خطبه 83 صبحی صالح
83- و من خطبة له ( عليه السلام ) و هي الخطبة العجيبة تسمى «الغراء»
و فيها نعوت اللّه جل شأنه،
ثم الوصية بتقواه
ثم التنفير من الدنيا،
ثم ما يلحق من دخول القيامة،
ثم تنبيه الخلق إلى ما هم فيه من الأعراض،
ثم فضله ( عليه السلام ) في التذكير
صفته جل شأنه
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَلَا بِحَوْلِهِ
وَ دَنَا بِطَوْلِهِ
مَانِحِ كُلِّ غَنِيمَةٍ وَ فَضْلٍ
وَ كَاشِفِ كُلِّ عَظِيمَةٍ وَ أَزْلٍ
أَحْمَدُهُ عَلَى عَوَاطِفِ كَرَمِهِ
وَ سَوَابِغِ نِعَمِهِ
وَ أُومِنُ بِهِ أَوَّلًا بَادِياً
وَ أَسْتَهْدِيهِ قَرِيباً هَادِياً
وَ أَسْتَعِينُهُ قَاهِراً قَادِراً
وَ أَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ كَافِياً نَاصِراً
وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً ( صلى الله عليه وآله )عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ
أَرْسَلَهُ لِإِنْفَاذِ أَمْرِهِ
وَ إِنْهَاءِ عُذْرِهِ
وَ تَقْدِيمِ نُذُرِهِ
الوصية بالتقوى
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي ضَرَبَ الْأَمْثَالَ
وَ وَقَّتَ لَكُمُ الْآجَالَ
وَ أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ
وَ أَرْفَغَ لَكُمُ الْمَعَاشَ
وَ أَحَاطَ بِكُمُ الْإِحْصَاءَ
وَ أَرْصَدَ لَكُمُ الْجَزَاءَ
وَ آثَرَكُمْ بِالنِّعَمِ السَّوَابِغِ
وَ الرِّفَدِ الرَّوَافِغِ
وَ أَنْذَرَكُمْ بِالْحُجَجِ الْبَوَالِغِ
فَأَحْصَاكُمْ عَدَداً
وَ وَظَّفَ لَكُمْ مُدَداً
فِي قَرَارِ خِبْرَةٍ
وَ دَارِ عِبْرَةٍ
أَنْتُمْ مُخْتَبَرُونَ فِيهَا
وَ مُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا
التنفير من الدنيا
فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا
رَدِغٌ مَشْرَعُهَا
يُونِقُ مَنْظَرُهَا
وَ يُوبِقُ مَخْبَرُهَا
غُرُورٌ حَائِلٌ
وَ ضَوْءٌ آفِلٌ
وَ ظِلٌّ زَائِلٌ
وَ سِنَادٌ مَائِلٌ
حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا
وَ اطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا
قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا
وَ قَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا
وَ أَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا
وَ أَعْلَقَتِ الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ
قَائِدَةً لَهُ إِلَى ضَنْكِ الْمَضْجَعِ
وَ وَحْشَةِ الْمَرْجِعِ
وَ مُعَايَنَةِ الْمَحَلِّ
وَ ثَوَابِ الْعَمَلِ.
وَ كَذَلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ
لَا تُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً
وَ لَا يَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْتِرَاماً
يَحْتَذُونَ مِثَالًا
وَ يَمْضُونَ أَرْسَالًا
إِلَى غَايَةِ الِانْتِهَاءِ وَ صَيُّورِ الْفَنَاءِ
بعد الموت البعث
حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الْأُمُورُ
وَ تَقَضَّتِ الدُّهُورُ
وَ أَزِفَ النُّشُورُ
أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ
وَ أَوْكَارِ الطُّيُورِ
وَ أَوْجِرَةِ السِّبَاعِ
وَ مَطَارِحِ الْمَهَالِكِ
سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ
مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِهِ
رَعِيلًا صُمُوتاً
قِيَاماً صُفُوفاً
يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ
وَ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي
عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الِاسْتِكَانَةِ وَ ضَرَعُ الِاسْتِسْلَامِ وَ الذِّلَّةِ
قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ وَ انْقَطَعَ الْأَمَلُ وَ هَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً
وَ خَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً
وَ أَلْجَمَ الْعَرَقُ
وَ عَظُمَ الشَّفَقُ
وَ أُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ لِزَبْرَةِ الدَّاعِي
إِلَى فَصْلِ الْخِطَابِ
وَ مُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ
وَ نَكَالِ الْعِقَابِ
وَ نَوَالِ الثَّوَابِ
تنبيه الخلق
عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَاراً
وَ مَرْبُوبُونَ اقْتِسَاراً
وَ مَقْبُوضُونَ احْتِضَاراً
وَ مُضَمَّنُونَ أَجْدَاثاً
وَ كَائِنُونَ رُفَاتاً
وَ مَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً
وَ مَدِينُونَ جَزَاءً
وَ مُمَيَّزُونَ حِسَاباً
قَدْ أُمْهِلُوا فِي طَلَبِ الْمَخْرَجِ وَ هُدُوا سَبِيلَ الْمَنْهَجِ
وَ عُمِّرُوا مَهَلَ الْمُسْتَعْتِبِ
وَ كُشِفَتْ عَنْهُمْ سُدَفُ الرِّيَبِ
وَ خُلُّوا لِمِضْمَارِ الْجِيَادِ
وَ رَوِيَّةِ الِارْتِيَادِ
وَ أَنَاةِ الْمُقْتَبِسِ الْمُرْتَادِ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ وَ مُضْطَرَبِ الْمَهَلِ
فضل التذكير
فَيَا لَهَا أَمْثَالًا صَائِبَةً
وَ مَوَاعِظَ شَافِيَةً
لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زَاكِيَةً
وَ أَسْمَاعاً وَاعِيَةً
وَ آرَاءً عَازِمَةً
وَ أَلْبَاباً حَازِمَةً
فَاتَّقُوا اللَّهَ تَقِيَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ
وَ اقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ
وَ وَجِلَ فَعَمِلَ
وَ حَاذَرَ فَبَادَرَ
وَ أَيْقَنَ فَأَحْسَنَ
وَ عُبِّرَ فَاعْتَبَرَ
وَ حُذِّرَ فَحَذِرَ
وَ زُجِرَ فَازْدَجَرَ
وَ أَجَابَ فَأَنَابَ
وَ رَاجَعَ فَتَابَ
وَ اقْتَدَىفَاحْتَذَى
وَ أُرِيَ فَرَأَى
فَأَسْرَعَ طَالِباً
وَ نَجَا هَارِباً فَأَفَادَ ذَخِيرَةً
وَ أَطَابَ سَرِيرَةً
وَ عَمَّرَ مَعَاداً
وَ اسْتَظْهَرَ زَاداً لِيَوْمِ رَحِيلِهِ وَ وَجْهِ سَبِيلِهِ
وَ حَالِ حَاجَتِهِ وَ مَوْطِنِ فَاقَتِهِ
وَ قَدَّمَ أَمَامَهُ لِدَارِ مُقَامِهِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ جِهَةَ مَا خَلَقَكُمْ لَهُ
وَ احْذَرُوا مِنْهُ كُنْهَ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ
وَ اسْتَحِقُّوا مِنْهُ مَا أَعَدَّ لَكُمْ بِالتَّنَجُّزِ لِصِدْقِ مِيعَادِهِ
وَ الْحَذَرِ مِنْ هَوْلِ مَعَادِهِ
التذكير بضروب النعم
و منهاجَعَلَ لَكُمْ أَسْمَاعاً لِتَعِيَ مَا عَنَاهَا
وَ أَبْصَاراً لِتَجْلُوَ عَنْ عَشَاهَا
وَ أَشْلَاءً جَامِعَةً لِأَعْضَائِهَا
مُلَائِمَةً لِأَحْنَائِهَا فِي تَرْكِيبِ صُوَرِهَا وَ مُدَدِ عُمُرِهَا
بِأَبْدَانٍ قَائِمَةٍ بِأَرْفَاقِهَا
وَ قُلُوبٍ رَائِدَةٍ لِأَرْزَاقِهَا
فِي مُجَلِّلَاتِ نِعَمِهِ
وَ مُوجِبَاتِ مِنَنِهِ
وَ حَوَاجِزِ عَافِيَتِهِ
وَ قَدَّرَ لَكُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْكُمْ
وَ خَلَّفَ لَكُمْ عِبَراً مِنْ آثَارِ الْمَاضِينَ قَبْلَكُمْ
مِنْ مُسْتَمْتَعِ خَلَاقِهِمْ
وَ مُسْتَفْسَحِ خَنَاقِهِمْ
أَرْهَقَتْهُمُ الْمَنَايَا دُونَ الْآمَالِ
وَ شَذَّبَهُمْ عَنْهَا تَخَرُّمُ الْآجَالِ
لَمْ يَمْهَدُوا فِي سَلَامَةِ الْأَبْدَانِ
وَ لَمْ يَعْتَبِرُوا فِي أُنُفِ الْأَوَانِ
فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ الشَّبَابِ إِلَّا حَوَانِيَ الْهَرَمِ
وَ أَهْلُ غَضَارَةِ الصِّحَّةِ إِلَّا نَوَازِلَ السَّقَمِ
وَ أَهْلُ مُدَّةِ الْبَقَاءِ إِلَّا آوِنَةَ الْفَنَاءِ
مَعَ قُرْبِ الزِّيَالِ
وَ أُزُوفِ الِانْتِقَالِ
وَ عَلَزِ الْقَلَقِ
وَ أَلَمِ الْمَضَضِ
وَ غُصَصِ الْجَرَضِ
وَ تَلَفُّتِ الِاسْتِغَاثَةِ بِنُصْرَةِ الْحَفَدَةِ وَ الْأَقْرِبَاءِ وَ الْأَعِزَّةِ وَ الْقُرَنَاءِ
فَهَلْ دَفَعَتِ الْأَقَارِبُ
أَوْ نَفَعَتِ النَّوَاحِبُ
وَ قَدْ غُودِرَ فِي مَحَلَّةِ الْأَمْوَاتِ رَهِيناً
وَ فِي ضِيقِ الْمَضْجَعِ وَحِيداً
قَدْ هَتَكَتِ الْهَوَامُّ جِلْدَتَهُ
وَ أَبْلَتِ النَّوَاهِكُ جِدَّتَهُ
وَ عَفَتِ الْعَوَاصِفُ آثَارَهُ
وَ مَحَا الْحَدَثَانُ مَعَالِمَهُ
وَ صَارَتِ الْأَجْسَادُ شَحِبَةً بَعْدَ بَضَّتِهَا
وَ الْعِظَامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتِهَا
وَ الْأَرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا
مُوقِنَةً بِغَيْبِ أَنْبَائِهَا
لَا تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا
وَ لَا تُسْتَعْتَبُ مِنْ سَيِّئِ زَلَلِهَا
أَ وَ لَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَ الْآبَاءَ وَ إِخْوَانَهُمْ وَ الْأَقْرِبَاءَ
تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ
وَ تَرْكَبُونَ قِدَّتَهُمْ
وَ تَطَئُونَ جَادَّتَهُمْ
فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا
لَاهِيَةٌ عَنْ رُشْدِهَا
سَالِكَةٌ فِي غَيْرِ مِضْمَارِهَا
كَأَنَّ الْمَعْنِيَّ سِوَاهَا
وَ كَأَنَّ الرُّشْدَ فِي إِحْرَازِ دُنْيَاهَا
التحذير من هول الصراط
وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَ مَزَالِقِ دَحْضِهِ
وَ أَهَاوِيلِ زَلَلِهِ
وَ تَارَاتِ أَهْوَالِهِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ
وَ أَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ
وَ أَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ
وَ أَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ
وَ ظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ
وَ أَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ
وَ قَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَمَانِهِ
وَ تَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ
وَ سَلَكَ أَقْصَدَ الْمَسَالِكِ إِلَىالنَّهْجِ الْمَطْلُوبِ
وَ لَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِلَاتُ الْغُرُورِ
وَ لَمْ تَعْمَ عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الْأُمُورِ
ظَافِراً بِفَرْحَةِ الْبُشْرَى
وَ رَاحَةِ النُّعْمَى
فِي أَنْعَمِ نَوْمِهِ
وَ آمَنِ يَوْمِهِ
وَ قَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَةِ حَمِيداً
وَ قَدَّمَ زَادَ الْآجِلَةِ سَعِيداً
وَ بَادَرَ مِنْ وَجَلٍ
وَ أَكْمَشَ فِي مَهَلٍ
وَ رَغِبَ فِي طَلَبٍ
وَ ذَهَبَ عَنْ هَرَبٍ
وَ رَاقَبَ فِي يَوْمِهِ غَدَهُ
وَ نَظَرَ قُدُماً أَمَامَهُ
فَكَفَى بِالْجَنَّةِ ثَوَاباً وَ نَوَالًا
وَ كَفَى بِالنَّارِ عِقَاباً وَ وَبَالًا
وَ كَفَى بِاللَّهِ مُنْتَقِماً وَ نَصِيراً
وَ كَفَى بِالْكِتَابِ حَجِيجاً وَ خَصِيماً
الوصية بالتقوى
أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي أَعْذَرَ بِمَا أَنْذَرَ
وَ احْتَجَّ بِمَا نَهَجَ
وَ حَذَّرَكُمْ عَدُوّاً نَفَذَ فِي الصُّدُورِ خَفِيّاً
وَ نَفَثَ فِي الْآذَانِ نَجِيّاً فَأَضَلَّ وَ أَرْدَى
وَ وَعَدَ فَمَنَّى
وَ زَيَّنَ سَيِّئَاتِ الْجَرَائِمِ
وَ هَوَّنَ مُوبِقَاتِ الْعَظَائِمِ
حَتَّى إِذَا اسْتَدْرَجَ قَرِينَتَهُ
وَ اسْتَغْلَقَ رَهِينَتَهُ
أَنْكَرَ مَا زَيَّنَ
وَ اسْتَعْظَمَ مَا هَوَّنَ
وَ حَذَّرَ مَا أَمَّنَ
و منها في صفة خلق الإنسان
أَمْ هَذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ
وَ شُغُفِ الْأَسْتَارِ
نُطْفَةً دِهَاقاً
وَ عَلَقَةً مِحَاقاً
وَ جَنِيناً وَ رَاضِعاً وَ وَلِيداً وَ يَافِعاً
ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً
وَ لِسَاناً لَافِظاً
وَ بَصَراً لَاحِظاً
لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً
وَ يُقَصِّرَ مُزْدَجِراً
حَتَّى إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ
وَ اسْتَوَىمِثَالُهُ
نَفَرَ مُسْتَكْبِراً
وَ خَبَطَ سَادِراً
مَاتِحاً فِي غَرْبِ هَوَاهُ
كَادِحاً سَعْياً لِدُنْيَاهُ فِي لَذَّاتِ طَرَبِهِ وَ بَدَوَاتِ أَرَبِهِ
ثُمَّ لَا يَحْتَسِبُ رَزِيَّةً
وَ لَا يَخْشَعُ تَقِيَّةً
فَمَاتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيراً
وَ عَاشَ فِي هَفْوَتِهِ يَسِيراً
لَمْ يُفِدْ عِوَضاً
وَ لَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضاً
دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ الْمَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ جِمَاحِهِ
وَ سَنَنِ مِرَاحِهِ
فَظَلَّ سَادِراً
وَ بَاتَ سَاهِراً فِي غَمَرَاتِ الْآلَامِ
وَ طَوَارِقِ الْأَوْجَاعِ وَ الْأَسْقَامِ
بَيْنَ أَخٍ شَقِيقٍ
وَ وَالِدٍ شَفِيقٍ
وَ دَاعِيَةٍ بِالْوَيْلِ جَزَعاً
وَ لَادِمَةٍ لِلصَّدْرِ قَلَقاً
وَ الْمَرْءُ فِي سَكْرَةٍ مُلْهِثَةٍ وَ غَمْرَةٍ كَارِثَةٍ
وَ أَنَّةٍ مُوجِعَةٍ
وَ جَذْبَةٍ مُكْرِبَةٍ
وَ سَوْقَةٍ مُتْعِبَةٍ
ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِساً
وَ جُذِبَ مُنْقَاداً سَلِساً
ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى الْأَعْوَادِ رَجِيعَ وَصَبٍ
وَ نِضْوَ سَقَمٍ
تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ الْوِلْدَانِ
وَ حَشَدَةُ الْإِخْوَانِ إِلَى دَارِ غُرْبَتِهِ وَ مُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ وَ مُفْرَدِ وَحْشَتِهِ
حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ الْمُشَيِّعُ
وَ رَجَعَ الْمُتَفَجِّعُ
أُقْعِدَ فِي حُفْرَتِهِ نَجِيّاً لِبَهْتَةِ السُّؤَالِ
وَ عَثْرَةِ الِامْتِحَانِ
وَ أَعْظَمُ مَا هُنَالِكَ بَلِيَّةً نُزُولُ الْحَمِيمِ
وَ تَصْلِيَةُ الْجَحِيمِ
وَ فَوْرَاتُ السَّعِيرِ
وَ سَوْرَاتُ الزَّفِيرِ
لَا فَتْرَةٌ مُرِيحَةٌ
وَ لَا دَعَةٌ مُزِيحَةٌ
وَ لَا قُوَّةٌ حَاجِزَةٌ
وَ لَا مَوْتَةٌ نَاجِزَةٌ
وَ لَا سِنَةٌ مُسَلِّيَةٌ
بَيْنَ أَطْوَارِ الْمَوْتَاتِ
وَ عَذَابِ السَّاعَاتِ
إِنَّا بِاللَّهِ عَائِذُونَ
عِبَادَ اللَّهِ أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا
وَ عُلِّمُوا فَفَهِمُوا
وَ أُنْظِرُوا فَلَهَوْا
وَ سُلِّمُوا فَنَسُوا
أُمْهِلُوا طَوِيلًا
وَ مُنِحُوا جَمِيلًا
وَ حُذِّرُوا أَلِيماً
وَ وُعِدُوا جَسِيماً
احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ
وَ الْعُيُوبَ الْمُسْخِطَةَ
أُولِي الْأَبْصَارِ وَ الْأَسْمَاعِ
وَ الْعَافِيَةِ وَ الْمَتَاعِ
هَلْ مِنْ مَنَاصٍ أَوْ خَلَاصٍ
أَوْ مَعَاذٍ أَوْ مَلَاذٍ
أَوْ فِرَارٍ أَوْ مَحَارٍ أَمْ لَا
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
أَمْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ
أَمْ بِمَا ذَا تَغْتَرُّونَ
وَ إِنَّمَا حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّوْلِ وَ الْعَرْضِ قِيدُ قَدِّهِ
مُتَعَفِّراً عَلَى خَدِّهِ
الْآنَ عِبَادَ اللَّهِ وَ الْخِنَاقُ مُهْمَلٌ
وَ الرُّوحُ مُرْسَلٌ فِي فَيْنَةِ الْإِرْشَادِ
وَ رَاحَةِ الْأَجْسَادِ
وَ بَاحَةِ الِاحْتِشَادِ
وَ مَهَلِ الْبَقِيَّةِ
وَ أُنُفِ الْمَشِيَّةِ
وَ إِنْظَارِ التَّوْبَةِ
وَ انْفِسَاحِ الْحَوْبَةِ
قَبْلَ الضَّنْكِ وَ الْمَضِيقِ وَ الرَّوْعِ وَ الزُّهُوقِ
وَ قَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ
وَ إِخْذَةِ الْعَزِيزِ الْمُقْتَدِرِ
قال الشريف و في الخبر أنه لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود
و بكت العيون و رجفت القلوب
و من الناس من يسمي هذه الخطبة الغراء
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج6
الفصل السابع منها فى صفة خلق الانسان
أم هذا الّذي أنشأءه في ظلمات الأرحام و شغف الأستار نطفة دهاقا، و علقة محاقا، و جنينا و راضعا، و وليدا و يافعا، ثمّ منحه قلبا حافظا، و لسانا لافظا، و بصرا لاحظا، ليفهم معتبرا، و يقصر مزدجرا حتّى إذا قام اعتداله، و استوى مثاله، نفر مستكبرا، و خبط سادرا ماتحا في غرب هواه، كادحا سعيا لدنياه، في لذّات طربه، و بدوات أربه، لا يحتسب رزيّة، و لا يخشع تقيّة، فمات في فتنته غريرا، و عاش فى هفوته يسيرا، لم يفد عوضا، و لم يقض مفترضا، دهمته فجعات المنيّة في غبَّر جماحه، و سنن مراحه، فظلّ سادرا، و بات ساهرا، في غمرات الآلام، و طوارق الأوجاع و الأسقام، بين أخ شقيق، و والد شفيق، و داعية بالويل جزعا، و لا دمة للصّدر قلقا، و المرء في سكرة ملهثة، و غمرة كارثة، و أنّة موجعة، و جذبة مكربة، و سوقة متعبة، ثمّ أدرج في أكفانه مبلسا، و جذب منقادا سلسا، ثمّ ألقي على الأعواد رجيع و صب، و نضو سقم، تحمله حفدة الولدان، و حشدة الإخوان، إلى دار غربته، و منقطع زورته، حتّى إذا انصرف المشيِّع، و رجع المتفجّع، أقعد في حفرته نجيّا لبهتة السّؤال، و عثرة الامتحان، و أعظم ما هنا لك بليَّة نزل الحميم، و تصلية الجحيم، و فورات السّعير، و سورات الزّفير، لا فترة مريحة، و لا دعة مزيحة، و لا قوّة حاجزة، و لا موتة ناجزة، و لا سنة مسلية، بين أطوار الموتات، و عذاب السّاعات، إنّا باللّه عائذون.
اللغة
(الشّغف) بضمتين جمع شغاف كسحاب و هو غلاف القلب و (الدّهاق) بالدال المهملة من دهق الماء أفرغه إفراغا شديدا، و في بعض النّسخ دفاقا من دفق الماء دفقا من باب قتل انصب لشدّة و يقال أيضا دفقت الماء أي صببته يتعدّى فهو دافق و مدفوق، و أنكر الأصمعي استعماله لازما قال: و أمّا قوله تعالى من ماء دافق فهو على اسلوب أهل الحجاز و هو أنّهم يحوّلون المفعول فاعلا إذا كان في موضع نعت و المعنى من ماء مدفوق، و قال ابن القوطبة ما يوافقه سرّ كاتم أى مكتوم و عارف اى معروف و عاصم اى معصوم.
و (المحاق) بضم الميم و الكسر لغة قال الفيومي: محقه محقا من باب نفع نقصه و أذهب منه بركة، و قيل هو ذهاب الشيء كلّه حتى لا يرى له أثر منه و يمحق اللّه الربا و انمحق الهلال الثلاث ليال في آخر الشّهر لا يكاد يرى لخفائه و الاسم المحاق بالضم و الكسر لغة. و في القاموس المحاق مثلّثة آخر الشهر أو ثلاث ليال من آخره أو أن يستتر القمر فلا يرى غدوة و لا عشية سمّى به لأنه طلع مع الشّمس فمحقته.
و غلام (يافع) و يفع و يفعة مرتفع و (السادر) المتحير و الذى لا يهتمّ و لا يبالي ما صنع و (الماتح) الذي يستسق الماء من البئر و هو على رأسها و المايح الذي نزل البئر إذا قلّ ماؤها فيملاء الدلاء فالفرق بين المعنيين كالفرق بين النقطتين و (الغرب) الدلو العظيم و (كدح) في العمل من باب منع سعى و (بدا) بدوا و بدوّا و بداء و بدوءً و بداوة ظهر، و بداوة الشّيء أول ما يبدو منه، و بادى الرأى ظاهره، و بدا له في الأمر بدوا و بداءة نشأله فيه رأى و هو ذو بدوات.
قال الفيومى و (الارب) بفتحتين و الاربة بالكسر و المأربة بفتح الراء و ضمّها الحاجة، و الجمع المآرب، و الارب في الأصل مصدر من باب تعب يقال ارب الرّجل إلى الشيء إذا احتاج إليه فهو ارب على فاعل و (دهمه) الشيء من باب سمع و منع غشيه و (غبّر) الشيء بضم الغين و تشديد الباء بقاياه جمع غابر كركّع و راكع و (جمح) الفرس جمحا و جماحا بالكسر اغترّ فارسه و غلبه و جمح الرّجل ركب هواه و (سنن) الطريق مثلّثة و بضمّتين نهجه و جهته و (مرح) مرحا من باب فرح نشط و تبختر و المراح ككتاب اسم منه.
و (غمرة) الشيء شدّته و مزدحمه و الجمع غمرات و غمار و (لهث) لهثا من باب سمع و لهاثا بالضمّ أخرج لسانه عطشا و تعبا أو اعياء، و في بعض النسخ و سكرة ملهية بالباء أى مشغلة و (كرثه) الغمّ يكرثه من باب نصر اشدّ عليه و بلغ المشقّة و هو كريث الأمر إذا ضعف و جبن و (أنّ) المريض انا إذا تأوّه و (ابلس) يئس و تحيّر و منه سمّى إبليس و ناقة (رجع) سفر و رجيع سفر قد رجع فيه مرارا و (الوصب) محرّكة المرض و الوجع.
و (النضو) بالكسر المهزول من الابل و غيره و (السّقم) كالجبل المرض و (الحشدة) جمع حاشد من حشدت القوم من باب قتل و ضرب و حشد القوم يعدي و لا يعدى إذا دعوا فأجابوا مسرعين أو اجتمعوا الأمر واحد و حفّوا فى التعاون و (البهت) بالفتح الأخذ بغتة و التحيّر و الانقطاع و (النزل) بضمتين طعام النزيل الذى يهيىء له قال سبحانه: هذا نزلهم يوم الدّين.
و (الحميم) الماء الحارّ و (تصلية) النار تسخينها و (السورة) الحدّة و الشدّة و (زفر) النّار تسمع لتوقّدها صوت و (الدّعة) السعة في العيش و السكون و (الازاحة) الازالة.
الاعراب
اختلف الشراح في كلمة أم في قوله أم هذا الذي أنشأه، ففي شرح المعتزلي أم ههنا إمّا استفهامية على حقيقتها كأنه قال: أعظكم و اذكركم بحال الشيطان و اغوائه أم بحال الانسان منذ ابتداء وجوده إلى حين مماته، و إمّا أن يكون منقطعة بمعنى بل كأنه قال عادلا و تاركا لما و عظهم به بل أتلو عليهم نبأ هذا الانسان الذي حاله كذا و كذا.
و في شرح البحراني أم للاستفهام و هو استفهام في معرض التقريع للانسان و أمره باعتبار حال نفسه و دلالة خلقته على جزئيات نعم اللّه عليه مع كفرانه لها و كان أم معادلة لهمزة الاستفهام قبلها، و التقدير أليس فيما أظهره اللّه لكم من عجايب مصنوعاته عبرة أم هذا الانسان و تقلّبه فى أطوار خلقته و حالته الى يوم نشوره.
أقول: لا يخفى ما فى ما ذكره من الاغلاق و الابهام بل عدم خلوّه من الفساد، إذ لم يفهم من كلامه أنّ أم متصلة أم منفصلة، فانّ قوله: أم للاستفهام مع قوله: و كان أم معادلة لهمزة الاستفهام يفيد كون أم متصلة إلّا أنه ينافيه قوله هو استفهام في معرض التّقريع لأنّ أم المتّصلة لا بدّ أن تقع بعد همزة التسوية نحو قوله تعالى:
«سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ» أو بعد همزة الاستفهام الّتي يطلب بها و بأم التعيين مثل أزيد عندك أم عمرو، و لا بدّ أن يكون الاستفهام على حقيقة لتكون معادلة لها في افادة الاستفهام كمعادلتها لهمزة التسوية في إفادة التّسوية و لذلك أيضا سمّيت متّصلة لاتصالها بالهمزة حتّى صارتا في إفادة الاستفهام بمنزلة كلمة واحدة، ألا ترى أنهما جميعا بمعنى أى و ينافيه أيضا قوله و التقدير أليس فيما أظهره آه بظهوره في كون الاستفهام للانكار التوبيخي و إن جعل أم منفصلة فلا يحتاج إلى المعادل الذي ذكره، فالأولى ما ذكره الشارح المعتزلي و إن كان هو أيضا لا يخلو عن شيء.
و التحقيق عندي هو أنّ أم يجوز جعلها متّصلة مسبوقة بهمزة الاستفهام أى ء أذكركم و أعظكم بما ذكرته و شرحته لكم أم اذكركم بهذا الذي حاله كذا و كذا، و يجوز جعلها منفصلة مسبوقة بالهمزة للاستفهام الانكاري الابطالي، و التقدير أليس فيما ذكرته تذكرة للمتذكر و تبصرة للمتبصر، بل في هذا الانسان الذي حاله فلان فيكون من قبيل قوله سبحانه: «أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها» و هذا كلّه مبنىّ على عدم كون الخطبة ملتقطة و أن لا يكون قبل قوله عليه السّلام أم هذا آه، حذف و إسقاط من السيّد، و إلّا فمعرفة حال أم موقوفة على الاطلاع و العثور بتمام الخطبة، هذا و المنصوبات الاثنان و العشرون أعني نطفة و علقة و جنينا و راضعا و وليدا و يافعا و معتبرا و مزدجرا و مستكبرا و سادرا و ماتحا و كادحا و لا يحسب و لا يخشع و غريرا و ميلسا و منقادا و سلسا و رجيع و صب و نضوسقم و نجيّا، كلّها أحوال، و العامل في كلّ حال ما قبله من الأفعال.
و سعيا مصدر بغير لفظ عامله من قبيل أ فنضرب عنكم الذكر صفحا، و في لذّات طربه متعلّق بقوله كادحا، و يحتمل الحاليّة، و تقيّة مفعول لأجله، و يسيرا صفة للظرف المحذوف بقرينة المقام اى زمانا يسيرا، و جزعا و قلقا منصوبان على المفعول له.
المعنى
اعلم أنّه لما وعظ المخاطبين بالحكم و المواعظ الحسنة عقّب ذلك و أكّده بذكر حال الانسان و ما أنعم اللّه به عليه من النعم الظاهرة و الباطنة بعد أن لم يكن شيئا مذكورا حتّى أنّه إذا كبر و بلغ أشدّه نفر و استكبر و لم يأت ما امر و لم ينته عما ازدجر ثمّ أدركه الموت في حال عتوّه و غروره فصار في محلّة الأموات رهين أعماله مأخوذا بأفعاله مبتلا بشدايد البرزخ و أهواله كما قال عليه السّلام: (أم هذا الذي أنشأه) اللّه سبحانه بقدرته الكاملة و حكمته التامة الجامعة (في ظلمات الأرحام و شغف الاستار) العطف كالتفسير، و المراد بالظلمات هى ما اشيرت إليها في قوله سبحانه ««يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ»» و هى إمّا ظلمة البطن و الرحم و المشيمة أو الصلب و الرحم و البطن و الأوّل رواه الطبرسيّ عن أبي جعفر عليه السّلام (نطفة دهاقا) أى مفرغة إفراغا شديدا (و علقة محاقا) أى ناقصة لم تتصوّر بعد بصورة الانسانية في الاتيان بهذه الأوصاف تحقيرا للإنسان كما أومى إليه بالاشارة (و جنينا و راضعا و وليدا و يافعا) و هذه الأوصاف الأربعة كسابقيها مسوقة على الترتب الطبيعي المشار إليه بقوله سبحانه: «ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً» فانّه سبحانه قد خلق الانسان أولا عناصر ثمّ مركبات يغذي الانسان ثمّ أخلاطا ثمّ نطفة ثمّ علقه ثمّ مضغة ثمّ عظاما و لحوما كما قال «و لقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثمّ جعلناه نطفة في قرار مكين ثمّ خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثمّ أنشأناه خلقا آخر فتبارك اللّه أحسن الخالقين».
ثمّ إنّه ما دام في الرّحم يسمّى جنينا كما قال: ««وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ حُرِّمَتْ»» و بعد ولادته يكون راضعا يرضع امّه اى يمتصّ ثديها، ثمّ يكون وليدا أى فطيما فاذا ارتفع قيل يافع.
قال في سرّ الأدب في ترتيب أحوال الانسان: هو ما دام في الرحم جنين فاذا ولد فوليد: ثمّ ما دام يرضع فرضيع، ثمّ إذا قطع منه اللّبن فهو فطيم، ثمّ إذ ادبّ و نمى فهو دارج، فاذا بلغ طوله خمسة أشبار فهو خماسي، فاذا سقطت رواضعه فهو مشغور، فاذا نبتت أسنانه بعد السّقوط فهو مثغر«»، فاذا تجاوز العشر أو جاوزها فهو مترعرع و ناشى، فإذا كاد يبلغ الحلم أو بلغه فهو يافع و مراهق، فاذا احتلم و اجتمعت قوّته فهو حرّ، و اسمه في جميع هذه الأحول غلام فاذا اخضّر شاربه قيل قد بقل وجهه، فاذا صار فتاة فهو فتى و شارح، فاذا اجتمعت لحيته و بلغ غاية شبابه فهو مجتمع، ثمّ ما دام بين الثلاثين و الأربعين فهو شابّ، ثمّ هو كهل إلى أن يستوفى الستين و قيل إذا جاوز أربعا و ثلاثين إلى إحدى و خمسين، فاذا جاوزها فهو شيخ.
إذا عرفت ذلك فلنعد إلى شرح قوله عليه السّلام (ثمّ منحه قلبا حافظا و لسانا لافظا و بصرا لاحظا) أى أعطاه عقلا و نطقا و نظرا و منحه ذلك و منّ عليه بذلك (ليفهم معتبرا و يقصر مزدجرا) أى ليعتبر بحال الماضين و ما نزل بساحة العاصين و ينتهى عما يفضيه إلى أليم النّكال و شديد الوبال، و ليفهم دلايل الصنع و القدرة و يستدلّ بشواهد الربوبية على وجوب الطاعة و الانتهاء عن المعصية فينزجر عن الخلاف و العصيان و يتخلّص عن الخيبة و الخسران.
(حتّى إذا قام اعتداله) بالتناسب و الاستقامة و التوسّط بين الحالين في كم أو كيف أى تمّ خلقته و صورته و تناسب أعضاؤه و خلت عن الزّيادة و النّقصان و كمل قواه المحتاج إليها (و استوى مثاله) أى اعتدل مقداره و صفته و يقال استوى الرجل إذا بلغ أشدّه أى قوّته و هو ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين (نفر) و فرّعن امتثال الأحكام الشّرعيّة و التّكاليف الالهيّة (مستكبرا) و متعنّتا (و خبط) أى سلك و سار على غير هداية (سادرا) لا يبالى ما صنع (ما تحافي غرب هواه) شبّه الهوا بالغرب لأنّ ذي الغرب إنما يستسقى بغرب الماء ليروى غلله و كذلك صاحب الهوى يجلب بهواه ما تشتهيه نفسه و تلتذّ به و تروى به غليل صدره و ذكر المتح ترشيح للتشبيه.
و أمّا ما قاله البحراني من أنّه استعار الغرب لهواه الذي يملاء به صحايف أعماله من المآثم كما يملاء ذو الغرب غربه من الماء و رشح تلك الاستعارة بذكر المتح فليس بشيء، أمّا أوّلا فلأنّ طرفي التشبيه مذكور في كلامه عليه السّلام فكيف يكون استعارة بل هو تشبيه بليغ، و أمّا ثانيا فلأنّ الهوى الذي يكون سببا لملاه صحايف الأعمال لا ربط له بالغرب الذي يملاء فيه الماء إذ المملوّ بالماء هو الغرب و المملو بالمآثم هو الصحايف لا الهوا نفسه، و كذلك لا مناسبة بين الاثم و الماء و الوجه ما ذكرناه فافهم جيّبدا.
و قوله (كادحا سعيا لدنياه) أى كان سعيه و همّته من جميع جهاته مقصورة في دنياه غير مراقب بوجه لآخرته (في لذّات طربه و بدوات اربه) أى حاجته التي تبدو له و تظهر و تختلف فيها آرائه و دواعيه (لا يحتسب رزيّة و لا يخشع تقيّة) يعني لم يكن يظنّ أن ينزل عليه مصيبة و لم يكن يخشع و يخاف من اللّه لأجل تقيّة و ذلك من فرط اغتراره بالدّنيا و شدّة تماديه في الشّهوات.
(فمات في فتنته) أى في ضلالته (غريرا) و مغرورا (و عاش في هفوته) و زلّته زمانا (يسيرا) قليلا (لم يفد عوضا و لم يقض مفترضا) أى لم يستفد و لم يكتسب من الكمالات و الخيرات عوضا ممّا أنعم اللّه سبحانه به عليه، و لم يأت شيئا من الطاعات و التكاليف التي فرض اللّه تعالى عليه.
(دهمته فجعات المنيّة في غبّر جماحه و سنن مراحه) يعني فاجأته دواهى الموت في بقاياى كوبه هواه و في طرق نشاطه (فظلّ سادرا) متحيّرا (و بات ساهرا في غمرات الآلام) و شدايدها (و طوارق الأوجاع و الأسقام) و نوازلها (بين أخ شقيق) عطوف (و والد شفيق) رؤوف و شقّ الشّيء و شقيقه هو نصفه.
و توصيف الأخ بالشّقيق لكونه كالشقّ منه و بمنزلة جزء بدنه و قلبه (و داعية بالويل جزعا) من النّساء و الاماء (و لا دمة للصدر قلقا) من البنات و الأمُّهات و هذا كلّه تشريح لحال أهل الميّت فانّه، إذا يئس عنه الطّبيب و ابلى الحبيب فهنا لك خفّ عنه عوّاده و أسلمه أهله و أولاده، فشقّت جيوبها نساؤه، و لطمت صدورها اماؤه، و اعول لفقده جيرانه، و توجّع لرزيّته إخوانه، و غضّوا بأيديهم عينيه، و مدّوا عند خروج نفسه يديه و رجليه.
فكم موجع يبكي عليه تفجّعا
و مستنجدا صبرا و ما هو صابر
و مسترجع داع له اللّه مخلصا
يعدّ و منه خير ما هو ذاكر
و كم شامت مستبشر بوفاته
و عما قليل كالّذي صار صائر
هذا حالهم، و أمّا حال الميّت فقد أشار إليه بقوله (و المرء في سكرة ملهثة) يلوك لسانه و يخرجه تعبا و عطشا (و غمرة كارثة) أى شدّة بلغ الغاية من المشقّة.
روى في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن عبد اللّه بن المغيرة عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ الميت إذا حضره الموت أو ثقه ملك الموت و لو لا ذلك استقرّ«» (و أنّه موجعة) أي تأوّه موجب لوجع الحاضرين و السّامعين (و جذبة مكربة و سوقة متعبة) و المراد بهما جذب الملائكة للرّوح و سوقهم له إلى خارج البدن كما قال تعالى: «وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ».
قال الطّبرسي: أي في شدايد الموت عند النّزع و الملائكة الذين يقبضون الأرواح باسطو أيديهم لقبض أرواحهم يقولون أخرجوا أنفسكم من أجسادكم عند معاينة الموت ازهاقا لهم و تغليظا عليهم و إن كان إخراجها من فعل غيرهم.
و قال الشّارح البحراني: اعلم أنّ تلك الجذبة يعود إلى ما يجده الميّت حال النّزع و هو عبارة عن ألم ينزل بنفس الرّوح يستغرق جميع أجزائه المنتشرة في أعماق البدن و ليس هو كساير ما يجده الرّوح المحتصّ ببعض الأعضاء كعضو شاكته شوكة و نحوها، لاختصاص ذلك بموضع واحد فألم النّزع يهجم على نفس الرّوح و يستغرق جميع أجزائه و هو المجذوب من كلّ عرق و عصب و جزء من الأجزاء و من أصل كلّ شعرة و بشرة لا تسألنّ عن بدن يجذب منه كلّ عرق من عروقه، و قد يتمثّل ذلك بشجرة شوك كانت داخل البدن ثمّ جذبت منه فهي الجذبة المكربة، و لمّا كان موت كلّ عضو عقيب الأمراض التي ربّما طالت تدريجا فتلك هى السّوقة المتغبة (ثمّ ادرج في أكفافه مبلسا) أي آيسا أو حزينا (و جذب) من وطنه إلى الخارج (منقادا سلسا) اي سهلا ليّنا (ثمّ القي على الأعواد) أي الأسرّة حالكونه (رجيع و صب و نضوسقم) يعني أنّه من جهة ابتلائه بتارات الأمراض و تردّده في أطوار الأتعاب و الأوصاب صار كالإبل الرّجيع الذي يردّد في الأسفار مرّة بعد اخرى و لأجل نحول جسمه من الأسقام كان الجمل النّضو الذي يهزل من كثرة الأحمال و الأثقال (تحمله حفدة الولدان و حشدة الاخوان) يعني أنّه بعد الفراغ من تغسيله و تكفينه و حمله على سريره أقبلوا على جهازه و شمّروا لابرازه و حمله أعوانه و ولدانه و أحبّاؤه و إخوانه.
فظلّ أحبّ القوم كان لقربه
يحثّ على تجهيزه و يبادر
و شمّر من قد أحضروه لغسله
و وجّه لما فاظ«» للقبر حافر
و كفّن في ثوبين فاجتمعت
له مشيّعة إخوانه و العشاير
ثمّ اخرج من بين صحبته«» (إلى دار غربته و) من محلّ عزته إلى (منقطع زورته) و من سعة قصره إلى ضيق قبره فحثّوا بأيديهم التراب و أكثروا التلدّد و الانتحاب، و وقفوا ساعة عليه و قد يئسوا من النّظر إليه، ثمّ رجعوا عنه معولين، و ولّوا مدبرين (حتّى إذا انصرف المشيّع و رجع المتفجّع) انتبه من نومته و أفاق من غشيته و (اقعد في حفرته نجيّا لبهتة السّؤال) و دهشته (و عثرة الامتحان) و زلّته.
و لعلّ المراد به أنّه يقعد في قبره مناجيا للمنكر و ا لنكير أي مخاطبا و مجاوبا لهما سرّا لعدم قدرته على الاعلان من أجل الدّهشة و الحيرة العارضة له من سؤالهما و العثرة التي ظهرت منه بسبب اختيارهما، أو المراد أنّه يناجي ربّه في تلك الحال من هول الامتحان و السؤال و يقول ربّ ارجعون لعلّي أعمل صالحا (و أعظم ما هنا لك بليّة) و ابتلاء (نزل الحميم و تصلية الجحيم) كما قال تعالى: «وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ «و في سورة النَّبَأ «لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَ غَسَّاقاً» قال بعض المفسّرين: إنّ الغسّاق عين في جهنّم يسيل إليها سمّ كلّ ذات حمة من حيّة و عقرب، و قيل هو ما يسيل من دموعهم يسقونه من الحميم، و قيل هو القيح الذي يسيل منهم يجمع و يسقونه، و قيل إنّ الحميم الماء الحارّ الذي انتهت حرارته و الغسّاق الماء البارد الذي انتهت برودته فهذا يحرق ببرده و ذاك يحرق بحرّه.
و قال الطّريحي: الحميم الماء الحارّ الشّديد الحرارة يسقى منه أهل النار أو يصبّ على أبدانهم، و عن ابن عبّاس لو سقطت منه نقطة على جبال الدّنيا لأذابتها، و كيف كان فقوله عليه السّلام مأخوذ من الآية الشّريفة في سورة الواقعة قال سبحانه: «وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ» و أمّا قوله (و فورات السّعير) فأراد به شدّة غليان نار الجحيم و لهبها، و كذلك أراد بقوله (و سورات الزّفير) شدّة صوت توقد النّار (لا فترة مريحة) لهم من العذاب (و لا دعة مزيحة) عنهم العقاب كما قال سبحانه: «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» (و لا قوّة حاجزة) تمنعه عن النّكال (و لا موتة ناجزة) أي عاجلة تريحة من ألم الوبال إذ الموت ربّما يكون نعمة و يعده الانسان راحة كما قال مجنون العامري و نعم ما قال: فلا ملك الموت المريح يريحني (و لا سنة مسلية) لهمّه و نومة منسية لغمّه و في الحديث إنّ اللّه ألقى على عباده السّلوة بعد المصيبة لو لا ذلك لانقطع النّسل (بين أطوار الموتات و عذاب السّاعات) أراد بالموتات الآلام الشّديدة و المشاق العظيمة مجازا فلاينا في قوله عليه الصّلاة و السّلام: و لا موتة ناجزة، فانّ المراد به الحقيقة (إنا باللّه عائذون) أي ملتجئون من شرّ المآل و سوء الحال،. و قد راعى في أكثر فقرات هذا الفصل السّجع المتوازي، هذا
و ينبغي تذييل المقام بامور مهمة
الاول فى تحقيق بدو خلق الانسان فاقول:قال سبحانه في سورة المؤمنين: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» و هذه الآية الشّريفة أجمع الآيات لأدوار الخلقة و أشملها لمراتب الفطرة، و هذه المراتب على ما اشيرت إليها فيها سبع.
المرتبة الأولى ما أشار إليه بقوله: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» أي من خلاصة من طين و هو مبدء نشو الآدمي لتولد النّطفة منها، و ذلك لأنّ النّطفة إنّما تتولّد من فضل الهضم الرّابع، و هو إنّما يتولّد من الأغذية، و هي إمّا حيوانية و إمّا نباتية، و الحيوانية تنتهي إلى النباتية و النّبات إنّما يتولّد من صفو الأرض و الماء، فالانسان بالحقيقة يكون متولّدا من سلالة من طين.
المرتبة الثّانية أنّ السّلالة بعد ما تواردت عليها أدوار الفطرة تكون نطفة في أصلاب الآباء فتقذف بالجماع إلى أرحام النّساء التي هي قرار مكين لها و إليه أشار سبحانه بقوله: «خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ»
المرتبة الثّالثة أنّ النّطفة بعد ما استقرّت في الرّحم أربعين يوما تصير علقة و هي الدّم الجامد.
المرتبة الرّابعة أنّ العلقة بعد ما مكثت في الرّحم أربعين يوما أيضا تصير مضغة أي قطعة لحم حمراء كأنّها مقدار ما يمضغ.
المرتبة الخامسة أنّ المضغة تمكث فيه أربعين ثالثة و يجعلها اللّه صلبا فتكون عظاما.
المرتبة السّادسة ما أشار إليه بقوله: فكسونا العظام لحما أى ممّا بقى من المضغة أو ممّا أنبته عليها ممّا يصل إليها و إنّما جعل اللحم كسوة لستره العظم كما يستر اللّباس البدن.
المرتبة السّابعة ما أشار إليه بقوله: ثمّ أنشأناه خلقا آخر أى خلقا متباينا للخلق الأوّل باضافة الرّوح إليه مباينا ما أبعدها، و ذلك بعد تمام ثلاثة أربعين أي كمال أربعة أشهر فكان حيوانا بعد ما كان جمادا، و حيّا بعد ما كان ميتا، و ناطقا و كان أبكم، و سميعا و كان أصم، و بصيرا و كان أعمى، و أودع باطنه و ظاهره بل كلّ عضو من أعضائه عجايب صنعته و بدايع حكمته التي لا يحيط بها وصف الواصفين و لا شرح الشّارحين، فتبارك اللّه أحسن الخالقين هذا.
و روى الصّدوق (ره) في الفقيه عن محمّد بن عليّ الكوفيّ، عن إسماعيل بن مهران، عن مرازم، عن جابر بن يزيد، عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إذا وقع الولد في جوف أمّه صار وجهه قبل ظهر أمّه إن كان ذكرا و إن كان انثى صار وجهها قبل بطن أمّها و يداه على و جنتيه و ذقنه على ركبتيه كهيئة الحزين المهموم، فهو كالمصرور منوط بعماء من سرّته إلى سرّة امّه، فبتلك السرّة يغتذي من طعام امّه و شرابها إلى الوقت المقدّر لولادته، فيبعث اللّه عزّ و جلّ ملكا إليه فيكتب على جبهته: شقيّ أو سعيد، مؤمن أو كافر غنيّ أو فقير، و يكتب أجله و رزقه و سقمه و صحّته.
فاذا انقطع الرّزق المقدّر له من سرّة امّه زجره الملك زجرة فانقلب فزعا من الزّجرة و صار رأسه قبل الفرج، فاذا وقع إلى الأرض وقع إلى هول عظيم و عذاب أليم إن أصابته ريح أو مشقّة أو مسّته يد وجد لذلك من الألم ما يجد المسلوخ عنه جلده.
يجوع فلا يقدر على الاستطعام، و يعطش فلا يقدر على الاستسقاء، و يتوجّع فلا يقدر على الاستغاثة، فيوكّل اللّه تبارك و تعالى برحمته و الشّفقة عليه و المحبّة له أمّه فتقيه الحرّ و البرد بنفسها، و تكاد تفديه بروحها، و تصير من التّعطف عليهبحال لا تبالي أن تجوع إذا شبع و تعطش إذا روى، و تعرى إذا كسى.
و جعل اللّه تعالى ذكره رزقه في ثدي أمّه في إحداهما شرابه و في الاخرى طعامه، حتّى إذا رضع أتاه اللّه عزّ و جلّ في كلّ يوم بما قدر له فيه من رزق، فاذا أدرك فهمّه الأهل و المال و الشّره و الحرص، ثمّ هو مع ذلك معرض الآفات و العاهات و البليّات من كلّ وجه، و الملائكة ترشده و تهديه، و الشّياطين تضلّه و تغويه، فهو هالك إلّا أن ينجيه اللّه عزّ و جلّ، و قد ذكر اللّه تعالى ذكره نسبة الانسان في محكم كتابه فقال عزّ و جلّ: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ» قال جابر بن عبد اللّه الأنصارى: فقلت: يا رسول اللّه هذه حالنا فكيف حالك و حال الأوصياء بعدك في الولادة فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم مليّا ثمّ قال: يا جابر لقد سألت عن أمر جسيم لا يحتمله إلّا ذو حظ عظيم، إنّ الأنبياء و الأوصياء مخلوقون من نور عظمة اللّه عزّ و جلّ ثناؤه يودع اللّه أنوارهم أصلابا طيّبة و أرحاما طاهرة يحفظها بملائكته و يربّيها بحكمته و يغذوها بعلمه، فأمرهم يجلّ عن أن يوصف، و أحوالهم تدّق عن أن تعلم، لأنّهم نجوم اللّه في أرضه، و أعلامه في بريّته، و خلفاؤه على عباده، و أنواره في بلاده، و حججه على خلقه، يا جابر هذا من مكنون العلم و مخزونه فاكتمه إلّا من أهله.
و في توحيد المفضّل عن الصّادق عليه السّلام قال. و سنبتدئ يا مفضّل بذكر خلق الانسان فاعتبر به، فأوّل ذلك ما يدبّر به الجنين في الرّحم و هو محجوب في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، و ظلمة الرّحم، و ظلمة المشيمة، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء و لا دفع أذى و لا استجلاب منفعة و لا دفع مضرّة، فإنّه يجرى إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذ و الماء النّبات فلا يزال ذلك غذاه.
حتّى إذا كمل خلقه و استحكم بدنه و قوى اديمه على مباشرة الهواء و بصره على ملاقات الضّياء هاج الطّلق بأمّه فازعجه أشدّ إزعاج و أعنفه حتّى يولد، فاذا ولد صرف ذلك الدّم الّذي كان يغذوه من دم امّه إلى ثدييها، فانقلب الطّعم و اللّون إلى ضرب آخر من الغذاء، و هو أشدّ موافقة للمولود من الدّم فيوافيه في وقت حاجته إليه فحين يولد قد تلمط و حرّك شفتيه طلبا للرّضاع فهو يحدى ثدى أمّه كالاداوتين المعلّقتين لحاجته، فلا يزال يغتذي باللّبن ما دام رطب البدن رقيق الأمعاء ليّن الأعضاء.
حتّى إذا تحرّك و احتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتدّ و يستوي بدنه و طلعت له الطّواحين «من الاسنان خ» و الأضراس ليمضغ به الطعام فيلين عليه و يسهل له إساغته فلا يزال كذلك حتّى يدرك، فاذا أدرك و كان ذكرا طلع الشّعر في وجهه فكان ذلك علامة الذّكر و عزّ الرّجل الذي يخرج به عن حدّ الصّبا و شبه النّساء و إن كانت انثى يبقى وجهها نقيّا من الشّعر لتبقى لها البهجة و النّضارة التي تحرّك الرّجال لما فيه دوام النّسل و بقاؤه، الحديث.
الثاني في تحقيق السؤال في القبر و ذكر شبهة المنكرين له و دفعها
اعلم أنّ كلام الامام عليه السّلام في هذا الفصل صريح في ثبوت السؤال في القبر و هو حقّ يجب الايمان و الاذعان به، و عليه قد انعقد إجماع المسلمين بل هو من ضروريات الدّين، و منكره كافر خالد في الجحيم لا يفترّ عنه العذاب الأليم، و لم يخالف فيه إلّا بعض من انتسب إلى الاسلام كضرار بن عمر و طايفة من المعتزلة و جمع من الملاحدة مموّهين على العوام الّذين يصغون إلى كلّ ناعق بأنّ الميّت بعد وضعه في قبره إن حشى فمه بالجصّ و نحوه و دفن ثمّ يؤتى إليه في اليوم الآخر و ينبش قبره فانّك تراه على حاله لم يتغيّر فلو كان في القبر سؤال و حساب لتغيّرت حالته و لا نفتح فمه و سقط الجصّ، و أيضا فانا لا نسمع عذابه في القبر مع شدّته و صعوبته.
و فساد ذلك الكلام غنيّ عن البيان، لأنّ هذه العين و الأذن لا تصلحان لمشاهدة الأمور الملكوتيّة و سماعها، و كلّ ما يتعلّق بالآخرة فهو من عالم الملكوت.
ألا ترى أنّ الصّحابة كانوا يجلسون عند النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حين نزول جبرئيل عليه و هو يراه و يتكلّم معه في حضورهم و النّاس لا يرونه و لا يسمعون كلامه و كذلك ملكا القبر لا يمكن للنّاس أن يدركوا سؤالهما و جواب الميّت لهما بهذه الحواسّ، و كذلك الحيّات و العقارب في القبر ليس من جنس الحيّات و العقارب في هذا العالم حتّى تدرك بالحسّ.
و يوضح ذلك أنّ النّائم بحضور الجالسين قد يشاهد في نومه الحيّات و العقارب و ساير المولمات و الموذيات تؤلمه و تؤذيه و تلدغه فيتألم و يتأذي بحيث يرشح جبينه و يعرق و يبكي في نومه من شدّة الألم و الأذى و مع ذلك كلّه فلا يرى الحاضرون ممّا يرى و يسمع شيئا.
و بالجملة فلا يعتدّ بهذه التّرّهات و التمويهات، و المنكر قد وجد جزاء إنكاره و هو الآن في قبره مقرّ بما أنكر مذعن بما كفر مدرك لما أنكره بالسّمع و البصر، و الحمد للّه الذي منّ علينا بالايمان بالغيب، و خلّص قلوبنا من الشّك و الرّيب.
قال الصّادق عليه السّلام في رواية الصّدوق: ليس من شيعتنا من أنكر ثلاثة: المعراج، و سؤال القبر، و الشفاعة.
و في كتاب السّماء و العالم للمحدّث المجلسي عن الكافي عن بعض أصحابه عن عليّ بن العبّاس عن الحسن بن عبد الرّحمن عن أبي الحسن الأوّل قال: إنّ الأحلام لم تكن فيما مضى في أوّل الخلق و إنّما حدثت، فقلت: و ما العلّة في ذلك
فقال عليه السّلام: إنّ اللّه عزّ ذكره بعث رسولا إلى أهل زمانه فدعاهم إلى عبادة اللّه و طاعته سبحانه فقالوا: إن فعلنا ذلك فمالنا فو اللّه ما أنت باكثرنا مالا و لا بأعزّنا عشيرة قال لهم: إنّكم إن أطعتموني أدخلكم اللّه الجنّة، و إن عصيتموني أدخلكم اللّه النّار، فقالوا: و ما الجنّة و ما النّار فوصف لهم ذلك، فقالوا: متى نصير إلى ذلك فقال: إذا متم، فقالوا: لقد رأينا أمواتنا صاروا عظاما و رفاتا فازدادوا له تكذيبا و به استخفافا، فأحدث اللّه عزّ و جلّ فيهم الأحلام فأتوا فأخبروه بما رأوا و ما أنكروا من ذلك، فقال لهم: إنّ اللّه سبحانه أراد أن يحتجّ عليكم بهذا، هكذا تكون أرواحكم إذا متّم و إن بليت أبدانكم تصيرا لأرواح إلى عقاب حتّى تبعث الأبدان، هذا.
و بقى الكلام في عموم سؤال القبر قال العلّامة المجلسي (ره) المشهور بين متكلّمي الاماميّة عدم عمومه و اختصاصه بمحض المؤمن و محض الكافر و أنّه ليس على المستضعفين و لا على الصّبيان و المجانين سؤال، و حكى عن الشّهيد (ره) انّه قال: إنّ السؤال حقّ اجماعا إلّا في من يلقّن حجّته.
أقول: و يدلّ على ذلك و على اختصاصه بالمؤمن و الكافر المحض الأخبار المتظافرة في الكافي و غيره و سيجيء بعضها في ضمن الأخبار الآتية.
الثالث في حالات الميت حين اشرف على الموت و حين ازهاق روحه و عند الغسل و التكفين و حمله على سريره و اذا وضع فى قبره و كيفية السؤال فى القبر و ضغطة القبر و بعض عقوباته فى البرزخ و مثوباته
و نحن نشرح كلّ ذلك بما وصل إلينا في ذلك الباب من الأخبار المرويّة عن أئمّتنا الأطياب الأطهار سلام اللّه عليهم ما تعاقب اللّيل و النّهار، فأقول:
أما حالة الاحتضار
و أعني بها حالة إشراف الميّت على الموت فهي حالة يلهو المرء فيها بكليّته عن الدّنيا و يكون توجّهه إلى الآخرة، و يحضر حينئذ عنده رسول اللّه و الأئمة سلام اللّه عليهم و الملائكة الموكّلون بقبض روحه كما يحضر عنده أهله و عياله و أحبّاؤه و أقرباؤه فتارة يكون مخاطبته مع الأوّلين و أخرى مع الآخرين.
روى عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسير قوله: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ» باسناده عن سويد بن الغفلة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إنّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من الدّنيا و أوّل يوم من الآخرة مثّل له أهله و ماله و ولده و عمله، فينظر إلى ماله فيقول: و اللّه إنّي كنت عليك لحريصا شحيحا فما ذا عندك فيقول: خذ منّي كفنك، ثم يلتفت إلى ولده فيقول: و اللّه إنّي كنت لكم لمحبّا و إنى كنت عليكم لمحاميا فما ذا عندكم فيقولون: نؤدّيك إلى حفرتك و نواريك فيها، ثمّ يلتفت إلى عمله فيقول: و اللّه إنّى كنت من الزّاهدين فيك و إنّك كنت علىّ ثقيلا فما ذا عندك فيقول: أنا قرينك في قبرك و يوم حشرك حتّى اعرض أنا و أنت على ربّك.
فان كان للّه وليّا أتاه أطيب النّاس ريحا و أحسنهم منظرا و أزينهم رياشا فيقول: ابشر بروح من اللّه و ريحان و جنّة النّعيم قد قدمت خير مقدم فيقول: من أنت قال: أنا عملك الصّالح ارتحل من الدّنيا إلى الجنّة و أنّه ليعرف غاسله و يناشد حامله أن يعجّله.
فاذا ادخل قبره أتاه ملكان و هما فتّان القبر يجرّان أشعارهما و يبحثان الأرض بأنيابهما و أصواتهما كالرّعد القاصف و أبصارهما كالبرق الخاطف فيقولان له: من ربّك، و من نبيّك و ما دينك فيقول: اللّه ربّى و محمّد نبيّي و الاسلام ديني فيقولان له: ثبّتك اللّه بما تحبّ و ترضى و هو قول اللّه: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ» الآية فيفسحان له في قبره مدّ بصره و يفتحان له بابا إلى الجنّة و يقولان له: نم قرير العين نوم الشّابّ النّاعم، و هو قوله: «أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا» و إذا كان لربّه عدوّا فانّه يأتيه أقبح من خلق اللّه رياشا و أنتنه ريحا فيقول: من أنت فيقول: عملك فيقول: ابشر بنزل من حميم و تصلية جحيم، و انّه ليعرف غاسله و يناشد حامله أن يحبسه.
فاذا ادخل قبره أتياه ممتحنا القبر فألقيا أكفانه ثمّ قالا له: من ربّك، و من نبيّك، و ما دينك فيقول: لا أدري، فيقولان: لا دريت و لا هديت، فيضربانه بمرزبة ضربة ما خلق اللّه دابّة إلّا و تذعر لها ما خلا الثّقلين، ثمّ يفتحان له بابا إلى النّار، ثمّ يقولان له: نم بشرّ حال.
فهو من الضيق مثل ما فيه القنا«» من الزّج حتّى أنّ دماغه يخرج من ما بين ظفره و لحمه، و يسلّط اللّه عليه حيّات الأرض و عقاربها و هوامّها فتنهشه حتّى يبعث اللّه من قبره. و أنّه ليتمنّى قيام السّاعة ممّا هو فيه من الشّر.
و رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم مسندا عن سويد بن غفلة عنه عليه السّلام مثله.
و في الكافي عن أبي اليقظان عمّار الأسدي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو أنّ مؤمنا أقسم على ربّه أن لا يميته ما أماته أبدا، و لكن إذا كان ذلك أو إذا حضر أجله بعثه اللّه عزّ و جلّ إليه ريحين: ريحا يقال لها المنسية و ريحا يقال المسخية، فأمّا المنسية فانّها تنسيه أهله و ماله، و أمّا المسخية فانّها تسخي نفسه عن الدّنيا حتّى يختار ما عند اللّه.
و عن أبي خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما من أحد يحضره الموت إلّا وكّل به إبليس من شياطينه من يأمره بالكفر و يشكّكه في دينه حتّى يخرج نفسه، فمن كان مؤمنا لم يقدر عليه فاذا حضرتم موتاكم فلقّنوهم شهادة أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه حتّى يموت.
و في رواية أخرى قال صلّى اللّه عليه و آله: فلقّنه كلمات الفرج و الشّهادتين و يسمّى له الاقرار بالأئمة عليهم السّلام واحدا بعد واحد حتّى يتقطع عنه الكلام.
و عن سدير قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك يابن رسول اللّه هل يكره المؤمن على قبض روحه قال عليه السّلام: لا و اللّه إنّه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك فيقول له ملك الموت: يا وليّ اللّه لا تجزع فو الّذي بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله لأنا أبرّ بك و أشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر قال: و يمثّل له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة من ذريّتهم عليهم السّلام فيقال له: هذا رسول اللَّه و أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة عليهم السّلام رفقاؤك، قال: فيفتح عينيه فينادى روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول: «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ» إِلى محمّد و أهل بيته «ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً» بالولاية «مَرْضِيَّةً» بالثّواب «فَادْخُلِي فِي عِبادِي» يعني محمّداً و أهل بيته «وَ ادْخُلِي جَنَّتِي» فما شيء أحبّ إليه من استلال روحه.
و عن عليّ بن عقبة عن أبيه قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا عقبة لا يقبل اللّه من العباد يوم القيامة إلّا هذا الأمر الذي أنتم عليه، و ما بين أحدكم و بين أن يرى ما يقرّبه عينه إلّا أن تبلغ نفسه إلى هذه، ثمّ أهوى بيده إلى الوريد، ثمّ اتّكى.
و كان معي المعلّى فغمزني أن أسأله فقلت: يابن رسول اللّه فاذا بلغت نفسه هذه أيّ شيء يرى فقلت له بضعة عشر مرّة: أيّ شيء يرى، فقال في كلّها: يرى، لا يزيد عليها، ثمّ جلس في آخرها فقال: يا عقبة، فقلت: لبيّك و سعديك، فقال: أبيت إلّا أن تعلم فقلت: نعم يابن رسول اللّه إنّما ديني مع دينك فاذا ذهب ديني كان ذلك كيف لي بك يا بن رسول اللّه كلّ ساعة و بكيت، فرقّ لي فقال: يراهما و اللّه، فقلت: بأبي و أمّي من هما قال: ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلمّ و علي عليه السّلام يا عقبة لن تموت نفس مؤمنة أبدا حتّى تراهما قلت: فاذا نظر إليهما المؤمن أ يرجع إلى الدّنيا فقال: لا، يمضى أمامه اذا نظر اليهما مضى أمامه فقلت له: يقولان شيئا قال: نعم يدخلان جميعا على المؤمن، فيجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند رأسه و عليّ عليه السّلام عند رجليه فيكبّ عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيقول: يا وليّ اللّه ابشر أنا رسول اللّه إنّي «أناخ» خير لك ممّا تركت من الدّنيا.
ثمّ ينهض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيقوم عليّ عليه السّلام حتّى يكبّ عليه فيقول: يا وليّ اللّه ابشر أنا عليّ بن أبي طالب الذي كنت تحبّ أنا لأنفعنك، ثمّ قال عليه السّلام: إنّ هذا في كتاب اللّه عزّ و جل، فقلت: أين جعلني اللّه فداك هذا من كتاب اللّه قال: في يونس قول اللّه عزّ و جلّ ههنا: «الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» و عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام إذا حيل بينه و بين الكلام أتاه رسول اللّه و من شاء اللّه فجلس رسول اللّه عن يمينه و الآخر عن يساره فيقول له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أمّا ما كنت ترجو فهو ذا أمامك، و أمّا ما كنت تخاف منه فقد أمنت منه.
ثمّ يفتح له باب إلى الجنّة فيقول هذا منزلك من الجنّة فان شئت رددناك إلى الدّنيا و لك فيها ذهب و فضّة، فيقول: لا حاجة لي في الدّنيا فعند ذلك يبيض لونه و يرشح جبينه و تقلص شفتاه و تنتشر منخراه و تدمع عينه اليسرى فأىّ هذه العلامات رأيت فاكتف بها، فاذا خرجت النفس من الجسد فيعرض عليها كما عرض عليه و هي في الجسد فتختار الآخرة الحديث.
أقول: و الأخبار في رؤية النّبيّ و الأئمّة صلوات اللّه عليه و عليهم كثيرة كادت تبلغ حدّ التواتر، و يأتي بعضها بعد ذلك، و بتلك الأخبار يطيب نفوسنا و يسكن قلوبنا إلى الموت، و بها أيضا يعلم أنّ كراهة المؤمن للموت على ما في الحديث القدسي من قول اللّه سبحانه: ما تردّدت في شيء أنا فاعله كتردّدي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت و أكره مسائته إنّما هي قبل الاستبشار برؤيتهم عليهم السّلام، و أمّا بعد معاينتهم فليس شيء أحبّ إليه من الموت كما عرفت في الرّوايات.
و يدلّ عليه صريحا ما في الكافي عن عبد الصّمد بن بشير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت: أصلحك اللَّه من أحبّ لقاء اللّه أحبّ اللّه لقاءه و من أبغض لقاء اللّه أبغض اللّه لقاءه قال عليه السّلام: نعم، قلت: فو اللّه إنّا لنكره الموت، فقال عليه السّلام: ليس ذلك حيث تذهب إنّما ذلك عند المعاينة إذا رأى ما يحبّ فليس شيء أحبّ إليه من أن يتقدّم و اللّه تعالى يحبّ لقاءه و هو يحبّ لقاء اللّه حينئذ و إذا رأى ما يكره فليس شيء أبغض إليه من لقاء اللّه و اللّه يبغض لقاءه.
و فيه عن يحيى بن سابور قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول: في الميّت تدمع عيناه عند الموت فقال عليه السّلام: ذلك عند معاينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيرى ما يسرّه، ثمّ قال عليه السّلام: أما ترى الرّجل يرى ما يسرّه و ما يحبّ فتدمع عينه لذلك و يضحك.
و أما صفة ملك الموت و كيفية قبض الروح
فروى السيّد السّند السيّد نعمة اللّه الجزائري أنّ الخليل عليه السّلام قال لملك الموت يوما: يا ملك الموت احبّ أن أراك على الصّورة التّي تقبض فيها روح المؤمن، فقال: يا إبراهيم اعرض عنّي بوجهك حتّى أتصوّر على تلك الصّورة، فلمّا رآه إبراهيم عليه السّلام رأى صورة شابّ حسن الوجه أبيض اللون تعلوه الأنوار في أحسن ما يتخيّل من الهيئة فقال: يا إبراهيم في هذه الصّورة اقبض روح المؤمن فقال عليه السّلام: يا ملك الموت لو لم يلق المؤمن إلّا لقائك لكفاه راحة.
ثمّ قال عليه السّلام: اريد أن أراك على الصّفة التي تقبض فيها روح الكافر، فقال:
يا إبراهيم لا تقدر، فقال: أحبّ ذلك، فقال: أعرض بوجهك فأعرض بوجهه ثمّ قال: انظر فنظر إليه فاذا هو أسود كاللّيل المظلم و قامته كالنّخل الطّويل و النار و الدّخان يخرجان من منخريه و فمه إلى عنان السّماء.
فلمّا نظر إليه غشي على إبراهيم عليه السّلام فرجع ملك الموت إلى حالته فلمّا أفاق الخليل عليه السّلام قال: يا ملك الموت لو لم يكن للكافر هول من الموت إلّا رؤيتك لكفاه عن ساير الأهوال.
فاذا أتى إلى المؤمن سلّ روحه سلّا رقيقا لطيفا حتّى أنّه يحصل له الرّاحة من ذلك السّلّ لما يشاهده من مكانه في الجنّة و إن كان كافرا أتى إليه بحديدة محميّة بنار جهنّم فأدخلها في حلقومه و جذب روحه بها يخيل إليه أنّ أطباق السّماوات و الأرض قد وقعت عليه و طبقته حتّى يخرج زبدة على فمه كالبعير.
أقول: و يدلّ عليه ما في الكافي عن ابن الفضيل عن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: إنّ آية المؤمن إذا حضره الموت بياض وجهه أشدّ من بياض لونه و يرشح جبينه و يسيل من عينيه كهيئة الدّموع فيكون ذلك خروج نفسه، و إنّ الكافر يخرج نفسه سلّا من شدقه«» كزبد البعير أو كما يخرج نفس البعير.
و فيه باسناده عن عمّار بن مروان قال: حدّثني من سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: منكم و اللّه يقبل، و لكم و اللّه يغفر إنّه ليس بين أحدكم و بين أن يغتبط و يرى السّرور و قرّة العين إلّا أن تبلغ نفسه ههنا و أومى بيده إلى حلقه.
ثمّ قال عليه السّلام: إنّه إذا كان ذلك و احتضر حضره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عليّ عليه السّلام و جبرئيل و ملك الموت فيدنو منه عليّ عليه السّلام فيقول: يا رسول اللّه إنّ هذا كان يحبّنا أهل البيت فأحبّه، و يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا جبرئيل إنّ هذا يحبّ اللّه و رسوله و أهل بيت رسوله فأحبّه، و يقول جبرئيل عليه السّلام: يا ملك الموت إنَّ هذايحبّ اللّه و رسوله و أهل بيت رسوله فأحبّه و ارفق به.
فيدنو منه ملك الموت فيقول: يا عبد اللّه أخذت فكاك رقبتك أخذت أمان براتك تمسّكت بالعصمة الكبرى في الحياة الدّنيا قال: فيوفّقه اللّه عزّ و جلّ فيقول: نعم، فيقول: و ما ذاك فيقول: ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فيقول: صدقت أمّا الذي كنت تحذره فقد آمنك اللّه منه، و أمّا الذي كنت ترجوه فقد أدركته ابشر بالسّلف الصّالح مرافقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عليّ و فاطمة عليهم السّلام.
ثمّ يسلّ نفسه سلّا رفيقا، ثمّ ينزل بكفنه من الجنّة و حنوطه من الجنّة بمسك أذفر فيكفن بذلك الكفن و يحنط بذلك الحنوط، ثمّ يكسى حلّة صفراء من حلل الجنّة.
فاذا وضع في قبره فتح له باب من أبواب الجنّة يدخل عليه من روحها و ريحانها، ثمّ يفتح له عن أمامه مسيرة شهر و عن يمينه و عن يساره، ثمّ يقال له: نم نومة العروس على فراشها ابشر بروح و ريحان و جنّة نعيم و ربّ غير غضبان.
ثمّ يزور آل محمّد سلام اللّه عليهم في جنان رضوى فيأكل معهم من طعامهم، و يشرب معهم من شرابهم، و يتحدّث معهم في مجالسهم حتّى يقوم قائمنا فاذا قام قائمنا بعثهم اللّه تعالى فأقبلوا معه يلبّون زمرا زمرا و عند ذلك يرتاب المبطلون و يضمحلّ المحلّون و قليل ما يكونون هلكت المحاضرون و نجا المقرّون. «بون خ» من أجل ذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام أنت أخي و ميعاد ما بيني و بينك وادي السّلام.
قال عليه السّلام و إذا احتضر الكافر حضره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليّ عليه السّلام و جبرئيل و ملك الموت فيدنو منه عليّ عليه السّلام فيقول: يا رسول اللّه إنّ هذا كان يبغضنا أهل البيت فأبغضه و يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل إنّ هذا كان يبغض اللّه و رسوله و أهل بيت رسوله فأبغضه، فيقول جبرئيل عليه السّلام: يا ملك الموت إنّ هذا كان يبغض اللّه و رسوله و أهل بيت رسوله فأبغضه و اعنف عليه.
فيدنو منه ملك الموت فيقول: يا عبد اللّه أخذت فكاك رهانك و أمان براتكتمسّكت بالعصمة الكبرى في الحياة الدّنيا فيقول: لا، فيقول: ابشر يا عدوّ اللّه بسخط اللّه عزّ و جلّ و عذابه و النّار، أمّا الذي كنت تحذر فقد نزل بك.
ثمّ يسلّ نفسه سلا عنيفا ثمّ يوكّل بروحه ثلاثمأة شيطان كلّهم يبزق في وجهه و يتأذى بروحه فاذا وضع في قبره فتح له باب من أبواب النّار فيدخل عليه من فيحها و لهبها.
و عن الهيثم بن واقد عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على رجل من أصحابه و هو يجود بنفسه فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: يا ملك الموت أرفق بصاحبي فانّه مؤمن، فقال: ابشر يا محمّد فانّي بكلّ مؤمن رفيق.
و اعلم يا محمّد أنّي اقبض روح ابن آدم فيجزع أهله فأقوم في ناحية من دارهم فأقول ما هذا الجزع فو اللّه ما تعجلناه قبل أجله و ما كان لنا في قبضه من ذنب فان تحتسبوه و تصبروا توجروا، و إن تجزعوا تأثموا و توزروا، و اعلموا أنّ لنافيكم عودة ثمّ عودة فالحذر ثم الحذر إنّه ليس في شرقها و لا في غربها أهل بيت مدر و لا وبر إلّا و أنا أتصفّحهم في كلّ يوم خمس مرّات و لأنا أعلم بصغيرهم و كبيرهم منهم بأنفسهم و لو أردت قبض روح بعوضة ما قدرت عليها حتّى يأمرني ربّي بها.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إنّما يتصفّحهم في مواقيت الصّلاة فان كان ممّن يواظب عليها عند مواقيتها لقّنه شهادة أن لا إله إلّا اللّه و نحىّ عنه ملك الموت إبليس.
و عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ الميّت إذا حضره الموت أو ثقه ملك الموت و لو لا ذلك ما استقرّ.
و أما التغسيل و التكفين
فقد ورد في الرّوايات أن الرّوح بعد خروجه من الجسد يكون مطلّا على الجسد و أنّه ليرى ما يفعل به.
و في رواية اصبغ بن نباتة أنّه يناشد الغاسل و يقول له عند تغسيله: باللّه عليك يا عبد اللّه رفقا بالبدن الضّعيف فو اللّه ما خرجت من عرق إلّا انقطع، و لا من عضو إلّا انصدع، فو اللّه لو سمع الغاسل ذلك القول لما غسل ميّتا أبدا.
و في جامع الأخبار قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: فو الذي نفس محمّد بيده لو يرون مكانه و يسمعون كلامه لذهبوا عن ميّتهم و لبكوا على نفوسهم حتّى إذا حمل الميّت على نعشه رفرف روحه فوق النّعش و هو ينادي: يا أهلى و يا ولدي لا تلعبن بكم الدّنيا كما لعبت بي، الحديث هذا.
و في الوسائل في عدّة روايات الأمر باجادة الأكفان و المغالات في أثمانها معلّلا بأنّ الموتى يبعثون بها و بأنّهم يتباهون بأكفانهم.
و فيه أنّ موسى بن جعفر عليهما السّلام كفن في حبرة استعملت له بمبلغ خمسمائة دينار عليها القرآن كلّه.
و فيه عن يونس بن يعقوب عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام قال: سمعته يقول: إنّي كفنت أبي في ثوبين شطويين كان يحرم فيهما و قميص من قمصه و عمامة كانت لعليّ بن الحسين عليهما السّلام و في برد اشتريته بأربعين دينارا، و لو كان اليوم ساوى أربعمائة دينار.
و أما حالته اذا حمل على سريره
فهو أنّه إن كان مؤمنا خرج روحه يمشى بين يدي القوم قدما و تلقاه أرواح المؤمنين و يبشّرونه بما أعدّ اللّه له جلّ ثناؤه من النّعيم.
و إن كان عدوّا اللّه سبحانه فهو كما ورد في رواية الكلينيّ عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إذا حمل عدوّ اللّه إلى قبره نادى حملته ألا تسمعون يا اخوتاه إنّي أشكو إليكم ما وقع فيه أخوكم الشّقيّ إنّ عدوّ اللّه خدعني فأوردني ثمّ لم يصدرني و أقسم لي أنّه ناصح لي فغشّني و أشكو إليكم دنيا غرّتني حتّى إذا اطمأننت إليها صرعتني، و أشكو إليكم أخلّاء الهوى منّوني ثمّ تبرّؤوا منّي و خذلوني، و أشكو إليكم أولادا حميت عنهم و آثرتهم على نفسي فأكلوا مالي و أسلموني.
و أشكو إليكم مالا ضيّعت فيه حقّ اللّه سبحانه فكان و باله علىّ و كان نفعه لغيري، و أشكو إليكم دارا أنفقت عليها حربيتي«» و صار سكّانها غيريأشكو إليكم طول الثواء في قبري ينادي أنا بيت الدّود و أنا بيت الظلمة و الوحشة و الضّيق.
يا اخوتاه فاحبسوني ما استطعتم و احذروا مثل ما لقيت فانّي قد بشّرت بالنّار و بالذّل و الصّغار و غضب العزيز الجبّار، و احسرتاه على ما فرّطت في جنب اللّه و يا طول عولناه فمالي من شفيع يطاع و لا صديق يرحمني فلو أنّ لي كرّة فأكون من المؤمنين.
و في رواية إنّ أبي جعفر عليه السّلام كان يبكي إذا ذكر هذا الحديث.
ثمّ إنّه إذا أتيت بالميّت إلى شفير قبره فأمهله ساعة فانّه يأخذ اهبته للسّؤال كما وردت رواية أبي الحسن موسى عليه السّلام.
و إذا حضر المؤمنون للصّلاة عليه و شهدوا له بالخير و الصّلاح فقد ورد في الخبر انّ اللّه سبحانه يجيز شهادتهم و يكتبه عنده من الأخيار و إن كان في علمه عزّ و جلّ من الأشرار.
قال الصّادق عليه السّلام: إذا حضر الميت أربعون رجلا فقالوا: اللّهم إنّا لا نعلم منه إلّا خيرا، قال اللّه تعالى: قد قبلت شهادتكم له و غفرت له ما علمت ممّا لا تعلمون.
قال السيّد الجزايري في الأنوار النّعمانيّة روى الشّيخ الكلينيّ قدّس اللّه روحه باسناده إلى الامام أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام قال: كان في بني إسرائيل عابد فأوحى اللّه تعالى إلى داود على نبيّنا و عليه السّلام إنّه مرائي قال: ثمّ إنّه مات فلم يشهد جنازته داود، فقام أربعون من بني إسرائيل فقالوا: اللهمّ إنا لا نعلم منه إلّا خيرا و أنت أعلم به منّا فاغفر له «قال فلمّا غسل أتى إليه أربعون غير الأربعين و قالوا: اللّهمّ إنّا لا نعلم منه إلّا خيرا فأنت أعلم به منّا فاغفر له خ ل» قال عليه السّلام فأوحى اللّه إلى داود: ما منعك أن تصلّي قال داود: للذي أخبرتني به، قال: فأوحى اللّه إليه انّه قد شهد له قومه فأجزت شهادتهم و غفرت له و عملت ما لم تعلموا.
و اما حاله بعد وضعه فى قبره
ففي الحديث إنّ الرّوح يدخل إلى حقويه و يسمع لفظ أيدى القوم من تراب قبره فعند ذلك ينظر يمينا و شمالا فلا يرى إلّا ظلمات ثلاث: ظلمة الأرض، و ظلمة العمل، و ظلمة الوحشة فيا لها من داهية عظيمة و رزيّة جسيمة، و أوّل ملك يدخل عليه يسمّى رومان فتان القبور، و في رواية اصبغ بن نباته يسمّي منبّه.
قال السيّد الجزائري رحمه اللّه: روى عبد اللّه بن سلام أنّه قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن أوّل ملك يدخل في القبر على الميّت قبل منكر و نكير، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ملك يتلألأ وجهه كالشّمس اسمه رمان«» يدخل على الميّت ثمّ يقول له: اكتب ما عملت من حسنة و من سيّئة، فيقول: بأيّ شيء أكتب أين قلمي و دواتي و مدادي فيقول له: ريقك مدادك و قلمك اصبعك، فيقول: على أىّ شيء أكتب و ليس معى صحيفة قال: صحيفتك كفنك فاكتبه فيكتب ما عمله في الدّنيا خيرا.
فاذا بلغ سيئآته يستحي منه فيقول له الملك: يا خاطى ما تستحى من خالقك حين عملتها في الدّنيا و تستحى الآن، فيرفع الملك العمود ليضربه فيقول العبد: ارفع عني حتّى أكتبها، فيكتب فيها جميع حسناته و سيئاته ثمّ يأمره أن يطوى و يختم فيقول له: بأيّ شيء اختمه و ليس معى خاتم فيقول له: اختمه بظفرك و علّقه في عنقك إلى يوم القيامة كما قال تعالى: وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً و في رواية اخرى أنّه يأتي إلى الميّت فيسمه فان عرف منه خيرا أخبر منكرا و نكيرا حتّى يرفقا به وقت السؤال، و إن عرف منه شرّا أخبرهما حتّى يشدّدا عليه الحال و العذاب.
و أما السؤال عنه
فقد علمت سابقا أنّه من ضروريّات الدّين و عليه اتّفاق المسلمين و في الأخبار الكثيرة أنّ للّه سبحانه ملكين يسمّى أحدهما منكرا و الآخر نكيرا و كلّ تعالى السؤال إليهما.
و في بعض الرّوايات أنّهما بالنّسبة إلى المؤمن مبشّر و بشير، و بالنّسبة إلى الكافر منكر و نكير، لأنّهما يأتيان إلى المؤمن بصورة حسنة و يبشّرانه بالثواب و النّعيم، و يأتيان إلى الكافر و المخالف بصورة نكرة مهيبة و يوعدانه بالعذاب و الجحيم.
روى في الكافي باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ المؤمن إذا اخرج من بيته شيّعته الملائكة إلى قبره و يزدحمون عليه حتّى إذا انتهى به إلى قبره قالت له الأرض مرحبا بك و أهلا أما و اللّه لقد كنت احبّ أن يمشى علىّ مثلك لترينّ ما أصنع بك فيوسع له مدّ بصره و يدخل عليه ملكا القبر و هما قعيدا القبر منكر و نكير فيلقيان فيه الرّوح إلى حقويه فيقعدانه و يسألانه فيقولان له: من ربّك فيقول: اللّه تعالى، فيقولان: ما دينك فيقول: الاسلام، فيقولان: و من نبيّك فيقول: محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيقولان: و من امامك فيقول: فلان، قال: فينادى مناد من السّماء صدق عبدي افرشوا له في قبره من الجنّة و افتحوا له في قبره بابا إلى الجنّة و البسوه من ثياب الجنّة حتّى يأتينا و ما عندنا خير له، ثمّ يقال له: نم نومة عروس نم نومة لا حلم فيها.
قال عليه السّلام: و إن كان كافرا خرجت الملائكة شيّعته إلى قبره تلعنونه حتّى إذا انتهى به إلى قبره قالت له الأرض: لا مرحبا بك و لا أهلا أما و اللّه لقد كنت أبغض أن يمشي علىّ مثلك لا جرم لتريّن ما أصنع بك اليوم، فتضيق عليه حتّى تلتقى جوانحه.
قال عليه السّلام: ثمّ يدخل عليه ملكا القبر و هما قعيدا القبر منكر و نكير.
قال أبو بصير: جعلت فداك يدخلان على المؤمن و الكافر في صورة واحدة فقال عليه السّلام: لا.
قال فيقعدانه فيلقيان فيه الرّوح إلى حقويه فيقولان له: من ربّك فيتلجلج«» و يقول: قد سمعت النّاس يقولون، فيقولان له. لا دريت، و يقولان له: ما دينك فيتلجلج فيقولان له: لادريت، و يقولان له من نبيّك فيقول: قد سمعت النّاس يقولون فيقولان له: لادريت و يسأل عن إمام زمانه.
قال عليه السّلام و ينادي مناد من السّماء كذب عبدي افرشوا له في قبره من النّار و افتحوا له بابا إلى النّار حتّى يأتينا و ما عندنا شرّ له فيضر بانه بمرزبة ثلاث ضربات ليس منها ضربة إلّا و يتطاير منها قبره نارا لو ضرب بتلك المرزبة جبال تهامة لكانت رميما.
و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: و يسلّط اللّه عليه في قبره الحيّات تنهشه نهشا و الشّيطان يغمّه غمّا، قال و يسمع عذابه من خلق اللّه إلّا الجنّ و الانس، و قال عليه السّلام إنّه ليسمع خفق نعالهم و نفض أيديهم و هو قول اللّه عزّ و جلّ: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ.
و عن إبراهيم بن أبي البلاد عن بعض أصحابه عن أبي الحسن موسى عليه السّلام قال: يقال للمؤمن في قبره: من ربّك قال: فيقول: اللّه، فيقال له: ما دينك فيقول: الاسلام، فيقال: من نبيّك فيقول: محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم، فيقال: من امامك فيقول: فلان فيقال: كيف علمت بذلك فيقول: أمر هداني اللّه له و ثبّتني عليه، فيقال له: نم نومة لا حلم فيها نومة العروس، ثمّ يفتح له باب إلى الجنّة فيدخل إليه من روحها و ريحانها ليقول: يا ربّ عجّل قيام السّاعة لعليّ أرجع إلى أهلي و مالي.
و يقال للكافر: من ربّك فيقول: اللّه، فيقال: من نبيّك فيقول: محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيقال: ما دينك فيقول: الاسلام، فيقال: من أين علمت ذلك فيقول: سمعت النّاس يقولون فقلته، فيضربانه بمرزبة لو اجتمع عليه الثّقلان الانس و الجنّ لم يطيقوها.
قال عليه السّلام فيذوب كما يذوب الرّصاص، ثمّ يعيدان فيه الرّوح فيوضع قلبه بين لوحين من نار فيقول. يا ربّ أخّر قيام السّاعة و عن جابر قال قال أبو جعفر عليه السّلام: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إنّي كنت أنظر إلى الابل و الغنم و أنا أرعاها و ليس من نبيّ إلّا و قد رعى الغنم، و كنت أنظر إليها قبل النبوّة و هي متمكّنة في «ممتلية من خ» المكينة ما حولها شيء يهيّجها حتّى تذعر فتطير فأقول ما هذا و أعجب، حتّى حدّثني جبرئيل عليه السّلام أنّ الكافر يضرب ضربة ما خلق اللّه شيئا إلّا سمعها و يذعر لها إلّا الثّقلين فقلنا: ذلك لضربة الكافر، فنعوذ باللّه من عذاب القبر.
و عن بشير الدّهان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: يجيء الملكان منكر و نكير إلى الميّت حين يدفن أصواتهما كالرّعد القاصف و أبصارهما كالبرق الخاطف، يخطان الأرض بأنيابهما و يطآن في شعورهما فيسألان الميّت من ربّك و ما دينك قال عليه السّلام: فاذا كان مؤمنا قال: اللّه ربّي، و ديني الاسلام، فيقولان له: ما تقول في هذا الرّجل الذي خرج بين ظهرانيكم فيقول: أعن محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم تسألاني فيقولان: تشهد أنّه رسول اللّه فيقول: أشهد أنّه رسول اللّه، فيقولان له: نم نومة لا حلم فيها و يفسح له في قبره تسعة أذرع و يفتح له باب إلى الجنّة و يرى مقعده فيها و إذا كان الرّجل كافرا دخلا عليه و أقيم الشّيطان بين يديه عيناه من نحاس فيقولان له: من ربّك و ما دينك و ما تقول في هذا الرّجل الذي خرج من بين ظهرانيكم فيقول: لا أدري فيخلّيان بينه و بين الشّيطان، فيسلّط عليه في قبره تسعة و تسعين تنينا لو أن تنينا واحدا منها نفخت في الأرض ما أنبتت شجرا ابدا، و يفتح له بابا إلى النّار و يرى مقعده فيها.
و عن محمّد بن أحمد الخراساني عن أبيه رفعه قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام يسأل الميّت في قبره عن خمس، عن صلاته و زكاته و حجّه و صيامه و ولايته إيّانا أهل البيتفتقول الولاية من جانب القبر للأربع: ما دخل فيكنّ من نقص فعلىّ تمامه.
و في الوسائل عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر عليه السّلام ما على أحدكم إذا دفن ميّته و سوّى عليه و انصرف عن قبره أن يتخلّف عند قبره ثمّ يقول: يا فلان بن فلان أنت على العهد الذي عهدناك به من شهادة أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه و أنّ عليّا أمير المؤمنين إمامك، و فلان و فلان حتّى يأتي آخرهم، فانّه إذا فعل ذلك قال أحد الملكين لصاحبه: قد كفينا الوصول إليه و مسألتنا إيّاه فانّه قد لقّن حجّته فينصرفان عنه و لا يدخلان إليه.
و فيه عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ينبغي أن يتخلّف عند قبر الميّت أولى النّاس به بعد انصراف عنه و يقبض على التّراب بكفّيه و يلقّنه برفيع صوته، فاذا فعل ذلك كفى الميّت المسألة في قبره.
و في الكافي باسناده عن أبي بكر الحضرمي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا يسأل في القبر إلّا من محض الايمان محضا أو محض الكفر محضا و الآخرون يلهون عنه.
و نحوه أخبار أخر فيه عنه عليه السّلام، و ظاهر الكلينيّ كالصّدوق هو الأخذ بظواهر هذه الأخبار لروايتهما لها من غير تمرّض لتأويلها، و قد حكى ذلك عن الشّيخ البهائي (ره).
و قال الشّهيد (ره) في محكيّ كلامه: إنّ هذا الخبر محمول على سؤال خاصّ ليوافق الأخبار العامّة في سؤال القبر و قال السيّد الجزايري رحمه اللّه و يمكن أن يراد بالملهوّ عنهم الذين وردت الأخبار في شأنهم أنّهم يكلّفون يوم القيامة بأن تؤجّج لهم نار فيؤمروا بالدّخول فيها مثل البله و المجانين و من كان في فطرات «فترات ظ» الأنبياء و الشّيخ الفاني و العجوز الفانية و نحوهم، و هؤلاء لم يمحضوا الايمان و هو ظاهر، و لم يمحضوا الكفر أيضا لقصورهم عن ورود الموردين فيبقون على حالتهم في قبورهم حتّى يمنحهم اللّه سبحانه في القيامة قوّة إدراك التّكاليف و العقل القابل له.
و أما ضغطة القبر و ضمته
ففي الكافي باسناده عن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما من موضع قبر إلّا و هو ينطق كلّ يوم ثلاث مرّات: أنا بيت التّراب أنا بيت البلاء أنا بيت الدّود، قال عليه السّلام فاذا دخله عبد مؤمن قال: مرحبا و أهلا أما و اللّه لقد كنت احبّك و أنت تمشى على ظهري فكيف إذا دخلت بطني فسترى ذلك.
قال عليه السّلام: فيفسح له مدّ البصر و يفتح له باب يرى مقعده من الجنّة، قال عليه السّلام: و يخرج من ذلك رجل لم تر عيناه شيئا قطّ أحسن منه فيقول: يا عبد اللّه ما رأيت شيئا قطّ أحسن منك فيقول: أنا رأيك الحسن الذي كنت عليه و عملك الصالح الذي كنت تعمله.
قال عليه السّلام: ثمّ تؤخذ روحه فتوضع في الجنّة حيث رأى منزله، ثمّ يقال له: نم قرير العين فلا تزال نفحة من الجنّة تصيب جسده و يجد لذّتها و طيبها حتّى يبعث.
قال عليه السّلام: و إذا دخل الكافر قبره قالت: لا مرحبا بك و لا أهلا أما و اللّه لقد كنت ابغضك و أنت تمشى على ظهري فكيف إذا دخلت بطني سترى ذلك.
قال: فتضمّ عليه فتجعله رميما و يعاد كما كان و يفتح له باب إلى النّار فيرى مقعده من النّار، ثمّ قال: ثمّ انّه يخرج منه رجل أقبح من رأى قطّ قال: فيقول يا عبد اللّه من أنت ما رأيت شيئا أقبح منك، قال: فيقول: أنا عملك السيّىء الذي كنت تعمله و رأيك الخبيث.
قال ثمّ تؤخذ روحه فتوضع حيث رأى مقعده من النّار، ثمّ لم تزل نفحة من النّار تصيب جسده فيجد ألمها و حرّها في جسده إلى يوم يبعث، و يسلّط اللّه على روحه تسعة و تسعين تنّينا تنهشه ليس فيها تنّين ينفخ على ظهر الأرض فتنبت شيئا.
و هذه الضّغطة هى التي ضمنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لفاطمة بنت أسد أمّ أمير المؤمنين عليه السّلام.
و قد روى أنّه لمّا حفر لها قبر اضطجع فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقيل له صلّى اللّه عليه و آله و سلم في ذلك فقال: إنّي ذكرت ضغطة القبر عندها يوما و ذكرت شدّتها فقالت: و اضعفاه ليس لي طاقة عليها فقلت لها: إنّي أضمن لك على اللّه فاضطجعت في قبرها لذلك.
و في الكافي عن أبي بصير قال: قلت: لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أ يفلت من ضغطة القبر أحد قال: فقال عليه السّلام: نعوذ باللّه منها ما أقلّ من يفلت من ضغطة القبر، إنّ رقيّة لمّا قتلها عثمان وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم على قبرها فرفع رأسه إلى السّماء فدمعت عيناه و قال للنّاس: ذكرت هذه و ما لقيت فرققت لها و استوهبتها من ضمّة القبر، قال: فقال: اللّهمّ هب لي رقيّة من ضمّة القبر فوهبها اللّه له.
قال عليه السّلام و إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج في جنازة سعد و قد شيّعه سبعون ألف ملك فرفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأسه إلى السّماء ثمّ قال: مثل سعد يضمّ قال: قلت جعلت فداك: إنا نحدّث أنّه كان يستخفّ بالبول، فقال عليه السّلام: معاذ اللّه إنّما كان من زعارة«» في خلقه على أهله قال: فقالت أمّ سعد هنيئا لك يا سعد، قال: فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا امّ سعد لا تحتمي على اللّه.
و عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: يسأل و هو مضغوط.
قال المحدّث المجلسي «ره» في حقّ اليقين: يفهم من الأحاديث المعتبرة أنّ ضغطة القبر للبدن الأصلي و أنّها تابعة للسؤال، فمن لا سؤال عنه لا ضغطة له و فيه عن الصّدوق عن الصّادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّ ضغطة القبر للمؤمن كفّارة عمّا صدر عنه من تضييع نعم اللّه سبحانه.
و في الكافي عن يونس قال: سألته عن المصلوب يعذّب عذاب القبر قال: فقال: نعم إنّ اللّه عزّ و جلّ يأمر الهواء أن يضغطه.
و في رواية اخرى سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن المصلوب يصيبه عذاب القبر، فقال عليه السّلام: إنّ ربّ الأرض هو ربّ الهواء فيوحي اللّه عزّ و جلّ إلى الهواء فيضغطه ضغطة هو أشدّ من ضغطة القبر.
و فيه في رواية أبي بصير التي تقدّم صدرها في ذكر حالة الاحتضار عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام، فاذا ادرج في أكفانه و وضع على سريره خرجت روحه تمشي بين أيدي القوم قدما و تلقاه أرواح المؤمن و يبشّرونه بما أعدّ اللَّه له جلّ ثناؤه من النّعيم، فاذا وضع في قبره ردّ إليه الرّوح إلى و ركيه ثمّ يسأل عمّا يعلم فاذا جاء بما يعلم فتح له ذلك الباب الذي أراه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم، فيدخل عليه من نورها و بردها و طيب ريحها.
قال: قلت جعلت فداك فأين ضغطة القبر فقال عليه السّلام: هيهات ما على المؤمنين منها شيء و اللَّه إنّ هذه الأرض لتفتخر على هذه فيقول: وطىء على ظهري مؤمن و لم يطاء على ظهرك مؤمن، و اللَّه لقد كنت احبّك و أنت تمشي على ظهري فأما إذا وليتك فستعلم ما ذا أصنع بك فتفسح له مدّ بصره، هذا.
و في الحقّ اليقين بعد ايراده الأخبار الواردة في الضغطة ممّا قدّمنا روايتها و ما لم يتقدّم قال: و الجمع بين هذه الأخبار في غاية الاشكال إذ لو حملنا المؤمن فيها على المؤمن الكامل فأيّ كامل أكمل من فاطمة بنت أسد و رقيّة ابنة النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلم و سعد بن معاذ.
اللّهمّ إلّا أن يحمل ما في فاطمة و رقيّة على الاحتياط و الاطمينان و حصول الاضطجاع و الدّعاء أو يقال المراد بالمؤمن المعصوم و من يتلو مرتبة العصمة كسلمان و أبي ذر و نظرائهما، و يمكن حمل أخبار عدم الضغطة للمؤمن على عدم الضّغطة الشّديدة أو حمل أخبار عدم الضّغطة له على ما تكون على وجه الغضب، و ما تدلّ عليها على ما تكون على وجه اللطف و ليكون قابلا لدخول الجنّة كما أنّ ابتلاءه بمحن الدّنيا و بلاياها كان لذلك.
و يمكن أن يقال: إنّها كانت في صدر الاسلام عامّة للمؤمن و غيره، ثمّ اختصّت بغيرهم بشفاعة الرّسول و الأئمة صلوات اللَّه و سلامه عليه و عليهم هذا.
و بقي الكلام فيما يوجب ارتفاع الضّغطة و الأمن من بعض عقوبات البرزخ و هي امور كثيرة.
منها رشّ الماء على القبر فقد روي في الكافي عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام أنّه قال: يتجافى عنه العذاب ما دام النّدى في التّراب.
و منها الجريدتان ففى الوسائل عن الصّدوق باسناده إلى زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أرأيت الميّت إذا مات لم تجعل معه الجريدتان فقال عليه السّلام يتجافى عنه العذاب أو الحساب ما دام العود رطبا إنّما العذاب و الحساب كلّه في يوم واحد في ساعة واحدة قدر ما يدخل القبر و يرجع القوم و إنّما جعلت السعفتان لذلك فلا يصيبه عذاب و لا حساب بعد جفوفهما إنشاء اللَّه.
و منها الوفاة ليلة الجمعة أو يومها ففي الأنوار للسيّد الجزائري رحمه اللَّه قد ورد في الأخبار المعتبرة، أنّ من مات من المؤمنين ليلة الجمعة أو يومها أمن من ضغطة القبر، قال «ره» و ربّما ورد أنّ بعض أعمال البرّ و الأدعية المأثورة تدفعها أيضا، و هو ليس ببعيد فانّ رحمة اللَّه قريب من المحسنين.
و منها الدّفن في وادي السّلام فقد روى في الأنوار أيضا من كتاب إرشاد القلوب في فضل المشهد الشّريف الغروي و ما لتربته و الدّفن فيها من المزيّة و الشّرف.
روي عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام أنّه قال: الغري قطعة من الجبل الذي كلّم اللَّه موسى عليه تكليما، و قدّس عليه تقديسا و اتّخذ عليه إبراهيم خليلا، و محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله حبيبا و جعله للنّبيّين مسكنا.
و روي أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام نظر إلى ظهر الكوفة فقال: ما أحسن منظرك و أطيب قعرك، اللّهمّ اجعل قبري بها.
قال: و من خواصّ تربته اسقاط عذاب القبر و ترك محاسبة منكر و نكير من المدفون هناك كما وردت به الأخبار الصّحيحة عن أهل البيت عليهم السّلام.
أقول: و نظير ما رواه عن أمير المؤمنين عليه السّلام ما رواه في الكافي عن حبّة العرني قال: خرجت مع أمير المؤمنين عليه السّلام إلى الظهر فوقف بوادي السّلام كأنّه مخاطب لأقوام، فقمت بقيامه حتّى أعييت، ثمّ جلست حتّى مللت، ثمّ قمت حتّى نالني مثل ما نالني أوّلا، ثمّ جلست حتّى مللت.
ثمّ قمت و جمعت ردائي فقلت يا أمير المؤمنين إنّي قد أشفقت عليك من طول القيام فراحة ساعة، ثمّ طرحت الرّداء ليجلس عليه. فقال لي: يا حبة إن هو إلّا محادثة مؤمن أو مؤانسته قال: قلت: يا أمير المؤمنين و إنّهم كذلك قال: نعم، و لو كشف لرأيتهم حلقا حلقا محتبين يتحادثون، فقلت: أجساد أم أرواح فقال لي: أرواح و ما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض إلّا قيل: ألحقي بوادي السّلام و إنّها لبقعة من جنّة عدن.
و المستفاد من هذه الرّواية و كثير من الأخبار المعتبرة أنّها جنّة الدّنيا و أنّ أرواح المؤمنين فيها كما أنّ أرواح الكفّار في بئر البرهوت.
فقد روي في الكافي عن أحمد بن عمر رفعه عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قلت له: إنّ أخي ببغداد و أخاف أن يموت بها، فقال عليه السّلام: ما يبالي حيث ما مات أما أنّه لا يبقى في شرق الأرض و غربها إلّا حشر اللَّه روحه إلى وادي السّلام، قال: قلت له: و أين وادي السّلام قال عليه السّلام: ظهر الكوفة أما أنّي كأنّي بهم حلق حلق قعود يتحدّثون.
و عن محمّد بن أحمد باسناد له قال قال أمير المؤمنين عليه السّلام: شرّ بئر في النّار البرهوت الّذي فيه أرواح الكفّار.
و عن السّكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: شرّ ماء على وجه الأرض ماء برهوت، و هو واد بحضر موت ترد عليه هام الكفّار.
و الأخبار في هذا المعنى كثيرة و لا حاجة إلى ذكرها نعم في المقام خبر يستلذّ النّفس و يسرّ القلب به و هو ما رواه في الأنوار عن القاضي بن بدر الهمداني الكوفي و كان رجلا صالحا متعبّدا.
قال: كنت في جامع الكوفة ذات ليلة مطيرة فدقّ باب مسلم جماعة ففتح لهم و ذكر بعضهم أنّ معهم جنازة فأدخلوها و جعلوها على الصّفة التي تجاه باب مسلم بن عقيل، ثمّ إنّ أحدهم نعس فنام فرأى في منامه قائلا يقول لآخر: ما تبصره حتّى نبصر هل لنا معه حساب أم لا، فكشف عن وجه الميّت و قال لصاحبه بل لنا معه حساب و ينبغي أن نأخذه معجّلا قبل أن يتعدّي الرّصافة فما يبقى لنا معه طريق.
فانتبه و حكى لهم المنام و قال: خذوه عجلا فأخذوه و مضوا به في الحال إلى المشهد الشّريف صلوات اللَّه و سلامه على مشرّفها.
أقول: رزقنا اللَّه سبحانه و إخواني المؤمنين مجاورة حضرت مولاي و مولى العالمين عليه الصّلاة و السّلام حيّا و ميّتا، و أنا أوصي خليفتي و وليّ أمري بعدي أن يدفنني في ذلك المقام الشّريف.
و أقول له:
إذا متّ فادفنّي إلى جنب حيدر
أبي شبر أكرم به و شبير
فلست أخاف النّار عند جواره
و لا أتّقى من منكر و نكير
فعار على حامي الحمى و هو في الحمي
إذا ضلّ فى البيدا عقال بعير
ثم أقول:
ولايتي لأمير النّحل تكفيني
عند الممات و تغسيلي و تكفيني
و طينتي عجنت من قبل تكويني
بحبّ حيدر كيف النّار تكويني
ثم اناجى ربى و أقول:
وفدت على الكريم بغير زاد
من الحسنات و القلب السليم
فحمل الزّاد أقبح كلّ شيء
إذا كان الوفود على الكريم
الترجمة
و بعض ديگر از اين خطبه شريفه در صفت خلقت انسانست كه مىفرمايد: آيا ياد آوري نمايم شما را باين انساني كه ايجاد فرمود او را صانع حكيم در ظلمتهاى رحمها و در غلافهاى پردهها در حالتى كه نطفه بود ريخته شده و علقه ناقص گشته و بچه پنهان در شكم زنان و طفل شيرخواره و از شير بازگرفته و بسنّ احتلام رسيده.
پس از آن عطا فرمود او را قلب حفظ كننده، و زبان گوينده، و ديده نگرنده تا فهم كند در حالتى كه عبرت گيرنده باشد و باز ايستد از معصيت در حالتى كه نفس خود را زجر كننده شود، تا اين كه قايم شد حدّ اعتدال او، و راست شد پيكر و مثال او، رميد و نفرت نمود از حق در حالتى كه گردنكش بود، و خبط كرد در حالتى كه بىباك بود.
آب كشنده بود در دلو بزرگ هوس و هواى خود، رنج كشنده بود و سعى كننده از براى دنياى خود در لذّتهاى شاديش و در حاجتهاى خطور كننده قلب خويش در حالتى كه گمان نمىنمود مصيبتى كه برسد باو، و نمىترسيد از محذورى كه وارد شود باو پس مرد در ضلالت خود در حالتى كه غافل بود از غضب مالك الملك، و زندگانى كرد در لغزيدن خود در زمان اندك.
كسب ننمود عوض نعمتها را در دنيا، و بجا نياورد فرايض لازمه برخود را، هجوم آور شد بر او اندوههاى مرگ در بقاياى سوارى او بر هواى خود، و در راههاى سرور و شادى خود، پس متحيّر گشت و شب را بر بيدارى بروز آورد در شدّتهاى دردها و نازل شدههاى المها و بيماريها در ميان برادر كه شقّهايست از جان و پدر مهربان و مادر و اويلا گوينده از روى جزع و خواهر بسينه زننده از روى اضطراب و فزع و حال آنكه آن مرد در سكرات موتست مشتمله بر تعب و شدت، و در غمرات مرگست متّصفه با نهايت مشقّت، و در نالهاى درد آورنده، و در كشش روح اندوه آورنده، و راندن رنجاننده.
پس پيچيده شد در كفنهاى خود در حالتى كه مأيوس بود و حزين، و كشيده شد در حالتى كه اطاعت كننده بود آسان و ليّن، پس انداخته شد در چوبهاى نعش مثل شتر مردّد در اسفار، و همچو شتر لاغر از كثرت بار، در حالتى كه بردارند او را فرزندان يارى دهنده، و برادران جمع شونده بسوى قبر كه سراى غربت اوست و جاى بريدن زيارت از اوست. «ج 4»
تا آنكه چون رجوع كند تشييع كننده و بر مىگردد اندوه خورنده نشانده مىشود در قبر در حالتى كه راز گوينده باشد از جهة بهت و حيرتى كه حاصل مىشود او را از سؤال، و بجهة لغزش در امتحانى كه او راست در عقايد و اعمال، و بزرگترين چيزى كه آن جاست از حيثيت بلا پيشكش آب گرم و جوشانست، و در آوردن اوست در آتش سوزان، و جوششهاى آتش سرخ شده، و شدّتهاى صداى نار موقده.
نيست آنجا سستى كه راحت كننده از عذاب باشد، و نه آرميدنى كه زايل كننده عقاب باشد، و نه مرگ حاضر كه باعث استراحت او شود، و نه خواب اندك كه سبب فراموشى زحمت او گردد، بلكه هميشه در ميان أنواع مرگها باشد، و در ميان عذابهاى ساعت بساعت، بدرستى كه پناه مىبريم بخدا از اين عذاب و عنا.
الفصل الثامن
عباد اللَّه، أين الّذين عمّروا فنعموا، و علّموا ففهموا، و أنظروا فلهوا، و سلّموا فنسوا، أمهلوا طويلا، و منحوا جميلا، و حذّروا أليما، و وعدوا جسيما، أحذروا الذّنوب المورطة، و العيوب المسخطة، أولي الأبصار و الأسماع، و العافية و المتاع، هل من مناص أو خلاص، أو معاذ أو ملاذ، أو فرار أو محار، أم لا فأنّى تؤفكون، أم أين تصرفون، أم بماذا تغترّون، و إنّما حظّ أحدكم من الأرض، ذات الطّول و العرض، قيد قدّه، منعفرا على خدّه، الان عباد اللَّه و الخناق مهمل، و الرّوح مرسل، في فينة الإرشاد، و راحة الأجساد، و باحةالاحتشاد، و مهل البقيّة، و أنف المشيّة، و إنظار التّوبة، و انفساح الحوبة، قبل الضّنك و المضيق، و الرّوع و الزّهوق، و قبل قدوم الغائب المنتظر، و أخذة العزيز المقتدر. قال السّيّد (ره) و في الخبر أنّه عليه السّلام لمّا خطب بهذه الخطبة اقشعرّت لها الجلود و بكت العيون و رجفت القلوب، و من النّاس من يسمّى هذه الخطبة الغرّاء.
اللغة
(احذروا) أمر من حذر بالكسر من باب علم و (الورطة) الهلكة و أرض مطمئنّة لا طريق فيها و أورطه ألقاه فيها و (المناص) الملجأ و (المحار) المرجع من حار يحور أي رجع قال تعالى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ و (أفك) من باب ضرب و علم أفكا بالفتح و الكسر و التّحريك كذب و افكه عنه يأفكه صرفه و قلبه أو قلب رأيه و (القيد) كالقاد المقدار و (المعفر) محرّكة التّراب و عفره في التّراب يعفره من باب ضرب و عفّره فانعفر و تعفّر مرّغه فيه أودسّه و (الخناق) ككتاب حبل يخنق به و يقال أخذ بخناقه أى بحلقه لأنّه موضع الخناق فالطلق عليه مجازا و (فينة) السّاعة و الحين يقال لقيتة الفينة بعد الفينة و قد يحذف اللّام و يقال لقيته فينة بعد فينة.
و في بعض النّسخ الارتياد بدل (الارشاد) و هو الطّلب و (الباحة) السّاحة و الفضاء و (الاحتشاد) الاجتماع و (انف) الشيء بضمّتين أوّله و (الانفساح) من الفسحة و هو السّعة و (الحوبة) الحالة و الحاجة و (و الضّنك) و الضّيق بمعنى واحد و (المضيق) ما ضاق من المكان و المراد هنا القبر و (الرّوع) الفزع و (زهق) نفسه من باب منع و سمع زهوقا خرجت و زهق الشيء بطل و هلك.
و «اقشعرّ جلده» أخذته قشعريرة أي رعدة و «رجفت القلوب» اضطربتو «الخطبة الغرّاء» بالغين المعجمة أي المتّصفة بالغرّة قال في القاموس: و الغرّة من المتاع خياره و من القوم شريفهم و من الرّجل وجهه و كلّ ما بدا لك من ضوء أو صبح فقد بدت غرّته.
الاعراب
قوله عباد اللَّه منصوب على النّداء بحذف حرفه، و كذلك قوله عليه السّلام: اولى الأبصار، و قوله: هل من مناص استفهام على سبيل الانكار و الابطال، و أم في قوله أم لا منقطعة بمعنى بل فهى مثل أم في قوله: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ» و الشّاهد في الثّانية فانّه سبحانه بعد إبطال استواء الأعمى و البصير و الظلمات و النّور أضرب عن ذلك و أخبر عن حالهم بأنّهم جعلوا للَّه شركاء، و كذلك الامام عليه السّلام بعد إنكار المناص و الخلاص و إبطاله أضرب عن ذلك و أخبر بأنّه ليس هناك مناص و لا خلاص.
و قوله: فأنّى تؤفكون، أنّى بمعنى كيف أو بمعنى أين و من مقدّرة قبلها أى من أين تؤفكون، صرّح به نجم الأئمة الرّضى في مبحث الظروف من شرح الكافية، و ذا في قوله أم بماذا تغترون إمّا زايدة و هو الأظهر أو بمعنى الذي كما في ما ذا لقيت، و منعفرا حال من الضّمير في قدّه.
و قوله: الآن من ظروف الزّمان مبنىّ على الفتح و اختلفوا في علّة البناء و الأظهر ما قاله أبو عليّ من أنّه متضمّن لمعنى ال الحضوري لأنّ معناه الزّمن الحاضر، و اللّام فيه زايدة لازمة و ليست للتّعريف كما توهّم السّيرافي و ابن عصفور إذ لا تعرف انّ التي للتّعريف تكون لازمة و هذه لازمة لأنّ الآن لم يسمع مجرّدا عنها، و كيف فهو مفعول فيه و العامل محذوف، و التّقدير اعملوا و اغتنموا الفرصة الآن.
و جملة و الخناق مهمل، في محلّ الانتصاب على الحال من عباد اللَّه و العامل النّداء المحذوف لكونه في معنى الفعل، و اللام في الخناق عوض عن المضاف إليه أى خناقكم على حدّ و علّم آدم الأسماء، أي أسماء المسمّيات، و كذا في الرّوح و قوله في فينة الارشاد، متعلّق بقوله مرسل و في للظرفية المجازيّة، و قيل الضنك ظرف للفعل المحذوف الذي جعلناه العامل في الآن.
المعنى
اعلم أنّ هذا الفصل متضمّن للتذكير بحال السّلف و للأمر بالكفّ عن المعاصي و للحثّ على التّدارك للذنوب قبل الموت بتحصيل التوبة و الانابة و هو قوله: (عباد اللَّه أين الذين عمّروا فنعموا) أى أعطاهم اللَّه العمر فصاروا ناعمين أى صاحبى سعة في العيش و الغذاء (و علّموا ففهموا) أى علّمهم الأحكام ففهموا الحلال و الحرام (و أنظروا) في مدّة الأجل (فلهوا) بطول الأمل (و سلّموا) في العاجلة (فنسوا) العاجلة (أمهلوا) زمانا (طويلا) و أمدا بعيدا (و منحوا) عطاء (جميلا) و عيشا رغيدا (و حذروا عذابا أليما) و جحيما (و وعدوا) ثوابا (جسيما) و عظيما (احذروا الذنوب المورطة) أي المعاصي الموقعة في ورطة الهلاكة و العقاب (و العيوب المسخطة) أي المساوي الموجبة لغضب ربّ الأرباب.
(أولي الأبصار و الأسماع و العافية و المتاع) و إنّما خصّ هؤلاء بالنّداء و خصّصهم بالخطاب لأنهم القابلون للاتعاظ و الاذكار و اللائقون للانتهار و الانزجار بما أعطاهم اللَّه من الأبصار و البصاير منحهم من الأسماع و الضمائر و بذل لهم من الصّحّة و السّلامة في الأجساد و منّ به عليهم من المتاع و الأموال و الأولاد الموجبة للاعراض عن العقبا و الرّغبة إلى الدّنيا و الباعثة على ترك سبيل الرّحمن و سلوك سبيل الشّيطان و الداعية إلى ترك الطّاعات و الاقتحام في الهلكات.
ثمّ استفهم على سبيل التكذيب و الانكار بقوله: (هل من مناص) من العذاب (أو خلاص) من العقاب (أو معاذ) من الوبال (أو ملاذ) من النكال (أو فرار) من الحميم (أو محار) من الجحيم (أم لا و ليس فانّى تؤفكون) و تنقلبون (أم أينتصرفون) و تلفتون (أم بماذا تغترّون) و تفتنون (و انّما حظّ أحدكم من الأرض) الغبراء (ذات الطول و العرض) و الارجاء (قيد قدّه) و قامته (منعفرا على خدّه) و وجنته.
اعملوا (الآن) و اغتنموا الفرصة فيهذا الزّمان يا (عباد اللَّه و الخناق مهمل و الرّوح مرسل) أي أعناق نفوسكم مهملة من الأخذ بخناق الموت و أرواحكم متروكة من الجذب بحبال الفناء و الفوت (في فينة الارشاد) و الهداية إلى الجنان (و راحة الاجساد) و استراحة الأبدان (و باحة الاحتشاد) أي ساحة اجتماع الأشباه و الاقران (و مهل البقية و انف المشيّة) أي مهملة بقيّة الحياة و أوّل أزمنة الارادات.
و أشار بذلك إلى أنّ اللّازم على الانسان أن يجعل أوّل زمان إرادته و ميل خاطره إلى اكتساب الفضائل و اجتناب الرّذايل و يكون همّته يومئذ مصروفة في اتيان الطاعات و اقتناء الحسنات ليكون ما يرد على لوح نفسه من الكمالات و اردا على لوح صاف من الكدورات سالم عن رين الشّبهات إذ لو انعكس الأمر و جعل أوائل ميوله و إرادته منصرفة إلى اتيان المعاصي و الخطيئات تسوّد وجه نفسه بسوء الملكات فلم يكد يقبل بعد ذلك الاستضائة بنور الحقّ و الاهتداء إلى الخيرات.
(و انظار التّوبة و انفساح الحوبة) أراد به إمهال اللَّه لهم لأجل تحصيل التوبة و إعطائه لهم اتساع الحالة و وسعة المجال لاكتساب الحسنات الأعمال (قبل الضّنك و المضيق) أي قبل ضيق الزّمان و مضيق المكان (و الرّوع و الزّهوق) أى الفزع و خروج الرّوح من الأبدان (و قبل قدوم) الموت الذي هو (الغائب المنتظر و أخذة) الذي هو (العزيز) الغالب (المقتدر) فانّه إذا قدم الموت بطل التكليف و استحال تدارك الذنوب و لا ينفع النّدامة.
و لذلك قال أبو جعفر عليه السّلام: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: الموت الموت ألا و لا بدّ من الموت، جاء الموت بما فيه جاء بالرّوح و الرّاحة و الكرّة المباركة إلى جنّة عالية لأهل دار الخلود الذين كان لها سعيهم و فيها رغبتهم، و جاء الموت بما فيهبالشّقوة و النّدامة و الكرّة الخاسرة إلى نار حامية لأهل دار الغرور الذين كان لها سعيهم و فيها رغبتهم.
ثمّ قال: و قال إذا استحقّت ولاية اللّه و السّعادة جاء الأجل بين العينين و ذهب الأمل وراء الظهر، و إذا استحقت ولاية الشّيطان جاء الأمل بين العينين و ذهب الأجل وراء الظهر.
قال عليه السّلام: و سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أيّ المؤمنين أكيس فقال: أكثرهم ذكرا للموت و أشدّهم له استعدادا.
قال السّيد (ره) و في الخبر أنّه لمّا خطب بهذه الخطبة اقشعرّت لها الجلود و ارعدت و بكت العيون و اسكبت«» و رجفت القلوب و اضطربت و من النّاس من يسمّى هذه الخطبة الغرّاء.
أقول: و هى حقيقة بهذه التسمية لكونها من خيار خطبه و شرايفها و وجوهها لما تضمّنه معناها من الحكمة و الموعظة الحسنة و هى كافية في الهداية و الارشاد للطّالب الرّاغب إلى الثّواب و وافية في مقام التحذير و الانذار للهارب الرّاهب من العقاب.
و لما اشتملت عليه الفاظها من انواع المحسّنات البيانيّة و البديعيّة من الانسجاء و الترصيع و التنجيس و السّجع و المقابلة و الموازنة و المجاز و الاستعارة و الكناية و غيرها.
و ناهيك حسنا قوله عليه السّلام في هذا الفصل: هل من مناص أو خلاص أو معاذ أو ملاذ أو فرار أو محار، و قوله فى الفصل الرّابع، فاتقوا اللّه تقيّة من سمع فخشع و اقترف فاعترف و وجل فعمل إلى آخر ما قاله.
فانّك إذا لا حظت كلّ لفظة منها وجدتها آخذة برقبة قرينتها، جاذبة لها إليها دالّة عليها بذاتها و محسّنات كلامه غنيّة عن الاظهار غير محتاجة إلى التّذكار إذ تكلّف الاستدلال على أنّ الشّمس مضيئة يتعب و صاحبه ينسب إلىالسّفه و ليس جاحدا لأمور المعلومة بالضّرورة بأشدّ سفها ممّن رام الاستدلال عليها
تكملة
اعلم أنّ بعض فصول هذه الخطبة مرويّ في البحار من كتاب عيون الحكمة و المواعظ لعليّ بن محمّد الواسطي باختلاف يسير لما هنا، و هو من الفصل الخامس إلى آخرها و لا حاجة لنا إلى ايراده نعم روى كلام آخر له عليه السّلام فيه من الكتاب الذي اشرنا إليه بعض فصول هذه الخطبة مدرّج فيه و أحببت ايراده لاقتضاء المقام ذلك.
قال (ره) و من كلام له عليه السّلام إنّكم مخلوقون اقتدارا، و مربوبون ايتسارا إلى آخر ما يأتي إنشاء اللّه في تكملة الشّرح الخطبة المأتين و الرّابعة و العشرين
الترجمة
أى بندگان خدا كجايند آن كسانيكه معمّر شدند پس منعم شدند بناز و نعمت، و تعليم شدند پس فهميدند بذكاء و فطنت، و مهلت داده شدند پس غفلت ورزيدند از طاعات، و سالم گردانيده شدند پس فراموشى اختيار كردند بر تذكيرات حذر نمائيد از ذنوبى كه مىاندازد بورطه هلاكت، و از عيوبى كه باعث مىشود بخشم حضرت عزّت.
اى صاحبان ديدههاى بينا و گوشهاى شنوا و خداوندان سلامتى و متاع دنيا آيا هيچ پناهگاهى هست از عذاب، يا خلاصي هست از عقاب، يا هيچ ملجائى هست از شدّت، يا ملاذي هست از عقوبت، يا هيچ گريزى هست از آتش جحيم، يا مرجعى هست از عذاب أليم، يا اين كه چاره و علاج نيست و مفرّ و مناص نه پس چگونه گردانيده مىشويد از فرمان خدا، يا كجا صرف كرده مىشويد يا بچه چيز مغرور مىباشيد و جز اين نيست كه نصيب هر يكى از شما از زميني كه صاحب طولست و عرض مقدار قامت اوست در حالتى كه خاك آلوده باشد بر رخسار خود.
عمل بكنيد و فرصت غنيمت شماريد الآن اى بندگان خدا و حال آنكهآن چيزى كه بآن أخذ كرده مىشود گردنهاى نفوس شما كه مرگست واگذاشته شده است، و روحهاى شما ترك كرده شده است در ساعت رشادت يعني كسب كردن چيزهائى كه باعث رشد است و در راحت بدنها و در مهلت بقيه حياة و در اوّل ازمنه ارادات و در مهلت دادن بجهت تحصيل توبه و در وسعت و فراخي حالت پيش از زمان كوتاه و مكان تنك، و قبل از ترس و رفتن جان از بدن و پيش از آمدن غايب انتظار كشيده شده كه عبارتست از موت، و پيش از اخذ نمودن خداى غالب صاحب قدرت او را در سلسله عقوبت.
قال الشارح عفى اللّه عنه: و ليكن هذا آخر ما أردنا ايراده في هذا المجلّد و هو المجلّد الثّانى«» من مجلّدات منهاج البراعة في شرح النّهج، و يتلوه إنشاء اللّه المجلّد الثّالث إن ساعدنا الوقت و المجال بتوفيق اللّه الملك المتعال، و هذه هي النسخة الأصل التي كتبتها بيميني و أرجو من اللّه سبحانه أن يثبتها في صحايف أعمالي و يرجّح بها ميزان حسناتي و أن يؤتيها بيميني كما أمليتها بيميني إنّه على كلّ شيء قدير و بالاجابة جدير، و كان الفراغ منه في فجر العشرين من شهر ربيع الآخر 1303.
بسم اللّه الرحمن الرحيم و به نستعين الحمد للّه الذي هدانا لهذا و ما كنّا لنهتدى لو لا أن هدانا اللّه، و الصّلاة و السّلام على عبده و رسوله محمّد حبيب اللّه، و على آله الذين فضّلهم على العالمين و جعلهم أفضل عبدا اللّه و اختصّهم بالامامة و الولاية فصاروا أئمة الدّين و أولياء اللّه، و أهل بيته الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا، و لعنة اللّه على أعدائهم الذين جعل مأواهم جهنّم لهم فيها زفير و شهيق و سائت مقاما و مصيرا.
و بعد فهذا هو المجلّد الثالث من مجلّدات منهاج البراعة املاء راجي عفو ربّه الغنيّ «حبيب الله بن محمد بن هاشم الهاشمى العلوى الموسوى» أعطاه اللّه كتابه.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»