خطبه 70 صبحی صالح
70- و قال ( عليه السلام ) في سحرة اليوم الذي ضرب فيه
مَلَكَتْنِي عَيْنِي وَ أَنَا جَالِسٌ
فَسَنَحَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله وسلم )
فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا ذَا لَقِيتُ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الْأَوَدِ وَ اللَّدَدِ
فَقَالَ ادْعُ عَلَيْهِمْ
فَقُلْتُ أَبْدَلَنِي اللَّهُ بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ
وَ أَبْدَلَهُمْ بِي شَرّاً لَهُمْ مِنِّي
قال الشريف يعني بالأود الاعوجاج
و باللدد الخصام و هذا من أفصح الكلام
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج5
و قال عليه السلام فى سحرة اليوم الذى ضرب فيه
و هو التاسع و الستون من المختار باب الخطب
ملكتني عيني و أنا جالس فسنح لي رسول اللّه فقلت: يا رسول اللّه ما ذا لقيت من أمّتك من الأود و اللّدد فقال: أدع عليهم، فقلت: أبدلني اللّه بهم خيرا لي منهم، و أبدلهم بي شرّا لهم منّي. قال السّيد (ره): يعنى بالأود الاعوجاج، و اللدد الخصام و هو من أفصح الكلام.
اللغة
(السّحر) بالتّحريك قبيل الصّبح و السّحرة بالضّم السّحر الاعلى و (سنح) لى راى كمنع سنوحا و سنحا بالفتح و سنحا بالضّم عرض و (اود) يأ وداودا من باب فرح.
الاعراب
جملة انا جالس حال من مفعول ملكت، و ما في قوله ما ذا لقيت استفهامية استعظامية كما في قوله تعالى الحاقّة ما الحاقّة، و ذا إمّا موصولة أو زايدة كما قلناه في ما سبق، و الباء في قوله بهم و بى للمقابلة.
المعنى
قال الشّارح البحراني: قوله (ملكتني عيني) استعارة حسنة و تجوّز في التركيب أمّا الاستعارة فلفظ الملك للنوم و وجه الاستعارة دخول النائم في غلبة النوم و قهره و منعه له ان يتصرف في نفسه كما يمنع المالك المملوك من التّصرف في أمره،و أمّا التّجوز ففي العين و في الاسناد إليها، أمّا الأوّل فاطلق لفظ العين على النوم لما بينهما من الملابسة إذا طباق الجفون من عوارضهما، و أمّا الثاني فاسناد الملك إلى النوم المتجوّز فيه بلفظ لعين.
أقول: حاصله أنّه من باب الاستعارة التّبعية مثل قولهم: نطقت الحال بكذا، و محصّله أنّ الملك استعارة عن غلبة النوم و العين مجاز عن النّوم بعلاقة المجاورة و اسناد الغلبة إلى النوم مجاز عقليّ فافهم، فالمعنى غلبني نومي (و أنا جالس فسنح لي رسول اللّه) أى رأيته في المنام أو مرّبي معترضا (فقلت يا رسول اللّه ما ذا لقيت من امّتك من الاود و اللدد فقال ادع عليهم) شكايته منهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم دليل على غاية كربه منهم من جهة تقصيرهم في الاجابة إلى دعائه و التّلبية لنداءه و توانيهم في القتال و الجهاد، و ترخيص رسول اللّه في دعائه عليهم دليل على عدم رضائه عنهم.
و قوله: (فقلت أبدلني اللّه بهم خيرا لى منهم و أبدلهم بى شرّا لهم مني) لا يدلّ على اتّصافه بالشّر إذ صيغة افعل لم يرد بها التّفضيل بل المراد مجرّد الوصف أو بناء التّفضيل على اعتقاد القوم فانّهم لما لم يطيعوه حق الطاعة فكأنّهم زعموا فيه شرا، و قد مرّ مزيد تحقيق لهذه الفقرة في شرح الخطبة الخامسة و العشرين فتذكر هذا.
و روى في البحار من الارشاد عن عمّار الدّهنى، عن أبي صالح الحنفى قال: سمعت عليّا عليه السّلام يقول: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم في مناهي فشكوت إليه ما لقيتة من امّته من الاود و اللدد و بكيت، فقال لى: لاتبك يا علي و التفت و إذا رجلان مصفدان«» و إذا جلاميد ترضخ بهما رؤوسهما، قال أبو صالح: فغدوت إليه من الغد كما كنت أغد و اليه كلّ يوم حتّى إذا كنت في الجزارين لقيت الناس يقولون قتل أمير المؤمنين.
تذييلات
الاول في كيفية شهادته عليه السّلام
و فيها روايات كثيرة و ابسطها ما رواه في المجلد التاسع من البحار قال: رأيت في بعض الكتب القديمة رواية فى كيفية شهادته أوردنا منه شيئا مما يناسب كتابنا هذا على وجه الاختصار.
قال: روى أبو الحسن عليّ بن عبد اللّه بن محمّد البكرى، عن لوط بن يحيى، عن اشياخه و اسلافه قالوا: لمّا توفى عثمان و بايع النّاس أمير المؤمنين كان رجل يقال له حبيب بن المنتجب واليا على بعض أطراف اليمن من قبل عثمان فأقرّه عليّ عليه السّلام على عمله و كتب كتابا يقول فيه: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من عبد اللّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب إلى حبيب بن المنتجب سلام عليك، أمّا بعد فانّي أحمد اللّه الذي لا إله إلّا هو، و اصلّي على محمّد عبده و رسوله، و بعد فانّي وليتك ما كنت عليه لمن كان من قبل فامكث على عملك و إنّي اوصيك بالعدل في رعيتك و الاحسان إلى أهل مملكتك، و اعلم أنّ من ولى على رقاب عشرة من المسلمين و لم يعدل بينهم حشره اللّه يوم القيامة و يداه مغلولتان إلى عنقه لا يفكها إلّا عدله في دار الدّنيا، فاذا ورد عليك كتابي هذا فاقرءه على من قبلك من أهل اليمن و خذلي البيعة على من حضرك من المسلمين فاذا بايع القوم مثل بيعة الرّضوان فامكث في عملك و انفذ إلى منهم عشرة يكونون من عقلائهم و فصحائهم و ثقاتهم ممّن يكون أشدّهم عونا من أهل الفهم و الشّجاعة عارفين باللّه عالمين بأديانهم و مالهم و ما عليهم و أجودهم رايا، و عليك و عليهم السّلام.
و طوى الكتاب و ختمه و أرسله مع أعرابيّ، فلمّا وصله قبّله و وضعه على عينيه و رأسه فلمّا قرأه صعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه و صلى على محمّد و آله ثمّ قال: أيّها النّاس اعلموا أنّ عثمان قد قضى نحبه و قد بايع النّاس من بعده العبد الصّالح و الامام النّاصح أخا رسول اللّه و خليفته و هو أحقّ بالخلافة و هو أخو رسول اللّه و ابن عمه و كاشف الكرب عن وجهه و زوج ابنته و وصيه و أبو سبطيه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فما تقولون في بيعته و الدّخول فى طاعته قال: فضجّ النّاس بالبكاء و النّحيب و قالوا: سمعا و طاعة و حبّا و كرامة للّه و لرسوله و لأخى رسوله، فأخذ له عليه السّلام البيعة عليهم عامّة، فلمّا بايعوا قال لهم: اريد عشرة منكم من رؤسائكم و شجعانكم انفذهم إليه كما أمرنى به فقالوا: سمعا و طاعة فاختار منهم مأئة، ثمّ من المأة سبعين، ثمّ من السّبعين ثلاثين، ثمّ من الثلاثين عشرة فيهم عبد الرّحمن بن ملجم المرادي لعنه اللّه و خرجوا من ساعتهم.
فلمّا أتوه عليه السّلام سلموا عليه و هنّوه بالخلافة، فردّ عليهم السلام و رحّب بهم، فتقدّم ابن ملجم و قام بين يديه و قال: السّلام عليك أيّها الامام العادل و البدر التّمام و اللّيث الهمام و البطل الضرغام و الفارس القمقام و من فضّله اللّه على ساير الأنام صلى اللّه عليك و على آلك الكرام، أشهد انّك امير المؤمنين صدقا و حقّا و أنّك وصي رسول اللّه و الخليفة من بعده و وارث علمه لعن اللّه من جحد حقّك و مقامك أصبحت أميرها و عميدها، لقد اشتهر بين البريّة عدلك، و هطلت«» شآبيب فضلك و سحائب رحمتك و رأفتك عليهم، و لقد أنهضنا الأمير إليك فسررنا بالقدوم عليك فبوركت بهذه الطلعة المرضيّة و هنئت بالخلافة في الرّعية.
ففتح أمير المؤمنين عليه السّلام عينيه في وجهه و نظر الى الوفد فقرّبهم و أدناهم فلمّا جالسوا دفعوا الكتاب ففضّه و قرأه و سرّ بما فيه فأمر بكلّ واحد منهم بحلّة يمانيّة و رداء عدنية و فرس عربية و أمر أن يفتقدوا و يكرموا، فلما نهضوا قام ابن ملجم و وقف بين يديه و أنشد:
أنت المهيمن و المهذّب ذو الندى
و ابن الضراغم في الطراز الأوّل
اللّه خصّك يا وصىّ محمّد
و حباك فضلا في الكتاب المنزل
و حباك بالزّهراء بنت محمّد
حوريّة بنت النبيّ المرسل
ثمّ قال: يا أمير المؤمنين ارم بنا حيث شئت لترى منّا ما يسرّك فو اللّه ما فينا إلّا كلّ بطل أهيس«» و حازم أكيس و شجاع أشوس«» و رثنا ذلك عن الآباء و الاجداد و كذلك نورثه صالح الأولاد.
قال: فاستحسن أمير المؤمنين كلامه من بين الوفد فقال له: ما اسمك يا غلام قال: اسمى عبد الرّحمن، قال: ابن من قال: ابن ملجم المرادى، قال: أمراديّ أنت قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال عليه السّلام إنّا للّه و إنا إليه راجعون و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم.
قال: و جعل أمير المؤمنين يكرّر النّظر إليه و يضرب احدى يديه على الاخرى و يسترجع ثمّ قال له: و يحك أمر ادىّ أنت قال: نعم فعند ها تمثّل بقوله:
أنا أنصحك منّى بالوداد
مكاشفة و أنت من الأعادى
اريد حياته و يريد قتلى
عذيرك«» من خليلك من مرادى
قال الاصبغ بن نباتة: لما دخل الوفد إلى أمير المؤمنين و بايعوه و بايعه ابن ملجم فلما أدبر عنه دعاه أمير المؤمنين ثانيا فتوثق منه بالعهود و المواثيق أن لا يغدر و لا ينكث ففعل ثمّ سار عنه، ثمّ استدعاه ثالثا ثمّ توثق منه فقال ابن ملجم: يا أمير المؤمنين ما رأيتك فعلت هذا بأحد غيرى فقال عليه السّلام امض لشانك فما أراك تفى بما بايعت عليه.
فقال ابن ملجم: كانّك تكره و فودى عليك لما سمعته من اسمى و انّي و اللّه لاحبّ الاقامة معك و الجهاد بين يديك و انّ قلبي محبّ لك و انّى و اللّه اوالى وليّك و أعادي عدوّك.
قال: فتبسّم عليه السّلام و قال: باللّه يا أخا مراد إن سألتك عن شيء تصدّقني فيه قال: أي و عيشك يا أمير المؤمنين، فقال له: هل كان لك داية يهودّية فكانت إذا بكيت تضربك و تلطم جبينك و تقول لك: اسكت فانك أشقى من عاقر ناقة صالح و إنّك ستجنى فى كبرك جناية عظيمة يغضب اللّه بها عليك، و يكون مصيرك إلى النّار فقال قد كان ذلك و لكنك و اللّه يا أمير المؤمنين أحبّ إلىّ من كلّ أحد، فقال أمير المؤمنين و اللّه ما كذبت و لا كذبت و لقد نطقت حقّا و قلت صدقا و أنت و اللّه قاتلي لا محالة و ستخضب هذه من هذه و أشار إلى لحيته و رأسه و لقد قرب وقتك و حان زمانك.
فقال ابن ملجم و اللّه يا أمير المؤمنين انّك أحبّ إلىّ من كلّ ما طلعت عليه الشّمس، و لكن إذا عرفت ذلك منّي غيّرني إلى مكان تكون ديارك من دياري بعيدة فقال: كن مع أصحابك حتّى اذن لكم في الرّجوع إلى بلادكم.
ثمّ امرهم بالنّزول في بنى تميم فأقاموا ثلاثة أيّام، ثمّ أمرهم بالرّجوع إلى اليمن، فلمّا عزموا على الخروج مرض ابن ملجم مرضا شديدا فذهبوا و تركوه، فلما برء أتى أمير المؤمنين و كان لا يفارقه ليلا و لا نهارا و يسارع في قضاء حوائجه و كان يكرمه و يدعوه إلى منزله و يقرّبه، و كان مع ذلك يقول له: أنت قاتلى و يكرّر عليه الشّعر:
اريد حياته و يريد قتلى عذيرك من خليلك من مرادى
فيقول له: يا أمير المؤمنين إذا عرفت ذلك منّي فاقتلنى، فيقول إنّه لا يحلّ ذلك أن اقتل رجلا قبل أن يفعل بى شيئا، و في خبر آخر قال: إذا قتلتك فمن يقتلني.
قال: فسمعت الشّيعة ذلك فوثب مالك الأشتر و الحرث بن الأعور و غيرهما من الشّيعة فجرّدوا سيوفهم و قالوا: يا أمير المؤمنين من هذا الكلب الذي تخاطبه بمثل هذا الخطاب مرارا و أنت امامنا و وليّنا و ابن عمّ نبيّنا، فمرنا بقتله، فقال لهم: اغمدوا سيوفكم بارك اللّه فيكم و لا تشقّوا عصا هذه الامّة أترون أني أقتل رجلا لم يصنع بى شيئا.
فلما انصرف عليه السّلام إلى منزله اجتمعت الشّيعة و أخبر بعضهم بعضا بما سمعوا و قالوا: إنّ أمير المؤمنين يغلس إلى الجامع و قد سمعتم خطابه لهذا المرادي و هو ما يقول إلّا حقّا و قد علمتم عدله و إشفاقه علينا و نخاف أن يغتاله هذا المرادي فتعالوا نقترع على أن تحوطه كلّ ليلة منّا قبيلة.
فوقعت القرعة في الليلة الاولى و الثانية و الثالثة على أهل الكناس، فتقلّدوا سيوفهم و اقبلوا في ليلتهم إلى الجامع، فلما خرج عليه السّلام رآهم على تلك الحالة فقال ما شأنكم فأخبروه فدعا لهم فتبسّم ضاحكا، و قال: جئتم تحفظونى من أهل السّماء أم من أهل الأرض قالوا: من أهل الأرض، قال: ما يكون شيء في السماء إلّا هو في الأرض و ما يكون شيء في الأرض إلّا هو في السّماء ثمّ تلى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا ثمّ أمرهم أن يأتوا منازلهم و لا يعود و المثلها، ثمّ إنّه صعد المأذنة و كان إذا تنحنح يقول السّامع ما اشبهه بصوت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فتأهب النّاس بصلاة الفجر و كان إذا أذّن يصل صوته إلى نواحي الكوفة كلّها، ثمّ نزل عليه السّلام فصلّى و كانت هذه عادته.
قال: و أقام ابن ملجم بالكوفة إلى أن خرج أمير المؤمنين عليه السّلام إلى غزاة النهروان فخرج ابن ملجم معه و قاتل بين يديه قتالا شديدا فلما رجع إلى الكوفة و قد فتح اللّه على يديه قال ابن ملجم لعنه اللّه يا أمير المؤمنين أ تأذن لى أن أتقدّمك إلى المصر لابشّر أهله بما فتح اللّه عليك من النّصر فقال: ما ترجو بذلك قال: الثواب من اللّه و الشّكر من النّاس و افرح الأولياء و اكمد الأعداء، فقال: شأنك.
ثمّ أمر له بخلعة سنيّة و عما متين و فرسين و سيفين و رمحين فسار ابن ملجم و دخل الكوفة و جعل يخترق أزقّتها و شوارعها، و هو يبشّر الناس بما فتح اللّه على أمير المؤمنين و قد دخله العجب في نفسه فانتهى به الطريق إلى محلّة بني تميم.
فمرّ على دار تعرف بالقبيلة و هى أعلا دار بها و كانت لقطام بنت سخينة بن عوف بن تيم اللّات، و كانت موصوفة بالحسن و الجمال و الكمال و البهاء، فلما سمعت كلامه بعثت إليه و سألته النزول عندها ساعة لتسأله عن أهلها، فلما قرب من منزلها و أراد النّزول عن فرسه خرجت إليه ثمّ كشفت له عن وجهها و أظهرت له محاسنها.
فلما رآها أعجبته و هواها من وقته فنزل عن فرسه و دخل إليها و جلس في دهليز الدار و قد أخذت بمجامع قلبه فبسطت له بساطا و وضعت له متكئا و أمرت خادمها أن تنزع أخفافه و أمرت له بماء فغسل وجهه و يديه و قدمت إليه طعاما فاكل و شرب، و أقبلت عليه تروحه من الحرّ فجعل لا يملّ من النظر إليها و هى مع ذلك متبسّمة في وجهه سافرة له عن نقابها بارزة عن جميع محاسنها ما ظهر منها و ما بطن.
فقال لها أيّتها الكريمة لقد فعلت اليوم بي ما وجب به بل ببعضه على مدحك و شكرك دهري كلّه فهل من حاجة أتشرّف بها و أسعى في قضائها قال: فسألته عن الحرب و من قتل فيه فجعل يخبرها و يقول فلان قتله الحسن و فلان قتله الحسين إلى أن بلغ قومها و عشيرتها، و كانت قطام لعنها اللّه على رأى الخوارج و قد قتل أمير المؤمنين في هذا الحرب من قومها جماعة كثيرة منهم أبوها و أخوها و عمّها، فلما سمعت منه ذلك صرخت باكية ثمّ لطمت خدّها و قامت من عنده و دخلت البيت و هي تندبهم طويلا.
قال: فندم ابن ملجم فلما خرجت إليه قالت: يعزّ علىّ فراقهم من لى بعدهم أفلا ناصر ينصرني و يأخذ لى بثارى و يكشف عن عارى فكنت أهب له نفسي و أمكنه منها و من مالى و جمالى، فرقّ لها ابن ملجم و قال لها: غضّى صوتك و ارفقى بنفسك فانك تعطين مرادك.
قال: فسكتت من بكائها و طمعت في قوله، ثمّ أقبلت عليه بكلامها و هي كاشفة عن صدرها و مسبلة شعرها، فلما تمكّن هواها من قبله مال إليها بكليّته ثمّ جذبها
إليه و قال لها: كان أبوك صديقا لي و قد خطبتك منه فأنعم لي بذلك فسبق إليه الموت فزوّجينى نفسك لآخذ لك بثارك.
قال: ففرحت بكلامه و قالت قد خطبنى الأشراف من قومي و سادات عشيرتى فما انعمت إلّا لمن يأخذ لى بثاري و لما سمعت عنك أنّك تقاوم الأقران و تقتل الشّجعان فأحببت أن تكون لي بعلاو أكون لك أهلا.
فقال لها: فأنا و اللّه كفو كريم فاقرحى على ما شئت من مال و فعال، فقالت له: إن قدمت على العطيّة و الشّرط فها أنا بين يديك فتحكم كيف شئت، فقال لها: و ما العطية و الشّرط فقالت له: أمّا العطيّة فثلاثة آلاف دينار و عبد و قينة«» فقال هذا أنا مليء به، فما الشرط المذكور قالت: نم على فراشك حتّى أعود إليك.
ثمّ إنّها دخلت خدرها فلبست أفخر ثيابها و لبست قميصا رقيقا يرى صدرها و حليتها و زادت في الحليّ و الطيب و خرجت في معصفرها فجعلت تباشره بمحاسنها ليرى حسنها و جمالها، و أرخت عشرة ذوايب من شعرها منظومة بالدّرّ و الجواهر.
فلما دخلت إليه أرخت لثامها عن وجهها و رفعت معصفرها«» و كشفت عن صدرها و اعكانها و قالت: ان قدمت على الشّرط المشروط ظفرت بهذا جميعه و أنت مسرور مغبوط.
قال: فمدّ ابن ملجم عينيه إليها فحار عقله و هوى لحينه مغشيّا عليه ساعة فلما أفاق قال: يا منية النّفس ما شرطك فاذكريه لي فانّي سأفعله و لو كان دونه قطع القفار و خوض البحار و قطع الرّؤوس و اختلاس النّفوس، قالت له الملعونة: شرطي عليك أن تقتل عليّ بن أبي طالب بضربة واحدة بهذا السّيف في مفرق رأسه يأخذ منه ما يأخذ و يبقى ما يبقى.
فلما سمع ابن ملجم كلامه استرجع و رجع إلى عقله و اغاظه و أقلقه ثمّ صاح بأعلى صوته: و يحك ما هذا الذي و اجهتني به بئس ما حدّثتك به نفسك من المحال، ثمّ طأطأ رأسه يسيل عرقا و هو متفكّر في أمره، ثمّ رفع رأسه إليها و قال: و يلك من يقدر على قتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب المستجاب الدعاء المنصور من السّماء، و الأرض ترجف من هيبته، و الملائكة تسرع إلى خدمته.
يا ويلك و من يقدر على قتل علىّ بن أبي طالب و هو مؤيّد من السّماء، و الملائكة تحوطه بكرة و عشيّة، و لقد كان فى أيّام رسول اللّه إذا قاتل يكون جبرئيل عن يمينه و ميكائيل عن يساره و ملك الموت بين يديه فمن هو هكذا الاطاقة لأحد بقتله و لا سبيل لمخلوق على اغتياله.
و مع ذلك فانّه قد أعزّني و أكرمني و أحبّني و رفعنى و آثرني على غيرى، فلا يكون ذلك جزاؤه منّى أبدا، فان كان غيره قتلته لك شرّ قتلة و لو كان أفرس أهل زمانه، و أمّا أمير المؤمنين فلا سبيل لي عليه.
قال: فصبرت عنه حتّى سكن غيظه و دخلت معه في المداعبة و الملاعبة و علمت أنّه قد نسى ذلك القول، ثمّ قالت له: يا هذا ما يمنعك عن قتل عليّ بن أبي طالب و ترغب في هذا المال و تتنّعم هذا الجمال و ما أنت بأعفّ و أزهد من الذين قاتلوه و قتلهم و كانوا من الصّوامين و القوّامين، فلما نظروا إليه و قد قتل المسلمين ظلما و عدوانا اعتزلوه و حاربوه، و مع ذلك فانّه قد قتل المسلمين و حكم بغير حكم اللّه و خلع نفسه من الخلافة و امرة المؤمنين، فلما رأوه قومي على ذلك اعتزلوه فقتلهم بغير حجة له عليهم.
فقال له ابن ملجم: يا هذه كفّي عنّي فقد أفسدت علىّ ديني و أدخلت الشكّ في قلبي و ما أدرى ما أقول لك و قد عزمت على رأى ثمّ أنشد:
ثلاثة آلاف و عبد و قينة
و ضرب علىّ بالحسام المصمّم
فلا مهر أغلا من قطام و ان غلا
و لا فتك«» إلّا دون فتك ابن ملجم
فأقسمت بالبيت الحرام و من أتى
اليه و لبّى من محلّ و محرم
لقد أفسدت عقلى قطام و انّنى
لمنها على شكّ عظيم مذمم
لقتل علىّ خير من وطأ الثرى
أخى العلم الهادى النبيّ المكرّم
ثمّ امسك ساعة و قال:
فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة
كمهر قطام من فصيح و أعجم
ثلاثة آلاف و عبد و قينة
و ضرب علىّ بالحسام المصمم
فلا مهر أغلا من علىّ و إن غلا
و لا فتك إلّا دون فتك ابن ملجم
فأقسمت بالبيت الحرام و من أتى
اليه جهارا من محلّ و محرم
لقد خاب من يسعى لقتل إمامه
و ويل له من حرّ نار جهنم
إلى آخر ما أنشد من الأبيات ثمّ قال لها: أجّلينى ليلتى هذه حتّى أنظر في أمرى و آتيك غدا بما يقوى عليه عزمي.
فلما همّ بالخروج أقبلت إليه و ضمّته إلى صدرها و قبّلت ما بين عينيه و أمرته بالاستعجال في أمرها و سايرته إلى باب الدّار و هي تشجعه و انشدت له أبيات، فخرج الملعون من عنده و قد سلبت فؤاده و أذهبت رقاده و رشاده، فبات ليلته قلقا متفكّرا فمرّة يعاتب نفسه و مرّة يفكّر في دنياه و آخرته.
فلما كانت وقت السّحر أتاه طارق فطرق الباب فلما فتحه إذا برجل من بني عمّه على نجيب و إذا هو رسول من إخوته إليه يعزّونه في أبيه و عمّه و يعرفونه أنّه خلّف مالا جزيلا و أنّهم دعوه سريعا ليحوز ذلك المال.
فلما سمع ذلك بقى متحيرا في أمره إذ جاءه ما يشغله عمّا عزم عليه من أمر قطام فلم يزل مفكرا في أمره حتّى عزم على الخروج، و كان له اخوان لأبيه و امه كانت من زبيد يقال لها عدنية و هى ابنة عليّ بن ماشوج و كان أبوه مراديا، و كانوا يسكنون عجران صنعا.
فلمّا وصل إلى النّجف ذكر قطام و منزلتها في قلبه و رجع إليها فلمّا طرق الباب اطلعت عليه و قالت من الطارق فعرفته على حالة السّفر فنزلت إليه و سلّمت عليه و سألته عن حاله فأخبرها بخبره و وعدها بقضاء حاجتها إذا رجع من سفره و تملكها جميع ما يجيء به من المال، فعدلت عنه مغضبة فدنى منها و قبّلها و ودّعها و حلف لها أنّه يبلغها مأمولها في جميع ما سألته.
فخرج و جاء إلى أمير المؤمنين و أخبره بما جاءوا إليه لأجله و سأله أن يكتب إلى ابن المنتجب كتابا ليعينه على استخلاص حقّه فأمر كاتبه فكتب له ما أراد ثمّ أعطاه فرسا من جياد خيله فخرج و سار سيرا حثيثا حتّى وصل إلى بعض أودية اليمن، فأظلم عليه الليل فبات في بعضها، فلمّا مضى من الليل نصفه إذا هو بزعقة عظيمة من صدر الوادي و دخان يفور و نار مضرمة فانزعج لذلك و تغيّر لونه و نظر إلى صدر الوادي و إذا بالدّخان قد أقبل كالجبل العظيم و هو واقع عليه و النّار تخرج من جوانبه، فخرّ مغشيّا عليه فلمّا أفاق و إذا بها تف يسمع صوته و لا يرى شخصه و هو يقول:
اسمع و ع القول يا بن ملجم
إنّك في أمر مهول معظم
تضمر قتل الفارس المكرّم
أكرم من طاف و لبّى و احرم
ذاك علىّ ذو التقاء الأقدم
فارجع إلى اللّه لكيلا تندم
فلما سمع توهّم أنّه من طوارق الجنّ و إذا بالهاتف يقول: يا شقيّ ابن الشّقي أمّا ما أضمرت من قتل الزّاهد العابد العادل الرّاكع السّاجد امام الهدى و علم التّقى و العروة الوثقى فانّا علمنا بما تريد أن تفعله بأمير المؤمنين و نحن من الجنّ الذين أسلمنا على يديه و نحن نازلون بهذا الوادي فانّا لا ندعك تبيت فيه فانّك ميشوم على نفسك ثمّ جعلوا يرمونه بقطع الجنادل فصعد فوق شاهق فبات بقيّة ليله.
فلمّا أصبح سار ليلا و نهارا حتّى وصل إلى اليمن و أقام عندهم شهرين و قلبه على حرّ الجمر من أجل قطام ثمّ إنّه أخذ الذى أصابه من المال و المتاع و الأثاث و الجواهر و خرج.
فبينا هو في بعض الطريق إذا خرجت عليه حراميّة فسايرهم و سايروه فلمّا قربوا من الكوفة حاربوه و أخذوا جميع ما كان معه و نجى بنفسه و فرسه و قليل من الذهب على وسطه و ما كان تحته، فهرب على وجهه حتّى كاد أن يهلك عطشا.
و أقبل سايرا في الفلاة مهموما جايعا عطشانا فلاح له شبح فقصده، فاذا بيوت من أبيات الحرب فقصد منها بيتا فنزل عندهم و استسقاهم شربة ماء فسقوه و طلب لبنا فأتوه به فنام ساعة.
فلمّا استيقظ أتاه رجلان و قدما إليه طعاما فأكل و أكلا معه و جعلا يسألانه عن الطريق فأخبرهما، ثمّ قالا له: ممّن الرّجل قال: من مراد، قالا: اين تقصد قال: الكوفة، قالا: كانّك من أصحاب أبي تراب قال: نعم، فاحمرّت أعينهما غيظا و عزما على قتله ليلا، و أسرّا ذلك و نهضا، فتبيّن له ما عزما عليه فندم على كلامه.
فبينما هو متحير إذ أقبل كلبهم و نام قريبا منهم، فأقبل اللعين يمسح بيده على الكلب و يشفق عليه و يقول مرحبا بكلب قوم أكرموني فاستحسنا ذلك و سألاه ما اسمك قال: عبد الرّحمن بن ملجم، فقالا له: ما اردت بصنعك هذا في كلبنا فقال: أكرمته لأجلكم حيث اكرمتموني فوجب علىّ شكركم و كان هذا منه خديعة و مكرا فقالا: اللّه اكبر الآن و اللّه وجب حقّك علينا و نحن نكشف لك عمّا في ضمائرنا.
نحن نرى رأى الخوارج و قد قتل أعمانا و أخوالنا و أهالينا كما علمت، فلما أخبرتنا أنّك من أصحابه عزمنا على قتلك في هذه اللّيلة فلمّا رأينا صنعك هذا بكلبنا صفحنا عنك و نحن الآن نطلعك على ما قد عزمنا عليه فسألهما عن أسمائهما فقال أحدهما أنا البرك بن عبد اللّه التميمي، و هذا عبد اللّه بن عثمان العنبرى صهرى.
و قد نظرنا إلى ما نحن عليه من مذهبنا فرأينا أنّ فساد الأرض و الأمة كلّها من ثلاثة نفر أبو «أبي ظ» تراب، و معاوية و عمرو بن العاص، فامّا أبو تراب فانّه قتل رجالنا كما رأيت و افتكرنا أيضا في الرّجلين معاوية و ابن العاص و قد وليا علينا هذا الظالم الغشوم بسر بن أرطاة يطرقنا في كلّ وقت و يأخذ أموالنا و قد عزمنا على قتل هؤلاء الثلاثة فاذا قتلناهم توطات الأرض و اقعد النّاس لهم اماما يرضونه.
فلمّا سمع ابن ملجم كلامهما صفق باحدى يديه على الأخرى و قال: و الذي فلق الحبّة و برء النسمة و تردّى بالعظمة إنّي لثالثكما و إنّي موافقكما على رأيكما و أنا أكفيكما أمر عليّ بن أبي طالب.
فنظرا إليه متعجّبين من كلامه قال و اللّه ما أقول لكما إلّا حقّا، ثمّ ذكر لهما قصّته فلمّا سمعا كلامه عرفا صحّته و قالا إنّ قطام من قومنا و أهلها كانوا من عشيرتنا فنحن نحمد اللّه على اتّفاقنا فهذا لا يتمّ إلّا بالايمان المغلظة فنركب الآن مطايانا و نأتي الكعبة و نتعاقد عندها على الوفاء فلمّا أصبحوا و ركبوا حضر عندهم بعض قومهم فأشاروا عليهم و قالوا لا تفعلوا ذلك فما منكم أحد إلا و يندم ندامة عظيمة، فلم يقبلوا و ساروا جميعا حتّى أتوا البيت و تعاهدوا عنده.
فقال البرك: أنا لعمرو بن العاص، و قال العنبري: أنا لمعاوية، و قال ابن ملجم لعنه اللّه: أنا لعليّ، فتحالفوا على ذلك بالأيمان المغلّظة و دخلوا المدينة و حلفوا عند قبر النبيّ على ذلك ثمّ افترقوا و قد عينوا يوما معلوما يقتلون فيه الجميع، ثمّ سار كلّ منهم على طريقه.
فاما البرك فأتى المصر و دخل الجامع و أقام فيه أيّا ما، فخرج عمرو بن العاص ذات يوم إلى الجامع و جلس فيه بعد صلاته فجاء البرك إليه و سلّم عليه ثمّ حادثه في فنون الأخبار و طرف الكلام و الأشعار، فشعف به عمرو بن العاص و قرّبه و أدناه و صار يأكل معه على مائدة واحدة، فأقام إلى الليلة التي تواعدوا فيها فخرج إلى نيل مصر و جلس مفكرا فلمّا غربت الشّمس أتى الجامع و جلس فيه.
فلمّا كان وقت الافطار افتقده عمرو بن العاص فلم يره فقال لولده: ما فعل صاحبنا و أين مضى فانّى لا أراه فبعث إليه يدعوه فقال له: إنّ هذه الليلة ليست كالليالي و قد أحببت أن أقيم ليلتي هذه في الجامع رغبة فيما عند اللّه و احبّ أن اشرك للأمير في ذلك.
فلمّا رجع إليه و أخبره بذلك سرّه سرورا عظيما و بعث إليه مائدة فاكل و بات ليلته ينتظر قدوم عمرو، و كان هو الذي يصلّي بهم فلمّا كان عند طلوع الفجر أقبل المؤذّن إلى باب عمرو و أذّن و قال: الصّلاة يرحمك اللّه الصّلاة.
فانتبه فأتى بالماء و توضّأ و تطيّب و ذهب ليخرج إلى الصّلاة فزلق فوقع على جنبه فاعتوره عرق النّساء فاشغلته (فشغلته خ ل) عن الخروج، فقال قدّموا خارجة ابن تميم القاضي يصلّى بالنّاس، فأتى القاضى و دخل المحراب في غلس فجاء البرك فوقف خلفه و سيفه تحت ثيابه و هو لا يشك أنّه عمرو فأمهله حتّى سجد و جلس من سجوده فسلّ سيفه و نادى.
لا حكم إلّا اللّه و لا طاعة لمن عصى اللّه ثمّ ضربه بالسّيف على أمّ رأسه فقضى نحبه لوقته، فبادر النّاس و قبضوا عليه و أخذوا سيفه من يده و أوجعوه ضربا و قالوا له: يا عدوّ اللّه قتلت رجلا مسلما ساجدا في محرابه فقال: يا حمير أهل مصر إنّه يستحق القتل قالوا: بماذا ويلك قال: لسعيه في الفتنة لأنّه الدّاهية الدّهماء الذي أثار الفتنة و نبذها و قوّاها و زيّن لمعاوية محاربة عليّ.
فقالوا له: يا ويلك من تعنى قال: الطاغى الباغي الكافر الزّنديق عمرو بن العاص الذي شقّ عصا المسلمين و هتك حرمة الدّين، قالوا: لقد خاب ظنّك و طاش سهمك إنّ الذي قتلته ما هو إنّما هو خارجة، فقال يا قوم المعذرة إلى اللّه و اليكم فو اللّه ما أردت خارجة و إنّما أردت قتل عمرو.
فأوثقوه كتافا و أتوا به إلى عمرو، فلمّا رآه قال: أليس هذا هو صاحبنا الحجازي قالوا له: نعم قال: ما باله قالوا: إنّه قد قتل خارجة فدهش عمرو لذلك و قال: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم.
ثمّ التفت إليه و قال: يا هذا لم فعلت ذلك فقال له و اللّه يا فاسق ما طلبت غيرك و لا أردت سواك، قال: و لم ذلك قال: إنّا ثلاثة تعاهدنا بمكّة على قتلك و قتل عليّ بن أبي طالب و قتل معاوية في هذه الليلة، فان صدق صاحباى فقد قتل عليّ بالكوفة و معاوية بالشّام و أمّا أنت فقد سلمت، فقال عمرو: يا غلام احبسه حتّى نكتب إلى معاوية، فحبسه حتّى أمره معاوية بقتله فقتله.
و أما عبد اللّه العنبري فقصد دمشق و استخبر عن معاوية فارشد إليه فجعل يتردّد إلى داره فلا يتمكّن من الدّخول عليه إلى أن أذن معاوية يوما للنّاس إذنا عاما فدخل إليه مع النّاس و سلّم عليه و حادثه ساعة و ذكر له ملوك قحطان و من له كلام مصيب حتّى ذكر له بني عمّه و هم أوّل ملوك قحطان و شيئا من أخبارهم فلمّا تفرّقوا بقى عنده مع خواصّ أصحابه و كان فصيحا خبيرا بأنساب العرب و أشعارهم.
فأحبّه معاوية حبا شديدا فقال: قد أذنت لك في كلّ وقت نجلس فيه أن تدخل علينا من غير مانع و لا دافع، فكان يتردّد إليه إلى ليلة تسع عشرة و كان قد عرف المكان الذي يصلّى فيه معاوية.
فلمّا أذن المؤذّن للفجر و أتى معاوية المسجد و دخل محرابه ثار إليه بالسّيف و ضربه فراغ عنه، فأراد ضرب عنقه فانصاع عنه فوقع السّيف في إليته و كانت ضربته ضربة جبان، فقال معاوية: لا يفوتنّكم الرّجل فاستخلف بعض أصحابه للصّلاة و نهض إلى داره.
و أمّا العنبرى فأخذه النّاس و أونقوه و أتوا به إلى معاوية و كان مغشيّا عليه فلمّا أفاق قال له: ويلك يا لكع لقد خاب ظنّي فيك ما الذى حملك على هذا فقال له: دعنى من كلامك اعلم أنّنا ثلاثة تحالفنا على قتلك و قتل عمرو بن العاص و عليّ بن أبي طالب فان صدقا صاحباى فقد قتل عليّ و عمرو، و أمّا أنت فقد روغ أجلك كروغك الثعلب.
فقال له معاوية: على رغم أنفك فامر به إلى الحبس فأتاه الساعدى و كان طبيبا فلمّا نظر إليه قال له، اختر إحدى الخصلتين إمّا أن احمي حديدة فأضعها موضع السّيف، و إمّا أن أسقيك شربة تقطع منك الولد و تبرء منها، لأنّ ضربتك مسمومة فقال معاوية أمّا النّار فلا صبر لي عليها، و أمّا انقطاع الولد فانّ في يزيد و عبد اللّه ما تقرّ به عيني، فسقاه الشّربة فبرىء و لم يولد له بعدها.
و أما ابن ملجم لعنه اللّه فانّه سار حتّى دخل الكوفة و اجتاز على الجامع و كان أمير المؤمنين جالسا على باب كندة فلم يدخله و لم يسلّم عليه، و كان إلى جانبه الحسن و الحسين و معه جماعة من أصحابه فلمّا نظروا إلى ابن ملجم و عبوره قالوا: ألا ترى إلى ابن ملجم عبر و لم يسلّم عليك قال عليه السّلام: دعوه فانّ له شأنا من الشّأن، و اللّه ليخضبنّ هذه من هذه و أشار إلى لحيته و هامته ثمّ قال عليه السّلام.
ما من الموت لانسان نجا
كلّ امرء لا بدّ يأتيه الفنا
تبارك اللّه و سبحانه
لكلّ شيء مدّة و انتها
يقدر الانسان في نفسه
امرا و يأتيه عليه القضاء
لا تامننّ الدهر في أهله
لكلّ شيء آخر و انقضاء
بين ترى الانسان في غبطة
يمسى و قد حلّ عليه القضا
ثمّ جعل يطيل النّظر إليه حتّى غاب عن عينه و أطرق الأرض يقول: إنّا للّه و انّا إليه راجعون و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العلىّ العظيم.
قال: و سار ابن ملجم حتّى وصل إلى دار قطام و كانت قد ايست من رجوعه إليها، و عرضت نفسها على بني عمها و عشيرتها و شرطت عليهم قتل أمير المؤمنين فلم يقدم أحد على ذلك، فلما طرق الباب قالت من الطارق قال: أنا عبد الرّحمن، ففرحت قطام به و خرجت إليه و اعتنقته و ادخلته دارها و فرشت له فرش الدّيباج و احضرت له الطعام و المدام فاكل و شرب حتّى سكر و سألته عن حاله فحدثها بجميع ما جرى له في طريقه.
ثمّ أمرته بالاغتسال و تغيير ثيابه، ففعل ذلك و امرت جارية لها ففرشت الدّار بأنواع الفرش و حضرت له شرابا و جوارى فشرب مع الجوار و هن يلعبن له بالعيدان و المعازف«» و الدّفوف فلما أخذ الشّراب منه أقبل عليها و قال: ما بالك لا تجالسينى و لا تحادثينى يا قرّة عيني و لا تمازحينى، فقالت له: بلى سمعا و طاعة ثمّ انّها نهضت و دخلت إلى خدرها و لبست أفخر ثيابها و تزينت و تطيبت و خرجت إليه و قد كشفت له عن رأسها و صدرها و نهودها و أبرزت له عن فخذها و هي في طاق غلالة رومي يبيّن له منها جميع جسدها و هى تتبختر في مشيتها و الجوار حولها يلعبن.
فقام الملعون و اعتنقها و ترشقها«» و حملها حتّى أجلسها مجلسها و قد بهت و تحير و استحوذ عليه الشّيطان فضربت بيدها على زرّ قميصها فحلّته و كان فى حلقها عقد جوهر ليست له قيمة فلما أراد مجامعتها لم تمكّنه من ذلك فقال لم تمانعينى عن نفسك و أنا و أنت على العهد الذي عاهدناك عليه من قتل عليّ و لو أحببت لقتلت معه شبليه الحسن و الحسين.
ثمّ ضرب يده على هميانه فحلّه من وسطه و رماه إليها و قال خذيه فانّ فيه أكثر من ثلاثة آلاف دينار و عبد و قينة، فقالت له و اللّه لا امكنك من نفسى حتّى تحلف لى بالايمان المغلظة انّك تقتله فحملته القساوة على ذلك و باع آخرته بدنياه و تحكم الشيطان فيه بالايمان المغلظة انّه يقتله و لو قطعوه اربا اربا.
فمالت إليه عند ذلك و قبلته و قبلها فأراد وطيها فمانعته و بات عندها تلك الليلة من غير نكاح فلما كان من الغد تزوّج بها سرّا و طاب قلبه فلما أفاق من سكرته ندم على ما كان منه و عاتب نفسه و لعنها فلم تزل ترادعه في كلّ ليلة و تعده بوصالها فلما دنت الليلة الموعودة مدّيده إليها ليضاجعها و يجامعها فأبت عليه و قالت ما يكون ذلك إلّا أن تفى بوعدك و كان الملعون اعتلّ علّة شديدة فبرء منها، و كانت الملعونة لا تمكنه من نفسها مخافة أن تبرد ناره فيخلّ بقضاء حاجتها.
فقال لها يا قطام: اقتل لك في هذه الليلة علىّ بن أبي طالب فأخذ سيفه و مضى به إلى الصّيقل فأجاد صقاله و جاء به إليها فقالت إنّى اريد أن اعمل فيه سمّا قال: و ما تصنع بالسّم لو وقع على جبل لهده، فقالت: دعنى أعمل فيه السّم فانّك لو رأيت عليّا لطاش عقلك و ارتعشت يداك و ربّما ضربته ضربة لا تعمل فيه شيئا، فاذا كان مسموما فان لم تعمل الضّربة عمل السّم.
فقال لها: يا ويلك أ تخوفيني من عليّ فو اللّه لا أرهب عليّا و لا غيره، فقالت له: دعنى من قولك هذا فانّ عليّا ليس كمن لا قيت من الشجعان فاطرت في مدحه و ذكرت شجاعته و كان غرضها أن يحمل الملعون على الغضب و يحرّضه على الأمر فأخذت السّيف و انفذته إلى الصّيقل فسقاه السّم و ردّه إلى غمده.
و كان ابن ملجم قد خرج في ذلك اليوم و يمشي في أزقة الكوفة فلقاه صديق له و هو عبد اللّه بن جابر الحارثي فسلّم عليه و هنّأ بزواج قطام، ثمّ تحادثا ساعة فحدّثه بحديثه من أوله إلى آخره فسّر بذلك سرورا عظيما، فقال له: أنا اعاونك.
فقال ابن ملجم: دعني من هذا الحديث فانّ عليّا أروغ من الثّعلب و أشدّ من الاسد، ثم مضى ابن ملجم لعنه اللّه يدور في شوارع الكوفة، فاجتاز على أمير المؤمنين و هو جالس عند ميثم التّمار فخطف عنه كيلا يراه ففطن به فبعث خلفه رسولا فلما أتاه وقف بين يديه و سلم عليه و تضرّع لديه.
فقال له: ما تعمل ههنا قال: أطوف في أسواق الكوفة و أنظر إليها، فقال عليك بالمساجد فانّها خير لك من البقاع كلّها و شرّها الاسواق ما لم يذكر اسم اللّه فيها ثمّ حادثه ساعة و انصرف.
فلما ولى جعل أمير المؤمنين يطيل النظر إليه و يقول يالك من عدوّ لى من مراد ثمّ قال: اريد حياته و يريد قتلى، و يأبى اللّه إلّا أن يشاء.
ثمّ قال عليه السّلام يا ميثم هذا و اللّه قاتلي لا محالة أخبرني به حبيبى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال ميثم: يا أمير المؤمنين فلم لا تقتله أنت قبل ذلك فقال: يا ميثم لا يحلّ القصاص قبل الفعل، فقال ميثم يا مولاى إذا لم تقتله فاطرده، فقال: يا ميثم لو لا آية في كتاب اللّه: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ.
و أيضا انّه بعد ما جنا جناية فيؤخذ بها و لا يجوز أن يعاقب قبل الفعل، فقال ميثم: جعل يومنا قبل يومك و لا أرانا اللّه فيك سوء ابدا و متى يكون ذلك يا أمير المؤمنين فقال: إنّ اللّه تفرّد بخمسة أشياء لا يطلع عليها نبيّ مرسل و لا ملك مقرّب فقال عزّ من قائل: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية.
يا ميثم هذه خمسة لا يطلع عليها إلّا اللّه و ما اطلع عليها نبىّ و لا وصيّ و لا ملك مقرّب، يا ميثم لا حذر من قدر، يا ميثم إذا جاء القضاء فلا مفرّ، فرجع ابن ملجم و دخل على قطام لعنهما اللّه و كانت تلك الليلة ليلة تسع عشر من شهر رمضان.
قالت امّ كلثوم بنت أمير المؤمنين عليه السّلام لما كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قدمت إليه عند افطاره طبقا فيه قرصان من خبز الشّعير و قصعة فيها لبن و ملح جريش، فلما فرغ من صلاته أقبل على فطوره، فلما نظر إليه و تأمله حرك رأسه و بكى بكاء شديدا عاليا و قال: يا بنية ما ظننت أنّ بنتا تسوء أباها كما قد أسات أنت إلىّ، قالت: و ما ذا يا أبا قال: يا بنية أتقدّمين إلى أبيك ادامين في فرد طبق واحد أ تريد بن أن يطول وقوفى غدا بين يدي اللّه عزّ و جل يوم القيامة أنا اريد أن أتبع أخى و ابن عمّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما قدم إليه طعامان في طبق واحد إلى أن قبضه اللّه.
يا بنية ما من رجل طاب مطعمه و مشربه و ملبسه إلّا طال وقوفه بين يدي اللّه عزّ و جل يوم القيامة، يا بنية انّ الدّنيا في حلالها حساب و في حرامها عقاب.
و قد أخبرنى حبيبي رسول اللّه أنّ جبرئيل نزل إليه و معه مفاتيح كنوز الأرض و قال: يا محمّد اللّه يقرؤك السّلام و يقول لك ان شئت سيّرت معك جبال تهامة ذهبا و فضة و خذ هذه مفاتيح كنوز الأرض و لا ينقص ذلك من حظك يوم القيامة، قال:
يا جبرئيل و ما يكون بعد ذلك قال الموت، فقال: إذن لا حاجة لي في الدّنيا دعنى أجوع يوما و أشبع يوما، فاليوم الذى أجوع فيه أتضرّع إلى ربي و أسأله، و اليوم الذى أشبع فيه أشكر ربّى و أحمده، فقال له جبرئيل: وفّقت لكلّ خير ثم قال: يا بنية الدّنيا دار غرور و دار هو ان فمن قدّم شيئا وجده، يا بنية و اللّه لا آكل شيئا حتّى ترفعين أحد الادامين، فلما رفعته تقدّم إلى الطعام فأكل قرصا واحدا بالملح الجريش.
ثمّ حمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قام إلى صلاته فصلى فلم يزل راكعا و ساجدا و مبتهلا و متضرّعا إلى اللّه سبحانه و يكثر الدّخول و الخروج و هو ينظر إلى السّماء و هو قلق يتململ، ثم قرء سورة يس حتّى ختمها، ثمّ رقد هنيئة و انتبه مرعوبا و جعل يمسح وجهه بثوبه و نهض قائما على قدميه و هو يقول: اللهمّ بارك لنا في لقائك و يكثر من قول لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العلىّ العظيم، ثمّ صلّى حتّى ذهب بعض الليل، ثمّ جلس للتعقيب، ثمّ نامت عيناه و هو جالس، ثمّ انتبه من نومته مرعوبا.
قالت ام كلثوم كانّى به و قد جمع أولاده و أهله و قال لهم في هذا الشّهر تفقدوني إنّي رأيت في هذه الليلة رؤياها لتنى و اريد أن أقصّها عليكم، قالوا: و ما هي قال: إنى رأيت الساعة رسول اللّه في منامي و هو يقول لي: يا أبا الحسن إنّك قادم إلينا عن قريب يجيء اليك أشقاها فيخضب شيبتك من دم رأسك و أنا و اللّه مشتاق إليك و إنّك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان فهلمّ إلينا فما عندنا خير لك و أبقى.
قال: فلما سمعوا كلامه ضجّوا بالبكاء و النحيب و أبدوا العويل فاقسم عليهم بالسّكوت فسكتوا، ثمّ أقبل عليهم يوصيهم و يأمرهم بالخير و ينهيهم عن الشّر.
قالت أمّ كلثوم فلم يزل تلك الليلة قائما و قاعدا و راكعا و ساجدا، ثمّ يخرج ساعة بعد ساعة يقلّب طرفه في السماء و ينظر في الكواكب و هو يقول و اللّه ما كذبت و لا كذبت و إنها الليلة التي وعدت بها.
ثمّ يعود إلى مصلّاه و يقول. اللهمّ بارك لى في الموت و يكثر من قول إنا للّه و إنّا إليه راجعون و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم و يصلّي على النبيّ و آله و يستغفر اللّه كثيرا.
قالت ام كلثوم: فلما رأيته في تلك الليلة فلقا متململا كثير الذّكر و الاستغفار أرقت معه ليلتي و قلت يا ابتاه مالي أراك هذه الليلة لا تذوق طعم الرّقاد، قال: يا بنية إنّ أباك قتل الابطال و خاض الأهوال و ما دخل الجوف له خوف و ما دخل في قلبي رعب أكثر ممّا دخل في هذه الليلة، ثمّ قال: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، فقلت: يا أباه مالك تنعي نفسك منذ الليلة، قال: يا بنية قد قرب الأجل و انقطع الأمل قالت أمّ كلثوم: فبكيت، فقال لي: يا بنية لا تبكين فانّي لم أقل ذلك إلّا بما عهد إلىّ النبيّ، ثمّ أنّه عليه السّلام نعس و طوى ساعة ثمّ استيقظ من نومه، و قال يا بنية اذا قرب وقت الاذان فأعلمينى، ثمّ رجع إلى ما كان عليه أوّل الليل من الصّلاة و الدّعاء و التضرّع إلى اللّه سبحانه.
قالت أمّ كلثوم فجعلت أرقب وقت الأذان فلما لاح الوقت أتيته و معي إناء فيه ماء ثمّ ايقظته اسبغ الوضوء و قام و لبس ثيابه و فتح بابه، ثمّ نزل إلى الدّار و كان فى الدار اوز قد اهدى إلى أخى الحسين فلما نزل خرجن و رائه و رفرفن و صحن في وجهه و كان قبل تلك لم يصحن، فقال: لا إله إلّا اللّه.
صوارخ تتبعها نوايح
و في غداة غد يظهر القضا
فقلت له: يا أبا هكذا تتطير، فقال: يا بنية ما منّا أهل البيت من يتطير و لا يتطير به و لكن قول جرى على لساني، ثمّ قال: يا بنية بحقّي عليك إلّا ما أظلقتيه فقد حبست ما ليس له لسان و لا يقدر على الكلام إذا جاع أو عطش فأطعميه و اسقيه و إلّا خلّى سبيله يأكل من حشايش الأرض، فلما وصل إلى الباب فعالجه ليفتحه فانحل مئزره حتّى سقط فأخذه و شدّه و هو يقول:
اشدد حيازيمك للموت فانّ الموت لاقيكا
و لا تجزع من الموت إذا حلّ بناديكا
و لا تغتر بالدّهر و ان كان يواتيكا
كما أضحكك الدّهر كذاك الدهر يبكيكا
ثمّ قال: اللهمّ بارك لنا في الموت اللهمّ بارك لي في لقاءك.
قالت أمّ كلثوم: و كنت أمشى خلفه فلما سمعته يقول ذلك، قلت: و اغوثاه يا أبتاه أراك تنعي نفسك منذ الليلة، قال: يا بنية ما هو بنعاء و لكنها دلالات و علامات للموت تتبع بعضها بعضا فامسكي عن الجواب، ثمّ فتح الباب و خرج.
قالت أمّ كلثوم: فجئت إلي أخي الحسن فقلت يا أخى قد كان من أمر أبيك الليلة كذا و كذا، و هو قد خرج في هذا الليل الغلس فالحقه، فقام الحسن بن عليّ عليه السّلام و تبعه فلحق به قبل أن يدخل الجامع فقال: يا أباه ما اخرجك في هذه السّاعة و قد بقى من الليل ثلثه.
فقال: يا حبيبي و يا قرّة عيني خرجت لرؤيا رأيتها في هذه الليلة هالتني و أزعجتني و أقلقتنى، فقال له: خيرا رأيت و خيرا يكون فقصّها علىّ، فقال: يا بنيّ رأيت كان جبرئيل قد نزل من السّماء على جبل أبي قبيس فتناول منه حجرين و مضى بهما إلى الكعبة و تركهما على ظهرها و ضرب أحدهما على الآخر فصار كالرّميم، ثمّ ذراهما«» في الرّيح فما بقى بمكّة و لا بالمدينة بيت إلّا و دخله من ذلك الرّماد فقال له يا أبت و ما تأويلها فقال: يا بنيّ إن صدقت رؤياى فانّ أباك مقتول و لا يبقى بمكّة حينئذ و لا بالمدينة بيت إلّا و يدخله من ذلك غمّ و مصيبة من أجلي، فقال الحسن عليه السّلام و هل تدري متى يكون ذلك يا أبت قال: يا بنيّ انّ اللّه يقول: وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.
و لكن عهد إلىّ حبيبي رسول اللّه أنّه يكون في العشر الآخر من شهر رمضان يقتلني ابن ملجم المرادى، فقلت له يا أبتاه إذا علمت ذلك منه فاقتله، قال: يا بنيّ لا يجوز القصاص قبل الجناية و الجناية لم تحصل منه، يا بنيّ لو اجتمع الثقلان الانس و الجن على أن يدفعوا ذلك لما قدروا، يا بنىّ ارجع إلى فراشك، فقال الحسن يا أبتاه أريد أمضى معك إلى موضع صلاتك.
فقال له: اقسمت بحقّي عليك إلّا ما رجعت إلى فراشك لئلا يتنغص عليك نومك و لا تعصنى في ذلك، قال فرجع الحسن فوجد اخته امّ كلثوم قائمة خلف الباب تنتظره فدخل فأخبرها بذلك و جلسا يتحادثان و هما محزونان حتى غلب عليها النعاس فقاما و دخلا إلى فراشهما و ناما.
قال أبو مخنف و غيره: و سار أمير المؤمنين حتّى دخل المسجد و القناديل قد خمد ضوئها فصلّى في المسجد و تمّ و رده و عقّب ساعة ثمّ إنّه قام و صلّى ركعتين ثمّ علا المأذنة و وضع سبابتيه في اذنيه و تنحنح، ثمّ أذّن و كان صلوات اللّه عليه إذا أذّن لم يبق في الكوفة بيت إلّا اخترقه صوته.
قال الرّاوى: و أمّا ابن ملجم فبات في تلك الليلة يفكّر في نفسه و لا يدرى ما يصنع فتارة يعاتب نفسه و يوبّخها و يخاف من عقبى فعله فيهمّ أن يرجع عن ذلك، و تارة يذكر قطام لعنها اللّه و حسنها و جمالها و كثرة مالها فتميل نفسه اليها، فبقى عامة ليله يتقلّب على فراشه و هو يترنّم بشعره ذلك إذا أتته الملعونة و نامت معه في فراشه و قالت يا هذا من يكون على هذا العزم يرقد.
فقال لها و اللّه إنّي أقتله لك السّاعة فقالت اقتله و ارجع إلىّ قرير العين مسرورا و افعل ما تريد فانّى منتظرة لك، فقال لها بل اقتله و ارجع إليك سخين العين منحوسا محسورا، فقالت أعوذ باللّه من تطيرك الوحش.
قال فوثب الملعون كأنّه الفحل من الابل قال هلمّي الىّ بالسّيف، ثمّ انّه اتّزر بمئزر و اتّشح«» بازار و جعل السّيف تحت الازار من بطنه، و قال افتحى ليالباب ففي هذه السّاعة اقتل لك عليّا، فقامت فرحة مسرورة و قبلت صدره و بقى يقبّلها و يترشقها ساعة ثمّ راودها عن نفسها فقالت: هذا عليّ أقبل الى الجامع و أذّن فقم إليه فاقتله ثمّ عد إلىّ فها أنا منتظرة رجوعك، فخرج من الباب و هي خلفه تحرّضه بهذه الابيات:
أقول إذا ما حيّة أعيت الرّقا
و كان ذعاف«» الموت منه شرابها
دسسنا إليها في الظلام ابن ملجم
همام إذا ما الحرب شبّ لها بها
فخذها عليّ فوق رأسك ضربة
بكفّ سعيد سوف يلقا ثوابها
قال الرّاوى: فالتفت إليها و قال أفسدت و اللّه الشّعر في هذا البيت الآخر، قالت: و لم ذلك قال لها: هلّا قلت
بكف شقيّ سوف يلقا عقابها
قال مصنّف هذا الكتاب قدّس اللّه روحه: هذا الخبر غير صحيح بل إنّا كتبناه كما وجدناه، و الرّواية الصحيحة أنّه بات في المسجد و معه رجلان أحدهما شبيب ابن بحيرة و الآخر وردان بن مجالد يساعدانه على قتل عليّ، فلمّا أذّن نزل من المأذنة و جعل يسبّح اللّه و يقدّسه و يكبّره و يكثر من الصّلاة على النّبيّ.
قال الرّاوى: و كان من أكرم أخلاقه أن يفتقد النّائمين في المسجد و يقول للنّائم: الصلاة يرحمك اللّه الصلاة ثمّ إلى الصلاة المكتوبة ثمّ يتلو.
إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ.
ففعل ذلك كما كان يفعله على جارى عاداته مع النائمين في المسجد حتى إذا بلغ إلى الملعون فرآه نائما على وجهه قال له: يا هذا قم من نومك هذا فانّها نومة يمقتها اللّه و هي نومة الشّيطان و نومة أهل النّار، بل نم على يمينك فانّها نومة العلما أو على يسارك فانّها نومة الحكماء أو على ظهرك فانّها نومة الانبياء.
قال: فتحرّك الملعون كانّه يريد أن يقوم و هو من مكانه لا يبرح فقال له أمير المؤمنين: لقد هممت بشيء تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا، و لو شئت لأنبئك بما تحت ثيابك، ثمّ تركه و عدل عنه إلى محرابه و قام قائما يصلّي و كان يطيل الرّكوع و السّجود في الصّلاة كعادته في الفرائض و النوافل حاضرا قلبه.
فلمّا أحسّ به فنهض الملعون مسرعا و أقبل يمشى حتّى وقف بازاء الاسطوانة التي كان الامام يصلّي عليها، فأمهله حتّى صلّى الرّكعة الاولى و ركع و سجد السجدة الاولى منها، و رفع رأسه فعند ذلك أخذ السّيف و هزّه ثمّ ضربه على رأسه المكرّم الشّريف فوقعت الضّربة على الضّربة التي ضربها عمرو بن عبدود العامرى ثمّ أخذت الضّربة إلى مفرق رأسه إلى موضع السّجود.
فلمّا أحسّ الامام بالضرب لم يتأوّه و صبر و احتسب و وقع على وجهه و ليس عنده أحد قائلا: بسم اللّه و باللّه و على ملّة رسول اللّه، ثمّ صاح و قال قتلنى ابن ملجم قتلنى اللّعين ابن اليهودية و ربّ الكعبة أيّها الناس لا يفوتنكم ابن ملجم و سار السمّ في رأسه و بدنه و ثار جميع من في المسجد في طلب الملعون و ماجوا بالسلاح فما كنت أرى إلّا صفق الأيدى على الهامات و علوّ الصرخات.
و كان ابن ملجم ضربه ضربة خائفا مرعوبا، ثمّ ولى هاربا و خرج من المسجد و أحاط الناس بأمير المؤمنين و هو في محرابه يشدّ الضربة و يأخذ التراب و يضعه عليها ثمّ تلا قوله تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى ثمّ قال: جاء أمر اللّه و صدق رسول اللّه ثمّ إنه لما ضربه الملعون ارتجّت الأرض و باحت البحار و السماوات و اصطفقت أبواب الجامع.
قال: و ضربه اللعين شبيب بن بحيرة، فأخطأه و وقعت الضربة في الطاق.
قال الراوي: فلما سمع الناس الضجة ثار إليه كلّ من كان في المسجد و صاروا يدورون و لا يدرون أين يذهبون من شدّة الصدمة و الدهشة، ثم أحاطوا بأمير المؤمنين و هو يشدّ رأسه بميزره و الدم يجرى على وجهه و لحيته و قد خضبت بدمائه و هو يقول:هذا ما وعد اللّه و رسوله و صدق اللّه و رسوله.
قال الرّاوي. فاصطفقت أبواب الجامع و ضجّت الملائكة في السّماء بالدّعاء وهبّت ريح عاصف سوداء مظلمة، و نادى جبرئيل بين السّماء و الأرض بصوت يسمعه كلّ مستيقظ: تهدّمت و اللّه أركان الهدى، و انطمست و اللّه نجوم السّماء، و أعلام التّقى و انفصمت و اللّه العروة الوثقى، قتل ابن عمّ محمّد المصطفى قتل الوصيّ المجتبى قتل عليّ المرتضى، قتل و اللّه سيّد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء.
قال: فلمّا سمعت امّ كلثوم نعى جبرئيل فلطمت على وجهها و خدّها و شقّت جيبها و صاحت وا أبتاه وا عليّاه وا محمّداه وا سيّداه، ثمّ أقبلت إلى أخويها الحسن و الحسين عليهما السّلام فأيقظتهما و قالت لهما لقد قتل أبو كما، فقاما يبكيان فقال لها الحسن يا اختاه كفّي عن البكاء حتّى نعرف صحة الخبر كيلا تشمت الأعداء.
فخرجا فاذا النّاس ينوحون و ينادون وا اماماه وا أمير المؤمنين قتل و اللّه إمام عابد مجاهد لم يسجد لصنم قط كان أشبه النّاس برسول اللّه.
فلمّا سمع الحسن و الحسين صرخات النّاس ناديا وا أبتاه وا عليّاه ليت الموت أعدمنا الحياة، فلمّا و صلا الجامع و دخلا وجدا أبا جعدة بن هبيرة و معه جماعة من النّاس و هم يجتهدون أن يقيموا الامام في المحراب ليصلّي بالناس فلم يطق على النهوض و تأخر عن الصفّ و تقدّم الحسن فصلّى بالناس و أمير المؤمنين يصلّي ايماء عن جلوس و هو يمسح الدّم عن وجهه و كريمه الشريف يميل تارة و يسكن اخرى و الحسن ينادى وا انقطاع ظهراه يعزّ و اللّه علىّ أن أراك هكذا.
ففتح عينه و قال: يا بنيّ لا جزع على أبيك بعد اليوم، هذا جدك محمّد المصطفى و جدّتك خديجة الكبرى و امّك فاطمة الزّهراء و الحور العين محدقون منتظرون قدوم أبيك، فطب نفسا و قرّ عينا و كفّ عن البكاء فانّ الملائكة قدار تفعت أصواتهم إلى السماء.
قال: ثمّ إنّ الخبر شاع في جوانب الكوفة و انحشر الناس حتى المخدّرات خرجن من خدرهن إلى الجامع ينظرن إلى أمير المؤمنين، فدخل الناس الجامع فوجدوا الحسن و رأس أبيه في حجره و قد غسل الدّم عنه و شدّ الضّربة و هي بعدها تشخب دما و وجهه قد زاد بياضا بصفرة و هو يرمق السّماء بطرفه و لسانه يسبّح اللّه و يوحّده و هو يقول: أسألك يا ربّ الرّفيع الأعلى، فأخذ الحسن رأسه في حجره فوجده مغشيّا عليه فعندها بكى بكاء شديدا و جعل يقبّل وجه أبيه و ما بين عينيه و موضع سجوده، فسقط من سجوده «دموعه ظ» قطرات على وجه أمير المؤمنين ففتح عينيه فرآه باكيا فقال: يا بنىّ يا حسن ما هذا البكاء يا بنىّ لاروع على أبيك بعد اليوم هذا جدّك محمّد المصطفى و خديجة و فاطمة و الحور العين محدقون منتظرون قدوم أبيك فطب نفسا و قرّ عينا و اكفف عن البكاء فانّ الملائكة قد ارتفعت أصواتهم إلى السّماء.
يا بنىّ أ تجزع على أبيك و غدا تقتل بعدي مسموما مظلوما و أخوك يقتل بالسيف هكذا و تلحقان بجدّ كما و أبيكما و امّكما فقال له الحسن: ما تعرفنا من قتلك و من فعل بك هذا، قال: قتلنى ابن اليهوديّة عبد الرحمن بن ملجم المرادي، فقال يا أباه من أىّ طريق مضى قال: لا يمضى أحد في طلبه فانّه سيطلع عليكم من هذا الباب و أشار بيده الشّريفة إلى باب كندة.
قال: و لم يزل السّمّ يسرى في رأسه و في بدنه، ثمّ اغمى عليه ساعة و النّاس ينتظرون قدوم الملعون من باب كندة، و اشتغل النّاس بالنّظر إلى الباب و يرتقبون قدوم الملعون و قد غصّ المسجد بالعالم ما بين باك و محزون، فما كان إلّا ساعة و إذا بالصّيحة قد ارتفعت و زمرة من النّاس و قد جاءوا بعدوّ اللّه ابن ملجم مكتوفا و هذا يلعنه و هذا يضربه قال: فوقع النّاس بعضهم على بعض ينظرون إليه فأقبلوا باللعين مكتوفا و هذا يلعنه و هذا يضربه و هم ينهشون لحمه بأسنانهم و يقولون له: يا عدوّ اللّه ما فعلت أهلكت امّة محمّد و قتلت خير النّاس و إنّه لصامت و بين يديه رجل يقال له حذيفة النّخعي بيده سيف مشهور و هو يردّ النّاس عن قتله و هو يقول: هذا قاتل الامام عليّ عليه السّلام حتّى أدخلوه المسجد.
قال الشّعبي: كانّى أنظر إليه و عيناه قد طار في أمّ رأسه كانّهما قطعتا علق و قد وقعت في وجهه ضربة قد هشمت وجهه و أنفه و الدم يسيل على صدره و هو ينظر يمينا و شمالا و عيناه قد طارتا في أمّ رأسه و هو أسمر اللون حسن الوجه و في وجهه اثر السّجود و كان على رأسه شعر أسود منثور على وجهه كانّه الشّيطان الرّجيم، فلما حاذانى سمعته يترنّم بهذه الأبيات:
أقول لنفسي بعد ما كنت انهها
و قد كنت أسناها و كنت أكيدها
أيا نفس كفّي عن طلابك و اصبرى
و لا تطلبى همّا عليك يبيدها
فما قبلت نصحى و قد كنت ناصحا
كنصح ولود غاب عنها وليدها
فما طلبت إلّا عنائى و شقوتي
فيا طول مكثى في الجحيم بعيدها
فلما جاءوا به أوقفوه بين يدي أمير المؤمنين فلما نظر إليه الحسن عليه السّلام قال له: يا ويلك يا لعين يا عدوّ اللّه أنت قاتل أمير المؤمنين و امام المسلمين، هذا جزاؤه منك حيث آواك و قرّبك و أدناك و آثرك على غيرك، و هل كان بئس الامام لك حتّى جازيته هذا الجزاء يا شقي.
قال: فلم يتكلّم بل دمعت عيناه فانكبّ الحسن عليه السّلام على أبيه يقبّله و قال له: هذا قاتلك يا أباه قد أمكن اللّه منه فلم يجبه عليه السّلام و كان نايما فكره أن يوقظه من نومه، ثمّ التفت إلى ابن ملجم و قال له: يا عدوّ اللّه هذا كان جزاؤه منك بوّاك و أدناك و قرّبك و حباك و فضلك على غيرك هل كان بئس الامام حتّى جازيته هذا الجزاء يا شقىّ الاشقياء.
فقال له الملعون يا أبا محمّد أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ فعند ذلك ضجّت النّاس بالبكاء و النحيب فأمرهم الحسن عليه السّلام بالسكوت.
ثمّ التفت الحسن عليه السّلام إلى الذى جاء به حذيفة رضى اللّه عنه، فقال له: كيف ظفرت بعدوّ اللّه و أين لقيته: فقال: يا مولاى إنّ حديثي معه لعجيب.
و ذلك إنّى كنت البارحة نائما في داري و زوجتي إلى جانبي و هي من غطفان و أنا راقد و هي مستيقظة إذ سمعت هي الزّعقة و ناعيا ينعي أمير المؤمنين و هو يقول: تهدّمت و اللّه أركان الهدى، و انطمست و اللّه أعلام التّقى، قتل ابن عمّ محمّد المصطفى قتل عليّ المرتضى قتله أشقى الاشقياء، فأيقظتني و قالت لي أنت نائم و قد قتل إمامك عليّ بن أبي طالب.
فانتبهت من كلامها فزعا مرعوبا و قلت لها: يا ويلك ما هذا الكلام رضّ اللّه فاك لعلّ الشّيطان قد ألقي في سمعك هذا أو حلم القي عليك، يا ويلك إنّ أمير المؤمنين ليس لأحد من خلق اللّه قبله تبعة و لا ظلامة و إنّه لليتيم كالأب الرّحيم و للأرملة كالزّوج العطوف، و بعد ذلك فمن الذى يقدر على قتل عليّ أمير المؤمنين و هو الأسد الضّرغام و البطل الهمام و الفارس القمقام.
فاكثرت عليّ و قالت: انّى سمعت ما لم تسمع و علمت ما لم تعلم، فقلت لها و ما سمعت فأخبرتني بالصّوت، فقالت سمعت ناديا ينادى بأعلى صوته: تهدّمت و اللّه أركان الهدى و انطمست و اللّه أعلام التّقى قتل ابن عمّ محمّد المصطفى قتل عليّ المرتضى قتله أشقى الأشقياء.
ثمّ قالت و ما أظنّ بيتا إلّا و قد دخله هذا الصّوت، قال فبينما أنا و هي في مراجعة الكلام و إذا بصيحة عظيمة و جلبة و ضجّة عظيمة و قائل يقول: قتل أمير المؤمنين.
فحسّ قلبي بالشّر فمددت يدي إلى سيفى و سللته من غمده و أخذته و نزلت مسرعا و فتحت باب داري و خرجت فلما صرت في وسط الجادة فنظرت يمينا و شمالا و إذا بعدوّ اللّه يحول فيها يطلب مهربا فلم يجدوا إذا قد انسدّت الطرقات في وجهه فلما نظرت إليه و هو كذلك رابنى أمره فناديته: يا ويلك من أنت و ما تريد لا أمّ لك في وسط هذا الدّرب تمرّ و تجيء فتسمّى بغير اسمه و انتمى بغير كنيته، فقلت له: من أين أقبلت قال: من منزلي قلت: و إلى أين تريد تمضي فى هذا الوقت قال: إلى الحيرة، فقلت: و لم لا تقعد حتّى تصلّى مع أمير المؤمنين صلاة الغداة و تمضى في حاجتك فقال: اخشى أن أقعد للصّلاة فتفوت حاجتي فقلت: يا ويلك إنّي سمعت صيحة و قائلا يقول قتل أمير المؤمنين فهل عندك من ذلك خبر قال: لا علم لي بذلك فقلت له: فلم لا تمضي معي حتّى تحقّق الخبر و تمضى في حاجتك فقال: أنا ماض في حاجتي و هي أهمّ من ذلك.
فلما قال لي مثل ذلك القول قلت يا لكع الرّجال حاجتك أحبّ إليك من التحسس لأمير المؤمنين و إمام المسلمين إذن و اللّه يا لكع مالك عند اللّه من خلاق، و حملت عليه بسيفى و هممت أن أعلو به فراغ عنّي.
فبينما أنا أخاطبه و هو يخاطبني إذهبّت الرّيح فكشفت إزاره و إذا بسيفه يلمع تحت الازار كانّه مرآة مصقولة، فلما رأيت بريقه تحت ثيابه قلت: يا ويلك ما هذا السّيف المشهور تحت ثيابك لعلك أنت قاتل أمير المؤمنين فأراد أن يقول لا فانطق اللّه لسانه بالحقّ فقال نعم.
فرفعت سيفى و ضربته فرفع هو سيفه و همّ أن يعلوني فانحرفت عنه فضربته على ساقيه فأوقفته و وقع لحينه و وقعت عليه و صرخت صرخة شديدة و أرددت أخذ سيفه فمانعني عنه، فخرج أهل الحيرة فأعانوني عليه حتّى أوثقته كتافا و جئتك به فها هو بين يديك جعلنى اللّه فداك فاصنع به ما شئت.
فقال الحسن الحمد للّه الذي نصر وليّه و خذل عدوّه، ثمّ انكبّ الحسن على أبيه يقبله و قال له: يا أباه هذا عدوّ اللّه و عدوّك قد امكن اللّه منه فلم يجبه و كان نايما فكره أن يوقظه من نومه فرقد ساعة ثمّ فتح عينيه و هو يقول: ارفقوا بي يا ملائكة ربّى.
فقال له الحسن عليه السّلام هذا عدوّ اللّه و عدوّك ابن ملجم قد أمكن اللّه منه و قد حضر بين يديك قال: ففتح أمير المؤمنين عليه السّلام عينيه و نظر إليه و هو مكتوف و سيفه معلّق في عنقه فقال له بضعف و انكسار صوت و رأفة و رحمة: يا هذا لقد جئت عظيما و ارتكبت أمرا عظيما و خطبا جسيما أبئس الامام كنت لك حتّى جازيتنى بهذا الجزاء ألم اكن شفيقا عليك و آثرتك على غيرك و احسنت اليك و زدت في اعطائك ألم يكن يقال لى فيك كذا و كذا فخليت لك السّبيل و منحتك عطائى و قد كنت أعلم أنّك قاتلي لا محالة و لكن رجوت بذلك الاستظهار من اللّه تعالى عليك يا لكع و على أن ترجع عن غيك فغلبت عليك الشّقاوة فقتلتنى يا أشقى الأشقياء.
قال فدمعت عينا ابن ملجم لعنه اللّه و قال: يا أمير المؤمنين أ فأنت تنقذ من في النّار، قال له: صدقت، ثمّ التفت إلى ولده الحسن و قال له: ارفق يا ولدى بأسيرك و ارحمه و أحسن إليه و اشفق عليه ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أمّ رأسه و قلبه يرجف خوفا و رعبا و فزعا.
فقال له الحسن: يا أباه قد قتلك هذا اللّعين الفاجر و أفجعنا فيك و أنت تأمرنا بالرّفق به فقال له: نعم يا بنيّ نحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلا كرما و عفوا و الرّحمة و الشّفقة من شيمتنا لا من شيمة عدوّنا.
بحقّي عليك فأطعمه يا بنيّ ممّا تأكل و اسقه مما تشرب و لا تقيد له قدما و لا تغل له يدا فان أنامتّ فاقتصّ منه بأن تقتله و تضربه ضربة واحدة و تحرقه بالنار و لا تمثّل بالرّجل فانّى سمعت جدّك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم يقول إيّاكم و المثلة و لو بالكلب العقور، و إن أنا عشت فأنا أولى به بالعفو عنه و أنا أعلم بما أفعل به فان عفوت فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلّا عفوا و كرما.
قال مخنف بن حنيف: إنّى و اللّه ليلة تسع عشرة في الجامع في رجال نصلّي قريبا من السدّة التي يدخل منها أمير المؤمنين فبينما نحن نصلّي إذ دخل أمير المؤمنين من السدّة و هو ينادي الصّلاة ثمّ صعد المأذنة فأذّن ثمّ نزل فعبر على قوم نيام في المسجد فناداهم الصّلاة ثمّ قصد المحراب.
فما أدرى دخل في الصّلاة ام لا إذ سمعت قائلا يقول: الحكم للّه لا لك يا علي، قال: فسمعت عند ذلك أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: لا يفوتنّكم الرّجل، قال فشدّ الناس عليه و أنا معهم و إذا هو وردان بن مجالد، و أمّا ابن ملجم لعنه اللّه فانّه هرب من ساعته و دخل الكوفة و رأينا أمير المؤمنين مجروحا في رأسه.
قال محمّد بن الحنفية رضي اللّه عنه: ثمّ إنّ أبي قال: احملوني الى موضع مصلّاى في منزلي قال فحملناه إليه و هو مدنف و النّاس حوله و هم في اسر عظيم باكين محزونين قد اشرفوا على الهلاك من شدّة البكاء و النّحيب.
ثمّ التفت إليه الحسين و هو يبكى فقال له يا أبتاه من لنا بعدك لا كيومك إلّا يوم رسول اللّه من اجلك تعلّمت البكاء، يعزّ و اللّه علىّ أن أراك هكذا فناداه عليه السّلام و قال: يا حسين يا أبا عبد اللّه ادن منّي، فدنا منه و قد قرحت أجفان عينيه من البكاء فمسح الدّموع من عينيه و وضع يده على قلبه و قال له: يا بنيّ ربط اللّه قلبك بالصّبر و أجزل لك و لاخوانك عظيم الأجر، فسكن روعتك و اهدىء من بكائك، فانّ اللّه قد آجرك على عظيم مصابك ثمّ ادخل إلى حجرته و جلس في محرابه.
قال الرّاوى: و أقبلت زينب و أمّ كلثوم حتّى جلستا معه على فراشه و أقبلتا تندبانه و تقولان: يا أبتاه من للصّغير حتّى يكبر، و من للكبير بين الملاء، يا أبتاه حزننا عليك طويل و عبرتنا لا ترقى.
قال فضجّ النّاس من وراء الحجرة بالبكاء و النّحيب و فاضت دموع أمير المؤمنين عند ذلك و جعل يقلّب طرفه و ينظر إلى أهل بيته و أولاده، ثمّ دعا الحسن و الحسين عليهما السّلام و جعل يحضنها و يقبلهما.
ثمّ اغمى عليه ساعة طويلة و أفاق، و كذلك رسول اللّه يغمى عليه ساعة طويلة و يفيق أخرى لأنه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم كان مسموما فلما أفاق ناوله الحسن قعبا من لبن فشرب منه قليلا ثمّ نحّاه عن فيه و قال: احملوه إلى أسيركم.
ثمّ قال للحسن: بحقّى عليك يا بنىّ إلّا ما طيبتم مطعمه و مشربه و أرفقوا به إلى حين موتي و تطعمه ممّا تأكل و تسقيه ممّا تشرب حتّى تكون أكرم منه، فعند ذلك حملوا إليه اللبن و أخبروه بما قال أمير المؤمنين في حقّه فأخذ اللّبن و شربه.
قال: و لما حمل أمير المؤمنين إلى منزله جاءوا باللّعين مكتوفا إلى بيت من بيوت القصر فحبسوه فيه فقالت له أمّ كلثوم و هي تبكى: يا ويلك أما أبي فانّه لا بأس عليه و إنّ اللّه مخزيك في الدّنيا و الآخرة و إنّ مصيرك الى النّار خالدا فيها، فقال لها ابن ملجم لعنه اللّه: ابكى إن كنت باكية فو اللّه لقد اشتريت سيفى هذا بألف و سممته بألف، و لو كانت ضربتي هذه لجميع أهل الكوفة ما نجا منهم أحد
و في ذلك يقول الفرزدق:
فلا غرو للأشراف إن ظفرت بها
ذئاب الأعادى من فصيح و أعجم
فحربة وحشىّ سقت حمزة الرّدى
و حتف علىّ من حسام ابن ملجم
قال محمّد بن الحنفية رضي اللّه عنه: و بتنا ليلة عشرين من شهر رمضان مع أبي و قد نزل السّم إلى قدميه و كان يصلّي تلك الليلة من جلوس و لم يزل يوصينا بوصاياه و يعزينا من نفسه و يخبرنا بأمره و تبيانه إلى حين طلوع الفجر.«» فلما أصبح استاذن النّاس عليه فاذن لهم بالدّخول فدخلوا عليه و أقبلوا يسلمون عليه و هو يردّ عليهم السّلام، ثمّ قال أيّها النّاس اسألونى قبل أن تفقدوني و خففّوا سؤالكم لمصيبة إمامكم.
قال: فبكى النّاس عند ذلك بكاء شديدا و أشفقوا أن يسألوه تخفيفا عنه، فقام إليه حجر بن عدي الطائي و قال:
فيا أسفا على المولى التّقىّ
أبو الأطهار حيدرة الزّكىّ
قتله كافر حنث زنيم
لعين فاسق نغل شقىّ
فيلعن ربّنا من حاد عنكم
و يبرء منكم لعنا وبىّ
لانكم بيوم الحشر ذخرى
و أنتم عترة الهادى النبىّ
فلمّا بصر به و سمع شعره قال له: كيف لي بك اذا دعيت إلى البراءة منّي فما عساك أن تقول فقال: و اللّه يا أمير المؤمنين لو قطعت بالسّيف اربا اربا و اضرم لى النّار و ألقيت فيها لآثرت ذلك على البراءة منك، فقال: وفّقت لكلّ خير يا حجر جزاك اللّه خيرا عن أهل بيت نبيّك.
ثمّ قال: هل من شربة من لبن فأتوه بلبن في قعب فأخذه و شربه كلّه فذكر الملعون ابن ملجم و أنّه لم يخلف له شيئا فقال: و كان أمر اللّه قدرا مقدورا، اعلموا أنّى شربت الجميع و لم أبق لأسيركم شيئا من هذا ألا و انّه آخر رزقي من الدّنيا فباللّه عليك يا بنىّ إلّا ما أسقيته مثل ما شربت فحمل إليه ذلك فشربه.
قال محمّد بن الحنفيّة رضي اللّه عنه: لمّا كانت ليلة احدى و عشرين و أظلم الليل و هي الليلة الثانية من الكائنة، جمع أبى أولاده و أهل بيته و ودّعهم، ثمّ قال لهم: اللّه خليفتي عليكم و هو حسبي و نعم الوكيل، و أوصاهم الجميع منهم بلزوم الايمان و الأديان و الأحكام التي أوصاه بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
فمن ذلك ما نقل عنه أوصى به الحسن و الحسين عليهما السّلام لما ضربه الملعون ابن ملجم و هي هذه: اوصيكما بتقوى اللّه، إلى آخر ما يأتي في الكتاب برواية السّيد في باب المختار من وصاياه إنشاء اللّه.
قال: ثمّ تزايد و لوج السمّ في جسده الشريف حتّى نظرنا إلى قدميه و قد احمرتا جميعا، فكبر ذلك علينا و آيسنا منه ثمّ أصبح فأمرهم و نهاهم و أوصاهم ثمّ عرضنا عليه المأكول و المشروب فأبى أن يشرب فنظرنا إلى شفتيه و هما يختلجان بذكر اللّه تعالى، و جعل جبينه يرشح عرقا و هو يمسحه بيده.
قلت: يا أبت أراك تمسح جبينك، فقال: يا بنىّ إنّي سمعت جدّك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّ المؤمن إذا نزل به الموت و دنت وفاته عرق جبينه و صار كاللؤلؤ الرطب و سكن أنينه.
ثمّ قال: يا أبا عبد اللّه و يا عون، ثمّ نادى أولاده كلّهم بأسمائهم صغيرا و كبيرا، واحدا بعد واحد و جعل يودّعهم و يقول: اللّه خليفتي عليكم استودعكم اللّه، و هم يبكون.
فقال الحسن عليه السّلام يا أبه ما دعاك إلى هذا، فقال له: يا بنىّ إنّى رأيت جدّك رسول اللّه في منامي قبل هذه الكائنة بليلة فشكوت إليه ما أنا فيه من التذلّل و الأذى من هذه الامة، فقال لى: ادع عليهم فقلت: اللهمّ أبدلهم بى شرّا منّي، و أبدلني بهم خيرا منهم، فقال لى قد استجاب اللّه دعاك سينقلك الينا بعد ثلاث، و قد مضت الثلاث.
يا أبا محمّد أوصيك و يا أبا عبد اللّه خيرا فأنتما منّي و أنا منكما، ثمّ التفت إلى أولاده الذين من غير فاطمة و أوصاهم أن لا يخالفوا أولاد فاطمة يعني الحسن و الحسين.
ثمّ قال: أحسن اللّه لكم العزاء ألاوانّي منصرف عنكم و راحل في ليلتي هذه و لا حق بحبيبي محمّد كما و عدني فاذا أنامت يا أبا محمّد فغسّلني و كفنّي و حنّطني ببقية حنوط جدّك رسول اللّه فانّه من كافور الجنّة جاء به جبرئيل إليه، ثمّ ضعنى على سريري و لا يتقدّم أحد منكم مقدّم السرير و احملوا مؤخّره و اتّبعوا مقدّمه فأىّ موضع وضع المقدّم فضعوا المؤخر فحيث قام سريرى فهو موضع قبرى.
ثمّ تقدّم يا أبا محمّد و صلّ علىّ يا بنىّ يا حسن و كبّر علىّ سبعا و اعلم أنّه لا يحلّ ذلك على أحد غيري إلّا على رجل يخرج في آخر الزّمان اسمه القائم المهدي من ولد اخيك الحسين يقيم اعوجاج الحقّ.
فاذا أنت صلّيت يا حسن فنحّ السرير عن موضعه ثمّ اكشف التراب عنه فترى قبرا محفورا و لحدا مثقوبا و ساجة منقوبة فاضجعنى فيها، فاذا أردت الخروج من قبري فافتقدني فانّك لا تجدني و انّي لاحق بجدّك رسول اللّه.
و اعلم يا بنىّ ما من نبيّ يموت و إن كان مدفونا بالمشرق و يموت وصيه بالمغرب إلّا و يجمع اللّه عزّ و جل بين روحيهما و جسديهما ثمّ يفترقان فيرجع كلّ واحد منهما إلى موضع قبره و الى موضعه الذى حطّ فيه.
ثمّ اشرج اللّحد باللبن و أهل التّراب على ثمّ غيّب قبرى، و كان غرضه بذلك لئلّا يعلم بموضع قبره أحد من بنى اميّة فانّهم لو علموا بموضع قبره لحفروه و أخرجوه و أحرقوه كما فعلوا بزيد بن عليّ بن الحسين.
ثمّ يا بنىّ بعد ذلك إذا أصبح الصّباح أخرجوا تابوتا إلى ظاهر الكوفة على ناقة و أمر بمن يسيرها بما عليها كانّها تريد المدينة بحيث يخفى على العامة موضع قبري الذي تضعني فيه«»، و كأنّي بكم و قد خرجت عليكم الفتن من ههنا و ههنا فعليكم بالصّبر فهو محمود العاقبة.
ثمّ قال: يا أبا محمّد و يا أبا عبد اللّه كانّي بكما و قد خرجت عليكما من بعدي الفتن من ههنا فاصبروا حتّى يحكم اللّه و هو خير الحاكمين.
ثمّ قال: يا أبا عبد اللّه أنت شهيد هذه الامّة فعليك بتقوى اللّه و الصّبر على بلائه، ثمّ اغمى عليه ساعة و أفاق و قال: هذا رسول اللّه و عمّى حمزة و أخى جعفر و أصحاب رسول اللّه كلهم يقولون عجّل قدومك علينا فانّا إليك مشتاقون.
ثمّ أدار عينيه في أهل بيته كلّهم، و قال: استودعكم اللّه جميعا سدّدكم اللّه جميعا، حفظكم اللّه جميعا خليفتى عليكم اللّه و كفى باللّه خليفة، ثمّ قال و عليكم السّلام يا رسل ربّى ثمّ قال: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ… إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.
و عرق جبينه و هو يذكر اللّه كثيرا و ما زال يذكر اللّه و يتشهّد الشّهادتين، ثمّ استقبل القبلة و غمض عينيه و مدّ رجليه و يديه و قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله.
ثمّ قضى نحبه عليه السّلام و كانت وفاته في ليلة احدى و عشرين من شهر رمضان و كانت ليلة الجمعة سنة أربعين من الهجرة.
قال: فعند ذلك صرخت زينب بنت عليّ و امّ كلثوم و جميع نسائه و قد شقّوا الجيوب و لطموا الخدود و ارتفعت الصّيحة في القصر فعلم أهل الكوفة أنّ أمير المؤمنين قد قبض، فأقبل النّساء و الرّجال يهرعون أفواجا أفواجا و صاحوا صيحة عظيمة فارتجت الكوفة بأهلها، و كثر البكاء و النّحيب و كثر الضّجيج بالكوفة و قبايلها و دورها و جميع أقطارها، فكان ذلك كيوم مات فيه رسول اللّه.
فلما أظلم الليل تغيّر افق السّماء و ارتجّت الأرض و جميع من عليها بكوه و كنّا نسمع جلبة و تسبيحا في الهواء فعلمنا أنّها أصوات الملائكة، فلم يزل كذلك إلى أن طلع الفجر ثمّ ارتفعت الأصوات و سمعنا هاتفا بصوت يسمعه الحاضرون و لا يرون شخصه يقول:
بنفسى و مالى ثمّ أهلى و اسرتى
فداء لمن أضحى قتيل ابن ملجم
علىّ رقا فوق الخلايق في الوغا
فهدّت له أركان بيت المحرّم
عليّ أمير المؤمنين و من بكت
لمقتله البطحاء و اكناف زمزم
يكاد الصّفا و المشعرين كلاهما
يهدّ او بان النّقص في ماء زمزم
و أصبحت الشّمس المنير ضياؤها
لقتل عليّ لونها لون دهلم
و ظلّ له افق السّماء كابة
كشقّة ثوب لونها لون عندم
و ناحت عليه الجنّ إذ فجعت به
حنينا كثكلى نوحها يترّنم
و أضحى التّقى و الخير و الحلم و النهى
و بات العلي فى قبره المتهدّم
لفقد على خير من وطأ الحصى
أخى العلم الهادى النبىّ المعظّم
قال محمّد بن الحنفية رضي اللّه عنه ثمّ أخذنا في جهازه ليلا، و كان الحسن عليه السّلام يغسله و الحسين عليه السّلام يصبّ الماء عليه و كان لا يحتاج إلى من كان يقلّبه بل يتقلّب كما يريد الغاسل يمينا و شمالا، و كانت رائحته أطيب من رائحة المسك و العنبر، ثمّ نادى الحسن باخته زينب و امّ كلثوم و قال: يا اختاه هلمّي بحنوط جدّي رسول اللّه، فبادرت زينب مسرعة حتّى أتته به.
قال الرّاوي: فلما فتحته فاحت الدّار و جميع الكوفة و شوارعها لشدّة رائحة ذلك الطيب، ثمّ لفوه بخمسة أثواب كما أمر عليه السّلام ثمّ وضعوه على السرير و تقدّم الحسن و الحسين إلى السرير من مؤخره و إذا مقدّمه قد ارتفع و لا يرى حامله، و كان حاملاه من مقدّمه جبرئيل و ميكائيل فما مرّ بشيء على وجه الأرض إلّا انحنى له ساجدا و خرج السّرير من مايل باب كنده فحملا مؤخّره و سايرا يتبعان مقدّمه.
قال ابن الحنفيّة رضي اللّه: و اللّه لقد نظرت إلى السّرير و أنّه ليمرّ بالحيطان و النّخل فتنحنى له خشوعا و مضى مستقيما إلى النّجف إلى موضع قبره الآن.
قال: و ضجّت الكوفة بالبكاء و النّحيب و خرجن النّساء يتبعنه لاطمات حاسرات فمنعهم «كذا» الحسن عليه السّلام و نهاهم «كذا» عن البكاء و العويل و ردّهنّ إلى أماكنهنّ، و الحسين عليه السّلام يقول: لا حول و لا قوة إلّا باللّه العلىّ العظيم إنّا للّه و إنّا إليه راجعون يا أباه وا انقطاع ظهراه من أجلك تعلّمت البكاء إلى اللّه المشتكى.
فلما انتهيا إلى قبره و إذا مقدّم السرير قد وضع فوضع الحسن مؤخره، ثمّ قام الحسن و صلّى عليه و الجماعة خلفه فكبّر سبعا كما أمره به أبوه، ثمّ زحزحا سريره و كشفا التّراب و إذا بقبر محفور و لحد مشقوق و ساجة منقورة مكتوب عليها: هذا ما ادّخره له جدّه نوح النبيّ.«» فلما أرادوا نزوله سمعوا هاتفا يقول: انزلوه إلى التّربة الطاهرة فقد اشتاق الحبيب إلى الحبيب، فدهش النّاس عند ذلك و تحيّروا و الحد أمير المؤمنين قبل طلوع الفجر و انصرف النّاس و رجع أولاد أمير المؤمنين و شيعتهم إلى الكوفة و لم يشعر بهم أحد من النّاس.
فلما طلع الصّباح و بزغت الشّمس اخرجوا تابوتا من دار أمير المؤمنين و أتوابه إلى المصلّى بظاهر الكوفة، ثمّ تقدّم الحسن و صلّى عليه و رفعه على ناقة و سيرها مع بعض العبيد.
قال في البحار: روى البرسى في مشارق الأنوار عن محدّثى أهل الكوفة أنّ أمير المؤمنين لما حمله الحسن و الحسين على سريره إلى مكان البئر المختلف فيه إلى نجف الكوفة وجدوا فارسا يتضوّع منه رايحة المسك فسلّم عليهما.
ثمّ قال للحسن أنت الحسن بن علىّ رضيع الوحى و التّنزيل و فطيم العلم و الشّرف الجليل خليفة أمير المؤمنين و سيّد الوصيّين قال: نعم قال: و هذا الحسين ابن أمير المؤمنين و سيد الوصيين سبط الرّحمة و رضيع العصمة و ربيب الحكمة و والد الأئمة قال: نعم، قال: سلّماه إلىّ و امضيا في دعة اللّه.
فقال له الحسن إنّه أوصى إلينا أن لا نسلمه إلّا إلى أحد رجلين جبرئيل أو الخضر فمن أنت منهما فكشف النقاب فاذا هو أمير المؤمنين، ثمّ قال: يا أبا محمّد إنّه لا يموت نفس إلّا و يشهدها«» فما يشهد جسده.
قال البرسى و روى عن الحسن بن علي عليه السّلام أن أمير المؤمنين قال للحسن و الحسين: إذا وضعتماني في الضّريح فصلّيا ركعتين قبل أن تهيلا عليّ التّراب و انظرا ما يكون، فلما وضعاه في الضّريح المقدس فعلا ما امرا به و إذا الضّريح مغطى بثوب من سندس فكشف الحسن ممّا يلي وجه أمير المؤمنين فوجد رسول اللّه و آدم و إبراهيم (ع) يتحدّثون مع أمير المؤمنين، و كشف الحسين مما يلي رجليه فوجد الزهراء و حواء و مريم و آسية عليهن السّلام ينحن على أمير المؤمنين و يندبنه.
قال المجلسى: و لم أر هذين الخبرين إلّا من طريق البرسي و لا أعتمد على ما يتفرّد بنقله و لا أردهما لورود الأخبار الكثيرة الدّالة على ظهورهم بعد موتهم في أجسادهم المثاليّة.
و في البحار من ارشاد المفيد: كانت امامة أمير المؤمنين بعد النبيّ ثلاثين سنة منها أربع و عشرون سنة و أشهر ممنوعا من التّصرف في أحكامها مستعملا للتقيّة و المداراة و منها خمس سنين و ستّة أشهر ممتحنا بجهاد المنافقين من النّاكثين و القاسطين و المارقين، و مضطهدا بفتن الضّالين.
كما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم ثلاثة عشر سنة من نبوّته ممنوعا من احكامها خائفا و محبوسا و هاربا و مطرود ألا يتمكّن من جهاد الكافرين و لا يستطيع دفعا عن المؤمنين، ثمّ هاجر و أقام بعد الهجرة عشر سنين مجاهدا للمشركين ممتحنا بالمنافقين إلى أن قبضه اللّه إليه و أسكنه جنات النّعيم.
و كان وفات أمير المؤمنين عليه السّلام قبيل الفجر من ليلة الجمعة ليلة إحدى و عشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، قالت سودة بن «بنت ظ» عمارة الهمدانية و نعم ما قالت:
صلّى الاله على روح تضمّنها
قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الخير لا يبغى به بدلا
فصار بالحقّ و الايمان مقرونا
«» و من أمالى الصّدوق في حديث فلمّا كان من الغدو أصبح الحسن قام خطيبا على المنبر فحمد اللّه و أثنا عليه ثمّ قال: أيّها النّاس في هذه الليلة نزل القرآن و في هذه الليلة رفع عيسى بن مريم و في هذه الليلة قتل يوشع بن نون و في هذه الليلة مات أبى أمير المؤمنين و اللّه لا يسبق أبى أحد كان قبله من الأوصياء إلى الجنّة، و لا من يكون بعده و إن كان رسول اللّه ليبعثه في السّرية فيقاتل جبرئيل عن يمينه و ميكائيل عن يساره و ما ترك صفراء و لا بيضاء إلّا سبعمائة درهم ليشترى بها خادما لأهله.
و من المناقب عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم: إنّ السّماء و الأرض لتبكى على المؤمن إذا مات أربعين صباحا و إنّها لتبكى على العالم إذا مات أربعين شهرا و إنّ السّماء و الأرض ليبكيان على الرّسول أربعين سنة و إنّ السّماء و الأرضليبكيان عليك يا على إذا قتلت أربعين سنة.
قال ابن عباس: لقد قتل أمير المؤمنين على الأرض بالكوفة فامطرت السّماء ثلاثة أيّام دما.
أبو حمزة عن الصّادق عليه السّلام و قد روى أيضا عن سعيد بن المسيب أنّه لمّا قبض أمير المؤمنين عليه السّلام لم يرفع من وجه الأرض حجر إلّا وجد تحته دم عبيط.
أربعين الخطيب و تاريخ النّسوى أنّه سئل عن عبد الملك بن مروان الزّهرى ما كانت علامة يوم قتل عليّ عليه السّلام قال: ما رفع حصاة من بيت المقدس إلّا كان تحتها دم عبيط، و لمّا ضرب في المسجد سمع صوت«» للّه الحكم لا لك يا على و لا لأصحابك، فلمّا توفّى سمع في داره: أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ الآية.
ثمّ هتف آخر مات رسول اللّه و مات أبوكم.
و في أخبار الطالبين أنّ الرّوم اسروا قوما من المسلمين فاتى بهم إلى الملك فعرض عليهم الكفر فأبوا فأمر بالقائهم في الزّيت المغلى و اطلق منهم رجلا يخبر بحالهم، فبينما هو يسير إذ سمع وقع حوافر الخيل فوقف فنظر إلى أصحابه الذين القوا في الزّيت فقال لهم في ذلك فقالوا قد كان ذلك فنادى مناد من السّماء في الشّهداء البرّ و البحر إنّ عليّ بن أبى طالب قد استشهد فى هذه الليلة فصلّوا عليه فصلّينا عليه و نحن راجعون إلى مصارعنا.
تسلى هم و تسكين فؤاد فى أحوال قاتله و كيفية قتله
ففى البحار من كتاب قصص الأنبياء عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ عاقر ناقة صالح كان أزرق ابن بغىّ، و إنّ قاتل عليّ صلوات اللّه ابن بغىّ و كانت مراد تقول ما نعرف له فينا أبا و لا نسبا و إنّ قاتل الحسين بن عليّ صلوات اللّه ابن بغىّ، و لم يقتل الأنبياء و لا أولاد الأنبياء إلّا أولاد البغايا.
و فيه أيضا في ذيل الرّواية السّالفة التي قدمناها في كيفية شهادته عليه السّلام عن لوط بن يحيى: قال الرّاوى: ثمّ انّه لما رجع أولاد أمير المؤمنين و أصحابه إلى الكوفة و اجتمعوا لقتل اللعين عدوّ اللّه ابن ملجم فقال عبد اللّه بن جعفر: اقطعوا يديه و رجليه و لسانه و اقتلوه بعد ذلك، و قال محمّد بن الحنفية: اجعلوه غرض النّشاب و احرقوه بالنّار، و قال آخر: اصلبوه حيّا حتّى يموت فقال الحسن: أنا ممتثل فيه ما أمرنى به أمير المؤمنين أضربه ضربة بالسّيف حتّى يموت فيها و احرقه بالنّار بعد ذلك.
قال الرّاوى: فأمر الحسن أن يأتوه، فجاءوا به مكتوفا حتّى ادخلوه الموضع الذي ضرب فيه الامام و النّاس يلعنونه و يوبّخونه و هو ساكت لا يتكلّم، فقال الحسن يا عدوّ اللّه قتلت أمير المؤمنين و إمام المسلمين و أعظمت الفساد في الدّين.
فقال لهما: يا حسن و يا حسين ما تريدان أن تصنعا لي قالا نريد أن نقتلك كما قتلت سيدنا و مولانا، فقال لهما اصنعا ما شئتما أن تصنعا و لا تعنّفا من استزلّه الشيطان فصدّه عن السّبيل، و لقد زجرت نفسى فلم تنزجر و نهيتها فلم تنته فدعها تذوق و بال أمرها و لها عذاب شديد ثمّ بكى.
فقال له: يا ويلك ما هذه الرّقة اين كانت حين وضعت قدمك و ركبت خطيئتك، فقال ابن ملجم: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ.
و لقد انقضى التّوبيخ و المعايرة و إنّما قتلت أباك و حصلت بين يديك فاصنع ما شئت و خذ بحقك منّى كيف شئت ثمّ برك على ركبتيه و قال: يا بن رسول اللّه الحمد للّه اجرى قتلى على يديك، فرّق له الحسن لأنّ قلبه كان رحيما صلّى اللّه عليه، فقام الحسن فأخذ السّيف بيده و جرّده من غمده و ندّبه «و نزته خ ل» حتّى لاح الموتفي حدّه ثمّ ضربه ضربة أراد بها عنقه فاشتدّ زحام النّاس عليه و علت أصواتهم فلم يتمكّن من فتح باعه فارتفع السّيف إلى باعه «رأسه» فأبراه فانقلب عدوّ اللّه على قفاه يخور في دمه.
فقام الحسين إلى أخيه و قال: يا أخى أ ليس الأب واحدا و الأم واحدة ولي نصيب في هذه الضّربة ولي حقّ في قتله فدعنى أضربه ضربة أشفى بها بعض ما أجده، فناوله الحسن السّيف فأخذه و هزّه و ضربه على الضّربة التي ضربها الحسن فبلغ إلى طرف أنفه و قطع جانبه الآخر و ابتدره النّاس بأسيافهم بعد ذلك فقطعوه اربا اربا، فعجل اللّه بروحه إلى النّار و بئس القرار ثمّ جمعوا جثته و أخرجوه من المسجد و جمعوا له حطبا و أحرقوه بالنّار.
و في المناقب استوهبت أمّ الهثيم بنت الأسود النّخعيّة جيفته لتتولّى إحراقها فوهبها لها فأحرقتها بالنّار.
و قيل: طرحوه في حفرة و طمّوه بالتّراب فهو يعوي كعوى الكلاب في حفرته إلى يوم القيامة.
و اقبلوا إلى قطام الملعونة و أخذوها فقطعوها بالسّيف اربا اربا و نهبوا دارها ثمّ أخذوها و أخرجوها إلى ظاهر الكوفة و أحرقوها بالنّار و عجل اللّه بروحها إلى النّار و غضب الجبار.
و أمّا الرّجلان اللذان تحالفا معه فأحدهما قتله معاوية بن أبي سفيان بالشّام و الآخر قتله عمرو بن العاص بمصر لا رضى اللّه عنهما.
و أمّا الرّجلان«» اللذان كانا مع ابن ملجم بالجامع يساعد انه على قتل عليّ عليه السّلام فقتلا من ليلتهما لعنهما اللّه و حشرهما محشر المنافقين الظالمين في جهنّم خالدين مع السّالفين.
و في البحار من الخرائج مسندا عن عمرو بن أحمد بن محمّد بن عمرو، عن الحسن بن محمّد المعروف بابن الرّفا، قال: سمعته يقول: كنت بالمسجد الحرام فرأيت النّاس مجتمعين حول مقام إبراهيم فقلت ما هذا قالوا: راهب أسلم فأشرفت عليه فاذا بشيخ كبير عليه جبّة صوف و قلنسوة صوف عظيم الخلقة و هو قاعد بحذاء مقام إبراهيم فسمعته يقول: كنت قاعدا في صومعة فأشرفت منها و إذا طاير كالنّسر قد سقط على صخرة على شاطى البحر فتقيأ فرمى بربع إنسان، ثمّ طار فتفقّدته فعاد فتقيأ فرمى بربع انسان، ثمّ طار فجاء فتقيأ بربع انسان، ثمّ طار فجاء فتقيأ بربع إنسان ثمّ طار فدنت الأرباع فقام رجلا فهو قائم و أنا أتعجّب منه.
ثمّ انحدر الطير فضربه و أخذ ربعه فطار، ثمّ رجع فاخذ ربعه فطار، ثمّ رجع فأخذ ربعه فطار، ثمّ انحدر الطير فأخذ الرّبع الآخر فطار، فبقيت أتفكّر و تحسّرت ألّا أكون لحقته و سألته من هو فبقيت أتفقد الصّخرة حتّى رأيت الطير قد أقبل فتقيأ بربع انسان فنزلت فقمت بازائه، فلم أزل حتّى تقيأ بالرّبع الرّابع، ثمّ طارفا لتأم رجلا فقام قائما.
فدنوت منه فسألت فقلت: من أنت فسكت عنّى فقلت بحقّ من خلقك من أنت قال: أنا ابن ملجم، فقلت له و أىّ شيء عملت قال: قتلت عليّ بن أبي طالب فوكل بى هذا الطير يقتلني كلّ يوم قتلة فهو بينا يخبرني إذا انقض الطائر فأخذ ربعه فطار فسألت عن عليّ عليه السّلام فقالوا: هو ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فأسلمت.
التذييل الثاني فى موضع قبره الشريف و الاشارة الى من بناه
فنقول إنّه كان في بعض الأزمان بين المخالفين اختلاف في موضع قبره صلوات اللّه عليه، فذهب جماعة منهم إلى إنّه دفن في رحبة مسجد الكوفة و قيل: إنّه دفن في قصر الامارة، و قيل: إنّه أخرجه الحسن معه إلى المدينة و دفنه بالبقيع و كان بعض جهلة الشيعة يزورونه بمشهد في الكرخ.
و قد اجتمعت الشيعة على أنّه مدفون بالغرى في الموضع المعروف عند الخاص و العام، و هو عندهم من المتواترات رووه خلفا عن سلف إلى أئمة الدّين صلوات اللّه عليهم أجمعين و كان السّبب في هذا الاختلاف إخفاء قبره خوفا من الخوارج و المنافقين و كان لا يعرف ذلك إلّا خاص الخاص من الشّيعة إلى أن ورد الصادق عليه السّلام الحيرة فى زمن السّفاح فأظهره لشيعته.
و من هذا اليوم يزوره كافّة الشّيعة في هذا المكان، و لا حاجة لنا إلى ذكر ما ورد في تعيين موضع القبر الشّريف من الأخبار المرويّة عن الأئمة الأطهار، و انّما الأنسب ذكر كيفيّة بناء المرقد الشّريف و القبّة المباركة زادها اللّه شرفا، فأقول: روى عن الصّادق عليه السّلام إذا ركب نوح في السّفينة أتت إلى مكان البيت و طاف له اسبوعا، فأوحى اللّه إليه ان انزل عن السّفينة و اخرج عظام آدم و جسده و ادخله في السّفينة، فنزل نوح و كان الماء إلى ركبته فاخرج تابوتا فيه جسد آدم فأوقعه في السّفينة، و لمّا وصلت السّفينة إلى مسجد الكوفة فاستقرّ هناك فانزل نوح جسده من السّفينة فدفنه في النّجف و جعل نوح لنفسه قبرا في امامه و صيّر صندوقا لعلي يدفن فيه في أمام صدره.
و في كتاب رياض الجنّة تأليف بعض أصحابنا قدّس اللّه روحه: مشهد النّجف على ساكنه ألف تحيّة و تحف واقع على طرف القبلة من الكوفة بنصف فرسخ.
و أوّل من بنا القبر الشّريف هارون العبّاسي على ما ستطلع عليه، ثمّ بعد مأئة و ثمانين سنة و نيّفا بنا عضد الدّولة الديلمي القبّة الشّريفة، ثمّ زاد الملوك على ذلك يوما فيوما إلى أن صار بلدة صغيرة جاور النّاس فيها.
و لمّا وصل دورة السّلطنة إلى السّلطان نادر أمر بتذهيب القبّة المباركة و بناء الأيوان و المنارتين و تذهيبها و صرف على ذلك خمسين ألف تومان نادريّ و صرفت زوجته گوهرشاد امّ ابنيه امام قلي ميرزا و نصر اللّه ميرزا مأئة ألف ربعيّة على تعمير الصّحن المقدّس و بناء جدرانه بالكاشيّ و صرفت امّ سلطان و ساير زوجاته عشرين ألف تومان نادرى على بناء المسجد الواقع في ظهر الرّأس الشّريف و أرسلن إلى الرّوضات المطهّرة عشرين حمل بعير من الفرش و البساط، و كان الفراغ من جميع ذلك في سنة سبع و خمسين و مأئة بعد الألف، و قيل في تاريخ تمام المنارة الشّماليّة.
«تعالى شانه الله أكبر» و في تمام المنارة الجنوبيّة.
«تكرر اربعا الله اكبر» أراد أربعة اللّه أكبر ثمّ لمّا صار نوبة السلطنة إلى السّلطان على مراد خان زند في سنة سبع و تسعين و مأئة و ألف بعث جمعا من حذقة المهندسين بواحد من ثقاتة إلى تعمير ما خرب من جدران البقعة الشّريفة و تجديد كواشي الجدران و الطاقات و تنقية بئر الصّحن المقدّس و ساير آبار المشهد و اصلاح مجرى مياهها و أهدى إلى المشاهد المشرفة و لا سيّما مشهد أمير المؤمنين بالفرش النّفيسة و القناديل المرصّعة بالدّرر و الجواهر و أعطى الخدّام و المجاورين هناك عطايا عظيمة و صلات جزيلة.
ثمّ أمر بصنعة صندوق من الخاتم يوضع فوق القبر الشريف و توفّى قبل تمامه ثمّ اشتغل به حذقة الصّانعين بأمر جعفر خان، و توفّى و لم يتمّ، و أتمّه لطفعلي خان ابن جعفر خان و كان مدّة الاشتغال بصنعته ستّ سنين.
ثمّ بنا الضريح المقدّس المفضّض السّلطان آقا محمّد خان قدّس اللّه روحه، و كان آصف الدّولة الهندي أراد أن يجرى نهرا إلى المشهد من الفرات من جنب جسر المسيّب على أربعة و عشرين فرسخا فلم يتيسّر.
ثمّ عزم الحاج محمّد عليّ البغدادي إلى نهر من سمت ذي الكفل و صرف مصارف كثيرة عليه و لم يمكن.
أقول: و للّه الحمد و المنّة فقد جرى النّهر في زمان اشتغالنا بالتحصيل في المشهد بسعى السّيد الفاضل الجليل العالم العلامة الزّاهد الورع الحاج سيّد أسد اللّه الاصفهاني قدّس اللّه سرّه و نوّر ضريحه من تحت الأرض منتهيا إلى البحر، و أرّخ بعضهم جريان الماء بقوله: جاء ماء الغرى شكر اللّه مساعى المتصدّين لبناء المشاهد المشرفة و السّاعين في تعمير البقاع المتبرّكة و حشرهم مع مواليهم الطاهرين.
و عن سيّد السّند نعمة اللّه الجزائري في مقامات النّجاة أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام مدفون بالغري و يقال له الغريان أيضا و هما قبرا مالك و عقيل نديمي حذيمة الأبرش سمّبا غريين لأنّ النّعمان بن المنذر كان يغريهما بدم من يقتله إذا خرج في يوم بأسه.«» و قيل: كان ينادم النّعمان رجلان من العرب خالد بن مفضل و عمرو بن مسعود الأسديّان، فشرب معهما ليلة فرجفاه الكلام فغضب و أمر بأن يجعلا في تابوتين و يدفنا بظهر الكوفة، فلمّا أصبح سأل عنهما فأخبره بصنيعه فندم و ركب حتّى وقف عليهما و أمر ببناء الغريّين و جعل لنفسه كلّ سنة يوم نعم و يوم بؤس و كان يضع سريره بينهما.
فاذا كان يوم نعمه فأوّل من يطلع عليه يؤتيه مأئة من الابل، و إذا كان يوم بؤسه فأوّل من يطلع يؤتيه رأس طربال و هي دويبة منتنة الرّيح و أمر بقتله فقتل و يغرى به الغرّيان و بقي هذا حاله إلى وقوع قضيّة الطائي و شريك نديم النّعمان، و قد مضى ذكر تلك القضيّة منّا في شرح الخطبة الحادية و الأربعين فتذكّر
التذييل الثالث فى ذكر نبذ من المعجزات الظاهرة منه و من قبره الشريف بعد وفاته
فمن هذه ما عن ارشاد الديلمي عند الاستدلال على كونه مدفونا بالغري قال: و الدليل الواضح و البرهان اللايح على ذلك من وجوه.
الأوّل تواتر أخبار الأئمة يرويه خلف عن سلف.
الثّاني اجماع الشّيعة و الاجماع حجّة.
الثّالث ما حصل عنده من الاسرار و الآيات و ظهور المعجزات كقيام الزّمن و ردّ بصر الأعمى و غيرها.
فمنها ما روى عن عبد اللّه بن حازم قال خرجنا يوما مع الرشيد من الكوفة فصرنا إلى ناحية الغريين فرأينا ظباء فأرسلنا عليها الصّقور و الكلاب فجادلتها ساعة ثمّ لجأت الظباء إلى اكمة«» فراجعت الصّقور و الكلاب عنها، فتعجب الرّشيد منذلك، ثمّ إنّ الظباء هبطت من الأكمة فسقطت الطيور و الكلاب عنها فرجعت الظباء إلى الأكمة فتراجعت الصّقور و الكلاب عنها مرّة ثانية، ثمّ فعلت ذلك مرّة اخرى.
فقال الرّشيد: اركضوا إلى الكوفة فأتوني بأكبرها سنّا، فاتى بشيخ من بني أسد فقال الرّشيد: أخبرنى ما هذه الاكمه فقال: حدّثني أبي عن آبائه أنّهم كانوا يقولون: إنّ هذه الاكمة قبر عليّ بن أبي طالب جعله اللّه تعالى حرما لا يأوى إليه شيء إلّا أمن.
فنزل هارون و دعا بماء و توضّأ و صلّى عند الأكمة و جعل يدعو و يبكى و يتمرّغ عليها يوجهه و أمر أن يبني قبة بأربعة أبواب فبنى، و بقى إلى أيّام السّلطان عضد الدّولة فجاء فأقام في ذلك الطريق قريبا من سنة هو و عسكره فبعث فاتى بالصّناع و الاستادية من الأطراف و خرب تلك العمارة و صرف أموالا كثيرة جزيلة و عمر عمارة جليلة حسنة و هي العمارة التي كانت قبل عمارة اليوم.
و منها ما حكى عن جماعة خرجوا بليل مختفين إلى الغري لزيارة أمير المؤمنين عليه السّلام قالوا: فلمّا وصلنا إلى القبر الشّريف و كان يومئذ قبرا حوله حجارة و لا بناء عنده، و ذلك بعد أن أظهره الرّشيد و قبل أن يعمره، فبينا نحن عنده بعضنا يقرأ و بعضنا يصلّي و بعضنا يزور و إذا نحن بأسد مقبل نحونا، فلمّا قرب منّا قدر رمح قال بعضنا لبعض: ابعدوا عن القبر لننظر ما يصنع، فتباعدنا عن القبر الشريف فجاء الأسد و جعل يمرغ ذراعيه على القبر، فمضى رجل منّا فشاهده فعاد فأعلمنا فزال الرّعب عنّا فجئنا بأجمعنا فشاهدناه يمرغ ذراعيه على القبر و فيه جراح فلم يزل يمرّغه ساعة، ثمّ نزح عن القبر فمضى، فعدنا إلى ما كنّا عليه من الزّيارة و الصّلاة و القرآن.
و عن مزار البحار قال: و قد شاع في زماننا من شفاء المرضى و معافاة أصحاب البلوى و صحة العميان و الزّمن أكثر من أن يحصى.
و لقد أخبرني جماعة كثيرة من الثّقات أنّ عند محاصرة الرّوم لعنهم اللّه المشهد الشّريف في سنة أربع و ثلاثين و ألف من الهجرة تحصّن أهله بالبلد و إغلاق الأبواب عليهم و التعرّض لدفعهم مع قلّة عددهم و عدّتهم و كثرة المحاصرين لهم و قوّتهم و شوكتهم، و جلسوا زمانا طويلا و لم يظفروا بهم و كانوا يرمون بالبنادق الصّغار و الكبار عليهم شبه الأمطار و لم يقع على أحد منهم، و كانت الصّبيان في السّكك ينتظرون وقوعها ليلعبوا بها حتّى أنّهم يروون أنّ يروون أنّ بندقا كبيرا دخل في كمّ جارية رفعت يدها لحاجة على بعض السّطوح و سقط من ذيلها و لم يصبها و يروى عن بعض الصّلحاء الأفاضل من أهل المشهد أنّه رأى في تلك الأيام أمير المؤمنين عليه السّلام في المنام و في يده سواد فسأله عن ذلك فقال: لكثرة دفع الرّصاص عنكم، و الغرايب التي ينقلونها في تلك الواقعة كثيرة.
فأما التي اشتهرت بين أهل المشهد بحيث لا ينكره أحد منهم.
فمنها قصّة الدّهن و هو أنّ خازن الرّوضة المقدّسة المولى الصّالح البارع التّقى مولانا محمود قدس اللّه روحه كان هو المتوجّه لاصلاح العسكر الذي كانوا في البلد، و كانوا محتاجين إلى مشاعل كثيرة لمحافظة أطراف الحصار فلمّا ضاق الأمر و لم يبق في السّوق و لا في البيوت شيء من الدّهن أعطاهم من الحياض التي كانوا يصبّون فيها الدّهن لا سراج الرّوضة و حواليها، فبعد إتمام جميع ما في الحياض و يأسهم من حصوله من مكان آخر رجعوا إليها فوجدوها مترعة من الدّهن فأخذوا منها و كفاهم إلى انقضاء و طرهم.
و منها أنّهم كانوا يرون في الليالي في رءوس الجدران و أطراف العمارات و المنارات نورا ساطعا بيّنا حتّى أنّ النّاس إذا كان يرفع يده إلى السّماء كان يرى أنامله كالشّموع المشتعلة.
و لقد سمعت من بعض أشارف الثّقات من غير أهل المشهد أنّه قال: كنت ذات ليلة نائما في بعض سطوح المشهد الشّريف فانتبهت فرأيت النّور ساطعا من الرّوضة المقدّسة و من أطراف جميع جدران البلد فعجبت من ذلك و مسحت يدي على عيني فنظرت فرأيت مثل ذلك فأيقظت رجلا كان نائما بجنبي فأخبرني بمثل ما رأيت و بقي هكذا زمانا طويلا ثمّ ارتفع.
و سمعت أيضا من بعض الثّقات قال: كنت نائما في بعض الليالي على بعض سطوح البلد الشّريف فانتبهت فرأيت كوكبا نزل من السّماء بحذاء القبّة السّامية حتّى وصل إليها و طاف حولها مرارا بحيث أراه يغيب من جانب و يطلع من آخر ثمّ صعد إلى السّماء.
و من الامور المشهورة التي وقعت قريبا من زماننا أنّ جماعة من صلحاء أهل البحرين أتوا لزيارة الحسين عليه السّلام لادراك بعض الزيارات المخصوصة فأبطأوا و لم يصلوا إليه و وصلوا ذلك اليوم إلى الغري و كان يوم مطر و طين و كان مولانا محمود أغلق أبواب الرّوضة و قالوا قد حرمنا من زيارة ولدك فلا تحرمنا زيارتك فانّا من شيعتك و قد أتيناك من شقّة بعيدة، فبيناهم في ذلك إذ سقطت الاقفال و فتحت الأبواب و دخلوا و زاروا.
و هذا مشهور بين أهل المشهد و بين أهل البحرين غاية الاشتهار.
و منها ما تواترت به الأخبار و نظموها في الأشعار و شاع في جميع الاصقاع و الأقطار و اشتهر اشتهار الشّمس في رابعة النّهار و كان بالقرب من تاريخ الكتابة سنة اثنين و سبعين بعد الألف من الهجرة، و كان كيفيّة تلك الواقعة على ما سمعته من الثقّات أنّه.
كان في المشهد الغروي عجوز تسمّى بمريم، و كانت معروفة بالعبادة و التقوى فمرضت مرضا شديدا و امتدّ بها حتّى صارت مقهورة مزمنة و بقيت كذلك قريبا من سنتين بحيث اشتهر أمرها و كونها مزمنة في الغري.
ثمّ إنّها لتسع ليال خلون من رجب تضرّعت لدفع ضرّها إلى اللّه تعالى و استشفت بمولانا أمير المؤمنين عليه السّلام و شكت إليه في ذلك و نامت، فرأت في منامها ثلاث نسوة دخلن إليها واحدهنّ كالقمر ليلة البدر نورا و صفاء و قلن لها لا تخافى و لا تحزنى فانّ فرجك في الليلة الثّاني عشر من الشّهر المبارك.
فانتبهت فرحا و قصّت رؤياها على من حضرها و كانت منتظرة ليلة ثاني عشر رجب فمرّت بها و لم تر شيئا، ثمّ ترقّبت ليلة ثاني عشر شعبان فلم تر شيئا ايضا، فلما كانت ليلة تاسع شهر رمضان رأت في منامها تلك النسوة بأعيانهنّ و هنّ يبشّرنها، فقلن لها إذا كانت ليلة الثّاني عشر من هذا الشّهر فامض إلى روضة أمير المؤمنين و ارسلى إلى فلانة و فلانة و سمين نسوة معروفات و باقيات إلى حين هذا التحرير و اذهبي بهنّ معك إليها.
فلما أصبحت قصّت رؤياها و بقيت مسرورة مستبشرة بذلك إلى أن دخلت تلك الليلة فأمرت بغسل ثيابها و تطهير جسدها و أرسلت إلى تلك النّسوة و دعتهن فأجبن و ذهبن بها محمولة لأنّها كانت لا تقدر على المشي.
فلما مضى قريب من ربع الليل خرجت واحدة و اعتذرت منها و بقيت معها اثنتان و انصرف عنهنّ جميع من حضر الروضة المقدّسة و غلقت الأبواب و لم يبق في الرّواق غير هنّ فلما كان وقت السّحر و أرادت صاحبتاها أكل السّحور أو شرب التتن فاستحييا من الضّريح المقدّس فتركتاها عند الشّباك المقابل للضريح المقدس في جانب القبلة و ذهبتا إلى الباب الذي في جانب خلفه يفتح إلى الصّحن و خلفه الشّباك، فدخلتا هناك و أغلقتا الباب لحاجتهما.
فلما رجعتا إليها بعد قضاء و طرهما لم تجداها في الموضع الذي تركتاها ملقاة فيه، فتحيّرتا فمضتا يمينا و شمالا فاذا بها تمشى في نهاية الصّحة و الاعتدال.
فسألتاها عن حالها و ما جرى عليها فأخبرتهما أنّكما لمّا انصرفتما عنّي رأيت تلك النسوة اللّاتي رأيتهن في المنام أقبلن و حملنني و أدخلنني داخل القّبة المنورة و أنا لا أعلم كيف دخلت و من اين دخلت.
فلما قربت من الضّريح المقدّس سمعت صوتا من القبر يقول: حرّكن المرأة الصّالحة و طفن بها ثلاث مرّات فطفن بى ثلاث مرّات حول القبر، ثمّ سمعت صوتا آخر اخرجن المرأة الصّالحة من باب الفرج فأخرجننى من الباب الغربى الذي يكون خلف من يصلّي بين البابين بحذاء الرّأس و خلف الباب شباك يمنع الاستطراق و لم يكن الباب معروفا قبل ذلك بهذا الاسم.
قالت فالآن مضين عنّي و جئتماني و أنا لا أرا بى شيئا ممّا كان من المرض و الالم و الضّعف و أنا فى غاية الصّحة و القوّة، فلما كان آخر الليل جاء خازن الحضرة الشّريفة و فتح الابواب فرآهنّ يمشين بحيث لا يتميّز واحدة منهنّ.
و انّى سمعت من المولى الصّالح التّقى مولينا محمّد طاهر الذي بيده مفاتيح الرّوضة المقدّسة و من جماعة كثيرة من الصّلحاء الذين كانوا حاضرين في تلك الليلة في الحضرة الشّريفة أنّهم رأوها في أوّل الليلة محمولة عند دخولها و في آخر الليل سائرة أحسن ما يكون عند خروجها.
و في المجلد التّاسع من البحار من بعض مؤلفات أصحابنا عن زيد النّساج قال: كان لى جار و هو شيخ كبير عليه آثار النّسك و الصّلاح، و كان يدخل إلى بيته و يعتزل عن النّاس و لا يخرج إلّا يوم الجمعة.
قال زيد النسّاج: فمضيت يوم الجمعة إلى زيارة زين العابدين عليه السّلام فدخلت إلى مشهده فاذا أنا بالشّيخ الذي هو جاري قد اخذ من البئر ماء يريد أن يغتسل غسل الجمعة و الزّيارة.
فلما نزع ثيابه و اذا في ظهره ضربة عظيمة فتحها أكثر من شبر و هي تسيل قيحا و مدة، فاشمئز قلبي منها فحانت منه التفاتة فرآني فخجل فقال أنت زيد النساج فقلت: نعم، فقال لى: يا بنى عاوني على غسلي فقلت لا و اللّه لا اعاونك حتّى تخبرنى بقصّة هذه الضّربة التي بين كتفيك و من كف من خرجت و أىّ شيء كان سببها.
فقال: يا زيد اخبرك بها بشرط أن لا تحدّث بها أحدا من النّاس إلّا بعد موتى فقلت: لك ذلك، فقال: عاونى على غسلي فاذا لبست أطماري حدّثتك بقصّتى، قال زيد فساعدته فاغتسل و لبس ثيابه و جلس في الشّمس و جلست إلى جانبه و قلت له حدّثني يرحمك اللّه فقال لي: اعلم أنّا كنّا عشرة أنفس قد تواخينا على الباطل و توافقنا على قطع الطريق و ارتكاب الآثام، و كانت بيننا نوبة نديرها في كلّ ليلة على واحد منا ليصنع لنا طعاما نفيسا و خمرا عتيقا و غير ذلك.
فلما كانت الليلة التاسعة و كنّا قد تعشينا عند واحد من أصحابنا و شربنا الخمر ثمّ تفرّقنا و جئت إلى منزلى و نمت، أيقظتني زوجتى و قالت لي إنّ الليلة الآتية نوبتها عليك و لا عندنا في البيت حبّة من الحنطة.
قال فانتبهت و قد طار السّكر من رأسى و قلت كيف أعمل و ما الحيلة والى أين أتوجّه فقالت لى زوجتى: الليلة ليلة الجمعة و لا يخلو مشهد مولينا عليّ بن أبي طالب من زوّار يأتون إليه يزورونه فقم و امض و اكمن على الطريق فلا بدّ أن ترى أحدا فتأخذ ثيابه فتبيعها و تشترى شيئا من الطعام لتتم مروّتك عند أصحابك و تكافيهم على ضيفهم.
قال: فقمت و أخذت سيفي و حجفتي و مضيت مبادرا و كمنت في الخندق الذي في ظهر الكوفة، و كانت ليلة مظلمة ذات رعد و برق فأبرقت برقة فاذا أنا بشخصين مقبلين من ناحية الكوفة، فلما قربا منّي برقت برقة اخرى فاذا هما امرئتان، فقلت في نفسي في مثل هذه السّاعة أتانى امرئتان ففرحت و وثبت إليهما و قلت لهما انزعا الحليّ الذي عليكما سريعا فطرحا.
فأبرقت السّماء برقة اخرى فاذا إحداهما عجوز و الاخرى شابة من أحسن النساء وجها كأنّها ظبية قنّاص«» أو درّة غواص، فوسوس لي الشّيطان على أن أفعل بها القبيح، فقلت في نفسي مثل هذه الشّابة التي لا يوجد مثلها حصلت عندي في هذا الموضع و اخلّيها، فراودتها عن نفسها.
فقالت العجوز: يا هذا أنت في حلّ مما أخذته منّا من الثياب و الحليّ فخلّنا نمضي إلى أهلنا فو اللّه إنّها بنت يتيمة من امّها و أبيها و أنا خالتها و في هذه الليلة القابلة تزفّ إلى بعلها و أنّها قالت لى: يا خالة إنّ الليلة القابلة أزفّ إلى ابن عمّى و أنا و اللّه راغبة في زيارة سيّدي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و إنى إذا مضيت عند بعلي ربّما لا يأذن لي بزيارته فلما كانت هذه اللّيلة الجمعة خرجت بها لأزوّرها مولاها و سيدها أمير المؤمنين فباللّه عليك لا تهتك سترها و لا تفص ختمها و لا تفضحها بين قومها.
فقلت لها: إليك عنّى و ضربتها و جعلت أدور حول الصّبية و هى تلوذ بالعجوز و هي عربانة ما عليها غير السّروال و هي في تلك الحال تعقد تكّتها و توثقها عقدا فدفعت العجوز عن الجارية و صرعتها إلى الأرض و جلست على صدرها و مسكت يديها بيد واحدة و جعلت أحلّ عقد التّكة باليد الاخرى و هي تضطرب تحتى كالسمكة في يد الصّياد و هى تقول: المستغاث بك يا اللّه المستغاث بك يا عليّ بن أبي طالب خلّصني من يد هذا الظالم.
قال: فو اللّه ما استتمّ كلامها إلّا و حسّ حافر فرس خلفى، فقلت في نفسي هذا فارس واحد و أنا أقوى منه و كانت لى قوّة زايدة و كنت لا أهاب الرّجال قليلا أو كثيرا، فلما دنا منّي فاذا عليها ثياب بيض و تحته فرس أشهب تفوح منه رايحة المسك فقال لى: يا ويلك خلّ المرأة فقلت له: اذهب لشأنك فأنت نجوت بنفسك تريد تنجى غيرك قال: فغضب من قولي و نقفنى«» بذبال«» سيفه بشيء قليل فوقعت مغشيا عليّ لا أدرى أنا في الأرض أو في غيرها و انعقد لساني و ذهبت قوّتى لكنّي أسمع الصوت و أعي الكلام.
فقال لهما قوما البسا ثيابكما، فقالت العجوز: فمن أنت يرحمك اللّه و قد منّ اللّه علينا بك و إنّى اريد منك أن توصلنا إلى زيارة سيدنا و مولينا عليّ بن أبي طالب قال فتبسم في وجوههما و قال لهما: أنا عليّ بن أبي طالب ارجعا إلى أهلكما فقد قبلت زيارتكما.
قال: فقامت العجوز و الصّبية و قبلا يديه و رجليه و انصرفا في سرور و عافية قال الرّجل: فأفقت من غشوتى و انطلق لساني فقلت له: يا سيدي أنا تائب إلى اللّه على يدك و انى لا عدت ادخل في معصية أبدا، فقال: إن تبت تاب اللّه عليك، فقلت له: تبت و اللّه على ما أقول شهيد.
ثمّ قلت له: يا سيدي تركتني و في هذه الضّربة هلكت بلا شكّ، قال: فرجع إلىّ و أخذ بيده قبضة من تراب ثمّ وضعها على الضّربة و مسح بيده الشّريفة عليها فالتحمت بقدرة اللّه تعالى.
قال زيد النساج: فقلت: كيف التحمت و هذه حالتها فقال لى: إنّها و اللّه كانت ضربة مهولة أعظم ممّا تراها الآن و لكنّها بقيت موعظة لمن يسمع و يرى.
و من فرحة الغري معنعنا عن عليّ بن الحسن بن الحجاج من حفظه، قال: كنا جلوسا في مجلس ابن عمّى أبى عبد اللّه محمّد بن عمر بن الحجاج و فيه جماعة من أهل الكوفة من المشايخ و فيمن حضر العباس بن أحمد العباسى و كانوا قد حضروا عند ابن عمّى يهنونه بالسّلامة، لأنّه حضر وقت سقوط سقيفة سيدي أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام في ذي الحجة من سنة ثلاث و سبعين و مأتين.
فبينا هم قعود يتحدّثون إذ حضر المجلس إسماعيل بن عيسى العباسى، فلما نظرت الجماعة إليه أحجمت عمّا كانت فيه و أطال إسماعيل الجلوس، فلما نظر إليهم قال لهم: يا أصحابنا أعزّكم اللّه لعلّى قطعت حديثكم بمجيئي.
قال أبو الحسن عليّ بن يحيى السليمانى و كان شيخ الجماعة و مقدّما فيهم: لا و اللّه يا با عبد اللّه أعزك اللّه ما أمسكنا بحال من الأحوال، فقال لهم: يا أصحابنا اعلموا أنّ اللّه عزّ و جلّ مسائلى عمّا أقول لكم و ما أعتقده من المذهب حتّى حلف بعتق جواريه و مماليكه و حبس دوابه أنّه لا يعتقد إلّا ولاية عليّ بن أبي طالب و السّادة من الأئمة عليهم السّلام و عدّهم واحدا واحدا و ساق الحديث، فأبسط إليه أصحابنا و سألوهم و سألوه.
ثمّ قال لهم: رجعنا يوم جمعة من الصّلاة من المسجد الجامع مع عمّى داود فلما كان قبل منازلنا و قبل منزله و فدخلا الطريق قال لنا أينما كنتم قبل أن تغرب الشّمس فصيروا إلىّ و لا يكون أحد منكم على حال فيتخلف لأنّه كان جمرة بنى هاشم.
فصرنا إليه آخر النّهار و هو جالس ينتظرنا، فقال صيحوا بفلان و فلان من الفعلة فجاء رجلان معهما آلتهما و التفت إلينا فقال: اجتمعوا كلكم فاركبوا في وقتكم هذا و خذوا معكم الجمل غلاما كان له أسود يعرف بالجمل، و كان لو حمل هذا الغلام على سكر دجلة لسكرها من شدّته و بأسه، و امضوا إلى هذا القبر الذي قد افتتن به النّاس و يقولون إنّه قبر عليّ حتّى تنبشوه و تجيبوني بأقصى ما فيه.
فمضينا إلى الموضع فقلنا دونكم و ما امر به، فحفر الحفارون و هم يقولون: لا حول و لا قوة إلّا باللّه في أنفسهم و نحن في ناحية حتّى نزلوا خمسة أذرع، فلما بلغوا إلى الصّلابة قال الحفارون: قد بلغنا إلى موضع صلب و ليس نقوى بنقره، فانزلوا الحبشى فأخذ المنقار فضرب ضربة سمعنا لها طنينا شديدا في البرّ، ثمّ ضرب ثانية فسمعنا طنينا أشدّ من ذلك، ثمّ ضرب الثالثة فسمعنا أشدّ ممّا تقدّم.
ثمّ صاح الغلام صيحة فقمنا فأشرفنا عليه و قلنا للذين كانوا معه: اسألوه ما باله فلم يجبهم، و هو يستغيث فشدّوه و اخرجوه بالحبل فاذا على يده من أطراف أصابعه إلى مرفقه دم هو يستغيث لا يكلّمنا و لا يحير جوابا، فحملناه على البغل و رجعنا طائرين.
و لم يزل لحم الغلام بنثر من عضده و جنبيه و ساير شقّه الأيمن حتّى انتهينا إلى عمّي فقال: ايش و رائكم فقلنا: ما ترى و حدّثناه بالصّورة.
فالتفت إلى القبلة و تاب ممّا هو عليه و رجع عن المذهب و تولى و تبرّى و ركب بعد ذلك في الليل على مصعب بن جابر فسأله أن يعمل على القبر صندوقا و لم يخبره بشيء ممّا جرى، و وجّه من طمّ الموضع و عمر الصّندوق عليه و مات الغلام الأسود من وقته.
و قال أبو الحسن الحجاج رأينا هذا الصّندوق الذي هذا حديثه لطيفا.
أقول: و ما ظهر منه عليه السّلام من هذا القبيل فوق حد الاحصاء و لا حاجة إلى الاطالة، فسبحان من آثر أولياءه بالكرامات الظاهرة و المعجزات القاهرة، و خصّهم بالمناقب السّنية و المآثر الرّفيعة.
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ
و لشيخنا البهائي قدس اللّه روحه في مدح حرم الغري سلام اللّه على مشرّفه:
في ذا الحرم الأقدس بيت معمور
في خدمته ملائك العرش حضور
فيه القبس الذى ابن عمران رأى
فيه النّور الذى تجلّى للطور
و قال أيضا:
هذا الحرم الأقدس قد لاح لديك
فاسجد متخشعا و عفّر خدّيك
ذا طور سنين فاغضض الطرف به
هذا حرم العزّة فاخلع نعليك
و قال أيضا:
هذا النباء العظيم ما فيه خلاف
هذا لملايك السّماوات مطاف
هذا حرم اللّه لمن حجّ و طاف
من حلّ به فهو من النار معاف
الترجمة
و فرمود آن حضرت در سحر آن روزى كه ضربت يافت در او: مالك شد مرا چشم من يعنى غلبه نمود خواب بر من در حالتى كه من نشسته بودم، پس ظاهر شد بمن رسول خدا صلّى اللّه عليه و اله و سلّم پس گفتم يا رسول اللّه چيست اينها كه رسيدم از امت تو از كجى و دشمنى پس حضرت رسالت فرمود كه اى على دعاى بد كن برايشان، پس گفتم كه بدل گرداند و عوض دهد مرا خداى تعالى بايشان بهترى از براى من از ايشان يعنى بجاى ايشان جماعتى بهتر بمن كرامت فرمايد، و بدل گرداند و عوض دهد ايشان را بمن بدتر كسى از براى ايشان بجاى من تا اين كه ايشان را بجزا و سزاى عملهاى بدشان برساند.