفرض علينا أن نتكلّف البحث في كيفيّة الخلقة حتّى نقع في الضلال البعيد كما وقع فيه الفلاسفة المثبتة للعقولات العشرة المبتنية على ما ذهبوا إليه من أنّ الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد، فانّهم لمّا ذهبوا إلى أنّ الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد ألجأهم ذلك و اضطرّهم إلى القول بالعقولات مع أنه مخالف لاصول الشّريعة و لم يرد به كتاب و لا سنّة.
و هكذا البحث و التعمق في ساير الصفات، و مثله البحث في متشابهات الآيات مثل قوله سبحانه: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى و قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا.
و غير ذلك، فالواجب في كلّ ذلك و كول علمه إلى اللَّه سبحانه و ردّه عليه كما أبان عنه الكتاب العزيز في سورة آل عمران حيث قال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.
روى أبو بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: إنّ القرآن زاجر و آمر يأمر بالجنّة و يزجر عن النّار و فيه محكم و متشابه، فأمّا المحكم فيؤمن به و يعمل به و يدين به و أمّا المتشابه فيؤمن به و لا يعمل به و هو قول اللَّه: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ الآية هذا.
(و اعلم أنّ الرّاسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب) يعني أنّالرّاسخين في العلم إذا وصلوا إلى المتشابهات و إلى ما جهلوا كشف القناع و الغطاء عنها وقفوا عندها و اعترفوا بها إجمالا كما حكى اللَّه عنهم بقوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.
و لا يتعدّون عن ذلك حتى يقتحموا في المهالك.
فان قلت: من المراد بالرّاسخين في العلم و ما المراد بالغيب المحجوب و ما ذا أراد عليه السّلام بالسّدد المضروبة دون الغيوب قلت: أما الرّاسخون في العلم فهم الثابتون فيه و الضابطون له كأئمة الدّين و أولياء اليقين الحاملين لأسرار النّبوة و أعباء الولاية و بعض خواصّهم المقتبسين من أنوار الهداية و المهتدين بنور الامامة.
و أمّا المراد بالغيب المحجوب فهو ما غاب عن الخلق علمه و خفى مأخذه إما لعدم الاستعداد و القابليّة و قصور الطبيعة عن الادراك كذات اللَّه و صفاته الذّاتية، و إمّا لاقتضاء الحكمة و المصلحة للاخفاء، كعلم السّاعة و ما في الأرحام و نحوهما ممّا حجب اللَّه علمه عن العباد، و من ذلك القبيل الآيات المتشابهة.
و أمّا المراد بالسّدد المضروبة فهي الحجب المانعة من الوصول إلى الغيب، و هي بالنسبة إلى الغيب المحجوب بها على قسمين: احدهما ما هي قابلة للارتفاع إمّا بالرّياضيات و المجاهدات كما يحصل للبعض فيعرف ضماير بعض العباد و يطلع على بعض المخبيات و يخبر عن بعض المغيبات، و إمّا بتعليم من اللَّه سبحانه كما كان في حق الأنبياء و الأولياء فانّ عمدة معجزاتهم كانت من قبيل معرفتهم بالغيب و إخبارهم من المغيبات، و إليه الاشارة في قوله تعالى: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ.
يعني أنّه عالم بكلّ شيء من مبتدءات الامور و عواقبها، و أنّه الذي يفتح باب العلم و يرفع الحجاب عن الغيب لمن يريد من الأنبياء و الأولياء، لأنّه لا يعلم الغيب سواه، و لا يقدر أحد أن يفتح باب العلم به للعباد الّا اللَّه، و قال سبحانه: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ أراد أنّ من ارتضاه و اختاره للنبوّة و الرّسالة فانّه يطلعه على ما شاء من غيبه على حسب ما يراه من المصلحة.
و عن الخرائج عن الرّضا عليه السّلام في تفسير هذه الآية فرسول اللَّه عند اللَّه مرتضى، و نحن ورثة ذلك الرّسول الذي اطلعه اللَّه على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة.
و من هذا الباب معرفتهم بالمتشابهات و علمهم بتأويلها بسبب تعليمه تعالى بوحي أو الهام، و لا منافاة بين إقرارهم بجملة ما جهلوا تفسيره منها من تلقاء نفسهم و وكول ذلك إلى ربّهم كما حكاه اللَّه و حكاه عليه السّلام عن الرّاسخين و بين معرفتهم الحاصلة بتعليمه سبحانه بل ربما يشير إليه قوله سبحانه: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ فافهم جيّدا.
القسم الثاني ما هي غير قابلة للارتفاع كحجب النور المانعة من الوصول إلىّ الحق و الاكتناه في ذاته.
بيان ذلك: أنّ اللَّه سبحانه متجلّ لذاته بذاته و محتجب عن مخلوقاته، و احتجابه ليس لخفاء ذاته بل لشدّة نوره و غاية ظهوره و كمال ذاته، فغاية ظهوره أوجب بطونه، و شدّة نوره أوجب اختفائه و احتجابه، من حيث قصور عقول البشر عن إدراكه كمثال نور الشّمس و بصر الخفاش على ما حقّقناه في شرح الخطبة الرّابعة و الستّين، و على هذا فلا سبيل إلى معرفة الحقّ سبحانه إلّا بواسطة صفاته السّلبية و الاضافية، و لا نهاية لهذه الصّفات و لمراتبها، فالعبد لا يزال يكون مترقّيا فيها فان وصل إلى درجة و بقى فيها كان استغراقه في مشاهدة تلك الدّرجة حجابا له عن الترقي إلى ما فوقها.
و لما كان لا نهاية لهذه الدّرجات كان العبد دائما في السير و الانتقال بحسب قوّة عقله و استعداد ذاته إلى أن يبلغ إلى مقام عجز عن التّرقي إلى ما فوقه، و يقصر عن إدراكه، و هذا شأن الرّاسخين السّالكين في مقام السّلوك بقدمي العرفان المترقين في مقام المعرفة من مرتبة إلى مرتبة حتّى يقصروا عن الترقى إلى ما فوقها فيغنيهم حينئذ عن اقتحام السدد المضروبة اعترافهم بجملة ما جهلوا تفسيره على ما أشار إليه الامام عليه السّلام (فمدح اللَّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما و سمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا).
عجز الواصفون عن صفتك
اعتصام الورى بمغفرتك
تب علينا فانّنا بشر
ما عرفناك حقّ معرفتك
(فاقتصر) أيّها السّائل (على ذلك) أى على ما دلّ عليه الكتاب العزيز من صفته (و لا تقدّر عظمة اللَّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين) الذين اعتقدوا أنّ عقلهم قدّره سبحانه و أحاط به علما، و صغّروا عظمته سبحانه بحسب عقلهم الضعيف مع أنّ عظمته تعالى أجلّ و أعظم من أن يضبطها عقل بشرى، و إنما منشأ ذلك الحكم لمن حصل له هو الوهم الحاكم لمثليّة اللَّه لمدركاته من الأجسام و الجسمانيات، و ذلك في الحقيقة كفر لاعتقاد غير الصّانع صانعا، و ضلال عن طريق معرفة اللَّه، مستلزم للهلاك الدّائم، و الخزي العظيم.
المقصد الثاني
متضمن للتنبيه على عجز العقول عن الاكتناه في ذاته تعالى و عن معرفتها به حقّ المعرفة، و لبيان أنّ حقّها و حظّها الاستدلال عليه بآيات العظمة و آثار الصّنع و القدرة و دلائل الملك و الملكوت.
اما الاول فهو قوله: (هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته و حاول الفكر المبرء من خطرات الوسواس ان يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته و تولّهت القلوب إليه لتجري في كيفيّة صفاته و غمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصّفات لتنال علم ذاته ردعها) و هذه الجملة أعنى قوله عليه السّلام إذا ارتمت إلى الآخر شرطية متصلة متعدّدة المقدم متّحدة التّالى و هو ردعها، و هي بمنزلة شرطيّات متعدّدة.
و المقصود بذلك أنّ الأوهام إذا ترامت و استرسلت مجدّة في التفتيش عن منتهى قدرته، نكصت عن ذلك، لأنّ قدرته تعالى متعلّق بجميع المقدورات لا نهاية له حتّى يبلغ الأوهام إلى غايته و منتهاه.
و إنّ الفكر الصافي الخالي عن وساوس الشّيطان و شوائب الأوهام إذا قصد أن يقع على ذاته و يستثبتها بكلّ ما ينبغي لها من الكمالات في عميقات مغيبات عزّته و سلطانه و مملكته، كلّ و حسر لقصوره عن إدراك ما لا نهاية له.
و انّ القلوب إذا اشتدّ شوقها إليه و تولهت نحوه لتقف على كيفيّة صفاته عجزت، و ذلك لأنّ صفاته كذاته قديمة و الكيف مهيّة امكانيّة مفتقرة إلى الجعل حادثة و هو سبحانه منزّه عن كونه محلّا للحوادث فليس لذاته و صفاته كيفيّة حتّى يقف عليها العقول و لذلك قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: و كيف أصفه بالكيف و هو الذى كيّف الكيف حتّى صار كيفا، فعرّف الكيف بما كيّف لنا من الكيف.
و أنّ العقول إذا غمضت مداخلها أى خفيت مواقع دخولها في دقايق العلوم النّظرية الالهية بحيث لا توصف لدقتها طالبة ان تعلم حقيقة ذاته انقطعت و أعيت لقصور العقول عن الوصول إلى حقيقة ما ليس بذى حدّ و لا تركيب.
و محصّل الكلام أنّ هذه القوى التي هي أعظم المشاعر الانسانية لو حاولت التعمّق و الاستقصاء في معرفة ذات اللَّه الأعلى و صفاته الحسنى و أرادت الخوض في بحار ملكه و ملكوته، وقفت خاسئة و رجعت حسيرة، لقصورها عن إدراك هذه المطالب العظيمة و ردعها اللَّه تعالى عن ذلك و منعها من أن تحوم حول ذلك.
(و هي تجوب مهاوى سدف الغيوب متخلّصة إليه سبحانه) أى تقطع مهاوي ظلمات الغيوب حال كونها متوجّهة بكلّيتها إليه سبحانه في طلب إدراكه تعالى (فرجعت إذ جبهت) و ردّت (معترفة) و مذعنة (بأنّه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته) أى لا ينال باعتساف المسافات التي بينها و بينه و بشدّة الجولان في تلك المنازل إلى كنه معرفته سبحانه.
إذ بينه و بين خلقه منازل غير متناهية، و معارج غير مستقصاة بعضها نورانيّة و بعضها ظلمانيّة لا بدّ للسّالك من قطع جميعها حتّى يصل إلى باب الرّبوبية، و أنّى له بذلك و أين التراب من ربّ الأرباب فجور الاعتساف غير نافع في تحصيل ما لا يمكن.
(و) لذلك اعترفت العقول بأنّه لا ينال بذلك كنه معرفته كما اعترفت بأنه (لا تخطر ببال اولى الرّويات خاطرة من تقدير جلال عزّته) إذ كلّ ما يخطر ببال أرباب الفكر و كلّ ما يتصوّره اولو النظر في حقّه سبحانه و إن كان جليلا عظيما فهو أجلّ و أعظم من ذلك، لأنّ ذلك صفة الواصفين لا صفة الرّب العظيم.
قال فضيل بن يسار فيما رواه عنه في الكافي: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول: إنّ اللَّه لا يوصف و كيف يوصف و قد قال في كتابه: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
فلا يوصف بقدر إلّا كان أعظم من ذلك.
و روى عن محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام أنّ كلّ ما تصوّره أحد في عقله أو وهمه أو خياله فاللّه سبحانه غيره و ورائه، لأنّه مخلوق و المخلوق لا يكون من صفات الخالق.
(الذى ابتدع الخلق على غير مثال امتثله و لا مقدار احتذى عليه من خالق معبود كان قبله) أراد بذلك التنبيه على كون ايجاده للعالم بمحض الابداع و الاختراع و عدم كونه مستفادا من الغير.
بيان ذلك أن الصّنايع البشريّة إنما تحصل بعد أن يرتسم في القوّة المتخيلة صورة المصوع بل و كلّ فعل لا يصدر إلّا بعد تصوّر وصفه و كيفيته أولا.
و هذه التصورات تارة تحصل عن أمثلة للمصنوع و مقادير خارجيّة له يشاهدها الصّانع و يحذو حذوها كما يفعل التلميذ في الصّباغة شيئا قد مثل له استاده هيئته و صورته فيفعل نظيره.
و تارة بمحض الالهام و الافاضة على قلبه كما يفاض على أذهان كثير من الأذكياء و المصوّرين صورة شكل لم يسبق إليه غيره، فيصوّره في قلبه و يبرز صورته في الخارج على طبق ما افيض على قلبه، و كيفيّة صنع اللَّه سبحانه منزّهة عن كونها على أحد الوجهين.
اما الوجه الأوّل فلما مرّ في شرح الفصل السّابق من أنه سبحانه قبل القبل بلا قبل فليس قبله خالق مثل مثالا فاتّبعه سبحانه، و لا قدر مقدارا فقطع على قدره و احتذى عليه تعالى شأنه.
و أما الوجه الثاني فلأنّ الصورة المفاضة و المثال الملهم مستندان إلى المفيض و الملهم مستفادان من الغير فعلان له، و ليس قبله تعالى غير حتّى يستفيد و يستفيض منه مضافا إلى استلزامه الافتقار تعالى اللَّه عن ذلك علوّا كبيرا، هذا.
و اما الثاني أعني بيان جواز الاستدلال عليه تعالى و إمكان معرفته بآيات القدرة و أدلة العظمة فهو قوله (و أرانا من ملكوت قدرته) أى من ملكها كما قال اللَّه: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ.
أى بقدرته و نسبته إلى القدرة لكون القدرة مبدء الوجود كلّه فهي مبدء المالكيّة (و عجائب ما نطقت به آثار حكمته) أى عجائب ما أفصحت عنه الأفعال و الأحكام الصادرة عن وجه الحكمة و المصلحة على أحسن ترتيب و نظام، و تمام إتقان و انتظام.
(و اعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قوّته) الموجود في النسخ التي رأيناها يقيمها بضمير التأنيث فلا بدّ من رجوعه إلى الخلق باعتبار ملاحظة المعنى، إذ المراد المخلوقات بجميعها، و يحتمل رجوعه إلى الحاجة على تكلّف، و المقصود اقرار الخلايق و اعترافهم بالاحتياج و الافتقار إلى أن يقيمهم و يجبر فاقتهم بقدرته و قوته الماسكة التي تمسك السّماء و الأرض أن تزولا، و اعتراف بعضهم بلسان الحال و بعضهم بلسان الحال و المقال.
(ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته) أى أرانا من ملكوت القدرة و آثار الحكمة و اعتراف الموجودات بالحاجة دليلا وافيا و برهانا كافيا دلّنا على معرفته سبحانه، بسبب قيام الحجّة له تعالى بالضّرورة و البداهة.
و بعبارة اخرى أرانا ممّا ذكر ما كان لنا دليلا على معرفته من أجل ضرورية الحجة القائمة له على الخلايق في باب المعرفة و بداهتها (و ظهرت في البدائع التي أحدثها آثار صنعته و أعلام حكمته) أى ظهرت في الحوادث البديعة المعجبة التي أحدثها و أوجدها آثار تدلّ على صانعيّته و علامات يستدلّ بها على حكمته (فصار كلّ ما خلق) في الأنفس و الآفاق (حجّة له و دليلا عليه و إن كان خلقا صامتا) لأنّ افتقاره الذاتي دليل على حاجته إلى المؤثر المبدع و إن لم يكن مفصحا عنه بلسانه، إما لعدم كونه ذا لسان كالجماد و النبات و إما لكفره و إلحاده كبعض أفراد الانسان.
(فحجّته بالتّدبير ناطقة و دلالته على المبدع قائمة) يحتمل رجوع الضمير في حجّته و دلالته إلى الخلق الصامت، و يحتمل رجوعه إلى اللَّه سبحانه، و الثاني أظهر، و المراد أنّ حجّته تعالى ناطقة بكونه مدبّرا، و دليله قائم على كونه مبدعا مؤثّرا.
فحاصل الكلام و فذلكة المرام أنّ في ما أبدعه سبحانه في عالم الكون و أحدثه في الأنفس و الآفاق شواهد متظاهرة و آيات متناصرة ناطقة بلسان حالها مفصحة عن جلالة بارئها، معربة عن كمال حكمته و تدبيره فيها، منادية لأرباب القلوب بنغماتها، قائلة: أ ما تراني و ما ترى صورتي و تركيبي و صفاتي و منافعي و اختلاف أحوالى و كثرة فوائدي، أ تظنّ أنى خلقت بنفسي أو خلقني أحد من جنسي، و فعلت هذه الأفاعيل و ما يترتّب عليها من المنافع بطبعي و ذاتي أو ما تستحيي تنظر إلى كلمة مرقومة في ثلاثة أحرف فتقطع أنه صنعة آدمي عالم قادر مريد متكلّم ثمّ تنظر إلى عجائب هذه الخطوط المرقومة على وجه الانسان بالقلم الالهي الذى لا يدرك الابصار ذاته و لا حركته و لا اتصاله بمحلّ الخطّ ثمّ ينفكّ قلبك من جلالة صانعه و كذلك النطفة التي كأنها قطرة من الماء المتشابه الأجزاء يقول لمن له قلب أو ألقى السّمع و هو شهيد لا الّذينهم عن السّمع لمعزولون: توهّمني في ظلمة الأحشاء مغموسا في دم الحيض في الوقت الذي يظهر التخطيط و التصوير على وجهي، و قد نقش النقاش حدقتي و أجفاني و جبهتي و خدّى و شفتي، فترى النقوش يظهر شيئا فشيئا على التدريج و لا ترى داخل الرّحم و لا خارجة أحدا و لا خبر منها للّام و لا للأب و لا للنطفة و لا للرّحم فما هذا النقاش أفلم يكن بأعجب ممّن يشاهده ينقش بقلمه صورة عجيبة لو نظر إليها مرّتين أو أكثر لتعلّمه فهل يقدر أن يتعلّم هذا الجنس من النقش الذي يعمّ ظاهر النطفة و باطنها و جميع أجزائها من غير ملامسة النطفة و من غير اتّصال بها لا من داخل و لا من خارج فان كنت لا تتعجّب من هذه العجائب و لا تعلم أنّ الذى صوّر و نقش هذه النقوش و الأشكال و الصّور و الأمثال مما لا شبه له و لا ندّ و لا شريك له و لا ضدّ، كما أنّ صنعه و نقشه لا يساويه نقش و صنع و التباعد و المباينة بين الفاعلين كما بين الفعلين فعدم تعجّبك أعجب من كلّ عجيب، فانّ الذى أعمى بصيرتك مع هذا الوضوح و منعك اليقين مع هذا البيان جدير بأن يتعجّب منه: فَسُبْحانَ مَنْ أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى و أضلّ و أغوى، و فتح بصائر أحبائه فشاهدوه و هم به مؤمنون و أعمى قلوب أعدائه فقال فيهم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ فله الخلق و الأمر لا معقّب لحكمه و لاراد لقضائه.
المقصد الثالث
متضمن للشهادة بالتنزيه و التقديس و أنه سبحانه تعالى شأنه عن مشابهة مصنوعاته و مجانسة مخلوقاته و هو قوله: (و أشهد أنّ من شبّهك بتباين أعضاء خلقك و تلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك لم يعقد غيب ضميره على معرفتك و لم يباشر قلبه اليمين بأنّه لا ندّ لك) و لا يخفى ما فيه من المحسّنات البيانيّة.
أوّلها أنّه عليه السّلام غيّر اسلوب الكلام و التفت من الغيبة إلى الخطاب على حدّ قوله تعالى: إيّاك نعبد، لأنّ الكلام إذا نقل من اسلوب إلى اسلوب آخر كان أحسن تطرئة لنشاط السّامع، و أكثر ايقاظا للاصغاء إلى ذلك الكلام.
و ثانيها أنّ التشبيه يعتمد على أركان: المشبّه، و المشبّه، و المشبّه به، فالمشبّه في هذا المقام هو القايس له سبحانه على خلقه، و المشبّه هو اللَّه العزيز المتعال، و المشبّه به في الحقيقة هو الخلق المتباينة الأعضاء و المتلائمة حقاق المفاصل إلّا أنه عليه السّلام جعل المشبّه به تباين الأعضاء و تلاحم الحقاق تعريضا على ذمّ المشبّه و توبيخه، و تنبيها على غلطه في تشبيهه، و ذلك لأنّ تباين الأعضاء و تلاحمها من لوازم المشبّه به، و هما مستلزمان للتركيب و اجتماع المفردات المستلزمين للافتقار إلى المركب و الجامع، فمن كان ملزوما للحاجة و الافتقار كيف يجوز أن يشبه به العزيز الغني المتكبر الجبّار، فجعلها نفس المشبّه به تنبيها على كونهما بمنزلة الوسط في لزوم التركيب للمشبّه به الحقيقي حتّى يظهر بذلك تقدّسه عن التّشبه به.
و ثالثها أنّه وصف المفاصل بكونها محتجبة معلّلا احتجابها بأنه من تدبيرات حكمته تعالى و مقتضياتها، و ذلك لأنها لو لم تحتجب و خلقت بارزة عريّة عن الغطاء و الغشاء ليبست رباطاتها و قست فيعذر تصرّف الحيوان بها كما هو الآن مضافا إلى كونها معرضة للآفات المفسدة لها و غير ذلك من خفيّ تدبيره و لطيف حكمته.
و رابعها أنه عليه السّلام شهد في حقّ المشبّهة بعدم عقد ضميرهم المكنون على معرفة اللَّه سبحانه و عدم اعتقادهم و يقينهم بأنه لا مثل له تعالى، و إنّما عبّر عن عدم اليقين بعدم اليمين إشعارا بأنّ اللازم على العبد في مقام تنزيهه سبحانه عن المثل و النّظير أن يكون تنزيهه له صادرا عن وجه كمال اليقين بحيث لو أراد الحلف بذلك أمكنه ذلك.
هذا إن جعلنا اليمين بمعنى القسم، و إن كان بمعنى القوّة فالمقصود الاشعار بأن يكون تنزيهه صادرا عن قوّة القلب و لا يكون مضطربا فيه.
و لما شهد عليه السّلام في حقّ المشبّه بأنّه لم يعقد قلبه على معرفة اللَّه سبحانه و لم يتيقّن تنزيهه عن المثل أكّد ذلك بقوله (و كأنه) أى المشبّه للّه بخلقه (لم يسمع تبرّء التّابعين) و هم عبدة الأصنام و الأوثان (من المتبوعين) أى من آلهتهم يوم القيامة (إذ يقولون) حين القوا «في الْجَحيمِ فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ… (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا) أى قد كنُّا (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) وَ ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فانّ المشبّهين لو سمعوا ذلك و عرفوا بذلك أى بتبرّء التّابعين من المتبوعين و بما حكى اللَّه عنهم في الكتاب المبين، لعقدوا قلبهم على المعرفة، و نزّهوه سبحانه عن المثل و الصفة، كيلا يقعوا في الضّلالة الدّائمة و الحسرة الباقية، كما وقع فيها التّابعون بتلك الجهة.
فانّهم شهدوا على أنفسهم بالقسم البارّ بأنّهم في ضلال مبين، و تحسّروا بأنهم ليس لهم من شافعين و لا صديق حميم. و تمنّوا الرّجوع إلى الدّنيا ليكونوا من المؤمنين، كلّ ذلك من أجل تشبيههم الخالق بالخلايق و إبدائهم المساواة بين معبوداتهم الباطلة و بين ربّ العالمين، و عدم كونهم بعلوّ شأنه سبحانه و جلالة قدره موقنين مذعنين (كذب العادلون بك) أى الجاعلون لك عديلا و مثلا (إذ شبّهوك بأصنامهم) الباطلة (و نحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم) الفاسدة (و جزّؤوك تجزئة المجسّمات بخواطرهم) الكاسدة (و قدّروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم) الجامدة أمّا كذبهم في تشبيههم له سبحانه بالأصنام فواضح، حيث اعترفوا بأنّهم في ضلال مبين من جهة تسويتهم الأصنام بربّ العالمين و أمّا كذبهم في نحلتهم له حلية المخلوقين، و تجزيتهم له تجزئة المجسّمات و تقديرهم له على الخلقة المختلفة القوى كقولهم: بأنّه في صورة غلام أمرد في رجليه نعلان من ذهب، و قولهم: بأنّه أجوف من فيه إلى صدره و ما سوى ذلك فصمت، و غير ذلك من هذياناتهم فأشدّ وضوحا إذ الأعضاء المختلفة إنّما تتولّد و تكمل بواسطة قوى طبيعيّة و نباتيّة و حيوانيّة و غيرها، و هي قوى مختلفة بحقايقها متضادّة في أفعالها محتاجة إلى المركّب و الجامع، و الاحتياج مستحيل على واجب الوجود، تعالى عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا (و أشهد أنّ من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك و العادل بك كافر بما تنزّلت به محكمات آياتك و نطقت عنه شواهد حجج بيّناتك) شهادة ثانية على كفر المشبّهة متفرّعة على ما سبق.
وجهة كفرهم أنهم لمّا شبّهوه بخلقه و سووه به حيث اعتقدوا أنّ خالقهم و صانعهم هو ما توهّموه بأوهامهم الفاسدة و وصفوه بعقولهم الكاسدة مع عدم كونه خالقهم بل هو مخلوق لهم مصنوع مثلهم لا جرم كانوا بذلك متّخذين غير الخالق خالقا جاعلين للّه سبحانه ندّا و عديلا، و هو الكفر و الضّلال كما شهدت به محكمات الآيات و أفصحت عنه شواهد أدلّة البيّنات قال سبحانه في سورة البقرة: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ إلى أن قال إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ و في سورة إبراهيم: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ و في سورة الزّمر: وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ و في سورة فصّلت: قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ.
إلى غير هذه من الآيات الباهرة و الحجج القاهرة (و) أشهد (أنّك أنت اللَّه الذي لم تتناه في العقول فتكون في مهبّ فكرها مكيّفا، و لا في رويّات خواطرها فتكون محدودا مصرّفا) و هي شهادة ثالثة على تنزّهه من إحاطة العقول البشريّة فنفاها بنفي ما يترتّب عليها من كونه تعالى ذا نهاية، إذ معنى الاحاطة بالشيء هو إدراكه بكنهه و معرفته بجميع جهاته و بلوغ العقل غايته و نهايته بحيث لا يكون وراء ما أدركه شيء آخر و نفي انتهائه بنفي ما يترتّب عليه من كونه ذا كيفيّة تكيّفه بها القوى المتخيّلة لتثبته بها العقول، و كونه محدودا أى ذا حدّ و نهاية أو محدودا بحدّ يحدّه و يعرّفه إذ إدراك العقول للحقايق بكنهها إنّما هو من حدودها و معرّفاتها.
و هذا مبنيّ على كون المحدود مأخوذا من الحدّ الذى هو معرّف الشيء و القول الشارح له كما أنّ الاوّل مبنيّ على أخذه من الحدّ بمعنى النهاية، و هو بكلا المعنيين محال على اللَّه سبحانه و كونه مصرّفا أى ذا تصريف و تقليب مأخوذ من تصريف الرّياح و هو تحويلها من وجه إلى وجه و من حال إلى حال لأنّه إذا كان العقول و الفكر متعلّقة به لا بدّ أن يتصرّف فيه العقول و الأفكار، و تحوّله من وجه إلى وجه لتبلغ غايته و تعرفه بكنهه و هو معنى كونه مصرّفا و لما كان هذه اللوازم كلّها باطلة مستحيلة في حقّه تعالى كان ملزومها و هو إحاطة العقول به و تناهيه فيها محالا أمّا بطلان اللّازم الأول فلأنّ الكيف حادث بالذات ممكن الوجود مفتقر إلى جاعل يوجده برىء الذات من الاتصاف به، أما حدوثه فلكونه عرضا قائما بالمحلّ فهو مفتقر إلى جاعل و ينتهى افتقاره بالأخرة إلى الحقّ تعالى، و امّا برائة ذات المحدث من الاتصاف به فلأنّ موجد الشيء مقدّم عليه بالوجود فيستحيل أن يكون المكيّف بالكسر أى موجد الكيف و جاعله مكيّفا أى منفعلا ذا كيفيّة و إلّا لزم تقدّم الشيء على نفسه و كون الشيء الواحد فاعلا قابلا و هو محال و أمّا بطلان الّلازم الثّاني و هو كونه محدودا إى ذا نهاية فلأنه لا غاية لوجوده و لا منتهى لذاته، لأنّ وجوده وراء ما لا يتناهى مدّة و عدّة بما لا يتناهى قوّة و شدّة و أمّا إن جعلنا الحدّ بالمعنى الثّاني الذي أشرنا إليه فلأنّ حدّ الشيء عبارة عن معرّفه المركب من الجنس و الفصل و اللَّه سبحانه بسيط الذّات لا جزء له و ما لا جزء له لا جنس له و ما ليس له جنس ليس له حدّ و قول شارح يعرّف به، و ما ليس له حدّ لا يكون محدودا و أمّا بطلان اللازم الثالث أعني كونه مصرّفا فلاستحالة التغيّر و الانتقال من حال إلى حال على اللَّه تعالى شأنه.
الترجمة
پس نظر كن أى سؤال كننده از صفات پروردگار پس آن چيزى كه دلالت دارد قرآن بر آن از صفت حضرت آفريدگار پس اقتدا كن بآن و طلب روشنائى كن بنور هدايت او، و آنچه كه تكليف كرده آنرا شيطان ملعون دانستن او را از چيزى كه نيست در قرآن بر تو فرض آن و نه در سنّت پيغمبر خدا صلّى اللَّه عليه و آله و نه أئمه هدى علامت و نشانه او پس واگذار دانستن آن را بخداى تعالى، پس بدرستى كه اين منتهاى حق خداوند است بر تو و زياده از اين بر تو لازم نيست.
و بدان كه جماعتى كه رسوخ دارند در علم و استوارند در دانش، ايشان كساني هستند كه بىنياز ساخته ايشان را از بىفكر داخل شدن حجاباتي كه زده شده در پيش غيبها، اقرار و اعتراف ايشان بإجمال آنچه كه جاهل شدهاند بتفسير و توضيح آن از غيبي كه پوشيده است، پس مدح فرموده حق سبحانه و تعالى اعتراف بعجز كردن ايشان را از أخذ نمودن آنچه كه احاطه نكردهاند بآن از حيثيت علم و نام نهاده ترك تعمّق و خوض كردن ايشان را در چيزى كه تكليف نكرده بر ايشان بحث نمودن از حقيقت آن را برسوخ.
پس قناعت كن ايسائل در باب معرفت باين مقدار و تقدير مكن عظمت پروردگار را باندازه عقل خود تا اين كه شوى از هالكين.
او سبحانه قادريست كه اگر مجدّ شوند و همهاتا دريابند نهاية توانائى آنرا، و طلب كند فكري كه مبرّاست از خطرات وساوس شيطانيّه آنكه واقع شود در اسرار عميقه پادشاهى او، و واله و متحيّر باشند قلبها بسوى او تا اين كه جارى شوند در چگونگى صفتهاى او، و غامض و خفى باشد محلّ دخول عقلها باندازه كه خارج از وصف باشد بجهة طلب علم بذات او سبحانه ردع ميكند و باز دارد خداوند تعالى آن عقول و اوهام را از معرفت بذات و صفات خود و حال آنكه قطع كند آن اوهام و عقول مواضع هلاك تاريكيهاى غيبها را در حالتى كه رهيده باشد از غير و نزديكى جويند بسوى حق سبحانه.
پس برگشتند زمانى كه باز داشته شدند در حالتى كه اعتراف كننده باشند باين كه رسيده نمىشود بشدة جولان در بيداء جلال و عزّت و حقيقت معرفت او، و باين كه خطور نمىكند بدل صاحبان فكرها خطور كننده از اندازه كردن بزرگي عزّت او.
آن خداوندى كه ايجاد كرد مخلوقات را بدون سبق مثالى كه متابعت كرده باشد بر آن، و بيتقدّم مقدار و اندازه كه عمل كرده باشد بر وفق آن كه صادر شده باشد آن مثال و مقدار از خالق معبودي كه بوده باشد قبل از او، و بنمود ما را از پادشاهى قدرت خود و از عجايب آن چيزى كه گويا شده است بآن نشانهاى حكمت او و از اعتراف نمودن خلايق باحتياج خودشان باين كه اقامه نمايد و بپا داشته باشد ايشان را بنگه داشته قوّة خود دليل وافي و برهان شافي ما را بسبب ضروري و بديهى بودن حجتى كه قائم است مر او را بمعرفت او و ظاهر گرديد در اشياء بديعة كه ايجاد فرموده نشانهاى صنعت أو و علامتهاى حكمت او.
پس گرديد هر چيزى كه خلق فرموده برهان قاطع مرا الوهيت آن را، و دليل ساطع بر وجوب وجود آن و اگر چه بوده باشد آن مخلوق خلق غير ناطق و جماد ساكت، پس حجت حق تعالى بتدبير حكمت او گويا است و دليل او بر وجود مبدع برپا.
پس شهادت مىدهم بر اين كه كسى كه تشبيه كرده تو را باعضاى متباينه مخلوقات تو، و خوردههاى بهم پيوسته مفاصل ايشان كه پوشيده شده است بتدبير حكمت تو عقد ننموده فكر باطني خود را بر معرفت تو، و مباشر نكرده بقلب خودش يقين را باين كه نيست هيچ مثلى تو را.
و گويا كه نشنيده آن تشبيه كننده بيزاري جستن تابعان را از متبوعان در روز قيامت، و زمان انداخته شدن ايشان بر آتش وقتى كه گويند: قسم بخدا كه هر آينه بوديم ما در ضلالت هويدا، در وقتى كه برابر كرديم ما شما را با پروردگار عالميان.
دروغ گفتند كسانى كه بتو مثل و عديل قرار دادند وقتى كه تشبيه كردند تو را به بتهاي خودشان و بخشيدند بتو صفات مخلوقات را بوهمهاي خود، و تجزيه كردند تو را همچه مجزّا كردن أشياء مجسّمه با خواطرهاي خود، و اندازه كردند تو را بر هيكلي و شكلى كه مختلف است قوتهاي او با عقلهاي خود.
پس شهادت مى دهم بر اين كه هر كس كه مساوي ساخت تو را با چيزي ازمخلوق تو پس بتحقيق كه عديل قرار داد ترا و هر كس كه عديل قرار داد بتو كافر است بحكم آن چيزي كه نازل شده با آن آيات محكمات تو، و بحكم آن چيزى كه ناطق شد از آن گواهان حجتهاي واضحه تو.
و شهادت مى دهم بر اين كه توئى معبود بحق كه پايان نداري در عقلها تا اين كه باشى در محلّ ورزيدن انديشهاى آن عقول مكيّف با كيفيتي، و نه در انديشهاى خاطرهاى آن عقول صاحب حدّ و نهايتى و موصوف بتغيير از حالت بحالتى
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»