خطبه 3 صبحی صالح
3- و من خطبة له ( عليه السلام ) و هي المعروفة بالشقشقية و تشتمل على الشكوى من أمر الخلافة ثم ترجيح صبره عنها ثم مبايعة الناس له أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى
يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَ لَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ
فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً
وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ
يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ
ترجيح الصبر
فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى
فَصَبَرْتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذًى وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا
أَرَى تُرَاثِي نَهْباً
حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلَانٍ بَعْدَهُ
ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْأَعْشَى
شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا وَ يَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ
فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ
لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا
فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا وَ يَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَ الِاعْتِذَارُ مِنْهَا
فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ
فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اعْتِرَاضٍ
فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ الْمِحْنَةِ
حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ
فَيَا لَلَّهِ وَ لِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ
لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَ طِرْتُ إِذْ طَارُوا
فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَ مَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَ هَنٍ
إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ
وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ
إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ وَ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ
مبايعة علي
فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَ النَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ
حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَ شُقَّ عِطْفَايَ
مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ
فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ قَسَطَ آخَرُونَ
كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
بَلَى وَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا وَ لَكِنَّهُمْ
حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا
أَمَا وَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ
قَالُوا وَ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ خُطْبَتِهِ فَنَاوَلَهُ كِتَاباً قِيلَ إِنَّ فِيهِ مَسَائِلَ كَانَ يُرِيدُ الْإِجَابَةَ عَنْهَا فَأَقْبَلَ يَنْظُرُ فِيهِ (فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ) قَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوِ اطَّرَدَتْ خُطْبَتُكَ مِنْ حَيْثُ أَفْضَيْتَ فَقَالَ هَيْهَاتَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَوَاللَّهِ مَا أَسَفْتُ عَلَى كَلَامٍ قَطُّ كَأَسَفِي عَلَى هَذَا الْكَلَامِ أَلَّا يَكُونَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليهالسلام )بَلَغَ مِنْهُ حَيْثُ أَرَادَ
قال الشريف رضي اللّه عنه قوله ( عليهالسلام ) كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم و إن أسلس لها تقحم يريد أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام و هي تنازعه رأسها خرم أنفها و إن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها يقال أشنق الناقة إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه و شنقها أيضا ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح المنطق و إنما قال أشنق لها و لم يقل أشنقها لأنه جعله في مقابلة قوله أسلس لها فكأنه ( عليهالسلام ) قال إن رفع لها رأسها بمعنى أمسكه عليها بالزمام
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج2
الجزء الثالث
تتمة باب المختار من خطب أمير المؤمنين ع و أوامره
تتمة الخطبة الثالثة
تتمة و لا بد قبل الشروع في تمهيد مقدمات
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
المقدمة الثالثة في كيفيّة غصب أهل الجلافة للخلافة و ما جرى منهم يوم السّقيفة و بعدها
من إجبار أمير المؤمنين عليه السّلام على البيعة و إنكار من أنكر عليهم ذلك و ما جرى في تلك الوقايع من الظلم و الطغيان لعنة اللّه على أهل البغي و العدوان، و نحن ذاكر هنا ما وصل إلينا من طرق أصحابنا رضوان اللّه عليهم، و أمّا ما ذكره العامة في هذا الباب و رووه في سيرهم و تواريخهم فتصدّى لها كبعض روايات الخاصّة إنشاء اللّه في شرح الخطب الآتية ممّا أشار فيها الامام عليه السّلام إلى هذا المرام.
فنقول: روى الشّيخ أبي منصور أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن أبي المفضّل محمّد بن عليّ الشيباني باسناده الصّحيح عن رجال ثقة عن ثقة، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج في مرضه الذي توفّى فيه إلى الصّلاة متوكئا على الفضل بن عبّاس و غلام له يقال له: ثوبان و هي الصّلاة التي أراد التّخلف عنها لثقله ثمّ حمل على نفسه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خرج، فلما صلّى عاد إلى منزله فقال لغلامه: اجلس على الباب و لا تحجب أحدا من الأنصار و تجلاه الغشى فجاء الأنصار فأحدقوا بالباب و قالوا: ائذن لنا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: هو مغشيّ عليه و عنده نساؤه، فجعلوا يبكون، فسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم البكاء فقال: من هؤلاء قالوا: الأنصار، فقال: من هاهنا من أهل بيتي قالوا: عليّ و العباس فدعاهما، و خرج متوكئا عليهما فاستند إلى جذع«» من أساطين مسجده و كان الجذع جريد نخل فاجتمع النّاس و خطب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال في كلامه: إنّه لم يمت نبيّ قط إلّا خلّف تركة و قد خلّفت فيكم الثّقلين: كتاب اللّه و أهل بيتي، ألا فمن ضيّعهم ضيّعه اللّه، ألا و إنّ الأنصار كرشي«» و عيبتي التي آوي إليها، و إنّي أوصيكم بتقوى اللّه و الاحسان إليهم، فاقبلوا من محسنهم و تجاوزوا عن مسيئهم.
ثمّ دعا اسامة بن زيد و قال: سر على بركة اللّه و النّصر و العافية حيث أمرتك بمن أمرّتك عليه، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قد أمّره على جماعة من المهاجرين و الأنصار فيهم أبو بكر و عمر و جماعة من المهاجرين الأولين، و أمره أن يعبروا «يغبروا خ ل» على موتة«» و اد من فلسطين، فقال اسامة: بأبى أنت و أمّى يا رسول اللّه أ تأذن لى فى المقام أيّاما حتّى يشفيك اللّه، فانّى متى خرجت و أنت على هذه الحالة خرجت و فى قلبى منك قرحة، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: انفذيا اسامة لما أمرتك، فإنّ القعود عن الجهاد لا نحبّ في حال من الأحوال، فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ النّاس طعنوا فى عمله، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بلغنى أنكم طعنتم في عمل اسامة و فى عمل أبيه من قبل، و أيم اللّه إنّه لخليق للامارة و إنّ أباه كان خليقا لها و إنّه لمن أحبّ النّاس إليّ، فأوصيكم به خيرا فلان قلتم في أمارته فقد قال قائلكم في أمارة أبيه.
ثمّ دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيته و خرج اسامة من يومه حتّى عسكر على رأس فرسخ من المدينة و نادى منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أن لا يتخلّف عن اسامة أحد ممّن أمّرته عليه، فلحق النّاس به، و كان أول من سارع إليه ابو بكر و عمرو أبو عبيدة ابن الجرّاح، فنزلوا في زقاق«» واحد مع جملة أهل العسكر.
قال: و نقل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فجعل النّاس ممّن لم يكن في بعث اسامة يدخلون عليه إرسالا«» و سعد بن عبادة شاك«» فكان لا يدخل أحد من الأنصار على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا انصرف إلى سعد يعوده.
قال: و قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وقت الضّحى من يوم الاثنين بعد خروج اسامة إلى معسكره بيومين، فرجع أهل العسكر و المدينة قد رجفت بأهلها، فأقبل أبو بكر على ناقة له حتّى وقف على باب المسجد فقال: أيها النّاس ما لكم تموجون إن كان محمّد قد مات فربّ محمّد لم يمت.
«و ما محمّد إلّا رسول قد خلت من قبله الرّسل أ فإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم و من ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئا» ثمّ اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة و جاذبه إلى سقيفة بنى ساعدة فلما سمع بذلك عمر أخبر به أبا بكر و مضيا مسرعين إلى السّقيفة و معهما أبو عبيدة بن الجرّاح و في السّقيفة خلق كثير من الأنصار و سعد بن عبادة بينهم مريض، فتنازعوا الأمر بينهم فآل الأمر إلى أن قال أبو بكر في آخر كلامه للأنصار: إنّما أدعوكم إلى أبى عبيدة بن الجرّاح أو عمرو كلاهما قد رضيت لهذا الأمر و كلاهما أراه له أهلا، فقال أبو عبيدة و عمر: ما ينبغي لنا أن نتقدّمك يا أبا بكر أنت أقدمنا اسلاما و أنت صاحب الغار و ثانى اثنين فأنت أحقّ بهذا الأمر و أولانا به، فقالت الأنصار نحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منّا و لا منكم فنجعل منّا أميرا و منكم أميرا و نرضى به على أنّه إن هلك اخترنا آخر من الأنصار، فقال أبو بكر بعد أن مدح المهاجرين: و أنتم يا معاشر الأنصار ممّن لا ينكر فضلهم و لا نعمتهم العظيمة في الاسلام، رضيكم اللّه أنصارا لدينه و لرسوله و جعل اليكم مهاجرته و فيكم محلّ أزواجه، فليس أحد من النّاس بعد المهاجرين الأوّلين بمنزلتكم فهم الامرآء و أنتم الوزراء.
فقال الحباب بن المنذر الأنصارى: يا معشر الأنصار املكوا«» على أيديكم فإنّما النّاس في فيئكم و ظلالكم و لن يجترى مجتر على خلافكم و لن تصدر النّاس إلّا عن رأيكم، و أثنى على الأنصار، ثمّ قال: فان أبى هؤلاء تأميركم عليهم فلسنا نرضى بتأميرهم علينا و لا نقنع بدون أن يكون منّا أميرو منهم أمير.
فقام عمر بن الخطاب فقال: هيهات لا يجتمع سيفان في غمد«» واحد انّه لا ترضى العرب أن تأمركم و نبيّها من غيركم لكنّ العرب لا تمتنع أن تولّى أمرها من كانت النّبوة فيهم و أولوا الأمر منهم، و كنا بذلك على من خالفنا الحجّة الظاهرة و السّلطان البيّن فما ينازعنا سلطان محمّد و نحن أولياؤه و عشيرته إلّا مدلّ بباطل أو متجانف«» باثم أو متورّط في الهلكة محبّ للفتنة.
فقام الحباب بن المنذر ثانية فقال: يا معشر الأنصار امسكوا على أيديكم لا تسمعوا مقال هذا الجاهل و أصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، و إن أبوا أن يكون أمير و أمير فاجلوهم عن بلادكم و تولوا هذا الأمر عليهم فأنتم و اللّه أحقّ به منهم فقد دان بأسيافكم قبل هذا الوقت من لم يكن يدين بغيرها و أنا جذيلها«»المحكّك و عذيقها المرجب«» و اللّه لئن ردّ أحد قولى لأحطمنّ أنفه بالسّيف.
قال عمر بن الخطاب: فلما كان حباب هو الذي يجيبني لم يكن لى معه جواب «في كلام خ ل» فانّه جرت بينى و بينه منازعة في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنهاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن مهاترته«» فحلفت أن لا أكلّمه أبدا.
ثمّ قال عمر لأبي عبيدة: تكلّم، فقام أبو عبيدة بن الجراح و تكلّم بكلام كثير و ذكر فيه فضايل الأنصار و كان بشير بن سعد سيّدا من سادات الأنصار لما رأى اجتماع الأنصار على سعد بن عبادة لتأميره حسده و سعى في افساد الأمر عليه و تكلّم في ذلك و رضى بتأمير قريش و حث النّاس كلّهم و لا سيّما الأنصار على الرّضا بما يفعله المهاجرون.
فقال أبو بكر: هذا عمرو أبو عبيدة شيخا قريش فبايعوا أيّهما شئتم.
فقال عمرو أبو عبيدة: ما نتولى هذا الأمر امدد يدك نبايعك.
فقال بشير بن سعد: و أنا ثالثكما، و كان سيد الأوس و سعد بن عبادة سيد الخزرج، فلما رأت الأوس صنيع بشير و ما دعت إليه الخزرج من تأمير سعد، أكبّوا على أبي بكر بالبيعة و تكاثروا على ذلك و تزاحموا فجعلوا يطئون سعدا من شدة الزّحمة و هو بينهم على فراشه مريض، فقال: قتلتموني قال عمر: اقتلوا سعدا قتله اللّه.
فوثب قيس بن سعد فأخذ بلحية عمرو قال: و اللّه يابن صهّاك الجبان في الحروب الفرّار اللّيث في الملاء و الأمن لو حركت منه شعرة ما رجعت في وجهك واضحة«» فقال أبو بكر مهلا يا عمر فانّ الرّفق أبلغ و أفضل، فقال سعد: يابن صهاك و كانت جدّة عمر حبشية: أما و اللّه لو أنّ لي قوّة على النّهوض لسمعتما منّي في سككها زئيرا«» أزعجك«» و أصحابك منها و لا لحقنكما بقوم كنتما فيهم أذنابا أذلّاء تابعين غير متبوعين، لقد اجترئتما، ثمّ قال للخزرج احملونى من مكان الفتنة، فحملوه فأدخلوه منزله، فلما كان بعد ذلك بعث إليه ابو بكر أن قد بايع النّاس فبايع فقال: لا و اللّه حتّى أرميكم لكلّ سهم في كنانتي«» و اخضب منكم سنان رمحي و أضربكم بسيفي ما أقلّت يدي فأقاتلكم بمن تبعني من أهل بيتي و عشيرتي ثمّ و أيم اللّه لو اجتمع الجنّ و الانس علىّ لما بايعتكما أيها الغاصبان حتى أعرض على ربي و أعلم ما حسابي، فلما جاءهم كلامه قال عمر: لا بدّ من بيعته، فقال بشير بن سعد إنّه قد أبى و لجّ و ليس بمبايع أو يقتل و ليس بمقتول حتّى يقتل معه الخزرج و الأوس فاتركوه، فليس تركه بضاير فقبلوا قوله و تركوا سعدا.
فكان سعد لا يصلّى بصلاتهم و لا يقضى بقضائهم و لو وجد أعوانا لصال بهم و لقاتلهم فلم يزل كذلك مدّة ولاية أبي بكر حتّى هلك أبو بكر، ثمّ ولى عمر و كان كذلك فخشى سعد غائلة«» عمر فخرج إلى الشّام فمات بحوران«» في ولاية عمرو لم يبايع أحدا و كان سبب موته أن رمى بسهم في الليل فقتل و زعم أنّ الجنّ رموه، و قيل أيضا إنّ محمّد بن سلمة الانصارى تولى ذلك بجعل جعلت له عليه و روى أنّه تولى ذلك المغيرة بن شعبة و قيل خالد بن الوليد.
قال: و بايع جماعة الأنصار و من حضر من غيرهم و عليّ بن أبي طالب مشغول بجهاز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلما فرغ من ذلك و صلّى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و النّاس يصلّون عليه من بايع أبي بكر و من لم يبايع و جلس في المسجد فاجتمع اليه بنوا هاشم و معهم الزّبير بن العوام، و اجتمعت بنوا اميّة إلى عثمان بن عفان و بنوا زهرة إلى عبد الرّحمان بن عوف فكانوا في المسجد مجتمعين إذ أقبل أبو بكر و عمر و أبو عبيدة بن الجرّاح، فقالوا: ما لنا نريكم خلقا شتى قوموا فبايعوا ابا بكر فقد بايعته الأنصار و النّاس، فقام عثمان و عبد الرّحمان بن عوف و من معهما فبايعوا و انصرف عليّ عليه السّلام و بنو هاشم إلى منزل عليّ و معهم الزّبير.
قال: فذهب إليهم عمر في جماعة ممّن بايع فيهم اسيد بن حصين و سلمة بن سلامة فألفوهم مجتمعين، فقالوا لهم بايعوا أبا بكر فقد بايعه النّاس فوثب الزّبير إلى سيفه فقال عمر عليكم بالكلب العقور فاكفونا شرّه فبادر سلمة بن سلامة فانتزع السّيف من يديه فأخذه عمر فضرب به الأرض فكسره و أحدقوا بمن كان هناك من بني هاشم و مضوا بجماعتهم إلى أبي بكر فلما حضروا، قالوا: بايعوا أبا بكر و قد بايعه النّاس و أيم اللّه لئن أبيتم من ذلك لنحا كمنّكم بالسّيف، فلما رأى ذلك بنو هاشم أقبل رجل رجل فجعل يبايع حتّى لم يبق ممّن حضر إلّا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
فقالوا له: بايع ابا بكر فقال عليّ عليه السّلام: أنا أحقّ بهذا الأمر منه و أنتم أولى بالبيعة لي أخذتم هذا الأمر من الانصار و احتججتم عليهم بالقرابة من الرّسول و تأخذونه منّا أهل البيت غصبا ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأعطوكم المقادة و سلّموا لكم الامارة و أنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم على الانصار، أنا أولى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيّا و ميّتا و أنا وصيّه و وزيره و مستودع سرّه و علمه و أنا الصّديق الاكبر أوّل من آمن به و صدّقه و أحسنكم بلاء في جهاد المشركين و أعرفكم بالكتاب و السنّة و أذربكم«» لسانا و أثبتكم جنانا، فعلام تنازعونا هذا الامر، أنصفونا إن كنتم تخافون اللّه من أنفسكم، و اعرفوا لنا من الامر مثل ما عرفته لكم الانصار و إلّا فبوءوا بالظلم و العدوان و أنتم تعلمون.
فقال عمر: أمالك بأهل بيتك أسوة فقال عليّ عليه السّلام سلوهم عن ذلك، فابتدرالقوم الذين بايعوا من بني هاشم فقالوا: ما بيعتنا بحجّة على عليّ عليه السّلام و معاذ اللّه أن نقول: إنّا نوازيه في الهجرة و حسن الجهاد و المحلّ من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال عمر: إنك لست متروكا حتّى تبايع طوعا أو كرها، فقال عليّ عليه السّلام: احلب حلبا لك شطره اشدد له اليوم ليردّ عليك غدا إذا و اللّه لا أقبل قولك و لا أحفل بمقامكم و لا ابايع، فقال أبو بكر: مهلا يا أبا الحسن ما نشد فيك و لا نكرهك.
فقام أبو عبيدة إلى عليّ عليه السّلام فقال: يا بن عمّ لسنا ندفع قرابتك و لا سابقتك و لا علمك و لا نصرتك، و لكنّك حدث السّن، و كان لعليّ عليه السّلام يومئذ ثلاث و ثلاثون سنة و ابو بكر شيخ من مشايخ قومك و هو أحمل لثقل هذا الامر و قد مضى الامر بما فيه فسلّم له، فان عمّرك اللّه يسلّموا هذا الامر إليك و لا يختلف فيك إثنان بعد هذا إلّا و أنت به خليق و له حقيق و لا تبعث الفتنة في أوان الفتنة فقد عرفت بما في قلوب العرب و غيرهم عليك.
فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: يا معاشر المهاجرين و الانصار، اللّه اللّه لا تنسوا عهد نبيّكم اليكم في أمرى و لا تخرجوا سلطان محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من داره و قعر بيته إلى دوركم و قعر بيوتكم، و لا تدفعوا أهله عن حقّه و مقامه في النّاس فو اللّه يا معاشر الناس «الجمع خ» إنّ اللّه قضى و حكم و نبيّه أعلم و أنتم تعلمون بأنا أهل البيت أحقّ لهذا الامر منكم ما كان «فكان خ» القاري منكم لكتاب اللّه الفقيه في دين اللّه المضطلع«» بأمر الرّعية و اللّه إنّه لفينا لا فيكم فلا تتّبعوا الهوى فتزدادوا من الحقّ بعدا و تفسدوا قديمكم بشرّ من حديثكم.
فقال بشير بن سعد الانصاري الذي وطأ الامر لأبى بكر و قالت جماعة من الانصار: يا أبا الحسن لو كان هذا الكلام سمعته منك الانصار قبل بيعتها «الانتظام خ» لأبى بكر ما اختلف فيك اثنان.
فقال عليّ عليه السّلام: يا هؤلاء كنت أدع الرّسول و هو مسجّى«» لا أواريهو أخرج أنازع في سلطانه، و اللّه ما خفت «خلت ظ» أحدا يسمو«» له و ينازعنا أهل البيت فيه و يستحلّ ما استحللتموه، و لا علمت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ترك يوم غدير خمّ لأحد حجّة و لا لقائل مقالا، فانشد اللّه رجلا سمع يوم غدير خمّ يقول صلّى اللّه عليه و آله: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله، أن يشهد الآن بما سمع.
قال زيد بن أرقم: فشهد اثنا عشر رجلا بدريّا بذلك و كنت ممّن سمع القول من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فكتمت الشّهادة فذهب بصري، قال: و كثر الكلام في هذا المعنى و ارتفع الصّوت و خشى عمر أن يصغى «النّاس خ» الى قول عليّ عليه السّلام ففسخ المجلس و قال: إنّ اللّه يقلّب القلوب و الأبصار و لا تزال يا أبا الحسن ترغب عن قول الجماعة فانصرفوا يومهم ذلك.
و في الاحتجاج أيضا عن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السّلام: جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنكر على أبي بكر فعله و جلوسه مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال عليه السّلام: نعم كان الذى أنكر على أبي بكر اثنى عشر رجلا، من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص و كان من بني امية، و سلمان الفارسي، و أبو ذر الغفاري، و المقداد بن الأسود، و عمّار بن ياسر، و بريدة الأسلمي و من الانصار أبو الهيثم بن التيهان، و سهل، و عثمان ابنا حنيف، و خزيمة بن ثابت، و ذو الشّهادتين، و أبيّ بن كعب، و أبو أيوب الأنصارى، قال: فلمّا صعد أبو بكر المنبر تشاوروا بينهم فقال بعضهم لبعض: و اللّه لنأتينّه و لننزلنه عن منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال آخرون منهم و اللّه لئن فعلتم ذلك إذا لأعنتم«» على أنفسكم، فقد قال اللّه تعالى:
«وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» فانطلقوا بنا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام لنستشيره و نستطلعه على الأمر و نستطلع رأيه، فانطلق القوم إلى أمير المؤمنين عليه السّلام بأجمعهم فقالوا يا أمير المؤمنين: تركت حقّا أنت أحق به و أولى منه، لأنّا سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ يميل مع الحقّ كيف مال، و لقد هممنا أن نصير اليه فنزله عن منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و سلّم، فجئناك لنستشيرك و نستطلع رأيك فيما تأمرنا.
فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: و أيم اللّه لو فعلتم ذلك لما كنتم لهم إلّا حربا و لكنكم كالملح في الزّاد و كالكحل في العين، و أيم اللّه لو فعلتم ذلك لأتيتموني شاهرين أسيافكم مستعدّين للحرب و القتال و إذا لآتوني فقالوا لى: بايع و إلّا قتلناك، فلا بدّ من أن أدفع القوم عن نفسى و ذلك إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو عز«» إلىّ قبل وفاته، و قال لي يا أبا الحسن، إنّ الأمة ستغدر بك من بعدي و تنقض فيك عهدى و إنّك منّي بمنزلة هارون من موسى و إن الامة من بعدي بمنزلة هارون «كهرون خ» و من اتبعه و السّامري و من اتبعه، فقلت يا رسول اللّه فما تعهد إلىّ إذا كان كذلك فقال إن «إذا خ» وجدت أعوانا فبادر إليهم و جاهدهم، و إن لم تجد أعوانا كفّ يدك و احقن دمك حتّى تلحق بي مظلوما، فلما توفّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اشتغلت بغسله و تكفينه و الفراغ من شأنه، ثمّ آليت يمينا أن لا أرتدي إلّا للصّلاة حتّى أجمع القرآن، ففعلت ثمّ أخذت بيد فاطمة و ابنيّ الحسن و الحسين فدرت على أهل بدر و أهل السّابقة فناشدتهم«» اللّه إلى حقّي و دعوتهم إلى نصرتي فما أجابني منهم إلّا أربعة رهط: سلمان، و عمّار، و المقداد، و أبو ذر، و لقدر اودت في ذلك بقية أهل بيتى، فأبوا عليّ إلّا السكوت لما علموا من و غارة«» صدور القوم و بغضهم للّه و لرسوله و لأهل بيت نبيّه، فانطلقوا بأجمعكم إلى هذا الرّجل فعرّفوه ما سمعتم من قول نبيكم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليكون ذلك أو كد للحجّة و أبلغ للعذر و أبعد لهم من رسول اللّه إذا وردوا عليه، فسار القوم حتّى أحدقوا بمنبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان يوم الجمعة، فلمّا صعد أبو بكر المنبر قال المهاجرون للأنصار: تقدّموا فتكلموا، فقال الأنصار للمهاجرين: بل تكلموا أنتم فانّ اللّه عزّ و جل أدناكم في الكتاب اذ قال اللّه عزّ و جلّ: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ بِالنَّبِيِّ عَلَى الْمُهاجِرينَ وَ الْأَنْصارِ» فقال أبان: فقلت: يابن رسول اللّه إنّ الأمة لا تقرء كما عندك، قال و كيف تقرء يا أبان قال: قلت: إنّها تقرء لقد تاب اللّه على النّبيّ و المهاجرين و الانصار فقال عليه السّلام: و يلهم و أىّ ذنب كان لرسول اللّه حتّى تاب اللّه عليه منه إنّما تاب اللّه به على امّته، فأوّل من تكلّم به خالد بن سعيد بن العاص ثمّ باقي المهاجرين ثمّ من بعدهم الانصار، و روي أنّهم كانوا غيّبا عن وفات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقدموا و قد تولى أبو بكر و هم يومئذ أعلام مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
فقام خالد بن سعيد بن العاص و قال: اتّق اللّه يا أبا بكر فقد علمت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال، و نحن محتوشوه«» يوم بني قريظة حين فتح اللّه له و قد قتل عليّ يومئذ عدّة من صناديد«» رجالهم و اولى الباس و النجدة«» منهم: يا معاشر المهاجرين و الانصار إنّي اوصيكم بوصيّة فاحفظوها و مودعكم أمرا فاحفظوه، ألا إنّ عليّ ابن أبي طالب أميركم بعدي و خليفتي فيكم بذلك أوصاني ربّي، ألا و إنّكم إن لم تحفظوا فيه وصيّتي و توازروه و تنصروه اختلفتم في أحكامكم و اضطرب عليكم أمر دينكم و ولاكم شراركم، ألا إن أهل بيتي هم الوارثون لأمرى و العاملون «لمون خ» بأمر امّتي من بعدي، اللّهمّ من أطاعهم من امّتي و حفظ فيهم وصيّتي فاحشرهم في زمرتي و أجعل لهم نصيبا من مرافقتي يدركون به نور الآخرة، اللّهم و من أساءخلافتي في أهل بيتي فاحرمه الجنّة التي عرضها كعرض السّمآء و الارض.
فقال له عمر بن الخطاب: اسكت يا خالد فلست من أهل المشورة و لا من يقتدى برأيه، فقال خالد اسكت أنت يابن الخطاب فانّك تنطق على لسان غيرك و أيم اللّه لقد علمت قريش أنك من الأمها حسبا و أدناها منصبا و أخسّها قدرا و أخملها ذكرا و أقلّهم غناء عن اللّه و رسوله و أنك لجبان في الحروب بخيل في المال لئيم العنصر مالك في قريش من فخر، و لا في الحروب من ذكر و أنّك في هذا الأمر بمنزلة الشّيطان: «إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ» فابلس«» عمرو جلس خالد بن سعيد.
ثمّ قام سلمان الفارسي (رض) و قال: كرديد و نكرديد«» أ فعلتم و لم تفعلوا و امتنع من البيعة قبل ذلك حتّى وجي عنقه فقال يا أبا بكر: إلى من تستند امرك إذا نزل بك ما لا تعرفه و إلى من تفزع إذا سئلت عمّا لا تعلمه فما عذرك في تقدم من هو أعلم منك و أقرب إلى رسول اللّه و أعلم بتأويل كتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من قدّمه النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حياته و أوصاكم به عند وفاته، فنبذتم قوله و تناسيتم وصيّته و أخلفتم الوعد و نقضتم العهد و حلتم العقد الذي كان عقده عليكم من النّفوذ تحت راية اسامة بن زيد حذرا من مثل ما اتيتموه و تنبيها للامة على عظيم ما اجترمتموه «حتموه خ» من مخالفة أمره فعن قليل يصفو لك الأمر و قد أنقلك الوزر و نقلت إلى قبرك و حملت معك ما كسبت يداك فلو راجعت الحقّ من قرب و تلافيت نفسك و تبت إلى اللّه من عظيم ما اجترمت كان ذلك أقرب إلى نجاتك يوم تفرد في حفرتك و يسلّمك ذو و نصرتك، فقد سمعت كما سمعنا و رأيت كما رأينا، فلم يردعك«» ذلك عمّا أنت متشبّث به من هذا الأمر الذي لا عذر لك في تقلّده و لا حظّ للدين و لا للمسلمين في قيامك به، فاللّه اللّه في نفسك فقد أعذر من أنذر، و لا تكن أنت كمن أدبر و استكبر.
ثمّ قام أبو ذر الغفاري فقال: يا معشر قريش أصبتم قباحة «قناعة خ»«» «قباعة خ»«» و تركتم قرابة و اللّه ليرتدن جماعة من العرب و ليشكنّ فيّ هذا الدّين و لو جعلتم هذا الأمر في أهل بيت نبيّكم ما اختلف عليكم سيفان، و اللّه لقد صارت لمن غلب و لتطمحنّ إليها عين من ليس من أهلها، و ليسفكن فيها دماء كثيرة فكان كما قال أبو ذر، ثمّ قال: لقد علمتم و علم خياركم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: الأمر بعدي لعليّ ثمّ لابنيّ الحسن و الحسين ثمّ للطاهرين من ذرّيتي، فأطر حتم قول نبيّكم و تناسيتم ما عهد به إليكم فأطعتم الدّنيا الفانية و نسيتم «بعتم- شريتم خ» الآخرة الباقية التي لا يهرم شبابها و لا يزول نعيمها و لا يحزون أهلها و لا يموت سكّانها بالحقير التّافة«» الفاني الزايل و كذلك الامم من قبلكم كفرت بعد أنبيائها و نكصت على أعقابها و غيّرت و بدلت و اختلفت فساويتموهم حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة، و عمّا قليل يذوقون و بال أمركم و تجزون بما قدّمت أيديكم و ما اللّه بظلّام للعبيد.
ثمّ قال المقداد بن الأسود فقال: يا أبا بكر ارجع عن ظلمك و تب إلى ربّك و ألزم بيتك و ابك على خطيئتك و سلّم الأمر إلى صاحبه الذي هو أولى به منك، فقد علمت ما عقده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في عنقك من بيعته و ألزمك من النّفوذ تحت راية اسامة بن زيد و هو مولاه، و نبّه على بطلان وجوب هذا الأمر ذلك و لمن عضدك.«»
عليه بضمه لكما إلى علم النّفاق و معدن الشنآن و الشّقاق عمرو بن العاص الذي أنزل اللّه فيه على نبيّه: «إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» فلا اختلاف بين أهل العلم أنّها نزلت في عمرو و هو كان اميرا عليكما و على ساير المنافقين في الوقت الذي انفذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في غزاة ذات السّلاسل و أنّ عمروا قلد كما حرس عسكره فأين الحرس إلى الخلافة اتّق اللّه و بادر إلى الاستقالة قبل فوتها فانّ ذلك أسلم لك في حياتك و بعد وفاتك و لا تركن إلى الدّنيا «دنياك خ» و لا تغرّنك قريش و غيرها فعن قليل تضمحلّ عنك دنياك ثمّ تصير إلى ربك فيجزيك بعملك و قد علمت و تيقنت أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام صاحب الأمر بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسلّمه إليه بما جعله اللّه له فانّه أتمّ لسترك و أخفّ لوزرك فقد و اللّه نصحت لك إن قبلت نصحي و إلى اللّه ترجع الأمور.
ثمّ قام بريدة الأسلمى فقال: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون ما ذا لقى الحقّ من الباطل يا أبا بكر أنسيت أم تناسيت و خدعت أم خدعتك نفسك و سوّلت تلك الأباطيل أو لم تذكر ما أمرنا به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تسمية علىّ بامرة«» المؤمنين و النّبيّ بين أظهرنا و قوله له في عدة أوقات هذا عليّ أمير المؤمنين و قاتل القاسطين اتّق اللّه و تدارك نفسك قبل أن لا تدركها و أنقذها ممّا يهلكها و اردد الأمر إلى من هو أحقّ به منك و لا تتمارى«» في اغتصابه و راجع و انت تستطيع أن تراجع فقد محضتك النّصح و دللتك على طريق النّجاة فلا تكوننّ ظهيرا للمجرمين.
ثمّ قام عمّار بن ياسر فقال: يا معاشر قريش و يا معاشر المسلمين إن كنتم علمتم و إلّا فاعلموا أنّ أهل بيت نبيّكم أولى به و أحقّ بارثه و أقوم بامور الدّين و آمن على المؤمنين و أحفظ لملّته و أنصح لامته فمروا صاحبكم فليردّ الحقّ إلىأهله قبل أن يضطرب حبلكم و يضعف أمركم و يظهر شنئانكم و تعظم الفتنة بكم و تختلفوا فيما بينكم و يطمع فيكم عدوّكم، فقد علمتم أنّ بني هاشم أولى بهذا الأمر منكم و عليّ من بينهم وليّكم بعهد اللّه و رسوله، و فرق ظاهر قد عرفتموه في حال بعد حال عند سدّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبوابكم الّتي كانت إلى المسجد كلّها غير بابه و ايثاره إيّاه بكريمته فاطمة الزّهراء دون ساير من خطبها إليه منكم، و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنا مدينة الحكمة و عليّ بابها فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها، و إنكم جميعا مضطرّون فيما اشكل عليكم من امور دينكم إليه، و هو مستغن عن كلّ أحد منكم إلى ما له من السّوابق التي لأفضلكم عند نفسه فما بالكم تحيدون«» عنه و تبتزّون«» عليّا حقّه «و تغيرون على حقه خ»«» و تؤثرون الحياة الدّنيا على الآخرة بئس للظالمين بدلا اعطوه ما جعله اللّه و لا تولّوا مدبرين و لا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين.
ثمّ قام ابيّ بن كعب فقال: يا أبا بكر لا تجحد حقّا جعله اللّه لغيرك و لا تكن أوّل من عصى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في وصيّة «و صفيه خ» و صدف عن أمره، اردد الحقّ إلى أهله تسلم و لا تتماد في غيّك فتندم و بادر إلى الانابة يخفف وزرك و لا تخصصنّ بهذا الأمر الذي لم يحلّه «يجعله خ» اللّه لك نفسك فتلقى و بال عملك، فعن قليل تفارق ما أنت فيه و تصير إلى ربّك فيسألك عمّا جنيت، و ما ربّك بظلّام للعبيد.
ثمّ قام خزيمة بن ثابت فقال: أيّها النّاس أ لستم تعلمون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل شهادتي وحدي و لم يرد معي غيري قالوا: بلى، قال: فاشهد أنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: أهل بيتي يفرقون بين الحقّ و الباطل، و هم الأئمة الذين يقتدى بهم و قد قلت ما علمت و ما على الرّسول إلّا البلاغ المبين.
ثمّ قام أبو الهيثم بن التّيهان فقال: و أنا أشهد على نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه أقام عليّا عليه السّلام يعني في يوم غدير خمّ فقالت الأنصار: ما أقامه إلّا للخلافة، و قال بعضهم: ما أقامه إلّا ليعلم النّاس أنّه مولى من كان رسول اللّه مولاه، و كثر الخوض في ذلك فبعثنا رجالا منا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسألوه عن ذلك فقال لهم قولوا: علي وليّ المؤمنين بعدي و أنصح النّاس لامتي و قد شهدت بما حضرني فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر إنّ يوم الفصل كان ميقاتا.
ثمّ قام سهل بن حنيف فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النّبيّ محمّد و آله ثمّ قال: يا معاشر قريش اشهدوا على أنّي أشهد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد رأيته في هذا المكان يعني الروضة«» و قد أخذ بيد عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و هو يقول: أيّها النّاس هذا عليّ إمامكم من بعدي و وصيّتي في حياتي و بعد وفاتي و قاضي ديني و منجز وعدي و أوّل من يصافحني على حوضي فطوبى لمن اتّبعه و نصره و الويل لمن تخلّف عنه و خذله.
ثمّ قام من بعده أخوه عثمان بن حنيف فقال: سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: أهل بيتي نجوم الأرض فلا تتقدّموهم و قدّموهم، فهم الولاة بعدي. فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللّه و أىّ أهل بيتك فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّ و الطاهرين من ولده، و قد بيّن عليه السّلام فلا تكن يا أبا بكر أوّل كافر به فلا تخونوا اللّه و الرّسول و تخونوا أمانتكم و أنتم تعلمون.
ثمّ قام أبو أيّوب الأنصاري فقال: اتّقوا اللّه عباد اللّه في أهل بيت نبيّكم و ارددوا إليهم حقهم الذي جعله اللّه لهم، فقد سمعتم مثل ما سمع إخواننا في مقام بعد مقام لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و مجلس بعد مجلس يقول: أهل بيتي أئمتكم بعدي و يؤمي إلى عليّ عليه السّلام يقول: هذا أمير البررة و قاتل الكفرة، مخذول من خذله منصور من نصره فتوبوا إلى اللّه من ظلمكم إنّ اللّه تواب رحيم، و لا تتولوا عنه مدبرين، و لا تتولّوا عنه معرضين.
قال الصّادق عليه السّلام فافحم«» أبو بكر على المنبر حتّى لم يحر«» جوابا ثمّ، قال وليتكم و لست بخيركم أقيلوني أقيلوني.
فقال له عمر بن الخطاب: انزل عنها يا لكع«» إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لهم أقمت نفسك هذا المقام و اللّه لقد هممت أن أخلعك و أجعلها في سالم مولى أبي حذيفة، قال فنزل ثمّ أخذ بيده و انطلق إلى منزله و بقى ثلاثة أيّام لا يدخلون مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
فلما كان في اليوم الرّابع جاءهم خالد بن الوليد و معه ألف رجل فقال لهم: ما جلوسكم فقد طمع فيها و اللّه بنو هاشم، و جاءهم سالم مولى أبي حذيفة و معه ألف رجل، و جاءهم معاذ بن جبل و معه ألف رجل فما زال يجتمع رجل رجل حتّى اجتمع أربعة آلاف رجل فخرجوا شاهرين أسيافهم يقدمهم عمر بن الخطاب حتّى وقفوا بمسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال عمرو الله يا أصحاب عليّ لئن ذهب الرّجل منكم يتكلّم بالذي تكلّم به بالأمس لنأخذنّ الذي فيه عيناه.
فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص و قال يابن صهّاك الحبشية أ فبأسيافكم تهدّدونا أم بجمعكم تفزعونا و الله إنّ أسيافنا أحدّ من أسيافكم و إنّا لأكثر منكم و إن كنا قليلين لأنّ حجّة الله فينا و الله لو لا أني أعلم أنّ طاعة الله و طاعة رسوله و طاعة إمامي أولى بي لشهرت سيفي و جاهدتكم في الله إلى أن أبلى«» عذري، فقال «له خ» أمير المؤمنين عليه السّلام: اجلس يا خالد فقد عرف لك مقامك. و شكر لك سعيك، فجلس.
و قام إليه سلمان الفارسي فقال الله أكبر الله أكبر سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إلّا صمّتا«» يقول: بينا أخي و ابن عمّي جالس في مسجدي و معه نفر منأصحابه إذ تكبسه«» جماعة من كلاب أهل النّار يريدون قتله و قتل من معه، و لست أشك إلّا و أنّكم هم، فهمّ به عمر بن الخطاب، فوثب إليه أمير المؤمنين عليه السّلام و أخذ بمجامع ثوبه ثمّ جلد«» به الأرض ثمّ قال: يابن صهّاك الحبشيّة لو لا كتاب من الله سبق و عهد من الله تقدّم لأريتك أيّنا أضعف ناصرا و أقلّ عددا، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: انصرفوا رحمكم اللّه فو اللّه لا دخلت المسجد إلّا كما دخل أخواى موسى و هارون إذ قال له أصحابه: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» و اللّه لادخلته إلّا لزيارة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو لقضيّة أقضيها، فإنّه لا يجوز لحجة أقامه رسول اللّه أن يترك النّاس في حيرة.
و فى الاحتجاج أيضا عن عبد اللّه بن عبد الرّحمان قال: إنّ عمر احتزم«» بازاره و جعل يطوف بالمدينة و ينادي ألّا إنّ أبا بكر قد بويع فهلمّوا إلى البيعة فينثال«» النّاس يبايعون فعرف أنّ جماعة في بيوت مستترون فكان يقصدهم في جمع كثير فيكبسهم و يحضرهم المسجد فيبايعون حتّى إذا مضت أيّام أقبل في جمع كثير إلى منزل عليّ عليه السّلام فطالبه بالخروج فأبى، فدعا عمر بحطب و نار، و قال و الذي نفس عمر بيده ليخرجنّ أولا حرقنه على ما فيه، فقيل له: إنّ فاطمة بنت رسول اللّه و ولد رسول اللّه و آثار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيه، و أنكر النّاس ذلك من قوله فلما عرف إنكارهم قال: ما بالكم أ تروني فعلت ذلك إنّما أردت التّهويل فراسلهم عليّ عليه السّلام أن ليس إلى خروجي حيلة، لأني في جمع كتاب اللّه الذي قد نبذتموه و ألهتكم«» الدّنيا عنه،و قد خلفت أن لا أخرج من بيتي و لا ادع ردائي على عاتقى حتّى أجمع القرآن، قال: و خرجت فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليهم فوقفت على الباب، ثمّ قالت لا عهد لي بقوم أسوء محضرا منكم تركتم رسول اللّه جنازة«» بين أيدينا و قطعتم أمركم فيما بينكم و لم تؤامرونا و لم تروا لنا حقّا، كأنكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خم، و اللّه لقد عقد له يومئذ الولاء ليقطع منكم بذلك منها الرّجاء، و لكنكم قطعتم الأسباب و اللّه حسيب بيننا و بينكم في الدّنيا و الآخرة.
و في غاية المرام من كتاب سليم بن قيس الهلالى و هو كتاب مشهور معتمد نقل منه المصنّفون في كتبهم و هو من التّابعين رأي عليّا و سلمان و أبا ذر و في مطلع كتابه ما هذه صورته: فهذه نسخة كتاب سليم بن قيس الهلالي رفعه إلى أبان بن أبي عيّاش و قرأه عليّ عليه السّلام و ذكر أبان أنّه قرأ على عليّ بن الحسين عليه السّلام فقال صدق سليم هذا حديثنا نعرفه، قال سليم: سمعت سلمان الفارسي أنّه قال: فلما أن قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صنع النّاس ما صنعوا جالهم ابو بكر و عمر و أبو عبيدة بن الجرّاح و خاصموا الأنصار بحجّة عليّ عليه السّلام فخصموهم فقالوا يا معاشر الأنصار قريش أحقّ بالأمر منكم، لأنّ رسول اللّه من قريش، و المهاجرون خير منكم لأنّ اللّه سبحانه بدء بهم في كتابه و فضلهم، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الأئمة من قريش.
قال سلمان: فأتيت و هو يغسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد كان أوصى عليّا أن لا يلي غسله إلّا هو، فقال: يا رسول اللّه و من يعينني عليك فقال: جبرئيل عليه السّلام، و كان عليّ عليه السّلام لا يريد عضوا إلّا انقلب له، فلما غسّله و كفّنه أدخلني و أدخل أبا ذر و المقداد و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام، فتقدّم علي عليه السّلام وصفنا خلفه و صلّى عليه و عايشة في الحجرة لا تعلم، ثمّ ادخل عشرة من المهاجرين و عشره من الأنصار يدخلون فيدعون ثمّ يخرجون «فيصلّون و يخرجون خ» حتّى لم يبق أحد من المهاجرين و الأنصار إلّا صلّى عليه.
قال سلمان: فأتيت عليّا و هو يغسل «قلت لعليّ عليه السّلام حين يغسل خ» رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبرته بما صنع النّاس فقلت: إنّ أبا بكر السّاعة قد رقى منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يرضوا أن يبايعوه بيد واحدة و أنّهم ليبايعونه بيديه جميعا بيمينه و شماله، فقال عليه السّلام: يا سلمان و هل تدري أوّل من بايعه على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلت: لا إلّا أنّى رأيت «رأيته خ» في ظلّة بني ساعدة حين خصمت الأنصار فكان «و كان خ» أوّل من بايعه المغيرة بن شعبة، ثمّ بشير بن سعد، ثمّ أبو عبيدة بن الجرّاح ثمّ عمر بن الخطاب، ثمّ سالم مولى أبي حذيفة، و معاذ بن جبل، قال: لست أسألك عن هؤلاء و لكن هل تدرى أوّل من بايعه حين صعد المنبر قال «قلت خ»: لا و لكن رأيت شيخا كبيرا متوكيّا على عصا بين عينيه سجّادة شديد التشمير صعد المنبر «أول من صعد خ» و هو يبكى و «هو خ» يقول: الحمد للّه الذي لم يمتني حتّى رأيتك في هذا المكان ابسط يدك، فبسط يده فبايعه، ثمّ نزل فخرج من المسجد.
فقال عليّ عليه السّلام: و هل تدري يا سلمان من هو قلت: و قد سائتني مقالته كأنّه شامت بموت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال علي عليه السّلام: فانّ ذلك إبليس لعنة الله عليه «اخبرنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خ» انّ إبليس و أصحابه شهدوا نصب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إيّاى بغدير خمّ لمّا أمره اللّه تعالى و أخبرهم أنّي أوّلى بهم من أنفسهم و أمرهم أن يبلغ الشّاهد الغائب، فأقبل إلى إبليس أبا لسته و مردة أصحابه، فقالوا: هذه الامة مرحومة معصومة لا لك و لا لنا عليهم سبيل قد اعلموا مقرّهم و إمامهم «علموا امامهم و مصرعهم خ» بعد نبيّهم فانطلق ابليس آيسا حزينا.
قال فأخبرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد ذلك«» و قال تبايع النّاس ابا بكر في ظلة بني ساعدة حتّى ما يخاصمهم«» بحقّنا و حجّتنا، ثمّ يأتون المسجد فيكون أوّل من يبايعه على منبري إبليس في صورة شيخ كبير مستبشر يقول له: كذا و كذا ثمّ يخرج فيجمع أصحابه و شياطينه و أبا لسته فيخرّون سجدا فينخر و يكسع، ثم يقول: كلّا زعمتم أن ليس لي عليهم سلطان و لا سبيل فكيف رأيتموني صنعت بهم حتّى تركوا ما أمرهم اللّه به من طاعته و أمرهم به رسول اللّه و ذلك قول اللّه تعالى: «وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» قال سلمان: فلمّا كان الليل حمل فاطمة على حمار و أخذ بيد الحسن و الحسين عليهما السّلام فلم يدع أحدا من أهل بدر من المهاجرين و لا من الأنصار إلّا أتاه في منزله و ذكره حقّه و دعاه إلى نصرته فما استجاب له إلّا أربعة و أربعون رجلا فأمرهم أن يصبحوا محلقين رؤوسهم و معهم سلاحهم على أن يبايعوه على الموت و أصبحوا لم يوافقه منهم إلّا أربعة، فقلت لسلمان: من الاربعة قال: أنا و أبو ذر و المقداد و الزّبير بن العوام، ثمّ عاودهم ليلا يناشدهم، فقالوا: نصحبك بكرة فما أتاه منهم أحد غيرنا فلمّا رأى عليّ عليهم السّلام غدرهم و قلّة وفائهم لزم بيته و أقبل على القرآن يؤلفه و يجمعه، فلم يخرج من بيته حتّى جمعه و كان المصحف في القرطاس و الاسيار«» و الرّقاع.
فلما جمع كلّه و كتبه على تنزيله و النّاسخ و المنسوخ و بعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع فبعث إليه عليّ عليه السّلام إنّي مشغول، و لقد آليت على نفسي يمينا أن لا ارتدي برداء إلّا للصّلاة حتّى اؤلف القرآن و أجمعه، فجمعه في ثوب واحد و ختمه ثمّ خرج إلى النّاس و هم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنادى بأعلى صوته: يا أيّها النّاس إنّي لم أزل منذ قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مشغولا بغسله، ثمّ بالقرآن حتّى جمعته كلّه في هذا الثّوب الواحد فلم ينزل اللّه على رسوله آية إلّا و قد جمعتها، و ليست منه آية إلّا و قد أقرئني «أقرئنيها خ» إياها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و علّمني تأويلها.
«ثمّ قال عليّ عليه السّلام لئلا تقولوا غدا إنا كنا عن هذا غافلين خ» ثمّ قال عليّ عليه السّلام لا تقولوا يوم القيامة إنّي لم أدعكم إلى نصرتي و لم أذكركم حقي، «ثمّ قال عليّ عليه السّلام لئلا تقولوا غدا إنا كنا عن هذا غافلين خ» ثمّ قال عليّ عليه السّلام لا تقولوا يوم القيامة إنّي لم أدعكم إلى نصرتي و لم أذكركم حقي، فأدعوكم إلى كتاب اللّه من فاتحته إلى خاتمته، فقال عمر: ما أغنانا بما معنا من القرآن عمّا تدعونا إليه، ثمّ دخل عليّ عليه السّلام بيته، فقال عمر لأبي بكر: أرسل إلى عليّ فلسنا في شيء حتّى يبايع و لو قد بايع آمنّا، فأرسل إليه أبو بكر أجب خليفة رسول اللّه، فأتاه الرّسول فقال له ذلك، فقال له علي عليه السّلام: ما أسرع ما كذبتم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّه ليعلم و يعلم الذين حوله أنّ اللّه و رسوله لم يستخلف غيري، فذهب الرّسول فأخبره بما قال له، فقال: اذهب فقل له أجب أمير المؤمنين أبا بكر، فأتاه فأخبره بذلك، فقال له عليّ عليه السّلام: سبحان اللّه و اللّه ما طال العهد فينسى، و اللّه إنّه ليعلم أنّ هذا الاسم لا يصلح إلّا لي و قد أمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو سابع سبعة فسلّموا عليه «علي خ» بامرة المؤمنين فاستفهمه هو و صاحبه من بين السّبعة، و قالا: أحقّ من اللّه و رسوله قال رسول اللّه: نعم حقّا حقّا من اللّه و من رسوله إنّه أمير المؤمنين و سيّد المسلمين و صاحب لواء «الغر خ» المحجّلين يقعده اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة على الصّراط فيدخل أوليائه الجنّة و أعدائه النّار، فانطلق الرّسول فأخبره بما قال فسكتوا عنه يومهم ذلك.
فلمّا كان الليل حمل عليّ فاطمة و أخذ بيد ابنيه الحسن و الحسين عليهم السّلام فلم يدع أحدا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا أتاه في منزله فناشدهم اللّه حقه و دعاهم إلى نصرته، فما استجاب له منهم أحد غير الأربعة فانّا حلقنا رؤوسنا و بذلنا نصرتنا و كان الزّبير أشدّ نصرة فلما رأى عليّ عليه السّلام خذلان النّاس له و تركهم نصرته و اجتماع كلمتهم مع أبي بكر و تعظيمهم له لزم بيته.
و قال عمر لأبي بكر: ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع فإنّه لم يبق أحد إلّا و قد بايع غيره و غير هؤلاء الأربعة، و كان أبو بكر أرقّ الرّجلين و أرفقهما و أدهاهما و أبعدهما غورا، و الآخر أفظّهما و أجفاهما، فقال له أبو بكر: من ترسل إليه فقال عمر: نرسل إليه قنفذا و كان رجلا فظّا غليظا جافا من الطلقاء أحد بني عديّ بن كعب، فأرسله إليه و أرسله معه أعوانا فانطلق فاستأذن على عليّ عليه السّلام، فأبى أن يأذن لهم فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر و عمروهما في المسجد و النّاس حولهما، فقالوا: لم يؤذن لنا، فقال عمر: اذهبوا فان أذن لكم و إلّا فادخلوا عليه من غير إذن، فانطلقوا فاستاذنوا فقالت فاطمة عليها السّلام أحرّج«» عليكم أن تدخلوا على بيتي بغير اذني فرجعوا فثبت القنفذ الملعون، فقالوا: إنّ فاطمة قالت لنا كذا و كذا فحرّجتنا أن ندخل بيتها من غير اذن، فغضب عمر فقال: ما لنا و للنّسآء.
ثمّ أمر أناسا حوله يحملون حطبا فحملوا الحطب و حمار عمر معهم فجعلوه حول بيت عليّ عليه السّلام و فيه عليّ و فاطمة و ابناهما صلوات اللّه عليهم، ثمّ نادى عمر حتّى أسمع عليّا و فاطمة: و اللّه لتخرجنّ يا عليّ و لتبايعنّ خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إلّا أضرمت عليك بيتك ارا، ثمّ رجع قنفذ إلى أبي بكر و هو متخوّف أن يخرج عليّ إليه بسيفه لما يعرف من بأسه و شدّته، فقال أبو بكر لقنفذ: ارجع فان خرج و إلّا فاهجم «فاقتحم خ» عليه بيته، فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم نارا.
فانطلق القنفذ الملعون فاقتحم هو و أصحابه بغير اذن و سار «ثارخ» عليّ عليه السّلام إلى سيفه و سبقوه إليه و هم كثيرون فتناول بعضهم سيفه و كاثروه«» فألقوا في عنقه حبلا و حالت بينهم و بينه فاطمة عليهما السلام عند باب البيت فضربها قنفذ لعنه اللّه بسوط كان معه فماتت صلوات اللّه عليها و أنّ في عضدها مثل الدماليج «الدملج خ»«» من ضربته ثمّ انطلق به يعتل«» عتلا حتّى انتهى إلى أبي بكر، و عمر قائم بالسّيف على رأسه و خالد بن الوليد و أبو عبيدة بن الجرّاح و سالم مولى أبى حذيفة و معاذ بن جبل و المغيرة بن شعبة و اسيد بن حصين و بشير بن سعد و ساير النّاس حول أبى بكر عليهم السلاح.
قال: قلت لسلمان: أدخلوا على فاطمة بغير إذن قال: اي و اللّه ما عليها خمار فنادت وا أبتاه و الرسول اللّه يا أبتاه لبئس ما خلفك أبو بكر و عمر و عيناك لم تنفقيا في قبرك تنادى بأعلى صوتها، فلقد رأيت أبا بكر و من حوله يبكون و ينتحبون و ما فيهم إلّا باك غير عمر و خالد بن الوليد و المغيرة بن شعبة و عمر يقول: إنّا لسنا من النّسآء و رأيهنّ في شيء.
قال فانتهوا به إلى أبي بكر و هو يقول: أما و اللّه لو وقع سيفي في يدي لعلمتم أنكم لن تصلوا إلى هذا أبدا و اللّه لم ألم نفسي في جهادكم لو كنت استمكنت من الأربعين لفرقت جماعتكم و لكن لعن اللّه أقواما بايعوني ثمّ خذلوني و قد كان قنفذ لعنه اللّه حين ضرب فاطمة بالسّوط حين حالت بينه و بين زوجها أرسل إليه عمر إن حالت بينك و بينه فاطمة فاضربها، فاجأها قنفذ لعنه اللّه إلى عضادة باب بيتها و دفعها فكسر لها ضلعا من جنبها و ألقت جنينا من بطنها، فلم تزل صاحبة فراش حتّى ماتت صلوات اللّه عليها من ذلك شهيدة.
قال: فلما انتهى بعليّ إلى أبي بكر انتهره عمر و قال له: بايع، فقال له عليّ عليه السّلام إن أنا لم ابايع فما أنتم صانعون قالوا نقتلك ذلا و صغارا، فقال: إذا تقتلون عبد اللّه و أخا رسول اللّه، فقال أبو بكر: أمّا عبد اللّه فنعم، و أمّا أخو رسول اللّه فما نعرفك «نقر لك خ» بهذا، قال عليه السّلام: أتجحد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آخا بيني و بينه قال: نعم، فأعاد ذلك عليه ثلاث مرات.
ثمّ أقبل عليهم عليّ عليه السّلام، فقال: يا معاشر المسلمين و المهاجرين و الأنصار انشدكم اللّه أسمعتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول يوم غدير خمّ: كذا و كذا و في غزوة تبوك كذا و كذا فلم يدع شيئا قال «قاله فيه خ» له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علانية للعامة إلّا ذكرهم إيّاه «إياها خ» قالوا: اللّهمّ نعم: فلمّا أن تخوف أن ينصره النّاس و أن يمنعوه منه بادرهم، فقال له: كلما قلت حقّ قد سمعناه بآذاننا و عرفناه و وعته قلوبنا و لكن سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول بعد هذا: إنّا اهل بيت اصطفانا اللّه تعالى و اختار لنا الآخرة على الدّنيا فانّ اللّه لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النّبوة و الخلافة، فقال عليّ عليه السّلام: هل أحد من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شهد هذا معك فقال عمر: صدق خليفة رسول اللّه قد سمعته منه كما قال.
قال: و قال أبو عبيدة و سالم مولى أبى حذيفة و معاذ بن جبل: قد سمعنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال علي عليه السّلام لقد وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي تعاهدتم «قد تعاقدتم خ» عليها في الكعبة إن قتل اللّه محمّدا أو مات لتزوون«» هذا الأمر عنّا أهل البيت، فقال أبو بكر: فما علمك بذلك اطلعناك عليها، فقال عليّ عليه السّلام يا زبير و أنت يا سلمان و أنت يا أبا ذر و أنت يا مقداد أسألكم باللّه و بالاسلام أسمعتم رسول اللّه يقول ذلك و أنتم تسمعون إنّ فلانا و فلانا حتّى عدّ هؤلاء الاربعة «الخمسة» قد كتبوا بينهم كتابا و تعاهدوا فيه و تعاقدوا ايمانا على ما أنت قتلت أو متّ أن يتظاهروا عليك و أن يزووا عنك هذا الأمر يا عليّ فقلت: بأبي أنت يا رسول اللّه فما تأمرني إذا كان ذلك، فقال إن وجدت عليهم أعوانا فجاهدهم و نابذهم، و إن لم تجد أعوانا فبايع و احقن دمك.
فقال عليه السّلام: أما و الله لو أنّ اولئك الأربعين رجلا الذين بايعوني و فوالي لجاهدتكم في الله، فقال عمر: أما و اللّه لا ينالها أحد من أعقابكم إلى يوم القيامة ثمّ نادى علي عليه السّلام قبل أن يبايع و الحبل في عنقه: «ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي» ثمّ تناول يد أبي بكر فبايع، و قيل للزّبير: بايع فأبى فوثب إليه عمر و خالد بن الوليد و المغيرة بن شعبة و اناس معهم فانتزعوا سيفه فضربوا به الأرض حتّى كسروه ثم لبّبوه«» فقال الزّبير و عمر على صدره: يابن صهّاك أما و الله لو أنّ سيفي في يدي لحدت«»عنّي ثمّ بايع.
قال سلمان ثمّ أخذوني فوجئوا عنقي حتّى تركوه كالسّلعة ثمّ أخذ و ايدى فبايعت مكرها، ثمّ بايع أبو ذر و المقداد مكرهين و ما من أحد بايع مكرها غير عليّ و أربعتنا و لم يكن أحد منّا أشدّ قولا من الزّبير، فانّه لما بايع قال: يابن صهّاك أما و الله لو لا هؤلاء الطغاة الذين اعانوك لما كانت تقدم علىّ و معي سيفي لما اعرف من جنبك و لو مك، و لكن وجدت طغاة تقوى بهم و تصول بهم، فغضب عمر فقال: أتذكر صهّاك فقال: و من صهّاك و من «ما خ» يمنعني من ذكرها و قد كانت صهّاك زانية و تنكر ذلك أو ليس كانت أمة لجدّي عبد المطلب فزنى بها جدّك نفيل فولدت أباك الخطاب فوهبها عبد المطلب لجدّك بعد ما ولدته و أنّه لعبد جدي ولد زنا، فأصلح ابو بكر بينهما و كفّ كلّ واحد منهما عن صاحبه.
قال سليم: فقلت لسلمان: فبايعت أبا بكر و لم تقل شيئا قال: بلى قد قلت بعد ما بايعت: تبّالكم ساير الدّهر لو تدرون ما صنعتم بأنفسكم أصبتم و أخطأتم أصبتم سنّة الأولين «من كان قبلكم من الفرقة و الاختلاف خ» و أخطأتم سنّة نبيّكم حين أخرجتموها من معدنها و أهلها فقال عمر: أمّا إذا قد بايعت يا سلمان فقل ما شئت و افعل ما بدا لك و ليقل صاحبك ما بدا له، قال سلمان: قلت إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إنّ عليك و على صاحبك الذي بايعته مثل ذنوب امته إلى يوم القيامة و مثل عذابهم جميعا، فقال عمر قل ما شئت أليس قد بايعت و لم يقر اللّه عينك بأن يلبسها صاحبك، فقلت اشهد أنّي قرأت في بعض كتب اللّه إنّك باسمك و صفتك باب من أبواب جهنم، فقال: قل ما شئت أليس قد أزالها اللّه عن أهل البيت الذين اتّخذتموهم أربابا فقلت: إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول و قد سألته عن هذه الآية: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ» فأخبرني بأنّك أنت هو، فقال لي: عمرة اسكت أسكت اللّه نأمتك«» أيّها العبد ابن اللّخناء، فقال لي عليّ عليه السّلام: اسكت يا سلمان فو اللّه لو لم يأمرني عليّ بالسّكوت لخبرته بكلّ شيء نزل فيه و كلّ شيء سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيه و في صاحبه، فلمّا رآني عمر قد سكّت قال لي: إنّك له لمطيع مسلّم فلمّا أن بايع أبو ذر و المقداد و لم يقولا شيئا قال عمر: ألا كففت كما كفّ صاحباك و اللّه ما أنت أشدّ حبّا بأهل هذا البيت منهما و لا أشدّ تعظيما لحقّهم منهما و قد كفّا كما ترى و قد بايعا.
فقال أبو ذر: أفتعيّرنا يا عمر بحبّ آل محمّد عليهم السّلام و تعظيمهم و قد فعل من أبغضهم و افترى عليهم و ظلمهم حقّهم و حمل النّاس على رقابهم و ردّ هذه الامة القهقرى على أدبارهم، فقال عمر: آمين لعن اللّه من ظلمهم حقّهم لا و اللّه ما لهم فيها من حقّ و ما هم فيها و عرض النّاس إلّا سواء، قال: لم خاصمت الأنصار بحقّها فقال عليّ عليه السّلام لعمر: يابن صهاك فليس لنا فيها حقّ و هي لك و لابن آكلة الذّبان، فقال عمر كفّ يا أبا الحسن إذ قد بايعت: فانّ العامة رضوا بصاحبي و لم يرضوا بك فما ذنبي، فقال علي عليه السّلام: لكن اللّه و رسوله لم يرضيا إلّا بي فابشر أنت و صاحبك و من اتّبعكما و وازر كما بسخط اللّه و عذابه و خزيه و يلك يابن الخطاب لو ترى ما ذا جنيت على نفسك و على صاحبك فقال أبو بكر يا عمر أما إذا بايع و امنّا شرّه و فتكه و غائلته فدعه يقول ما شاء.
فقال عليّ عليه السّلام: لست قائلا غير شيء واحد اذكركم باللّه أيّها الأربعة قال لسلمان و الزّبير و أبي ذر و المقداد، أسمعتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إن تابوتا من نار فيه اثنى عشر ستّة من الأولين و ستّة من الآخرين في قعر جهنّم في جبّ في تابوت مقفّل على ذلك الجبّ صخرة فاذا أراد اللّه أن يسعر جهنّم كشفت تلك الصّخرة عن ذلك الجبّ فاسعرت جهنّم من وهج ذلك الجبّ و من حرّه، قال عليّ عليه السّلام فسألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنتم شهود، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أمّا الأوّلون فابن آدم الذي قتل أخاه، و فرعون ذو الفراعنة، و الذي حاجّ ابراهيم في ربّه، و رجلان من بني اسرائيل بدّلا كتابهم و غيّر اسنّتهم، أما أحدهما فهوّد اليهود و الآخر نصّر النصارى، و عاقر النّاقة، و قاتل يحيى بن زكرّيا، و الدّجال في الآخرين و هؤلاء الأربعة أصحاب الكتاب«» و جبتهم و طاغوتهم الذي تعاهدوا عليه و تعاقدوا على عداوتك يا أخى و يتظاهرون عليك هذا و هذا حتّى عدّهم و سمّاهم.
قال: فقلنا: صدقت نشهد أنّه قد سمعنا ذلك من رسول اللّه، فقال عثمان: يا أبا الحسن أما عندك فيّ حديث فقال عليّ عليه السّلام: بلى لقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يلعنك ثمّ لم يستغفر لك بعد «منذ خ» لعنك، فغضب عثمان ثمّ قال: مالي و مالك لا تدعني على حال كنت على عهد النّبي صلّى اللّه عليه و آله و لا بعده، فقال له عليّ عليه السّلام: فارغم أنفك ثم قال له عثمان لقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول إنّ الزّبير يقتل مرتدا.
قال سلمان: فقال لي علي عليه السّلام فيما بيني و بينه: صدق عثمان، و ذلك انه يبايعني بعد قتل عثمان ثم ينكث بيعتي فيقتل مرتدا. قال سلمان: فقال عليّ عليه السّلام إنّ الناس كلّهم ارتد و ابعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غير أربعة، إنّ النّاس صاروا بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمنزلة هارون و من تبعه و منزلة العجل و من تبعه فعلي عليه السّلام في شبه هارون، و عتيق«» في شبه العجل، و عمر في شبه السّامري. و سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: ليجيء قوم من أصحابي من أهل العلية و المكانة منّي ليمرّوا على الصّراط فاذا رأيتهم و رأوني و عرفتهم و عرفوني اختلجوا دوني فأقول يا ربّ أصحابي أصحابي فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك إنّهم ارتدّوا على أدبارهم حيث فارقتهم، فأقول بعدا و سحقا.
و سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: لتركبنّ أمّتي سنّة بني إسرائيل حذو النعل بالنّعل و القذّة بالقذّة شبرا بشبر باعا بباع و ذراعا بذراع حتّى لو دخلوا جحرا لدخلوا فيه معهم و انّه كتب التّوراة و القرآن ملك واحد في رقّ واحد و جرت الأمثال و السّنن.
أقول: هذه الرّواية رواها الطبرسيّ أيضا في الاحتجاج و المحدّث المجلسي (ره) في المجلّد الثامن من بحار الانوار بنقصان في الأوّل و زيادة في الثّاني و تغيير يسير في غير الزّايد و النّاقص، و كانت نسخة غاية المرام التي عندنا غير خالية من الغلط و التّحريف يسيرا في متن الرّواية فاصلحناها من نسختى الاحتجاج و البحار بما رأيناه أصلح و أنسب، فلو وجدت فيما رويناه شيئا غير مطابق لما في الاصل«» فسرّه ما ذكرناه و لا تحملنّه على التقصير في الضّبط و النّقل و اللّه الهادي.
و في البحار من رجال الكشى عن عليّ بن الحكم عن ابن عميرة عن أبي بكر الحضرمي قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: ارتدّ النّاس إلّا ثلاثة نفر: سلمان و أبو ذر و المقداد، قال: قلت: فعمار، قال قد كان حاص«» حيصة ثم رجع، ثم قال: إن أردت الذي لم يشكّ و لم يدخله شكّ فالمقداد، فأمّا سلمان فانّه عرض في قلبه عارض إنّ عند أمير المؤمنين عليه السّلام اسم اللّه الأعظم لو تكلّم به لأخذتهم الأرض و هو هكذا فلبّب و وجيت حتّى تركت كالسّلعة، فمرّ به أمير المؤمنين عليه السّلام فقال له، يا أبا عبد اللّه هذا من ذلك بايع فبايع، و أمّا أبو ذر فأمره أمير المؤمنين عليه السّلام بالسكوت و لم يكن يأخذه في اللّه لومة لائم فأبى إلّا أن يتكلّم فمرّ به عثمان فأمر به، ثم أناب النّاس بعد و كان أوّل من أناب أبو ساسان الأنصاري و أبو عمرة و شتيرة و كان نواظره سبعة فلم يكن يعرف حقّ أمير المؤمنين عليه السّلام إلّا هؤلاء السّبعة.
أقول: أبو ساسان اسمه الحصين بن المنذر بالحاء المهملة المضمومة و الصّاد المهملة، و أبو عمرة من الأنصار أيضا اسمه ثعلبة بن عمرو، و شتيرة يقال له سمير أيضا صاحب راية عليّ عليه السّلام بصفين و قتل هناك مع اخوته قاله في الخلاصة.
و من كتاب الاختصاص للمفيد باسناده عن عمرو بن ثابت قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قبض ارتدّ النّاس على أعقابهم كفّارا إلّا ثلاثة: سلمان و المقداد و أبو ذر الغفاري انّه لمّا قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاء أربعون رجلا إلى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فقالوا: لا و اللّه لا نعطي أحدا طاعة بعدك أبدا، قال: و لم قالوا: سمعنا من رسول اللّه فيك يوم غدير، قال: و تفعلون قالوا: نعم، قال فأتوني غدا محلّقين، قال: فما أتاه إلّا هؤلاء الثلاثة، قال: و جاءه عمّار بن ياسر بعد الظهر فضرب يده على صدره ثم قال: ما آن لك أن تستيقظ من نومة الغفلة، ارجعوا فلا حاجة لي فيكم أنتم لم تطيعوني في حلق الرّؤوس فكيف تطيعونى في قتال جبال الحديد، ارجعوا فلا حاجة لي فيكم.
و في الاحتجاج عن الباقر عليه السّلام انّ عمر بن الخطاب قال لأبي بكر: اكتب الى اسامة ابن زيد يقدم عليك فان في قدومه قطع الشّنعة، فكتب أبو بكر اليه: من أبي بكر خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى اسامة بن زيد، أمّا بعد، فانظر إذا أتاك كتابي فأقبل إليّ أنت و من معك فانّ المسلمين قد اجتمعوا عليّ و ولوني أمرهم، فلا نتخلّفن فتعصني و يأتيك مني ما تكره و السّلام.
قال فكتب إليه اسامة جواب كتابه: من اسامة بن زيد عامل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على غزوة الشّام الى أبى بكر بن أبي قحافة، أمّا بعد فقد أتاني منك كتاب ينقض أوّله آخره، ذكرت في أوّله أنك خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذكرت في آخره أنّ المسلمين قد اجتمعوا عليك فولوك أمرهم و رضوا بك، فاعلم أنّي و من معي من جماعة المسلمين فلا و اللّه ما رضينا بك و لا وليناك أمرنا، و انظر أن تدفع الحقّ إلى أهله و تخلّيهم و إيّاه فانّهم أحقّ به منك فقد علمت ما كان من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في عليّ عليه السّلام يوم الغدير، فما طال العهد فتنسى فانظر مركزك و لا تخالف فتعصي اللّه، و رسوله و تعصي من استخلفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليك و على صاحبك، و لم يعزلني حتّى قبض رسول اللّه و انّك و صاحبك رجعتما و عصيتما فأقمتما في المدينة بغير اذني.
قال: فأراد «فهمّ خ» أبو بكر أن يخلعها من عنقه قال: فقال له عمر: لا تفعل قميص قمّصك اللّه لا تخلعه فتندم و لكن ألحّ عليه بالكتب و مر فلانا و فلانا يكتبون الى اسامة أن لا يفرّق جماعة المسلمين و أن يدخل معهم فيما صنعوا، قال: فكتب اليه أبو بكر و كتب إليه ناس من المنافقين: أن ارض بما اجتمعنا عليه و إيّاك أن تشمل المسلمين فتنته فانّهم حديث عهد بالكفر، قال: فلمّا وردت الكتب على اسامة انصرف بمن معه حتّى دخل المدينة، فلما رأى اجتماع الخلق على أبي بكر انطلق إلى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فقال له: ما هذا قال له عليّ عليه السّلام: هذا ما ذا ترى، قال له اسامة: فهل بايعته فقال: نعم يا اسامة، فقال: أ طائعا أو كارها قال: لا بل كارها، قال: فانطلق اسامة فدخل على أبي بكر و قال له: السّلام عليك يا خليفة المسلمين، قال: فردّ عليه أبو بكر، و قال: السّلام عليك أيّها الأمير هذا.
و يأتي بعض أخبار هذا الباب من طرق الخاصّة كساير الأخبار العامة إنشاء اللّه عند شرح الخطب الآتية و اللّه المستعان و عليه التكلان.
المقدمة الرابعة في الاشارة الى بعض طرق الخطبة و رفع الاختلاف بينها
فأقول: اعلم أنّ المستفاد من مضمون هذه الخطبة الشريفة كما هو المستفاد من بعض طرقها الآتية أيضا أنّه عليه السّلام خطب بها في أواخر عمره الشريف و ذلك بعد ما انقضى أيّام خلافة المتخلّفين الثلاثة و بعد ما ابتلى به من قتال النّاكثين و القاسطين و المارقين و هذا ممّا لا خفاء فيه، و أمّا المقام الذي خطب عليه السّلام بها فيه فقد اختلفت فيه الرّوايات.
منها ما هي ساكتة عن تعيين المكان، مثل ما رواه العلامة الحلّي طاب ثراه في كتاب كشف الحقّ و نهج الصّدق عن الحسن بن عبد اللّه بن عبد بن مسعود العسكري من أهل السّنة في كتاب معاني الأخبار باسناده إلى ابن عباس قال: ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: و اللّه لقد تقمّصها أخويتم و أنّه يعلم إلى آخر ما ذكره الرّضيّ بتغيير يسير.
و مثلها ما رواه المحدّث المجلسي في المجلد الثامن من البحار من معاني الأخبار و علل الشّرايع للصّدوق عن ما جيلويه عن عمّه عن البرقي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن أبان بن تغلب عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فقال: و اللّه لقد تقمّصها أخو تيم اه، و من الكتابين أيضا عن الطالقاني عن الجلودي عن أحمد بن عمّار بن خالد عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن عيسي بن راشد عن عليّ بن حذيفة عن عكرمة عن ابن عبّاس مثله، و من أمالى الشّيخ عن الحفّار عن أبي القاسم الدّعبلي عن أبيه عن أخى دعبل عن محمّد بن سلامة الشّامي عن زرارة عن أبي جعفر الباقر عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام، و الباقر، عن ابن عبّاس قال: ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: و اللّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، و ذكر نحوه بأدنى تغيير.
و منها ما هي دالة على أنّه عليه السّلام خطب بها في منبر مسجد الكوفة و هو ما رواه المحدّث المجلسي طاب ثراه في المجلد الرّابع عشر من البحار من بعض مؤلفات القدماء عن القاضي أبي الحسن الطبري عن سعيد بن يونس المقدسى عن المبارك عن خالص بن أبى سعيد عن وهب الجمال عن عبد المنعم بن سلمة عن وهب الرائدي عن يونس بن ميسرة عن الشّيخ المعتمر الرّقى رفعه إلى أبى جعفر ميثم التمار، قال. كنت بين يدي مولاى أمير المؤمنين عليه السّلام إذ دخل غلام و جلس في وسط المسلمين، فلما فرغ عليه السّلام من الأحكام نهض إليه الغلام، و قال يا أبا تراب: أنا إليك رسول جئتك برسالة تزعزع لها الجبال من رجل حفظ كتاب اللّه من أوله إلى آخره و علم علم القضايا و الأحكام و هو أبلغ منك في الكلام و أحقّ منك بهذا المقام، فاستعدّ للجواب و لا تزخرف«» المقال، فلاح الغضب في وجه أمير المؤمنين عليه السّلام، و قال لعمار: اركب جملك و طف في قبائل الكوفة و قل لهم أجيبوا عليّا ليعرفوا الحقّ من الباطل و الحلال و الحرام و الصّحة و السّقم، فركب عمّار فما كان إلّا هنيئة حتّى رأيت العرب كما قال اللّه تعالى: «إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً… فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» فضاق جامع الكوفة و تكاثف النّاس تكاثف الجراد على الزّرع الغضّ«»
في أوانه، فنهض العالم الأردع«» و البطل الأنزع و رقى في المنبر و راقى ثم تنحنح فسكت جميع من في الجامع، فقال عليه السّلام: رحم اللّه من سمع فوعى، أيّها النّاس يزعم أنّه أمير المؤمنين و اللّه لا يكون الامام إماما حتّى يحيي الموتى أو ينزل من السّمآء مطرا أو يأتي بما يشاكل ذلك ممّا يعجز عنه غيره و فيكم من يعلم أنّى الآية الباقية و الكلمة التامّة و الحجّة البالغة و لقد أرسل إلىّ معاوية جاهلا من جاهليّة العرب عجرف«» فى مقاله و أنتم تعلمون لو شئت لطحنت عظامه طحنا، و نسفت«» الأرض من تحته نسفا، و خسفتها عليه خسفا إلّا أنّ احتمال الجاهل صدقة.
ثمّ حمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أشار بيده إلى الجوّ فدمدم«»، و أقبلت غمامة و علت سحابة و سمعنا منها إذا يقول: السّلام عليك يا أمير المؤمنين و يا سيّد الوصيّين و يا إمام المتّقين و يا غياث المستغيثين و يا كنز المساكين و معدن الرّاغبين، و أشار إلى السّحابة فدنت، قال ميثم: فرأيت الناس كلّهم قد أخذتهم السّكرة، فرفع رجله و ركب السّحابة، و قال لعمّار: اركب معي و قل، بسم اللّه مجريها و مرسيها، فركب عمّار و غابا عن أعيننا، فلما كان بعد ساعة أقبلت السّحابة حتّى أظلّت جامع الكوفة، فاذا مولاى جالس على دكة القضاء و عمّار بين يديه و النّاس حافّون به، ثمّ قام و صعد المنبر و أخذ الخطبة المعروفة بالشّقشقية، فلما فرغ اضطرب النّاس، و قالوا فيه أقاويل مختلفة، فمنهم من زاده اللّه ايمانا و يقينا، و منهم من زاده كفرا و طغيانا.
قال عمار: و قد طارت بنا السّحابة في الجوّ فما كانت هنيئة حتّى أشرفنا إلى بلد كبير حواليه أشجار و أنهار، فنزلت بنا السّحابة و إذا نحن في مدينة كبيرة و النّاس يتكلمون بكلام غير العربيّة فاجتمعوا عليه و لاذوا به فوعظهم و أنذرهم بمثل كلامهم، ثم قال: يا عمّار اركب ففعلت ما امرنى فادركنا جامع الكوفة، ثمّ قال عليه السّلام لى يا عمّار، تعرف البلدة التي كنت فيها قلت: اللّه اعلم و رسوله و وليّه قال عليه السّلام: كنّا في الجزيرة السّابعة من الصّين أخطب كما رأيتني إنّ اللّه تبارك و تعالى أرسل رسوله إلى كافّة النّاس و عليه أن يدعوهم و بهدي المؤمنين منهم إلى الصّراط المستقيم، و اشكر ما أوليتك من نعمه، و اكتم من غير أهله فانّ اللّه تعالى ألطافا خفيّة في خلقه لا يعلمها إلّا هو و من ارتضى من رسول.
ثمّ قالوا: أعطاك اللّه هذه القدرة و أنت تستنهض الناس لقتال معاوية، فقال عليه السّلام: إنّ اللّه تعبّدهم بمجاهدة الكفار و المنافقين و النّاكثين و القاسطين و المارقين، و اللّه لو شئت لمددت يدي هذه القصيرة في أرضكم هذه الطويلة و ضربت بها صدر معاوية بالشّام و أخذت بها من شاربه أو قال من لحيته، فمدّ يده و ردّها و فيها شعرات كثيرة، فتعجبوا من ذلك، ثمّ وصل الخبر بعد مدّة أنّ معاوية سقط من سريره في اليوم الذي كان عليه السّلام مدّيده و غشى عليه ثمّ أفاق و افتقد من شاربه و لحيته شعرات.
و قد ذكرت الرّواية بتمامها إذ فيها قرّة عين للشّيعة فهنيئا لهم ثمّ هنيئا بما خصّهم اللّه به من موالاة صاحب المناقب الفاخرة و المعجزات القاهرة.
و منها ما هي مفيدة لكونه عليه السّلام خاطبا بها في الرّحبة، مثل ما رواه الطبرسي في الاحتجاج قال: و روى جماعة من أهل النّقل من طرق مختلفة عن ابن عبّاس قال: كنت عند أمير المؤمنين عليه السّلام بالرّحبة فذكرت الخلافة و تقدّم من تقدّم عليه، فتنفس الصّعدآء ثم قال: أما و اللّه لقد تقمّصها و ذكر قريبا ممّا رواه الرّضيّ، و مثله ما رواه في البحار من إرشاد المفيد قال روى جماعة إلى آخر ما ذكره في الاحتجاج إلّا أن فيه و تقديم من تقدّم، و أم و اللّه بدل أما، و في البحار أيضا عن الشّيخ قطب الدّين الرّاوندي قدّس سرّه في شرحه على نهج البلاغة بهذا السّند، أخبرني الشيخ أبو نصر الحسن بن محمّد بن إبراهيم عن الحاجب أبي الوفاء محمّد بن بديع و الحسين ابن أحمد بن عبد الرّحمن عن الحافظ أبي بكر بن مردويه الاصفهاني عن سليمان بن أحمد الطبراني عن أحمد بن عليّ الابار عن إسحاق بن سعيد أبي سلمة الدّمشقي عنخليد بن دعلج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: كنا مع عليّ عليه السّلام بالرّحبة فجرى ذكر الخلافة و من تقدّم عليه فيها، فقال: أما و اللّه لقد تقمّصها فلان إلى آخر الخطبة.
هذه جملة ما عثرت عليها من طرق الخطبة و إسنادها و يمكن الجمع بين مختلفها بأن يكون عليه السّلام قد خطب بها تارة بالرّحبة و اخرى بمنبر الكوفة و اللّه العالم.
و اذا تمهّد لك هذه المقدمات فلنشرع في شرح كلامه عليه السّلام بتوفيق من اللّه سبحانه فأقول: و شرحها في ضمن فصول.
الفصل الاول
أما و اللّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى، ينحدر منّي السّيل، و لا يرقى إليّ الطّير، فسدلت دونها ثوبا، و طويت عنها كشحا، و طفقت أرتاي بين أن أصول بيد جذّآء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، و يشيب فيها الصّغير، و يكدح فيها مؤمن حتّى يلقى فيها ربّه، فرأيت أنّ الصّبر على هاتا أحجى، فصبرت و في العين قذى، و في الحلق شجى، أرى تراثي نهبا.
اللغة
يقال قمّصه قميصا ألبسه فتقمّص هو و (قحافة) بضمّ القاف و تخفيف الحاء و (قطب الرّحى) مثلّثة و كعنق: الحديدة التي تدور عليها الرّحى و (سدل الثّوب) يسد له أرسله و أرخاه، و (الكشح) ما بين الخاصرة إلى أقصر الاضلاع، يقال فلان طوى كشحه أى أعرض مهاجرا، و (طفق) في كذا أى شرع و أخذو (ارتأى) في الأمر اذا فكر طلبا للرّأى الأصلح و افتعل من روية القلب، و (الصّولة) الوثبة و الحملة، و (اليد الجذّاء) بالجيم و الذّال المعجمة المقطوعة المكسورة، قال في النّهاية في حديث عليّ عليه السّلام أصول بيد جذاء كنّى به عن قصور أصحابه و تقاعدهم عن الغزو، فإنّ الجند للأمير كاليد و يروى بالحاء المهملة و فسّره في موضعه باليد القصيرة التي لا تمدّ إلى ما يراد، قال و كأنّها بالجيم أشبه و (الطخية) بالضمّ، على ما في أكثر النّسخ أو بالفتح الظلمة أو الغيم و في القاموس الطخية الظلمة و يثلّث و (العمياء) تأنيث الأعمى يقال مفازة عمياء أى لا يهتدى فيها الدّليل، و وصف الطخية بها إشارة إلى شدّة الظلمة، و (هرم) كفرح أى بلغ أقصى الكبر، و (الشيّب) بياض الشّعر، و (الكدح) السّعى و كدح في العمل كمنع سعى و عمل لنفسه خيرا و شرّا و (أحجى) أى أولى و أجدر و أحقّ من قولهم حجى بالمكان إذا أقام و ثبت ذكره في النّهاية، و قيل: أى اليق و أقرب بالحجى و هو العقل و (القذى) ما يقع في العين و في الشّراب أيضا من نتن أو تراب أو وسخ و (الشجى) ما اعترض في الحلق و نشب من عظم و نحوه و (التراث) ما يخلّفه الرّجل لورثته و التاء فيه بدل من الواو و (النهب) السّلب و الغارة و الغنيمة.
الاعراب
أما حرف تنبيه تدلّ على تحقّق ما بعدها مثل ألا و لكونها مفيدة للتحقيق لا تقع الجملة بعدها الّا مصدّرة بالقسم قال الشّاعر:
أما و الذى أبكى و أضحك و الذى أمات و أحيى و الذى أمره الأمر
و الضّمير في تقمّصها راجع الى الخلافة المستفادة بقرينة المقام كما في قوله تعالى: «حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» اى الشّمس او المصرّح بها كما في ساير طرق الخطبة على ما تقدم و مثله الضّماير الثلاثة بعدها، و جملة و انّه ليعلم اه حاليّة، و جملة ينحدر آه استينافيّة، و أو، في قوله أو أصبر بمعنى الواو، لاقتضآء كلمة بين ذلك، لأنّ العطف بعدها لا تقع إلّا بواو الجمع يفال: جلست بين زيد و عمرو و لا يقال أو عمرو، و في بعض النّسخ و أصبر بالواو، و كلمهها في هاتا، للتنّبيه، و تا للاشارة إلى المؤنّث اشير بها إلى الطخية الموصوفة.
المعنى
(أما و اللّه لقد تقمّصها) أى لبس الخلافة مثل القميص (ابن أبي قحافة) و الاشارة به إلى أبي بكر و اسمه عبد اللّه بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سلام ابن تيم بن مرّة، و امّه سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب، و في بعض الكتب أنّ اسمه في الجاهليّة عبد العزّى فغيره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى عبد اللّه، قال في القاموس: اسمه عتيق سمّته به امّه أو لقب له، و في التعبير عنه بهذا اللفظ دون الألقاب المادحة دلالة على الاستخفاف، كتعبيره عن الثاني فيما سيأتي بابن الخطاب.
و ما تكلّفه قاضي القضاة في دفع دلالته عليه بأنّه قد كانت العادة في ذلك الزّمان أن يسمّى أحدهم صاحبه و يكنيه و يضيفه إلى أبيه حتّى كانوا ربّما قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا محمّد، فليس في ذلك دلالة على الاستخفاف و لا على الوضع.
فقد أجاب عنه السيّد (ره) فى محكى الشّافى بأنّه ليس ذلك صنع من يريد التّعظيم و التبجيل، و قد كانت لأبى بكر عندهم من الألقاب الجميلة ما يقصد إليه من يريد تعظيمه، و قوله: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان ينادى باسمه فمعاذ اللّه ما كان ينادى باسمه إلّا شاكّ أو جاهل من طغام العرب، و قوله: إنّ ذلك عادة العرب فلا شك أنّ ذلك عادتهم فيمن لا يكون له من الألقاب أفخمها و أعظمها كالصّديق و نحوه انتهى.
و قال المحدّث المجلسى (قده) في ترجمة أبى بكر: اعلم أنّه لم يكن له نسب شريف و لا حسب منيف، و كان في الاسلام خيّاطا و في الجاهليّة معلّم الصّبيان و نعم ما قيل:
كفى المرء نقصا أن يقال له معلّم صبيان و ان كان فاضلا
و كان أبوه سيّئ الحال ضعيفا و كان كسبه أكثر من عمره من صيد القماري و الدباسى«» لا يقدر على غيره، فلمّا عمى و عجز ابنه عن القيام به التجأ إلى عبد اللّه بن جذعان من رؤساء مكة فنصبه ينادي على مائدته كلّ يوم لاحضار الاضياف و جعل«» له على ذلك ما يعونه من الطعام، و ذكر ذلك جماعة منهم الكلبي في كتاب المثالب على ما أورده في الصّراط المستقيم، و لذا قال أبو سفيان لعليّ عليه السّلام بعد ما غضب الخلافة أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي عليكم تيميّ رذل.
و قال أبو قحافة ما رواه ابن حجر في صواعقه حيث قال: و أخرج الحاكم أنّ أبا قحافة لما سمع بولاية ابنه، قال: هل رضى بذلك بنو عبد مناف و بنو المغيرة قالوا: نعم، قال: اللهمّ لا واضع لما رفعت و لا رافع لما وضعت، و قالت فاطمة عليها السلام في بعض كلماتها: إنّه من اعجاز قريش و أذنابها، و قال بعض الظرفاء: بل من ذوي أذنابها، و قال صاحب إلزام النّواصب: أجمع النّسابون أنّ أبا قحافة كان جرّا«» لليهود، و العجب أنّهم مع ذلك يدّعون أنّ اللّه أغنى النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمال أبي بكر انتهى.
أقول: و ذكر الشّارح المعتزلي نظير ما رواه ابن حجر هذا.
و في الاحتجاج روى أن أبا قحافة كان بالطايف لما قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بويع لأبي بكر، فكتب إلى أبيه كتابا عنوانه من خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى أبيه أبي قحافة أمّا بعد فانّ النّاس قد تراضوا بي فانّي اليوم خليفة اللّه فلو قدمت علينا كان أحسن بك، قال: فلما قرء أبو قحافة الكتاب قال للرّسول: ما منعكم من عليّ عليه السّلام قال الرّسول: هو حدث السّن و قد أكثر القتل في قريش و غيرها و أبو بكر أسنّ منه، قال أبو قحافة: إن كان الأمر في ذلك بالسنّ فأنا أحق من أبي بكر، لقد ظلموا عليّا حقّه و قد بايع له النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمرنا ببيعته ثمّ كتب إليه: من ابي قحافة إلى أبي بكر أمّا بعد، فقد أتاني كتابك فوجدته كتاب أحمق ينقض بعضه بعضا، مرّة تقول: خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مرّة تقول: خليفة اللّه، و مرّة تقول: تراضى بي النّاس، و هو امر ملتبس فلا تدخلنّ في أمر يصعب عليك الخروج منه غدا و يكون عقباك منه إلى النّدامة و ملامة النّفس اللوامة لدى الحساب يوم القيامة، فانّ للامور مداخل و مخارج و أنت تعرف من هو أولى بها منك، فراقب اللّه كأنّك تراه و لا تدعنّ صاحبها، فانّ تركها اليوم أخفّ عليك و أسلم لك.
ثمّ اعلم أنّه لم يتعرّض عليه أحد بسوء النّسب لا من الخاصّة و لا من العامّة حسبما طعنوا في أنساب أمثاله، و لعلّ سرّه ما أشار إليه المحدّث الجزايري في أنوار النعمانيّة: من أنّ الأئمة عليهم السّلام من نسله و ذلك، لأنّ أمّ فروة و هي أمّ الصّادق عليه السّلام بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر.
ثمّ إنّه عليه السّلام لمّا ذكر تلبّسه بالخلافة أراد التّنبيه على عدم استحقاقه بذلك اللّباس، و نبّه على بطلان خلافة المتقمّص بذكر مراتب كماله الدّالة على أفضليّته المشيرة إلى قبح تفضيل المفضول و العدول عن الأفضل، فقال: (و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها) أى من الخلافة (محلّ القطب من الرّحى) شبّه عليه السّلام نفسه بالقطب و الخلافة بالرّحى و محلّه من الخلافة بمحلّ القطب من الرّحى، و الأوّل من قبيل تشبيه المحسوس بالمحسوس، و الثاني من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس، و الثّالث من قبيل تشبيه المعقول بالمعقول، و المقصود أنّ الأثر المطلوب من الرّحى كما لا يحصل إلّا بالقطب و لولاه لم يحصل لها ثمر قط كذلك الثمرة المطلوبة من الولاية و الخلافة أعنى هداية الأنام و تبليغ الأحكام و نظام امور المسلمين و انتظام أمر الدّنيا و الدّين، لا تحصل إلّا بوجوده عليه السّلام فيكون الخلافة دائرة مدار وجوده كما أنّ الرّحى دائرة مدار القطب، ففيه إشارة إلى عدم إمكان قيام غيره مقامه و إغنائه غناه كما لا يقوم غير القطب مقامه و لا يغني عنه.
و بهذا المضمون صرّح عليه السّلام في بعض كلماته الآتية، و هو قوله في الكلام المأة
و الثامن عشر: و إنّما أنا قطب الرّحى تدور علىّ و أنا بمكاني فاذا فارقته استحار مدارها و اضطرب ثقالها، و منه يظهر أنّ ما ذكره الشّارح المعتزلي من أنّ مراده عليه السّلام بهذا الكلام هو أنّه من الخلافة في الصّميم و في وسطها و بحبوحتها كما أنّ القطب وسط دائرة الرّحى مع كونه خلاف الظاهر ليس على ما ينبغي هذا.
و في إتيان قوله: و إنّه ليعلم مؤكدا بانّ و اللام، دلالة على منتهى المبالغة في الطعن عليه لدلالته على أنّ تقمّصه بالخلافة لم يكن ناشيا عن الجهالة و الغفلة عن مرتبته عليه السّلام حتى يكون جاهلا قاصرا معذورا فيه و معفوا عنه، بل قد تقمّص بها مع علمه بأنّ مدارها عليه و انتظامها به فيكون تقمّصه بها مع وجود ذلك العلم ظلما فاحشا و غصبا بيّنا.
و يدل على علمه بذلك ما رواه في الاحتجاج عن عامر الشّعبي عن عروة بن الزّبير عن الزّبير بن العوام قال: لمّا قال المنافقون: إنّ أبا بكر تقدّم عليّا و هو يقول أنا أولى بالمكان منه، قام أبو بكر خطيبا فقال: صبرا على من ليس يؤل إلى دين و لا يحتجب برعاية و لا يرعوى لولاية، أظهر الايمان ذلة و أسر السّفاق غلّة«» هؤلاء عصبة الشّيطان و جمع الطغيان، يزعمون أنّي أقول إنّي أفضل من عليّ و كيف أقول ذلك و مالي سابقته و لا قرابته و لا خصوصيته، و وحّد اللّه و أنا ملحده و عبد اللّه قبل أن أعبده، و والى الرّسول و أنا عدوّه، و سابقني بساعات لم الحق شأوه«» و لم أقطع غباره، إنّ ابن أبي طالب فاز و اللّه من اللّه بمحبة، و من الرّسول بقربة، و من الايمان برتبة. لو جهد الأوّلون و الآخرون إلّا النّبيون لم يبلغوا درجته و لم يسلكوا منهجه.
بذل في اللّه مهجته و لابن عمّه مودّته، كاشف الكرب و دامغ«» الرّيب و قاطع السّبب إلّا سبب الرّشاد و قامع الشّرك، و مطهر ما تحت سويداء حبّة النّفاق محنة لهذا العالم، لحقّ قبل أن يلاحق و برز قبل أن يسابق، جمع العلم و الحلم و الفهم فكان جميع الخيرات لقلبه كنوزا لا يدّخر منها مثقال ذرّة إلّا أنفقه في بابه فمن ذا يؤمّل أن ينال درجته، و قد جعله اللّه و رسوله للمؤمنين وليّا و للنّبيّ وصيّا و للخلافة راعيا و بالامامة قائما، أفيغترّ الجاهل بمقام قمته إذا أقامني و أطعته إذا أمرني، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: الحقّ مع عليّ و عليّ مع الحقّ، من أطاع عليّا رشد و من عصى عليّا فسد، و من أحبّه سعد، و من أبغضه شقى، و اللّه لو لم يحبّ ابن أبي طالب إلّا لأجل أنّه لم يواقع للّه محرّما و لا عبد من دونه صنما و لحاجة النّاس إليه بعد نبيهم، لكان في ذلك ما «مماخ» يجب، فكيف لأسباب أقلها موجب و أهونها مرغب، للرّحم الماسة بالرّسول و العلم بالدقيق و الجليل و الرّضا بالصبر الجميل و المواساة في الكثير و القليل و خلال«» لا يبلغ عدّها و لا يدرك مجدها ودّ المتمنّون أن لو كانوا تراب أقدام ابن أبي طالب، أليس هو صاحب الواء الحمد و السّاقي يوم الورود و جامع كلّ كريم و عالم كل علم و الوسيلة إلى اللّه و إلى رسوله.
ثم إنّه عليه السّلام أشار إلى علوّ مقامه و سموّ مكانه بقوله (ينحدر عنّي السيل) تشبيها لنفسه بذروة الجبل المرتفع فاستعار له ما هو من أوصاف الجبل و هو السيل المنحدر عنه إلى الغيظان، و لعلّ المراد بالسّيل المنحدر عنه عليه السّلام هو علومه و حكمه الواصلة إلى العباد و الفيوضات الجارية منه عليه السّلام على الموادّ القابلة، و تشبيه العلم بالماء و السّيل من ألطف التشيهات و وجه الشبه هو اشتراكهما في كون أحدهما سبب حياة الجسم و الآخر سبب حياة الرّوح، و قد ورد مثل ذلك التّشبيه في الكتاب العزيز قال تعالى: «قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ»«» روى عليّ بن إبراهيم القمي (ره) في تفسيره باسناده عن فضالة بن أيوب قال: سئل الرّضا عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: قل أرأيتم الآية، فقال عليه السّلام: ماؤكم أبوابكم أى الأئمة،و الأئمة أبواب اللّه بينه و بين خلقه، فمن يأتيكم بماء معين، يعني يأتيكم بعلم الامام، و في تفسير القمي أيضا في قوله تعالى: «وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ» قال:«» هو مثل جرى لآل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قوله: بئر معطلة، هو الذي لا يستقى منها و هو الامام الذي قد غاب فلا يقتبس منه العلم إلى وقت الظهور، و القصر المشيد هو المرتفع، و هو مثل لأمير المؤمنين و الأئمة صلوات اللّه عليهم و فضائلهم المنتشرة في العالمين المشرفة على الدّنيا ثم يشرف على الدنيا، و هو قوله: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» و قال الشّاعر في ذلك:
بئر معطلة و قصر مشرف
مثل لآل محمّد مستطرف
فالقصر مجدهم الذى لا يرتقى
و البئر علمهم الذى لا ينزف
ثمّ إنّه عليه السّلام ترقى في الوصف بالعلو و أكّد علوّ شأنه و رفعة مقامه بقوله: (و لا يرقى إلىّ الطير) فانّ مرقى الطير أعلى من منحد رالسّيل فكيف ما لا يرقى إليه كأنه قال: انّي لعلوّ منزلتي كمن في السّمآء التي يستحيل أن يرقى الطير إليها قال الشاعر:
مكارم لجّت«» في علوّ كانّما
تحاول ثارا عند بعض الكواكب
و لعلّه عليه السّلام أراد بعدم رقى الطير إليه عجز طاير الاوهام عن الوصول إلى مقاماته الجليلة، و قصور العقول عن الاحاطة بمناقبه الجميلة من حيث عدم انتهائها بعدّ، و عدم وقوفها إلى حدّ، قال تعالى: «وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» قال في الاحتجاج: سأل يحيى بن أكثم أبا الحسن العالم عليه السّلام عن قوله تعالى: سبعةأبحر ما نفدت كلمات اللّه ما هي فقال: هي عين الكبريت و عين اليمين و عين البرهوت و عين الطبرية و حمّة«» ماسيدان و حمة إفريقية«» و عين باحوران «بلعوران، ناحوران خ»، و نحن الكلمات التي لا ندرك فضائلنا و لا تستقصى.
ثمّ إنّه عليه السّلام لما أشار إلى اغتصاب الخلافة نبّه على اعراضه عنها و يأسه منها و قال: (فسدلت) أى أرخيت و أرسلت (دونها ثوبا) و ضربت بيني و بينها حجابا فعل الزّاهد فيها و الراغب عنها (و طويت عنها كشحا)«» و أعرضت عنها و يئست منها مهاجرا، و قيل: إنّ المراد إنّي أجعت نفسي عنها و لم ألقمها لأنّ من أجاع نفسه فقد طوى كشحه كما أنّ من أكل و أشبع فقد ملاء كشحه (و) لما رأيت الخلافة في يد من لم يكن أهلالها (طفقت) أى أخذت و شرعت (أرتأي) في الأمر و أفكّر في طلب الأصلح و أجيل الفكر في تدبير أمر الخلافة و أردّده (بين) أمرين احدهما (أن أصول) عليهم و أقاتل معهم (بيد جذّاء) أى مقطوعة مكسورة و المراد حملته عليهم بلا معاون و لا ناصر، و استعار وصف الجذاء لعدمهما لمشابهة أن قطع اليد كما أنّه مستلزم لعدم القدرة على التّصرف بها و الصّيال، فكذلك عدم المعين و الناصر مستلزم لذلك أيضا فحسنت الاستعارة و ثانيهما الصّبر على معاينة الخلق على شدّة و جهالة و ضلالة و هو المراد بقوله (أو أصبر على طخية عمياء) أى على ظلمة و التباس من الامور متّصف بالعمى بمعنى أنّه لا يهتدى فيه السّالك إلى سلوك طريق الحقّ بل يأخذ يمينا و شمالا، و إلى هذه الظلمة اشيرت في قوله تعالى: «أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ»و قد فسرت الظلمات في الأخبار بخلافات الثلاثة، ثم أشار عليه السّلام إلى طول مدة هذه الطخية بأنّه (يهرم فيها الكبير) أى يبلغ أقصى الكبر (و يشيب فيها الصّغير) أى يبيضّ رأسه و يحتمل أن يراد بهما المجاز و التوسع بمعنى أنّ أيام اغتصاب الخلافة لشدّة صعوبتها و كثرة أهوالها يكاد أن يهرم الكبير فيها و يشيب الصّغير قال تعالى: «يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً» (و يكدح فيها مؤمن) أي يسعى المؤمن المجتهد في الذّبّ عن الحقّ و الأمر بالمعروف و يكدّ و يقاسي الأحزان و الشدائد (حتّى) يموت و (يلقى ربّه) ثمّ إنّه عليه السّلام لما ذكر تردّده بين الصّبر و القتال أشار إلى ترجيحه الأوّل على الثاني بقوله: (فرأيت أن الصّبر على هاتا أحجى) أى أليق و أصلح و أجدر، أو أقرب بالحجا و العقل، و ذلك لأن ترك الخلق على الضلالة و الجهالة و إبقائهم على الغيّ و الغفلة إنّما يقبح مع الاستطاعة و القدرة و يلزم معهما ردعهم عن الباطل و نهيم عن المنكر و إرجاعهم إلى الصّراط المستقيم و النّهج القويم و لو بالقتال و الصّيال، و أمّا مع عدم التمكن و القدرة من حيث عدم المعاون و النّاصر فلا يلزم شيء من ذلك، بل يجب التّحمل و الصّبر حذرا من إلقاء النّفس على الهلاكة و تعريضها على العطب و استيصال آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سيّما و أنّ مقصوده عليه السّلام من الخلافة لم يكن إلّا هداية الأنام و إعلاء كلمة الإسلام و إثارة الحرب و الجدال إذا كانت موجبة لاضطراب نظام المسلمين، بل مؤدّية إلى رجوع النّاس إلى أعقابهم القهقرى و اضمحلال كلمة الاسلام لغلبة الأعداء فلا يحكم العقل حينئذ إلّا بالكفّ عن الجهاد و الصّبر على البلاء و التحمل على الاذى كيلا يلزم ضدّ المقصود و لا نقض الغرض (فصبرت) و الحال إنّ (في العين قذى) يوجب أذيتها كما يصبر الرّجل الأرمد (و في الحلق شجى) اعترض فيه كما بصبر المكابد للخنق، و الجملتان كنايتان عن شدّة تأذيه بسبب اغتصاب ما يرى أنّه أولى به من غيره (أرى تراثي) و في بعض الرّوايات تراث محمّد و آله (نهبا) أى سلبا و غارة و المراد بتراثه المنهوب المسلوب إمّا فدك الذي خلّفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لابنته من حيث إنّ مال الزّوجة في حكم مال الزّوج، و إمّا الخلافة الموروثة منه عليه السّلام لصدق لفظ الارث عليها كصدقه على منصب النّبوة في قوله تعالى حكاية عن زكريا: «يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» و الأظهر حمله على العموم و اللّه العالم.
الترجمة
آگاه باش بخدا قسم كه پوشيد خلافت را مثل پيراهن پسر أبى قحافه و حال آنكه بدرستى آن عالم بود باين كه محل من از خلافت مثل محل قطب است از سنك آسيا، منحدر مىشود و پائين مىآيد از من سيل علوم و ترقى نمىكند بسوى من پرنده بلند پرواز از اوهام و عقول، پس فرو گذاشتم نزد آن خلافت لباس صبر را، و در نور ديدم از آن تهيگاه را، و شروع كردم بفكر كردن در امر خود ميان آنكه حمله كنم بدست بريده و يا اين كه صبر نمايم بر ظلمتى كه متصف است بصفت كورى كه كنايه است از خلافت أهل جلافت، آن چنان ظلمتى كه بنهايت پيرى مىرسد در آن بزرگسال، و بحال پيرى مىرسد در آن خورد سال، و سعى ميكند و بمشقت و رنج مىافتد در آن مؤمن تا اين كه مىميرد و ملاقات ميكند پروردگار خود را و چون حال بر اين منوال بود پس ديدم كه صبر كردن بر اين ظلمت و بر خلافت اهل شقاوت اليق و انسب است، پس صبر نمودم و ترك قتال و جدال كردم و حال آنكه در چشم من غبار و خاشاك بود كه از آن اذيت مىكشيدم و در گلوى من استخوان بود كه گلوگير شده بودم، و سبب اين اذيت و گلوگيرى آن بود كه مىديدم ميراث خود را غارت شده و خلافت خود را تاراج گرديده.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»